ج 1 ، ص : 666
المفردات :
يُذْهِبْكُمْ : يهلككم. مِنْ ذُرِّيَّةِ : من نسل قوم آخرين.
مَكانَتِكُمْ : حالكم التي أنتم عليها.
المعنى :
وربك الغنى عن خلقه وعن عبادتهم ، والكل فقير إلى رحمته وعفوه ، يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ « 1 » وهو ذو الرحمة بأوليائه وأهل طاعته ، رحمته وسعت كل شيء ، إذ كل ما عداه محتاج إليه في وجوده وبقائه.
إن يشأ يذهبكم يا أهل مكة ويأت بخلق غيركم أفضل منكم وأطوع ، وإن يشأ يستخلف من بعدكم من يشاء من الأقوام فإنه هو الغنى القادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم ، يكونون أسمى منكم روحا وأصفى منكم نفسا ، وقد صدق اللّه وعده ، فأذهب المستكبرين المعاندين الجاحدين من زعماء الشرك ، واستخلف من بعدهم قوما آخرين هم الصحابة والسابقون من الأنصار والمهاجرين ، وبعد هذا الإنذار في الدنيا ، إنذار في الآخرة ، وهو : إن ما توعدون من جزاء وثواب آت لا شك فيه ، وما أنتم بمعجزين اللّه بهرب ولا بمنع ، وهو القاهر فوق عباده.
قل لهم يا محمد : يا قوم اعملوا على مكانتكم وطريقتكم التي أنتم عليها ، إنى عامل على طريقتي ومكانتى التي هداني إليها ربي ، ورباني عليها ، ولسوف تعلمون من تكون له العاقبة الحسنة والنهاية العظمى. قال الزمخشري في تفسيره « الكشاف » : اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ تحتمل وجهين : اعملوا على تمكنكم وأقصى استطاعتكم.
وإمكانكم واعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، والمراد اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإنى ثابت على الإسلام ، فسوف تعلمون الذي تكون له العقبى يوم القيامة ، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ « 2 » وهذا إنذار لطيف المسلك دقيق المآخذ ، مع التوجيه إلى النظر والفكر وحسن الأدب وبيان السبب في الحكم للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذ لا يفلح الظالمون لأنفسهم بالكفر.
___________
(1) سورة فاطر آية 15. [.....]
(2) سورة سبأ آية 24.(1/666)
ج 1 ، ص : 667
صور من جاهلية العرب [سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)(1/667)
ج 1 ، ص : 668
المفردات :
ذَرَأَ أى : خلق وأبدع. أَوْلادِهِمْ الولد : يطلق على الذكر والأنثى.
لِيُرْدُوهُمْ : ليهلكوهم بالإغواء. وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ : يخلطوا عليهم دينهم.
حِجْرٌ الحجر : أصله المنع ، ومنه سمى العقل حجرا لمنعه صاحبه ، والمراد الحرام.
وَصْفَهُمْ أى : جزاء وصفهم.
المعنى :
أثر من آثار وسوسة الشيطان للإنسان وعمل من أعمال إبليس ، وصورة من صور الجاهلية الجهلاء ، التي كان عليها العرب قبل الإسلام.
وجعلوا للّه مما خلق من الحرث والأنعام نصيبا مفروضا وقدرا محدودا ، وجعلوا كذلك نصيبا لمن أشركوهم مع اللّه من الأوثان والأصنام ، فقالوا : هذا للّه بزعمهم وبقولهم الذي لا بينة معه ولا حجة فيه. وهذا لشركائنا ومعبوداتنا ، نتقرب به إليها.
والمروي أنهم كانوا يجعلون في مالهم نصيبا للّه ينفقونه لإطعام الفقراء والمساكين وإكرام الضيفان والصبيان ، ونصيبا للآلهة يعطى لسدنتهم وخدمهم ، وما ينفق على معابدهم ، وما كان لشركائهم خاصة لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها للّه ، بل يجعلونه للسدنة وخدمة الأصنام والأوثان ، وما كان للّه فهو واصل إلى شركائهم ، ألا ساء الحكم حكمهم وبئس ما يصنعون! ؟ ؟
إذ هم اعتدوا على اللّه بالتشريع الفاسد ، وأشركوا به غيره ، وفضلوه عليه. والحال أن اللّه هو الذي خلق كل شيء ، وما عملوه لا سند له من عقل أو شرع ، أليست هذه جاهلية جهلاء وضلالة عمياء ؟ ؟
ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين اللّه والآلهة زين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم. وكان مظهر التزين أنهم خوفوهم الفقر في الحاضر والمستقبل وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ « 1 » وخوفوهم العار ، فقتلوا البنات خوف العار والفقر والزواج من غير الكفء.
___________
(1) سورة الإسراء آية 31.(1/668)
ج 1 ، ص : 669
وثالثة الأثافى أنهم كانوا يمنّونهم بأن قتلهم أولادهم قربى إلى الآلهة كما فعل عبد المطلب حين نذر قتل ابنه عبد اللّه.
وقد سمى اللّه المزينين لهم من شياطين الإنس كالسدنة ، أو شياطين الجن سماهم اللّه شركاء ، لأنهم أطاعوهم طاعة اللّه مع التبجيل والاحترام ، كما فعل أهل الكتاب مع رجال الدين :
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ « 1 » ، زين هؤلاء قتل الأولاد ليردوا المشركين ويهلكوهم بالإغواء. وليخلطوا عليهم أمر دينهم الذي يدعونه وهو دين إسماعيل وملة إبراهيم. والواقع أنه ليس فيه شيء من هذا ، ولو شاء اللّه ما فعلوا هذا أبدا ، ولكن مشيئة اللّه للناس جميعا أن يكونوا واختيارهم وما جبلوا عليه من اختيار أى الطريقين بدون جبر ولا قهر.
أما أنت يا رسول اللّه فذرهم ولا يهمنك أمرهم ودعهم وما يفترون في حقك وحقنا. فعلى اللّه حسابهم.
ثم ذكر صورة ثالثة من صور الجاهلية المشوهة.
أنهم قسموا أموالهم وأقواتهم إلى ثلاثة أقسام :
(أ) فتارة أنعام وأقوات تكون محبوسة على معبوداتهم وأوثانهم ، ويقولون هي محجوزة للآلهة لا يطعمها إلا من نشاء من رجال ونساء ، وقولهم هذا بزعمهم وادعائهم الخالي من الحجة والبرهان.
(ب) أنعام حرمت ظهورها ، فلا تركب ولا يحمل عليها ، وهي البحيرة والسائبة والحامى.
(ج) أنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها عند الذبح بل يهلون بآلهتهم وحدها عند الذبح ، وقد قسموا هذا التقسيم مفترين على اللّه كاذبين عليه ، واللّه من ذلك برىء قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ « 2 » ؟ واللّه سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه بما كانوا يفترون.
___________
(1) سورة التوبة آية 31.
(2) سورة يونس آية 59.(1/669)
ج 1 ، ص : 670
وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، والمراد بها البحائر المشقوقة الآذان والسوائب ، وخالصة خلوصا مبالغا فيه لذكورنا فقط ومحرم على نسائنا ، وكانت السوائب إذا ولدت ذكرا جعلوه للذكور خاصة ، وإذا ولدت أنثى جعلت للنتاج ، وإن كان ما في بطنها ميتا جعل شركة بين الذكر والأنثى ، سيجزيهم اللّه جزاء وصفهم ، إنه حكيم عليم.
ولقد نعى اللّه - سبحانه وتعالى - على مشركي العرب أمرين عظيمين : هما قتل الأولاد ، ووأد البنات ، وتحريم ما رزقهم اللّه من الطيبات ، وحكم عليهم بالخسران والسفه ، وعدم العلم والافتراء على اللّه ، والضلال وعدم الاهتداء ، إذ كيف تقتل ابنتك أو ابنك خشية الفقر أو العار ، وتحرم طيبات أحلت لك ؟
فأما الخسران فالولد نعمة من اللّه وزينة في الدنيا ، فإذا سعى لإزالتها استحق الغضب من اللّه لاعتدائه ، وقال الناس : إنه قتل ابنه خوف أن يأكل طعامه ، وخسر عاطفة الأبوة ، التي هي مصدر الرحمة والحنان. وجعلها مصدر الاعتداء والفناء ... وأما السفه فهل هناك سفه أكثر من قتله ابنه وفلذة كبده خوف الفقر أو خوف العار ؟ وربما كان الولد مصدر الخير لأهله ، وهل من يفعل هذا لا يعد في مصاف الجهلاء ؟ أعوذ باللّه من عادات الجاهلية.
وأما الافتراء على اللّه ، والكذب عليه ، فقد جعلوه دينا وهم كاذبون ، وأما ضلالهم فهم لم يرشدوا إلى الخير أصلا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولم يسيروا وراء عقل ولا شرع.
أخرجه البخاري : « إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام » .
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ .. إلى قوله .. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.(1/670)
ج 1 ، ص : 671
قدرة اللّه ونعمه والرد على المشركين [سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)(1/671)
ج 1 ، ص : 672
المفردات :
أَنْشَأَ : خلق وأوجد بالتدريج. جَنَّاتٍ : بساتين الكروم والأشجار الملتفة الأغصان. سميت كذلك لأنها تجن الأرض ، أى : تسترها. مَعْرُوشاتٍ :
محمولات على العرائش والدعائم التي توضع عليها كالسقف مثلا. حَمُولَةً :
ما أطاق الحمل والعمل من الإبل والبقر وغيرها. وَفَرْشاً : ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وصغار الإبل وغيرها ، أو ما يتخذ صوفه للفرش. حَصادِهِ :
قطافه. الضَّأْنِ : ذوات الصوف من الغنم. الْمَعْزِ : وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار من الغنم.
المناسبة :
لما افترى الكفار على اللّه الكذب ، وأحلوا وحرموا ، وأشركوا معه غيره ، دلهم على وحدانيته تعالى ، ومظاهر قدرته ، وأنه مصدر التشريع والتحريم لأنه هو الخالق وحده ، المبدع لهذه الكائنات ، وصاحب هذه النعم الجليلة.
المعنى :
وربكم القادر الرحيم بكم ، الرحمن ، هو الذي أنشأ تلك الجنان ، وأبدع هذه البساتين ، سواء منها المعروش القائم على العمد والسقف كبستان العنب ، وغير المعروش كبقية الفواكه والأشجار ، حتى العنب نفسه فيه المعروش وغير المعروش ، وأنشأ النخل ، وخص بالذكر لكثرته عند العرب ، وشيوعه في بلادهم وانتفاعهم بكل ما فيه ، حتى ضربوه مثلا للمؤمن ينتفع بكل أجزائه ، وأنشأ الزرع الشامل لكل ما يزرع ويحرث مما هو أساس القوت وغيره كالقمح والشعير وغيرهما ، وهذا النخل والزرع مع أنه يسقى بماء واحد ، وفي تربة واحدة متشابهة في المنظر العام ، إلا أنه يختلف في الأكل ، فهذا الجيد ، وذاك المتوسط أو الرديء ، وهذا الحلو ، وذلك المر ... إلخ. فسبحانك يا رب!! أنت القادر الحكيم.
وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر العام ، وغير متشابه في الطعم والأكل.(1/672)
ج 1 ، ص : 673
يا سبحان اللّه!! هذه التغيرات خلقت بطبعها أم لا بد لها من مغير ؟ وهل هو اللّه سبحانه أو غيره من الشركاء والأصنام ؟ أليس هو اللّه الرحمن الرحيم ؟ ولو شاء لخلقنا ولم ينعم علينا بغذاء جميل المنظر ، لذيذ الطعم ، سهل التناول.
أليس هذا من مظاهر القدرة الكاملة والحكمة التامة والوحدانية الشاملة للذات والصفات والأفعال ؟ فهذا الماء ذو الكثافة من رفعه في العود الأخضر إلى أعلى ؟ حتى انتهى إلى ورق أخضر ، ولون أزهر وجنى جديد ، وطعم لذيذ ، وشكل جميل ، وهذا غذاء النحل يصير عسلا ، وغذاء الظبى يصير مسكا ، وغذاء الحيوان يصير روثا!! أين من يقولون خلق الكون بالطبع ؟ أين من يكفرون بالرحمن ؟ ! أين من يعصون اللّه في أرضه وتحت سمائه ؟ !! كلوا أيها الناس من ثمر هذا الزرع والجنات إذا أثمر ، واشكروا نعمه عليكم ، بأن تؤتوا حقه الذي فرض عليكم يوم حصاده وقطافه ، قبل أن تشح به نفوسكم. ففيه حق معلوم للسائل والمحروم ، وهذه هي الزكاة المطلقة التي وجبت في صدر الإسلام ، ثم كانت الزكاة المقيدة المحددة الواجبة في الآيات المدنية ، وها هي الأيام تثبت أن نظرية القرآن في وجوب الزكاة على الأغنياء كانت لمصلحة الأغنياء قبل الفقراء.
ولا تسرفوا فالإسراف خطأ مطلقا ولو في الشيء الحلال ، ولا تسرفوا في الأكل ، ولا تسرفوا في التصدق ، وقد قيل : لا سرف في الخير ولا خير في السرف ، والرأى هو التوسط.
وأنشأ من الأنعام كبارا تصلح للحمل والعمل ، وصغارا كالفصلان والغنم والمعز مثلا ، تفرش على الأرض للذبح ، ويتخذ من شعرها ووبرها فرشا ولباسا.
كلوا مما رزقكم اللّه ، وانتفعوا بلحمها ولبنها ووبرها وشعرها ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، فتحرموا ما أحل اللّه أو تحلوا ما حرم اللّه ، فإن الشيطان عدوكم اللدود.
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ « 1 » وهذه الأنعام ثمانية أزواج ، فهي إبل وبقر وغنم ومعز ، وكل منها ذكر وأنثى ، وقد أنشأ اللّه من الضأن
___________
(1) سورة البقرة آية 169.(1/673)
ج 1 ، ص : 674
اثنين : الكبش والنعجة ، ومن المعز اثنين : التيس والعنزة ، ومن الإبل اثنتين : الجمل والناقة ، ومن البقر اثنتين : الثور والبقرة ، قل لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا : أحرّم اللّه الذكرين من الكبش والتيس ؟ أم حرم الأنثيين من النعجة والعنزة ؟ نبئونى بعلم إن كنتم صادقين!! أم اللّه حرم الذكرين من الجمل والثور ؟ أم حرم الأنثيين من الناقة والبقرة ؟ !! أم حرم اللّه ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ؟ وقد كان المشركون في الجاهلية يحرمون بعض الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، فاحتج - سبحانه وتعالى - عليهم بأن لكل من الضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى ، فإن كان قد حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما ، وإن كان حرم - جل شأنه - الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما ، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، وجب تحريم الأولاد كلها.
واللّه - تعالى - ما حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع ، وإنهم لكاذبون في دعوى التحريم ، وقد فصل اللّه ذلك أتم تفصيل ، مبالغة في الرد عليهم ، ثم زاد في الإنكار فقال : بل أكنتم حضورا ؟ أو قد وصاكم اللّه بهذا ؟ كلا ما حصل هذا ولا ذاك ، وإنما أنتم تفترون على اللّه الكذب ، وتقولون على اللّه ما لا تعلمون ، وبعد أن نفى طريق العلم. وهو التلقي من الرسل ، أو من اللّه ، أثبت أنه لا أحد أظلم ممن ثبت أنه افترى على اللّه الكذب ، فيضل الناس بغير علم.
أما جزاؤكم : فإن اللّه لا يهدى القوم الظالمين ، ولا يوفقهم إلى الخير أصلا.
ما حرمه القرآن وما حرمته التوراة من المأكولات [سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)(1/674)
ج 1 ، ص : 675
المفردات :
مُحَرَّماً : محظورا أو ممنوعا. طاعِمٍ يَطْعَمُهُ : آكل يأكله.
مَسْفُوحاً : مصبوبا سائلا يجرى من المذبوح. رِجْسٌ قذر قبيح.
شُحُومَهُما : المراد الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش ، وكذا الشحم الذي يكون على الكلية. الْحَوايا : مجتمع الأمعاء في البطن. بَأْسُهُ : عذابه.
المعنى :
قل يا محمد : لا أجد فيما أوحى إلى محرما إلا هذه الأشياء ، لا ما تحرمونه أنتم بشهوتكم ، ووسوسة الشياطين لكم ، والآية مكية ، وقد أشارت إلى المحرمات بالجملة ، ثم فصلت المحرمات في آية المائدة رقم (3) وحرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المدينة « أكل كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير » على ما هو مفضل في كتاب الصيد والذبائح من كتب الفقه.
لا أجد في الذي أوحى إلى شيئا محرما على طاعم وآكل يأكله إلا هذه الأربعة ، والمحرم في لسان الشرع : هو المحظور الممنوع ، وفي اللغة عام يشمل المكروه ، ولهذا اختلف العلماء فيما حرمه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.(1/675)
ج 1 ، ص : 676
إنما حرم عليكم الميتة وهي ما ماتت حتف أنفها بغير ذبح شرعي ، وذلك يشمل المخنوقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ونحوها ، والدم المسفوح السائل يجرى من المذبوح ، أما الجامد كالكبد والطحال فحلال ، وفي الحديث : « أحل لنا ميتتان :
السمك والجراد ، ودمان : الكبد والطحال »
ولحم الخنزير وما يشبهه كالكلب فإن هذا كله رجس وقذارة ، تعافها النفوس الطيبة وهو ضار بالبدن ، وحرم كذلك ما أهل لغير اللّه به ، وما ذبح على النصب والأزلام.
والمعنى :
إلا أن يكون ميتة ... أو فسقا أهل لغير اللّه به : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ... ومن أصابته ضرورة ملحة إلى أكل المحرم فهو حلال له بشرط ألا يكون باغيا له وقاصده لذاته ، وبشرط ألا يكون معتديا ومتجاوزا حد الضرورة ، فإن ربك غفور للذنوب رحيم بالعباد ، فلا يؤاخذ شخصا يأكل ما يسد به مخمصته ، أو يدفع ضرر هلاكه.
هذا ما حرم في شريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بالإجمال ، وما حرمه اللّه على اليهود خاصة كان تحريما مؤقتا ، عقوبة لهم لا لذاته : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [سورة النساء آية 160].
وعلى الذين هادوا - خاصة - حرمنا عليهم كل ذي ظفر ، أى : ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط ، كما ورد ، وحرمنا عليهم من البقر والغنم دون غيرهما شحومها الزائدة التي تنتزع بسهولة ، وهو ما على الكرش والكلى ، أما الشحوم التي على الظهر وفي الذيل أو ما اختلط بعظم فحلال ، بدليل قوله : إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما وإلا ما حملته الأمعاء ، فتلخص أن المحرم عليهم من الشحوم هو شحم الكرش والكلى فقط.
وإنما حرم اللّه عليهم ذلك عقوبة لهم في قتلهم الأنبياء بغير حق ، وصدهم عن سبيل اللّه ، وأخذهم الربا ، واستحلالهم أموال الناس بالباطل.
وفي ذكر هذا تكذيب لليهود في قولهم : إن اللّه لم يحرم علينا شيئا ، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه.(1/676)
ج 1 ، ص : 677
ولما كان هذا إخبارا عن شيء جرى قديما لم يكن للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولا لأحد من قومه علم به قال : وَإِنَّا لَصادِقُونَ ومن أصدق من اللّه حديثا ؟ فإن كذبوك بعد هذا ، وقالوا : إن اللّه رحيم واسع الرحمة ، كريم ، فكيف يحرم ما أحله ؟ قل لهم : نعم ربكم ذو رحمة واسعة ، ولكن من عصى وبغى لا بد من عقابه ، فإنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين في حق أنفسهم وحق اللّه.
شبهة واهية [سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
المفردات :
تَخْرُصُونَ الخرص : الحزر والتخمين ، والمراد : تكذبون. الْحُجَّةُ :
الدلالة المبينة للدين الحق. هَلُمَّ أى : أحضروا. يَعْدِلُونَ : يتخذون له عدلا مساويا.(1/677)
ج 1 ، ص : 678
المعنى :
بعد أن ألزمهم بالحجة ، أخبر اللّه عنهم أنهم سيتمسكون بحجة أوهى من بيت العنكبوت ، فقال : سيقولون ... ولما قالوا بالفعل حكى عنهم في آية أخرى : وقالوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا.
لو شاء اللّه ألا نشرك نحن ولا آباؤنا من قبل وألا نحرم شيئا من البحيرة والسائبة والحام ، لما أشركنا ولما أشرك آباؤنا من قبل ، ولما حرموا شيئا ، ولكن شاء أن نشرك به غيره من الأولياء والشفعاء ليقربونا إلى اللّه زلفى ، بدليل وقوعه بالفعل ، وكذلك تحريمنا بعض الأنعام والحرث ، واللّه عالم بكل ما يحصل ، قادر على تغييره بما يشاء وإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى ، وعلى رضاه وأمره بها : وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .. [سورة النحل آية 35].
مثل ذلك التكذيب الذي صدر من المشركين العرب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيما جاء به من الوحدانية للّه ، وقصر التشريع عليه - سبحانه وتعالى - كذب الذين من قبلهم رسلهم تكذيبا غير مبنى على حجة من العلم والعقل ، إذ لو كانت مشيئة اللّه - تعالى - معناها رضاه عن عملهم ، لما عاقبهم على أعمالهم حتى ذاقوا بأسه ، وقال فيهم : أخذناهم بذنوبهم.
قل : هل عندكم من علم وحجة تحتجون بها وتعتمدون عليها ، فتخرجوها لنا حتى تقرع الحجة بالحجة ، وحتى يعرف الراجح بدليله وحجته من غيره الذي لم يعتمد على حجة وبرهان ؟ الواقع أنكم ما تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، فلا يقين معكم ولا حجة عندكم ، إن أنتم إلا تخرصون وتكذبون ، قل لهم يا محمد : فللّه الحجة البالغة ، بما بيّن من الآيات ، وأيد الرسل بالمعجزات ، وألزم أمره كل مكلف ، فأما إرادته وعلمه وكلامه فغيب لم يطلع عليه أحد.
ألم تر أن العبد لو أراد أن يفعل الخير لفعل ، ولا مانع يمنعه ، مع العلم بأن هناك لافتات بالخط الواضح العريض كتب عليها : « يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر(1/678)
ج 1 ، ص : 679
أقصر » كان ، وللخير ثواب عظيم وللشر عقاب وعذاب أليم يوم القيامة ، ذلك هو أساس التكليف ومناط الثواب والعقاب.
ولقد ذم اللّه هؤلاء المشركين لتعنتهم بالباطل ، والحجج الواهية ، لأنهم قالوا هذا عن هزؤ وسخرية ، ولم يجتهدوا وينظروا نظر عقل وتدبر ، ولو شاء اللّه لهداكم ، وجعلكم من عباده المتقين ، ولكن أراد أن يخلقكم ويترككم واختياركم فلا سلطان ولا قهر فيما كلفكم به ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، قل لهم : أحضروا شهداءكم الذين يشهدون لكم أن اللّه حرم هذا وإن شهدوا على سبيل الفرض فلا تشهد معهم ، فهم الكاذبون ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ، والذين لا يؤمنون بالآخرة وأحوالها ، وما فيها من حساب أمام اللّه - سبحانه - وهم بربهم يعدلون ..
أصول المحرمات والفضائل في الإسلام [سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)(1/679)
ج 1 ، ص : 680
المفردات :
تَعالَوْا : أقبلوا ، والأصل أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم كثر واتسع فيه حتى عم. أَتْلُ : أقرأ. إِمْلاقٍ : فقر. الْفَواحِشَ :
ما عظم جرمه وذنبه ، كالكبائر أو الخطيئة التي بلغت الغاية في الفحش. أَشُدَّهُ
:
كمال رجولته ، وتمام حنكته ومعرفته.
المعنى :
لما بيّن اللّه - سبحانه وتعالى - فساد رأى المشركين فيما أحلوا وحرموا ، وبين المحرمات شرعا - بالإجمال - في الطعام ، أخذ في هذه الآية يبين أصول الفضائل ، وأنواع البر ، وأصول المحرمات والكبائر ، ليعلم الناس أسس هذا الدين ؟ وكيف دعا إلى الخير والبر ، من أربعة عشر قرنا ؟ في وقت سادت فيه الجاهلية الجهلاء ، والضلالة العمياء!! أليست هذه الآيات من دلائل الإعجاز وعلامات صدق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ؟
قل لهم : أقبلوا علىّ واحضروا ، أقرأ عليكم الذي حرمه ربكم لتجتنبوه وتتمسكوا بضده ، أقبلوا على أيها القوم. لتروا ما حرّم عليكم من ربكم ، الذي له وحده حق التشريع والتحليل والتحريم ، وأنا رسوله ومبلغ عنه فقط ، تقدموا واقرءوا حقا يقينا لا شك فيه ، كما أوحى إلىّ ربي ، لا ظنّا ولا كذبا - كما زعمتم - وها هي ذي الوصايا العشر : خمس بصيغة النهى ، وخمس بصيغة الأمر.
1 - الإيمان باللّه وعدم الإشراك به أساس الإسلام ولبه ، ودعامته وروحه ، ولذا بدأ به : ألا تشركوا باللّه شيئا من مخلوقاته ، وإن عظم في الخلق والشكل كالشمس والقمر ، أو في المكانة كالملائكة والنبيين ، فالكل - مهما كان - مخلوق مسخر له تعالى :(1/680)
ج 1 ، ص : 681
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً « 1 » فيجب عليكم أن تخصوه وحده بالعبادة والتعظيم الحقيقي ، والتقديس والدعاء والإجلال : وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء آية 44].
2 - وبالوالدين إحسانا : أى أحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا ، بإخلاص للّه سبحانه ، فما بالكم بالإساءة مهما قلت ؟ ! وأما العقوق فكبيرة من الكبائر ، والقرآن الكريم قرن الأمر بعبادة اللّه بالإحسان للوالدين ، وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً « 2 » . أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ « 3 » ولقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أى العمل أفضل ؟ قال : « الصلاة لوقتها » .
قلت : ثم أى ؟ قال : « بر الوالدين » قلت : ثم أى ؟ قال : « الجهاد في سبيل اللّه » .
وهذا دليل على عظم العناية بحقوقهما وعلى أن مكانتهما تستحق ذلك ، فهما قد خلقا الجسم في الظاهر ، واللّه سبحانه هو الخالق حقيقة وفي الواقع ... والمراد بالإحسان إليهما معاملتهما معاملة كريمة ، معاملة مبنية على العطف والمحبة ، لا الخوف والرهبة ، فبرهما سلف لك ودين ،
فقد ورد في الحديث « بروا آباءكم تبركم أبناؤكم »
. وأنت في شبابك قد لا تحتاج إلى الغير. ولكن في كبرك محتاج إلى من يعينك ، ويقوم بأمورك ، ومحبة الوالد لولده غريزة من الغرائز ، فلم يوص عليها الشرع ، ومحبة الولد لوالديه جزاء ومكافأة لهما ، ولذا نبه القرآن عليهما وشدد ، على أن عقوق الوالدين يفسد الأبناء وتكوينهم وينشئهم على الغلظة وعدم الشفقة ، وعلى الوالدين حسن الرعاية والعناية والعطف عليهم ، وعدم التحكم في المسائل الشخصية الخاصة إلا بقدر محدود.
3 - ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم : أليس وأد البنات ، وقتل الذكور سبة وعارا ؟ أليس دليلا على الجاهلية والقسوة بل ومنتهى الغلظة ؟ التي تخالف غرائز الإنسان وطبائعه ؟ ولم تقتلون ؟ ألفقر حاصل ؟ أم لفقر متوقع ؟ أم لعار سيلحق ؟ فاللّه يرزقكم وإياهم ، فلا تخافوا الفقر الحاصل واللّه يرزقهم وإياكم ، فلا تخشوا الفقر المتوقع ، وأما العار خوف الفضيحة ، فيرجع إلى البيئة وحسن التنشئة.
4 - ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن : نعم لا تأتوا الفواحش وما عظم جرمه وإثمه ، بل ولا تأخذوا بأسبابه ، ولا تقربوا من مقدماته ، ومن هنا كان النظر إلى
___________
(1) سورة مريم آية 93.
(2) سورة الإسراء آية 23.
(3) سورة لقمان آية 14.(1/681)
ج 1 ، ص : 682
الأجنبية والاختلاط بها حراما ، لأنه مقدمة للزنا والباب إليه ، ونحن منهيون عن القرب من الفواحش - كالزنا وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات - سواء ما ظهر منها ، وما بطن ، وكانوا في الجاهلية لا يرون بأسا في الزنا سرا ، أما في العلانية فكانوا يعدونه قبيحا ، فحرم اللّه النوعين ، وقد ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا أحد أغير من اللّه ، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن » .
5 - ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه قتلها إلا بالحق ، فالقتل جريمة كبرى ، واعتداء شنيع على صنع الخالق الذي أتقن كل شيء خلقه ، ومن هنا كان من أكبر الكبائر بعد الشرك باللّه - سبحانه وتعالى - وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه ، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللّه »
، وفي الحديث : « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاثة أمور : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق »
فكل نفس مسلمة قتلها حرام إلا إن ارتكبت إحدى ثلاث ، الزنا مع الإحصان ، والقتل عمدا ، والردة عن الإسلام ، وأما الكافر والمعاهد المقيم بيننا فله حرمة ، فلا يقتل ما دام لم تكن منه إساءة للدين من قرب أو بعد ، أو إساءة للوطن كذلك ، ذلكم وصاكم به اللّه ، وأرشدكم ، لتعقلوا الخير والمنفعة في فعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه ، إذ هو مما تدركه العقول ، وفي هذا تعريض بأن ما هم عليه لا يعقل له معنى ، ولا تظهر له فائدة عند ذوى العقول الراجحة.
6 - ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، ولا تأكلوا من ماله إذا تعاملتم معه إلا على الصورة التي هي أحسن في حفظ ماله وتثميره ، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه ، وما به يصلح معاشه ، والنهى عن القرب عن الشيء أبلغ من النهى عن الشيء نفسه ، لا تقربوه حتى يبلغ أشده. أى : حتى يبلغ مبلغ الرجال. ويصير ذا حنكة وتجربة تمكنه من إدارة ماله. على وجه حسن. ويكون ذلك عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة. فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [سورة النساء آية 6].
7 ، 8 - وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، نعم أوفوا الكيل إذا كلتم ، أى : إذا بعتم أو اشتريتم ، وكذلك زنوا بالقسطاس المستقيم في البيع والشراء ، فالتطفيف في الكيل والزيادة في الوزن والنقص فيهما كل ذلك من الكبائر ، لما يترتب عليه من هضم(1/682)
ج 1 ، ص : 683
للحقوق وضياع للأموال ، واعتداء على الغير بوجه غير مشروع : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ.
لا نكلف نفسا إلا وسعها وجهدها وطاقتها ، فهذه الوصايا كلها في مقدور المؤمن العادي ، وأما خصوص الكيل والميزان ، فالمأمور به ما يدخل تحت وسعه وإمكانه ، وما عداه فمعفو عنه.
9 - وإذا قلتم فاعدلوا ، ولو كان ذا قربى ، أى : فاعدلوا في القول ولا تتجاوزوا فيه الحد المقبول شرعا ، ولو كان الذي تقولون فيه من ذوى القربى. إذ بالعدل تبنى أسس الدولة ، وتصلح شئون الأمم والأفراد. فهو ركن العمران ، وأساس النجاح : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سورة المائدة آية 8].
10 - وبعهد اللّه أوفوا : أى وأوفوا بعهد اللّه إذا تعاهدتم ، سواء أكان عهدا بين اللّه والناس على ألسنة الرسل في الكتب المنزلة ، أو بين الناس وبعضهم : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ذلكم وصاكم اللّه بهذا لعلكم تذكرون وتتعظون ، أى :
رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر اللّه به.
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، نعم هذا هو القرآن الذي أدعوكم إليه. صراط اللّه المستقيم ، الذي لا عوج فيه ، بل فيه سعادة الدنيا والآخرة وهو حبل اللّه المتين ، من تمسك به نجا ، ومن اعتصم به هدى ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ولا تتبعوا السبل فتضلوا عن طريق الحق والخير :
« ولقد خط رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطا بيده ثم قال : هذا سبيل اللّه مستقيما ، ثم خط خطوطا أخرى عن يمين ذلك الخط وعن شماله ، ثم قال : وهذه السبل ، ليس فيها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ : وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.
نعم الحق واحد ، والنور واحد ، والإله واحد ، والباطل متعدد الألوان والأشكال ، والظلمات كثيرة الأنواع : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ولا تتبعوا(1/683)
ج 1 ، ص : 684
الطرق المختلفة في الدين أو غيره فتفرقكم أيدى سبأ ، وتصبحوا نهبا للخلافات والأحزاب ، التي تمزقكم شر ممزق : ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تتقون اللّه وتخشونه في كل أوامره وفعلها ، ونبذ النواهي وتركها ، ولقد كرر التوجيه على سبيل التوكيد ، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع لنواحى الدين في تكاليفه ، ختم ذلك بالتقوى التي هي السبيل الأقوى ، واتخاذ الوقاية من النار ، إذ من اتبع صراطه المستقيم نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية.
روى عن ابن مسعود - رضى اللّه عنه - أنه قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد صلّى اللّه عليه وسلّم التي عليها خاتمه ، فليقرأ هؤلاء الآيات : قُلْ تَعالَوْا .. إلى قوله تعالى : تَتَّقُونَ وروى عن الربيع بن خيثم : « أيسرك أن تلقى صحيفة من محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بخاتمه ؟ قلت : نعم. فقرأ هذه الآيات من آخر سورة الأنعام : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ .. إلى قوله : تَتَّقُونَ.
القرآن مع من يؤمن به ويكفر [سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)(1/684)
ج 1 ، ص : 685
المفردات :
طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا : هم اليهود والنصارى. دِراسَتِهِمْ : قراءتهم وعملهم. بَيِّنَةٌ البينة والبيان : ما به يظهر الحق. وَصَدَفَ عَنْها : ومنع الناس عنها.
المعنى :
لقد تكلم القرآن الكريم على أسس الدين وأصوله ، ووصاياه ، ثم قفّى ذلك بالحديث عن القرآن وأثره ، ورد بعض شبه المعاندين ، وافتتح ذلك بالكلام على التوراة ، فهي أشبه بالقرآن من الإنجيل والزبور ، لاشتمالها على الأحكام كثيرا.
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وهو : كذا وكذا ، إلى آخر الوصايا العشر السابقة ، ثم أخبركم بأنا آتينا موسى الكتاب من قبل تماما للنعمة والكرامة والخير والهداية على المؤمن المحسن.
نعم كان تماما على من أحسن ، ويؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ : (تماما على الذين أحسنوا) ، أى : في اتباعه والنظر فيه ، والاهتداء بهديه وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء ، من أحكام الشريعة : عبادتها ومعاملتها ، وهدى لمن اهتدى به ، ورحمة لمن تمسك به ، ليجعل قومه محل رجاء للإيمان باللّه ، والفوز في دار الكرامة ودار السلام.
أرأيت إلى القرآن وهو يصف التوراة بهذا ؟
وهذا القرآن الذي تليت عليكم آياته البينات بأسلوبه العربي المعجز ، هو الكتاب لا ريب فيه وأنزلناه كثير البركات عظيم الشأن ، كثير الخير ، في الدين والدنيا ، قد جاء بأكثر مما جاءت به التوراة ، فاتبعوا ما هداكم إليه واجتنبوا ما نهاكم عنه ، فهو حبل اللّه المتين ، ونوره اليقين ، جمع طريق الفلاح في الدنيا والآخرة ، فاعملوا به لعلكم ترحمون في حياتكم ومماتكم.
أنزلنا إليكم هذا الكتاب المرشد إلى توحيد اللّه ، والهادي إلى سبيله ، والموصل إلى تزكية النفوس وتطهيرها من أدران الشرك والفسوق والعصيان ، لئلا تقولوا أيها العرب(1/685)
ج 1 ، ص : 686
يوم الحساب : إنما أنزل الكتاب على اليهود والنصارى من قبلنا ، وإن كنا عن دراستهم وقراءة كتبهم وتفهمها لغافلين ، لا ندري ما هي ؟ لأنها بلسان غير عربي. ولأنا مشغولون. بغيرها ولم ندع إليها.
ولئلا تقولوا كذلك : لو أنا أنزل علينا الكتاب الهادي إلى سواء السبيل لكنا أهدى منهم ، وأحسن حالا لصفاء نفوسنا ، وقوة عزائمنا ، وذكاء عقولنا وإرهاف إحساسنا وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فرد اللّه عليهم بقوله تبكيتا لهم وتأنيبا : إن صدقتم فيما تقولون ، فقد جاءكم كتاب بيّن الحق واضح الحجج ، قوى البرهان ، تام الأصول والفروع والأحكام ، فهو البينة الفاصلة ، والحجة الكاملة ، وهو هاد لمن تدبره واتعظ به ، ورحمة عامة للناس ، لما فيه من الدعوة إلى المثل العليا زيادة عن الدعوة إلى الدين الحق ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن أظلم ممن كذّب بآيات اللّه ؟ . نعم لا أحد أظلم ممن كذب بآيات اللّه! التي على هذا الوصف ومنع الناس عنها ، وعن النظر فيها والإيمان بها وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ سنجزى الذين يمنعون الناس عن الإيمان بآياتنا العذاب السيئ الشديد ، إذ هم يحملون أوزارهم وأوزارا مع أوزارهم : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ.
تهديد وإنذار [سورة الأنعام (6) : آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
المفردات :
يَنْظُرُونَ : ينتظرون.(1/686)
ج 1 ، ص : 687
المعنى :
بعد ما وصف اللّه القرآن وأثره ، وأنذر من يكذبه بصارم العقاب ، أتبع هذا بحقيقة المشركين وما ينتظرون ، هل ينتظر هؤلاء إلا أن تأتيهم الملائكة كما اقترحوا ؟ أو يأتى ربك كما طلبوا وقالوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ، أو تأتيهم بعض آيات ربك التي اقترحوها بكفرهم كقولهم : أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا .. ونحو ذلك ، فهم في الحقيقة لا ينتظرون إلا مجيء الملائكة ، أو مجيء ربك ، أو مجيء بعض آيات ربك ، فهم متمادون في التكذيب ، ولا أمل فيهم أبدا ، ولا خير فيهم أصلا ، وقيل : هم لا ينتظرون إلا ملائكة الموت أو أمر اللّه ، أى : وعده ووعيده.لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[سورة النحل آية 23] يوم يأتى بعض آيات ربك : الآيات الدالة على قرب قيام الساعة ، أو بعض الآيات الموجبة للإيمان الاضطراري ، لا ينفع هذا الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل ، فإن الإيمان تكليف وعمل واختيار ، وليس في هذا الوقت واحد منها ، ولا ينفع هذا الإيمان نفسا آمنت من قبل ، ولم تعمل عملا صالحا. إذ ليس الإيمان وحده كافيا في سقوط العذاب عن الشخص ، بل لا بد من إيمان وعمل ، ولذلك كان القرآن دائما يقرن الإيمان بالعمل : إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
وقد ورد في الحديث أن بعض الآيات هي طلوع الشمس من المغرب
، واضطراب هذا الكون ... أخرج أحمد ، والترمذي عن أبى هريرة : « ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض » .
قل لهم يا محمد : انتظروا ما تتوقعون من إماتة الدعوة ، وقتل الرسول ، وهلاك الدين ، إنا منتظرون أمر ربنا ووعده الصادق لنا ، ووعيده المتحقق لأعدائنا فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ.(1/687)
ج 1 ، ص : 688
وهذا تهديد ووعيد شديد ، إذ هم ينتظرون أمرا قد قضى اللّه فيه ، إذ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
عاقبة الاختلاف والجزاء على العمل [سورة الأنعام (6) : الآيات 159 الى 160]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)
روى أبو داود والترمذي عن معاوية قال ما معناه : قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :
« ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة (ملة) وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون فرقة في النار ، وفرقة واحدة في الجنة ، وهي الجماعة » .
وعلى هذا تكون الآية الكريمة شاملة لأهل الكتاب ، ولغيرهم من فرق المسلمين ، وهي مسوقة للتحذير من الاختلاف واتباع الآراء والبدع والمتشابهات ، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على شرع أنبيائهم وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [سورة آل عمران آية 105] وقد ورد : اللهم إيمانا كإيمان العوام ، إيمان بعيد عن الشبه والخلافات الضارة.
إن الذين فرقوا دينهم واختلفوا فيه ، وأقروا ببعض وكفروا ببعض ، وأوّلوا نصوصه على حسب أهوائهم ونزعاتهم ، وكانوا شيعا كل شيعة تدين برأى إمامهم ، وتتعصب له ، لست أنت يا رسول اللّه من قتالهم وسؤالهم وعقابهم في شيء ، وإنما عليك تبليغ الرسالة ، وإظهار شعائر الدين الحق الذي أمرت بالدعوة إليه ، أنت يا محمد برىء منهم وهم منك براء ، إنما أمرهم وحسابهم على اللّه وحده ، ثم ينبئهم في الآخرة ويجازيهم أحسن الجزاء بما كانوا يفعلون.(1/688)
ج 1 ، ص : 689
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضى اللّه عنه - عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه قال : « إن اللّه تعالى كتب الحسنات والسيئات فمن همّ بحسنة ولم يفعلها كتبت له عند اللّه حسنة كاملة ، فإن هو همّ بها فعملها كتبها اللّه له عنده عشر حسنات ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبها اللّه عنده حسنة كاملة ، فإن هو هم بها فعملها كتبها اللّه سيئة واحدة » .
من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة ، والفعلة الطيبة ، جازاه اللّه عليها عشر حسنات والمضاعفة بعد ذلك إلى سبعمائة أو ما شاء بعد ذلك من زيادة فاللّه أعلم بها ، تختلف على حسب مشيئته تعالى وعلمه بأحوال المحسنين ، إذ من يبذل درهما ونفسه غير راضية لا يكون كمن ينفقه طيبة به نفسه ، مسرورة بعملها.
ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها فقط ، وهم لا يظلمون ، أى : لا ينقصون من أعمالهم شيئا : وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 47].
التوحيد والإخلاص في العقيدة [سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 164]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)(1/689)
ج 1 ، ص : 690
المفردات :
دِيناً قِيَماً : يقوم به أمر الناس ونظامهم في الدنيا والآخرة ، أو قائما مستقيما لا عوج فيه. حَنِيفاً : مائلا عن الضلالة إلى الاستقامة ، والمراد : مائلا عن الأديان الباطلة إلى دين الإسلام. وَنُسُكِي : عبادتي من حج وغيره. وَمَحْيايَ وَمَماتِي المراد : ما آتيه في حياتي وموتى. وازِرَةٌ الوزر : الحمل الثقيل ، والمراد النفس الآثمة المذنبة.
المعنى :
هذا ختام سورة جامعة لأصول التوحيد ، شارحة للعقيدة الإسلامية وبخاصة أحوال البعث والجزاء ، وإثبات الرسالة وما يتبع ذلك ، ولهذا كان ختامها خلاصة لما تقدم.
قل يا محمد : إننى هداني ربي ، ووفقني إلى صراط مستقيم لا عوج فيه ، هو الدين القيم الموصل إلى سعادة الدارين ، الذي يقوم به أمر الناس في معاشهم ومعادهم ، وبه يصلحون ، هذا الدين هو ملة أبيكم إبراهيم الخليل ، فالتزموه حال كونه حنيفا مائلا عن جميع وسائل الشرك والباطل إلى الدين الحق الذي من دعائه في كل صلاة : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وما كان إبراهيم من المشركين أبدا ، فأما من يتخذ الأصنام آلهة ويعتقد أن الملائكة بنات اللّه ، أو عزير أو المسيح ابن اللّه ، فهؤلاء هم المشركون ، وليسوا على ملة إبراهيم : وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا « 1 » هذا الدين هو دين الإخلاص والعمل للّه ، هو الذي ارتضاه لأنبيائه ورسله : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ « 2 » . وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ « 3 » هذا هو التوحيد الخالص في العقيدة.
قل لهم يا محمد : إن صلاتي ودعائي ، ونسكي وعبادتي وما آتيه في حياتي كلها! بل وحياتي وموتى ، كل ذلك خالص للّه رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال أمر اللّه.
___________
(1) سورة النساء آية 125.
(2) سورة آل عمران آية 19.
(3) سورة آل عمران آية 85.(1/690)
ج 1 ، ص : 691
والآية الشريفة جامعة لكل أعمال المسلم ، فيجب عليه أن يوطد العزم ، ويعقد النية على صلاته وعبادته ، وحياته وما يأتيه فيها ، وموته وما يلاقي فيه ، كل ذلك للّه لا لشيء آخر ، فإن عاش فللّه ، له الحكم ، وله الأمر.
ولست أبالى حين أقتل مسلما على أى جنب كان في اللّه مصرعي
فالمسلم لا يحرص على الحياة ، ولا يرهب الموت ، بل يكون الموت في سبيل اللّه أسمى أمانيه ، لا يقعد عن الجهاد ، ولا يتوانى عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهكذا كان جند الرحمن ، الصحابة - رضوان اللّه عليهم - قل لهم يا محمد : أغير اللّه أبغى رباّ ؟ وأشركه في العبادة وأتوجه إليه في الدعاء ، واللّه سبحانه رب كل شيء ، وخالق كل شيء.
فالقرآن صريح جدّا في أن كل قربى أو عبادة أو دعاء لا يكون إلا للّه وحده ، وهذا هو الدين الخالص.
ولا تكسب كل نفس إثما أو ذنبا إلا كان عليها جزاؤه ووزره ، ولا تزر نفس وزر غيرها أبدا ، بل كل نفس بما كسبت رهينة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون ، فهذا هو الدين. دين العمل والجد لا دين الأمانى والغرور الكاذب.
وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح للمجتمع البشرى ، ومن أعلى مزايا الدين الإسلامى ، ومن أقوى معاول الهدم للوثنية في أى صورة من صورها.
ثم إلى ربكم مرجعكم لا إلى غيره ، ثم هو وحده ينبئكم ويجازيكم على أعمالكم التي كنتم فيها تختلفون.
سنة اللّه في الخلق [سورة الأنعام (6) : آية 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)(1/691)
ج 1 ، ص : 692
المعنى :
هذا هو الدواء ليس غير ، وهذا هو العلاج فحسب ، به تهدأ النفوس وتطمئن القلوب.
فنحن خلائف من تقدمنا ، فليس لنا بقاء ، وكما وصلت إليها ستخرج منها ، ونحن خلائف فلا ملك لنا ولا تصريف في الواقع : وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ « 1 » إذا كان هذا فلم هذا التناحر ، والتهالك ، والتباغض ، والتكالب ؟ ولما ذا تبخلون بما جعلكم مستخلفين فيه ؟
واللّه - سبحانه - رفع بعضكم فوق بعض درجات في العلم ، والعمل ، والغنى والفقر ، ليبلوكم جميعا ، كل بما عنده ، فيختبر الغنى. هل يؤدى زكاة ماله ؟ هل يتصدق بالفضل من ماله ؟ هل يعطف على الفقير والمحتاج والمسكين أم هو نهم جشع ، صلد ، صلب كالحجر ؟ نعم ويبلو الفقير هل يصبر ويرضى أم يشكو ويكفر ؟
وإذا كان اللّه - سبحانه - قد رفع بعضنا فوق بعض ، فما علينا إلا العمل والجد والصبر والرضا بقضاء اللّه وقدره ، واعتقاد أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ « 2 » .
وعلى الجملة فهذا علاج نفسي لسل السخائم والتحاسد ، والعلاج الاقتصادى معروف تشير إليه الآية أيضا وهو الاشتراكية الإسلامية الممثلة في الزكاة المطلقة والمقيدة والنظم المالية المعروفة في الفقه الإسلامى فقط والذي يوحى به مجتمعنا الإسلامى العربي.
إن ربك سريع العقاب ، شديد العذاب ، لا يهمل وإن أمهل ، يمكّن للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. يخلق في الضعيف المسكين قوة يحار لها الملك الجبار ، فاعتبروا بما مر بنا في هذه الأيام : وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ « 3 » . وإنه لغفور لكل تائب رحيم بكل محسن.
___________
(1) سورة الحديد آية 7.
(2) سورة الحديد آية 24.
(3) سورة الشورى آية 30. [.....](1/692)
ج 1 ، ص : 693
سورة الأعراف
عدد آياتها خمس ومائتان ، وهي مكية ، قال القرطبي : كلها مكية إلا ثمان آيات وهو قوله تعالى : وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله : وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ.
نزلت بعد سورة (ص) وهي كالأنعام بينت أصول العقائد وأسس الدين ، وفيها قصص الرسل. وأحوال قومهم بالتفصيل ، مع بعض الآيات والحكم القرآنية.
القرآن وعاقبة المكذبين في الدنيا والآخرة [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)(1/693)
ج 1 ، ص : 694
المفردات :
المص : هذه حروف تكتب كأنها كلمة ، وعند القراءة تقرأ هكذا : ألف.
لام. ميم. صاد ، وهي كغيرها مما افتتح به ، كسورة البقرة وآل عمران.
حَرَجٌ : ضيق وألم. وَذِكْرى : تذكر نافع وموعظة حسنة. كم :
كلمة وضعت للتكثير. قَرْيَةٍ : هي مكان اجتماع الناس ، وقيل تطلق على الناس أنفسهم. بَياتاً : ليلا ، والمراد الإغارة على العدو ليلا ، والإيقاع به على غرة.
بَأْسُنا : عذابنا وهلاكنا. قائِلُونَ : من القيلولة ، وهي : استراحة وسط النهار ، والمراد : نائمون في الظهيرة. دَعْواهُمْ : دعاؤهم وقولهم. فَلَنَقُصَّنَّ القص : تتبع الأثر بالعمل أو القول.
المعنى :
هكذا يبدأ اللّه - سبحانه وتعالى - السور التي فيها إثبات الوحدانية والبعث ، والنبوة والوحى ، بهذا البدء العجيب لمعنى ، اللّه أعلم به ، وهو سر بين اللّه ورسوله أشبه شيء بالشفرة في العصر الحديث.
هذا كتاب عظيم الشأن ، جليل الخطر ، أنزل إليك يا محمد من عند ربك ، فيه ما فيه من الخير والهداية ، لتبشر به وتنذر ، ولكن ستلقى إيذاء وشدة ، ومقاومة وطعنا ، وإعراضا وصدّا ، وتلك أمور يضيق لها الصدر ، وتحتاج إلى أعلى نوع في الصبر ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكن في صدرك حرج من الإنذار به ومن تبليغه :
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ وعليك بالصبر والمثابرة : فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ والمراد بهذا النهى الاجتهاد : في مقاومة الشدائد ، والتسلي عنها بوعد اللّه ، والتأسى بالرسل أولى العزم السابقين.
كتاب أنزل إليك لتنذر به الناس أجمعين ، وتذكر به القوم الذين قدر لهم أن يكونوا مؤمنين ، تذكرهم ذكرى نافعة مؤثرة.
قل لهم يا أيها الرسول : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وخالقكم ، ومتولى شئونكم بالعناية والرعاية ، فإنه لا ينزل عليكم إلا الخير والسداد ، والهدى والرشاد ، ولا تتبعوا(1/694)
ج 1 ، ص : 695
من دون اللّه أولياء من أنفسكم وشياطينكم ، الذين يوسوسون لكم بكل ضرر وخطر وضلال في العقيدة ، وبدع في الدين ، ويوهمونكم أن الأصنام شفعاء للّه وشركاء ، وما هي إلا أحجار لا تضر ولا تنفع ، إنكم قليلا ما تتذكرون الواجب عليكم نحو اللّه سبحانه وتعالى.
كثير من القرى التي أرسلنا إليها رسلنا مبشرين ومنذرين ، فعصوا رسلهم وخالفوا أمرهم ، أردنا إهلاكهم ، فجاءهم بأسنا وهلاكنا وهم في الليل آمنون ، أو هم قائلون في القيلولة ، أتاهم العذاب على غرة منهم ، وهم آمنون مكر اللّه ، ولا يأمن مكر اللّه إلا القوم الخاسرون.
فما كان دعاؤهم وقولهم حين جاءهم البأس والهلاك ، إلا إقرارهم بالذنب وقولهم : إنا كنا ظالمين ، ولكن هل ينفع الندم يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سورة غافر آية 52].
وفي هذه الآية عبرة وعظة لمن يعتبر.
عقاب الأفراد المذنبين قد يؤجله اللّه إلى أجل مسمى عنده ، بمعنى أنه يمهل ولا يهمل حتى يكون انتقامه مرة واحدة ، هذا إذا تمادى الشخص وأمعن في السوء والعصيان ، وبالغ في الفسوق والخروج عن حدود الدين ، والشخص قلما يعتبر بالحوادث وبما يصيبه من مصائب فيرعوى عن غيه ويدرك حقيقة نفسه ، ويتوب إلى ربه.
وأما الأمم التي تفسد فعقابها سريع ، وجزاؤها قريب ورادع ، ولنا في عرش الملك السابق عبرة وعظة!! ولنا في العروش التي تلت والأمم التي أبيدت وأذلت أكبر شاهد ودليل.
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد 11]. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الإسراء 16].
فاعتبروا يا أولى الأبصار ، فإنما يتذكر أولوا الألباب!! إن ليوم القيامة مواقف تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، منها أن اللّه - سبحانه وتعالى - يسأل الذين أرسل إليهم الرسل ويقول لهم : ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص 65] ؟ .(1/695)
ج 1 ، ص : 696
ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
؟ . [سورة الأنعام آية 130] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الحجر الآيتان 92 و93].
ومنها موقف لا يسأل فيه أحد عن ذنبه : فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [سورة الرحمن آية 39].
واللّه - سبحانه وتعالى - كما يسأل الناس يسأل الأنبياء والمرسلين : يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ يسألهم عن تبليغهم الدعوة وعن إجابة أقوامهم لهم.
فلنقصن عليهم جميعا كل ما وقع وحصل للرسل منهم ، وما حصل من الناس لهم ، فلنقصن عليهم بعلم وإحاطة ، إذ لا يعزب عنه مثقال ذرة ، وإن تكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها اللّه ، إن اللّه لطيف خبير وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
وما كان الحق - جل شأنه - غائبا في وقت من الأوقات ، وفي هذا إشارة إلى أن السؤال لم يكن عن جهل أو خفاء ، بل عن علم وبينة وحضور ، ولكنه للتوبيخ والتأنيب.
والوزن الحق والقسطاس العدل يومئذ ، يوم تعرف الحقائق وتكشف الستائر ويحصّل ما في الصدور ، وتبرز الأعمال كالغرض للسهام ، فمن ثقلت موازينه وكثرت حسناته عن سيئاته فأولئك هم أصحاب الجنة وأولئك هم المفلحون.
ومن خفت موازينه وكثرت سيئاته عن حسناته فأولئك هم أصحاب النار ، الذين خسروا أنفسهم واشتروا الضلالة بالهدى وأحبوا العمى والكفر ، عن الرشاد والخير.
والخلاصة : أن المؤمن وإن عصى يدخل الجنة بعد ما يأخذ عذابه على سيئاته ، والكافر الذي كذب بالآيات والرسل مهما فعل مأواه جهنم وبئس القرار.
وهل هناك ميزان حقيقة ؟ ورد بذلك آثار كثيرة ، أو هذا كناية عن تمام العلم والعدل والإحاطة والقدرة.
والأولى عند الإخبار بالمغيبات أن نؤمن بها كما جاء الكتاب أو الحديث الصحيح ، ثم نكل أمرها وشكلها إلى اللّه ، واللّه أعلم بذلك كله ، على أن العلم الحديث جعل موازين لكل شيء في الكون ، أفيكون كثيرا أن يضع اللّه ميزانا للأعمال والنوايا ؟ وهو القادر على كل شيء.(1/696)
ج 1 ، ص : 697
نعم اللّه على بنى آدم ، وتكريمه [سورة الأعراف (7) : الآيات 10 الى 18]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
المفردات :
مَكَّنَّاكُمْ : من التمكين ، أى : التمليك ، وقيل : جعلنا لكم فيها أمكنة تتبوءونها ، وتتمكنون من الإقامة بها. مَعايِشَ : جمع معيشة ، وهي ما تكون به العيشة والحياة من المطاعم والمشارب. خَلَقْناكُمْ : أوجدنا أباكم بتقدير موافق للحكمة. فَاهْبِطْ الهبوط : الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه ، وهو إما حسّىّ أو معنوي. أَنْ تَتَكَبَّرَ : أن تجعل نفسك أكبر مما هي عليه.(1/697)
ج 1 ، ص : 698
الصَّاغِرِينَ الصغار : الذلة والهوان. أَنْظِرْنِي : أمهلنى. فَبِما أَغْوَيْتَنِي : فبما أوقعتنى في الغواية وهي ضد الرشاد. مَذْؤُماً : معيبا أو مطرودا ، من : ذأم الشيء : عابه. مَدْحُوراً : مطرودا مبعدا.
بعد أن أبان اللّه حقيقة الدين وكتابه ، وأنه واجب الاتباع دون غيره من الأولياء والشركاء والأهواء ، مع ذكر عقاب الدنيا والآخرة.
أردف ذلك بذكر نعم اللّه على بنى آدم الموجبة للشكر ترغيبا في الامتثال ، وبيانا لمكانة الإنسان.
ذكرهم ربهم بنعمه العظيمة على آدم وذريته وهذه نعم أخرى تبين مكانتهم بالنسبة لغيرهم ، وخاصة الملائكة ، وهي موجبة لعبادة اللّه وشكره.
المعنى :
يقسم اللّه - سبحانه وتعالى - لقد مكن لكم في الأرض ، وخلق لكم ما فيها جميعا ، إذ جعل أمكنة تقرون عليها وتستقرون بها في الدنيا ، وجعل فيها المعايش التي تقوم عليها حياتكم من نبات وزرع ، وفاكهة وثمر ، وماء وسمك وجواهر ، وحيوان ، بل كل ما في الأرض وما عليها مذلل لكم ، وهذه المخترعات التي مكنت لكم في الأرض حتى تغلبتم على كل ما فيها ، فلم يعد هناك حاجز من بحار وجبال وصحارى وسهول ، بل طار الإنسان حتى كاد يصل إلى القمر والكواكب.
كل ذلك يقتضى الشكر ، ولكن الشكر من العباد قليل وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ولذا اختتمت الآية بهذا المعنى.
وشكر النعم يكون بمعرفة اللّه معرفة تامة ، وحمده ، والثناء عليه بما هو أهله ، وأداء حقوق النعم وصرفها فيما خلقت له ، بهذا يتحقق الخير ، وتتحقق السعادة في الدارين.
ولقد خلقنا أباكم آدم من الصلصال والحمأ المسنون ، أى : من الماء والطين اللازب ، ثم جعلنا من تلك المادة بشرا مستويا على أتم صورة ، وللعلماء آراء في تخريج الآية والأحسن كما قال القرطبي : إن آدم خلق من طين ، ثم صور وأكرم بالسجود ، وذريته صوروا في الأرحام بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء.(1/698)
ج 1 ، ص : 699
ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم سجود تعظيم وإجلال وتكريم لآدم وذريته حتى يعرفوا نعم اللّه عليهم ، فيقابلوها بالشكران وليقفوا على ما فعله إبليس قديما ليكونوا على حذر منه.
فسجدوا جميعا إلا إبليس اللعين أبى واستكبر ، ولم يكن من الساجدين ، وكان إبليس من الجن ففسق عن أمر ربه ، وعلى ذلك قيل : إنه ليس من جنس الملائكة ، وخوطب معهم لأنه مخالطهم ، وقيل : هو من الملائكة ، كما هو ظاهر الآيات.
ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ؟ وفي سورة (ص) آية 75 ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ فدل هذا على أن (لا) في هذه الآية صلة (زائدة) للتأكيد ، وقيل : المعنى ما حملك ودعاك إلى عدم السجود ؟ .
قال إبليس معتذرا متعللا : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين ، والنار عند إبليس خير من الطين لعلوها وخفتها وصعودها ونورها.
والذي هو خير لا يسجد لمن هو أقل منه وإن خالف أمر ربه : هذا قياس إبليس ، وهو أول قياس ، لكنه باطل ، إذ كيف يستدل على الخيرية بمواد الأشياء ؟ ! الخيرية إنما تكون بالمعاني والخصائص لا بالجنس والمادة : إذ أصل المسك دم الغزال وأصل العسل براز النحل ، وأصل الماس كربون ، وكيف يجهل إبليس ما حبا اللّه آدم به من العلوم والمعارف وتكريم اللّه له ؟ ! ويرى بعض العلماء أن هذه القصة تبين غرائز البشر ، وطبائع الملائكة ، وموقف الجن منا ، ولم يكن سؤال هناك ولا جواب ، ولكن هذا يخالف ظاهر الكتاب ، على أن ذلك أمر غيبي يجب الإيمان به ، وندع معرفة الحقيقة للّه وحده ، ولا نشغل أنفسنا بأمور لا تدخل تحت طاقتنا ، وليس فيها جدوى.
قال تعالى : إذا كان الأمر كذلك فاهبط يا إبليس من الجنة ، فهي مكان المخلصين المتواضعين ، فما يكون لك ، ولا ينبغي منك أن تتكبر فيها ، إذ هي المعدة للكرامة والتعظيم لا للتكبر والعصيان.
فاخرج إنك من الصاغرين الذليلين المهانين ، وجاء في بعض الآثار : « إن اللّه تعالى(1/699)
ج 1 ، ص : 700
يحشر المتكبرين في أحقر الصور إذ يطؤهم الناس بأرجلهم ، كما أنه يبغضهم إلى الناس في الدنيا فيحتقرونهم ولو وفي أنفسهم » .
قال إبليس : يا رب أمهلنى وذريتي إلى يوم يبعث آدم وذريته ، فأشهد حياتهم وانقراضهم وبعثهم لأجد الفسحة الطويلة لإغوائهم ، فأجابه اللّه إلى طلبه حيث قال :
إنك من المنظرين إلى وقت النفخة الأولى حيث تصعق الخلائق.
قال إبليس : فبسبب إغوائك إياى من أجل آدم وذريته أقسم لأقعدن لهم على صراطك المستقيم ، فأصدّنّهم عنه وأقطعنّه عليهم ، بأن أزين لهم طرقا أخرى كلها ضلال واعوجاج ، ثم لأغوينهم ولآتينهم من الجهات الأربع مترصدا لهم كما يقعد قطاع الطريق للسابلة.
ولا تجد أكثرهم شاكرين وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... [سورة سبأ آية 20] قال : اخرج من الجنة مذموما مهينا مطرودا مبعدا.
أقسم لمن يتبعك منهم ليكونن معك في جهنم : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص آية 85].
قصة سكنى آدم الجنة وخروجه منها [سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 25]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)(1/700)
ج 1 ، ص : 701
المفردات :
فَوَسْوَسَ الوسوسة : الصوت الخفى المكرر ، ومنه قيل لصوت الحلي :
وسوسة ، والمراد هنا ما يجدونه من الخواطر التي تزين ما يضر. ما وُورِيَ : ما ستر وغطى. مِنْ سَوْآتِهِما السوءة : ما يسوء الإنسان ويؤلمه ، فإذا قيل : سوأة الإنسان كان المراد عورته لأنه يسوؤه ظهورها. وَقاسَمَهُما : أقسم لهما بجد ونشاط. فَدَلَّاهُما : حطهما عن منزلتهما من الجنة. ذاقَا الشَّجَرَةَ : أكلا منها. وَطَفِقا : أخذا وشرعا. بِغُرُورٍ الغرور : الخداع بالباطل.
يَخْصِفانِ : يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة.
المعنى :
قال اللّه - سبحانه وتعالى - : يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وهل هي المعدة للجزاء يوم القيامة أم غيرها ؟ اللّه أعلم بذلك ، وإن كان الظاهر أنها ليست دار الجزاء ، لأنها ليست دار تكليف ولا عصيان ، ولا يدخل فيها إبليس.
وخاطب آدم أولا لأنه الأصل في تلقى الوحى ، وتعاطى الأمور ، ثم خاطبهما معا لتساويهما في الأكل ، فكلا منها أكلا رغدا ، لا تعب فيه ولا مشقة ، أكلا كثيرا هنيئا.
من أى مكان شئتما ، ومن أى ثمر أردتما ، ولا تقربا هذه الشجرة الخاصة (و اللّه أعلم(1/701)
ج 1 ، ص : 702
بها) ولو كان في معرفتها خير لعرفها لنا ، وانظر كيف يوسع اللّه على عباده في الحلال وفي الأكل ثم يحرم عليهم القليل الضار ، اختبارا لهم وامتحانا.
فإنكما إن قربتما منها ، وأكلتما من ثمرها تكونا من الظالمين لأنفسكما الخارجين عن حدود اللّه.
أما الشيطان إبليس العدو المبين فلم يترك آدم وزوجه يتمتعان بالنعيم ، بل وسوس وزين لهما الأكل المحرم من الشجرة.
فوسوس لهما الشيطان ليكون عاقبة تلك أن يبدي لهما ما ورى عنهما وستر من عورتهما ، وهل هذه كناية عن شهوتهما التي ظهرت فجأة بعد استتارها. أو هي العورة الحقيقية ؟
فكان عمل إبليس عمل من يثير الغرائز ، ويظهر الدفائن المكنونة في الإنسان من عوامل الفساد.
وقال إبليس : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ، لكما من الخصائص ما للملائكة في القوة والبطش وطول الأجل ، أو تكونا من الخالدين فيها.
ثم أقسم لهما قسما مغلظا : إنى لكما لمن الناصحين المخلصين ، ثم بعد هذا ما زال يخدعهما بالترغيب ، وبالوعد ، وبالقسم ، حتى نسيا موقفهما من اللّه وأمره إليهما ، وأسقطهما عما كانا فيه من مكانة ومنزلة وطبيعة. وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [سورة طه آية 115].
فلما ذاقا الشجرة ، وأكلا منها ، بدت لهما عوراتهما ، وكانت مستورة ، وأحسا بالغريزة الجنسية.
ونادهما ربهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ؟ وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ، فاحذروه ، واجتنبوه : فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [سورة طه آية 117].
قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا بمخالفتك وطاعة الشيطان عدونا وعدوك وإن لم تغفر لنا وتستر ذنبنا ، لنكونن من الخاسرين الذين خسروا الدنيا والآخرة : فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة آية 37].(1/702)
ج 1 ، ص : 703
قال : اهبطوا - والخطاب لآدم وحواء وإبليس - اهبطوا بعضكم لبعض عدو في الدنيا ، ولكم فيها استقرار وسكون إلى أجل مسمى عند اللّه. ولكم فيها متاع إلى أجل محدود.
قال اللّه - سبحانه وتعالى - وحكم : في هذه الأرض تحيون وفيها تموتون. ومنها تخرجون إلى البعث والجزاء : مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [سورة طه آية 55].
الغرض من القصة : ذكر في الجزء الأول ص 33.
من نعم اللّه وفضله علينا [سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 27]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)
المفردات :
رِيشاً ريش الطائر : ما ستره اللّه به ، والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. لا يَفْتِنَنَّكُمُ الفتنة : الابتلاء والاختبار ، من قولهم : فتن الصائغ الذهب أو الفضة في البوتقة ليعرف الجيد من الرديء.
قَبِيلُهُ : جماعته كالقبيلة.(1/703)
ج 1 ، ص : 704
المعنى :
يا بنى آدم : تذكروا نعم اللّه عليكم وعلى أبيكم من قبل ، وإياكم والمعاصي ، وعليكم بتقواه في السر والعلن ، فهو قد أنزل عليكم من السماء مطرا أنشأ منه نبات القطن والكتان ، والصوف والوبر ، وغير ذلك مما يتخذ لباسا للضرورة كستر العورة أو لباسا لستر البدن أو للزينة والتجمل ، يا سبحان اللّه! دين الإسلام ودين الفطرة والطبيعة ، لا يمنع من اتخاذ اللباس للزينة والتجمل إلا الحرير الذي يكسر قلوب الفقراء ويكون لبسه إرضاء للنفس وغرائزها.
ولباس التقوى ذلك خير وأجدى وهو لباس معنوي ، لباس العمل الصالح والإيمان الخالص ، ولا شك أنه خير من الرياش واللباس.
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان للّه عاصيا
وذلك اللباس من آيات قدرة اللّه ودلائل إحسانه وفضله على بنى آدم وهذه النعم تؤهل بنى آدم لتذكر ذلك الفضل ، والقيام بما يجب عليهم من الشكر ، والابتعاد من فتنة الشيطان وإبداء العورات.
يا بنى آدم : لا تغفلوا عن أنفسكم ، ولا تتركوها غير محصنة بالتقوى ، واجلوها بذكر اللّه دائما فإن القلب ليصدأ كما يصدأ الحديد ، حتى تقوى النفس على مقاومة الشيطان وغروره ، وتنجح في ابتلائه واختباره ، واحذروه فإنه أخرج أبويكم من الجنة ، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما.
احذروه إنه يراكم هو وجماعته وبنو جنسه وأنتم لا ترونه ، ولا شك أن العدو المباغت الذي لا يرى أشد من العدو المبارز الظاهر.
والوقاية منه تكون بتقوية الروح والصلة باللّه ، وبمعالجة الوساوس بعد طروئها ، والاستعاذة باللّه منه.
احذروه لأن اللّه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [سورة الحجر آية 42] وهذا تحذير شديد.(1/704)
ج 1 ، ص : 705
شبهات المشركين وأعذارهم الواهية [سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
المفردات :
فاحِشَةً : هي الفعلة المتناهية في القبح ، والمراد بها طوافهم بالبيت عرايا ، أو شركهم. بِالْقِسْطِ : بالعدل والتوسط. وُجُوهَكُمْ : جمع وجه ، وهو العضو المعروف ، أو هو كناية عن توجه القلب وصحة القصد.
المعنى :
هذا أثر من آثار ولاية الشيطان للذين لا يؤمنون.
وإذا فعلوا فعلة قبيحة ينكرها الشرع ، ويأباها العقل والطبع السليم ، كطوافهم عرايا بالبيت ، قالوا معتذرين عن ذلك العمل : إنا وجدنا آباءنا هكذا يفعلون ، وإنا على آثارهم مقتدون ، وإن اللّه أمرنا بها.
عجبا لكم وأى عجب!! قل لهم : إن اللّه لا يأمر بالفحشاء أصلا ، وإنما الذي(1/705)
ج 1 ، ص : 706
يأمركم بهذا هو الشيطان ، ويدعوكم إليه : الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [سورة البقرة آية 268].
وكيف تعتذرون باتباعكم آباءكم ؟ وهل آباؤكم حجة في التشريع ؟ وهل عملوا بوحي من اللّه وإرشاد ؟ أم كانت أعمالهم بوسوسة الشيطان وزخرفته ؟ !! أم أنتم تقولون على اللّه ما لا تعلمون ؟
أما تشريع اللّه فلا يكون إلا بوحي منه إلى رسوله.
فإذا : هم فعلوا بوحي الشيطان فقط ، وافتروا الكذب على اللّه.
قل لهم : أمر ربي بالقسط والعدل وعدم تجاوز الحد. ومن هنا كان الإسلام وسطا بين الإفراط والتفريط : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [سورة النحل آية 90].
وأقيموا وجوهكم ، وأحسنوا وجهتكم : وأخلصوا عملكم للّه عند كل مسجد تدخلونه للصلاة ، أو الذكر أو الطواف والمعنى : اجعلوا توجهكم وقصدكم للّه فقط. وهذا يظهر في الوجه ، إذ هو المرآة التي تطل منها الروح ، وادعوه دعاء أو عبادة مخلصين له الدين.
واذكروا دائما أنكم كما بدأكم وخلقكم أول مرة ستعودون إليه يوم الجزاء والحساب وأنتم بين فريقين : فريق هداه اللّه ووفقه للعبادة والإخلاص ، وفريق حقت عليه كلمة العذاب ، لاتباعه الشيطان وتركه القرآن ، وكل فريق سيموت على ما عاش عليه ، وسيبعث على ما مات عليه.
ولا غرابة في ضلال الفريق الثاني ، لأنهم اتخذوا الشياطين قادة وأولياء من دون اللّه ، وهم الأخسرون أعمالا ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ومن خطل الرأى وضعف العقل أن ينغمس الشخص في الضلال ، ثم لا يلبث بغروره وحماقته أن يدّعى أنه على حق وأنه في عداد المهديين.(1/706)
ج 1 ، ص : 707
توجيهات في الملبس والمطعم [سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 32]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
المفردات :
زِينَتَكُمْ : والمراد هنا الثياب الحسنة ، وأخذها : التزين بها. مَسْجِدٍ :
مكان السجود ، والمراد به الصلاة أو نفس السجود.
سبب النزول :
كانت العرب تطوف ليلا بالبيت عراة إلا الخمس (و هم قريش وما ولدت) ويقولون : لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها ، فجاءت امرأة فألقت ثيابها فطافت ووضعت يدها على فرجها وقالت :
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله
وكانت بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتا ، ولا يأكلون دسما ، يعظمون بذلك حجهم. فقال المسلمون : فإنا أحق أن نفعل ذلك ، فنزلت الآيات.
المعنى :
يا بنى آدم خذوا زينتكم ، والبسوا ثيابكم إذا صليتم أو طفتم ، وأقل هذه الزينة ما به يستر المرء عورته ، وهل العورة ما بين السرة والركبة ، أو هي القبل والدبر ؟ أقوال عند(1/707)
ج 1 ، ص : 708
الفقهاء منصوصة ، وستر العورة واجب في الصلاة والطواف ، وما بعد العورة فستره سنة لا واجب.
وعلى العموم فالزينة تختلف باختلاف الزمان والمكان والشخص والعمل ، وهذا الحكم من محاسن الدين الإسلامى التي بها نقل كثيرا من القبائل المتوحشة العريانة إلى حظيرة المدنية والحضارة ، على أنه سبب في تقدم الصناعة والتجارة والزراعة.
وكلوا واشربوا ما لذ وطاب من أنواع المآكل والمشارب ولا تسرفوا ، بل عليكم بالعدل والتوسط فلا تقتير ولا إسراف ، والإسراف يشمل الزيادة في البخل ، والزيادة في الإنفاق ، وتجاوز الحلال إلى الحرام في المأكل والمشرب إن اللّه لا يحب المسرفين.
روى أحمد والنسائي وابن ماجة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة (كبر وإعجاب بالنفس) ولا سرف ، فإن اللّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده »
، فالزينة لا بأس بها بشرط عدم الإسراف وعدم المخيلة.
والإسراف في الأكل والشرب إلى ما فوق الطاقة الجسمية ضرر ، وإلى ما فوق الطاقة الاقتصادية خطر ، وإلى ما فوق الحدود الشرعية حرام وهلاك .. قل لهم : من حرم زينة اللّه التي أخرجها لعباده ؟ ! فاللّه قد خلق موادها ، وهدى إلى تعليمها وطرق صنعها ، وغرز حب الزينة والتمتع بالطيب في نفوس البشر.
ألست معى في أن الدين الإسلامى يدعوا إلى الكمال الروحي ، والسمو الخلقي ، مع العناية بالجسم وبالنفس وما تميل إليه ما دام في حدود الحلال ؟
لم يجعل التقشف ولا الزهد المبالغ فيه أساسا له ، وها هو ذا القرآن ينكر على من يحرم على نفسه الزينة ، ويقول : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ولغيرهم من الناس وإن كانوا هم الأصل : خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [سورة البقرة آية 129] وفي الآخرة هي خالصة للذين آمنوا.
مثل هذا التفصيل الدقيق الكامل في مسائل تخص الأفراد والأمم في حياتهما الاجتماعية نفصل الآيات الدالة على كمال ديننا وصدق رسولنا وتمام شريعتنا ولكن لقوم يعلمون لا لقوم يجهلون.(1/708)
ج 1 ، ص : 709
ما حرّمه اللّه على عباده [سورة الأعراف (7) : الآيات 33 الى 34]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
المفردات :
الْفَواحِشَ : الأعمال المفرطة في القبح. وَالْإِثْمَ : اسم لجميع المعاصي.
الْبَغْيَ : الظلم وتجاوز الحقوق. أَجَلٌ : وقت مضروب اللّه أعلم به.
ساعَةً : أقل وقت يمكن فيه قضاء عمل من الأعمال.
المعنى :
لما لبس المسلمون الثياب ، وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون بذلك فقال اللّه : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين حرموا ما أحل اللّه من الطيبات والرزق واللباس : ما حرم ربي هذا!! وإنما حرم الفواحش ، وما قبح جرمها كالزنا ما ظهر منه وما بطن ، وإذاعة السوء ، وخيانة الوطن ، والخروج على الجماعة. وهكذا كل ذنب يكون خطره جسيما ، وكذا حرم الإثم الذي يوجب الذنب ، وحرم البغي وتجاوز الحقوق ، وقيد البغي بغير الحق لأن التجاوز إذا كان لمصلحة ومع التراضي فلا شيء فيه.
وحرم الإشراك باللّه غيره من صنم أو وثن لم ينزل به سلطانا وحجة : وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [سورة المؤمنون آية 117].
وحرم كذلك أن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون ، أى : بغير علم ولا حجة ، والقول على اللّه وعلى دينه يكون بتحليل حلال أو تحريم حرام ، بلا سند ولا حجة ، وهو القول(1/709)
ج 1 ، ص : 710
بالرأى ، وهذا منشأ تحريف الأديان ، واتباع الهوى والشيطان ، كما فعل أهل الكتاب.
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ « 1 » بل علينا ألا نتخطى أصول الدين ، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس ، وهذه الأصول لم تترك شيئا.
بعد ما ذكر اللّه - سبحانه وتعالى - جماع المحرمات والمفاسد التي تقضى على المجتمع وتبيد الأمم ذكر هنا حال الأمم الممتثلة وغيرها.
فبين أن لكل أمة أجلا محدودا ، ووقتا مضروبا يعلمه اللّه - سبحانه وتعالى - وتنتهي عنده كما أن لكل شيء في الوجود أجلا ، كذلك فلكل أمة زمان معلوم تكون فيه سعيدة عزيزة ، أو شقية ذليلة.
وعزة الأمم وسعادتها تكون بامتثال الشرع وذيوع الفضيلة ، والتمسك بأهداب الدين والمثل العليا ، ولها في ذلك أجل محدود.
وشقاء الأمم وذلها يكون ببعدها عن الفضيلة ، وذيوع الرذيلة ، وشيوع الغش والرشوة والفساد ، والإسراف والظلم ، والإثم والبغي ، ولها في ذلك أجل محدود.
أما فناء الأمم وهلاكها بالإبادة لمخالفتها الشرع فانتهى ببعثة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ « 2 » .
وقد جرت سنته - تعالى - بذلك مع جميع الأمم فنرى في أمم الغرب أمة قوية عزيزة لأنها تتمسك بالفضيلة والاعتدال وعدم الإسراف ولها أجل محدود ما دامت متمسكة بالحق ، وبجانبها أمة ذليلة مهينة لأنها تتمسك بالرذيلة والإسراف.
والأمة الإسلامية أولى بالتمسك بالمثل العليا وعدم الإسراف ومجاوزة الحد في شيء ، خاصة وأن دينها يأمرها بهذا.
واللّه - سبحانه وتعالى - إذا قضى على أمة بالفناء في ساعة فإنها لا تتقدم ولا تتأخر أصلا ، فهذا تهديد ووعيد لمن يخالف الأمر ، ويسير على غير هدى.
___________
(1) سورة النحل آية 116.
(2) سورة الأنبياء آية 107.(1/710)
ج 1 ، ص : 711
مهمة الرسل وعاقبة العمل [سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
المعنى :
يا بنى آدم إن تأتكم رسل منكم تعرفونهم ، ويمكنكم الحكم على أعمالهم يقصون عليكم آياتي ويتابعونها آية بعد آية ، مبشرين ومنذرين داعين إلى الفضيلة ناهين عن الرذيلة فاستجيبوا لهم ، وهذه هي مهمة الرسل قديما وحديثا ، فمن اتقى وأصلح نفسه بالعمل والنية الصادقة فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين كذبوا بآياتنا ورفضوا كبرا وعنادا واستكبارا عن الحق وعتوا كما فعل زعماء قريش ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
عاقبة الكذب على اللّه مع ذكر مشهد من مشاهد يوم القيامة [سورة الأعراف (7) : الآيات 37 الى 39]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)(1/711)
ج 1 ، ص : 712
المفردات :
ادَّارَكُوا : تلاحقوا ، وادّارك بعضهم بعضا : اجتمعوا. ضِعْفاً : هو المثل الزائد على مثله مرة أو مرات.
المعنى :
لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه كذبا ، واختلق زورا وبهتانا بأن حرم حلالا أو حلل حراما ، أو نسب إليه ولدا أو شريكا ، أو كذب بآياته ، واستكبر عنها واستهزأ بها ، أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب المكتوب ، والقدر المقدور في الرزق والعمر والمتاع والحظ في الدنيا ، حتى إذا جاءتهم ملائكة الموت متوفين لهم ، قابضين لأرواحهم. قالوا لهم تأنيبا وتوبيخا : أين ما كنتم تدعونهم من دون اللّه من الشركاء والشفعاء ؟ قالوا :
ضلوا عنا وغابوا ، ولا ندري مكانهم ، ولا نرى أثرهم ، فنحن لا نرجو منهم خيرا ولا نفعا ، وشهدوا على أنفسهم ، واعترفوا عليها بأنهم كانوا بعبادتهم ودعائهم لهم كافرين.
وهذا تحذير للكافرين الموجودين من عواقب الكفر والضلال.
ويقول اللّه - تعالى - يوم القيامة لأولئك الظالمين المكذبين بآيات اللّه وهم كفار العرب : ادخلوا مع أمم قد سبقتكم في الكفر وفي دخول النار ، وهم أولياؤكم من الجن والإنس.
كلما دخلت جماعة ورأت ما حل بها من الخزي والنكال لعنت أختها في الدين(1/712)
ج 1 ، ص : 713
والملة إذ هي قد ضلت باتباعها ، والاقتداء بكفرها حتى إذا تداركوا في النار جميعا واجتمعوا ، قالت أخراهم في الدخول - وهم الأتباع والسفلة - لأولاهم ، أى : في شأنهم وحقهم وهم السادة والزعماء قالوا مخاطبين اللّه : ربنا هؤلاء - أى السادة - أضلونا وأثروا علينا فآتهم ضعفنا من عذاب النار لإضلالهم لنا ، زيادة على عذاب ضلالهم في أنفسهم.
قال اللّه لهم : لكل منكم ضعف من العذاب - بإضلاله - فوق العذاب على ضلاله ولكنكم لا تعلمون عذابهم.
وقالت أولاهم لأخراهم : إذا كان الأمر كما ذكرتم من أننا أضللناكم فما كان لكم علينا من أدنى فضل تطلبون به أن يكون عذابكم دون عذابنا ، فيقول اللّه لهم : ذوقوا جميعا العذاب كاملا بما كنتم تكسبون.
جزاء الكافرين [سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
المفردات :
الْجَمَلُ : البعير الذي طلع نابه. سَمِّ الْخِياطِ : ثقب الإبرة.
الْمُجْرِمِينَ أجرم : قطع الثمرة من الشجر ، ثم استعمل في كل إفساد.
مِهادٌ : فراش. غَواشٍ : جمع غاشية ، وهي ما يغشى الشيء ، أى : يغطيه كاللحاف.(1/713)
ج 1 ، ص : 714
المعنى :
إن الذين كذبوا بآياتنا الدالة على الوحدانية والبعث ، وعلى صدق الرسول مع بيانها للأحكام ولأصول الدين ، إن الذين كذبوا بها واستكبروا عنها لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ولا تصعد إليها أعمالهم ، فإنها هباء منثور لا خير فيه : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ولا يدخلون الجنة أبدا فهم مطرودون من رحمة اللّه ، ومثل ذلك الجزاء يجزى به كل من أجرم في حق اللّه وفي حق نفسه ، وفي حق إخوانه من المسلمين.
لهؤلاء من نار جهنم فراش يفترشونه ، ولحاف يلتحفون به ، فهم - والعياذ باللّه - بين طبقات جهنم ماكثون ، وهي محيطة بهم ، واللّه محيط بأعمالهم ، وبئس المصير مصيرهم ، لا غرابة في ذلك فكذلك نجزى الظالمين.
جزاء المؤمنين [سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
المفردات :
وُسْعَها : طاقتها وما تقدر عليه حال السعة والسهولة. نَزَعْنا : قلعنا.
غِلٍّ : حقد وحسد. أُورِثْتُمُوها : صارت إليكم كما يصير الميراث إلى صاحبه.(1/714)
ج 1 ، ص : 715
المعنى :
هذا وعد ربك للمؤمنين بالجنة بعد ما أوعد الكافرين بنار جهنم ، وهكذا نظام القرآن : وعد ووعيد ليتميز الحق من الباطل والمؤمن من الكافر.
والذين آمنوا باللّه ورسله ، وعملوا العمل الصالح الذي ارتضاه ربهم لهم ، أولئك الموصوفون بما ذكر من معاني الكمال والصدق ، المشار إليهم ، المتميزون لعلو درجتهم ، هم أصحاب الجنة الملازمون لها ، وهم فيها خالدون ، وقد جاء قوله تعالى :
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها بين العمل وجزائه على سبيل الاعتراض ، للإشارة إلى أن هذا العمل الصالح الذي يستحق صاحبه دخول الجنة ليس شاقا ولا فوق طاقة البشر ، بل هو عمل سهل في متناول اليد متى حل في قلب الإنسان نور الإيمان وهدى القرآن.
هم في الجنة خالدون ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، ولا يكدرهم كدر ، ولا يؤلمهم ألم ، وليس بينهم شر ، لأن اللّه نزع ما في صدورهم من حسد وعداوة ، وغل وحقد.
وهكذا نعيم الجنة : أكلها دائم وظلها كذلك ، وفيها الأنهار تجرى من تحتهم فيرونها تفيض بالماء وهم في غرفاتهم آمنون ، فيزدادون حبورا وسرورا.
وقالوا شاكرين نعمه : الحمد للّه الذي هدانا لهذا العمل حتى أخذنا ذلك الثواب ، وما كان من شأننا ولا من مقتضى تفكيرنا أن نهتدي إليه بأنفسنا لولا أن هدانا اللّه ووفقنا لاتباع الرسل.
وقالوا لما رأوا كل شيء يجرى على حسب ما أخبر به الرسل : لقد جاءت الرسل بالحق وصدقنا اللّه وعده في الدنيا ، وهذه الملائكة تناديهم : سلام عليكم طبتم ، فادخلوها خالدين ، فهذه هي الجنة التي أورثتموها وصارت لكم كما يصير الميراث لأصحابه ، جزاء أعمالكم.
وفي الآية دليل على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله ، وفي الحديث : « لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول اللّه ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه بفضله ورحمته »
والمخرج من هذا أن عمل الإنسان مهما كان لا يستحق به ذلك النعيم الواسع العريض لولا رحمة اللّه وفضله ، ومن ثم قيل
في الحديث : « فسددوا وقاربوا »
أى : لا تبالغوا. واللّه أعلم.(1/715)
ج 1 ، ص : 716
حوار بين أهل الجنة والنار وأصحاب الأعراف [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 47]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
المفردات :
فَأَذَّنَ الأذان والتأذين : رفع الصوت بالإعلام. لَعْنَةُ اللَّهِ اللعن : الطرد من الرحمة مع الإهانة. عِوَجاً : ذات عوج ، أى : غير مستقيمة ولا مستوية.
حِجابٌ : سور بين الجنة والنار. الْأَعْرافِ : جمع عرف ، مأخوذة من (عرف الديك والفرس) ويطلق على أعلى الشيء وكل مرتفع. بِسِيماهُمْ السيما والسيمياء : العلامة. صُرِفَتْ : حولت.
المعنى :
هذا فريق في الجنة وهذا فريق في النار ، وقد حصل بينهما حوار حكاه القرآن إظهارا للحق ، وإعلانا عن خطر الكفر والإيمان وبيانا لعاقبة كل.
وما نراه الآن من مخترعات يغنينا عن الكلام في كيفية سماع الكلام ورؤية الأشخاص مع البعد في المكان ، فاللّه على كل شيء قدير.(1/716)
ج 1 ، ص : 717
ونادى أصحاب الجنة قائلين : يا أصحاب النار يا أهل الكفر والفسوق والعصيان والضلال والبهتان ، إن الحال والشأن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ولقد جاءت رسل ربنا بالحق ، وصدق اللّه وعده. فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العذاب والألم ؟ هل وجدتموه حقا ؟ قالوا : نعم وجدنا ما وعدنا به ربنا على الكفر ، فهذه هي النار تتميز غيظا وتقول : هل من مزيد ؟
فأذّن مؤذن بينهم بحيث سمع صوته أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أذن قائلا : ألا لعنة اللّه على الظالمين ، الذين ظلموا أنفسهم بعد الإيمان ، وهم الذين يصدون عن سبيل اللّه بغيا وعدوانا ، ويطلبونها معوجة غير مستقيمة ، حتى ينفر الناس منها ، ويبتعدون عنها وهم بالآخرة كافرون.
وبين أهل الجنة وأهل النار سور له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، وعلى أعالى ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار ، ويعرفون كلا بعلامته :
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [سورة عبس الآيات 38 - 42] هؤلاء الذين على الأعراف رجال موحدون قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، وقفوا هناك حتى يقضى اللّه فيهم.
ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة : أن سلام عليكم طبتم فنعم أجر العاملين ، وهم لم يدخلوا الجنة ولكنهم يطمعون فيها فهم بين الخوف والرجاء.
وإذا صرفت أعين أصحاب الأعراف من النظر إلى أهل الجنة إلى النظر إلى أهل النار من غير قصد قالوا : ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين!
حوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار [سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)(1/717)
ج 1 ، ص : 718
المعنى :
ذلك منظر آخر فيه سؤال وتوبيخ وتأنيب للكفار المغرورين بما أوتوا في الدنيا.
ونادى بعض أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بعلاماتهم وهي سواد الوجوه وما عليها من الغبرة ، وعلاماتهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وقالوا لهم : أى شيء أغناه عنكم جمعكم للمال ، واستكباركم على المستضعفين والفقراء من المسلمين ، لم يمنع عنكم عقابا ، ولا أفادكم شيئا من ثواب ، وقالوا لهم ، مع الإشارة إلى أولئك المستضعفين المضطهدين في الدنيا كصهيب وبلال وآل ياسر :
أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم اللّه برحمته أبدا إذ لم يعطوا في الدنيا مثل ما أعطيتم فلو كانوا على خير لأعطاهم ؟ ! أشاروا لهم وهم يتمتعون في الجنة والكفار يتلظون في السعير.
وقيل لأهل الأعراف : ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون بعد هذا ، وهذا حوار له مغزى عميق ، وهذه الآية تشير إلى أن كل إنسان يستحق جزاء عمله بالضبط لا زيادة ولا نقصان فالسابق ليس كالمقصر ولا كالمتوسط ، ولذا رأينا أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وأصحاب الأعراف كل له مكان.
من مناظر يوم القيامة [سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 51]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)(1/718)
ج 1 ، ص : 719
المفردات :
أَفِيضُوا عَلَيْنا أفاض الماء : صبه ، ثم استعمل في الشيء الكثير ، وقيل : أعطاه غيضا من فيض ، أى : قليلا من كثير.
روى أن أهل النار لما رأوا دخول أهل الأعراف الجنة طمعوا في الفرج عنهم
، وروى أنهم يستغيثون بأقاربهم من أهل الجنة فيقول الواحد منهم : يا أخى أغثنى فإنى قد احترقت فأفض علىّ من الماء ، فيقال : أجبه ، فيقول : إن اللّه حرمهما على الكافرين.
وقد طلبوا هذا الطلب مع يقينهم بأنهم لا يجابون أبدا ، للإشارة إلى الحاجة القصوى للماء والشراب ، وهكذا يفعل المضطر المحتاج.
وهؤلاء الكفار قد حرم اللّه عليهم نعيم الجنة ورزقها ، كما حرم عليهم دخولها ، لأنهم اتخذوا دينهم الذي ساروا عليه في الدنيا أعمالا لا تزكى نفسا ، بل تدنسها ، فهم بين عمل لهو يشغل الإنسان عن العمل النافع ، وبين عمل لعب لا يفيد فائدة صحيحة كلعب الأطفال ، وقد غرتهم الحياة الدنيا ، وشغلتهم بزخارفها عن الآخرة ، أما أهل الجنة فقد شغلوا أنفسهم بالعمل النافع المجدي الذي يزكى النفوس ويطهرها ، أولئك سعوا لها سعيا ، وكان سعيهم مشكورا.
فاليوم نعامل هؤلاء الكفار معاملة من ينساهم ، ولا يجيب دعاءهم ، والمراد يتركهم في العذاب وينساهم فيه ، وذلك لأنهم نسوا لقاءنا ولم يعملوا له ، وكانوا بآياتنا يجحدون ، ولها منكرين.
الكفار وما يلاقونه وأمانيهم [سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)(1/719)
ج 1 ، ص : 720
المفردات :
بِكِتابٍ : المراد القرآن. فَصَّلْناهُ : بيناه أتم بيان. تَأْوِيلَهُ : ما يئول إليه أمره ، أى : عاقبته.
المعنى :
تاللّه لقد جئنا أهل مكة بكتاب لا يحتاج إلى تعريف ولا بيان. هو الكامل في كل شيء ، ذلك الكتاب فصلنا آياته تفصيلا بالحكم والمواعظ والقصص والأحكام والوعد والوعيد : كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ.
ألم يوضح القرآن أصول الدين وأسس الأحكام ؟ ألم يرسم الخطوط العريضة للأمة الإسلامية في جميع النواحي : سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية!! ألم يحث على النظر ويذم التقليد ؟ ! فهو بحق الكتاب الكامل الذي فصله رب العالمين على علم ومعرفة بأسرار الكون والخلق وطبائعهم ، وهو هدى ورحمة لقوم يؤمنون ، أما غيرهم فلا ينتفعون منه بشيء.
هل ينظر هؤلاء الكفار إلى عاقبة أمره ، وما يئول إليه من صدق وعده ووعيده وظهور آياته ، روى عن ابن الربيع أنه قال : لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت آية 53].
أما هؤلاء الكفار الذين نسوه ولم يهتدوا بهديه ، فيقولون يوم القيامة عند ما يظهر صدقه وصدق كل ما جاء به : نعم قد جاءت رسل ربنا بالحق وصدقوا في كل ما قالوا وهم يتمنون أحد أمرين : إما شفاعة الشافعين ، وإما أن يردوا إلى الدنيا فيعملوا غير ما كانوا يعملون ، نعم يتمنون الخلاص ولات حين مناص!! وهل لهم شفعاء كما كانوا يفهمون ؟ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [سورة الشعراء الآيتان 100 و101](1/720)
ج 1 ، ص : 721
هؤلاء قد خسروا أنفسهم ، حيث اشتروا الضلالة بالهدى ، والدنيا بالآخرة ، وأى خسارة أفدح من هذا ؟ هؤلاء قد خسروا كل شيء وضل عنهم ما كانوا يفترون وتختلقون كذبا من الشركاء والشفعاء!!
وحدانية اللّه ودعاؤه [سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 56]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
المفردات :
رَبَّكُمُ الرب : السيد المالك والمربى. الله : علم على الذات الأقدس ، والإله هو المعبود الذي منه النفع والضر ، ويتقرب إليه بالعبادة والدعاء ، وليس للموحدين إله إلا اللّه. أَيَّامٍ : جمع يوم ، وهو الوقت المحدود بطلوع الشمس إلى غروبها. اسْتَوى : في اللغة بمعنى استقر. ومنه : استوى على الكرسي ، وعلى ظهر الدابة ، أى : استقر واستوى بمعنى قصد ، واستوى بمعنى استولى وظهر.
الْعَرْشِ قال الجوهري : هو سرير الملك : نَكِّرُوا لَها عَرْشَها والعرش : سقف البيت ، وهودج المرأة ، وقيل : العرش : الملك والسلطان ، ومنه :
ثلّ عرشه إذا ذهب ملكه. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ : يجعل الليل كالغشاء ، أى :
يذهب نور النهار. حَثِيثاً الحث والحض بمعنى واحد : وهو الإعجال والسرعة ،(1/721)
ج 1 ، ص : 722
والمعنى : يطلبه من غير فتور. تَضَرُّعاً التضرع : التذلل وإظهار الخضوع.
خُفْيَةً الخفية : ضد العلانية. خَوْفاً : هو توقع الشر والمكروه.
طَمَعاً : هو توقع الخير.
المعنى :
إن ربكم ومالك أمركم ، ومتولى شئونكم هو اللّه لا إله إلا هو فاعبدوه وحده واستعينوا به وحده ، فهو الذي خلق السموات وعوالمها ، وقدرها وأحكم نظامها ، وخلق الأرض وجعل فيها رواسى من فوقها ، وبارك فيها وقدر أقواتها ، كل ذلك في ستة أيام اللّه أعلم بمقدارها وحدودها : إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ « 1 » ولو أراد خلقها في لحظة لخلقها إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ « 2 » ولكنه ذكر هذه المدة ليعلم العباد التأنى والتثبت في الأمور ، وأن خلق السموات والأرض ليس بالشيء الهين : لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ « 3 » .
وما ورد من أن هذه الأيام الستة هي كأيام الدنيا ، وأنه بدئ الخلق يوم الأحد فروايات اللّه أعلم بها ، وأنها إسرائيليات ... إن ربكم أيها الناس جميعا اللّه ، الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ودبر أمورها وحده ، فيجب عليكم أن تعبدوه وحده.
ثم إنه تعالى قد استوى على عرشه ، واستقام أمره واستقر على هيئة اللّه أعلم بها مع البعد عن مشابهة الحوادث في شيء ، ولقد سئل مالك - رضى اللّه عنه - في ذلك فقال : الاستواء معلوم ، أى : في اللغة ، والكيف - أى : كيفية الاستواء - مجهول ، والسؤال عن هذا بدعة ، وهذا القدر كاف ، وهذا رأى الصحابة - رضى اللّه عنهم - ورأى السلف : قبول ما جاء من غير تكيف ولا تشبيه ، وترك معرفة حقيقتها إلى اللّه ، وأما الخلف فيؤولون ويقولون : استوى على عرشه بعد تكوين خلقه ، على معنى أنه يدبر أمره ، ويصرف نظامه ، على حسب تقديره وحكمته إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ « 4 » . وإلى رأى السلف أميل ، إذ هو رأى الصحابة والتابعين جميعا.
___________
(1) سورة الحج آية 47.
(2) سورة يس آية 82.
(3) سورة غافر آية 57.
(4) سورة يونس آية 3.(1/722)
ج 1 ، ص : 723
واللّه - سبحانه - جعل الليل يغشى النهار بظلمته. ويستره بلباسه حتى يذهب نور النهار ليتم قوام الحياة ، فالليل للسكون ، والنهار للمعاش ، والليل يطلب النهار دائما من غير فتور مع الإعجال والسرعة.
وخلق الشمس والقمر والنجوم التي لا يعلمها إلا اللّه حالة كونها مسخرات ومذللات بأمره ، كلّ يدور في فلكه إلى أجل مسمى عنده ، ألا له الخلق ، أى :
المخلوقات كلها كبيرها وصغيرها فلا دخل لهذه الكواكب في شيء.
وله الأمر والنهى والتصريف والتدبير ، ليس لأحد دخل في شيء ، سبحانه وتعالى عما يصفون ، وتبارك اللّه رب العالمين.
ادعوا ربكم الذي تعهدكم وأنعم عليكم نعمه التي لا تحصى ، وبخاصة ما مضى في الآية السابقة ، ادعوه متضرعين ، مبتهلين مخلصين ، فالدعاء مخ العبادة. ادعوه مخفين الدعاء متسترين ، فالإخفاء حسن مندوب إن لم يكن واجبا ، إذا هو أبعد عن الرياء والسمعة ، وأنت لا تدعو غائبا أو ناسيا ، فاللّه أقرب إلينا من جبل الوريد ، وهو السميع البصير ، على أن اللّه مدح العبد الصالح زكريا فقال : إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا « 1 » وقد كان دعاء الصحابة وعملهم في الخفاء ، إنه لا يحب المعتدين المتجاوزين الحدود المرسومة ، خاصة في الدعاء ، فمن رفع صوته للرياء أو بالغ في الصيغة ، أو طلب غير المشروع. كل هذا تجاوز في حدود الدعاء يجب ألا يكون. أما دعاء غير اللّه فشرك.
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بما خلق فيها ، وما هداكم إلى الانتفاع بها وتسخيرها.
والإفساد في الأرض شامل لإفساد النفوس بالقتل والاعتداء ، وإفساد المال بالسرقة والنصب ، وإفساد الدين بالكفر والمعاصي ، وإفساد العقل بالمسكرات.
ادعوه خائفين من عقابه فإنه لا يأمن مكر اللّه إلا القوم الخاسرون.
وادعوه طامعين في ثوابه ، مؤملين في جزائه ، إن رحمة اللّه قريب من المحسنين :
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى « 2 » .
___________
(1) سورة مريم آية 3.
(2) سورة النجم آية 31.(1/723)
ج 1 ، ص : 724
من أدلة البعث [سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
المفردات :
الرِّياحَ : جميع ريح ، ولها أسماء عند العرب ، وإذا جمعت كانت في معنى الخير ، وإذا أفردت كانت في معنى الشر ، كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى : وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. بُشْراً : مبشرات. أَقَلَّتْ : حملت.
الْبَلَدُ : الموضع من الأرض عامرا كان أو خلاء. الثَّمَراتِ : واحده ثمرة :
وهي الحمل تخرجه الشجرة. نَكِداً : لا خير فيه. نُصَرِّفُ : نغير ونبدل.
المعنى :
هذا أثر من آثار رحمة اللّه بالخلق ، ودليل على قدرته على البعث.
إن ربكم هو الذي يرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته بقدوم المطر رحمة من اللّه بالخلق ، حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا بالماء سقناه إلى بلد ميت فأخرجنا به ثمرات مختلفة في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها. مثل هذا الإخراج وإيجاد أنواع النبات والثمار من الأرض الميتة بعد نزول المطر ، نخرج الموتى ونبعثهم ، فاللّه قادر على كل(1/724)
ج 1 ، ص : 725
شيء ، يخرج الحي من الميت والميت من الحي ، فانتبهوا رجاء أن تتذكروا وتتعظوا ، فتؤمنوا بالبعث والحياة الآخرة.
ومع هذا فهناك من ينكر البعث بعد ظهور أمارته ، ولا غرابة في ذلك ، فالناس في الفهم والإدراك كالأرض ، منها طيبة ظاهرة المعدن تخرج نباتا حسنا ، ومنها خبيثة التربة كالأرض السبخة أو الحجرية لا تخرج نباتا حسنا ، بل نباتها لا خير فيه ، مثل ذلك التصريف البديع ، يصرف اللّه الآيات لقوم يشكرون.
قصة نوح عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
المفردات :
عَذابَ يَوْمٍ المراد به يوم القيامة. الْمَلَأُ : أشراف القوم ورؤساؤهم ، لأنهم يملؤون العيون بهجة ورواء. ضَلالٍ الضلالة والضلال : العدول عن طريق الحق والذهاب عنه.(1/725)
ج 1 ، ص : 726
وَأَنْصَحُ : أرشد إلى المصلحة مع حسن النية. ذِكْرٌ أى : وعظ من ربكم.
الْفُلْكِ السفينة. عَمِينَ : واحده عم ، وهو ذو العمى. قيل : المراد عمى البصيرة ، وقيل : هو عام.
أنهى اللّه - سبحانه وتعالى - في الآيات السابقة الكلام عن مظاهر القدرة والوحدانية ، ثم ختم الكلام بذكر البعث وأنه كالخلق الأول.
ثم قفى على ذلك بذكر قصص الأنبياء السابقين ، وكيف لاقوا من أممهم العنت والتكذيب ، وكيف آل أمر هذه الأمم ، وفي هذا عبرة وعظة لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وتسلية للنبي الكريم صلّى اللّه عليه وسلّم : وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة هود آية 120] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [سورة يوسف آية 111].
المعنى :
أقسم اللّه - سبحانه وتعالى - لأهل مكة بأنه أرسل نوحا إلى قومه ، ونوح هو النبي الأول الذي أرسل إلى قومه كما
ثبت في حديث الشفاعة ، فقال : يا قومي ويا أهلى وعشيرتي : اعبدوا اللّه ربكم الذي خلقكم فسواكم وعدلكم على أتم صورة وأكمل نظام ، هو الذي خلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه - سبحانه وتعالى - هو المعبود بحق ، لا إله إلا هو ، ما لكم من إله غيره ، تدعونه وتتضرعون إليه ، آمركم بهذا لأنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وقعه ، شديد هوله.
قال الملأ من قومه - وهكذا أشراف الأمم ورؤساؤهم ، دائما أعداء للهداة والمرشدين - قالوا : إنا لنراك في غمرة من الضلال ، أحاطت بك ، إذ كيف تنهانا عن عبادة آلهتنا : ود ، سواع ، يغوث ، يعوق ، ونسر ، إن هذا لضلال بين ظاهر!! قال نوع مجيبا لهم : يا قوم ليس بي ضلالة ، وليس بي خروج عن الحق والرشاد إذ أمرتكم بتوحيد اللّه ، وعبادته وحده دون الآلهة ، ولكني رسول من رب العالمين أهديكم إلى سبيل الرشاد ، وأدعوكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة ، أبلغكم(1/726)
ج 1 ، ص : 727
رسالات ربي من التوحيد الخالص ، والإيمان باللّه وملائكته ورسله واليوم الآخر وما فيه من جنة ونار ، وثواب وعقاب ، وأبلغكم الأحكام العامة ، من عبادات ومعاملات ..
وأنصح لكم وأحذركم عقاب اللّه ، وأذكركم به.
وأعلم من اللّه ما لا تعلمون ، فوعظى لم يكن عن جهل ، وأنذركم عاقبة الشرك ، كل ذلك عن علم .. أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ، على لسان رجل منكم ؟ وذلك أنهم يتعجبون من نبوة نوح - عليه السلام - ويقولون : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، وكيف يكون الرسول بشرا! ولو شاء ربك لأنزل ملائكة ؟ ومهمتى لكم أنى أحذركم عاقبة الكفر وأنذركم بين يدي عذاب شديد ، لينذركم ، ولتتقوا عذاب يوم عظيم.
أما هؤلاء الكفار فقد كذبوه وأصروا على تكذيبه وخالفوا أمر ربهم ولجوا في طغيانهم يعمهون ، ولم يؤمن معه إلا قليل ، وكان عاقبتهم أنه نجى نوحا والذين آمنوا معه برحمة منه ، فركبوا في السفينة ونجوا من الغرق.
وأغرق الذين كذبوا بآيات اللّه ، وكفروا بها ، ولا غرابة في ذلك فهم قوم عمون عن الهدى والرشاد ، قد طمس اللّه على قلوبهم وختم عليها.
فإياكم يا أمة الدعوة أن تكونوا مثلهم ، حذار ثم حذرا أن تسيروا على منوالهم ، وفي سورة هود تفصيل أوسع لهذه القصة.
قصة هود عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)(1/727)
ج 1 ، ص : 728
المفردات :
أَخاهُمْ المراد : واحد من أشرافهم ، كما قالوا : يا أخا العرب. فِي سَفاهَةٍ السفاهة : خفة حلم وسخافة عقل. خُلَفاءَ المراد : خلفتموهم في الأرض. آلاءَ واحدها : إلى ، وهي النعمة. رِجْسٌ : عذاب ، من الارتجاس : وهو الاضطراب. وَقَعَ عَلَيْكُمْ : حق عليكم ووجب.
غَضَبٌ : انتقام. أَتُجادِلُونَنِي المجادلة : المماراة والمخاصمة. دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا : آخرهم ، والمراد استئصالهم جميعا.
عاد : قبيلة كبيرة كانت تسكن الأحقاف : (الرمل) فيما بين عمان إلى حضر موت باليمن وكانت لهم أصنام يعبدونها ، وكانوا ذوى قوة وشدة ، قالوا مَنْ(1/728)
ج 1 ، ص : 729
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً
؟ وقد بعث اللّه إليهم هودا ، وكان من أوسطهم نسبا ، وأشرفهم حسبا ، وقد دعاهم إلى عبادة اللّه ، فكفروا وعصوا وأفسدوا في الأرض ، فأمسك اللّه عنهم القطر ، وأرسل إليهم ريحا فيها عذاب أليم. تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأحقاف آية 25].
المعنى :
وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا ، وهو واحد من أنفسهم! ليفهموه ، ويفهم منهم ، ويعرفوا شمائله وأخلاقه ، فيكون ذلك أقرب إلى تصديقه.
ماذا قال لهم ؟ قال : يا قوم اعبدوا اللّه وحده ، لا تعبدوا غيره ، فما لكم من إله غيره ، أعميتم فلا تتقون ربكم ؟ وتبتعدون عما يسخطه من الشرك والمعاصي ، ولعله قال في مرة أخرى : أَفَلا تَعْقِلُونَ ؟ كما في سورة هود.
وما ذا قالوا له ؟ قال الملأ الذين كفروا من قومه خاصة : إنا لنراك في سفاهة وحماقة ، خفة وسخافة عقل حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر ، مهما كان ذلك الدين ، عجبا لهم!! حيث جعلوا السفاهة ظرفا له للإشارة إلى تمكنه فيها ، كما قال قوم نوح : إنا لنراك في ضلال مبين ، وقالوا له : إنا لنظنك ونعلم أنك واحد من الكاذبين الذين يكذبون على اللّه!! ماذا أجابهم هود ؟ قال : يا قومي ويا أهلى ، ليس بي سفاهة ولا حماقة ، حيث دعوتكم إلى دين التوحيد الخالص ، والعبادة الصادقة ، ولكني رسول من رب العالمين ، قد اختارني اللّه لأداء هذه المهمة واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 124] وفي إجابته - عليه السلام - لهم ، حيث نفى عن نفسه السفاهة فقط ولم ينسبها لهم - مع أنهم أضل الناس ، وأسفه الناس ، بل وأحقر الناس - أدب حسن ، وخلق عظيم ، صنعه اللّه على عينه ، ليكون مثلا أعلى يحتذيه عباده الصالحون ، يا قوم أنا رسول رب العالمين ، مهمتى أبلغكم رسالات ربي ، في التكاليف وأمور الدين ، وأنا لكم ناصح أمين كما عرفتموني من قبل ، ما كذبتكم في شيء فكيف أكذب على اللّه ؟(1/729)
ج 1 ، ص : 730
أكذبتم وعجبتم لأن جاءكم ذكر من ربكم ووعظ على لسان رجل منكم لينذركم بأسه ويخوفكم عقابه ؟ ! واذكروا فضل اللّه عليكم ونعمه ، إذ جعلكم ورثة نوح ، وزادكم بسطة في أجسامكم ، وقوة في أبدانكم -
روى أنهم كانوا طوالا أقوياء - اذكروا هذا واتقوا اللّه واحذروا أن يقع عليكم العذاب ، مثل ما وقع على قوم نوح فأهلكهم.
فاذكروا نعمة اللّه واشكروه واعبدوه وحده ، واهجروا الأوثان والأصنام لعلكم تفلحون.
ماذا ردوا عليه ؟ قالوا : أجئتنا لأجل أن نعبد اللّه وحده ونترك ما كان يعبد آباؤنا ؟
إن هذا لشيء عجاب!! فجئنا بما تعدنا من العذاب - فنحن مستعجلون - إن كنت من الصادقين في دعواك ، وهذا منتهى الغرور ، فأجابهم هود بقوله :
قد قضى عليكم ربكم بعذاب شديد ، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا (شديدة الصوت) عاتية تنزع الناس وترميهم صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ « 1 » .
عجبا لكم!! أتخاصمونني في أشماء لا مسميات لها ولا حقائق ، وضعتموها أنتم وآباؤكم ، ما أنزل اللّه بها من سلطان ، ولا حجة لكم فيها ولا برهان ، وتتركون عبادة الرحيم الرحمن ؟
وإذا سرتم على هذا المنوال ولم تغيروا طريقكم فانتظروا عذابا من اللّه شديدا إنى معكم من المنتظرين ، وقد نزل بهم كما مر ، ونجاه اللّه والذين معه برحمة منه ، واستأصل الكافرين وقطع دابرهم : الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ.
___________
(1) سورة القمر آية 20.(1/730)
ج 1 ، ص : 731
قصة صالح مع قومه عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)(1/731)
ج 1 ، ص : 732
المفردات :
ثَمُودَ : قبيلة من العرب كانت تسكن الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى قرب تبوك وهم من ولد سام بن نوح ، وصالح نبيهم ، وكان من أشرفهم نسبا وأعلاهم حسبا. وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ : أنزلكم فيها وجعل لكم فيها منازل.
وَتَنْحِتُونَ النحت : النحر في الشيء الصلب. وَلا تَعْثَوْا العثى والعثو :
الفساد. فَعَقَرُوا النَّاقَةَ : نحروها بالذبح ، وأصل العقر : الجرح. وَعَتَوْا :
تمردوا واستكبروا ، ومنه نخلة عاتية إذا كانت عالية يمتنع جناها على من يريدها.
الرَّجْفَةُ : المرة من الرجف ، وهو الحركة والاضطراب. جاثِمِينَ جثم الناس : قعدوا لا حراك بهم ، والمراد أنهم جثث هامدة ميتة لا حراك بها.
كانت قبيلة ثمود من قبائل العرب البائدة ، وقد كانوا خلفاء لقوم عاد بعد أن أهلكهم اللّه ، فورثوا أرضهم وديارهم. وآتاهم اللّه نعما كثيرة ، وأرسل إليهم صالحا نبيا فيهم يهديهم إلى الصراط السوى ، ولكنهم عصوا وتكبروا وكفروا وطالبوا صالحا بآية ، فبعث اللّه إليهم ناقة تصديقا له ، ولكنهم عقروها وعتوا عن أمر ربهم ، فقال لهم : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ، بعدها نزل عذاب اللّه ووعده ، ونجى اللّه صالحا والذين آمنوا معه ، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا أثرا بعد عين ، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ وتلك عقبى الظالمين ومآل الفاسقين.
المعنى :
ولقد أرسلنا إلى بنى ثمود أخاهم صالحا ، قال : يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره ، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ، وجعلكم خلفاء لعاد فاستغفروه وتوبوا إليه ، إن ربي قريب مجيب.
يا قوم قد جاءتكم حجة من ربكم وآية منه دالة على صدقى ، وكأنهم قالوا له ما هذه البينة ؟ فقال : هذه ناقة اللّه لكم آية ، وإنما أضاف الناقة إلى اللّه تعظيما لشأنها وتكريما ، ولأنها جاءت من عنده مكونة من غير فحل وناقة ، بل من صخرة صلبة ، واللّه على كل شيء قدير ، هذه الناقة آية لكم يا بنى ثمود خاصة ، لأنكم المشاهدون لها(1/732)
ج 1 ، ص : 733
وحدكم ، هذه الناقة من اللّه ، فذروها تأكل في أرض اللّه ، ولا تحولوا بينها وبين ما تطلب ، ولا تتعرضوا لها بسوء ، وكانت هذه الناقة تشرب جميع مياههم ، ثم تحيلها لبنا لهم : هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [سورة الشعراء آية 155].
ثم ذكرهم بنعم اللّه التي توجب الشكر والعبادة للّه وحده ، وبخاصة بعد ما قامت الحجج على صدق رسالته فقال : واذكروا نعم اللّه عليكم إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم عاد ، في الحضارة والعمران ، وأورثكم أرضهم ، وأنزلكم منازلهم تجعلون بدل سهولها قصورا زاهية. ودورا عالية ، بما ألهمكم من صناعة اللّبن والآجر (الطوب الأخضر والأحمر) وتنحتون من الجبال بيوتا ، فقد علمكم صناعة النحت وآتاكم القوة والصبر.
روى أنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء ، والسهول في باقى الفصول ، فاذكروا هذه النعم الجليلة ، واشكروا اللّه واعبدوه حق العبادة ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
قال الملأ الذين استكبروا من قومه ، وكفروا باللّه ورسوله ، قالوا للمستضعفين الذين آمنوا منهم : أتعلمون أن صالحا مرسل من عند ربه ؟ وهكذا جرت سنة اللّه مع أنبيائه ، يتبعهم الضعفاء ، ويكفر بهم الرؤساء.
قال المستضعفون المؤمنون : نعلم أنه مرسل من عند ربنا علما لا يحتاج إلى بيان ، وإنا بما أرسل به مؤمنون ومصدقون.
قال الذين استكبروا : إنا بما آمنتم به كافرون ، ولم يقولوا : إنا بما أرسل به صالح كافرون ، خوفا من أن يقروا له بالرسالة ولو ظاهرا.
أما أفعالهم الدالة على الكفر : فقد عقروا الناقة : نعم أجمعوا أمرهم ونادوا صاحبهم ، فتعاطى هذا الفعل الشنيع ، فعقر الناقة ، وصاحبهم هذا هو قدار بن سالف ، أشقى القبيلة ، وإنما نسب العقر إليهم جميعا لأنهم بين راض عن هذا الفعل ، وبين آمر به.
فعقروا الناقة وتمردوا واستكبروا عن امتثال أمر ربهم الذي أمرهم به على لسان نبيه صالح ، من قوله : فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [الأعراف 73].
وقالوا يا صالح : ائتنا بما تعدنا به من العذاب ، إن كنت رسولا من عند اللّه ،(1/733)
ج 1 ، ص : 734
وتدعى أن وعيدك تبليغ عنه ، وأن اللّه ناصرك على أعدائه ، إن كان هذا صحيحا فعجل ذلك لنا!! فأخذتهم الرجفة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ كما في سورة هود فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ كما في سورة السجدة ، والمراد أنه نزلت بهم صيحة شديدة القوة ، ارتجفت لها الأفئدة واضطربت من حولها الأرض ، وتصدع ما فيها من بنيان : إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ فأصبحوا في دارهم جثثا هامدة لا حراك بها ، وسقطوا صرعى الصاعقة.
قال لهم صالح - بعد أن جرى ما جرى - : لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، ولم أدخر وسعا في ذلك ، ولكنكم لا تحبون الناصحين ، فحقت عليكم كلمة العذاب.
ونداؤه لهم بعد الموت ، كنداء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لقتلى بدر بعد أن دفنوا في القليب :
« هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ » .
قصة لوط عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)(1/734)
ج 1 ، ص : 735
المفردات :
لوط : هو ابن أخى إبراهيم عليه السلام. وكان يسكن قرب البحر الميت بشرق الأردن في قرية من قرى خمس اسمها (سدوم) كانت تعمل الخبائث التي حكاها القرآن. لَتَأْتُونَ الرِّجالَ : مأخوذ من قولهم : أتى الرجل المرأة : إذا غشيها. مِنَ الْغابِرِينَ أى : الباقين في عذاب اللّه ، يقال : غبر الشيء : إذا مضى ، وغبر : إذا بقي.
المعنى :
واذكر لوطا حين قال لقومه بعد أن دعاهم إلى عبادة اللّه : أتأتون الفعلة التي بلغت الغاية في الفحش والقبح ، هذه الفعلة ما عملها قبلكم أحد من الناس فأنتم قادة لغيركم في هذا الجرم الشنيع ، إنكم لتأتون الرجال لقصد الشهوة فقط وسفح الماء ، فقد نزلتم عن مستوى الحيوان ، فإن ذكره يأتى أنثاه بقصد الشهوة وبقاء النسل ، أما أنتم فقد أعماكم الضلال وأصبح لا غرض لكم إلا إرضاء شهواتكم ، وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم شديد!! وفي قوله : مِنْ دُونِ النِّساءِ إشارة إلى أنهم تركوهن وهن محل الشهوة عند الفطر السليمة.
بل أنتم قوم مسرفون متجاوزون الحد عادون ، قد تجاوزتم حدود العقل والطبع السليم والصحة والأدب.
وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار وذلك النصح شيئا من الحجج المقنعة ، أو رجوعا عن ذلك الغي ، أو اعتذارا يخفف حدة الغضب ، لم يكن شيء من هذا ، بل كان جوابهم الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم الظالم أهلها ، وقالوا لهم مفتخرين متعللين على سبيل السخرية والتهكم : إنهم أناس يتطهرون.
وكان من نبأ لوط أن أرسل اللّه إليه ملائكة الرحمة به ، ورسل العذاب إلى قومه ، استجابة لدعائه عليهم ، بعد أن ضاق صدره وعيل صبره. وقالت الملائكة يا لوط : إنا رسل ربك جئنا لإنقاذك ودفع العدوان عنك ، فأصبح لوط وقد كشف اللّه عنه الغمة وأنجاه اللّه وأهله المؤمنين معه إلا امرأته ، فإنها كانت موالية للكفار ، فكانت من الباقين في عذاب اللّه.(1/735)
ج 1 ، ص : 736
خرج لوط وأهله وفارق تلك القرية ، حتى إذا صار بعيدا عنها جاءها أمر اللّه وزلزلت الأرض زلزالها ، فصار عاليها سافلها. وأمطر عليهم نوعا من المطر عظيما يقال : هو حجارة من سجيل.
فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ، في حق أنفسهم وفي حق مجتمعهم ، وفي حق ربهم ؟ وهذا هو العقاب الطبيعي للترف والفسق الذي يفسد الخلق ، ويبيد الأمم ، وهذه سنة اللّه ولن تجد لسنته تبديلا.
عقاب هذه الفعلة :
قال الإمام مالك - رضى اللّه عنه - : يرجم ، أحصن أو لم يحصن ، وكذلك يرجم المفعول به إن كان بالغا ، وروى عنه أيضا : يرجم إن كان محصنا « متزوجا » ويحبس ويؤدب إن كان لم يتزوج ، وعند أبى حنيفة : يعزّر وعند الشافعى : يحد حد الزنا قياسا عليه ، إلى آخر ما هو مذكور في كتاب القرطبي عند تفسير هذه الآية.
قصة شعيب عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)(1/736)
ج 1 ، ص : 737
المفردات :
مَدْيَنَ : قبيلة عربية كانت تسكن أرض معان من أطراف الشام ، وكانوا يكفرون باللّه ، وقد عبدوا الأيكة من دونه ، وكانوا يبخسون الناس أشياءهم ، في الكيل والوزن ، وقد بعث اللّه فيهم شعيبا. وَلا تَبْخَسُوا بخسه حقه : نقصه.
تُوعِدُونَ : تخوفون الناس. تَبْغُونَها عِوَجاً : تطلبون اعوجاجها.
فَكَثَّرَكُمْ : بارك اللّه فيكم.
المعنى :
ولقد أرسلنا إلى قبيلة مدين شعيبا نبيا فيهم ، وهو من أشرفهم ، فقال : يا قوم اعبدوا اللّه وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، ما لكم من إله غيره ، هو الذي خلقكم وخلق كل شيء لكم. قد جاءتكم بينة من ربكم ، وآية دالة على صدقى.
فأوفوا الكيل إذا كلتم ، وزنوا بالقسطاس المستقيم ، ولا تنقصوا الناس شيئا من حقوقهم ، في بيع أو شراء أو حق مادى أو معنوي ، وقد أمرهم شعيب بالوفاء في الكيل والوزن ، ونهاهم عن نقص الناس شيئا من حقوقهم بعد الأمر بعبادة اللّه مباشرة وذلك لأن هذه الخصلة كانت فاشية فيهم ، كما فشا في قوم لوط الفاحشة ، فقد كانوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس وأخذوا حقهم يستوفون ، وإذا كالوهم وباعوا إليهم شيئا ينقصون ويبخسون ، وهذا مرض نفسي وداء إذا تفشى في أمة قضى عليها وأزال ملكها وعزها.(1/737)
ج 1 ، ص : 738
وقال شعيب : يا قوم لا تفسدوا في الأرض بأى نوع من أنواع الفساد ، كالظلم والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل ، وارتكاب الإثم والفواحش ، وإفساد المجتمع بشيوع الانحلال الخلقي.
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، وقد أصلحها ، وقد أصلحها اللّه بما فطر الناس على حب الخير ، وبما أودع فيهم من الميل إلى الرشاد ، وبما أرسل فيهم من الرسل والهداة والمرشدين.
فعليكم ألا تفسدوا فيها بالبغي والعدوان على الأنفس والمال والعقول والأعراض.
ذلكم الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم في الدنيا والآخرة ، وهو مجلبة للسعادة في الدارين إن كنتم مؤمنين حقا بي وبرسالتي ، وهكذا العلم وحده لا ينفع في قمع النفس وردها عن الشر بل لا بد معه من إيمان قلبي وتصديق روحي خالص ، ومخالفة للنفس والهوى. وقال شعيب لهم : لا تقعدوا يا قوم في الطرقات تنهون الناس عن الإيمان وتخوفونهم عاقبته ، وتعدونهم بالشر إن آمنوا - وقد كانت قريش تفعل ذلك ، كما ورد في حديث ابن عباس - ولا تصدوا عن سبيل اللّه من آمن به من الناس.
ولا تطلبوا اعوجاجا لسبيل اللّه ودينه ، بما تصفون وبما تكذبون وبما تشوهون الحقائق ، وتفترون على اللّه الكذب.
واذكروا نعم اللّه عليكم وقت أن كنتم قلة في المال والرجال والسطوة فبارك فيكم ، وزاد مالكم ونما ، وكثر عددكم وربا ، مع الجاه والقوة ، وانظروا نظرة عبرة وعظة كيف كان عاقبة المفسدين الظالمين من قوم عاد وثمود وقوم لوط.
وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وصدقوا ، وكانت هناك طائفة لم يؤمنوا ، وهذا شأن الناس قديما وحديثا.
إن كان هذا فاصبروا أيها المؤمنون حتى يحكم اللّه ويقضى بيننا ، وهو الحكم العدل ، وقد حكم بنصرة عباده المؤمنين وهلاك الظالمين المفسدين ، وهو خير الحاكمين.(1/738)
ج 1 ، ص : 739
شعيب عليه السلام وقومه [سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 89]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
المفردات :
افْتَحْ : احكم ، والفاتح : الحاكم على المبالغة.
المعنى :
أمر شعيب قومه بعبادة اللّه وحده ، والوفاء بالكيل والميزان ، وعدم الفساد في الأرض ، فما كان من أشراف قومه الذين استكبروا عن الإيمان باللّه ورسله وعاثوا في الأرض الفساد ، إلا أن قالوا : تاللّه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من بلادنا حتى تسكن الفتنة ، وتهدأ الثورة التي أثرتموها باتخاذكم دينا غير دين الآباء والأجداد.
ليكونن أحد الأمرين : إما إخراجكم من القرية ، وإما عودتكم في ملتنا ، ودخولكم في زمرتنا وجماعتنا.
قال شعيب : عجبا لكم!! إذ تأمروننا أن نعود في ملتكم ، أنعود ولو كنا كارهين ؟ ! إنكم تجهلون موقفنا ، وتأثير العقيدة في نفوسنا ، فطلبتم منا هذا الطلب ..(1/739)
ج 1 ، ص : 740
رد شعيب عليهم في الأمر الثاني المهم فقال : قد افترينا على اللّه كذبا إن عدنا في ملتكم ملة الكفر والضلال ، إذ الكافر يختلق على اللّه الكذب حيث يدعى أن له شريكا وولدا بل المرتد أعظم جرما ، وأكثر كذبا حيث يوهم غيره أنه رجع بعد معرفة الحقيقة والواقع.
أنعود إلى ديانتكم بعد أن نجانا اللّه منها ؟ إن هذا لشيء عجيب!! ما أعظم كذبنا وكفرنا إن عدنا فيها بعد أن نجى اللّه أصحابى منها وأنا معهم ، وما ينبغي أن نعود فيها أبدا ، ولا يقدر أحد على تحويلنا إليها في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة ربنا إذ هو المتصرف في أمرنا ، وهذا رفض أبلغ.
واللّه واسع العلم كثير الفضل ، أعلم بخلقه ، لا يشاء إلا الخير لهم ، هذا اعتقادهم في اللّه ، على أنهم قوم مؤمنون حقا لا يهمهم تهديد ولا يخوفهم وعيد ، ويقولون : على اللّه وحده توكلنا ، وإليه أنبنا وما عداه فشيء لا يعبأ به أبدا ، وهذا رفض آخر بالدليل.
ثم دعا عليهم لما يئس منهم فقال : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سنتك في التنازع بين المرسلين والكافرين ، بل وبين كل محق ومبطل ، وأنت خير الحاكمين عدلا وإحاطة ونزاهة ، سبحانك أنت الحكم العدل ..
مآل الكافرين [سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 95]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)(1/740)
ج 1 ، ص : 741
المفردات :
الرَّجْفَةُ : الحركة والاضطراب ، والمراد : الزلزلة والعذاب. يَغْنَوْا غنى بالمكان : أقام به. آسى الأسى : الحزن الشديد. قَرْيَةٍ : مدينة جامعة تجمع الزعماء كالعاصمة. بِالْبَأْساءِ : الشدة والمشقة من حرب أو فقر أو غيره.
الضَّرَّاءِ : ما يضر الإنسان في بدنه أو معيشته. يَضَّرَّعُونَ : يظهرون الضراعة والخضوع. عَفَوْا : كثروا ونموا ، من قولهم : عفا النبات : إذا كثر.
المعنى :
وقال الملأ الذين كفروا - وهم عيون مدين وأشرافهم - قالوا للمستضعفين المؤمنين : تاللّه لئن اتبعتم شعيبا وآمنتم به إنكم إذا لخاسرون شرفكم حيث تركتم دين آبائكم إلى دين لم تعرفوه ولم تألفوه ، وخاسرون دنياكم حيث تركتم ما به ينمو مالكم ويزيد من التطفيف في الكيل ، وأكل أموال الناس.
ولقد كان وصفهم بالاستكبار أولا لمناسبة التهديد بالإخراج من الديار ، ووصفهم هنا بالكفر يناسب الضلال والصد عن سبيل اللّه ، أما جزاؤهم فأخذتهم الرجفة وعمتهم الصيحة ، وزلزلوا زلزالا شديدا ، حتى أصبحوا جثثا هامدة ، جاثمين في مكانهم لا حراك بهم.
وكان قوله تعالى : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا بمعنى أنهم حرموا من ديارهم ، وأخرجوا من أوطانهم كأن لم يقيموا فيها : ردّا عليهم في قولهم : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك.(1/741)
ج 1 ، ص : 742
وكان قوله تعالى : الذين كذبوا هم الخاسرون على سبيل الحصر ردّا عليهم في قولهم :
لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ... « 1 » وحقا الكافرون هم الذين خسروا في الدنيا والآخرة دون سواهم.
وأما شعيب فقد تولى عنهم وأعرض قائلا : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ، وبلغتكم ما فيه صلاحكم في المعاش والمعاد ، ونصحت لكم ، ومن بشر وأنذر فقد أعذر ، ومن أعذر فكيف يحزن على قوم عصوه ولم يؤمنوا ؟ وكانوا كافرين!! وما أرسلنا في قرية من القرى ولا مدينة من المدن ، ما أرسلنا فيها رسولا ثم كذب أهلها وعصوا إلا أخذناهم بالشدة والمكروه وأصابتهم سنين عجاف ، لعلهم بهذا يتضرعون ، ويلتجئون إلى ربهم وهكذا سنة اللّه في الخلق ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ، يرسل الشدائد لعلها ترجع الإنسان إلى ربه ، وترده عن غيه ، ولكن كثيرا من الناس لا تردعهم الروادع ، فهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى : فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ « 2 » .
ثم أعطيناهم بدل الشدة سعة ، ومكان الفقر والضيق غنى وفضلا ، حتى عفوا وكثروا في المال والعدد ، فاللّه - سبحانه - يريهم الحالتين ويمكن لهم في الجهتين لعلهم يعتبرون ، ولكن العصاة يقولون : هؤلاء آباؤنا قد مستهم الضراء والسراء ، وحل بهم الضيق والفرج والعسر واليسر. وما نحن إلا مثلهم ، وهذا قول من لم يعتبر ويتعظ بأحداث الزمن ، أليس ما هم فيه ابتلاء واستدراجا ؟ ألم يعلموا أن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ؟ وهم مع ذلك قد أعرضوا ونأوا ، واستكبروا وبغوا فكان جزاؤهم ما يأتى :
فأخذناهم بغتة وحل بهم العذاب فجأة ، وهم في غيهم سادرون ، وفي عمايتهم لاهون فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ « 3 » .
فاعتبروا يا أولى الأبصار ، واتعظوا بما حل بغيركم فتلك سنة اللّه ولن تجد لسنته تبديلا!!!
___________
(1) سورة الأعراف آية 90.
(2) سورة الأنعام آية 43.
(3) سورة الأنعام آية 44.(1/742)
ج 1 ، ص : 743
من سنة اللّه مع الأمم [سورة الأعراف (7) : الآيات 96 الى 102]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
المفردات :
لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ : لسهلنا عليهم. بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ : المراد خيرى السماء والأرض المعنوي والمادي كالعلوم والمطر والنبات. ضُحًى : وقت ارتفاع الشمس وامتلاء الكون بالضوء. أَوَلَمْ يَهْدِ : أو لم يبين. عَهْدٍ :(1/743)
ج 1 ، ص : 744
العهد : الوصية ، وقد يكون بين طرفين كالمعاهدة أو طرف واحد. بأن يعهد إليك بشيء ، أو تلتزم به ، والميثاق : العهد المؤكد.
المعنى :
هكذا نظام اللّه في الكون ، وتلك سنته مع الخلق قديما وحديثا فاعتبروا واتعظوا أيها الناس خاصة أنتم يا زعماء الشرك من العرب ، ولو أن أهل القرى التي كذبت رسلها ، ولم تؤمن بربها. لو أنهم بدل الكفر آمنوا ومكان العصيان اتقوا لفتح اللّه عليهم أنواع الخير من السماء والأرض كالعلوم والهداية والوحى والإلهام ، وكذا المطر والسحاب وسهل عليهم خير الأرض من نبات ومعادن ، وخصب وكنوز. والمعنى : أنهم لو آمنوا ليسر اللّه لهم كل خير من كل جانب.
ولكن كذبوا وكفروا فأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر بما كانوا يكسبون ... فعلوا ما فعلوا فأخذهم اللّه بغتة ، وعلى غرة منهم ، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ، وينزل بهم عذابنا وهم بائتون ونائمون ؟ !! أو أمن أهل القرى أن يأتيهم العذاب ضحى وهم يلعبون ، فإن من يأتى من الأعمال ما لا فائدة فيه فهو لاعب ولاه!!!
والمعنى :
إن أمنتم ضربا منها لم تأمنوا الآخر.
أفأمنوا مكر اللّه ؟ وقد كرر الاستفهام الإنكارى لزيادة التوبيخ ، وهو معطوف على قوله : أفأمن أهل القرى ، ولذا كان بالفاء ، ومكر اللّه عبارة عن جزائه ، وأخذه العبد إذا طغى من حيث لا يشعر مع استدراجه والإملاء له ، فعلى العاقل ألا يأمن مكر اللّه ولو كانت إحدى رجليه في الجنة ، ومعنى الآية : أيأخذهم ربك بغتة في الليل أو الضحى فأمنوا مكر اللّه ؟ ! إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر اللّه إلا القوم الخاسرون.
أجهل هؤلاء الناس (خاصة قريشا) الذين يرثون الأرض من بعد أهلها - بعد هذا البيان الكامل - أن سنة اللّه في الخلق لا تتغير ؟ أكان ما ذكر ولم يتبين لهم أن شأننا معهم(1/744)
ج 1 ، ص : 745
كشأننا مع من سبقهم ؟ ! فلو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، وعذبناهم على أعمالهم ، كما أصبنا أمثالهم من قبل بغتة وهم لا يشعرون.
ونحن نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون الحكم والنصائح سماع قبول وتدبر وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [سورة يونس آية 101].
تلك القرى التي مر عليك ذكرها نقص عليك بعض أنبائها وأخبارها ، مما فيه عبرة وعظة وتسلية ، ولقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات ، والمعجزات الخارقات ولكنهم لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل مجيء المعجزات ، أى : في بدء الدعوة ، فهم قد ظلوا على حالهم ، ولم تنفعهم الآيات الدالة على صدق الرسل.
مثل ذلك الطبع الذي طبعه اللّه على قلوب الكافرين من تلك الأمم يطبع اللّه على قلوب الكافرين من أمة الدعوة ، إن هذا الجمود والعناد الذي تراه عند كفار مكة قد سبقوا بمثله عند الأمم السابقة ، فلا تأس عليهم ، ولا تحزن على كفرهم.
وما وجدنا لأكثرهم عهدا وفوا به ، سواء كان عهد فطرة أو عهد شرع أو عرف ، وإننا وجدنا أكثرهم خارجين على كل عهد ، وفي التعبير (بأكثرهم) إيماء إلى أن البعض قد آمن ووفى بعهده.
قصة موسى عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 116]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)(1/745)
ج 1 ، ص : 746
المفردات :
مُوسى : هو موسى بن عمران نبي بنى إسرائيل. فِرْعَوْنَ : لقب كل ملك لمصر في العهد القديم ، وقيل : كان اسمه منفتاح. حَقِيقٌ : جدير وخليق.
تَأْمُرُونَ : تشيرون علىّ ، من قولهم : مرني بكذا ، أى : أشر على به. أَرْجِهْ وفي قراءة أرجئ بمعنى : أخر ولا تفصل في شأنه. حاشِرِينَ جامعين لك السحرة.
أفردت قصة موسى - عليه السلام - عن قصص الأنبياء السابقين ، لأن قصصهم جميعا طبع على غرار واحد إذ كلهم أرسل لأمته وقد كذبته وحل بها العذاب ، وأما موسى فقد أرسل لغير قومه ، وكانت معجزته ظاهرة واضحة ، وآمن به أكثر قومه ، وشريعته أقرب الشرائع لشريعة محمد - عليه الصلاة والسلام - لاشتمالها على أمور دينية(1/746)
ج 1 ، ص : 747
ودنيوية وأسس أمة لها حضارة ونظام ، ولذا تراها ذكرت مفصلة وكررت في القرآن وذكر اسمه أكثر من مائة مرة.
المعنى :
ثم بعثنا بعد هؤلاء الرسل موسى بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدقه ورسالته ، بعثناه إلى فرعون وملئه فظلموا بها وكفروا ، ولا شك أن الظلم والكفر من واد واحد إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ « 1 » على أنهم ظلموا بها أنفسهم ، وظلموا غيرهم بما صدوا عنها وآذوا في سبيلها .. وإنما ذكر أن موسى بعث إلى فرعون وملئه دون قومه لأنه أرسل لإنقاذ بنى إسرائيل من فرعون وكيده ، والذين استعبدهم هو فرعون وأشرافه وبطانته ، أما الشعب فكانوا مستعبدين كذلك على أن فرعون وملأه لو آمنوا لآمن الشعب كله.
فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ؟ هذه جملة القصة وخلاصتها والعبرة منها ، مع إفادة التنبيه والتفات إلى القصة ، وهاك التفصيل :
وقال موسى : يا فرعون إنى رسول من رب العالمين ، الذي بيده كل شيء ، وأنا حقيق بأنى لا أقول على اللّه إلا الحق ، وكيف يكون غير ذلك ؟ وأنا رسول رب العالمين ، فتراه بإيجاز أثبت الرسالة له من قبل المولى - جل شأنه - وأنه معصوم من الكذب وقد أيد بالمعجزات ، وقد جئتكم يا قوم ببينة وحجة من ربكم ، لا من وضعي أنا بل من اللّه - سبحانه - الواحد الأحد رب السماء والأرض ورب فرعون وهامان ، فهذا فرعون مخلوق ضعيف لا رب معبود.
وإذا كان الأمر كذلك فأرسل معنا يا فرعون بنى إسرائيل ، ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك ، والسلام على من اتبع الهدى.
قال فرعون : إن كنت جئت بآية - كما تدعى - فأت بها إن كنت من الصادقين في دعواك ، فأجابه موسى بالفعل لا بالقول.
فألقى موسى عصاه ، فإذا هي ثعبان ظاهر حقيقى يتحرك وينتقل من مكان إلى مكان وأخرج يده من جيب قميصه بعد إلقاء العصا فإذا هي بيضاء ناصعة البياض ، تتلألأ لكل من ينظر إليها.
___________
(1) سورة لقمان آية 13.(1/747)
ج 1 ، ص : 748
وهناك ذكرت روايات في كتب التفسير حول الثعبان والعصا ، واليد ، واللّه أعلم.
إنها إسرائيليات مدسوسة من خيال وهب بن منبه وكتب الأحبار وأمثالهم.
وماذا حصل بعد هذا وما قالوا ؟
قال الملأ من قوم فرعون ، وهم أشراف القوم وبطانة الملك : إن هذا لساحر عليم بفنون السحر وضروبه ، وقد وجه همه لسلب ملككم ، وإخراجكم من أرضكم ، ونزع الملك من أيديكم بطرق سحرية قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ [سورة يونس آية 78].
قال فرعون لهم : فماذا تأمرون ؟ وبأى شيء تشيرون ؟
قالوا : أخر الفصل في أمره وأمر أخيه ، وأرسل في المدائن جندك وعيونك ، جامعين لك السحرة ، وسائقيهم إليك ، حتى يأتوك بكل ساحر عليم فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه 58 - 60].
وجاء السحرة من كل حدب وصوب وقالوا لفرعون : أئن لنا لأجرا كاملا يكافئ ما نقوم به من عمل عظيم يتم به الغلب على موسى وسحره ؟
وقال فرعون : نعم لكم أجركم كما تطلبون ، وإنكم لمن المقربين إلى مجلسنا ، فيكون السحرة جمعوا بين المركزين المالى والأدبى.
ولما اجتمعوا قال السحرة - في اليوم الموعود لموسى - : إما أن تلقى بسحرك ، وإما أن نكون نحن الملقين ، وهذا كلام الواثق من نفسه.
قال موسى : ألقوا ما أنتم ملقون قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة يونس آية 81].
فلما ألقوا سحروا أعين الناس من النظارة ، واسترهبوهم وملئوا قلوبهم خوفا وجاءوا بسحر عظيم في الظاهر.
سحروا أعين الناس بخفة الأيدى والحركة السريعة ، أو باستخدام الزئبق في العصى أو البخور المؤثر على العيون.
ومن تعبير القرآن بقوله : سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ. وقوله : يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ(1/748)
ج 1 ، ص : 749
سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى
أن السحر له تأثير على خيال الشخص فقط ولا تأثير له على حقيقة الأشياء ، ومن هنا كان الفرق بين السحر والمعجزة ، إذ إن المعجزة تظهر على يد مدعى النبوة ، والسحر على يد رجل فاسق ، والسحر كان يعلم عند قدماء المصريين ، وله ضروب وأنواع شتى ، على أنه خيال ، والمعجزة لها حقيقة واقعة ، وتأتى بلا تعليم.
السحرة مع موسى وفرعون [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 126]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
المفردات :
تَلْقَفُ لقف الشيء وتلقفه : تناوله بحذق وسرعة. ما يَأْفِكُونَ الإفك في الأصل : قلب الشيء عن وجهه الأصلى ، ولذا قيل للكذاب : أفاك لقلبه الكلام عن وجهه ، وكل أمر صرف عن وجهه فهو مأفوك ، فالإفك يكون في القول بالكذب ويكون في العمل بالسحر. انْقَلَبُوا : عادوا. لَمَكْرٌ المكر : صرف الغير(1/749)
ج 1 ، ص : 750
عما يقصده بحيلة. مِنْ خِلافٍ المراد : يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى وبالعكس. تَنْقِمُ : تكره. أَفْرِغْ عَلَيْنا : صب علينا صبا يغمرنا.
المعنى :
أوحى اللّه إلى موسى أن ألق عصاك فكانت ثعبانا ظاهرا ، وكان على أثر ذلك أن دعا فرعون السحرة ، وأوحى إليه مرة ثانية أن ألق عصاك لما حضر السحرة وسحروا أعين الناس فألقاها فإذا هي تأتى على فعل السحرة فتبطله ، وتلقف ما يأفكون ، قال ابن عباس : فجعلت العصا لا تمر بشيء من حبالهم وعصيهم إلا التقمته فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء وليس بسحر فخرّوا ساجدين.
وقيل المعنى : تبطل سحرهم ، وتبين حقيقته للناس وتبطل عمله المصروف من وجهة الحق إلى الباطل.
ولما كان هذا شأنهم ، وقد عرف السحرة حقيقتها ، وأنها ليست كالسحر الذي يعرفونه ظهر الحق وثبت أن موسى رسول وليس ساحرا ، وبطل ما كانوا يعملون.
فغلب موسى فرعون وجموعه المجموعة في اليوم المشهود بأمر اللّه وقوته ، وانقلبوا صاغرين أذلة ، يجرون ثياب الخزي والعار ، وخر السحرة ساجدين كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم ، إذ الحق بهرهم والنور دفعهم فلم يتمالكوا أنفسهم مما رأوا ، وقالوا :
آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ، سبحانه وتعالى عما يصفون!! ولما ظهر الحق وزهق الباطل ، وألقى السحرة ساجدين مؤمنين وفي هذا خطر شديد على فرعون وملئه ، قال فرعون : أآمنتم بموسى قبل أن آذن لكم ؟ إن هذا العمل الذي عملتموه وهو أن تتظاهروا أولا بالعداوة ، والاعتداد بالسحر ، وإرادة الغلبة لموسى مع إصراركم على أنكم ستنحازون إليه بعد التجربة ، إن هذا لمكر ، وأى مكر كهذا ، دبرتم العمل بالمدينة وأحكمتم الرواية فيها ثم أمامنا وأمام الشعب مثلتموها ، وما دفعكم إلى هذا إلا حبكم في أن تخرجوا من البلد أهلها ثم تستقلوا بها مع بنى إسرائيل إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ « 1 » فسوف تعلمون ما أنا فاعل بكم.
___________
(1) سورة طه آية 71. [.....](1/750)
ج 1 ، ص : 751
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف كل يد مع رجل تنكيلا بكم وتعذيبا ، ثم لأصلبنكم على الخشب جميعا حتى تموتوا ، وتكونوا عبرة وعظة لغيركم.
ولكنهم ردوا رد المؤمن الواثق قائلين : لا ضير علينا في هذا إن الأمر للّه والمرجع إليه مهما طال العمر أو قصر ، وإن الجسد فان ، وإنا إلى ربنا منقلبون حتما ، وما تفعلون بنا إلا تعجيل اللقاء المحتوم.
وما تكرهون منا ؟ إنكم لا تكرهون منا إلا إيماننا باللّه ورسوله لما جاءتنا البينات.
وظهرت أمامنا المعجزات ، ونحن أدرى بمعرفة السحر وأثره ، وقالوا : ربنا صب علينا صبرا يفيض كالماء ، وثبت أقدامنا على صراطك المستقيم ، وتوفنا مسلمين ، فإنك أنت العزيز الحكيم.
ما كان من أمر فرعون وملئه مع موسى وقومه [سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)(1/751)
ج 1 ، ص : 752
المفردات :
وَيَذَرَكَ
: يتركك. نَسْتَحْيِي : نبقيهم أحياء.
المعنى :
ولما كان أمر السحرة ومن تبعهم من الناس حينما انضموا إلى موسى وآمنوا به على مشهد من الجموع المحتشدة ، لما كان هذا يقض مضاجع فرعون وملئه قالوا لفرعون :
أتذر موسى وقومه أحرارا في الأرض يدعون لدينهم ، ويكثر سوادهم ويتركك موسى مع آلهتك فلا يعبدونك ولا يعبدونها وفي هذا فساد للأرض ، وذهاب للملك ؟ !! قال فرعون : سنقتل أبناءهم ، ونستبقى نساءهم أحياء فلا يكثرون كما كنا نفعل قبل ولادة موسى ليعلموا أنا على هذا قادرون ، وأنا فوقهم قاهرون وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ « 1 » .
ولما سمع بنو إسرائيل خافوا فطمأنهم موسى وقال : استعينوا باللّه وحده فهو القادر على كل شيء ، واصبروا فالصبر سلاح المؤمن ، واعلموا أن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده ، واعلموا أن العاقبة للمتقين ، والنصر للمؤمنين فليس كما يظن فرعون وقومه.
ولكن هذه الوصية لم تهدئ من روعهم فقالوا والأسى يحز في نفوسهم : أوذينا من قبل مجيئك ، ومن بعد إرسالك ، فقد كنا نسأم الخسف ، ونذوق المر ، وتقتل أولادنا ويسوموننا سوء العذاب ، وها أنت ذا ترى اليوم ما نحن فيه!! قال موسى لهم : رجائي من اللّه - واللّه محققه إذا شاء - أن يهلك عدوكم ويجعلكم خلفاء في الأرض وسادة ، وينظر كيف تعملون ؟ ؟ !
___________
(1) سورة غافر آية 26.(1/752)
ج 1 ، ص : 753
جزاء العصاة في الدنيا [سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 133]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)
المفردات :
بِالسِّنِينَ : جمع سنة ، وهي بمعنى الحول ، إلا أنه كثر استعمالها في السنة المجدبة كما هنا. الْحَسَنَةُ : المراد : الخصب والنماء. سَيِّئَةٌ المراد بها :
ما يسوءهم من جدب وقحط ، أو ما يصيبهم في البدن أو المال. يَطَّيَّرُوا :
يتطايروا ويتشاءموا ، ولعل السر في إطلاق التطير على التشاؤم أن العرب كانت تعقد الأمل في الخير على الطائر إذا طار يمينا وتتوقع الشر إذا طار جهة اليسار.
طائِرُهُمْ : المراد : ما قضى لهم وقدر. الطُّوفانَ : ما يطوف بالإنسان ويغشاه ، وغلب في طوفان الماء. الْجَرادَ : حيوان طائر يأكل النبات.
الْقُمَّلَ : هو السوس الذي يظهر في القمح. وقيل هو الدود الذي يأكل الزرع.(1/753)
ج 1 ، ص : 754
المعنى :
أقسم اللّه - سبحانه وتعالى - إظهارا لكمال العناية بمضمون المقسم عليه لما له من الأثر في تربية النفوس ، أقسم أنه أخذ آل فرعون بالقحط والجدب والسنين العجاف ، وقد شاع استعمال القرآن كلمة (أخذ) في العذاب والشدة وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [سورة هود آية 102].
ولقد أخذناهم بهذا كله لعلهم يتذكرون ويتعظون ، وذلك أن من سنته تعالى أن يرسل الزواجر من المصائب والآفات والنقص في الثمرات تنبيهات لعل أصحابها ترجع وتثوب ، فإن ثابت واهتدت كان الخير ، إلا فالهلاك المحتوم ، والقضاء المعلوم ، وقد كان آل فرعون من النوع الأخير ومثلهم كل شخص أو أمة لم تنتبه للزواجر ، ولم تتعظ بالحوادث في كل زمان إلى يوم القيامة.
فإذا جاءت أمة فرعون الحسنة من الخير والنماء ، والزيادة في الثمرات قالوا : إنما أوتينا هذا على علم ومعرفة ، وهذا لنا نستحقه بعملنا ، وإن أصابتهم سيئة الجدب وقلة الثمر وهلاك الزرع تشاءموا واطّيّروا بموسى ومن معه يا سبحان اللّه!! أهكذا يكون ضيق العقل وفساد الرأى وعدم التوفيق ؟ فهم يقولون عند حلول المصائب بهم : ما هذا إلا بشؤم موسى وقومه ، وغفلوا عن سيئات أعمالهم ، وشرور أنفسهم إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة النساء آية 78].
ألا إن كل ما يصيبهم من خير وشر فهو بقضاء اللّه وقدره ، واللّه قد قضى أن يكون الخير ابتلاء أيشكر صاحبه أم يكفر ؟ وقضى أن يكون الشر ابتلاء كذلك هل يرجع صاحبه عن الغي والفساد أم يظل سادرا في الطغيان والضلال ؟ !! واللّه قد قضى كذلك أن تكون أعمال العباد سببا فيما ينزل بهم من خير وشر غالبا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحكمة الإلهية في تصريف الكون ، ولا يعلمون كيف ربطت الأسباب بمسبباتها ، وأن كل شيء عنده بمقدار ، فليس هناك شيء بشؤم موسى أو غيره ، ألا إنما طائرهم عند اللّه ولكن أكثرهم لا يعلمون.
ومع ذلك كله فقد قالوا : مهما تأتنا به من آية تستدل بها على صدقك وأنك محق في(1/754)
ج 1 ، ص : 755
دعوتك - وسموا ما يأتى به موسى آية كما يقول فقط لا عن اعتقاد - مهما تأتنا به من الآيات لتسحرنا بها وتصرفنا عما نحن فيه بلطف ورقة فما نحن لك بمصدقين أبدا ، هذا ما كان منهم.
أما جزاؤهم عليه فقد أرسل اللّه عليهم الطوفان والسيل فأغرقهم ، وأتلف زراعتهم كما ورد في التوراة وأرسل عليهم الجراد الذي يأكل ما اخضر من ثمارهم وزرعهم ، وأرسل عليهم القمل وهي صغار الذر (كالدودة) التي تأتي عندنا اليوم فتأكل البرسيم وباقى الزرع في لحظة وأرسل عليهم الضفادع وجعل ماءهم كالدم.
كل ذلك آيات مفصلات واضحات ، لا تخفى على عاقل أنها من عند اللّه وأنها عبرة ونقمة لهم ، وهذه آيات دالة على صدق موسى إذ قد توعدهم بوقوعها على وجه التفصيل لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل التآويل ، وهذا معنى آياتٍ مُفَصَّلاتٍ.
أما هم فاستكبروا وعاندوا ولم يعتبروا بعد هذا كله ، وكانوا قوما مجرمين.
وهذه الآيات تشير أولا إلى ربط الأسباب بالمسببات على حسب مشيئته تعالى.
وثانيا إلى أن الآفات التي تصيب الزرع فتهلكه والثمر فتنقصه هذا كله بسبب أعمال الناس فمن أعمالنا سلط علينا ، وما الآفات التي يرسلها اللّه كل عام علينا ببعيدة ، وحذار أن تقولوا : نحن لا نستحق هذا ، فاعتبروا يا أولى الأبصار ، وفقنا اللّه للخير.
عاقبة الكفر وخلف الوعد [سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 136]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)(1/755)
ج 1 ، ص : 756
المفردات :
الرِّجْزُ : العذاب الشديد الذي يضطرب له الناس. يَنْكُثُونَ : ينقضون العهد ، والنكث في الأصل ، نقض الغزل ، ثم استعمل في نقض العهد. الْيَمِّ :
البحر ، سمى بذلك لأنه مقصود ، والتيمم : القصد.
المعنى :
ولما وقع عليهم ذلك العذاب الشديد الشامل لكل نقمة من النقم الخمس السابقة قالوا يا موسى : ادع لنا ربك بسبب ما عهده عندك من النبوة والرسالة والكرامة والمحبة ، ونحن نقسم لك لئن كشفت عنا ذلك الرجز لنؤمنن لك ولنصدقن بك وبرسالتك ولنرسلن معك بنى إسرائيل إلى أرض الميعاد.
فلما كشفنا عنهم العذاب وأزلنا عنهم هذا العقاب ، إلى أجل محدود هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلول ذلك اليوم .. إذ هم ينكثون ، وينقضون العهد من بعد ميثاقه.
وقد ورد أنهم كانوا يمكثون في العذاب الواحد من الطوفان والجراد ... إلخ أسبوعا ثم يسألون موسى الدعاء برفعه ، ويعدونه بالإيمان وإرسال بنى إسرائيل ثم ينكثون العهد وينقضونه.
ولما حان الأجل المضروب انتقمنا منهم فأغرقناهم في البحر ، وذلك بسبب تكذيبهم بالآيات كلها التي نزلت عليهم ، وكانوا غافلين عما يعقبها من العذاب في الدنيا والآخرة.
هذا لأكثرهم ، وبعضهم آمن ، وبعضهم كان يكتم إيمانه.(1/756)
ج 1 ، ص : 757
من نعم اللّه على بنى إسرائيل [سورة الأعراف (7) : آية 137]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)
المفردات :
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا المراد : جميع جهاتها ، والأرض هي أرض الشام ومصر. كَلِمَتُ رَبِّكَ : وعده لهم. دَمَّرْنا الدمار : الهلاك والخراب.
يَعْرِشُونَ : يبنون.
ما تقدم كان جزاء فرعون وملئه وهكذا جزاء الظالمين!! وما هنا عاقبة المؤمنين الصابرين من بنى إسرائيل.
المعنى :
وأورثنا القوم من بنى إسرائيل الذين كانوا يستضعفون بقتل أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، وإسامتهم سوء العذاب ، أورث اللّه هؤلاء المستضعفين الأرض التي باركنا فيها بالخصب والنماء ، وكثرة الخيرات والأمطار. أورثناهم مشارقها من حدود الشام ومغاربها من حدود مصر ، وتمت كلمة ربك الحسنى ، وتحقق وعده الأسمى : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ « 1 » وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وهكذا نتيجة الصبر ، وحسن تلقى الأمر ، أما من يخلعه جزعه ، ويهلكه هلعه فتكون عاقبة أمره خسرا.
___________
(1) سورة القصص الآيتان 5 و6.(1/757)
ج 1 ، ص : 758
ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المبانى والقصور ، والعمارات والدور ، وما كانوا يقيمون من العرائش والسقف في الجنات والبساتين ، وهكذا من يقوم وقلبه عامر بالإيمان ، وروحه مليئة باليقين والإسلام ، يقوم ضد عدو اللّه ولو كان فرعون مصر صاحب الحول والطول والجند والحشم والمال والخدم ، يقوم للّه ولإزالة الفساد والطغيان فاللّه معه وناصره ومؤيده.
وقد كان موسى وهارون ومن معهما كذلك إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وما حوادث الانقلاب التي مرت بنا ببعيدة!!.
نعم اللّه على بنى إسرائيل وما قابلوها به [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
المفردات :
وَجاوَزْنا جاز الشيء وجاوزه وتجاوزه : عداه وانتقل عنه. يَعْكُفُونَ عكف يعكف على الشيء : أقبل عليه ولازمه تعظيما له. أَصْنامٍ جمع صنم ، وهو(1/758)
ج 1 ، ص : 759
ما يصنع من خشب أو حجر أو معدن أو عجوة رمزا لشيء حقيقى أو خيالي ليعظم تعظيم العبادة ، والتمثال لا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقى ، فإن عبد فهو صنم.
مُتَبَّرٌ التبار : الهلاك. باطِلٌ : هالك وزائل لا بقاء له.
المعنى :
أنعم اللّه على بنى إسرائيل نعما لا تحصى حيث نجاهم من فرعون وملئه ، وأهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وجاوز بهم البحر آمنين ، وأغرق فرعون وقومه ، ومع هذا لم يقابلوا النعم بما يجب من الشكر والطاعة ، بل قابلوها بالكفر والعصيان ، وهكذا كان اليهود قديما وحديثا ، وفي هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ، أى : تجاوزوه بعناية اللّه ورعايته حتى كأن اللّه معهم بذاته ، فلما انتقلوا عنه ورأوا قوما « قيل : من العرب ، وقيل : من غيرهم » عاكفين على أصنام لهم ومقبلين عليها ومعظمين لها تعظيم العبادة والتقديس.
قالوا يا موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، وهذا الطلب منهم دليل على أن تقديس الأصنام وعبادة غير اللّه كانت متأصلة في نفوسهم وفيهم حنين لها ، وهذا شأن من دخل في دين اللّه حديثا.
ولقد رد موسى على من طلب منه هذا الطلب بقوله :
إنكم قوم تجهلون ما يجب للّه - سبحانه - من صفات التقديس والكمال ، وتجهلون حقيقة التوحيد الخالص له سبحانه ، وأنه ليس في حاجة إلى شفيع أو واسطة ، بل هو أقرب إلى عبده من حبل الوريد ، وتجهلون حقيقة الرسالة بدليل طلبكم منى هذا!! إن هؤلاء القوم العاكفين على أصنامهم مقضىّ على ما هم فيه بالهلاك والتبار ، إذ إنها لا تنفع أبدا ولا تضر ، وباطل عملهم في الدنيا والآخرة ، وفي تعبير القرآن إشارة إلى أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك ، وأن عملهم هذا إلى زوال ، أو في هذا بشارة بزوال عهد الوثنية من تلك الأرض ، قل لهم يا موسى : أغير اللّه خالق السموات والأرض المنعم عليكم بهذه النعم أأطلب لكم إلها غيره ؟ !! إن هذا لشيء عجيب.
وكيف تطلبون هذا وهو فضلكم على عالمي زمانكم.(1/759)
ج 1 ، ص : 760
واذكروا وقت أن أنجيناكم من آل فرعون ، وأنقذناكم من ذل العبودية ونار الاستعمار ، وأنهم كانوا يسومونكم العذاب السيئ : يقتلون أبناءكم الذكور ويتركون نساءكم أحياء ، وفي ذلكم المذكور من الإنجاء من فرعون وعمله ، والإنعام عليكم بهذه النعم بلاء واختبار من ربكم عظيم ، والمراد بذكر الوقت ذكر ما حصل فيه حتى يشكروا اللّه - سبحانه - ويخصوه وحده بالعبادة والتقديس.
رؤية اللّه ونزول التوراة [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 145]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)(1/760)
ج 1 ، ص : 761
المفردات :
مِيقاتُ رَبِّهِ : الوقت المحدد لعمل من الأعمال كمواقيت الصلاة والصوم.
اخْلُفْنِي : كن خليفتي فيهم. تَجَلَّى رَبُّهُ : انكشف وظهر نوره.
دَكًّا : مدكوكا. صَعِقاً : مصعوقا مغشيا عليه. أَفاقَ : رجع إليه عقله. بِقُوَّةٍ : بعزيمة ونشاط.
المعنى :
ذكر المفسرون أن موسى - عليه السلام - وعد بنى إسرائيل إذا أهلك اللّه عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون ، وما يذرون ، فلما أهلك فرعون سأل موسى ربه أن ينزل الكتاب الموعود فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها ، فلما تمت أنكر موسى رائحة فمه فاستاك ، فأمره اللّه أن يصوم عشرا وأن يلقى اللّه صائما فتلك هي الأربعون ليلة التي ذكرت في البقرة مجملة وذكرت هنا مفصلة.
ضرب اللّه - تعالى - موعدا لموسى لمكالمته فيه ، وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة ، وقال موسى لأخيه هارون : كن خليفتي في القوم مدة غيابى عنهم ، وعليك بإصلاح نفسك وخاصتك ، وأهل مشورتك ، وعملك وحكمك لتكون من الصالحين للخلافة ، وإياك أن تتبع رأى أهل الفساد والضلال ، هذه هي سبل النجاة للحكام.
ولما جاء موسى للوقت المحدود ، وكلمه ربه بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة استشرفت نفسه للجمع بين فضيلة الكلام والرؤية ، فقال : رب أرنى ذاتك المقدسة ، واجعلنى متمكنا منها بأن تتجلى لي فأنظر إليك. قال اللّه : لن تراني الآن ولا في المستقبل إذ ليس لبشر ما أن يطيق النظر إلى في الدنيا
« حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره) ما انتهى إليه بصره من خلقه » حديث شريف.
ثم أراد المولى أن يخفف عليه الأمر ، وأنه لا يطيقها فقال مستدركا : ولكن انظر إلى الجبل الذي يرجف بك ، ويضطرب كيف أفعل به ؟ وكيف أجعله مدكوكا ... ، فإن(1/761)
ج 1 ، ص : 762
استقر مكانه وثبت عند التجلي الأعظم عليه فسوف تراني إذ هو مشارك لك في الوجود ، وإذا كان الجبل في قوته وثباته لم يقو على الثبات فكيف بك يا موسى ؟
فلما تجلى ربه للجبل ، وانكشفت بعض آياته له جعله دكا مدكوكا ، وخر موسى من هول ما رأى مصعوقا ، فلما أفاق من غفوته ، وصحا من رقدته قال : سبحانك يا رب وتنزيها لك وتقديسا ، إنى تبت إليك من سؤالى ، وقيل : تبت إليك من الجرأة والإقدام على السؤال بلا إذن ، وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك.
ثم أراد المولى أن يطيب خاطره ويبين له مكانته فقال :
يا موسى إنى اصطفيتك على الناس الموجودين معك برسالتي ونبوتي ، وخصصتك بكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين القانعين ، ولا تطلب ما ليس لك.
وكتبنا له في الألواح من كل شيء مما يحتاجون له من أمور دينهم ، موعظة مؤثرة وهداية نافعة ، وتفصيلا لأحكام الشريعة.
وهل هذه الألواح هي كل ما أوتيه أو بعضه ؟ وهل كان عددها عشرا أو أقل ؟ اللّه أعلم بذلك.
فخذها بقوة ، واقبلها بجد ونشاط ، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها فلكل درجات ومراتب ، فمثلا هناك عفو وقصاص وصبر وانتصار ... إلخ فليأخذوا بالعفو والصبر وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ. سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ كعاد وثمود ، أو قوم فرعون ، وقيل : سترون عاقبة من يخرج من طاعتي!!! ورؤيا اللّه - سبحانه وتعالى - كانت ولا تزال مثار خلاف وجدل لتعارض النصوص فيها. مثلا لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ، لَنْ تَرانِي مع قوله : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ والأحاديث الصحيحة الكثيرة.
ولذا قال بعضهم : إن الرؤية محال ، وبعضهم قال : إنها جائزة ، وينبنى على هذا طلب موسى للرؤية. هل كان للرد على من طلب من قومه بالدليل لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وعلى هذا فطلبه خارج ، ولذا تاب وأناب ، وقيل : إنها جائزة ، والتوبة من التعجل بالسؤال ، وعلى العموم فهذا بحث مبسوط في كتب التوحيد وكتب التفسير المطولة.(1/762)
ج 1 ، ص : 763
وجمهرة العلماء على أن رؤيا العباد لربهم في الآخرة حق واللّه أعلم بكتابه.
وتشير الآية إلى أن الواجب على أصحاب الشرائع أن يأخذوها بجد ونشاط وينفذوا أحكامها كلها متبعين أحسن السبل وأفضلها ، وأن الأمة تكون عزيزة الجانب ما دامت متمسكة بدينها ، عادلة في أحكامها ، حتى إذا خرجت من دينها وظلمت في أحكامها انهارت وضاعت ، انظروا إلى بنى إسرائيل كيف كانوا وما آل إليه أمرهم!!
السبب الحقيقي للكفر غالبا [سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
المفردات :
يَتَكَبَّرُونَ الكبر : غمط الحقوق وعدم الخضوع لها ، ويصحبه احتقار الناس غالبا. الرُّشْدِ الرشد والرشاد : الصلاح والاستقامة ، وضده الغي والفساد.
المعنى :
يبين اللّه - سبحانه وتعالى - سبب الطغيان والكفر ، والظلم والفساد ، فيقول ما معناه : سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتي ، وعن اتباع رسلي ، المتعالين على غيرهم بغير حق ، سأصرفهم عن الإيمان بآياتى ، وأمنعهم من فهم الأدلة والحجج الدالة على(1/763)
ج 1 ، ص : 764
عظمتي ، وما في شرعي من الهدى والنور ، فالتكبر والكبر مرض نفسي خطير ينشأ من مركب النقص عند ضعفاء العقول والأفهام ، ويجعل صاحبه في صندوق محكم لا يصل إليه نور أبدا ولا خير أبدا لأنه يفهم في نفسه أنه كبير ، وأنه لا يحتاج إلى شيء ، وهذا معنى صرفهم عن الآيات ، أى : يطبع اللّه على قلوب المتكبرين بحيث لا يفكرون في الآيات ولا يعتبرون بها لإصرارهم على التكبر فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ « 1 » وقد منع اللّه قوم فرعون عن فهم الآيات لأنهم متعالون ظالمون متكبرون وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا « 2 » وهكذا يا محمد كفار قريش صرفهم الكبر والغرور عن النظر في الآيات ، ألم يقولوا :
لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ « 3 » فلا تأس عليهم ولا تحزن لهم ، هؤلاء المتكبرون من صفاتهم أنهم لا يؤمنون بأى آية تدل على الحق وتثبته إذ الآيات تفيد من نفس مستعدة للفهم وتقبل الحق ، وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد ، ولا يختارون إلا الغي والفساد ، بل إن يروا سبيل الغي سارعوا إليه وانغمسوا فيه. وما ذلك كله إلا لأنهم كذبوا بآياتنا ، وكانوا عنها غافلين.
والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى فلم يؤمنوا ولم يهتدوا ، وكذبوا بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب ، أولئك تحبط أعمالهم وتذهب سدى ، لأنهم اتبعوا أنفسهم وشياطينهم ، وتركوا أمر اللّه وراءهم ظهريا فكانت أعمالهم هباء منثورا ، وهل يجزون إلا بما كانوا يعملون!!!
قصة عبادتهم العجل وموقف موسى [سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 154]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
___________
(1) سورة الصف آية 5.
(2) سورة النمل آية 14.
(3) سورة الزخرف آية 31.(1/764)
ج 1 ، ص : 765
المفردات :
حُلِيِّهِمْ مفردة : حلى ، وهو ما يتخذ للحلية من ذهب أو فضة.
عِجْلًا : هو ولد البقرة. خُوارٌ : صوت البقر ، كالرغاء للإبل. أَسِفاً الأسف : الغضب الشديد ، أو الحزن ، والأسيف : الشديد الغضب. أَعَجِلْتُمْ عجل عن الأمر : تركه غير تام ، وأعجله عنه غيره : حمله على تركه ناقصا.
الْأَلْواحَ مفردة لوح ، وهو ما كتب في التوراة.(1/765)
ج 1 ، ص : 766
غضب المراد : ما أمروا به من قتل أنفسهم. وَذِلَّةٌ : خروجهم من ديارهم وهوانهم على الناس. نُسْخَتِها : ما نسخ وكتب منها. يَرْهَبُونَ الرهبة : الخوف الشديد.
المعنى :
داء التقليد يسرى في الأمة كما يسرى في الفرد من حيث لا يشعر ، وبنو إسرائيل عاشوا مع المصريين دهرا طويلا وهم يعبدون الأصنام والأوثان من شمس وغيرها ولذلك كلما سنحت فرصة خاطفة عادوا إلى ما كانوا عليه ، فمرة يقولون : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، وقد مضى ذلك. وهنا عند ما فارقهم موسى لمناجاة ربه اتخذوا من حلى القبط التي استعاروها منهم. اتخذوا عجلا ذا جسد ، وله خوار ، اتخذوه إلها لهم ، والذي اتخذه واحد منهم هو السامري ، وإنما نسب إليهم جميعا لأنه عمل برأى جمهورهم ، ولم يحصل منهم إنكار عملي فكأنهم مجمعون عليه.
وقد اختلف المفسرون في ذلك العجل ، هل له لحم ودم وخوار حقيقة ؟ أم هو تمثال من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر. الرأى الأول لقتادة والحسن البصري وغيره ، وتعليله أن السامري أخذ قبضة من أثر فرس جبريل فنبذها في جوف التمثال فحلت فيه الحياة وأصبح جسدا ذا روح وله خوار ، ويؤيد هذا ظاهر القرآن الكريم.
والرأى الثاني أنه تمثال خواره بسبب الريح الذي يدخل فيه بكيفية فنية عملها السامري.
وهاك الرد على من اتخذ العجل إلها : ألم يروا أن هذا الإله لا ينطق ، ولا يكلمهم بواسطة رسول كموسى ، ولا هو يهديهم إلى خير أبدا ؟ فهل يعقل أن يكون هذا إلها ؟ !! والإله الحق هو اللّه - سبحانه وتعالى - لو كان البحر مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته ، وهو الهادي إلى الخير والرشاد بما ركب من العقول ، وبما أرسل من رسل.
اتخذوه بلا دليل ولا برهان ، بل عن جهل وتقليد وهكذا كانوا ظالمين في كل أعمالهم.
ولما تبين لهم وجه الحق ندموا ندما شديدا ، وازدادت حسرتهم لما فرطوا في جنب اللّه(1/766)
ج 1 ، ص : 767
وسقط في أيديهم ، وهذا تعبير لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب قبل هذا ، وهو كناية عن الندم والحسرة ، وذكرت اليد ، وإن كان الندم في القلب لأن أثره يظهر فيها بعضّها أو بالضرب بها على أختها فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها [الكهف 42].
ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل قالوا : لن يسعنا بعد هذا إلا رحمة ربنا ومغفرته ، فقد وسعت كل شيء ، وإن لم يغفر لنا ربنا لنكونن من الخاسرين في الدنيا والآخرة.
هذا ما حصل من موسى بعد رجوعه إثر بيان ما حصل من قومه في غيابه.
ولما رجع موسى إلى قومه بعد غيابه في الطور للمناجاة ، ورجع غضبان شديد الأسف والحزن قال : بئسما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل واتبعتم السامري ، وتركتم عبادة اللّه ، فالخطاب للسامري وأشياعه ، ويجوز أن يكون الخطاب للكل ، والمعنى : بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم ، فقد كان موسى في خلافته شديد الشكيمة قوى العزيمة ، لقنهم التوحيد الخالص ، وردهم حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كغيرهم.
أما هارون فقد رأى موسى منه أنه لين العريكة غير حازم في أمره فظن به الظنون.
قال موسى : أعجلتم أمر ربكم ؟ قال الزمخشري : المعنى : أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظاري حافظين للعهد ، ولما وصيتكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره عند تمام الثلاثين ليلة ، ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم وغيرتم عقائدكم كما غيرت الأمم بعد موت أنبيائها. وكان من أمر موسى أن ألقى الألواح ، وطرحها من يده وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه ظنا منه أنه قصر في خلافته له ، ولم يكن مثله مع أن حق الخليفة أن يتتبع سيرة سلفه قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟ [سورة طه الآيتان 92 و93].
قال هارون : يا ابن أمّ إن القوم استضعفوني ولم يسمعوا لكلامي وهموا بقتلى ، فيا ابن أمّ لا تجعلهم يشمتون بي من كثرة اللوم والتقريع ، ولا تجعلني في عداد الظالمين.
قال موسى : رب اغفر لي ما عساه فرط منى من قول أو فعل فيهما غلظة وجفوة(1/767)
ج 1 ، ص : 768
لأخى ، واغفر لأخى ما عساه أن يكون قد فرط في خلافته لي ومؤاخذته القوم حين ضلوا.
وأدخلنا في رحمتك الواسعة وأنت أرحم الراحمين ، وقد دعا موسى بهذا ليظهر لمن شمت في أخيه أنه راض عنه ، وليرضى أخوه عنه ويزيل ما في نفسه إن كان ...
والآية صريحة في أن هارون برىء من اتخاذ العجل إلها ، وأنه لم يقصر في وعظهم ، وقد غفر اللّه له ، وهذا بخلاف ما في التوراة من أن هارون هو الذي صنع العجل لهم واتخذه إلها.
إن الذين اتخذوا العجل بعد ما غاب عنهم رسولهم موسى - عليه السلام - من بنى إسرائيل كالسامرى وأشياعه. سيصيبهم غضب شديد من ربهم فلا تقبل توبتهم إلا بقتل أنفسهم فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة آية 54] هذا في الدنيا ، وأما الغضب في الآخرة فلا يعلمه إلا هو.
وسينالهم ذلة في الحياة الدنيا بخروجهم من أوطانهم ، وتهالكهم على حب الدنيا ، وهوانهم على الناس ، إذ هم الماديون الأنانيون المطرودون في كل أمة ، أليست هذه هي الذلة في الدنيا بأعظم معانيها ؟ ! ولا يغرنكم ما هم فيه في فلسطين الجريحة فإن ذلك سحابة صيف عن قريب ستنقشع غيومها ، فاللّه صادق في قوله : ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [سورة البقرة آية 61] بكل معانيها القريبة والبعيدة.
وأملنا في اللّه - سبحانه وتعالى - أن يهيّئ للمسلمين جميعا وللعرب خاصة الظروف التي بها يطردون اليهود المغتصبين لفلسطين حتى لا تقوم لهم دولة.
ومثل ذلك الجزاء الذي نزل على الظالمين من بنى إسرائيل نجزى القوم المفترين الظالمين.
وهاكم القانون العام السمح حتى لا ييأس مذنب أسرف على نفسه فإنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون.
والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها توبة نصوحا خالصة لوجه اللّه مع العمل(1/768)
ج 1 ، ص : 769
الصالح والإيمان الكامل فأولئك يتوب اللّه عليهم. إن ربك من بعدها هو الغفور الرحيم.
يقول الكشاف في قوله تعالى : وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ هذا مثل ، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك : بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [الأعراف 150] وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك ، ولمه على ما فعل في جفوة ، ثم ترك الغضب النطق بذلك وقطع الإغراء ، وفي هذا من البلاغة ما فيه حيث شبه الغضب برجل وجعل دليل ذلك قوله سَكَتَ وهذه من عيون الاستعارات القرآنية.
ولما سكت عن موسى الغضب وهدأت ثائرته أخذ الألواح التي كتبت فيها التوراة ، وفيها هدى لكل حائر ، ورحمة لكل مذنب من الذين يرهبون ربهم ، ويخشون عذابه وحسابه.
ما حصل لموسى أثناء المناجاة [سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)(1/769)
ج 1 ، ص : 770
المفردات :
الرَّجْفَةُ : الصاعقة التي تزلزل القلوب والأبدان. حَسَنَةً المراد : صحة وعافية ، وغنى عن الناس ، واستقلالا في الدولة. هُدْنا : رجعنا وتبنا.
المعنى :
ذكر المفسرون أن اللّه قد أوحى إلى موسى أن يختار سبعين رجلا من بنى إسرائيل ويصطفيهم ، ويأتى بهم إليه وقد اختلفوا هل كان هذا عقب عبادتهم العجل ليتوبوا ؟
أو كان هذا عقب طلب موسى للرؤية.
فاختار موسى سبعين رجلا لميقاتنا ، وأمرهم أن يصوموا ، وأن يتطهروا ثم خرج بهم إلى طور سيناء ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله وقال للقوم : ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا ، وسمعوا المولى - جل شأنه - وهو يكلم موسى بأمره ونهيه : افعل ولا تفعل ، ثم انكشف الغمام ، فأقبلوا على موسى وطلبوا منه الرؤية ، قيل : لم يصدقوا أن الذي أمرهم بقتل أنفسهم هو اللّه حتى يروه ، فوعظهم موسى وزجرهم ، فقالوا : يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة. فقال : رب أرنى أنظر إليك ، قال : لن تراني ، وبعض العلماء يقول : طلب موسى الرؤية مع علمه بعدم إمكانها ليسمعوا الرد فيكون هذا أبلغ من الرد عليهم ، ولذا أجيب بلن تراني. ورجف بهم الجبل وصعقوا حينما ألحوا في طلب الرؤية ، ولما أخذتهم الرجفة قال موسى : رب لو شئت أهلكتهم من قبل هذا حينما عبدوا العجل ، وقيل :
حين طلب الرؤية وأهلكتنى معهم كذلك قبل أن أرى ما رأيت!! قال موسى : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ حيث طلبوا الرؤية لك جهارا قياسا منهم على سماع كلامك وهو قياس فاسد .. وقيل : ما فعله السفهاء هو عبادة العجل.
ما هي إلا فتنتك وابتلاؤك حين كلمتنى فسمعوا كلامك وطلبوا الرؤية ، تضل بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك ، ولست ظالما لهم أبدا بل هذا موافق لطبعهم ، وتهدى بها من تشاء من عبادك الثابتين المؤمنين ، وهذا موافق لطبعهم واللّه أعلم بعباده ، فلو تركوا وشأنهم لاختار كل منهم ما هو فيه ، وما قدر له ، أنت ولينا يا رب فاغفر لنا(1/770)
ج 1 ، ص : 771
وارحمنا ، واستر عيوبنا برحمتك ، يا أرحم الراحمين ، وأنت خير الغافرين ، تغفر الذنوب وتعفو عن السيئات بلا سبب ولا علة ، لأن رحمتك وسعت كل شيء واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة هي نعمة الصحة والعافية والرزق الحسن والتوفيق في العمل والاستقلال في الدولة ، واكتب لنا في الآخرة حسنة هي نعمة الثواب الجزيل والعطاء الكثير.
إنا عدنا إليك ، وتبنا ، ورجعنا إلى حظيرة الإيمان بالعمل لا بالقول فقط.
قال اللّه : إن رحمتي سبقت غضبى ، وإن عذابي أصيب به من أشاء من عبادي المسيئين لأنفسهم بالعمل الفاسد. وفي قراءة : إن عذابي أصيب به من أشاء.
وأما رحمتي ونعمتي وفضلي فقد وسعت كل شيء في الكون ، وسعت الكافر والعاصي ، والمسلم واليهودي وعابد العجل ... إلخ وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ « 1 » فسمائى تظلهم ، وأرضى تقلهم ، وبرزقي يعيشون ، وبخيرى يتمتعون ، وأنا أدعوهم دائما إلى الصراط المستقيم ، ومع ذلك كله فبعضهم خارجون عن ديني.
فإذا كان الأمر كذلك من إصابة عذابي من أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها كما دعوت يا موسى ، أى : أثبتها خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي للذين يتقون اللّه في كل شيء ويؤتون الزكاة ، وخصت بالذكر لأنه يخاطب قوما ماديين نفعيين مانعين للزكاة ، وسأكتبها كتابة خاصة للذين هم بآياتنا كلها يؤمنون.
محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ورسالته ، والمؤمنون به [سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 158]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
___________
(1) سورة النحل آية 61.(1/771)
ج 1 ، ص : 772
المفردات :
الْأُمِّيَّ : الذي لا يقرأ ولا يكتب. إِصْرَهُمْ الإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه ، أى : يحبسه عن الحركة لثقله. الْأَغْلالَ : جمع غلّ وهو الحديد الذي يجمع بين يد الأسير وعنقه ، والمراد : التكاليف الشاقة.
المعنى :
سأكتب رحمتي الواسعة للذين يتقون ويؤتون الزكاة ، وسأكتبها كتابة خاصة للذين هم بآياتنا كلها يؤمنون ، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمى ، وهذه الأوصاف تنطبق على محمد المفرد العلم فهو رسول ونبي أمى ، وقد كان أهل الكتاب يصفون العرب بأنهم أميون لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [سورة آل عمران آية 75].
وقد وصفه القرآنالكريم ووصف رسالته بأوصاف :
1 - النبي الأمى ، وفي هذا الوصف إشارة إلى كمال صدقه حيث أتى بالقرآن المعجز(1/772)
ج 1 ، ص : 773
في أخباره وقصصه وحكمه وأصوله العامة في السياسة والاجتماع والدين ، مع أن من نزل عليه أمى بين أميين!! يا سبحان اللّه!!! 2 - وهو محمد الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. فبشارته وصفته وزمانه في التوراة والإنجيل ، وقد عرفوا ذلك كله كما يعرفون أبناءهم أو أكثر ، وآمن به بعض علمائهم الأحرار من اليهود كعبد اللّه بن سلام ، ومن النصارى كتميم الداري - رضى اللّه عنهم جميعا - وفي كتاب (إظهار الحق) لعالم هندي تحقيق لهذا الموضوع لمن أراد الزيادة.
3 ، 4 - أنه يأمرهم بالمعروف شرعا ، وهو ما تعرفه العقول الرشيدة ، ولا تنكره الطباع السليمة وهو ينهاهم عن المنكر شرعا وهو ما تنكره النفوس الأبية الكاملة في العقل والسمو الروحي : وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ. [سورة النحل آية 36].
5 - يحل لهم الطيبات التي تستطيبها الأذواق السليمة من الأطعمة الحلال كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [سورة الأعراف آية 160].
6 - ويحرم عليهم الخبائث مما تأباه النفوس السليمة كالميتة والدم المسفوح ، ويأباه العقل الراجح كالخنزير خصوصا عند ما عرّفنا الطب أنه يولد الدودة الوحيدة في جسم من يأكله.
7 - وقد وضع عنهم التكاليف الشاقة التي تأصرهم وتثقل عليهم والأغلال التي كانت في أعناقهم كقتل النفس عند التوبة وقطع مكان النجاسة ... إلخ ، فدينه اليسر ، وشريعته السمحة السهلة ، والحنيفية البيضاء.
فالذين آمنوا به وبرسالته وحموه ونصروه مع الإجلال والإكبار واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك البعيدون في درجات الكمال المتميزون على غيرهم هم المفلحون حقا ، ويدخل في ذلك دخولا أوليا قوم موسى - عليه السلام - الذين ينطبق عليهم هذا الوصف العام.
ذكر العلامة أبو السعود أنه لما حكى ما في الكتابين التوراة والإنجيل من نعوت المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم وشرف من يتبعه من أهلها ونيلهم السعادة في الدارين ، أمر صلّى اللّه عليه وسلّم ببيان(1/773)
ج 1 ، ص : 774
أن تلك السعادة غير مختصة بهم بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من يكون وذلك ببيان عموم رسالته.
قل يا محمد لجميع البشر من كل جنس ولون ، وفي كل وقت وزمن : إنى رسول اللّه إليكم جميعا وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ « 1 » ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً « 2 » ، ولقد ثبت في الصحيحين في حديث خصوصياته ، « وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة »
صلّى اللّه عليه وسلّم.
إنى رسول اللّه الذي له الملك التام ، والتصريف الكامل في السموات وعوالمها ، والأرضين وما فيها يدل على وحدة الصانع ؟ وكمال قدرته وتمام علمه وحكمته.
هو اللّه ، لا معبود بحق في الوجود إلا هو ، أما غيره فوهم وخيال ، وخرافات لا تليق بعاقل ، إذ هو الذي يحيى كل حي ، ويميت كل ميت ، بيده الحياة والموت ، وله الأمر كله - سبحانه وتعالى - وأنت ترى أن اللّه وصف نفسه بثلاث : هو المالك المتصرف في الملكوت ، والمعبود بحق في الوجود ، خالق الحياة والموت.
ومن كان كذلك وقد أرسل رسولا ومعه البرهان على رسالته وصدقه. فيجب أن تؤمنوا به أيها الناس فهو الرب الواحد القهار الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وآمنوا برسوله حيث قامت الأدلة على صدقه ، الرسول النبي الأمى ، آمنوا به يؤتكم كفلين (نصيبين) من رحمته ، ويجعل لكم نورا تمشون به ، ويغفر لكم ، فهو النبي الذي يعلمكم الكتاب والحكمة ويرشدكم إلى الخير والفلاح ، ويطهركم من الخرافات والرجس والأوثان والشرك والضلال ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ، المبشر به كل الكتب ، دينه الإسلام السمح السهل الصالح لكل زمان ومكان.
وهو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الذي يؤمن باللّه إيمانا كاملا لا شبهة فيه أبدا ، ويؤمن بكلماته المنزلة على رسله جميعا التي هي مظهر قدرته وحكمته - سبحانه وتعالى - واتبعوه كذلك في كل ما يأتى ويذر من أمور الدين رجاء اهتدائكم وتوفيقكم.
فيا أيها المسلمون : هذه هي نصيحة القرآن وكلمته اتبعوه لعلكم تهتدون ، واللّه لا هدى إلا في القرآن ، ولا خير إلا في الدين ، وعلى قدر قربنا منه واتباعنا له يكون فلاحنا ونجاحنا في الدنيا والآخرة.
___________
(1) سورة الأنعام آية 19.
(2) سورة سبأ آية 28.(1/774)
ج 1 ، ص : 775
من نعم اللّه على بنى إسرائيل [سورة الأعراف (7) : الآيات 159 الى 162]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
المفردات :
يَهْدُونَ : يرشدون ويدلون. يَعْدِلُونَ : يحكمون بين الناس بالعدل.
قَطَّعْناهُمُ : صيرناهم قطعا وفرقا. أَسْباطاً : جمع سبط ، وهو عندهم(1/775)
ج 1 ، ص : 776
كالقبيلة في ولد إسماعيل ، والسبط : ولد الولد ، وجعله ولد البنت أمر عرفي.
فَانْبَجَسَتْ : انفجرت ، بمعنى انفتحت بسعة وكثرة. وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ : جعلنا الغمام يظللهم في التيه ، والغمام : سحاب رقيق. الْمَنَّ : شيء أبيض حلو كالعسل ، والسَّلْوى : طير سماني.
المعنى :
هذه شهادة الحق - سبحانه وتعالى - الذي أمرنا بالقسط ، وقد شهد لقوم موسى بأن منهم جماعة عظيمة تهدى بالحق ، وترشد إلى الخير ، وتوصل إلى سواء السبيل ، وتحكم بين الناس بالعدل الذي أمر اللّه به.
وهاكم بعض النعم التي أنعم اللّه بها على بنى إسرائيل ولم يقابلها بعضهم بالشكر وصيرناهم ، أى : قوم موسى الذين منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ، صيرناهم قطعا وفرقناهم اثنتي عشرة فرقة ، كل فرقة لها ميزة خاصة ، ونظام خاص بها وتسمى جماعة.
وأوحينا إلى موسى وقت أن طلب من قومه السقيا وقد لحقهم العطش في التيه ، أوحينا إليه أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه مع السرعة والسعة والكثرة اثنتا عشرة عينا بقدر أسباطهم ، كل سبط له عين خاصة به ، وقد علم كل جماعة منهم مشربهم.
وإذا أصابهم الحر الشديد في الصحراء المحرقة جعلنا الغمام يظلهم بظله الظليل رحمة منا وشفقة عليهم.
وأنزلنا عليهم طعاما شهيا بلا تعب ولا مشقة ، يقيهم شدة الجوع وغائلته ، هذا الطعام هو المن والسلوى.
ثم قيل لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم ، وما متعناكم به ، ولكنهم جاروا واعتدوا ، ولم يقوموا بواجب الشكر ، وما ظلمونا بهذا أبدا ، ولكن أنفسهم فقط كانوا يظلمون ، ومن ظلم نفسه وإن لم يعرف فظلمه لغيره أكثر ، وفي الحديث القدسي : « يا عبادي :
إنى حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعونى »
.(1/776)
ج 1 ، ص : 777
تقدم مثل هاتين الآيتين في البقرة آية 58 ، 59 ، فالموضوع واحد والصياغة مختلفة اختلافا يدل على كمال الإعجاز الذي حير الألباب وزلزل العقول ، إذ البلاغة : إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة ، فهنا قال : اسكنوا بدل ادخلوا وكلوا بدل فكلوا ، وحذف هنا رغدا ، وعكس الترتيب قُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وهناك قال : خَطاياكُمْ بدل خَطِيئاتِكُمْ وهنا قال : سَنَزِيدُ وحذف الواو ، كل هذا لنسق الكلام ولكمال التعبير ، واللّه أعلم بأسرار كلامه.
فالسكنى أخص من الدخول ولا عكس ، فمن يسكن يدخل قطعا وليس كل من يدخل يسكن ، والدخول لأجل الأكل يعقبه الأكل فجاء هناك بالفاء ، والأكل عقب الدخول مباشرة له لذة ، ولذا أتى هناك بكلمة رغدا. أما من يسكن فقد تقل لذة أكله بل قد تنعدم لمرض أو ألم.
وفي الترتيب لا شيء إذ الواو لا تقتضي ترتيبا ، والمهم أنهم أمروا بالدعاء مع الخضوع والانحناء فسواء تقدم هذا أو تأخر فلا ضرر.
وحذفت الواو هنا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ دليل على أن الموعود به شيئان : المغفرة وزيادة الحسنة ، على معنى أنه قيل : ماذا حصل بعد المغفرة ؟ قيل :
سنزيد المحسنين ، والإرسال كما هنا كالإنزال في المعنى العام وإن أفاد الإرسال كثرة وزيادة ، والظلم والفسق شيء واحد وإن أفاد الأول الاعتداء على الغير والثاني الخروج عن الدين ، وتشير الآيتان إلى أنهما جمعا بين النقيصتين.
فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ، والتبديل : التغيير في القول والفعل فهم لم يعملوا بظاهر القول ولا بحقيقته بل تركوه كله ، هذا هو التبديل ، وبعض العلماء يرى أنهم غيروا لفظا بدل لفظ فقالوا : حبة في شعرة ، أى : حنطة في زكائب من شعر ، بدل قوله تعالى لهم قولوا : حطة.
أيها المسلمون العبرة من هذا القصص أن يفهم جيدا أن اللّه مع خلقه سنة لا تتغير ولا تتبدل ، فالأمة التي تفسق وتظلم نفسها وغيرها وتبتعد عن دستورها وكتابها مآلها أن ينزل اللّه عليها عذابا أليما يضطرب له كل قلب ، وهذا الرجز من السماء قد يختلف ويأتى بأشكال متباينة على حسب الأزمنة والأمكنة.(1/777)
ج 1 ، ص : 778
عاقبة المخالفين وفوز الآمرين بالمعروف [سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)
المفردات :
حاضِرَةَ الْبَحْرِ : قرية قريبة منه. يَعْدُونَ : يعتدون. حِيتانُهُمْ :
سمكهم. شُرَّعاً المراد : ظاهرة على وجه الماء. مَعْذِرَةً : هي العذر ، وهو التنصل من الذنب. بَئِيسٍ : شديد. خاسِئِينَ : صاغرين.
المعنى :
واسألهم يا محمد عن حال أهل القرية التي اعتدى بعضهم يوم السبت ووقف بعضهم موقف الواعظ ووقف فريق آخر موقفا خاصا ، وهكذا الحال في كل أمة شاع فيها الفساد.(1/778)
ج 1 ، ص : 779
أما القرية فاللّه أعلم بها ، وإن قيل : إنها أبلة.
وتلك قصة أخرى ما كان يعرفها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولا قومه ولكنه علمها عن طريق الوحى ، وهذا سؤال تقرير ، أى : قروا بهذا ، والمراد التقريع والتوبيخ على أعمالهم السابقة ، وبيان أن كفر المعاصرين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليس بدعا بل هو موروث.
واسألهم يا محمد عن أهل القرية القريبة من البحر وقت أن اعتدوا على حدود اللّه ، وتجاوزوها يوم السبت - وهو يوم يعظمونه بترك العمل فيه وجعله للعبادة - إذ تأتيهم أسماكهم يوم السبت ظاهرة على وجه الماء ، قريبة لا تحتاج في الصيد إلى عناء ، وفي غير يوم السبت تختفى ولا تظهر.
مثل ذلك البلاء المذكور نبلو السابقين والمعاصرين ، ونعاملهم معاملة من يختبر حالهم ليجازى كلا على عمله ، كل ذلك بسبب ما كانوا يفسقون ويخرجون عن طاعة اللّه.
ظهرت المعاصي جهارا فكان منهم من أنكر عليهم ذلك : واذكر إذ قالت جماعة منهم عظيمة لمن يعظهم وينكر عليهم عصيانهم ، قالت : لم تعظون قوما كهؤلاء قد قضى اللّه عليهم بالهلاك والفناء أو بالعذاب الشديد ؟
قال الوعاظ للائمين : نعظهم حتى نعذر أمام ربكم عن السكوت على المنكر ، ولعلهم يتقون فإذا نوقشنا الحساب يوم القيامة ماذا كان موقفكم عند شيوع المنكرات ؟
نقول : قد فعلنا ما أمرتنا به فنكون بذلك معذورين ، فلما نسى المرتكبون للذنب ما ذكروا به ، وتركوا العمل بالمواعظ حتى كأنهم نسوها ، أنجينا الذين ينهون عن السوء وهما الفريقان فريق الواعظين وفريق اللائمين ، الظاهر - كما قال ابن عباس - أن بعضهم كان ينكر قولا وفعلا وهم الوعاظ ، وبعضهم كان ينكر بقلبه وهم اللائمون.
وأخذنا الذين ظلموا أنفسهم منهم بالمعاصي أخذناهم بعذاب شديد.
والرأى - واللّه أعلم - أن العذاب للفريقين فريق العصاة وفريق اللائمين وإن يكن عذاب الآخرين خفيفا بظاهر الآية ولتعليل النجاة بالنهى عن السوء والنهى كان للواعظين فقط.
أما من يسكت بل ويلوم الوعاظ على العمل والوعظ فهذا ذنب كبير ، اللهم إلا إذا قلنا : إنه ينكر بقلبه ويائس من نصحهم ، واللّه أعلم.(1/779)
ج 1 ، ص : 780
فلما عتوا وبغوا ، وتمردوا وتكبروا ، ولم يصغوا لوعظ الواعظين ، قلنا لهم : كونوا قردة صاغرين أذلاء فهذا عذابهم في الدنيا كما نرى ، وفي الآخرة عذاب شديد ، وهل صاروا قردة حقيقة ، أم أصبحوا كالقردة في الطباع والفساد وعدم التوفيق إلى الخير ؟ !
هكذا اليهود في الدنيا [سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 171]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
المفردات :
تَأَذَّنَ بمعنى آذن ، أى : أعلم ، وهو يفيد العزم على الشيء ، وإيجابه على(1/780)
ج 1 ، ص : 781
النفس لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه به ، ويوجبه عليها ، وأجرى مجرى القسم.
دُونَ ذلِكَ : منحطون عنهم في الدرجة. خَلْفٌ الخلف والخلف : من يخلف غيره مطلقا ، وقيل الخلف للصالح والخلف للصالح. عَرَضَ المراد : المال لأنه عرضة للزوال. دَرَسُوا : قرءوا وفهموا. نَتَقْنَا الْجَبَلَ : رفعناه من أصله. ظُلَّةٌ : كل ما أظلك من سقف أو سماء أو جناح طائر.
المعنى :
واذكر يا محمد إذ أعلم ربك أسلاف اليهود على لسان أنبيائهم أنه كتب عليهم وأوجب على نفسه ليبعثن عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة ، يفرض عليهم الجزية ، ويعطونها عن يد وهم صاغرون ويحاربهم ، ويبدد ملكهم ويفرق شملهم ، حتى يكونوا أذلة مساكين .. والتاريخ يحدثنا أن اليهود ذاقوا الأمرّين بسبب أعمالهم مع اللّه ذاقوا من البابليين ثم من النصارى ثم من المسلمين وفي العصر الحديث لا تنس (هتلر) زعيم ألمانيا الذي أذاقهم سوء العذاب وشردهم في البلاد ، انظر إلى قوله تعالى :
لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. والبعث يفيد القيام فجأة ، ولم يعين مما يبعث ؟
ولا في أى وقت يكون ؟ ولا بأى كيفية يحصل. ولا تغتروا بهم في فلسطين فملكهم عرض زائل قريبا إن شاء اللّه ، فنحن واثقون بكلام اللّه ، قد بدت تباشير الخلاص!! إن ربك لسريع العقاب شديد العذاب وإنه لغفار رحيم بمن عصى ثم تاب من قريب ، فلا يغرنكم باللّه الغرور ، ولا تقنطوا من رحمة اللّه.
أما اليهود فقد كانوا في الدنيا على أسوأ حال عصاة مذنبين دائما ، ولذا حكم اللّه عليهم بهذا ، وفرقناهم في الأرض كلها أمما لا تجمعهم جامعة ، ولا تربطهم رابطة ، منهم الصالحون الذين آثروا الآخرة على الدنيا ، ولم يعتدوا يوم السبت بل ونهوا غيرهم عن ارتكاب الذنوب ، ومنهم دون ذلك ، من هؤلاء غلاة الكفر والفسوق والعصيان واللّه - سبحانه - يعاملهم كما يعامل غيرهم ، يبلوهم بالحسنات علّهم يشكرون ، وبالسيئات علهم يرجعون وينتبهون ، وكان فيهم الخير والشر ... فخلف من بعدهم خلف ، ورثوا كتابهم وهو التوراة والظاهر أنهم هم المعاصرون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم هؤلاء يأخذون عرض هذه الدنيا وحطامها الفاني وظلها الزائل من غير طريق شرعي ، ومع(1/781)
ج 1 ، ص : 782
هذا فقد غرهم باللّه الغرور ، وقالوا : لن تصيبنا النار إلا أياما معدودات إذ نحن أبناء اللّه وأحباؤه.
وإن مكن لهم وصادفهم مال من طريق غير شرعي كالربا أو الرشوة أو ببيع أحكام اللّه أخذوه ولم يتعظوا ولم يتوبوا ، إن تعجب فعجب هذا! ثم رد اللّه عليهم قولهم سيغفر لنا وهم مقيمون على المعاصي فقال :
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ؟ ! وفيه أن الكذب على اللّه من أكبر الكبائر ، وهم قد درسوه وفهموه ، وفيه أن أكل مال الغير حرام ، وأن الاعتداء على الغير بأى لون حرام ، ألم يعلموا أن الدار الآخرة وما فيها خير من الدنيا وما فيها ، وأن الدار الآخرة خير للذين يتقون اللّه ويخافون عذابه ، أعميتم فلا تعقلون أن الآخرة خير وأبقى ؟ ! وليس القرآن متحديا أو متعصبا ، بل الذين يتمسكون بالكتاب وما فيه من أحكام ويقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة سواء كانوا من اليهود أو من غيرهم فسيجازيهم ربهم أحسن الجزاء إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [سورة الكهف آية 30].
واذكر وقت أن رفعنا عليهم الجبل لما أبوا أن يقبلوا التوراة ، فلما رفعناه فوقهم حتى أظلهم ، واضطربت قلوبهم منه ، خروا ساجدين على حواجبهم اليسرى ، وقيل لهم :
خذوا ما آتيناكم بجد ونشاط واذكروا ما فيه دائما واعملوا به دائما رجاء أن تملأ قلوبكم بالتقوى فتصدر أعمالكم موافقة للدين وفي هذا فلاح لكم وخير ...
الميثاق العام المأخوذ على بنى آدم [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)(1/782)
ج 1 ، ص : 783
المفردات :
أَخَذَ : أخرج ، وإنما عبر به لأنه يدل على الاصطفاء والتمييز. مِنْ ظُهُورِهِمْ الظهر : الجزء المهم في جسم الإنسان وهو ما فيه العمود الفقرى.
هذا كلام جديد ، سيق لإلزام اليهود مع غيرهم بالميثاق العام ، بعد أن ألزمهم بالميثاق الخاص ، وللاحتجاج عليهم بالحجج العقلية والسمعية ، ولقطع أعذارهم في التقليد.
المعنى :
واذكر يا محمد وقت أن أخذ ربك من ظهور بنى آدم ذريتهم ، والأخذ من ظهور بنى آدم يلزمه الأخذ من ظهر آدم نفسه ، وفي هذه الآية الكريمة رأيان : رأى للسلف ورأى للخلف - رضى اللّه عنهم - جميعا ، أما السلف فيقولون : إن اللّه خلق آدم وأخرج من ظهره ذريته كالذر وأحياهم وجعل لهم عقلا وإدراكا وألهمهم ذلك الحديث وتلك الإجابة ، أما الخلف فيقولون : هذا من باب التمثيل والتصوير ، فلا سؤال ولا جواب ، وإنما اللّه - سبحانه - بما ركب في بنى آدم من العقول والإدراك وبما نصب من الأدلة الكونية على وحدانيته وربوبيته للكون كله. كأنه قال للخلق : قروا بأنى ربكم ، ولا إله غيرى ، وكأنهم قالوا بلسان الحال : نعم أنت ربنا ، ولا إله غيرك ، فنزل تمكينهم من العلم ، وتمكينهم منه منزلة الشهادة والاعتراف ، وهذا أسلوب في القرآن والسنة وكلام العرب كثير : فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت آية 11].
وهذه هي فطرة اللّه التي فطر الناس عليها ، ولا تبديل لخلقه
« كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » حديث شريف.
فعل اللّه بكم هذا مخافة أن تقولوا يوم القيامة ، عند سؤالكم عن أعمالكم : إنا فعلنا هذا لأنا كنا غافلين عن التوحيد ، ولم ينبهنا أحد إليه ، فلا عذر لكم بالجهل بعد نصب الأدلة ، ووجود العقل والفطرة.
ومخافة أن تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل ، ونحن خلف لهم ، قلدناهم في(1/783)
ج 1 ، ص : 784
أعمالهم ، مع حسن الظن بهم ، ولم نهتد إلى التوحيد ، أفتؤاخذنا بالعذاب وتهلكنا بما فعله المبطلون من آبائنا ؟ ! ولكن اللّه لا يقبل عذرهم في هذا أبدا.
ومثل ذلك التفصيل الواضح نفصل للناس الآيات البينات ، ولعلهم بهذا يرجعون ويتوبون إلى اللّه.
والآية الكريمة تفيد أنه لا عذر في الشرك باللّه أبدا ، أما الأحكام التفصيلية للدين ، والأمور الغيبية كالسمعيات فلا أحد مطالب بها ، إلا بعد إرسال الرسل وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا « 1 » .
مثل المكذبين الضالين [سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
المفردات :
نَبَأَ النبأ : الخبر المهم. فَانْسَلَخَ المراد : خرج منها وكفر بها. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ
___________
(1) سورة الإسراء آية 15.(1/784)
ج 1 ، ص : 785
أدركه ولحقه. أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ : ركن إليها ومال. يَلْهَثْ اللهث : التنفس بشدة مع إخراج اللسان. مَثَلُ المثل : الصفة الغريبة ...
ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا بعد أخذ الميثاق العام عليهم وعلى الناس وبعد أن أرسلت لهم الرسل فكذبوا بها.
المعنى :
واتل يا محمد على اليهود وعلى غيرهم الخبر المهم الخاص بالذي آتيناه آياتنا ، وأوقفناه عليها وعلمناها له ، ولكنه لم يعمل بها ، وتركها وراءه ظهريا ، عازما على عدم العودة لها أبدا ، وقد سبق شيطانه في الفساد سبقا ملحوظا فكان من الغاوين الضالين المفسدين ، يا سبحان اللّه! يسبق الشيطان في الفساد والضلال! يقول اللّه : ولو شئنا لرفعناه بالآيات وجعلناه في عداد الأبرار والصالحين ، ولكنه أخلد إلى الأرض ، وجعل كل همه التمتع بلذائذها الفانية ، واتبع هواه ، وران على قلبه ما كان يكسب ، حتى صار حيوانيا شهوانيا ، ظلمانيا.
وهذه الآية تفيد أن مشيئة اللّه متلازمة مع عمل الشخص وتابعة له.
وذلك أن اللّه جعل للعبد اختيارا وجعل اختياره مناط الثواب والعقاب ، وخلقه في الدنيا وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلوه أيمتثل أم لا ؟
وقد جعل من يختار الخير له سبل ميسرة ، وعنده قدرة على ذلك ، ومن يختار الشر له سبل ميسرة ، وله قدرة على ذلك مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ [سورة الإسراء آية 18]. وكانت مشيئة اللّه تابعة لما يعلمه من اتجاه العبد في الحياة.
هذا الذي أوتى علما بالكتاب ولم يعمل به ، بل صارت روحه مدنسة ، وقلبه مظلما ، صفته العجيبة التي كالمثل في الغرابة ، كصفة الكلب يلهث دائما سواء حملت عليه وكلفته أم لا ؟
وهكذا الذي يركن إلى الدنيا ويكفر بآيات اللّه دائما في عمل ونصب ومهما أعطى فهو في هم وتعب ، وتراه كلما بسط له الرزق زاد طمعه وألمه ، ذلك المثل الذي(1/785)
ج 1 ، ص : 786
ضربناه لبعض الأفراد مثل للقوم الذين كذبوا بآياتنا ، واستكبروا عنها ، ولم تنفعهم الموعظة.
فاقصص هذا القصص ونحوه رجاء أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويتفكروا في أنفسهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [سورة الرعد آية 3].
ساء مثلا مثل الذين كذبوا بآياتنا ، وقبح عملهم الذي أضحى كالمثل في الغرابة ، وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم فقط.
وقد ذكر اسم الشخص صاحب النبأ بعض المفسرين ولكن يظهر - واللّه أعلم - أن المراد الوصف لا الشخص.
صفة أهل النار [سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 179]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)
المفردات :
ذَرَأْنا : خلقنا وأوجدنا. الْجِنِّ : خلق مستتر اللّه أعلم به. قُلُوبٌ القلب : يطلق على العضو الصنوبري الواقع في الصدر إلى الجهة اليسرى ، ويطلق كذلك على العقل ، والوجدان والضمير. لا يَفْقَهُونَ الفقه : الفهم الدقيق.
بعد أن ضرب اللّه المثل للمنسلخ من الدين الخارج منه قفّى على ذلك ببيان حقيقة المهتدى والضال ، ومن هم أهل النار ؟(1/786)
ج 1 ، ص : 787
المعنى :
من يهديه ويوفقه للخير ولاتباع الشرع ، والاهتداء بالقرآن فهو المهتدى حقيقة لا غير ، ومن يضله اللّه ، ولا يوفقه ولا يهديه إلى الخير وإلى نور القرآن فأولئك البعيدون عن الهداية هم الخاسرون ، وأى خسارة أكثر من هذا!! ؟
والهداية الإلهية نوع واحد (فهو المهتدى) وأنواع الضلال لا حصر لها ، ولذا قال سبحانه : فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
وهذا بيان لما أجمل.
يقسم اللّه إنا قد خلقنا خلقا كثيرا من الجن والإنس ، خلقناهم مستعدين لعمل مآله جهنم ، وخلقنا كذلك خلقا مستعدين لعمل مآله الجنة فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، [سورة هود 105] فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [سورة الشورى آية 7].
أما حقيقة أهل النار فهم قوم ليس لهم قلوب يفهمون بها الأوضاع الصحيحة التي بها تزكو نفوسهم ، وتطهر أرواحهم ، فهم لا يفقهون الحياة الروحية ولذتها الموصلة للسعادة الدنيوية والأخروية ، ولكنهم يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ « 1 » . ولا يفقهون أن الخير فيما أمر به الدين ، وأن الشر فيما نهى عنه الدين ، وليس لهم عيون يبصرون بها آيات اللّه الكونية وآياته القرآنية ، وليس لهم آذان يسمعون بها آيات اللّه المنزلة على رسله ولا يسمعون بها أخبار التاريخ والأمم السابقة ، وكيف كانت سنة اللّه معهم ؟
أولئك كالأنعام لهم حواس مادية فقط ، همهم الأكل والشرب والتمتع باللذات ، بل الحيوان يأكل بلا إسراف وهم مسرفون فهم أضل سبيلا وأسوأ قيلا ، أولئك هم الغافلون عن آيات اللّه وغافلون عن استعمال مشاعرهم وعقولهم فيما خلقت لأجله ، بل هم غافلون عن ضرورات الحياة الشخصية والقومية والدينية.
فالخلاصة أن أهل النار هم الأغبياء الغافلون حيث لم ينظروا إلى الحياة الباقية بل شغلوا أنفسهم بالحياة الفانية فقط : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [سورة يوسف آية 105].
___________
(1) سورة الروم آية 7.(1/787)
ج 1 ، ص : 788
وأهل الجنة هم الأذكياء عرفوا الدنيا على حقيقتها فعملوا للآخرة الباقية ولم يهملوها.
وحذار أن يكون المسلمون من الغافلين.
أسماء اللّه الحسنى [سورة الأعراف (7) : آية 180]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)
المفردات :
الْحُسْنى : مؤنث الأحسن. يُلْحِدُونَ الإلحاد : هو الميل عن الطريق الحق.
المعنى :
روى أن بعض المسلمين دعا اللّه في صلاته ودعا الرحمن فقال المشركون : محمد وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو اثنين ؟ فأنزل اللّه - عز وجل - هذه الآية.
وللّه - سبحانه وتعالى - الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وقد روى عن أبى هريرة - رضى اللّه عنه - عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « إن للّه تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر : اللّه الذي لا إله إلا هو. الرحمن. الرحيم. الملك.
القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ.
المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط.
الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف.
الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلى. الكبير. الحفيظ. المقيت.
الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد.
الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوى. المتين. الولي. الحميد. المحصى.
المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد.
الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن.(1/788)
ج 1 ، ص : 789
الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغنى. المغني. المانع. الضار. النافع. النور.
الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور » .
والذي عليه أهل العلم أنها جمعت من القرآن والسنة فهي توقيفية ولكنها لا تنحصر في تسع وتسعين بدليل
حديث ابن مسعود عن رسول اللّه أنه قال : « ما أصاب أحدا قط همّ ولا حزن فقال : اللهم إنى عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فىّ حكمك عدل فىّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري ، وجلاء حزنى ، وذهاب همي. إلا أذهب اللّه حزنه وهمه وأبدل مكانه فرحا »
. وذروا الذين يكذبون في أسمائه ويسمونه بما لم يتسمّ به ولم ينطق به في كتاب اللّه ولا سنة رسوله هؤلاء سيجزون بما كانوا يعملون.
ومعنى أن أسماءه توقيفية أنه لا يسمى (سخيا) وإن سمى (جوادا) ويسمى (رحيما) ولا يسمى (رفيقا) ويسمى (عالما) ولا يسمى (عاقلا) وفي القرآن يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
« 1 » أفتسمى اللّه مخادعا ؟ حاش للّه ، أفتحسبه مكارا ؟
حاش للّه ؟ بل يدعى بأسمائه ولا نلحد فيها أبدا.
المهتدون والضالون [سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 186]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
___________
(1) سورة النساء آية 142.(1/789)
ج 1 ، ص : 790
المفردات :
يَهْدُونَ : يرشدون الناس إلى الحق والخير. يَعْدِلُونَ : يجعلون الأمور متعادلة لا زيادة فيها ولا نقصان على ما ينبغي. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج : من الدرجة ، وهي المرقاة ، بمعنى الصعود والنزول درجة بعد درجة ، والمراد سنأخذهم درجة بعد درجة بإدنائهم من العذاب شيئا فشيئا. وَأُمْلِي لَهُمْ : من الإملاء ، وهو الإمهال. كَيْدِي الكيد والمكر : هو التدبير الخفى الذي يقصد به غير ظاهره حتى ينخدع المكيد ، والمتين : القوى ، من المتن وهو الظهر. يَعْمَهُونَ :
يترددون في حيرة وعمى.
بعد أن ذكر اللّه أنه خلق لجهنم كثيرا من الخلق لا قلوب لهم ولا أعين ولا آذان يصلون بها إلى الخير ، ثم ذكر بعد ذلك ما يجعل الإنسان قوى الإيمان ... ذكر هنا أن في أمة الدعوة المحمدية فريقين : مهديين وضالين ، مع ذكر وجوب الفكر والنظر في ملكوت السماء والأرض علّنا نصل إلى الخير.
المعنى :
وبعض من خلقنا أرسلنا لهم الرسل خاصة أمة الدعوة المحمدية أمة يهدون بالخير ، ويرشدون إليه ، وبه يحكمون فيما يعرض لهم حتى تكون أمورهم متعادلة لا زيادة فيها ولا نقصان ويكونوا أمة وسطا عدولا كما أخبر عنهم القرآن ، وروى عن على بن أبى طالب قال : لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة ، يقول اللّه : وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة.(1/790)
ج 1 ، ص : 791
والذين كذبوا بآياتنا ندعهم في الضلال تائهين ، ونستدرجهم من حيث لا يعلمون ، ونملي لهم بإعطاء النعم تلو النعم استدراجا حتى لا يرعووا عن غيهم مع أنا نمهلهم فلا نرسل لهم المخدرات والمنبهات ، وما علموا أن سنة اللّه في الخلق لا تتغير ، وأن اللّه يملى لهم ويمدهم بالمال والنعم حتى يغتروا ولا ينتبهوا كيدا لهم ومكرا بهم لا حبّا فيهم أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ « 1 » نعم. إن اللّه ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
وها هم أولاء المشركون ظلوا مغرورين بأن الحرب يومان يوم لنا ويوم علينا ، معتزين بقوتهم وكثرة عددهم ، وبقلة عدد المسلمين ، وما علموا أن هذا مكر بهم وكيد لهم.
ولقد كان فتح مكة آية على ذلك .. أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في شأنه وشأن دعوته ؟ إنهم إن تفكروا في ذلك أوشكوا - لا بد - أن يعرفوا الحق وأن صاحبهم ليس به جنة ، ولقد حكى القرآن عنهم أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ « 2 » . يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ « 3 » كذبوا وضلوا إن هو إلا نذير مبين بين يدي عذاب شديد ، وهو منذر ناصح ، ومبلغ أمين وكيف لا تعرفون هذا وهو صاحبكم وأنتم أدرى الناس به ؟ !! أكذبوا الرسول ولم ينظروا في هذه العوالم المحكمة الدقيقة ، المنظمة البديعة ؟ فإن هذا دليل على الوحدانية الكاملة والعلم التام والقدرة القادرة ، ولو نظروا بعين البصيرة لاهتدوا إلى الخير ، أو لم ينظروا في كل ما خلقه اللّه وأن الحال والشأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، وحان وقت قدومهم على ربهم بالأعمال ، لو نظروا لاحتاطوا وعملوا لذلك اليوم حتى ينالوا الجزاء الأوفى.
لعل أجلهم قد اقترب ، فما لهم لا يبادرون إلى التصديق والإيمان بالقرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبل فوات الفرصة ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق ؟ وبأى حديث بعده يؤمنون ؟ ! هؤلاء فقدوا الاستعداد للخير والهدى والإيمان بالنبي والعمل بالقرآن فكانوا هم الضالين. ومن يضلل اللّه فلا هادي له ، ويذرهم في طغيانهم يترددون. وفي باطلهم
___________
(1) سورة المؤمنون الآيتان 55 و56.
(2) سورة المؤمنون آية 70.
(3) سورة الحجر آية 6. [.....](1/791)
ج 1 ، ص : 792
ينغمسون!! ألا تعلم أن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد ، وأن العمل الفاسد يجعل على القلب حاجزا سميكا حتى لا يهتدى إلى الخير أبدا كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ.
علم الساعة عند ربي [سورة الأعراف (7) : آية 187]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)
المفردات :
السَّاعَةِ هي في اللغة : جزء معين من الزمن ، وعند الفلكيين : جزء من أربع وعشرون من اليوم ، والمراد بها هنا الوقت الذي يموت فيه كل حي ، ويضطرب نظام العالم ، أى : عند النفخة الأولى للصور. أَيَّانَ مُرْساها : متى إرساؤها واستقرارها ؟ لا يُجَلِّيها : لا يظهرها ولا يكشفها. حَفِيٌّ : مبالغ في السؤال عنها.
قد تكلم القرآن عن أجل الفرد في قوله : وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فناسب بعده أن يتكلم عن الساعة العامة التي فيها نهاية الدنيا كلها.
المعنى :
يسألونك يا محمد عن الساعة متى تكون ؟ ! : يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ « 1 » . وفي التعبير بالإرساء إشارة إلى أن قيام الساعة إنهاء لهذه الحركة الدائبة في السموات والأرض.
___________
(1) سورة الشورى آية 18.(1/792)
ج 1 ، ص : 793
قل لهم : إنما علمها عند ربي وحده ، وإليه يرجع الأمر كله لا يجليها لوقتها ، ولا يظهر أمرها ، ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده ، فلا يطلع أحد من خلقه على وقتها ولو كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا عظم أمرها عند الملائكة والثقلين في السماء والأرض لخفاء وقتها ولهول أمرها وشدة وقعها ، فهم مضطربون خائفون ، لا تأتيكم أيها الناس إلا بغتة وفجأة ، أى : وأنتم منهمكون في الدنيا وتعميرها.
عجبا لهم يسألونك ملحين عنها كأنك حفى عنها ، ومبالغ في السؤال عنها!!! قل لهم : إنما علمها عند اللّه عالم الغيب والشهادة.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون السر في إخفائها ، فلو علمت لاضطرب نظام الكون واختل العمران ، وهكذا يخفى اللّه ليلة القدر ، وساعة الإجابة لحكم هو يعلمها ولينشط الناس في طلبها وليكون العمل لها في وقت أكثر ، وللساعة علامات وأشراط وردت في الصحيح من السنة ، ويقال لها علامات صغرى وكبرى.
الرسول إنسان لا يملك شيئا بل هو نذير وبشير [سورة الأعراف (7) : آية 188]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
المفردات :
الْغَيْبَ : هو ما غاب عنا ، وهو حقيقى لا يعلمه أحد ، وإضافى يعلمه بعض الخلق كالأنبياء والرسل. الْخَيْرِ : ما يرغب فيه سواء كان ماديا كالمال أو معنويا كالعلم. السُّوءُ : ما يرغب عنه.
سألوا النبي وألحفوا في السؤال فناسب أن يبين القرآن حقيقة الرسالة.(1/793)
ج 1 ، ص : 794
المعنى :
هذا هو القول الفصل ، الذي ليس بالهزل ، مفخرة من مفاخر الإسلام وأسس من أسسه السليمة ، حارب القرآن بهذه الآية وأمثالها أفكارا جاهلية وعقائد وثنية ، وانظر إلى هنا ، وإلى ما يفهمه المسيحيون عن عيسى - عليه السلام - نعم إن الدين عند اللّه الإسلام.
قل يا محمد : أنا بشر شرفت بالرسالة وحملت تلك الأمانة ، فلا أملك لنفسي أى نفع كان ، ولا أدفع عن نفسي أى ضرر كان ، إلا ما شاء اللّه ، وأنا بشر لا أعلم الغيب وإنما الغيب عند اللّه وحده ، فكيف تسألونى عن الساعة كأنى حفى بها ؟ أما لو كنت أعلم الغيب حقيقة لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء أبدا والواقع غير هذا. إذ أنا بشر كبقية الناس شرفني اللّه بالرسالة فقط ، وما أنا إلا نذير لكم وبشير لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا « 1 » والخلاصة أن الرسل خلق من خلقه وعباد مكرمون لا يشاركون اللّه في صفاته ، ولا سلطان لهم على علمه وتدبيره ، شرفهم اللّه بالرسالة ، وهم القدوة الصالحة للعباد في الدنيا ..
هكذا الإنسان [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 193]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)
___________
(1) سورة مريم آية 97.(1/794)
ج 1 ، ص : 795
المفردات :
لِيَسْكُنَ إِلَيْها : ليطمئن ويسكن من الاضطراب النفسي. تَغَشَّاها :
أتاها لقضاء ما تطلبه الغريزة الجنسية. حَمَلَتْ : علقت منه ، والحمل : ما كان في بطن أو على شجرة ، والحمل ما كان على ظهر. فَمَرَّتْ : استمرت إلى وقت ميلاده من غير سقوط. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ : حان وقت ثقلها وقرب وضعها.
صالِحاً المراد : نسلا صالحا في الجسم والفطرة.
هذه سورة بدئت بالكلام على القرآن والتوحيد ، ثم تبع ذلك كلام على النشأة الأولى وما تبع ذلك ، ثم الكلام على قصص الأنبياء خصوصا موسى ، وها هو ذا يختمها بالكلام على التوحيد وعلى القرآن.
هو الذي خلقكم يا بنى آدم من جنس واحد وطبيعة واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، ويطمئن بها ، فإن الجنس إلى جنسه ميال ، وجعل منها زوجها حتى إذا بلغا سن الحلم وهي السن التي معها تظهر الغريزة الجنسية في الرجل والمرأة. وجدا أنفسهما - خاصة الرجل - مضطربا ومحتاجا إلى الزوجة لتهدأ نفسه وتسكن من اضطرابها ، وبهذا وحده يتحقق بقاء النوع الإنسانى.
فلما تغشاها واتصل بها الاتصال الجنسي المعروف حملت منه حملا كان خفيفا في أول الأمر لم تشعر به ، فلما أثقلت وصارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها ، وحان وقت الوضع. دعوا اللّه ربهما مقسمين لئن آتيتنا ولدا صالحا تام الخلقة قوى البنية سليم الفطرة لنكونن لك يا رب من الشاكرين.
وقد آتاهما اللّه ذلك ، وكانت الفطرة لكل مخلوق الميل إلى الإسلام والتوحيد.
فلما آتاهما النسل الصالح جعلا ، أى : بعض بنى آدم من الذكور والإناث له شركاء فيما آتاهما ، واتجها إلى غير اللّه الذي أعطاهما ، تعالى اللّه عما يشركون!!(1/795)
ج 1 ، ص : 796
وقد رأى بعض المفسرين في هذه الآية أن المراد : خلقكم يا بنى آدم من نفس واحدة هي آدم وجعل منها زوجها وهي حواء ، وأن الشرك كان من بعض أولادهما ككفار مكة واليهود والنصارى وقد نسب إليهما ، والمراد أولادهما بدليل : فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وفي الكشاف أن المراد بالزوجين الجنس لا فردان معينان.
ثم أخذ القرآن في نقاش هؤلاء المشركين ، أيشركون باللّه شيئا لا يخلق أبدا أى شي ء ؟ بل إنه لا يملك نفعا ولا ضرا لنفسه ولا لغيره ، والحال أن ما يشركون به من صنم أو وثن هو مخلوق ضعيف إن يسلبه الذباب شيئا لا يستطيع إنقاذه منه ولا يستطيع لهؤلاء المشركين نصرا في أى ميدان ، وإن تدعوهم إلى هدايتكم لا يستجيبون لكم وكيف يستجيبون ؟
وكيف يداوى القلب من لا له قلب
يستوي عندهم دعاؤكم وبقاؤكم صامتين ، والإله المعبود ، والرب الموجود لا يكون بهذا الوضع أبدا فهو السميع البصير ، العليم الخبير الناصر القادر - سبحانه وتعالى - !!
حقيقة الأصنام والأوثان [سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 198]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)(1/796)
ج 1 ، ص : 797
المفردات :
تَدْعُونَ الدعاء : النداء ، وغالبا يكون لدفع ضر أو جلب خير ، والمراد :
تعبدون. يَبْطِشُونَ : يصولون بها. فَلا تُنْظِرُونِ أى : تمهلون.
هذا تمام للكلام السابق وهكذا شأن القرآن في إثبات التوحيد ونفى الشرك.
المعنى :
هؤلاء الذين تعبدونهم من دون اللّه هم مخلوقون مثلكم ، فلا يصح أن يكون المخلوق محل عبادة وتقديس من مخلوق مثله.
وإن تعجبوا فعجب حالكم تستكثرون الرسالة على بشر منكم خصه اللّه بالعلم والمعرفة ، وقوة اليقين ونور البصيرة ثم تعبدون من دون اللّه حجارة!! وإن كنتم صادقين فادعوهم ، وإن كانوا كذلك فليستجيبوا لكم ، ولكن كيف يكون ذلك ؟
وهم أحط درجة ممن يعبدونهم ، فليس لهم أرجل يمشون بها ، وليس لهم أيد يصولون بها ، وليس لهم أعين يبصرون بها ، ولا آذان يسمعون بها إذ هم حجارة صماء ، أو صنيع من طين وماء ، أو من عجوة أو حلاوة كصنم بنى حنيفة.
أكلت حنيفة ربها عام التقحم والمجاعة
على أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بأن يتحداهم ويدعوهم لأمر عملي فقيل له : قل لهم يا محمد :
ادعوا شركاءكم وآلهتكم من دون اللّه ثم تعاونوا معهم على أن يكيدوا لي ويوقعوا بي المكروه بأى شيء كان ، ولا تمهلون ، ومع هذا لم يعملوا شيئا فيه.
وهذا رد عليهم في قولهم : إنا نخاف عليك من آلهتنا!!(1/797)
ج 1 ، ص : 798
والرسول يعلل ذلك بقوله : إن متولّى أمرى هو اللّه ولينا ، وهو ربنا الذي أنزل الكتاب الذي يدعو إلى التوحيد والبر والصدق ، وهو الذي يتولى الصالحين من عباده ، أما أنتم أيها المشركون فوليّكم الشيطان : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [سورة البقرة آية 257].
والذين تدعونهم من دون اللّه ، وتخصونهم بالعبادة والتقديس لا يستطيعون لكم نصرا حتى ولا أنفسهم ينصرون. بل وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى سواء السبيل لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك والحال أنهم لا يبصرون شيئا!!! أفيليق بكم إن كنتم عقلاء أن تتخذوا هؤلاء آلهة ؟ !!
من خلق القرآن في معاملة الناس والشيطان [سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 202]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)
المفردات :
الْعَفْوَ : ما أتى عفوا وسهلا من غير كلفة ولا مشقة. يَنْزَغَنَّكَ النزغ كالنخس والوكز : هو إصابة الجسم بشيء محدد كالإبرة والمهماز ، والمراد : وسوسة الشيطان. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ المراد : الجأ إليه وتذكره. طائِفٌ : لمة منه ، وطاف : أى ألم. يَمُدُّونَهُمْ : يكونون مدادا لهم.(1/798)
ج 1 ، ص : 799
المعنى :
هذه هي أسس المعاملة الحسنة ، ودعائم الخلق الكامل الذي به يرضى الناس عن الإنسان ، ورضا الناس من رضا اللّه فألسنة الخلق أقلام الحق ، وبهذه الأمور تجتمع القلوب النافرة ، والنفوس الهائمة : خذ ما أتى من الناس عفوا ، لا تكلفهم بما يشق عليهم ويستعصى من الأفعال بل كن سمحا سهلا
« يسروا ولا تعسروا » حديث شريف.
خذي العفو منى تستديمى مودتي ولا تنطقى في سورتي حين أغضب
وللّه در معاوية يقول : « لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إن شدوها أرخيتها وإن أرخوها شددتها » .
وأمر بالمعروف الذي تعارف عليه المسلمون من كل ما أمر به الشرع ، فالمعروف :
اسم جامع لكل خير من طاعة وإحسان ... وأعرض عن الجاهلين ، نعم أعرض عن الجاهل الأحمق واجعل كأنك لم تسمع ولم يقل ، وعلى العموم لكل صنف من الناس معاملة ، ولا تنس قوله تعالى : وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سورة البقرة آية 237].
هذا جوامع الكلم خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وجوامع الخلق ، ولقد صدقت السيدة عائشة حيث تقول : « كان خلقه القرآن » .
أما معاملة الشيطان العدو اللدود فإما ينزغنك منه نزغ أو يثر فيك داعية من دواعي الشر كالغضب والشهوة حتى يجعلك ثائرا متأثرا كتأثر الدابة إذا نخست بالمهماز (المنخاز).
فاعلم أن العلاج هو اللجوء إلى اللّه ، والتوجه إليه بالقلب ، والاستعاذة باللّه من شر الشيطان ووسوسته ، والانتقال من هذا الجو وتغييره بقدر الاستطاعة ، فاللّه سميع لكل دعاء ، عليم بكل قصد ونية ، واعلم أن الشيطان أقسم ليغوينهم جميعا إلا العباد المخلصين فإنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
وقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما معناه : « ما منكم أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن.
قالوا : وأنت يا رسول اللّه ؟ قال : وأنا إلا أن اللّه أعاننى عليه فأسلم »
.
إن الذين اتقوا اللّه وخافوا منه إذا مسهم طائف من الشيطان ، وألمت بهم لمة منه تذكروا اللّه وما أعده(1/799)
ج 1 ، ص : 800
للمتقين الأبرار ، وما أعد للعصاة الفجار فإذا هم مبصرون طريق الحق والخير ، فالمؤمن الكامل قوى الإيمان كالجسم الصحيح لا تدخله جراثيم المرض وإن دخلت ماتت ، كذلك المؤمن لا تدخله الوساوس وإن دخلت تذكر وطردها.
وكل إنسان يشعر بدوافع للخير ودوافع للشر ، فالأولى لمة الملك ، والثانية لمة الشيطان ،
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « إن للشيطان لمة وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك منكم فليعلم أنه من اللّه وليحمد اللّه على ذلك ، ومن وجد الأخرى فليستعذ باللّه من الشيطان ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا « 1 »
. وإخوانهم وهم الجهلاء غير المتقين اللّه ، الشياطين يمدونهم وينصرونهم ويتعاونون معهم على الإثم والعدوان ثم هم لا يقصرون أبدا في ذلك.
القرآن من عند اللّه [سورة الأعراف (7) : آية 203]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
المفردات :
لَوْ لا اجْتَبَيْتَها : هلا جمعتها من تلقاء نفسك واختلقتها ؟
المعنى :
كانوا طلبوا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم آيات كونية خاصة فلما لم يجابوا إلى طلبهم قالوا على سبيل التعنت : هل اختلقت آية وجمعتها من عندك ؟ يقصدون أن كل ما ينزل من القرآن إنما هو من عند محمد.
___________
(1) سورة البقرة آية 268.(1/800)
ج 1 ، ص : 801
قل لهم يا محمد : إنما أتبع ما يوحى إلى من ربي فقط وليس لي أن أخترع أو آتى بشيء من عندي ، إنما أنا رسول ولست قادرا على إيجاد الآيات التي طلبتموها.
وما لكم تطلبون غير هذا القرآن وهو بصائر من ربكم وحجج وآيات واضحة دالة على صدقى وأنه من عند اللّه وهو كالبصائر للقلوب التي تنير طريق الفلاح وهو هدى ورحمة ، ولكن لقوم يؤمنون باللّه وبالحياة الآخرة ، فمن آمن به وحافظ عليه وحكم به فأولئك هم المفلحون دون سواهم.
من أدب استماع القرآن والذكر [سورة الأعراف (7) : الآيات 204 الى 206]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
المفردات :
فَاسْتَمِعُوا : الاستماع يزيد عن السمع بالإنصات والقصد والنية.
تَضَرُّعاً : من الضراعة والذلة والخضوع. وَخِيفَةً : خائفين. بِالْغُدُوِّ الغدو : جمع غدوة ، وهي ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. وَالْآصالِ :
جمع أصيل ، وهو ما بعد العصر إلى الغروب.
المعنى :
إذا قرئ القرآن الكريم فاستمعوا له بإنصات وأدب ، وقصد مع السكون والخشوع(1/801)
ج 1 ، ص : 802
رجاء أن ترحموا من اللّه فإنه لا يستمع لكلامه بأدب وحسن استماع إلا المخلصون الذين في قلوبهم نور الإيمان وبرد اليقين.
أما من أهمتهم الدنيا وأقضّت مضاجعهم حتى أصبحت قلوبهم خلوا من نور الإيمان تراهم عند سماع القرآن لا ينصتون أبدا بل ويتكلمون في توافه الأمور.
والآية عامة في سماع القرآن في الصلاة والخطبة وغيرهما. أيليق بالمسلم أن يتكلم اللّه فلا يستمع ويتكلم جاره فيستمع ؟ ! واذكر ربك في نفسك وذلك بذكر أسمائه وصفاته وشكره واستغفاره ، والمهم التذكر بالقلب أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ « 1 » .
اذكره ضارعا متذللا خاضعا خائفا راجيا ثوابه ، مع إتمام الاسم وعدم استعمال ما يخل. اذكره بلسانك وقلبك ذكرا دون الجهر وفوق السر ، أى : اذكره وسطا بين هذا وذاك وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا « 2 » .
وأنسب الأوقات للذكر وقت الصباح والمساء ، وبقية النهار للعمل وتحصيل الرزق.
وإياك أيها المسلم أن تكون من الغافلين عن ذكر اللّه بقلبك ، واعلم أن الذين عند ربك من الملائكة والمقربين لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه في الليل والنهار ، وله وحده يسجدون!! فكيف بك ؟ ! سجود التلاوة : يكون عند ما يسمع المسلم هذه الآية وأمثالها التي ستأتى ، وقد شرعه اللّه لنا إرغاما لمن أبى السجود من المشركين واقتداء بالملائكة المقربين. وروى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول في سجوده : « اللهم لك سجد سوادي ، وبك آمن فؤادي ، اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني » « 3 »
وروى أيضا « إذا قرأ ابن آدم آية السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى فيقول : يا ويله : أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار » « 4 »
ولسجود التلاوة أحكام في كتب الفقه.
___________
(1) سورة الرعد آية 28.
(2) سورة الإسراء آية 10.
(3) أخرجه ابن أبى شيبة ج 2 ص 20.
(4) أخرجه مسلم في كتاب الايمان حديث رقم 133.(1/802)
ج 1 ، ص : 803
سورة الأنفال
مدنية كلها وهو الأصح ، وقيل : مدنية ما عدا الآيات 30 إلى 36 فمكية لأنها في شأن الواقعة التي وقعت بمكة ، ولكن الأصح أن هذه الآيات نزلت بالمدينة تذكيرا لهم بما وقع في مكة ، وعدد آياتها خمس وسبعون آية.
وهي في القصص الخاص برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وخاصة في أوقات الشدة كالحروب والهجرة وما قبلها في قصص الرسل عليهم جميعا الصلاة والسلام. فالمناسبة بين السورتين ظاهرة.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
المفردات :
الْأَنْفالِ : جمع نفل ، والمراد به هنا : الغنيمة لأنها من فضل اللّه - تعالى - وعطائه ، وهي من خصائص النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقد زادت هذه الأمة بها على الأمم السابقة ،
روى في الصحيحين عن جابر بن عبد اللّه - رضى اللّه عنه - أن رسول اللّه(1/803)
ج 1 ، ص : 804
صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي » فذكر الحديث (و هو المسمى بحديث الشفاعة) إلى أن قال : « وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي »
،
والنفل : الزيادة عن الواجب ، ألا ترى إلى صلاة النوافل ؟ ذاتَ بَيْنِكُمْ : حقيقة ما بينكم ، والبين من معانيه : الاتصال ، والمراد : الوصلة الإسلامية وإصلاحها ويكون بالأمور التي تحققها من مودة وإخاء وترك النزاع والجفاء. وَجِلَتْ : فزعت وخافت.
سبب النزول :
عن عبادة بن الصامت : نزلت فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه اللّه من أيدينا فجعله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقسمه بين المسلمين على السواء ، وكان في ذلك تقوى اللّه وطاعة رسوله ، وإصلاح ذات البين.
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا »
فأما الشيوخ فثبتوا تحت الرايات ، وحول رسول اللّه ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم ، فقال الشيوخ للشبان : إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا. فاختصموا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت.
المعنى :
لقد وقع خلاف بين المسلمين في غنائم بدر فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أهي للمهاجرين أم للأنصار ؟ أهي للشبان أم للشيوخ ؟ أم لهم جميعا ؟ فقيل له : قل لهم : إن حكمها للّه خاصة ويقسمها الرسول على حسب أمر اللّه فلا رأى لأحد ، وفي هذه الآية إجمال بيّن في آية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ... [سورة الأنفال آية 41].
وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش بما شاء تحريضا على القتال وإثارة للنفوس كما
ورد : « من قتل قتيلا فله سلبه »
وهذا النفل زيادة عن سهمه في الغنيمة.
وإذا كان الأمر كذلك فاتقوا اللّه واجتنبوا ما أنتم فيه من شجار ونزاع وخلاف ، فإن هذا يغضب اللّه لا سيما في حالة الحرب وأصلحوا ذات بينكم من الأحوال حتى تتحقق الوصلة الإسلامية فتكونوا في ألفة ومحبة واتفاق ، وفي ذلك تقوى اللّه ، وطاعة(1/804)
ج 1 ، ص : 805
رسوله ، وإصلاح ذات البين ، وأطيعوا اللّه ورسوله في كل ما أمر ففي طاعتهما الخير والفلاح ، والهدى والرشاد ، أطيعوهما إن كنتم مؤمنين حقا ، فهذه أمور ثلاثة لا بد منها لصلاح حال الجماعة : تقوى اللّه ورسوله ، أى : طاعة القيادة الرشيدة الحكيمة.
وها هي ذي صفات المؤمنين الخمسة التي تحقق هذه الأوصاف الثلاثة إنما المؤمنون حقا الكاملون المخلصون في إيمانهم هم :
1 - الذين إذا ذكروا اللّه بقلوبهم واستشعروا عظمته وجلاله وتذكروا وعده ووعيده خافت قلوبهم واضطربت أرواحهم.
2 - والذين إذا تليت عليهم آياته القرآنية المنزلة على عبده وحبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ازداد إيمانهم ، وكمل يقينهم لتظاهر الأدلة وتمامها ، نعم المؤمن كلما كثرت الأدلة وتعاضدت الآيات والحجج ازداد قوة في الإيمان ، ورسوخا في العقيدة ، ونشاطا في العمل ، انظر إلى إبراهيم الخليل حيث قال : بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي « 1 » ردا على قوله تعالى : أَوَلَمْ تُؤْمِنْ « 2 » ؟ .
3 - والذين هم على ربهم وحده يتوكلون ، وعليه وحده يعتمدون ، وإليه يلجئون ، كل هذا بعد أخذ الأسباب ، والعمل على حسب طاقته وإمكانه ، وهذه صفات تتعلق بالقلب ، وها هي ذي الصفات المتعلقة بالجسم :
4 - الذين يقيمون الصلاة ، ويؤدونها كاملة مقومة تامة الأركان والشروط.
5 - والذين ينفقون مما رزقناهم في وجوه الخير والبر ، وذلك يشمل الزكاة الواجبة المقيدة والنافلة المطلقة التي قد تصبح واجبة تبعا للظروف.
أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف ، المشار إليهم لكمالهم فيها هم المؤمنون حقا. لهم درجات ومنازل عند ربهم على حسب أعمالهم ونواياهم ولهم مغفرة ، ولهم رزق كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. والعرب يصفون الشيء الذي لا قبح فيه ولا ضرر بأنه كريم ، وهذه الآيات بينت لنا حكم الغنائم ، وأسس نجاح الجماعة ، وبعض صفات المؤمنين الكاملين.
___________
(1) سورة البقرة آية 260.
(2) سورة البقرة آية 260.(1/805)
ج 1 ، ص : 806
ما حصل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقت خروجه لغزوة بدر الكبرى [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 14]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)(1/806)
ج 1 ، ص : 807
المفردات :
الشَّوْكَةِ : واحدة الشوك ، وفيها معنى الحدة والقوة ، شبهوا بها الرماح والأسنة. دابِرَ الْكافِرِينَ : آخرهم الذي يكون في دبرهم من ورائهم.
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ استغاث : طلب الغوث والمعونة ليخلص من شدة.
مُمِدُّكُمْ : ناصركم ومعينكم. مُرْدِفِينَ : متبعين بعضهم بعضا ، مأخوذ من أردفه : إذا أركبه وراءه. يُغَشِّيكُمُ المراد : يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم. النُّعاسَ : فتور في الأعصاب يعقبه النوم ، فهو مقدمة له. رِجْزَ الشَّيْطانِ الرجز والركس : الشيء المستقذر ، والمراد وسوسة الشيطان. وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ : ليثبتها ويوطنها على الصبر. الرُّعْبَ : الخوف الكثير. فَوْقَ الْأَعْناقِ المراد : الرءوس. بَنانٍ : هو أطراف الصابع من اليدين والرجلين ، والمراد الأيدى والأرجل.اقُّوا
: خالفوا وعادوا إذ هم أصبحوا في شق وناحية والرسول في شق وناحية.
يحسن بمن يريد أن يقف على معنى هذه الآيات أن يلم بتلك القصة.
لما هاجر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة إلى المدينة بعد أن لاقى ما لاقى ، وترك المسلمون أموالهم وأرضهم وديارهم للمشركين ، وسمع بأن تجارة لقريش فيها مال كثير آتية من الشام ، وعلى رأس العير أبو سفيان مع أربعين نفرا من قريش ، انتدب المسلمين إليهم ، وأغراهم بالعير قائلا : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها ، لعل اللّه أن ينفلكموها فأعجبهم تلقى العير لكثرة المال وقلة الرجال.
أما أبو سفيان قائد العير وحاميها فكان يتجسس على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه وعلم أن(1/807)
ج 1 ، ص : 808
محمدا أغرى أصحابه عليه ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد تعرض لهم في أصحابه وقد غير أبو سفيان طريقه وسار محاذيا البحر ، ونجا العير والتجارة ، أما قريش فجمعوا جموعهم واستنفر أبو جهل الناس من فوق الكعبة قائلا : النجاء. على كل صعب وذلول ، عيركم وأموالكم ، إن أصابها محمد فلن تفلحوا أبدا ، وخرج أبو جهل على رأس النفير وهم أهل مكة ، ثم قيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فارجع بالناس إلى مكة فقال : لا واللّه لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجذور ونشرب الخمور ، وتعزف القينات ببدر فيتسامع جميع العرب بنا وبخروجنا وأن محمدا لم يصب العير.
أما محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه فلما علم بنجاة العير ، وأن قريشا جمعت جموعها ليمنعوا عيرها ، استشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الناس وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر وعمر - رضى اللّه عنهما - فقالا وأحسنا ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول اللّه امض كما أمرك اللّه ، واللّه لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ « 1 » ولكنا نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول اللّه ثم
قال : « أشيروا علىّ أيها الناس »
وكأنه يريد الأنصار إذ كان يخاف أنهم لا ينصرونه ما دام الحرب في غير المدينة كما شرطوا ذلك في عهدهم ، فقال سعد بن معاذ :
قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اللّه فو اللّه لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك .. إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعل اللّه يريك منا ما تقر به عيناك ، فسر على بركة اللّه ، فسرّ رسول اللّه لقول سعد.
ثم
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : سيروا على بركة اللّه وأبشروا فإن اللّه وعدني إحدى الطائفتين :
العير القادمة من الشام ، أو النفير الآتي من مكة لنجدتهم. واللّه لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم
. فعلم من هذا أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خرج من المدينة لأجل العير وأنه استشار أصحابه في قتال النفير من قريش بعد هذا.
___________
(1) سورة المائدة آية 24.(1/808)
ج 1 ، ص : 809
وقد وقع للمسلمين في بدر أمران يكرهانهما.
أولا : كراهتهم قسمة الغنيمة بينهم بالسوية وهذه الكراهة من شبانهم فقط إذ هم الذين قاتلوا وغنموا وقتلوا العدو ، وهذا ينشأ من طبع الإنسان.
ثانيا : كراهتهم قتال قريش ، وعذرهم فيها أنهم خرجوا من المدينة ابتداء لقصد الغنيمة ولم يستعدوا لقتال ، والكارهون فريق من المؤمنين لا كلهم.
وقد شبه اللّه إحدى الحالتين بالأخرى في مطلق الكراهية وأن امتثال أمر النبي في كلّ هو الخير.
روى عن عمر بن الخطاب أنه قال : لما كان يوم بدر ونظر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه : « اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض » فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه وقال :
كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل اللّه الآية
... وفي رواية فخرج رسول اللّه وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر آية 45].
المعنى :
هذه الحال التي حكم اللّه فيها بأن الأنفال حكمها للّه تعالى وتنفيذها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد كره شبانهم ذلك - هذه الحال تشبه حالهم وقد أخرجك اللّه من المدينة لقتال النفير من قريش وقد كرهوا ذلك كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ.
أخرجك ربك من بيتك بالمدينة متلبسا بالحق والحكمة وصواب الرأى والحال أن فريقا بسيطا من المؤمنين لكارهون ذلك لعدم استعدادهم للحرب.
يجادلك المؤمنون في الأمر الحق والرأى السديد وهو تلقى النفير لأنهم آثروا تلقى العير لقلة الرجال وكثرة المال ، يجادلونك بعد ما تبين لهم الحق وظهر الصواب ، حينما أخبرتهم أنهم هم المنصورون ، وأن اللّه وعدك إحدى الطائفتين ، وقد نجا العير ، فلم يبق إلا النفير ، ولقد جادلوا بأنهم قليلوا العدد والعدد ولم يستعدوا ، وقد كان خروجهم لتلقى العير.(1/809)
ج 1 ، ص : 810
لقد وعدهم إحدى الطائفتين على الإبهام فتعلقت آمالهم بالعير فلما نجت العير ، ولم يبق إلا مقابلة أبى جهل في النفير ، صعب على بعضهم اللقاء وخافوا الحرب وأخذوا يعتذرون ، ولكن الحق تبين ولم يعد للجدال وجه إلا الجبن والخور والخوف من القتال حتى كأنهم لشدة ما هم فيه من الجزع والرهبة يساقون إلى الموت المحقق وهم ينظرون إليه ، إذ الفرق بين القوة شاسع جدا ، ولكن اللّه وعدهم بالنصر ووعده لا يتخلف :
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة آية 249] ، والأسباب الظاهرة كثيرا ما تختلف والأمر كله للّه.
واذكروا وقت أن وعدكم اللّه إحدى الطائفتين من العير أو النفير وتودون أن العير لكم فإنه قليل العدد ولا شوكة معه مع كثرة المال.
ويريد اللّه لكم غير هذا وهو ملاقاة النفير الذي له الشوكة والحول والطول ، وتكون الدائرة على المشركين ، ويحق اللّه الحق بآياته المنزلة على رسوله في محاربة الكفار ، وبما أمر الملائكة من نزولهم لنصرة المسلمين ، وبما قضى لهم أولا من أسر وقتل وطرح في القليب (بئر بدر) ويريد اللّه أن يقطع دابر الكافرين ، ويستأصل شأفتهم ويمحو أثرهم.
فبعض المسلمين أراد العاجلة وعرض الدنيا وخاف ما يرزؤه في بدنه ونفسه وماله واللّه يريد معالى الأمور ، يريد لكم النصر وتقوية الروح وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء وكسر شوكتهم بهزيمتهم وهم كثرة وينصركم وأنتم قلة.
ويريد اللّه هذا ليحق الحق ويثبت دعائم الإسلام ، ويبطل الباطل ويهدم الشرك والكفر والطغيان ، ولو كره المجرمون ، وذلك لا يكون بأخذ العير أبدا وإنما يكون بهزيمة النفير وقتل صناديد الشرك وأسرهم وإذلالهم.
اذكروا يا أمة محمد وقت استغاثتكم ربكم قائلين : أى ربنا انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا ، والمراد بالذكر تذكير لهم بالنعم ليشكروا وقد استغاث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كذلك كما روى ، وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال وملاقاة النفير من قريش أخذوا يدعون اللّه ويستغيثون.
واعلم أن النصر في الحروب إنما يرجع إلى أسباب حسية ومعنوية إن تحققت جاء(1/810)
ج 1 ، ص : 811
النصر من اللّه : واللّه - سبحانه - هو الموفق لسلوك أسباب النصر أو أسباب الهزيمة ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يعلم ذلك ، وأن للّه سننا مع خلقه لا تتخلف ، وأن عنده آيات يؤيد بها رسله ، ولكنه لما رأى ضعف المسلمين وقلة عددهم وتهيبهم من القتال ، استغاث اللّه ليوفقه إلى سنن النصر ويؤيده ، فتقوى الروح المعنوية فيتحقق النصر ، وقد استغاث الصحابة كما استغاث ، ولقد استجاب اللّه الدعاء وأمدهم بألف من أعيان الملائكة يردف بعضهم بعضا حتى يتحقق قوله في سورة آل عمران : بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [الآيتان 124 - 125] وما جعل اللّه ذلك المدد الإلهى إلا بشرى بأن النصر لكم ، وأن اللّه معكم ، ولتسكن قلوبكم ، ويهدأ روعكم فتلقون الأعداء ثابتين مطمئنين.
واعلموا أن النصر من عند اللّه لا من عند غيره أبدا ، إن اللّه عزيز لا يغالب ، حكيم في كل صنع.
وهل الملائكة قاتلت بالفعل كما ورد في بعض الروايات ؟ أو هي قوة معنوية وتكثير للسواد ولم يحاربوا ، بل ثبتت قلوب المسلمين وقويت روحهم المعنوية بهم. واللّه أعلم ، على أن المتفق عليه أنهم لم يقاتلوا يوم أحد لأن اللّه علق النصر على الصبر والتقوى ولم يحصلا.
واذكروا إذ ألقى اللّه عليكم النعاس حتى غشيكم كما
روى البيهقي عن على - كرم اللّه وجهه - قال : « ما كان فينا فارس إلا المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلى تحت شجرة حتى أصبح »
ولا شك أن النعاس يزيل الخوف ومن دلائل الأمن والطمأنينة والوثوق بالنصر.
ولقد نزلوا في بدر منزلا في كثيب (تل) أعفر تسوخ فيه الأقدام وليس فيه ماء ، وقد احتلم بعضهم ليلا ، ولما أصبحوا ظمئوا وصلّوا مجنبين محدثين ، وكان المشركون على الماء فوسوس لهم إبليس وقال : لو كنتم على حق وفيكم نبي لما صليتم بجنابة وبغير وضوء ولما كنتم عطاشا وهم على الماء!! فأنزل اللّه مطرا كان على المشركين وابلا شديدا وكان على المسلمين طلّا خفيفا طهرهم من الرجس والدنس والجنابة والحدث ، وقضى على وسوسة الشيطان وأصبحوا يطئون الرمل بسهولة فثبتت أقدامهم وسكنت قلوبهم ،(1/811)
ج 1 ، ص : 812
وسبق رسول اللّه وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه ، وبنى لرسول اللّه عريش على تل مشرف على المعركة.
واذكروا إذ يوحى ربك إلى الملائكة بالإلهام أنى معكم بالنصر والتأييد فثبتوا قلوب المؤمنين ، وقووا عزائمهم ، وذكروهم وعد اللّه ورسوله ، وأنه لا يخلف الميعاد.
وقد روى أن الملائكة كانت تسير بين الصفوف وتبشرهم بالنصر : إنا معكم سنلقى في قلوب الكافرين الرعب.
فاضربوا رءوسهم التي فوق الأعناق واقطعوها ، واقطعوا أيديهم التي طالما عصت اللّه.
ذلك النصر المؤزر للنبي وصحبه ، وذلك الخذلان والهزيمة للمشركين بسبب أنهم عادوا اللّه ورسوله ، وأصبحوا في شق والرسول في شق ، وهل تستوي الظلمات والنور ؟
ومن يعاد اللّه ورسوله فإن له فوق الهزيمة والألم والخزي في الدنيا عذابا شديدا فإن اللّه شديد عقابه سريع حسابه.
توجيهات حربية للمؤمنين [سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)(1/812)
ج 1 ، ص : 813
المفردات :
زَحْفاً زحف : إذا مشى على بطنه كالحية ، أو دب على مقعده كالصبي ، أو مشى بثقل في الحركة واتصال وتقارب خطو ، والعسكر المجتمع كأنه شخص واحد إذا تحرك يبدو أنه بطيء زاحف ، والواقع أنه سريع. الْأَدْبارَ : جمع دبر ، وهو ما قابل القبل ، ويطلق على الظهر ، والمراد الهزيمة. مُتَحَرِّفاً تحرف وانحرف : مال إلى حرف ، أى : إلى جانب. مُتَحَيِّزاً : منحازا إلى جماعة أخرى ، أى : منضما إليها. لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ البلاء : الاختبار بإعطاء النقم لاختبار الصبر ، والنعم لاختبار الشكر ، والمراد هنا الابتلاء بالنعم. تَسْتَفْتِحُوا أى : تطلبوا الفتح والنصر في الحرب والفصل في الأمر.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ، وصدقوا به وبرسوله يجب عليكم إذا لقيتم الذين كفروا في ميدان الحرب حالة كونهم كالزاحفين على أدبارهم إذ الجيش إذا كثر عدده يرى في سيره بطيئا والواقع أنه سريع ، وقد زحف الكفار على المسلمين يوم أن انتقلوا من مكة إلى بدر ، فيجب عليكم والحالة هكذا ألا تولوهم الأدبار ، وألا تفروا منهم مهما كثر عددهم وأنتم قلة ، بل اثبتوا وقاتلوا فاللّه معكم عليهم ، وقد خص بعض العلماء هذا إذا كان الكفار لا يزيدون على الضعف ومن يولهم يومئذ دبره في القتال ، ومن يفر منهم ويجبن عن قتالهم فعليه غضب من اللّه ومأواه جهنم.
فالفرار من الزحف إذا التقى الجيشان كبيرة من الكبائر - كما ورد في الحديث
-(1/813)
ج 1 ، ص : 814
يستحق صاحبها الغضب الشديد والعذاب الأليم إلا رجلا منحرفا من مكان إلى مكان رآه أصلح في ضرب العدو. أو أراد أن يوهم العدو أنه يفر حتى يستدرجه بعيدا عن صحبه ثم يكر عليه فيقتله ، فتلك من خدع الحرب المحبوبة. أو رجلا منتقلا من جماعة إلى جماعة أخرى رأى أنها في حاجة إليه فيشد أزرهم ويقوى عزمهم.
يا أيها الذين آمنوا إذا حاربتم الكفار فلا تولوهم ظهوركم أبدا ، ولا تفروا منهم فأنتم أولى بالثبات والشجاعة فأنتم تطلبون إحدى الحسنيين ، وقد وعدكم اللّه بالنصر ، انظروا إلى ما حصل في غزوة بدر ، قد نصركم اللّه بها وأنتم قلة في العدد ، وما كان ذلك إلا بتأييد اللّه ، وتثبيت قلوبكم ، ومدكم بالملائكة. وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم ، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي كسر شوكتهم في الواقع ، ولكن اللّه قتلهم بأيديكم قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [سورة التوبة آية 14].
ولقد كان من المسلمين بعد أن رجعوا من غزوة بدر افتخار كثير فكان الواحد يقول : أنا قتلت ، أنا أسرت ، فعلمهم اللّه أن ذلك فخر كاذب لا يليق ووجههم توجيها حسنا حتى يلجئوا إليه ويعتمدوا عليه وحده فقال : فلم تقتلوهم بقوتكم ولكن اللّه قتلهم بتأييده ونصره وإنزال الملائكة وإلقاء الرعب وهو على كل شيء قدير.
روى أنه لما طلعت قريش قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذّبون رسولك ، اللهم إنى أسألك ما وعدتني. فأتاه جبريل فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فرمى بها وقال : شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه.
وما رميت يا محمد حين رميت الحصا ، ولكن اللّه رمى ، وهذه ظاهرة التناقض ، لكن المعنى : وما رميت يا محمد فإن الأثر الذي حدث من قبضة التراب التي رميتها أثر كبير حيث وصل إلى عيون الجيش كله. وهذا لا يمكن أن يكون من بشر ، وإن يكن أنت الذي رميت في الظاهر فصورة الرمي للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وأثر الرمي وما حدث منه للّه - سبحانه وتعالى - .
فعل اللّه ذلك كله لتقام حجته على الكفار بتأييد رسوله ونصره على عدوه وإن اختلفت الإمكانات الحربية ، وليعطى المؤمنين الذين فارقوا ديارهم وأموالهم عطاء حسنا بالغنيمة والنصر وحسن السمعة ورد الاعتبار ، إن اللّه سميع لكل قول والتجاء إليه ، عليم(1/814)
ج 1 ، ص : 815
بكل نية وعمل ، ذلك القتل والرمي والإعطاء حق من اللّه - تعالى - موهن كيد الكافرين ومكرهم بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه وأنهم يريدون القضاء على الدعوة قبل أن يشتد أمرها ، وذلك كله حق فقد رد كيدهم في نحورهم ، ورجعوا مهزومين مطرودين.
روى أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتى بما لا يعرف فأمته الغداة فكان ذلك منه استفتاحا.
و
روى أنهم تعلقوا بأستار الكعبة قبل خروجهم وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين
، فأجابهم اللّه بقوله استهزاء بهم وتوبيخا لهم على عملهم وتعجبا من حالهم :
إن تستفتحوا أيها الكفار فقد جاءكم الفتح ، وهذا منتهى التهكم ، إذ جاءهم الهلاك والذلة ، وإن تنتهوا وتسلموا وتتركوا عداوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فهو خير لكم وأجدى ، وإن تعودوا إلى محاربته نعد نحن إلى نصره وهزيمتكم ، ولن تغنى جماعتكم وقوتها شيئا ولو كثرت وأن اللّه مع المؤمنين بالنصر والتأييد والتوفيق إلى سلوك طرق النجاح والفلاح ، والعاقبة للمتقين.
تحذير من مخالفة الدين [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)(1/815)
ج 1 ، ص : 816
المفردات :
الصُّمُّ الصمم : عدم السمع ، والأصم : الأطرش. الْبُكْمُ البكم : عدم الكلام ، والأبكم : الأخرس. الدَّوَابِّ : جمع دابة ، وهي ما تدب على الأرض ، والغالب استعمالها في الحشرات والدواب التي تحمل على ظهرها ، وإذا أريد منها الإنسان كان المقصود الاحتقار.
المعنى :
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان أطيعوا اللّه ورسوله فيما أمر ونهى ، ولا تعرضوا عن الأمر بالجهاد وبذل المال وغيرهما والحال أنكم تسمعون المواعظ والزواجر في القرآن والحديث.
وإياكم أن تكونوا كالذين قالوا سمعنا والحال أنهم لا يسمعون أبدا ... إن شر المخلوقات عند اللّه من لا يصغى بسمعه إلى الحق فيتبعه ويعتبر بالموعظة الحسنة فيعمل بها ، فإن من لا يستخدم جهاز السمع فيما خلق له كان كأنه فاقد له ، فهو أصم عن الحق والخير والهدى والفلاح .. والبكم الذين لا يقولون الحق ، ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا حاسة الكلام ، والذين لا يعقلون الفرق بين النور والظلام ، والهدى والضلال ، والإسلام والكفر إذ هم لو استخدموا عقولهم وأبعدوا عنها ذل التقليد وحمى العصبية الجاهلية لعقلوا المنفعة وأدركوا الصالح المفيد ولكنهم كالبهائم لا يعقلون.
ولو علم اللّه في نفوسهم الميل إلى الخير والسداد والاستعداد إلى الإيمان والهدى ولم تفسد فطرتهم بسوء القدوة وفساد التربية لأسمعهم بتوفيقه سماع تدبر ووفقهم لكلامه وكلام رسوله ، ولكنه لو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فهم لا خير فيهم أصلا.
ومن يلقى إليه شيء لا يخلو من واحد من أربع :
1 - معاند لا يسمع أبدا بل يجعل أصابعه في آذانه.
2 - منافق يسمع ويتظاهر بالقبول ساعة الحضور ثم هو لا يتدبر ولا يفهم شيئا.
3 - يسمع ليتسقط العيوب ويتلمس السقطات.
4 - يسمع ليهتدى بنور الحق وهم الفئة المؤمنة الموفقة المهدية إلى يوم القيامة.(1/816)
ج 1 ، ص : 817
فيا أيها المسلمون اسمعوا القرآن وتدبروا معناه واهتدوا بهديه ولا تسمعوه تسلية أو تعزية أو تبركا فقط.
الاستجابة لداعي القرآن [سورة الأنفال (8) : الآيات 24 الى 26]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
المعنى :
ناداهم اللّه بوصف الإيمان الذي يوجب الامتثال والاستجابة ثم أمرهم بأن يستجيبوا للّه ورسوله ، وذلك بالطاعة والامتثال إذا دعاهم لما يحييهم ، وحثهم على الخير لهم وحرضهم على ما به يسعدون في الدنيا والآخرة. وقد دعانا الرسول للإيمان والقرآن والهدى والجهاد ، ومن حرم من هذا فهو ميت لا حياة فيه أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها « 1 » فخذوا ما آتاكم الرسول بقوة وعزم ونشاط وجد فالخير فيه ، وسعادة الدارين معه.
واعلموا أن اللّه يحول بين المرء وقلبه ويفصل بينهما. والمعنى أن المسلم يجب ألا يغتر
___________
(1) سورة الأنعام آية 122.(1/817)
ج 1 ، ص : 818
بعمله وطاعته ، وألا يأمن مكر اللّه ولو كانت إحدى رجليه في الجنة ، فالقلوب بين أصابع الرحمن ، واللّه يحول بين المرء وقلبه.
فالواجب عليه دائما أن يغذى قلبه بالعمل ويجلوه بالذكر أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعدآية 28].
والواجب على المسلم العاصي ألا ييأس من روح اللّه فاللّه يحول بين المرء وقلبه.
وعلينا أن نسرع دائما في الخير ولا نألوا جهدا في تحصيله فاللّه يحول بين المرء وقلبه فيموت قبل فعل الخير أو التوبة الصادقة ، وعلينا أن نحذر خطرات القلوب وأمراضها فاللّه عليم بذات الصدور ، وهو يفصل بين المرء وقلبه ، وهو أقرب من حبل الوريد.
واعلموا أنكم إليه تحشرون فأسرعوا في العمل وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وأعدوا العدة ليوم الحشر.
واتقوا فتنة لا تصيبن الظالمين بل تعمهم وغيرهم كالفتن القومية التي تهد كيان الأمة وتزعزع أركانها كفتنة الملك والسيادة ، أو الخلافات السياسية وما يتبعها من أحزاب وانقسام ، وكالأحزاب الدينية ، وكظهور البدع ، والكسل عن الجهاد ، أو ظهور المنكرات مع إقرارها ، والالتواء في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فهذه فتن لا تصيب أصحابها فقط بل تلتهم نيرانها الأمة جميعا إذ هم بين رجلين : رجل اشتراك في الإثم ، ورجل سكت عنه ولم يمنعه فهو كالمشترك معه.
انظر إلى الفتن التي لا حقت الإسلام في العصر الأول كفتنة عثمان ، وحادثة الجمل ومقتل الحسين وغيرها وكيف كان أثرها!! واعلموا أن اللّه شديد العقاب على من خالف أمره فهو معاقبه في الدنيا والآخرة.
واذكروا أيها المهاجرون ، وقيل : الخطاب لجميع المؤمنين في عصر التنزيل ، واذكروا وقت أن كنتم قلة مستضعفين في مكة والمشركون معكم بحولهم وطولهم يذيقونكم سوء العذاب. وأنتم تخافون أن يأخذوكم بسرعة خاطفة كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت 67] فآواكم أيها المهاجرون إلى الأنصار ، وأيدكم بنصره وبما أرسل لكم من الملائكة(1/818)
ج 1 ، ص : 819
ووفقكم لسبل النجاح ، وبما ألقى في قلوب أعدائكم من الرعب والخوف ، واللّه رزقكم من الطيبات رزقا حسنا رجاء أن تقوموا بالشكر.
وفي الآية عبرة وعظة لنا فاللّه يعامل أولياءه وأحبابه من المؤمنين إذا امتثلوا أمره بهذا ، أى : يؤويهم ويؤيدهم وينصرهم على أعدائهم ويجعلهم أعزة وملوكا ويرزقهم من طيبات الرزق ، كل ذلك رجاء قيامهم بالشكر ، فإن شكروا زادهم اللّه ، وإن لم يشكروا ولم يمتثلوا كما هو حال المسلمين اليوم أصبحوا أذلة في ديارهم مستعبدين في أوطانهم ، والأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
الخيانة من صفات المنافقين [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
المفردات :
لا تَخُونُوا الخيانة والخون يدلان على النقص وإخلاف ما كان يرجى ، ومنه قيل : خانه الحظ ، وخانته رجلاه ، ثم استعمل الخون والخيانة في ضد الأمانة والوفاء.
والْأَمانَةَ : تدل على التمام ، وهي حق مادى أو معنوي يجب عليه أداؤه.
فِتْنَةٌ
: هي الاختبار والابتلاء ، أو المراد بها الإثم والعذاب.
روى أنها نزلت في أبى لبابة وكان حليفا لبنى قريظة من اليهود ، فلما خرج إليهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد إجلاء بنى النضير وحاصرهم حصارا شديدا دام إحدى وعشرين ليلة وقد طلبوا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يرسل إليهم أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن أمواله وعياله فيهم ، فبعثه إليهم فقالوا له : ما ترى ؟ هل ننزل على حكم سعد بن معاذ كما طلب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فأشار إلى حلقه ، أى : أن حكم سعد الذبح ... قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى(1/819)
ج 1 ، ص : 820
علمت أنى خنت اللّه ورسوله ، فنزلت الآية
،
وقد شد نفسه على سارية المسجد وأبى الطعام والشراب حتى الموت ، أو يتوب اللّه عليه ، ومكث سبعة أيام وبعدها تاب اللّه عليه وفك النبي وثاقه.
المعنى :
يا من اتصفتم بالإيمان وتصديق الرحمن ، والاهتداء بالقرآن : لا تخونوا اللّه فتعطلوا فرائضه ، أو تنقصوا شيئا من أحكامه التي بيّنها لكم في كتابه ، فإن ذلك خيانة تتنافى مع الإيمان ، ولا تخونوا الرسول فيما أمركم به أو نهاكم عنه ، ولا تخونوه فترغبوا عن بيانه للقرآن فهو أدرى وأقرب ، فخيانة اللّه والنبي عبارة عن تعطيل فرائض الدين ، وعدم العمل بأحكامه والاستنان بسنته ، فإن هذا كله نقص لا يليق بالمؤمن والمؤتمن على دينه ، على أن الخيانة من صفات المنافقين ، والأمانة من صفات المؤمنين.
ولا تخونوا الأمانة التي في أيديكم لغيركم سواء كانت معاملات مالية أو شئونا أدبية أو سياسية أو سرا من الأسرار ، أو عهدا من العهود ، والحال أنكم تعلمون خطر الخيانة وسوء عاقبتها دنيا وأخرى ، وأنتم تعلمون الأمانة ومكانتها ، وقيل المعنى : وأنتم تعلمون أن هذا خيانة وذاك أمانة كما حصل لأبى لبابة.
واعلموا أن أموالكم وأولادكم فتنة وابتلاء ، وأى فتنة وابتلاء ؟ ! إذ المال عند الإنسان شقيق الروح ، يركب الأخطار ، ويتحمل المشاق في سبيل الحصول عليه ، فإذا هو أعطى المال فهل يشكر ويرضى ؟ أم يكفر ويعصى ؟ وإذا حرم منه فهل يصير ويرضى أم يغضب ويلعن ؟ أليس هو فتنة وابتلاء ؟ على أن المال وحبه الغريزي قد يدفع صاحبه إلى عمل يوقعه في المهالك والمصائب.
وأما الولد فقطعة من أبويه فلذة كبدهما ، وثمرة فؤادهما. وحبه فطرة وطبيعة عند والديه ، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل النفس والنفيس في سبيل راحته وسعادته وقد يؤدى ذلك إلى اقتراف الذنوب والآثام وركوب الشطط في سبيله ، أليست الأولاد فتنة بهذا المعنى وابتلاء ، وقد ورد « الولد ثمرة الفؤاد ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة »
أى : يدعو إلى ذلك كله.(1/820)
ج 1 ، ص : 821
والواجب على المؤمن أن يتقى اللّه في المال فيكسبه من طريق الحلال وينفقه في سبيل اللّه ، وعلى العموم يتبع أوامر الدين ، ويخالف نفسه وهواه فإن المال فتنة وابتلاء ، ويتقى اللّه في الولد فلا يكون حبه داعية من دواعي ارتكابه الإثم والعدوان ، ويراقب اللّه فيه فينشئه تنشئة صالحة دينية ، ولا يدفعه حب الولد إلى أن يكون في جمع المال له كحاطب الليل.
واعلموا أن اللّه عنده أجر عظيم وخير كثير هو خير من الدنيا وما فيها ، فارعوا الأمانة ، ولا تخونوا اللّه ورسوله.
تقوى اللّه وأثرها [سورة الأنفال (8) : آية 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
المفردات :
إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ التقوى : من الوقاية ، وهي : امتثال الأمر واجتناب النهى لأن هذا يكون وقاية للعبد من النار. فُرْقاناً : فارقا بين الحق والباطل .. الخيانة سببها الإفراط في حب المال والولد غالبا ، وعلاج هذا كله هو التقوى والاعتدال.
المعنى :
يا أيها المؤمنون إن تتقوا اللّه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، يجعل لكم فرقانا ، فيكون المسلم حيث أمره اللّه ، ولا يكون حيث نهاه اللّه ، هذه التقوى إن حصلت لعبد جعل اللّه له نورا يمشى به بين الناس ، وحكمة يهتدى بها ، وعلما نافعا ، وعملا صالحا ، وهذا كله يجعله يفرق بين الحق والباطل والنافع والضار ، ويهتدى إلى الصراط المستقيم ، كيف لا ؟ والمتقرب إلى اللّه بالنوافل يكون ربانيا ، ويكون المولى - جل(1/821)
ج 1 ، ص : 822
شأنه - سمعه وبصره ويده ورجله ، أفتراه يضل بعد هذا ؟ ألست معى في أن التقوى هي السبيل الأقوى ؟ !! إن تتقوا اللّه يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم السابقة ويسترها ويغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات النعيم ، واللّه - سبحانه - ذو الفضل العظيم.
عداوتهم لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولدينه [سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 31]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
المفردات :
يَمْكُرُ سبق شرحه آية 54 آل عمران. لِيُثْبِتُوكَ : ليحبسوك ويوثقوك إذ كل من شد شيئا وأوثقه فقد أثبته حتى لا يقدر على الحركة. أَساطِيرُ : جمع أسطورة ، وهي : القصص التي سطرت في الكتب بدون تمحيص ولا نظام.
هذه من نعم اللّه على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذكرت بعد أن منّ اللّه على المسلمين بقوله :
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ. [سورة الأنفال آية 26].
وهذه قصة تمثل جانبا من رواية الهجرة الشريفة يحسن الوقوف عليها.
لما شاع خبر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأصبح أتباعه يزيدون يوما بعد يوم اجتمع أشراف مكة في دار الندوة للتشاور في الخطر الداهم ، وتمثل لهم إبليس في زي شيخ نجدى وحضر(1/822)
ج 1 ، ص : 823
اجتماعهم ، فقال أبو البختري : الرأى أن تحبسوه في بيته ، وتشدوا وثاقه وتسدوا عليه بابا وتتربصوا به ريب المنون. فقال الشيخ النجدي : ما هذا بالرأى فإن أهله وأتباعه يقاتلونكم ويفكون أسره ، ثم قال هشام بن عمر :
الرأى أن تخرجوه من ديارنا وتستريحوا منه ولا يضركم ما يفعل. فقال النجدي :
ما هذا برأى أرأيتم إلى طلاقة لسانه وحلو حديثه وقوة تأثيره فلا تأمنوا أن يجتمع عليه العرب ويغزوكم في عقر دياركم ... ثم قال أبو جهل : لي رأى!! أن نجمع من كل قبيلة فتى جلدا قويا ومع كل فتى سيف بتار فيضربوه ضربة رجل واحد ، فيضيع دمه بين القبائل ، وماذا يفعل بنو هاشم في هذا ؟ قال إبليس : نعم هذا الرأى ... ولكن اللّه أطلعه على كل ذلك وأحبط تلك المؤامرة وردهم خائبين ، وخرج النبي وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
المعنى :
واذكر يا محمد وقت أن اجتمع الذين كفروا ليمكروا بك ويدبروا أمر القضاء عليك وعلى دعوتك ، وعاونهم في ذلك إبليس اللعين. فإن في ذلك القصص ذكرى وعبرة لك ولأمتك وفيه دليل صدقك وتأييد اللّه لك.
إنهم دبروا لك إحدى ثلاث : إما الحبس والمنع من لقاء الناس ، وإما القتل الجماعى ، وإما الإخراج من أرض الوطن.
فهم يمكرون بك وبأصحابك ، ويدبرون لك الأذى ، ولكن اللّه يحبط مؤامراتهم ويبطل كيدهم فقد أخرجك من مكة إلى المدينة مهاجرا ، وعدت إلى مكة غازيا فاتحا ، وقد سمى هذا مكرا من باب المشاكلة ، واللّه خير الماكرين لأن مكره إعزاز للحق وأهله ، ونصر للإسلام ورجاله وخذلان للباطل وحزبه.
وهكذا دائما لا تنتظروا أيها المسلمون من غيركم من الكفار والمشركين إلا هذا وأمثاله.
هذا كيدهم للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه ، أما كيدهم للدين وكتابه فها هو ذا : وإذا تتلى(1/823)
ج 1 ، ص : 824
عليهم آياتنا البينات الواضحات التي أنزلت على النبي الأمى قالوا جهلا وعنادا وسفها واستكبارا : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، فنفوا بمشيئتهم الإتيان بمثله! أفيعقل هذا ؟ أن تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله تحديا سافرا وهم أهل اللسان والبيان وأحرص الناس على التسابق في ميدان البلاغة والفصاحة! ثم عللوا هذا بقولهم : إن هذا إلا أساطير الأولين ، وأخبار كأخبار الأمم السابقين ، قيل : إن أول من قال هذا هو النضر بن الحارث وتبعه الناس.
صورة من حماقة العرب وجاهليتها [سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 35]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
المفردات :
مُكاءً : صفيرا. وَتَصْدِيَةً : تصفيقا.
روى أنه لما قال النضر بن الحارث : إن هذا إلا أساطير الأولين ، قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم :(1/824)
ج 1 ، ص : 825
ويلك إنه كلام رب العالمين. فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا ..
وروى أن معاوية قال لرجل من سبأ : ما جهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال : بل أجهل من قومي قومك حين قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر ... الآية.
المعنى :
واذكر إذ قالت قريش : اللهم إن كان هذا القرآن هو الحق من عندك ، لا شك فيه ولا مرية ، فعاقبنا على الكفر به ، بحجارة من سجيل كما عاقبت أصحاب الفيل ، ومرادهم إنكار كونه حقا منزلا من عند اللّه ، كأنهم قالوا : إن كان الباطل حقا فائتنا بعذاب أليم ، تراهم علقوا نزول العذاب على محال في ظنهم ، وفي تعبيرهم (هذا هو الحق) المفيد للتخصيص تهكم بمن يقول : القرآن حق!! فهذا أسلوب بليغ في الجحود والإنكار.
إن كان هذا القرآن هو الحق دون غيره فأمطر علينا حجارة من السماء هي الحجارة المسومة للعذاب أو ائتنا بعذاب أليم آخر.
وهذا هو بيان لموجب التأخير في إجابة دعائهم.
وما كان من مقتضى سنة اللّه ورحمته وحكمته أن يعذبهم بعذاب الاستئصال وأنت فيهم قد بعثت رحمة للعالمين ، وما عذب اللّه أمة ونبيها معهم.
وما كان اللّه ليعذبهم والحال أنهم يستغفرون ، أى : ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر لما عذبهم اللّه أبدا ، ولكنهم قوم مرنوا على الكفر والشرك فلن يتوقع منهم ذلك ، وقيل : ما كان ينبغي تعذيبهم وفيهم من يستغفر اللّه من المؤمنين الذين بين ظهرانيهم.
وتقييد نفى العذاب بكون الرسول معهم دليل على أن العذاب يترصدهم وأنهم معذبون لا محالة بدليل قوله تعالى :
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ؟ على معنى : وأى شيء ثابت لهم حتى ينتفى عنهم العذاب ، فهم معذبون لا محالة!!(1/825)
ج 1 ، ص : 826
وكيف لا يعذبون ؟ وهم يصدون الناس عن المسجد الحرام كما صدوا رسول اللّه عنه عام الحديبية ، ألم يخرجوا النبي وصحبه من المسجد الحرام ؟ !! أفلا يكون هذا صدا عنه ؟ !! وكانوا يقولون : نحن أولياء البيت الحرام نصد من نشاء ، وندخل من نشاء ، فيرد اللّه عليهم بقوله : وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ ، وكيف يكونون أولياء له مع شركهم وعداوتهم للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ؟ وما أولياؤه وأحبابه إلا المتقون المؤمنون من المسلمين فقط ، وليس كل مسلم يوصف بأنه ولى اللّه.
ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك ، وقليل منهم من يعرف حقيقة نفسه ... وقد كانوا يطوفون بالبيت عراة رجالا ونساء مع الصفير والتصفيق وقد سجل اللّه عليهم ذلك.
وما كان صلاتهم عند البيت الكريم إلا صفيرا وتصفيقا فكان طوافهم وصلاتهم من قبيل اللهو واللعب.
وإذا كان الأمر كذلك فذوقوا العذاب الأليم المعد لكم بسبب كفركم وشرككم!!.
عاقبة إنفاقهم للصد عن سبيل اللّه [سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)(1/826)
ج 1 ، ص : 827
المفردات :
حَسْرَةً : ندامة وألما.
نزلت في أبى سفيان حين أنفق المال الكثير على المحاربين في بدر وأحد. وحين قالوا :
يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال - يريد مال العير الذي نجا - على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا.
المعنى :
إن الذين كفروا باللّه ورسوله ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن اتباع محمد وما علموا أن هذا صد عن سبيل اللّه ، فسينفقونها في حربه والصد عنه ثم تكون في النهاية حسرة عليهم وندامة لهم ، لأنه مال ضائع في سبيل الشيطان ولن يصلوا إلى ما يريدون فاللّه قد كتب وقدر لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي « 1 » فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ « 2 » .
هذا عذابهم في الدنيا : ضياع المال والهزيمة النكراء ، وهم في الآخرة إلى جهنم يحشرون.
إن اللّه كتب النصر لعباده والغلب لهم ليميز اللّه الفريق الخبيث من الفريق الطيب ويجعل الخبيث بعضه فوق بعض متراكما في جهنم ، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
___________
(1) سورة المجادلة آية 21.
(2) سورة الرعد آية 17.(1/827)
ج 1 ، ص : 828
من فضل اللّه على الناس [سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
بعد ما تعرض للكفار وذكر نتيجة أعمالهم في الدنيا والآخرة فتح لهم باب الرحمة الواسعة والفضل الكبير فقال : قل يا محمد للذين كفروا : إن ينتهوا عما هم فيه ، يغفر اللّه لهم ما قد سلف منهم ، فالإسلام يجب ما قبله ، ويفتح للمسلم صفحة جديدة تسطر فيها أعماله ويجازى عليها ، وأما ما عمله قبل الإسلام فدون الكفر ، والإسلام يمحو كفره وشركه ، وأما إن عادوا إلى حظيرة الكفر فسيلحقون بمن تقدمهم من الأمم السابقة التي كفرت باللّه وبرسله ووقفت منهم موقف العناد ، وهذه سنة اللّه في الخلق جميعا إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
وأما أنتم أيها المسلمون فقاتلوهم قتالا عنيفا مبيدا حتى لا تكون هناك فتنة أبدا لمسلم في الأرض ، ويكون الدين كله للّه ، والأمر له وحده. فإن انتهوا فإن اللّه بصير بأعمالهم ومجازيهم عليها ، وإن تولوا وأعرضوا فلا يهمنكم أمرهم ، واعلموا أن اللّه مولاكم ومن كان اللّه مولاه فلا يضام أبدا ، وهو نعم المولى ونعم النصير - سبحانه وتعالى - واللّه أعلم.(1/828)
ج 1 ، ص : 829
كيف تقسم الغنائم [سورة الأنفال (8) : آية 41]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (41)
المفردات :
غَنِمْتُمْ : من الغنيمة ، وأصلها إصابة الغنم ، والمراد : ما أخذ من الكفار قهرا أما ما أخذ بلا حرب فهو فيء كالجزية وعشر التجارة ... إلخ ما هو مبين في كتب الفقه. يَوْمَ الْفُرْقانِ : هو يوم بدر لأنه فرق بين الحق والباطل وظهر في الوجود أن لمحمد المهاجر من بلده قوة غلبت كفار قريش المغرورين.
المعنى :
سئل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الأنفال وتقسيمها والمراد بها الغنائم كما سبق. فأجاب القرآن على سؤالهم مبينا أن حكمها للّه ويقسمها الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم على حسب ما أمر به يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. [سورة الأنفال آية 1].
وهذا بيان لحكمها بالتفصيل.
واعلموا أيها المسلمون أن الذي غنمتموه من الكفار ، أيا كان قليلا أو كثيرا فحق ثابت ، واجب أن للّه خمسه وللرسول ، ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
فالغنيمة تقسم خمسة أقسام ، خمسها لهؤلاء الخمسة ، وأربعة أخماسها الباقية للجيش بدليل(1/829)
ج 1 ، ص : 830
بيان هذا الخمس والسكوت عن الباقي مع قوله تعالى غَنِمْتُمْ قال القرطبي : لما بين اللّه - تعالى - حكم الخمس وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين.
والمراد بذوي القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب دون بنى عبد شمس ، وبنى نوفل ، واليتامى : من فقدوا آباءهم وهم فقراء ، والمساكين : هم ذوو الحاجة من المسلمين ، وابن السبيل : المنقطع في سفره مع شدة حاجته حتى صار الطريق أبا له.
كان يقسم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الخمس على خمسة : سهم له يصرفه في مصالح المسلمين وسهم لذوي القربى ، والثلاثة الباقية لأصحابها المذكورين ، وبعد وفاته اختلفت الأئمة فمن قائل أن سهم النبي وسهم ذوى القربى يسقطان ، وفقراء آل البيت كفقراء المسلمين ، ولا يعطى أغنياؤهم ، وهكذا كان يسير أبو بكر مع بنى هاشم ، وقال الشافعى : سهم رسول اللّه يصرف على مصالح المسلمين. وسهم ذوى القربى لفقراء آل البيت وأغنيائهم بالسوية كالميراث ، والرأى أن سهم الرسول وسهم ذوى القربى يترك أمرهما للإمام يفعل ما فيه المصلحة للمسلمين.
وبعض العلماء تمسك بظاهر الآية وقال : الخمس يقسم ستة أقسام لا خمسة.
إن كنتم آمنتم باللّه وما أنزل على رسول اللّه من الوحى والملائكة والنصر يوم الفرقان يوم التقى الكفار والمسلمون فاعلموا أن الخمس ليس لكم ولكنه للّه ولرسوله ، وللأصناف المذكورة ، فحذار من أن تتعدوا الحدود في وقت من الأوقات ، ولا غرابة في جعل الإيمان بإنزال هذه الأشياء من دواعي العلم بأن للّه خمسه وللرسول ... إلخ الأصناف لأن الوحى ناطق بهذا ، ولما كانت الملائكة والنصر من عند اللّه ، وجب أن تكون الغنيمة التي حصلت بسببها مصروفة في الجهات التي عينها اللّه ، وليس المراد اعلموا فقط بل العلم المشفوع بالعمل والاعتقاد.(1/830)
ج 1 ، ص : 831
امتنان اللّه على المؤمنين بالنصر على عدوهم [سورة الأنفال (8) : الآيات 42 الى 44]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
المفردات :
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا : شط الوادي ، والدنيا ، أى : القريبة من المدينة. والْقُصْوى : مؤنث الأقصى ، أى : البعيدة عن المدينة.
المعنى :
يذكرنا اللّه - سبحانه وتعالى - بالنعم العظيمة التي حبانا بها ، وكان لها الأثر الفعال(1/831)
ج 1 ، ص : 832
في الانتصار على كفار قريش ، وهذا يوجب الشكر علينا والامتثال لأمر اللّه في تقسيم الغنائم وغيره.
واذكروا يوم التقى الجمعان إذ أنتم بالعدوة القريبة من المدينة اخترتموها مكانا لكم مع أنها كانت رملية تسوخ فيها الأقدام ، ولا يسهل السير عليها ، والكفار في العدوة البعيدة ، وكانت مكانا صالحا للوقوف قريبا من الماء ، ومع ذلك فكان العير الذي يحمل التجارة والركب الذي يرأسه أبو سفيان في أربعين من قريش أسفل منكم ، ووراء ظهور المشركين حاميا لها ، وهم يدافعون عنه دفاع المستميت ، وهذا بلا شك مما يقوى الروح المعنوية فيهم واعلموا أنكم لو تواعدتم على القتال لاختلفتم في الميعاد خوفا من بطشهم وقوة عددهم.
كل ذلك ليتحقق للمسلمين أن النصر من عند اللّه وحده ، وأن اللّه هو الذي جعلهم يتغلبون على عدوهم مع قلة عددهم وعددهم فيزدادوا إيمانا وشكرا وامتثالا لأمر اللّه.
ولكن جمع اللّه بينكم على هذه الحال من غير ميعاد ليقضى اللّه أمرا كان مقدورا فعله ، محتما وقوعه لأنه نصر لأوليائه ، وقهر لأعدائه ليهلك من هلك بعد ظهور تلك البينات الواضحات عن حجة وبينة ، فإن المقدمات الظاهرة لو تركت وحدها لأنتجت هزيمة المسلمين هزيمة ساحقة ، أما وقد ظهر أن اللّه على كل شيء قدير ، وأنه ولى الذين آمنوا ، وهو يتولى الصالحين ، وقد نصر المسلمين على عدوهم نصرا مؤزرا ، وتحقق قوله : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ « 1 » فمن يهلك بعد ذلك يهلك عن بينة وحجة ، ومن يحيا بعد ذلك يحيا عن بينة وحجة ، فليس الأمر يسير كالعادة والمألوف ، بل هذه معجزات قواطع دمغت الكفر ، ومحقت الشرك ، وقيل : المراد بالحياة والهلاك :
الإسلام والشرك ، وإن اللّه لسميع بكل دعاء والتجاء إليه ، عليم بكل قصد وعمل.
واذكر إذ يريك اللّه الكفار في منامك قليلا ، بمعنى ضعفاء ، فتخبر أصحابك بذلك فتثبت قلوبهم ، ولو أراكهم على حسب الواقع لفشلتم واختلفتم وتنازعتم في أمر القتال ، ولكن اللّه سلّم من الفشل والنزاع حيث أخرجكم للعير ثم وعدكم اللّه إحدى الطائفتين ، وقد فر العير فلم يبق إلا القتال ، وقد منّ عليكم بنعمه حتى انتصرتم ، إنه عليم بذات الصدور وهو أعلم بخلقه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [سورة الملك آية 14].
___________
(1) سورة القمر آية 45. [.....](1/832)
ج 1 ، ص : 833
واذكروا إذ يريكم اللّه الكفار ساعة القتال قلة في أعينكم حتى تجرؤوا وتقوى روحكم المعنوية ، ويجعلكم قلة في أعين الكفار فيغتروا ، ولا يعدوا العدة لكم ولا يحكموا الضربة الموجهة إليكم هذا قبل القتال وأما فيه فإنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويتملكهم الفزع وتسوء حالهم المعنوية قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران آية 114].
كل ذلك ليقضى اللّه أمرا كان مفعولا بلا شك ، وإلى اللّه ترجع الأمور كلها يصرفها كيف يشاء ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه - سبحانه وتعالى - .
نصائح حربية [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 47]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
المفردات :
فِئَةً : جماعة. رِيحُكُمْ المراد : القوة والغلبة والدولة ، ويقال : هبت رياح فلان : إذ دالت له الدولة ونفذ أمره. بَطَراً البطر والأشر : هما الفخر بالنعمة ومقابلتها بالتكبر والخيلاء وجعلها وسيلة إلى ما لا يرضى اللّه. رِئاءَ النَّاسِ أصله : رياء الناس.(1/833)
ج 1 ، ص : 834
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله ، إذا حاربتم جماعة من الكفار ، والتقيتم بهم في ميدان الحرب فالواجب عليكم أن تثبتوا في قتالهم وتصمدوا للقائهم ، وإياكم والفرار من الزحف ، وتوليتهم الأدبار. فالثبات فضيلة ، والفرار كبيرة يعاقب الدين عليها وعليكم بذكر اللّه في السراء والضراء وحين البأس ، فبذكره تطمئن القلوب ، وبدعائه تفكّ الكروب ، فهو القريب المجيب دعوة الداعي ، لا سيما إذا كان دعاء بالنصر على عدو اللّه ، اثبتوا عند اللقاء ، واذكروا اللّه كثيرا ، رجاء أن تفوزوا بالأجر والثواب ، والنصرة على الأعداء ... وأطيعوا اللّه في كل ما أمر به ونهى ، وكذا رسوله الكريم فمن أطاع الرسول فقد أطاع اللّه ، وإياكم والنزاع فإنه مدعاة للفرقة وأساس الهزيمة ، وإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم وكثرة اعتراضهم ، فالنزاع أداة الهلاك ، ومعول الهدم والشقاء ، به تذهب الدولة ، وتفنى القوة وعليكم بالصبر فهو سلاح المؤمن الذي لا يفل ، ولقد قيل : الشجاعة صبر ساعة ، وكفى بالصبر شرفا أن اللّه مع الصابرين بالمعونة والتأييد ، وإياكم أن تكونوا كأولئك الكفار الذين خرجوا من ديارهم ليحموا عيرهم خرجوا حالة كونهم بطرين طاغين بالنعمة ، غير شاكرين إذ قيل لهم :
إن العير نجا فارجعوا ، فقال أبو جهل ، لا ، حتى نقدم بدرا ونشرب الخمور وتضرب القيان علينا بالدفوف ، وتسمع العرب بمقدمنا .. كما مر قريبا ، وكان مآلهم كما علمت ، بدل اللّه شرب الخمر بشرب كأس الموت ، وبدل ضرب القيان والغناء بنوح النائحات ، وبدل نحر الجزور بنحر الرقاب وهكذا!! لا تكونوا مثلهم بطرين أشرين مرائين الناس صادين عن سبيل اللّه ، فهذه من عوامل الهدم والفناء ، واعلموا أن اللّه بما يعمل العاملون محيط وسيجازى كلا على عمله.
فهذه هي النصائح التي تكفل النصر للمسلم : الثبات عند اللقاء ، وذكر اللّه والالتجاء إليه ، وطاعة اللّه وطاعة رسوله وكذا قائد الجيش ورئيس الدولة ما دام يأمر بما يرضى اللّه ورسوله ، وعدم النزاع والشقاق ، والصبر عند الشدائد ، وعدم البطر والرياء والكبر والخيلاء ...(1/834)
ج 1 ، ص : 835
كيف يتخلص الشيطان [سورة الأنفال (8) : الآيات 48 الى 51]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)
المفردات :
زَيَّنَ : حبب إليهم أعمالهم ووسوس لهم بها. نَكَصَ : رجع هاربا ، أى : رجع القهقرى ، والمراد : أحجم ، والعقب : مؤخر القدم. أَدْبارَهُمْ : جمع دبر ، أى : مؤخرهم ، والمراد : ظهورهم ، وقيل : المراد أستاههم.
المعنى :
واذكر يا محمد إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها ضد دين اللّه ، ووسوس لهم بها وحببهم فيها حتى فهموا أنهم لا يغلبون أبدا ، وأوهمهم أن خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم ، فلما تراءى الجمعان ، والتقت الفئتان في الميدان وجها لوجه. نكص على(1/835)
ج 1 ، ص : 836
عقبيه ، ورجع هاربا لا يلوى على شيء ، وقال : إنى برىء منكم ومن عملكم ، إنى أرى ما لا ترون من جند اللّه التي تحارب في صفوفهم والمراد أنه بطل عمله ، وذهب كيده أدراج الرياح ، وهذا تمثيل لحاله مع الكفار في الدنيا فما باله في الآخرة ؟ !! وفي المأثور : أن إبليس تمثل في صورة سراقة بن مالك الشاعر الكناني وتحدث معهم بالفعل ، وفي بعض الروايات : كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص وتركهم وقد حمى الوطيس قال له الحارث : إلى أين ؟ أتخذلنا في هذه الحال ؟ فقال : إنى أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانطلق. إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف اللّه!! انظر كيف وقف الشيطان منهم هذا الموقف ؟ !! واللّه شديد العقاب فاحذروا عقابه.
واذكر وقت أن يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض الشك والحسد وداء الحقد والبطر : غر هؤلاء المسلمين دينهم حتى يخرج ثلاثمائة لمحاربة ألف من زعماء قريش ، إن هذا لغرور!! وما علم المنافقون أن من يتوكل على اللّه فهو حسبه ، وناصره ومؤيده ، فإن اللّه عزيز يعز أولياءه ويذل أعداءه ، غالب على أمره ، حكيم في فعله عليم بخلقه. سبحانه وتعالى.
ولو رأيت يا من تتأتى منك الرؤية وقت أن يتوفى الذين كفروا الملائكة ، لو رأيت الكفرة في هذه الحال لرأيت شيئا عجيبا لا يكاد يوصف ، فهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد ، ويقولون لهم : ذوقوا عذاب الحريق ، وهذا بشارة لهم بعذاب الآخرة.
ذلك العذاب الشديد والضرب الأليم بسبب ما قدمته الكفار ، واجترحته من المعاصي والذنوب ، وأن اللّه ليس بذي ظلم للعباد أبدا بل يضع الموازين القسط ، ويعطى كل ذي حق حقه.
ما حل بهم بسبب أعمالهم [سورة الأنفال (8) : الآيات 52 الى 54]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)(1/836)
ج 1 ، ص : 837
المفردات :
كَدَأْبِ الدأب : مصدر دأب يدأب : إذا كدح وأتعب نفسه وداوم على فعله ، ثم سميت به العادة لأن الإنسان يداوم عليها ويواظب.
المعنى :
هذا استئناف ، أى : كلام جديد مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بسبب شيء آخر فهو تأكيد لمضمون ما قبله ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
عمل هؤلاء الكفرة الذين مرنوا عليه وتعودوه كعمل آل فرعون والذين من قبلهم من آل عاد وثمود وقوم لوط والمؤتفكات ، أتتهم رسلهم بالبينات فكفروا بآيات اللّه ، وكذبوا برسل اللّه. فأخذهم اللّه بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ، ولا غرابة في ذلك فإن اللّه قوى عذابه شديد عقابه فالجزاء من جنس العمل ومسبب عنه.
ذلك العذاب الذي يأتى مسببا عن العمل بسبب أن اللّه - سبحانه وتعالى - لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، أى : لم يصح في حكمته أن يغير نعمة حتى يتغير صاحبها إذ هو الحكيم الكريم الرحمن الرحيم.
وهؤلاء الكفار كانوا في نعمة الأمن والرفاهية ، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وبعث إليهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من بينهم يتلوا عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، نعم كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام(1/837)
ج 1 ، ص : 838
لكن هذه لم تمنعهم من إفاضة نعمة الإمهال عليهم وسائر النعم التي سبقت من الأمن والرفاهية وإرسال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
فلما بعث إليهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم غيروا حالهم السيئة إلى أسوأ منها حيث كذبوا النبي وعادوه وحاولوا قتله وعذبوا أصحابه وتحزبوا عليه .. فغير اللّه - تعالى - ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهال وعاجلهم بالعذاب والنكال إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وذلك بسبب أن اللّه يسمع كل صوت ويعلم كل قصد وعمل.
دأبهم وما هم عليه من عادة كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فكان من نتيجة ذلك أن أهلكهم اللّه بذنوبهم التي من جملتها التكذيب وأغرق آل فرعون وأرسل الريح والصيحة على غيرهم ، وكل هؤلاء كانوا ظالمين.
كيف حال من نقض العهد ؟ [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 59]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)
المفردات :
الدَّوَابِّ : جمع دابة ، وهي : ما تدب على الأرض ، والمراد الناس.
تَثْقَفَنَّهُمْ تثقفت الرجل في الحرب : أدركته ، وثقفته : ظفرت به. فَشَرِّدْ بِهِمْ التشريد : تفريق مع إزعاج واضطراب. فَانْبِذْ : فاطرح وارم.
سَبَقُوا : أفلتوا وفاتوا.(1/838)
ج 1 ، ص : 839
المناسبة :
بعد أن تكلم على الكافرين الظالمين الذين هلكوا بأعمالهم. أخذ يتكلم على أحوال الباقين منهم.
روى أنها نزلت في بنى قريظة من اليهود ، وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان عاهدهم ألا يحاربوه وألا يعاونوا أحدا عليه فنقضوا عهدهم وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول اللّه ، ثم قالوا : نسينا. فعاهدهم ثانية فنقضوا ومالئوا الكفار يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف زعيمهم إلى مكة فحالفهم على محاربة رسول اللّه.
المعنى :
إن شر الناس عند اللّه الذين كفروا وصدوا عن سبيله ، ولجوا في العناد وأصروا على الكفر ، وقد جعلهم القرآن شر الدواب إشارة إلى أنهم بلغوا درجة الحيوانات والدواب ومع ذلك هم شر منها إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا « 1 » وهم لذلك لا يؤمنون ولا يرجى منهم خير أبدا.
إن شر الناس عند اللّه ، أى : في حكمه وقضائه : الذين كفروا ، أى : الذين عاهدت منهم وأخذت العهد عليهم كبني قريظة ثم تراهم ينقضون العهد في كل مرة من المعاهدة والحال أنهم لا يتقون اللّه ولا يخافون حسابه وليس لهم ضمير أو ذمة يرعونها.
هذا حالهم عند اللّه ، أما حكم من نقض العهد منهم فإن أمكنتك الفرصة منهم وثقفتهم في الحرب فاضربهم الضربة القاضية التي تفرق بها جمع كل ناقض للعهد حتى يخافك من وراءهم من أهل مكة وغيرها ، افعل هذا لعل الذين خلفهم يتعظون بهم.
أما من أشرف على نقض العهد وبدرت منه بوادر تؤذن بأنه سينقض فهاك حكمه.
وإما تخافن من قوم خيانة بنقض العهد بأن لاح لك دلائل الغدر ومخايل الشر ، والمراد بالخوف : العلم ، فاطرح لهم عهدهم وانبذه لهم نبذ النواة مستويا أنت وهم في العلم بنقض العهد بأن تعلمهم به حتى لا يتهموك بالغدر والخيانة إن اللّه لا يحب الخائنين.
___________
(1) سورة الفرقان آية 44.(1/839)
ج 1 ، ص : 840
وقيل المعنى : فانبذ إليهم عهدهم على طريق مستو واضح ، والمراد : أخبرهم خبرا مكشوفا.
ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم أفلتوا من القتل والأسر يوم بدر أنهم بهذا السبق لا يعجزون اللّه من الانتقام منهم بل هم في قبضته ولن يفلتوا أبدا إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بالعذاب الشديد ، وأما أنت يا محمد فاعلم أن اللّه محيط بهم ومعذبهم على كفرهم ومنتقم منهم فاطمئن واصبر فإن اللّه معك!
الإعداد الحربي للأعداء [سورة الأنفال (8) : آية 60]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)
المفردات :
رِباطِ الْخَيْلِ يقول الكشاف : الرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل اللّه.
تُرْهِبُونَ : تخيفون.
المعنى :
الجيش هو عدة الوطن وسلاحه ودرعه وسياجه ، وجه الأمة التي تقابل به العدو ، ويدها التي تبطش بها ، وقلبها النابض وعينها الساهرة ، ولذا كانت عناية القرآن به كما ترى في كثير من الآيات ، ورعاية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم له وإعطاؤه القسط الوافر المناسب لزمنه أمر ظاهر واضح.
والإعداد والتكوين أمر شاق على النفوس عسير على الناس إلا المؤمنين باللّه المتوكلين عليه أصحاب النفوس العزيزة والهمم العالية.(1/840)
ج 1 ، ص : 841
والآية الكريمة على اختصارها جمعت أنواع الإعداد للجيوش التي تتلاءم مع كل عصر وزمن مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ.
فالإعداد الأدبى ، والمادي ، والإدارى ، والفنى ، والمالى ، مع الحث على ذلك كله بالثواب الجزيل والعطاء الكثير كل ذلك في الآية الشريفة ، ولقد فرض القرآن علينا الإعداد بأنواعه وَأَعِدُّوا ، وأن نبذل فيه أكثر جهودنا وأن نقدم النفس والنفيس ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
ولم تغفل الآية الإعداد في وقت السلم حتى يكون الجيش على أتم استعداد في كل وقت (كلما سمعوا هيعة طاروا إليها) فأمرنا بإعداد الخيل المرابطة في الثغور لمقابلة العدو ليلا ونهارا.
ولقد ذكرت الآية سبب الإعداد وهو إرهاب العدو الظاهر والعدو الخفى ما نعلمه ، وما لا نعلمه.
ولم يكن هناك إعداد ونصر إلا بالمال ، ولا سبيل إليه إلا بالإنفاق المطلق كل على قدر طاقته وإيمانه مع حقنا على التسابق فيه والعمل على إحراز ثوابه الكبير المعد لنا يوم القيامة.
ولا يمكن أن تقوم أمة بهذا الإعداد الكامل ثم تظلم من جيرانها أبدا ، وأنتم لا تظلمون كذلك في الآخرة وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة آية 273].
والخيل في العصر القديم كانت عنوان الرهبة للأعداء ، ولا تزال لها مكانتها في العصر الحديث لهذا ذكرت ، وإن كانت الآية تدعو لإعداد المستطاع المناسب من كل قوة صالحة.
الميل إلى السلام ، وتقوية الروح المعنوية في الجيش [سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 66]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)(1/841)
ج 1 ، ص : 842
المفردات :
جَنَحُوا : مالوا لِلسَّلْمِ السّلم ، والسّلم واحد. حَسْبَكَ :
كافيك.
المعنى :
بعد ما أمر بالاستعداد التام للحرب ، وغالبا يكون مانعا له ، ذكر هنا حكم ما إذا طلبوا الصلح ومالوا إلى السلم فقال ما معناه : وإن مالوا إلى السلم وطلبوا عقد الهدنة والأمان فأعطهم ما طلبوا ، والصحيح - كما قال الزمخشري في كشافه - : أن الأمر في الآية موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو صلح ، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا ، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا.(1/842)
ج 1 ، ص : 843
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اللّه فاللّه حسبك وكافيك ، وهو السميع لكل قول وطلب ، عليم بكل قصد ونية ، وهذا يفيد أن دين الإسلام دين السلام والمحبة ، وأنه عدو للحرب إلا إذا اقتضتها الظروف القاهرة.
وإن يريدوا خداعك بطلب الصلح حتى يستعدوا للحرب فاعلم أن اللّه كافيك شرهم ، وناصرك عليهم ، ولا غرابة ، فهو الذي أيدك وأمدك بنصر من عنده وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وأيدك بالمؤمنين معك من الأنصار والمهاجرين ، الذين دافعوا عنك دفاع الأبطال ، وهو الذي ألف بين قلوبهم ، وجمعهم على كلمة الحق والشهادة ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها وأهلها جمعهم على حبك وألف بين قلوبهم المتنافرة المتباغضة ، وقد كانوا في الجاهلية أصحاب حروب وفتن وعداوات وعصبيات وحب للانتقام وإثارة الحروب لأتفه الأسباب ، ومع أنك لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم. ولكن اللّه القوى القادر الحكيم العليم ألف بين قلوبهم ، وجمعهم على صراط سوى ، إنه عزيز كامل القدرة والغلبة يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير ، حكيم في كل ما يصنع.
يا أيها النبي حسبك اللّه وكافيك في جميع أمورك أنت والمؤمنين بك فكونوا أقوياء العزم ثابتى الجنان ، فإن اللّه معكم بالنصر والمعونة. ولا شك أن هذا يقوى الروح المعنوية في جيوش المسلمين.
وهذا لا يمنع الأخذ بالأسباب ، ولذا يقول اللّه : يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، وحثهم عليه حثا شديدا حتى يبذلوا النفس والنفيس في سبيل اللّه طيبة نفوسهم بهذا ، وذلك ببيان فضيلة الجهاد وأنهم ينتظرون في الجهاد إحدى الحسنيين : إما الشهادة ، ويا لها من شرف!! وإما الغنيمة والنصر. واعلموا أن الواجب عليكم أن الواحد يقاتل عشرة من الكفار ، إذ هناك فرق شاسع بين من يقاتل عن عقيدة ثابتة ونفس مطمئنة ، وبين من يقاتل مكرها أو مأجورا أو لغرض دنيوى بسيط.
إن يكن منكم عشرون صابرون محتسبون أجرهم عند اللّه يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم مائة صابرة على هذا الشرط يغلبوا ألفا من الذين كفروا باللّه وبرسوله ، ولم يؤمنوا بالبعث والجزاء ، ذلك بسبب أنهم قوم لا يفقهون الأسرار الحربية ونظامها الذي يكفل النجاح ، وهم قوم لا يفقهون عن عقيدة وحجة ، ثم هم لا يؤمنون بالبعث(1/843)
ج 1 ، ص : 844
والجزاء. أما أنتم فتقاتلون صابرين محتسبين الآجر من عند اللّه منتظرين إحدى الحسنيين من الغنيمة أو الشهادة. هذا هو الوضع الذي يجب أن يكون عليه المسلم ، وعدم الفقه والفهم هو الوضع الذي وصف به المشركون ، واليهود لأنهم ماديون أشد الناس حرصا على حياة هذه المرتبة العليا للمؤمنين وهي مرتبة (العزيمة) وهاك مرتبة أقل منها وهي (الرخصة).
الآن خفف اللّه عنكم وعلم أن فيكم ضعفا في البدن من كثرة الجهاد والعمل ، فإن يكن منكم مائة صابرة على هذا الشرط يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن اللّه وقوته واللّه مع الصابرين بالمعونة والرعاية ، ولقد كرر القرآن مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت أبدا ما دام الجيش يسير حسب الشرع ، وتبعا لتعاليم الإسلام.
التشريع ينزل موافقا لرأى عمر [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 71]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)(1/844)
ج 1 ، ص : 845
المفردات :
يُثْخِنَ يقال : أثخنه المرض والجرح : إذا أثقله وجعله لا يتحرك ، والمراد يكثر القتل ويبالغ فيه.
سبب النزول :
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم استشار أصحابه فيما يعمله في أسرى بدر فأشار أبو بكر بالفدية وقال : هم قومك وأهلك استبقهم لعل اللّه يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك ، واستشار عمر فأشار بالقتل قائلا : اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر واللّه أغناك عن الفداء.
مكّن عليا من عقيل ، وحمزة من العباس ، ومكنى من فلان نسيب له فلنضرب أعناقهم ، وقد مال الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إلى رأى أبى بكر فنزلت الآية وقد ختم اللّه سياق الكلام في القتال بذكر حكم يتعلق بالأسرى.
المعنى :
الأسير عدو من الكفار وقع في يد المسلمين ، والحكم فيه أن الإمام يتصرف فيه تبعا للمصلحة العامة فيعرض عليه الإسلام فإن أسلم فبها ، وإلا قتله الإمام ، أو قبل الفداء منه ، أو استرقه ، أو منّ عليه بدون فداء. هذا إذا كانت للأمة الإسلامية دولة وصولة ، أما في مبدأ الأمر كما هنا عند قيام الدولة فالرأى ألا يبقوا على الأسر ولا يحملوهم معهم بل يقتلوهم قتلا. إذ هم عالة عليهم وضغث على إبالة ، وإن بقي ربما تظاهر بالإسلام وكان جاسوسا على المسلمين ، وفي هذا المعنى كانت الآية الكريمة.
ما كان لنبي ، أى : ما صح له وما استقام أبدا ، أى : لا ينبغي أن يكون له أسرى ثم يبقى عليهم ، ويقبل الفدية. فإن هذا خطر على الدولة ، ما كان له ذلك حتى يكثر القتل في الكفار ويبالغ فيه ، وفي هذا إعزاز للمسلمين ، وإضعاف للكفار وكسر لشوكتهم ، أتريدون بقبول الفداء والإبقاء عليهم عرضا من أعراض الدنيا وحطامها الزائل ؟ واللّه يريد لكم ثواب الآخرة ، أو يريد إعزاز دينه ، والقضاء على أعدائه وهذا سبب الوصول إلى ثواب الآخرة ، واللّه عزيز يعز أولياءه ، وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين ، حكيم في أفعاله وأعماله فامتثلوا أمره فهو يهديكم إلى سبيل الرشاد والخير.(1/845)
ج 1 ، ص : 846
لو لا كتاب من اللّه سبق وحكم قضاه في اللوح المحفوظ أن المخطئ لا يعاقب على خطئه ، لولا هذا لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم وقعه ، شديد هوله ، وفي هذا تهويل لخطر ما فعلوا.
وقد أبيحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ، واتقوا اللّه وامتثلوا أمره ونهيه ، إن اللّه غفور رحيم يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئة.
روى أنه كان من الأسرى العباس بن عبد المطلب وقد كلفه النبي أن يفدى ابن أخيه عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث فقال : يا محمد ، تركتني أتكفف قريشا ما بقيت ، فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة ؟ وكان هذا إخبارا بالغيب حيث لم يكن يعلم بهذا إلا اللّه ، فقال العباس : واللّه كان عندي ريب قبل هذا ولكن الآن لا ريب
، وفي رواية قال العباس : فأبدلنى اللّه خيرا مما أخذ منى.
يا أيها النبي قل لمن في ملككم من الأسرى : إن يعلم اللّه في قلوبكم إخلاصا وحسن نية يؤتكم خيرا مما أخذ منكم في الفداء ، ويغفر لكم واللّه غفور ستار للذنوب. وقيل :
المراد من الآية أن يعرض النبي على الأسرى الإسلام ، ويمنيهم بالخير والمغفرة.
وإن يريدوا خيانتك ، ونقض عهدك فاعلم أنهم قد خانوا اللّه من قبل ذلك بنقضهم الميثاق المأخوذ على الناسجميعا أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وإذا كان كذلك فلا يهمنك أمرهم فاللّه أمكنك منهم وسلطك عليهم فهزمتهم ، وهذا كلام مسوق لتسلية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بطريق الوعد له والوعيد عليهم ، واللّه عليم بالنيات حكيم بفعل ما تقتضيه الحكمة البالغة ..
الرابطة الإسلامية أقوى الروابط [سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (75)(1/846)
ج 1 ، ص : 847
المفردات :
هاجَرُوا : تركوا دار الكفر وذهبوا إلى دار الإسلام. آوَوْا : أنزلوا وأسكنوا ، يقال : آواه : أنزله دارا وأسكنه إياها. وَلايَتِهِمْ : الولاية مصدر وليه يليه ، أى : ملك أمره وقام به. تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ : تحصل فتنة عظيمة ، والمراد ضعف الإيمان وظهور الكفر.
المعنى :
ما مضى كان في الكلام على الكفار وأسراهم وكيفية معاملتنا لهم ضاربين بقرابتهم عرض الحائط مستبدلين بها قرابة الإسلام ، ولذا تكلم القرآن هنا على رابطة الإسلام.
إن الذين آمنوا باللّه ورسوله إيمانا صادقا كاملا ، وهاجروا في سبيله ، هجروا أوطانهم الحبيبة إلى نفوسهم ، وتركوا مالهم كل ذلك للّه ، وجاهدوا في سبيله ، وبذلوا النفس والنفيس ، أولئك هم المهاجرون الذين تركوا مكة وعزهم وشرفهم ونسبهم فيها(1/847)
ج 1 ، ص : 848
إلى يثرب التي قطنها الرسول الكريم ، إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه ، والذين آووا المهاجرين وأنزلوهم ديارهم وشاركوهم في أموالهم ، ونصروا رسول اللّه ومنعوه مما يمنعون به أزواجهم وأولادهم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ « 1 » أولئك هم الأنصار هؤلاء المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض ، يتولون أنفسهم بالرعاية والعناية ، والسهر على المصالح فهم جسد الأمة الإسلامية ، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فرابطة الإسلام بينهم أقوى رابطة ، والإيمان هو الصلة المحكمة ، وهكذا المسلمون في كل زمان ومكان اجتمعوا على الإيمان باللّه ، والتقوى عند محبة الرسول الأكرم ولذا يقول اللّه فيهم : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ « 2 » فالأخوة في الإسلام إذا ما كانت للّه حقا كانت هي الدعامة الوحيدة لتماسك بناء الأمة ، وقيل : المراد بالولاية هنا الميراث ، ونخست الآية بآية المواريث ، والذين آمنوا باللّه ورسوله ولم يهاجروا بأن اعترضتهم عقابات لم يستطيعوا التغلب عليها ، وقد كانت الهجرة في مبدأ الإسلام علامة الإيمان الكامل هؤلاء ليس لكم ولاية عليهم ، وليس بينكم توارث ، وإن كانوا ذوى قربى حتى يهاجروا.
ولكن إن استنصروكم في الدين ، وطلبوا إليكم أن تمدوا إليهم يد المساعدة لهم على أعدائهم بقدر الطاقة فانصروهم إلا على قوم بينكم وبينهم معاهدة وميثاق ، واللّه بما تعملون بصير.
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ليس لكم أن توالوهم أو تتخذوهم أصدقاء مهما كانوا من القرابة والصلة ، إن لم تفعلوا هذا ، وتقوموا بهذه الأوامر تحصل فتنة في الأرض وفساد كبير ، وذلك بضعف الإسلام وكسر شوكته ، وظهور الكفر ، وعلو رايته!!! يا سبحان اللّه أنت عالم الغيب والشهادة وأنت الخبير البصير ، فلقد ظل الإسلام كما هو حتى اتخذ المسلمون بطانتهم من غيرهم ووالوا أعداء الدين بحجة السياسة مرة أو الحاجة أخرى فأصبحوا ولا حول لهم ولا قوة ، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدينا ، نعم وسنظل على ذلك حتى نعود إلى الدين والقرآن نفعل ما يريده ونتجنب ما ينهى عنه.
___________
(1) سورة الأعراف آية 157.
(2) سورة الحجرات آية 10.(1/848)
ج 1 ، ص : 849
والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه ، والذين آووا الرسول وعزروه ونصروه ، وهم المهاجرون والأنصار ، أولئك المؤمنون حقا ، فالهجرة والنصرة دليل على صدق الإيمان وكمال الإسلام ، ولهم مغفرة من اللّه ورضوان ، ولهم رزق في الدنيا والآخرة كريم ، أى : حسن وكبير.
هؤلاء هم السابقون المقربون ، ومن أتى بعدهم فهذا حالهم والذين آمنوا من بعد ذلك ، أى : بعد أن قويت شوكة المسلمين وامتد بهم الزمن وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه معكم فأولئك منكم ، وأنت منهم ، بعضكم أولياء بعض ، وأولو الأرحام وذوو القرابات في الإسلام بعضهم أولى ببعض فقد جمعوا بين الأخوة في اللّه والأخوة في النسب ، هذا الحكم في كتاب اللّه ، وقيل : المراد ميراث ذوى الأرحام ، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون في بداية الإسلام حتى نزلت آية المواريث ، ومنها هذه الآية ، واعلموا أن اللّه بكل شيء عليم.
وليس في الآيات تكرار فالأولى لبيان أن رابطة الإسلام أقوى من رابطة النسب ، والثانية لبيان مكانتهم وأنهم هم المؤمنون حقا ، والثالثة لبيان أن الذين جاءوا بعدكم وآمنوا بعد ظهور الإسلام فأولئك منكم واللّه أعلم.(1/849)
ج 1 ، ص : 850
سورة التوبة
عدد آياتها تسع وعشرون ومائة وتسمى سورة براءة ، والمبعثرة ، والمثيرة ، والمخزية ، والفاضحة ، والمشردة ، وسورة العذاب ، لما فيها من ذكر التوبة ، وما فيها من التبرئة من النفاق ، وما فيها من التعرض للمنافقين وكشف سترهم وما يخزيهم ويشردهم ، وما فيها من نقض العهود وإرصاد العذاب للمشركين ، لهذا وذلك سميت بتلك الأسماء.
وكثرة أسمائها الواردة دليل على أنها سورة مستقلة ليست جزءا مما قبلها.
وإذا كانت سورة فلم تركت البسملة في أولها ؟ !! أما الحكمة في ترك البسملة فالظاهر - واللّه أعلم - أنها نزلت لرفع الأمان ، ونقض العهود مع المشركين ، وفضيحة المنافقين ، وهذا يتنافى مع التصدير بالاسم الجليل الموصوف بالرحمن الرحيم ، وفي الكشاف : سئل ابن عينية - رضى اللّه عنه - فقال :
اسم اللّه سلام وأمان فلا يكتب في النبذ والمحاربة. وما روى عن ابن عباس في هذا فأظنه مدسوس عليه إذ لا يعقل أن يلحق النبي بالرفيق الأعلى ولم يبين للصحابة مكان هذه الآيات ، فاختلف الصحابة في ذلك على أن الصحيح أن البسملة آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها ، وأنه لا مدخل لأحد بالمرة في إثباتها أو تركها وإنما هذا كله توقيف ووحى ، ولا يعقل أن يترك ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولا يصح أن يتشكك مسلم في هذا أبدا ، ولا شك في عدم نزول البسملة ها هنا بالإجماع.
نبذة تاريخية :
في السنة السادسة للهجرة عاهد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها عن قوة وعزة لا عن ضعف وذلة ، ودخلت قبيلة خزاعة مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقبيلة بنى بكر في عهد قريش ، وكانت بين هاتين القبيلتين إحن قديمة وثارات موروثة فاعتدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم ، وأعانت قريش بنى بكر بالسلاح وبالرجال فانهزمت خزاعة فكان ذلك نقضا للصلح الواقع عام الحديبية :(1/850)
ج 1 ، ص : 851
ولذا خرج عمرو بن سالم الخزاعي على رأس وفد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مستغيثين به ،
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب »
فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة وفتح مكة في السنة الثامنة.
وقد ثبت بالتجربة أن المشركين في حال القوة والضعف لا عهود لهم ، ولا أمان فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ « 1 » إلا من عاهد واستقام أمره ، هذا هو الأساس الشرعي الذي بنى عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة ، وإتمام مدة عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها منهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه.
ولما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم أميرهم مالك بن عوف النصري لقتال المسلمين وكانت غزوة حنين في شوال في السنة الثامنة ، وبعدها حاصر الطائف بضعا وعشرين ليلة ورماهم بالمنجنيق.
ثم أقام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة بعد ذلك ذا الحجة والمحرم من السنة التاسعة وصفر وربيع الأول والآخر وجماد الأول والآخر ، وخرج في رجب سنة تسع إلى غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها النبي ، وفيها نزلت أكثر آيات السورة الكريمة.
ولما انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من تبوك أراد الحج ولكنه قال : يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج معهم ، فأرسل أبا بكر أميرا على الحج ، ثم لما خرج أرسل بعده عليا وقال له : « اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا »
وقال : « لا يبلغ عنى إلا رجل منى »
فخرج علىّ على العضباء ناقة الرسول فأدرك أبا بكر في ذي الحليفة وأم أبو بكر - رضى اللّه عنه - الناس في الحج ، وقرأ علىّ على الناس صدر سورة « براءة » .
___________
(1) سورة التوبة آية 12.(1/851)
ج 1 ، ص : 852
إعلامهم بالحرب مع التحدي لهم ونقض عهودهم [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 4]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
المفردات :
بَراءَةٌ يقال : برىء من العهد أو المرض براءة : خلص منه. فَسِيحُوا السياحة والسيح : الذهاب في الأرض حسبما يشاء الشخص. وَأَذانٌ أى :
إعلام. يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ المراد : يوم العيد.
كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن اللّه - تعالى - فنكثوا عهودهم ، إلا بنى ضمرة وبنى كنانة ، فأمر المسلمون بنكث عهد الناكثين وإمهالهم أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فإذا انقضت الهدنة ومضت المدة قاتلوهم.
كان هذا في السنة التاسعة وقد أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أبا بكر أن يحج بالناس فلما سافر نزلت(1/852)
ج 1 ، ص : 853
سورة التوبة وفيها نقض عهود المشركين ، فأمر عليا أن يبلغ ذلك الناس يوم الحج الأكبر قائلا :
« لا يبلغ عنى إلا رجل منى »
فلما اجتمعوا بمنى يوم النحر قرأ عليهم علىّ آيات من أول هذه السورة ثم قال : أمرت بأربع : ألا يقرب البيت بعد العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهد فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ...
المعنى :
هذه براءة مبتدأة من اللّه ورسوله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين وإنما نسبت البراءة للّه ولرسوله مع شمولها للمسلمين ونسبت المعاهدة للمسلمين فقط مع أنها بإذن اللّه واتفاق رسول اللّه ، للإشارة إلى وجوب تنفيذ نقض العهد ، وأنه صادر من اللّه ورسوله ، ولا حرج عليكم أبدا فيه ، فهو أمر واجب الامتثال ، وهو لحكمة اللّه يعلمها ، وأما المعاهدة فهي كبقية العقود أمرها الظاهر المشاهد أنها مع المسلمين ، وذكر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله : براءة من اللّه ورسوله مع عدم ذكره في المعاهدة عاهَدْتُمْ للتنويه بمقامه المحمود ، ومكانه المرموق مع المولى جل شأنه.
هذه براءة من اللّه ورسوله ، وتخلص من عهود المشركين ، وإيذان لهم بالحرب ، وإعطاؤهم فرصة للاستعداد مع التحدي الكامل لهم ، حيث أمروا بالسير في الأرض والسياحة فيها حسب مشيئتهم وهواهم ليحصنوا أنفسهم وأموالهم ، إذ ليس المراد أمر المشركين بالسياحة في الأرض وأقطارها أربعة أشهر.
فسيحوا في الأرض واستعدوا في هذه المدة ، واعلموا علما أكيدا ، أنكم غير معجزي اللّه أبدا ، وأن اللّه مخزيكم ومذلكم فأنتم كفرتم باللّه ورسوله ونقضتم عهودكم مع المسلمين مرارا ، وقد يتحقق الموعود به بالأسر والقتل ، وإعلاء كلمة اللّه ، وذهاب الشرك إلى حيث لا رجعة ، هذا هو الخزي في الدنيا ، وفي الآخرة عذاب شديد أعد لهم.
أمرهم اللّه أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة سنة تسع(1/853)
ج 1 ، ص : 854
وهو يوم الحج الأكبر (يوم النحر) الذي بلغ فيه علىّ - رضى اللّه عنه - وتنتهي في عاشر ربيع الآخرة سنة عشرة.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة ، أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته لقوله تعالى : فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ولقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « ومن كان بينه وبين رسول اللّه عهد فعهده إلى مدته » .
وأما من لم يكن له عهد فأجله أن يتم الأربعة أشهر الحرم الدائرة في كل عام وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، وعلى هذا تكون مدته خمسين يوما ، عشرون باقية من الحجة ، وثلاثون هي شهر المحرم.
وهذا أحسن الأقوال وأقواها ، وقد ارتضاه جمع من العلماء قديما وحديثا واختاره الشيخ محمد عبده في دروسه. أمروا بالسياحة والاستعداد ، وأن يعلموا علما أكيدا أنهم غير معجزي اللّه أبدا ، وأن اللّه مخزيهم ومذلهم ، لأنهم كفروا باللّه ، ورسوله ... وأذان من اللّه ورسوله ، وإعلام تام منهما إلى الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم (و كان ذلك على لسان على بن أبى طالب سنة تسع في السنة التي حج فيها أبو بكر بالناس كما تقدم) ليعلم الكل أن اللّه برىء من المشركين ، ومن عهودهم ، ورسوله كذلك برىء ، وأما المسلمون فهم حزب اللّه وأتباع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وداخلون في ذلك دخولا أوليا ، وهذا إنذار شديد للمشركين!!! فإن تبتم أيها المشركون ورجعتم عن الشرك وآثامه فهو خير لكم وأى خير ؟ !! ... وإن توليتم وأعرضتم عن الإسلام فاعلموا أنكم غير معجزي اللّه ، ولا طاقة لكم بحربه في الدنيا ، وأما في الآخرة فبشرهم يا محمد - فأنت أدرى بأحوال الآخرة وأنت البشير النذير - بشرهم بعذاب أليم غاية الألم.
هذا الأذان بنقض العهد يسرى على المشركين جميعا إلا المعاهدين الذين عاهدتموهم ثم لم ينقصوكم شيئا من العهود ولم يخلوا بشرط من الشروط ، أى : حافظوا على نصوص المعاهدة وروحها. ولم يظاهروا عليكم أحدا ، ولم يعينوا عليكم عدوا كبني ضمرة وبنى كنانة ، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، إن اللّه يحب المتقين الخائفين من عذابه الذين يوفون بعهدهم إلا مع المشركين الناقضين العهد.(1/854)
ج 1 ، ص : 855
وجوب قتال المشركين [سورة التوبة (9) : آية 5]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
المفردات :
انْسَلَخَ : انقضى ، وأصل الاستعمال في الجلد ، شبه الزمان به لأنه محيط بما فيه إحاطة الجلد بالشاة ، فإذا مضى الزمن فكأنه انسلخ عما فيه. خُذُوهُمْ المراد :
ائسروهم ، والأخيذ : الأسير. وَاحْصُرُوهُمْ : امنعوهم من التقلب في البلاد والسير فيها. كُلَّ مَرْصَدٍ المراد : كل ممر وطريق يجتازونه في أسفارهم.
المعنى :
فإذا انقضى الأشهر الحرم التي كانت ساترة لهم ، وحرزا تمنعهم من أيدى المسلمين ، وهل المراد بها الأشهر الحرم السابقة ؟ أو المراد بها الأشهر الحرم مع ما فهم من قوله تعالى : فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ؟
فإذا انقضى الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الناكثين خاصة ، أو المشركين مطلقا حيث تم لهم عهدهم.
وخذوهم أسرى حرب ، واحصروهم حالة كونكم مانعين لهم من الأسفار والتقلب في البلاد ، واقعدوا لهم كل مرصد وممر ، وترصدوا لهم في كل طريق حتى تملأوا قلوبهم خوفا ورهبة منكم ، فيخشى الواحد منهم لقاءكم حتى بينه وبين نفسه ، والحكمة في ذلك محو الشرك من جزيرة العرب بالقوة لتكون معقل الإسلام مع مراعاة قوله تعالى :(1/855)
ج 1 ، ص : 856
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ
« 1 » . وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها « 2 » هذا كله بقدر الإمكان ، فإن ثابوا وأنابوا ، ودخلوا في الإسلام وأقاموا حدوده ، والتزموا أركانه التي أهمها الصلاة والزكاة فخلوا سبيلهم واتركوهم وشأنهم ، واعلموا أن اللّه غفور رحيم ، والآية الكريمة تفيد دلالة إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة على الإسلام ، وتوجب لمن يؤديهما حقوق الإسلام من حفظ ماله ودمه إلا بحق الإسلام.
سماحة الإسلام في معاملة الكفار [سورة التوبة (9) : آية 6]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)
المفردات :
اسْتَجارَكَ : طلب جوارك والاحتماء بك. مَأْمَنَهُ : مكان أمنه ... تقدم بيان حكم من تاب من الكفر ، ومن أصر عليه وهذا حكم من يتصدى للتوبة ويتقرب من المسلمين.
المعنى :
وإن استجارك أحد من المشركين ، وطلب جوارك وحمايتك ، فاقبل جواره حتى يسمع كلام اللّه ويتدبره ويتفهم معانيه ، ويقف على أسراره العالية فإن الإنسان إذا خرج من بيئة العناد والضلال قد يشرح اللّه صدره للإسلام ، ثم أبلغه مكان أمنه ، وأوصله للدار التي يأمن فيها إن أسلم أو لم يسلم ، ثم قاتله إن استوجب حاله القتال من غير غدر ولا خيانة.
وهذا من مكارم الأخلاق التي دعا إليها الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه وسلّم. وتنبيه للمسلمين جميعا أن يعملوا على نشر الدين ومبادئه حتى يسمعها أولئك الذين لا يعرفون عن محاسن الدين الإسلامى شيئا.
___________
(1) سورة البقرة آية 244.
(2) سورة الأنفال آية 61.(1/856)
ج 1 ، ص : 857
ذلك ، أى : الأمر بالإجارة وحسن المعاملة. وتوصيله إلى مكان أمنه ودار إقامته بسبب أنهم قوم جهلة بحقيقة الدين ، ولا يعلمون عنه إلا معلومات مشوشة خاطئة كما يعلم الغربيون عن ديننا من المعلومات التي تعلموها على أيدى رجال دينهم ، وللأسف الشديد إذا أراد الواحد منهم أن يعرف شيئا عن الإسلام حكم عليه بأعمال أهله ، ويا له من حكم قاس!! فإننا مسلمون بالوراثة والنسب لا بالعمل والخلق!!
سبب البراءة من عهودهم [سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 10]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
المفردات :
إِلًّا : عهدا ، أو حلفا ، أو جورا. وَلا ذِمَّةً أى : عهدا ، وهي كل حرمة يلزمك إذا ضيعتها ذنب.(1/857)
ج 1 ، ص : 858
المعنى :
هذا هو بيان الحكمة الداعية للبراءة من عهودهم ، مع أن الوفاء بالعهد فضيلة وشعبة من شعب الإيمان.
كيف يكون للمشركين عهد محترم عند اللّه وعند رسوله ؟ وهذا استنكار لأن يكون لهم عهد حقيق وجدير بالمراعاة عند اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد : ليس لهم عهد على أى وضع وحال ، وهذا أبلغ في النفي من غيره ، ولكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ، وهم الذين سبق استثناؤهم في قوله : إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً الآية. وهذا مقيدا بأنهم يستقيمون لكم ولا يقدمون أى إساءة ، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، وأتموا لهم عهدهم إلى مدتهم على هذا الأساس وهو عدم تعديهم عليكم ، إن اللّه يحب المتقين الذين يوفون بالعهد ولا يظلمون.
وكيف يكون لهم عهد محترم وذمة عند اللّه وعند رسوله ؟ والحال أنهم إن يظهروا عليكم ، ويظفروا بكم ، لا يراعون في شأنكم قرابة ولا صلة ، ولا يراقبون فيكم عهدا ولا ذمة ، وهم يرضونكم بألسنتهم ، وقلوبهم قد ملئت حسدا وحقدا ، وتأبى قلوبهم أن تكون معكم أبدا ، ولا غرابة في ذلك فأكثرهم فاسقون وخارجون عن حدود الدين والمروءة ، فالوفاء بالعهد للذين يخافون اللّه أو حساب الضمير ، وهم قد اشتروا بدل الآيات الإلهية الداعية للمثل العليا الكريمة ثمنا قليلا تافها وشيئا حقيرا ، وهو اتباع الأهواء ، والخضوع للشيطان ، ولذا تراهم صدوا عن سبيل اللّه ودينه الحق ، وبذلوا في سبيل اللّه كل مرتخص وغال ، إنهم ساء ما كانوا يعملون ، وبئس العمل عملهم!! وهم لا يرقبون في شأن مؤمن - أيا كان - عهدا ولا ذمة على الإطلاق في أى وقت أو زمان ، وأولئك هم المعتدون المتجاوزون الغاية القصوى في الظلم والشر.
هؤلاء الذين وصفوا بهذا الوصف ، كيف يكون لهم عهد عند اللّه وعند رسوله ؟ ! وكيف يثبت هؤلاء على عهدهم ، فهم يخضعون للقوة ، ويوفون للسيف لا للذمة ، وقد ثبت أنهم كذلك في الواقع.(1/858)
ج 1 ، ص : 859
كيف نعامل هؤلاء الكفار ؟ [سورة التوبة (9) : الآيات 11 الى 12]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
المفردات :
نَكَثُوا أصل النكث : نقض الحبل ، ثم استعير لنقض العهد. لا أَيْمانَ المراد : لا عهود لهم.
المعنى :
هذا بيان لحال الكفار بعد ما ثبتت عداوتهم للإسلام ، فهم بين أمرين : أحدهما التوبة الصادقة والرجوع إلى اللّه - سبحانه وتعالى - والبعد عن الشرك والصد عن سبيل اللّه ، فإن تابوا بهذا المعنى ، وآمنوا وعملوا بإخلاص خصوصا إقامة الصلاة التي هي عماد الدين ، وإيتاء الزكاة الدالة على صدق التوبة ، وصفاء النفس وقوة العقيدة ، إن فعلوا ذلك فهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، وفي هذا التعبير الكريم التعبير بالأخوة ، إشارة إلى مقام الأخوة في الدين وأنها أعلى نسبا ، وأقوم صلة بين المسلم والمسلم ، وبهذه الأخوة تهدم صروح العداوة ، ويزول كل فارق بينكم.
والأخوة لا تتحقق إلا بالرجوع إلى اللّه حقا وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ويمكننا أن نقول بأن الثلاثة متلازمة لا يمكن أن يحصل واحد بدون الآخر ، واللّه - سبحانه - يفصل الآيات ، ويوضحها كالشمس أو أشد ، ولكن لقوم يعلمون أو يريدون أن يعلموا.(1/859)
ج 1 ، ص : 860
أما الحالة الثانية وهي أنهم ينقضون العهود ، بعد توكيدها ، ويخلون بالمعاهدة بعد إبرامها ، ويطعنون في دينكم بالنيل منه والاستهزاء به ، والصد عنه ، فهؤلاء يجب قتالهم قتالا عنيفا حتى يثوب إليهم رشدهم ، قاتلوا أئمة الكفر وقادته وحملة لوائه أينما كانوا إنهم لا عهود لهم ولا ذمة ولا يمين ، قاتلوهم لعلهم ينتهون إلى الحق ويرجعون عن الغي ، وهكذا نعامل هؤلاء المشركين إما بالأخوة الإسلامية إن تابوا وعملوا صالحا ، وإما حرب لا هوادة فيها إن ظلوا كما هم!!
تحريض على قتال المشركين [سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
المعنى :
كيف لا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم التي أقسموا بها عند المعاهدة ؟ !! ونقضوا عهدهم من بعد توكيده ، وهذا استفهام لإنكار عدم قتالهم. وهو يفيد الحض على القتال والحث عليه ببيان شناعة جرمهم وعظيم فعلهم المقتضى للقتال ، وهم هموا بإخراج الرسول من مكة ، أو حبسه حتى لا يراه أحد ، أو قتله بأيدى عصابة مكونة من القبائل حتى يضيع دمه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [سورة الأنفال آية 30].(1/860)
ج 1 ، ص : 861
وهم بدءوكم بالقتال أولا ، وقد قيل : الشر بالشر والبادئ أظلم ، وقد كان منهم كل ذلك إذ نقضت قريش العهد وأعانت بنى بكر على خزاعة ، وقتلوا منهم كثيرا حتى استنجدوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقد أخرجوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من بلدة مكة وأخرجوا غيره من المهاجرين ، وبدءوا بالقتال يوم بدر.
ثم قال هذه الحجج : أتخشونهم ؟ وتتركون قتالهم خشية وخوفا إن كانت الخشية هي المانعة فاللّه أحق بها إن كنتم مؤمنين ، إذ شرط الإيمان الخوف من اللّه وحده وخشيته دون سواه.
وهذا الاستفهام يفيد الإنكار والتوبيخ ولكن للمنافقين ولمن كانوا يعظمون أمر القتال ويرون أنه لا يليق برحمة الإسلام وعطفه على الناس .. ثم بعد هذا البيان الكامل أمرهم بالقتال فقال : قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ، فاللّه هو الفاعل حقيقة وأنتم باشرتم العمل في الظاهر وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى إن تقاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ، ويخزهم بالقتل والأسر والهزيمة ، وينصركم عليهم نصرا مؤزرا ما دمتم تنصرون اللّه بطاعته ، ويشف صدور قوم مؤمنين كانت قد ملئت غيظا وألما من أفعال المشركين بهم في مكة ، وقيل : هم خزاعة شفى اللّه صدرها بحرب المسلمين لقريش وأحلافهم ، ويذهب غيظ قلوبهم بما كابدوا من المكاره والمكايد.
ولقد أنجز اللّه وعده ، وصدق عبده ونصر جنده وهزم الأحزاب وحده ، وهذا تحريض للقتال بأسلوب بليغ مع تبليغ أن النصر للمسلمين.
ويتوب اللّه بعد ذلك على من يشاء من عباده حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة ، ولا غرابة فاللّه عليم بخلقه لا تخفى عليه خافية ، حكيم لا يفعل إلا ما فيه الخير والحكمة لعباده ...
اختيار المسلمين وتمحيصهم [سورة التوبة (9) : آية 16]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)(1/861)
ج 1 ، ص : 862
المفردات :
وَلِيجَةً المراد : بطانة وصاحب سر ، مأخوذ من الولوج وهو الدخول ، وصاحبك يدخل في محيط أسرارك.
المعنى :
هذا كلام جديد غير السابق ، فيه بيان حال جماعة المسلمين شأنهم في الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحيصهم من ضعف الإيمان والهوادة فيه ، بل أحسبتم أن تتركوا ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم بالأموال والأنفس ؟ ونفى علم اللّه دليل على عدم الوقوع والحصول ضرورة أن اللّه يعلم كل ما يحصل في الكون ، جاهدوا ولم يتخذوا من الكفار أولياء من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين ، لم يتخذوا وليجة وبطانة منهم ، واللّه خبير بما تعملون فمجازيكم عليه ، ومثل هذه الآية آية البقرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ والخلاصة : أنه تعالى شرع لعباده الجهاد وبين أن له فيه حكمة ، وهي اختبار عبيده ليظهر من يطيعه ممن يعصيه وهو العالم بما كان وما سيكون.
عمارة المسجد للمسلمين لا للمشركين [سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)(1/862)
ج 1 ، ص : 863
المفردات :
أَنْ يَعْمُرُوا عمارة المسجد في اللغة : تشمل لزومه والإقامة فيه وعبادة اللّه فيه ، وبنيانه وترميمه وخدمته والإرعاء عليه ، والعناية به. مَساجِدَ : جمع مسجد ، وهو مكان السجود ، ثم استعمل في البيوت الخاصة بعبادة اللّه وحده.
والمراد : المسجد الحرام.
روى عن ابن عباس - رضى اللّه عنه - أنه لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم ، وأغلظ علىّ في القول ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا وتنسون محاسننا ؟ فقال علىّ : ألكم محاسن ؟ فقال : نعم ، إننا نعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقى الحاج
، فأنزل اللّه - عز وجل - ردا على العباس هذه الآيات ، والمراد أنها تتضمن الرد على العباس وأمثاله لا أنها وقعت عقب قوله ، وهي مناسبة لنقض عهودهم ، وعدم حجهم البيت ومنعهم منه إذا أنها تفيد منع خدمتهم وعمارتهم للمسجد الحرام أيضا.
المعنى :
ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين أبدا أن يعمروا مسجد اللّه الأعظم ، وبيته المحرم بالإقامة فيه للعبادة أو للخدمة والولاية عليه ، ولا أن يزوروه حجاجا أو معتمرين ، وهذا الحكم يشمل كل المساجد ما كان لهم ذلك في حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر ، فإن هذا جمع بين الضدين فإن عمارة المسجد الحسية أو المعنوية بالعبادة لا تصح إلا من المسلم الموحد باللّه الذي يعبد اللّه وحده ، والكفر باللّه والإشراك به يتنافى مع عبادة اللّه وحده والقيام على مساجد اللّه خصوصا مسجد اللّه الحرام.
والخلاصة أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت اللّه مع الكفر باللّه ، وشهادتهم بالكفر ثابتة قولا وعملا فهم يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، وأما عملهم فقد عبدوا الأصنام واستقسموا بالأزلام ، فهذه شهادتهم بالكفر.
أولئك المشركون البعيدون في الضلال حبطت أعمالهم وبطلت ، وهم في النار خالدون وماكثون : أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ(1/863)
ج 1 ، ص : 864
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً
«
1 » إنما يعمر مساجد اللّه وخصوصا المسجد الحرام بالرعاية والعناية والولاية والخدمة والعبادة إنما يعمره من آمن باللّه إيمانا كاملا صادقا وآمن باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، وكان عمله الظاهر موافقا لعقيدته فيقيم الصلاة ويؤديها كاملة الأركان والشروط ويؤدى الزكاة لأربابها وأكثرهم يقيمون بالمساجد ، على أن في مال الزكاة متسعا لتعمير المساجد تعميرا حسيا ، والذين يخشون اللّه وحده هم أولى الناس بذلك.
المعنى :
قصر تعمير المساجد على المؤمنين باللّه إيمانا كاملا شاملا والمقيمين الصلاة إقامة كاملة مع إيتاء الزكاة ، والخشية من اللّه وحده دون غيره مما لا ينفع ولا يضر ، والمراد :
الخشية الدينية الغريزية كالخوف من الحيوان المؤذى مثلا.
ونحن نرى الآن أنه لا يعمر بيوت اللّه إلا هؤلاء فقط.
فأولئك الموصوفون بهذه الصفات الجليلة هم المهتدون إلى الخير دائما ، المستحقون على أعمالهم عظيم الأجر ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ وفي تصدير جزائهم بكلمة (عسى) إشارة إلى قطع أطماع الكفار ، أى : إذا كان هؤلاء العاملون المقربون جزاؤهم بين (لعل وعسى) فما بال الكفار!! والخير للمؤمن أن يكون بين الرجاء الذي يحمله على العمل وبين الخوف الذي يبعده عن التقصير ويغلب الخوف على الرجاء في حال الصحة والعكس في حال المرض الشديد ، وهذه الصفات الجامعة لشعب الإيمان والإسلام تقتضي حتما الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فإنها لا تعمل على الوجه الكامل إلا بهديه وإرشاده صلّى اللّه عليه وسلّم.
فضل الإيمان والجهاد [سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) ___________
(1) سورة الكهف آية 105.(1/864)
ج 1 ، ص : 865
المفردات :
سِقايَةَ في اللغة : هي الموضع الذي يسقى فيه الحاج ، أو الإناء الذي يسقى به والمراد : ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان يلي هذا ويشرف عليه العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام ...
روى عن النعمان بن يشير ما معناه قال : كنت عند منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال رجل : ما أبالى ألا أعمل للّه عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج ، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام ، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل اللّه خير مما قلتم ، فزجرهم عمر ودخل يستفتى رسول اللّه فقرأ عليه هذه الآية « 1 »
، وبهذا الحديث يعلم أن الخطاب في الآية للمؤمنين ، وقيل : إن الخطاب فيها للمشركين وهي تكملة للآيتين السابقتين في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام للمسلمين على كل حال ، وبيان أن الجهاد في سبيل اللّه مع الإيمان أعظم درجة عند اللّه.
المعنى :
أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر وجاهد في سبيله في الفضيلة والدرجة ؟ وهذا استفهام إنكارى لمن يدعى تشبيه هذا بذاك.
___________
(1) أخرجه عبد الرزاق.(1/865)
ج 1 ، ص : 866
وهل هذا خطاب للمشركين حسب السياق ؟ أم هو خطاب للمؤمنين حسب حديث النعمان بشير - رضى اللّه عنه - إذا كان هذا حال السقاية والعمارة مع المؤمنين فما بال الكفار الذي يفتخرون بهما ؟ !! نعم لا يستوون عند اللّه أبدا ، وإن كان في كل خير ، إلا أن الإيمان باللّه واليوم الآخر والجهاد في سبيل اللّه مع بذل النفس والنفيس أعلى درجة وأعظم مكانة عند اللّه واللّه لا يهدى القوم الظالمين إلى معرفة جهة الفضل ، وموضع الخير ، إذ قد طمس اللّه على قلوبهم.
الذين آمنوا باللّه ورسوله وهاجروا ، وجاهدوا في سبيل اللّه ولإعلاء كلمته باذلين النفس والمال هم أعظم درجة ، وأعلى مكانة ممن لم يتصف بهذه الصفات كائنا من كان ، وإن حاز جميع ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقاية والعمارة.
فإن فهمت الآية على أن الخطاب للمؤمنين المتفاخرين حسب حديث النعمان بن بشير قلنا : إنه لا مراء أن في السقاية والعمارة خيرا وإن كان الإيمان والجهاد أعظم درجة عند اللّه.
وإن فهمت الآية على أن الخطاب للمشركين والتفاخر من الكفار كان المعنى : نعم للسقاية والعمارة درجة عند اللّه إذا فعلا كما يرضى اللّه ورسوله ، ولكن الشرك يحبط عملهما كما سبق.
وأولئك المؤمنون المهاجرون والمجاهدون هم الفائزون بمثوبة اللّه وفضله وكرامته.
وما هذا الفوز ؟ أجاب اللّه بقوله : يبشرهم ربهم في كتابه المنزل على نبيه برحمة واسعة ، ورضوان من اللّه أكبر من كل شيء ، وجنات لهم فيها نعيم مقيم دائم ، وهم خالدون فيها وماكثون إلى ما شاء اللّه عطاء غير مجذوذ ، أى : غير مقطوع.
إن اللّه عنده أجر عظيم فلا غرابة في هذا : وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة آية 72].
وقد ورد عن أبى سعيد الخدري - رضى اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن(1/866)
ج 1 ، ص : 867
اللّه يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة. فيقولون : لبيك ربنا وسعديك. فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى ؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟
فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا : يا ربنا وأى شيء أفضل من ذلك ؟
فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا.
ولاء المؤمنين للكافرين وخطره [سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
المفردات :
اسْتَحَبُّوا : أحبوا. عَشِيرَتُكُمْ : أهلكم وقرابتكم. فَتَرَبَّصُوا :
انتظروا. كَسادَها : بوارها وعدم رواجها.
كان لما أعلنه القرآن الكريم من البراءة من اللّه ورسوله إلى المشركين ، ومن نبذ عهودهم ونقض معاهداتهم ، ووجوب قتالهم كان لهذا أثر كبير في نفوس بعض المسلمين خصوصا ضعفاء الإيمان الذين لم تزل في قلوبهم العصبية الجنسية ، وصلة القرابة لها(1/867)
ج 1 ، ص : 868
المكان الأعلى ، وبعضهم كان يكره الحرب ونقض العهد لما في ذلك من الاعتداء وهتك الحرمات ، ولقد اتخذ المنافقون من ذلك مادة للدعاية وللتأثير على بعض المسلمين حتى كان للبعض بطانة ووليجة من الكفار ، وما قصة حاطب بن أبى بلتعة ببعيدة ، وكانت نقطة الضعف هي نعرة القرابة ورحمة الرحم.
وبعد أن بين اللّه فضل الجهاد ونتائجه والهجرة وأثرها ، وحبوط أعمال المشركين حتى ما كان خيرا منها كالسقاية والعمارة ، بين هنا أن ذلك كله لا يتم إلا بترك ولاية المشركين ، وإيثار حب اللّه ورسوله والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد والأخ والزوج والعشيرة والمال والمسكن.
المعنى :
يا أيها الذين آمنتم باللّه ورسوله ، واتصفتم بهذا الوصف : لا يليق بكم أن تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القتال ، وتظاهرون لأجلهم الكفار ، لا تتخذوا منهم بطانة ولا وليجة تخبرونهم بالأسرار الحربية الخاصة بالجيش الإسلامى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [سورة التوبة آية 16].
لا تتخذوهم أولياء ما داموا يحبون الكفر على الإيمان ويؤثرون الشرك على الإسلام ولا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة ، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم التي ينتمون إليها ، وذلك أنهم وضعوا الولاية موضع البراءة ، والمودة محل العداوة.
خاطب اللّه المؤمنين بهذا الوصف الكامل لينهاهم عن جريمة اتخاذ الولاية للكافرين المعادين للرسول والمؤمنين ، خاطبهم مباشرة (لا تتخذوا) ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يخاطبهم في ما هو سببها مذكرا لهم مبينا الخطر الذي ينجم على فرض وقوعها منهم مع تصدير كلمة (إن) المفيدة للشك لأن هذا هو المنظور ، إذ حب المذكورات يجب أن يكون مشكوكا فيه بالنسبة للمؤمنين ، والمؤاخذة ليست على حب المذكورات بل على تفضيلها على حب اللّه ، أما أصل الحب فشيء طبيعي جبلّىّ لا مؤاخذة فيه.(1/868)
ج 1 ، ص : 869
أما محبة الآباء فغريزة عند الأبناء ، إذ الولد يشعر أن أباه هو سبب وجوده وأنه قطعة منه وهو مثله الأعلى ، والأب هو المخلوق الذي عطف عليه ورباه ، ولا تنس أن الآباء مفخرة العرب فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ « 1 » ومحبة الأبناء غريزة ، فالولد محط الأمل ، وهو قطعة من الفؤاد وفلذة من الكبد ، وهو الجزء الباقي بعد الإنسان ، لا يحب أن يتميز عليه إنسان إلا هو والأخ هو اليد القوية والساعد لأخيه ، وابن أمه وأبيه سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ « 2 » وحب الزوجة شعور خاص ليس له ضريب فهو الذي يسكن إليها ، وتهدأ ثورة الطبيعة عندها وقد كانت محط نظره ومحل أمله ، وأما حب المال والتجارة فطبيعة عند كل إنسان ، وقد كان أكثر المسلمين يشتغلون بالتجارة ، وحب المسكن الذي ألفه الشخص غريزى أيضا ، فهو وطنه ، وأول أرض مس جسمه ترابها ... فهذه الثمانية المحبوبة بالطبيعة جعلت بعض المسلمين يكرهون القتال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ « 3 » لذلك لم يفرض إلا للضرورة القصوى.
والآية الكريمة تشير إلى إيثار حب اللّه ورسوله والجهاد في سبيله على كل منفعة في الأرض.
أما حب اللّه فيجب أن يكون هو المقدم لأنه صاحب النعم والفضل واهب الوجود والكون ، خلقنا ورزقنا وأحيانا. وهو الذي أوجد الآباء والأبناء والمال والتجارة والمساكن ، على أنه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص.
وأما حب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فهو دون حبه - تعالى - وفوق حب تلك الأصناف الثمانية ، فهو زعيم العلماء العاملين وقدوة الهداة والراشدين ، وهو المثل البشرى الأعلى والأسوة الحسنة في الخلق والأدب والفضل ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ، قد جعل القرآن علامة محبة اللّه اتباع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [سورة آل عمران آية 31].
وأما الجهاد في سبيل اللّه بأى نوع منه فدرجته لا تخفى وتفضيله على الأصناف الثمانية السابقة أمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان : « لغدوة أو روحة في سبيل اللّه خير من الدنيا وما فيها » .
___________
(1) سورة البقرة آية 200.
(2) سورة القصص آية 35.
(3) سورة البقرة آية 216.(1/869)
ج 1 ، ص : 870
وعلى ذلك فمن أحب الآباء والأبناء والأزواج والمال أكثر من حب اللّه ورسوله والجهاد في سبيله فهو ناقص الإيمان يستحق هذا الوعيد الشديد ولينتظر الهلاك والدمار ، وما كان الذين يحبون الأهل والعشيرة والمال والتجارة أكثر من حب اللّه ورسوله والجهاد في سبيله إلا من المنافقين الذين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد ويوحون لهم زخرف القول بالاعتراض على نبذ العهود ، وإعلان الحرب على المشركين.
واللّه لا يهدى القوم الفاسقين الخارجين عن حدود الدين والعقل والحكمة.
وهل النصر إلا من عند اللّه ؟ [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
المفردات :
مَواطِنَ : هي مواقع الحرب كبدر ، والحديبية ، ومكة. حُنَيْنٍ : واد بين مكة والطائف. رَحُبَتْ الرحب : الواسع. سَكِينَتَهُ : ما يسكنهم ويذهب خوفهم.(1/870)
ج 1 ، ص : 871
لما بلغ قبيلة هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف وكانت الرياسة له ، وكان على ثقيف كنانة بن عبيد ونزلوا بأوطاس (واد في ديار هوازن فيه كانت وقعة حنين). ولما بلغ خبرهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عزم على قصدهم وأعد العدة ، وكان معه حوالى اثنى عشر ألفا من المسلمين : عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء ، ولما رأى المسلمون كثرتهم غر بعضهم هذا حتى قال : لن نغلب اليوم عن قلة ، فوكلوا إلى أنفسهم حتى انهزموا ثم لما رجعوا عن غرورهم والتجأوا إلى ربهم كان النصر والظفر لهم.
المعنى :
لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة تقابلتم فيها مع أعدائكم وأنتم قلة قليلة ، وهم كثرة كثيرة ، ومع هذا نصركم اللّه وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ حيث كنتم متوكلين على اللّه ، معتمدين عليه ممتثلين أمر اللّه ورسوله ، معتقدين أن النصر من عند اللّه ، وأنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه ، واللّه مع الصابرين. إن تنصروا اللّه ينصركم ويثبت أقدامكم.
أما إذا أعجبتكم كثرتكم ، وظننتم أنكم لا تغلبون عن قلة وضعف كما حصل منكم يوم حنين فقد ترككم ربكم لأنفسكم فلم تغن كثرتكم عنكم شيئا من قضاء اللّه وضاقت عليكم الأرض بما اتسعت من الخوف ثم وليتم مدبرين وكانت الدائرة عليكم في أول المعركة حتى فر كثير من الناس ، ولم يلو أحد على أحد ، وثبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر وعلىّ والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد ، وربيعة بن الحارث ، والفضل بن عباس : وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على بغلته الشهباء ثابتا يقاتل الكفار ، وقال : « أى العباس » ناد أصحاب السمرة (الشجرة التي كانت عند بيعة الرضوان) فنادى عباس وكان ذا صوت : أين أصحاب السمرة! قال : فو اللّه لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فقالوا : لبيك. قال : فاقتتلوا والكفار ...
قال : ثم أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حصيات فرمى بها وجوه الكفار. ثم قال : « انهزموا ورب محمد » .
وفي رواية أنه دعا واستنصر وكان يقول : « أنا النبي لا كذب ، أنا ابن(1/871)
ج 1 ، ص : 872
عبد المطلب ، اللهم أنزل نصرك »
قال البراء : كنا واللّه إذا احمر البأس ، أى : اشتد ، نتقي برسول اللّه ... ثم أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فاستجاب دعاء النبي وأنزل ما به تسكن قلوبهم وتطمئن نفوسهم ، وتقوى عزائمهم حتى اجترءوا على قتال المشركين ، وأنزل اللّه جنودا لم تروها من الملائكة يقوون روح المؤمنين المعنوية بما يلقون في قلوبهم من التثبيت والاطمئنان ويضعفون الكافرين بما يلقون في قلوبهم من الخوف والجبن من حيث لا يرونهم وهكذا عمل الدعاية في الحرب وقد ثبت أن لها النصر المؤكد ، والثابت أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر ، وفي رواية عمن أسلم بعد حنين قال : أين الخيل البلق والرجال الذين كانوا عليهم بيض ما كان قتلنا إلا بأيديهم ؟ !! وعذب اللّه الذين كفروا بسيوفكم بعد أن كانوا أعزة لهم الغلب رماة ماهرين ، وذلك كله جزاء الكافرين ، ثم يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء ممن انهزم وفر فيهديه إلى الإسلام ، ويثبت قلبه عند الشدائد.
وفي هذه الآيات تذكير للمؤمنين بنعم اللّه عليهم ، وأن النصر من عنده ، وكثيرا ما تتخلف الأسباب الظاهرة ليتذكروا أن عناية اللّه - تعالى - برسوله والمؤمنين وتأييده بالقوى المعنوية أعظم شأنا وأدنى إلى النصر من القوى المادية.
المشركون لا يدخلون المسجد الحرام [سورة التوبة (9) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
المفردات :
نَجَسٌ النجاسة في اللغة : القذارة وعدم النظافة ، وإذا وصف بها الإنسان كان المراد أنه شرير خبيث النفس وإن كان طاهر البدن ، وإذا وصف بها الداء كان المراد أنه(1/872)
ج 1 ، ص : 873
عضال لا برء معه ، وفي عرف الفقهاء : ما يجب تطهيره سواء كان قذرا كالبول أو غير قذر كالخمر مثلا. عَيْلَةً : فقرا ، يقال : عال : افتقر ، وأعال : كثر عياله.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن المشركين ما هم إلا أنجاس ، عقائدهم فاسدة يشركون باللّه غيره ، ويعبدون الرجس من الأوثان والأصنام ، ويأكلون الميتة ولا يتحرّون الطهارة في أبدانهم ولباسهم ، فلا تمكنوهم بعد هذا العام (عام تسع الذي بلغ فيه على هذه الآيات) من دخول المسجد الحرام ولا الطواف به عراة يشركون بربهم في التلبية.
وهل المراد أنهم أنجاس ، أى : ذواتهم نجسة ؟ أو المراد أنهم أشرار خبثاء النفس ؟
قولان ، والظاهر الثاني ، وأن المراد المعنى اللغوي لا المعنى العرفي عند الفقهاء ، وذلك لأن المتتبع للسيرة يرى أن معاملة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لهم لم تكن على أساس أنهم أنجاس بهذا المعنى ، فقد كان المسلمون يعاشرونهم وكانت رسلهم ووفودهم ترد على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتدخل مسجده في المدينة ، ومن الثابت أنه لم يأمر بغسل شيء أصابه بدنهم ، هذا هو الصحيح.
وقد ورد أن المسلمين قالوا : من أين لنا الطعام بعد هذا النهى ؟ فقيل : وإن خفتم أيها المسلمون عيلة وفقرا من منع هؤلاء من دخول المسجد الحرام كما يوسوس لكم إبليس ، وكما يرجف بذلك المرجفون ، فاعلموا أنه سوف يغنيكم اللّه من فضله ، فهو واسع الفضل ، يداه مبسوطتان ، وهو على كل شيء قدير ، وهو العليم بخلقه الحكيم في فعله.
قتال أهل الكتاب وغايتهم [سورة التوبة (9) : آية 29]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)(1/873)
ج 1 ، ص : 874
المفردات :
الْجِزْيَةَ : نوع من الخراج - الضريبة - يضرب على الأشخاص لا على الأرض.
يَدٍ : سعة وقدرة. صاغِرُونَ الصغار والصغر : ضد الكبر ، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية ، والمراد هنا : الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي تصغر بها أنفسهم بفقد الملك.
كل ما تقدم كان في قتال المشركين وهم أكثرية سكان جزيرة العرب ، وهذه الآية في حكم قتال أهل الكتاب والغاية التي ينتهى إليها ، وقد قاتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المشركين في جزيرة العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره ، وقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية.
المعنى :
يا أيها المسلمون قاتلوا الذين تجمعت فيهم صفات أربع ، هي سبب عداوتهم للإسلام ، وكراهيتهم لكم ، ووضعهم العراقيل في طريق الدعوة ، وتركهم مستقلين يجعلهم يغيرون على أطراف المملكة الإسلامية ويؤلبون العرب كما فعل اليهود في المدينة وما حولها ، وكما تفعل نصارى الروم في حدود بلاد العرب كما سيأتى في غزوة تبوك ، وهاك صفاتهم :
1 - لا يؤمنون باللّه ، وقد شهد القرآن بأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقدوه لأنهم لا يقولون بالتوحيد ، وقد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه ، يحلون ويحرمون كما يشاءون ، وقالوا : عزير ابن اللّه ، والمسيح ابن اللّه ، وقد سبق بيان عقائد النصارى في المسيح في سورة المائدة.
2 - ولا يؤمنون باليوم الآخر. فهم يقولون : إنها حياة روحية فقط كحلم النائم ، ولا يرون فيها شيئا مما نعتقده من نعيم حسى وروحي ، وعذاب حسى وروحي.
3 - ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ، نعم وهما لا يحرمون على أنفسهم ما حرمه اللّه عندهم على لسان موسى وعيسى ، وها هو ذا القرآن يقول : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [سورة النساء آية 155] ألم يحلوا الربا والخمر وهما محرمان عندهما ؟ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ؟ [سورة البقرة آية 85].(1/874)
ج 1 ، ص : 875 4 - ولا يدينون دين الحق ، نعم فهذا الذي يسيرون عليه ليس دين اللّه الحق الكامل ، وإنما لعبت الأهواء والأغراض والتحريف والتبديل في التوراة والإنجيل وهم لا يدينون بالإسلام وهو الدين الحق الذي لا شك فيه إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [سورة آل عمران آية 19].
قاتلوهم حيث اتصفوا بهذه الصفات حتى يعطوا الجزية عن قدرة وسعة وهم صاغرون ، والمعنى : قاتلوهم إن بدر منهم ما يوجب القتال كنقض العهد أو إثارة العدو ومعونته أو الإغارة على أطراف المملكة ، كما فعل النصارى في الشام ، وإعطاء الجزية دليل الخضوع وسلامة العاقبة على أنهم بهذا يخالطونكم فيرون عدل الإسلام وسماحته ، فإن أسلموا فهم منكم وأنتم منهم ، وإلا فالجزية مع معاملتهم معاملة حسنة بلا اضطهاد ولا تعذيب ، ويسمون أهل الذمة لأن حقوق المساواة والعدل في معاملتهم بمقتضى ذمة اللّه ورسوله ، والمعاهدون هم من بيننا وبينهم عهد محترم من الجانبين ، وهناك أحكام في كتب الفقه خاصة بالجزية وأهلها والمعاهدين.
أهل الكتاب لا يعبدون اللّه حقا [سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)(1/875)
ج 1 ، ص : 876
المفردات :
عُزَيْرٌ : هو عزرا الموجود في الكتب التي بأيديهم. يُضاهِؤُنَ :
يشبهون. أَنَّى يُؤْفَكُونَ : كيف يصرفون عن الحق إلى غيره ؟ أَحْبارَهُمْ :
جمع حبر ، وهو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن البيان عنه. وَرُهْبانَهُمْ :
جمع راهب ، وأصله مأخوذ من الرهبة ، وهو الذي حمله خوف اللّه - تعالى - على أن يخلص له النية دون الناس ، ويجعل زمانه له ، وعمله معه ، وأنسه به. أَرْباباً :
جمع رب ، وهو الخالق البارئ الذي يحل الحلال ويحرم الحرام.
هذا تقرير لما مر ، وتأكيد له ببيان أنهم لا يؤمنون باللّه ، وعزير هذا هو عزرا الوارد في كتبهم التي أجمعت على أن أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في كتابة كتبهم المقدسة وأنه هو الذي أملاها ، إذ ثابت أن التوراة التي كتبت في عهد موسى ضاعت قبل عهد سليمان - عليه السلام - وأن عزيرا هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي ، كتبها بإلهام من اللّه أو بوحي ، وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم ، بل كتب علماء أوروبا الأحرار يشكون في هذا وينفونه كما في دائرة المعارف البريطانية.
والخلاصة أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى أن بعضهم أطلق عليه لقب (ابن اللّه) ويظهر - واللّه أعلم - أنه كان إطلاقا في أول الأمر للتكريم ثم صار حقيقة بعد دخول الفلسفة الوثنية الهندية عندهم.(1/876)
ج 1 ، ص : 877
المعنى :
وقالت اليهود - أى : بعضهم - : عزير ابن اللّه ، وقالت النصارى : المسيح ابن اللّه ، وقد كان القدماء منهم يقولون به قاصدين معنى التكريم والمحبة ، فهو إطلاق مجازى ، ثم لما سرت الفلسفة الوثنية صاروا يطلقونه إطلاقا حقيقيا على أن المسيح ابن اللّه وهو اللّه ، وهم متفقون جميعا على أن الموحد ليس نصرانيا - وقد مر شيء من التحقيق في هذا الموضوع في سورة المائدة بالجزء السادس - ذلك قولهم الكذب وافتراؤهم المحض بألسنتهم من غير دليل ولا حجة يشبهون به قول الذين كفروا من قبلهم سواء كانوا من العرب أو من آبائهم السابقين ، ألا لعنة اللّه عليهم أجمعين.
قاتلهم اللّه كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل ؟ ويبدلون الحقائق ، ويصرفونها عن غير وجهها الطبيعي : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة المائدة آية 75]. وقد بين اللّه حقيقة مضاهاتهم للمشركين ومشابهتهم لهم بقوله : اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة 31] ، والمعنى : اتخذوا اليهود والنصارى علماءهم وعبّادهم أربابا من دون اللّه يحلون ما يحلون ، ويحرمون ما يحرمون. وهذا معنى اتخاذهم أربابا كما ورد في الحديث ، فهم تركوا حكم اللّه واتبعوا حكم هؤلاء ، واتخذ النصارى المسيح ابن مريم إلها معبودا مع أنه قال : وقال المسيح يا بنى إسرائيل إنه من يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة ومأواه النار ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا سبحانه وتعالى عما يشركون. كما ورد في كتبهم على لسان موسى وعيسى.
وهم يريدون أن يطفئوا نور اللّه الذي أفاضه على البشر بهدايته إلى الدين الحق والكتاب المحكم والقرآن المنزل على عبده ورسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولكن أنى لهم هذا ؟ ! ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره بتثبيته وحفظه ، والعناية به وإكماله وتمامه في كل شيء ، ولو لم يكره الكافرون ، ولو كره الكافرون.
ولا غرابة في ذلك فهو الذي أرسل رسوله محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بالهدى والدين ، والقرآن المبين ، وأرسله بدين الحق والكمال والجلال ليظهره على الأديان كلها ولو كره المشركون ، وقد صدق اللّه وعده ، ونصر عبده صلّى اللّه عليه وسلّم.(1/877)
ج 1 ، ص : 878
سلوك رجال الدين من أهل الكتاب [سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
المفردات :
يَكْنِزُونَ الكنز في اللغة : الضم والجمع مطلقا ، والمراد جمع الأموال وخزنها وإمساكها عن الإنفاق. فَبَشِّرْهُمْ : أنذرهم ، وهو تهكم بهم لأن البشارة في الخير لا في الشر. فَتُكْوى الكي : إلصاق الحار من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد.
هذا بيان لسير الأحبار والرهبان العملية ، وكشف لنفسيتهم المالية حتى يقف أهل الكتاب على خطئهم في اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون اللّه والاقتداء بهم ، وليعلم المسلمون السر في عنادهم وكفرهم ، وأنهم يريدون إطفاء هذا النور لأنهم ألفوا الضلال ، ألا ساء ما كانوا يعملون.(1/878)
ج 1 ، ص : 879
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسله : اعلموا أن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل لا بالحق ، وإنما نسب هذا لكثير منهم لا لكلهم إحقاقا للحق ، فإن أكثرهم فاسقون ، وقليل منهم صالحون ، أما أكلهم المال بالباطل فيظهر في صور شتى ، منها : صكوك الغفران التي شاعت في القرون الوسطى عند كثير من الفرق النصرانية كالأرثوذكس والكاثوليك ، وخلاصتها : أن يعترف المخطئ منهم بخطئه فيغفر له القسيس نظير مال يدفعه ثم يعطيه صكا يسمى صك الغفران. ألا لعنة اللّه على القوم الجهلاء!! ومنها الرشوة المنتشرة عند أهل الكتاب.
ومنها أكل الربا واليهود هم أساتذة الربا وقادته في العالم ، وقد قلدهم المسيحيون في ذلك ولهم فلسفة خاطئة فيه.
ومنها بيع الفتاوى بالمال لإرضاء الحكام والملوك والأمراء على حساب الدين وقد كان هذا شائعا في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وما بعده.
ومنها إباحة أخذ ما تيسر لهم من مخالفيهم في العقيدة لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [سورة آل عمران آية 75] والمراد بالأكل كل ما يعم الأخذ وغيره ، وإنما عبر به لأنه المقصود المهم من الأخذ.
وأما صدهم عن سبيل اللّه فبما يختلقون على اللّه الكذب ، ويصفون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأحقر الأوصاف ، ويكتمون صفته وبشارته التي هي عندهم ، والنصارى انفردوا في هذه الأيام بالمبالغة في الصد عن سبيل اللّه بالتبشير في البلاد الإسلامية عن طريق المدارس والمستشفيات والجمعيات ... إلخ.
والمراد بقوله - سبحانه - : والذين يكنزون الذهب ... هم من تقدم من الأحبار والرهبان لأن الكلام معهم ، أو ما هو أعم وهم يدخلون في الموصول دخولا أوليا ، وكذا غيرهم من المسلمين ، وهذا هو الظاهر.
والذين يجمعون المال ويحبسونه عن الإنفاق في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم ، وجمع المال وكنزه لا يكون خطرا إلا إذا منعت فيه حقوق اللّه ، أما إذا أديت الحقوق الواجبة(1/879)
ج 1 ، ص : 880
عليك في المال ، ثم كنزت وجمعت فلا غبار عليك. وهذا هو الواجب فهمه في الآية خلافا لبعضهم. قال ابن عمر - رضى اللّه عنهما - : ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز.
فبشرهم وأنذرهم بعذاب أليم جدا يوم يحمى على ما جمعوه من دنانير ودراهم في النار ، أى : يوقد عليها في النار حتى تحمى فتكوى بها جباههم التي طالما اعتزت بكثرة المال وتكون جنوبهم التي طالما تمتعت بالحرير والديباج ، وتكوى بها ظهورهم التي طالما استندت للمال ، على أن الكي على الوجه أشهر وأشنع ، والكي على الجنب والظهر أوجع وآلم ويقال لهم : هذا جزاء ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون!!! وروى البخاري عن أبى هريرة - رضى اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « من آتاه اللّه مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعنى شدقيه - ثم يقول له : أنا مالك أنا كنزك » ثم تلا :
سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [سورة آل عمران آية 180].
بيان عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء [سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)(1/880)
ج 1 ، ص : 881
المفردات :
حُرُمٌ : جمع حرام. كَافَّةً أى : مجتمعين. النَّسِي ءُ : من نسأ الشيء وأنسأه ، أى : أخره ، والنسيء كالمسنوء ، أى : المؤخر.
لِيُواطِؤُا المواطأة : الموافقة.
عود للكلام على المشركين بعد أن أنهى الكلام على أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
المعنى :
إن عدة الشهور عند اللّه أى : في حكمه اثنا عشر شهرا ، فيما كتبه اللّه وأثبته من نظام للكون ، وتقدير لمنازل القمر والشمس ، كتبه يوم خلق السموات والأرض ، والمراد الأشهر القمرية لا غيرها ، فإن الحساب بها يسير ، وتتوقف على الهلال ، وهو يرى لكل إنسان متعلم وغير متعلم ، بدوي أو حضرى.
منها أربعة حرم كتب اللّه وفرض احترامها وتحريم القتال فيها على لسان إبراهيم وإسماعيل. وتناقلت العرب ذلك قولا وعملا ، وفي زمن الجاهلية الجهلاء غيرت العرب في ذلك وبدلت تبعا لأهوائها كما سيأتى والأشهر الحرم كما وردت في الحديث هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى الثانية وشعبان.
وحرم القتال فيها لأنها زمن الحج فيأمن الناس في أسفارهم وغربتهم على أنفسهم وأموالهم ، ولا شك أن الحج يبتدئ غالبا من ذي القعدة إلى آخر المحرم. وكان رجب في وسط العام هدنة للراحة والاستجمام ولتسهيل العمرة فيه ، ذلك الدين القيم ، ذلك(1/881)
ج 1 ، ص : 882
الشرع الصحيح المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل في عدة الشهور ، وتحريم الأربعة الحرم ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل أى محرم ومحظور ، ويدخل في ذلك انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها ، أو الحرم بالقتال فيها في كل وقت ، يدخل هذا وذلك في الظلم دخولا أوليا ، وقاتلوا المشركين جميعا على قلب رجل واحد كل في دائرة اختصاصه كما يقاتلونكم كذلك ، واعلموا أن اللّه مع المتقين للظلم والعدوان والفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
كانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم وقد ورثت ذلك عن أبيها إبراهيم وإسماعيل ، ولما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم بدلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر الحرم ، ولا سيما شهر المحرم منها ، فكانوا ينسئون تحريمه ، أى : يؤجلون تحريمه إلى صفر فتبقى الأشهر أربعة ليوافقوا عدد ما حرمه اللّه. وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم لأجل الحج.
وفي كتب التاريخ أنه كان يقوم رجل منهم كبير (يقال له القلمس) فيقول في (منى) : أنا الذي لا يرد لي قضاء ، فيقولون : صدقت فأخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم ، ويحرم عليهم صفرا ، ثم صاروا ينسئون غير المحرم.
إنما النسيء ، أى : التأخير في الأشهر الحرم كما ورد عنهم ، زيادة في الكفر إذ هم غيروا به ملة إبراهيم بسوء التأويل فكان زيادة على أصل كفرهم وشركهم باللّه تعالى ، فإن تشريع الحلال والحرام للّه وحده وإنهم بالنسيء يضلون به سائر الكفار الذين يتبعون فيه حيث يوهمونهم أنهم على ملة إبراهيم وأنهم لم يزيدوا ولم ينقصوا في الأشهر الحرم ، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة.
واللّه لا يهدى القوم الكافرين أبدا إلى خير أو صواب ، خصوصا في أمور الدين ،
روى الشيخان عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال في حجة الوداع : « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض » « 1 »
بمعنى أنه عاد حساب الشهور ونظامها إلى ما كان عليه من أول نظام الخلق بعد أن كان قد تغير في حساب العرب بسبب النسيء في الأشهر.
___________
(1) أخرجه البخاري في التفسير 4662.(1/882)
ج 1 ، ص : 883
في الحث على الجهاد والتحذير من تركه [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 40]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
المفردات :
انْفِرُوا النفر والنفور : عبارة عن الفرار من الشيء ، أو الإقدام عليه بخفة ونشاط ، واستنفر الإمام الجيش إلى القتال : أعلن النفير العام فنفروا خفافا وثقالا.
اثَّاقَلْتُمْ : تثاقلتم وتباطأتم. الْغارِ المراد : غار جبل ثور ، وهو فتحة في الجبل. لا تَحْزَنْ الحزن : انفعال نفسي ينشأ من تألم النفس مما وقع ، ويراد بالنهى(1/883)
ج 1 ، ص : 884
عنه : مجاهدته وتوطين النفس على عدم الاستسلام له. كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى المراد : كلمة الكفر والشرك ودولتهم. كَلِمَةُ اللَّهِ هي كلمة الإسلام ودولته.
هذه الآيات ، من هنا إلى آخر السورة ، نزلت في غزوة تبوك تقوى من عزم المؤمنين وتكشف عن ستر المنافقين ، وتبين أحكاما كثيرة لازمة لجماعة المسلمين ، وتعاتب من تخلف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وغزوة تبوك كانت في السنة التاسعة للهجرة بعد رجوع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من غزوة حنين والطائف وكان المسلمون في عسرة وضيق ، وقد حان قطاف الثمر عندهم وظهور الموسم.
لهذا كره بعض المسلمين الخروج إلى القتال خصوصا بعد ما أعلن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم اتجاهه ومقصده في الغزوة وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة آية 216].
أما سبب الغزوة فهو استعداد الروم والقبائل العربية المنتصرة من لخم وجزام لقتال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حيث أعدوا جيشا كثيفا لغزو المدينة فهي حرب دفاعية لا هجومية « هكذا غزواته وحروبه صلّى اللّه عليه وسلّم ولما لم يجد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من يقاتله عاد بلا هجوم ، وتبوك : مكان في منتصف الطريق تقريبا بين المدينة ودمشق.
المعنى :
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان ، واهتديتم بالقرآن الكريم : مالكم متثاقلين حين قال لكم رسولكم الأمين : انفروا في سبيل اللّه ولإعلاء كلمته ؟ ! ماذا عرض لكم مما يتنافى مع الإيمان وكماله حين قال لكم الرسول : انفروا في سبيل اللّه لقتال الروم ؟ الذين تجهزوا لقتالكم والإغارة عليكم فتثاقلتم عن النهوض ، وتباطأتم عن الحرب. مخلدين إلى الأرض وراحتها ولذتها ؟ ! وآية الإيمان جهاد وعمل ، ونشاط وجد إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحجرات آية 15].
أرضيتم بالحياة الدنيا ولذتها الفانية وعرضها الزائل بدلا من سعادة الآخرة ونعيمها المقيم ؟ ! ، إن كان الأمر كذلك فقد استبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير ، فما متاع(1/884)
ج 1 ، ص : 885
الحياة الدنيا المشوب بالهم والحزن في جانب الآخرة ونعيمها الدائم والرضوان الإلهى العظيم فيها إلا شيء قليل لا يعبأ به ، ولقد شبه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نعيم الدنيا ونعيم الآخرة في قلته وسرعته بمن وضع إصبعه في البحر ثم أخرجها منه
قال : « فانظر بم ترجع »
؟ .. إن لم تنفروا خفافا وثقالا كل على قدر حاله وإمكاناته يعذبكم اللّه عذابا أليما موجعا ، ويستبدل قوما غيركم يطيعون اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويحبهم اللّه ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم. ومن هم ؟ اللّه أعلم بهم ، على أن هذا تهديد فقط وإلا فالشرط وجوابه لم يتحققا.
ولا تضروه أيها المتثاقلون في شيء أصلا ، إذ لا يبلغ أحد ضره ولا نفعه كيف ذلك ؟ وهو القاهر فوق عباده!!! واللّه على كل شيء قدير ، وهو الغنى عن نصرتكم لنبيه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم.
إن لم تنصروه ، ولم تطيعوه للجهاد في سبيل اللّه فسينصره اللّه بقدرته وتأييده كما نصره وقت أن أجمع المشركون على الفتك به أو إخراجه من بلده أو حبسه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [سورة الأنفال آية 30].
نصره اللّه في ذلك الوقت ولم يكن معه جيش ولا أنصار بل حال كونه ثانى اثنين وواحدا منهما إذ هما في الغار المعروف في جبل ثور ، إذ يقول لصاحبه أبى بكر حين فزع لما رأى المشركين وقال : يا رسول اللّه ، واللّه لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا.
يقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : يا أبا بكر لا تحزن إن اللّه معنا بالنصر والمعونة والولاية والرعاية
. وفي رواية :
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ؟
فأنزل اللّه سكينته على أبى بكر حتى هدأ من روعه وطمأن نفسه أما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقد كان ثابت الجنان هادئ النفس واثقا بالنصر ثقة لا حد لها ، ولم يخف ولم يحزن أبدا ، وأيد اللّه نبيه بجنود من عنده لم تروها ، فاللّه معه وناصره ، وحافظه ، وكافيه شر الكفار والمستهزئين ، وقد أمده اللّه بالجنود من الملائكة المسومين في بدر وحنين والأحزاب بما لا يدع مجالا للشك إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
[سورة غافر آية 51].
وجعل اللّه كلمة الكافرين ودولتهم هي السفلى ، وكلمة اللّه ودولته هي العليا ، واللّه(1/885)
ج 1 ، ص : 886
عزيز وغالب لا يغلبه أحد ، حكيم يضع الأمور في نصابها ، وقد نصر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بعزته ، وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [سورة التوبة آية 33].
التجنيد العام [سورة التوبة (9) : آية 41]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
المعنى :
بعد أن عاتب المتخلفين عن النفر أمر به أمرا عاما شاملا فقال : انفروا خفافا وثقالا ، والخفة والثقل تكون في الأجسام وأحوالها من صحة ومرض ، ونحافة وسمن ، وشباب وكبر ، وغنى وفقر ، وقلة وكثرة ، ووجود ظهر وعدم وجوده ... إلخ.
فإذا أعلن النفير العام وجب تجنيد القوى كلها في البلد للحرب ، ووجب الحرب على الكل ما عدا المعذورين عذرا شرعيا ، وقد نبه القرآن على نوع العذر حيث قال :
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [سورة التوبة آية 91].
انفروا في سبيل اللّه وجاهدوا بالأموال والأنفس ما استطعتم إلى ذلك سبيلا ، فمن قدر على الجهاد بنفسه وماله وجب عليه ذلك ، ومن قدر على الجهاد بنفسه فقط أو ماله فقط وجب عليه.
وقد كان الصحابة يجاهدون بالنفس والمال ، وها هو ذا عثمان يجهز جيش العسرة ، وبعض الصحابة فعلوا مثله.
والأمم الآن ترصد الأموال الواسعة للدفاع والحرب حتى تأمن جارتها ، ذلك خير لكم وأجدى إن كنتم تعلمون حقيقة هذه الخيرية ، وقد أثبتت التجارب صدق هذه النظرية.(1/886)
ج 1 ، ص : 887
هذا التجنيد العام واجب عند ظرفه الخاص به وفي الأحوال العادية فالواجب امتثال أمر القائد العام.
المنافقون وما صدر منهم [سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 52]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)(1/887)
ج 1 ، ص : 888
المفردات :
عَرَضاً : وهو ما يعرض من منافع الدنيا ، أى : غنيمة قريبة. سَفَراً قاصِداً المراد : سهلا لا عناء فيه ولا مشقة. الشُّقَّةُ : هي المسافة البعيدة التي لا تقطع إلا بمشقة. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ العفو : التجاوز عن الذنب أو التقصير وترك المؤاخذة عليه ، وقد يستعمل بمعنى الدعاء. انْبِعاثَهُمْ : خروجهم معك بنشاط وهمة.
فَثَبَّطَهُمْ التثبيط : التعويق عن الأمر والحبس عنه. خَبالًا والمراد به : الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف. خِلالَكُمْ الخلل : الفرجة بينكم. قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ : تقلب الأمور : صرفها وإجالة الرأى والتفكير العميق فيها.
سَقَطُوا : وقعوا. تَرَبَّصُونَ بِنا التربص : الانتظار. الْحُسْنَيَيْنِ : مثنى الحسنى ، التي هي تأنيث الأحسن ، والمراد بها : الغنيمة ، أو الشهادة.(1/888)
ج 1 ، ص : 889
كان دأب المؤمنين إذا دعوا إلى الجهاد لبوا مسرعين نشطين لأنهم ينتظرون إحدى الحسنيين : إما الشهادة والأجر ، أو الغنيمة والنصر.
ولما دعاهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إلى غزوة تبوك تثاقل بعضهم لأسباب رآها ، هذا التثاقل تختلف درجاته تبعا لقوة الإيمان وشدة العذر ، وقد نفرت الأكثرية طائعة وتخلفت قلة عاجزة معذورة. أما المنافقون فقد كبر عليهم الأمر ، وشق عليهم الخطب. كيف يقاتلون في تبوك أكبر دولة في العالم ؟ ! فطفقوا ينتحلون الأعذار ، ويستأذنون في القعود ، والتخلف فيأذن لهم الرسول قبل بيان حالهم والوقوف على أسرارهم.
فكانت هذه الآيات الفاضحة للمنافقين ، الكاشفة عن أخلاقهم وطبائعهم.
و
روى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال للجند بن قيس لما أراد الخروج إلى تبوك : « يا جدّ هل لك في جلاد بنى الأصفر تتخذ منهم سرارى ووصفاء ؟ » فقال الجد : قد عرف قومي أنى مغرم بالنساء وإنى أخشى إن رأيت بنى الأصفر ألا أصبر عنهن ، فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي ، فأعرض عنه الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : قد أذنت لك. فنزلت هذه الآية.
المعنى :
لو كان ما دعوا إليه - هؤلاء المنافقون - عرضا قريبا ، ومغنما سهل المأخذ قريب المنال ، ولو كان سفرا ذا قصد وسهولة ليس فيه مشقة ولا تعب ، لو كان هذا أو ذاك لاتبعوك وأجابوك إلى طلبك ، ولكن بعدت عليهم الشقة التي دعوا إليها وهي غزوة تبوك ، وكبر عليهم التعرض لقتال الروم في ملكهم وعقر دراهم ، والروم أكبر دولة حينئذ ، نعم كبر عليهم ذلك فتخلفوا جبنا وميلا للراحة والدعة ، وسيحلفون بعد رجوعكم إليهم قائلين : لو استطعنا لخرجنا معكم مجاهدين غازين ، فإننا لم نتخلف إلا لعدم استطاعة الغزو وفقد المال والظهر ، وما علموا أنهم يهلكون أنفسهم باليمين الكاذبة
« اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع » (حديث شريف)
، واللّه يعلم إنهم لكاذبون ، وسيجازيهم على ذلك كله ..
روى أن ناسا قالوا لبعضهم : استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.(1/889)
ج 1 ، ص : 890
والذي حصل من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه أذن لهم لما أقسموا كاذبين : إنهم لا يستطيعون الجهاد ، فجاء قوله تعالى : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ؟ .. صريحا في أنه - سبحانه وتعالى - عفا عنه - عليه الصلاة والسلام - وما وقع منه عند إذنه للمتخلفين المنافقين ، فقد ترك الأولى والأفضل ، وكان الأحسن الانتظار والتأنى حتى تنكشف أمورهم وتظهر للعيان ، كأنه قيل : لم سارعت إلى الإذن لهم ؟ وهلا انتظرت حتى ينجلي الأمر فإن هذا هو الحزم والحكمة!! على أن اللّه كره انبعاثهم ، وكان في خروجهم خطر على المسلمين ، وفي تصدير فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العقاب لطف الرب اللطيف بالحبيب المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم وذلك بخلاف مفاداة الأسرى فإن الخطأ فيها كان كثيرا ، وكذا كان التعبير هناك صارما ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى .. [سورة الأنفال آية 67].
ليس من شأن المؤمنين باللّه الذي كتب عليهم الجهاد ، وباليوم الآخر الذي يكون فيه الأجر الكامل على الأعمال ، أن يستأذنوك في أمر الجهاد في سبيل اللّه بالمال والنفس بل يقدمون عليه عند وجوبه بهمة ونشاط ، فهل يعقل أن يكون من شأنهم أن يستأذنوك في التخلف عنه بعد النفير العام له ؟ .. كلا .. نعم لا يستأذنك المؤمنون في القعود عن الجهاد أبدا ما داموا مستطيعين ذلك ، واللّه عليم بالمتقين وسيجازيهم على ذلك أحسن الجزاء ، إنما يستأذنك المنافقون الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في القعود عن الجهاد منتحلين الأعذار ، مقسمين أحرج الأيمان ، واللّه يعلم إنهم لكاذبون ، وهذا يقتضى عدم الإذن لهم بسرعة.
فهم قد ارتابت قلوبهم ، وملئت شكّا ونفاقا ، وهم في ريبهم يترددون ، يحسبون كل صيحة عليهم ، هم العدو قاتلهم اللّه أنى يؤفكون ؟ ! ولو أرادوا الخروج معك للقتال لأعدوا له عدته من الزاد والراحلة ، وقد كانوا مستطيعين ذلك. ولكن كره اللّه انبعاثهم وخروجهم مع المؤمنين لأنهم لو خرجوا ما فعلوا إلا تفريق كلمتهم ، وإذاعة قالة السوء بينهم ، فثبطهم بما أحدث في قلوبهم من الخواطر ، وما أذاع في جوانبهم من المخاوف فلم يعدوا للخروج عدته وكان في متناول أيديهم ، وقيل لهم من الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : اقعدوا مع القاعدين من المرضى والصبيان والنساء والضعفاء.(1/890)
ج 1 ، ص : 891
ثم أراد القرآن أن يطمئن المؤمنين ويبين أن عدم خروجهم مصلحة للجيش فقال ما معناه : لو خرجوا منبثين فيكم ، وقاتلوا معكم ، ما زادوكم إلا خبالا وضعفا ، واضطرابا في الرأى وفسادا في العمل ، فلن يأتى منهم خير أبدا بل سيأتى شر ، وإذا خرجوا معكم فسيسرعون في الدخول بينكم بالنميمة وتفريق الكلمة حالة كونهم يبغون الفتنة ، وإذاعة السوء ، والتخويف من الأعداء ، وتثبيط الهمة وهذا كله خطر عليكم وأى خطر كهذا ؟ !! ولا تنسوا أن فيكم قوما سماعين لهم من ضعفاء العقل والإيمان يسمعون لهم ويصدقونهم في قولهم ، واللّه يعلم أن قولهم إفك ، وحديثهم كذب ، واللّه عليم بالظالمين ، ومجازيهم على عملهم.
تاللّه لقد ابتغوا الفتنة من قبل لكم ، ألا تذكروا موقف عبد اللّه ابن أبىّ زعيم المنافقين في غزوة أحد حينما توقف عن السير للقتال في مكان يسمى بالشوط وانحاز له ثلث الجيش ، ولقد همت طائفتان منكم أن تفشلا وترجعا عن القتال ، ولكن عصمهم اللّه من الذلة إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [سورة آل عمران آية 122] ، وتقدم تفصيل ذلك في الجزء الرابع فخروجهم معكم خطر عليكم ، واللّه صرفهم عنكم.
لقد ابتغوا الفتنة لكم قديما ، وقلبوا لكم الأمور ، وفكروا كثيرا في القضاء على دعوتكم ولكن : أطنين أجنحة الذباب يضير ؟ !! نعم لم يفعلوا شيئا فاللّه معكم ، وقد جاء الحق بالنصر الموعود ، وظهر أمر اللّه بالتنكيل باليهود ، وبطل الشرك بفتح مكة ، ودخول الناس في دين اللّه أفواجا ، كل ذلك وهم له كارهون ..!!
يا عجبا لهؤلاء المنافقين ينتحلون الأعذار ، ويظهرون التمسك بالفضيلة ، وما علموا أن اللّه يعلم السر وأخفى ، ويعلم الغيب والشهادة!! وقد كانت نفوسهم منطوية على نفاق اللّه أعلم به. انظر إلى بعضهم يقول للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ائذن لي في القعود عن الحرب وسأعينك بالمال فإنى أخاف فتنة نساء الروم فأذن لي ولا تفتنّى ، فيرد اللّه عليهم مكذبا دعواهم كاشفا حقيقتهم : ألا في الفتنة سقطوا ، وقد وقعوا فيها كما يقع الإنسان في البئر ، وانظر إلى بدء الجملة بكلمة (ألا) للتنبيه وافتتاح الكلام وأنهم خبوا في الفتنة ووضعوا!!! وانظر إليهم وهم يتربصون بكم الدوائر ، ويتمنون لكم كل شر وخيبة(1/891)
ج 1 ، ص : 892
ويتألمون إذا أصابتكم حسنة في الدنيا من نصر أو نعمة. ويستاءون إساءة بليغة من وصول الخير لكم ، وإن تصبك يا محمد أنت وأصحابك مصيبة من هزيمة أو شر - في الغالب سببها - يقولوا فرحين مسرورين : قد أخذنا أمرنا من قبل وأعددنا أنفسنا لها إذ نحن متوقعون هذه الهزيمة منتظرون لها ، لذلك تراهم يعتذرون وينافقون ، ألا لعنة اللّه عليهم أجمعين.
قل لهم يا محمد : لن يصيبنا أبدا إلا ما كتبه اللّه لنا ، وما كتب لنا فهو الخير والدواء وإن كان مرّا فعلى رسلكم أيها الناس فنحن راضون صابرون مطمئنون لقضاء اللّه وقدره فهذا هو الإيمان.
لهذا على اللّه وحده فليتوكل المؤمنون ، ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه ، واللّه كافيه وحافظه ، وهو نعم المولى ونعم النصير. قل لهم : هل تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين من الغنيمة والنصر أو الشهادة والأجر فإن عشنا عشنا أعزة مؤمنين ، وإن متنا متنا شهداء مأجورين. أما نحن فنتربص بكم الدوائر التي تدور عليكم فيصيبكم اللّه بعذاب من عنده ، وتلك سنته مع من يخالف أمره ويبالغ في عصيان رسله ، أو يصيبكم اللّه بعذاب الهزيمة والذل على أيدينا. فتربصوا كما تشاءون وإنا معكم متربصون فإذا لقى كل منا ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يسرنا ، ولا نشاهد إلا ما يسوءكم.
أنفقوا طوعا وكرها [سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 59]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)(1/892)
ج 1 ، ص : 893
المفردات :
وَتَزْهَقَ زهوق النفس : خروجها من الأجساد بصعوبة عند الموت.
يَفْرَقُونَ من الفرق وهو الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه.
مَلْجَأً : المكان الذي يلتجئ إليه الخائف ليعتصم به ، من حصن أو قلعة.
مَغاراتٍ : جمع مغارة ، وهي الغار في الجبل ، سمى بذلك لأنه يستتر فيها.
مُدَّخَلًا : مسلكا للدخول فيه بمشقة. يَجْمَحُونَ الجموح : السرعة التي لا تردها شيء.
يَلْمِزُكَ اللمز : العيب مطلقا ، والهمز : العيب في الغيبة.
المعنى :
يا أيها الرسول قل لهؤلاء المنافقين : إن تنفقوا ما شئتم من الأموال في الجهاد أو غيره مما أمر اللّه به حال الطوع لتتقوا به المسلمين وصولتهم ، أو تنفقوا في حال الكره خوف(1/893)
ج 1 ، ص : 894
العقوبة فلن يتقبل اللّه منكم في الحالين ، ما دمتم تشكون فيما جاءكم به الرسول من أمر الدين والجزاء عليه في الآخرة ، إنكم كنتم قوما فاسقين ، وهذا تعليل لعدم القبول منهم في الحالين : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة آية 27].
وهذا بيان أوضح لهذا التعليل - وما منع قبول نفقاتهم منهم شيء من الأشياء إلا كفرهم باللّه وبصفاته وكفرهم برسوله وما يجب أن يكون له ، وأنهم لا يأتون الصلاة التي هي عماد الدين ، إلا وهم كسالى ولا ينفقون نفقة صغيرة أو كبيرة إلا وهم كارهون كراهة دائمة لازمة لهم فإن أنفقوا من غير أمر ولا إلزام من الرسول ، بل طوع أنفسهم فهم أيضا كارهون كراهة قلبية لإنفاقهم. ومع الإلزام من باب أولى كارهون ، ولقد صدق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنما الأعمال بالنيات »
.
وإذا كان هذا مآل أموالهم في الآخرة لا يقبل منهم صرف ولا عدل فهم لا ينتفعون بها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ولا تسر من حالهم فأموالهم في الدنيا إنما يريد اللّه ليعذبهم بها حيث يجمعونها بالكدح والنصب ، وما يلزم ذلك من هم وألم ، ثم هم ينفقونها كارهين تذهب أنفسهم حسرات عليها كأنهم يلقونها في البحر ، بل أشد لأنها ستنفق في تقوية المسلمين وفي الآخرة لهم عذاب شديد ، فهم يموتون على الكفر الذي يحبط العمل الصالح ، وستخرج أرواحهم بشدة وعنف وصعوبة وألم ..
ألست معى في أنهم خسروا الدنيا والآخرة ؟ !! المعنى : هكذا خلق المنافق يدفعه الخوف ، ويملى عليه الفرق فيحلف كاذبا إنه منك في الدين ومعك في الملة والطريق وما هو منك في شيء أبدا : وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة 14].
وما دفعهم إلى هذا إلا الخوف الذي ملك قلوبهم ، والفرق الذي شاع في نفوسهم حتى إنهم لشدة كراهيتهم للقتال معكم وشدة رعبهم من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والمعيشة بعيدة عنكم بحيث لو يجدون ملجأ يلجئون إليه ، أو مغارة يغورون فيها أو مدخلا يندسون فيه ، لولوا إليه وهم مسرعون لا يلوون على شيء ، سرعة الفرس الجموح التي لا يردها لجام ولا قائد.(1/894)
ج 1 ، ص : 895
وبعضهم يريد أن يشوه جمال الإسلام. ويطعن على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيأتى إلى ما يظنه أنه نقطة ضعف كتقسيم الغنائم والصدقات ، وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يرى إعطاء المؤلفة قلوبهم كما نص القرآن ، فيقولوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أعدل واللّه ما هذا بعدل. وهذا كله مما يؤثر عن ضعاف القلوب والإيمان من المسلمين ، فيرد اللّه عليهم بقوله : ومنهم من يلمزك في تفريق الصدقات ، ويعيب عليك طريقتك فيها ، فإن أعطوا منها رضوا واطمأنوا ، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ويتألمون ، فليس نقدهم بريئا ، ولكن لغرض حقير ، ولو أنهم رضوا بما أعطاهم اللّه من الغنائم ، وما قسمه لهم رسوله ، وقالوا : حسبنا اللّه ، وكافينا في كل حال فهو الرزاق ذو القوة المتين ، وسيؤتينا اللّه من فضله في المستقبل ورسوله زيادة على ما أعطانا ، إنا إلى اللّه راغبون لا نرغب إلى غيره أبدا ، فبيده ملكوت السموات والأرض ، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه سبحانه وتعالى ...
إلى من تعطى الصدقة الواجبة [سورة التوبة (9) : آية 60]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
من طبيعة الإنسان حب المال ، وقد يكون الغنى أشد حبا والطمع فيه شديد ، وضعيف الإيمان دائما لا يرضى بما يعطى ... وقد كان المنافقون وضعفاء الإيمان لا يرضون بقسمة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ على أن للمال سطوة وشهوة قد تجمح ببعض الأغنياء وأولياء الأمور فيميلون عن طريق الحق في صرف الزكاة ، لذلك بيّن اللّه في القرآن مصرف الصدقة الواجبة.
والآية مناسبة لما قبلها ، قاضية على أطماعهم ، مبينة حقيقة ما صنع الرسول معهم ، وأنهم مخطئون في اعتراضهم.(1/895)
ج 1 ، ص : 896
المعنى :
إنما الصدقات للفقراء والمساكين ولغيرهم من الأصناف الثمانية لا تتعداهم إلى غيرهم أبدا ، والمراد إنما هي لهم لا لغيرهم وقد فرضها اللّه لهم فريضة منه ، واللّه عليم بخلقه حكيم في فعله.
وها هم أولاء الأصناف :
1 - الفقير : المقابل للغنى ، والقرآن دائما يذكرهما متقابلين : وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
« 1 » وهو المحتاج.
2 - المسكين عديم الحركة من حاجته وضعفه ، فالفقر والمسكنة يلتقيان في الحاجة ، وهل هما صنفان مستقلان أم صنف واحد له ؟ وهل هما في درجة واحدة أم أحدهما أشد من الآخر ؟ أقوال كثيرة.
3 - والعاملين عليها كالكتبة والحراس والصيارفة والمشرفين على الجمع.
4 - المؤلفة قلوبهم ، وهو صنف من الناس كان يعطيهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكر من باب تأليف القلوب وجمعها على الإسلام لضعف في إيمانهم أو حكمة في عطائهم ، وهذا حق للإمام يفعل ما فيه المصلحة.
5 - وفي الرقاب ، والمراد الصرف للإعانة في فك الرقاب وعتقها من ذل الرق وبؤس الأسر ، ويدخل في ذلك المال المدفوع لفك الأمة وعتقها من ذل الاستعمار ، وكيد الدخيل الأجنبى.
6 - والغارمين ، وهم من عليهم غرامة مالية أثقلت كواهلهم كديون عليهم استدانوها فأغرقت مالهم ، أو هم قوم غرموا في سبيل صلح بين الناس ، أو جمع شمل المسلمين ... إلخ.
7 - وفي سبيل اللّه ، والمراد به هنا : مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر دينهم ودولتهم من كل خير يعود على المجموع ، وهذا يشمل تسهيل العمل لكل عاطل ، وعلاج كل مريض ، وتعليم كل جاهل ، وبالأخص التعليم الديني.
___________
(1) سورة النساء آية 6.(1/896)
ج 1 ، ص : 897
8 - وابن السبيل ، وهو المنقطع عن بلده في سفر لم يتيسر له شيء من المال ، فيعطى حتى يصل إلى ماله.
والظاهر - واللّه أعلم - أن السر في التعبير باللام المفيدة للملك في أصناف خاصة هم الفقراء ، والمساكين ، والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ، والغارمين ، وابن السبيل ، وبقي في صنفين هما : في الرقاب ، وفي سبيل اللّه (اللام) أصحابها أشخاص يملكون و(في) أصحابها ليسوا أشخاصا بل المراد أوصافا ومصالح عامة للمسلمين.
والترتيب في الآية ملحوظ ومقصود.
أذى المنافقين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والرد عليهم [سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 70]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65)
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)(1/897)
ج 1 ، ص : 898(1/898)
ج 1 ، ص : 899
المفردات :
يُؤْذُونَ الأذى : ما يؤلم الإنسان في نفسه أو ماله أو بدنه قليلا كان أو كثيرا.
أُذُنٌ : هذا من باب تسمية الإنسان باسم جزء منه للمبالغة في وصفه بوظيفته ، كما قالوا للجاسوس : عين. يُحادِدِ اللَّهَ المحادة كالمعاداة مأخوذة من الحد ، أى :
طرف الشيء ، وهكذا كل عدو يكون في ناحية وشق بالنسبة لخصمه وعدوه.
يَحْذَرُ الحذر : الخوف في المستقبل من شيء خاص. مُخْرِجٌ الإخراج :
يشمل إظهار مكنون الصدور وإخراج الحب من الأرض ، والنفي من الوطن.
نَخُوضُ الخوض : خاص بالعمل الباطل لا الحق لأنه مأخوذ من الخوض في البحر أو الوحل ، والمراد : الإكثار من العمل الذي لا ينفع. بِخَلاقِهِمْ الخلاق :
النصيب. حَبِطَتْ : بطلت. الْمُؤْتَفِكاتِ : جمع مؤتفكة ، من الائتفاك :
وهو الانقلاب والخسف ، والمراد أصحاب قرى قوم لوط.
هذا لون آخر من ألوان نفاقهم ذكر مناسبا لذكر لمزهم عليه ونقدهم له في تقسيم الغنائم والصدقات.
وكذا بيان عام لأصل النفاق مع ذكر جزائه في الدنيا والآخرة وضرب الأمثال بحالهم وحال من تقدمهم على أن المنافقين في العصر الإسلامى الأول ضربوا الرقم القياسي في النفاق.
المعنى :
وبعض هؤلاء المنافقين الذين يؤذون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويصفونه بصفات تتنافى مع نبوته ورسالته ، وشهادة الحق له بأنه على خلق عظيم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم آية 4] وهكذا عمل المنافقين دائما خارج عن حدود العقل والواقع.
يقولون في شأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : هو أذن يسمع كل ما يقال له ، ويصدقه ، ويرمون إلى أنه لا يميز بين هذا وذاك ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، وإنما هو النبي الكريم صاحب الخلق الكامل والإحساس العالي لا يجابه أحدا بما يؤلمه ، ولا ينقد أحدا بما يؤذيه ، بل يقول دائما : ما بال قوم ؟ ما بال رجال ؟ وقد كان صلّى اللّه عليه وسلّم يعامل المنافقين(1/899)
ج 1 ، ص : 900
بظاهر حالهم ، ويجرى عليهم أحكام الشريعة وآدابها التي يعامل بها الناس ، ولقد رد اللّه عليهم ولقنه الجواب : قل : هو أذن خير لا أذن شر كما تعلمون!! فهو لا يقبل مما يسمعه إلا الخير وما وافق الشرع ، ولا يسمع الباطل ، ولا الغيبة ولا النميمة ولا الجدل ولا المراء.
ثم فسر المراد بأذن خير .. بأنه يؤمن باللّه وما يوحيه إليه من أخبار الغيب وأسرار السماء وبما يوحى إليه من أخباركم وأخبار غيركم : ويؤمن للمؤمنين إيمان جنوح وميل وائتمان للمهاجرين والأنصار وصادقي الإيمان ، أما المنافقون فلا يميل لهم ولا يصدق خبرهم وفي هذا تهديد لهم بأن اللّه ينبئه بأسرارهم وأخبارهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [سورة التوبة آية 64].
وهم رحمة للمؤمنين فقد هداهم إلى سعادة الدنيا والآخرة ، وفي قوله : مِنْكُمْ إشارة إلى أن منهم من يدعى الإيمان وهو كاذب فيه ، وإشارة إلى أنه عالم أن فيهم المنافقين ، ولكن لحسن خلقه يعاملهم بالحسنى حتى يؤذن بغيرها.
والذين يؤذون رسول اللّه في كل ما يتعلق بالرسالة كوصفه بالسحر والكذب ، وعدم الفطنة ... إلخ لهم عذاب أليم ، إذ هم كفروا بهذا ، أما الإيذاء الخفيف فيما يتعلق بشخصه فحرام فقط مع أنه لا يصدر من مؤمن أبدا ، وإيذاء أهل بيته حرام كذلك.
إن من عادة المنافقين ، والكاذبين ، ومن يرتكبون جرما أن يشعروا بحرج موقفهم ، وكأن الناس جميعا مطلعون عليهم عالمون بأحوالهم ، ولذلك تراهم يكثرون من الحلف حتى تبتعد عنهم الشبهة المحيطة بهم ، وقد كان المنافقون كثيرا ما يحلفون ، ويعتذرون واللّه يعلم إنهم لكاذبون!! يحلفون لكم أيها المؤمنون أنهم براء مما نسب إليهم قولا وفعلا ليرضوكم فتطمئنوا لهم وتثقوا فيهم ، وقد فهموا أنهم بهذا يضمونكم لصفوفهم.
فيرد اللّه عليهم ويكشف سترهم حيث يقول : يحلفون لكم ليرضوكم والحال أن اللّه ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين ، وإرضاء اللّه ورسوله بالإيمان الصادق والعمل الكامل ، والبعد عن النفاق ، وقد أفرد الضمير أَنْ يُرْضُوهُ ليعلموا أن رضاء الرسول رضاء اللّه مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ هذا إن كانوا مؤمنين حقا إذ علامة الإيمان ثقة باللّه وحب له ولرسوله ، والعمل على رضاهما بامتثال الأمر واجتناب النهى :
« ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما(1/900)
ج 1 ، ص : 901
سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا للّه ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار » (حديث شريف).
ألم يعلموا أنه من يحادّ اللّه ورسوله ، حتى يكون في جانب واللّه ورسوله في جانب آخر ؟ فإن له نار جهنم يصلاها وبئس القرار قراره ، له نار جهنم خالدا فيها وذلك هو الخزي العظيم ، والنكال والذل المهين.
والمنافقون مذبذبون بين الإيمان والكفر ، شاكّون مرتابون في الوحى وصدق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا الشك والارتياب يدعوهم إلى الحذر والإشفاق. بل هو لازم له ، إذ لو كانوا موقنين بكذب الرسول لما جاءهم الحذر ، ولو كانوا مؤمنين حقا لما كان لهذا الخوف والحذر محل ، لهذا يصفهم القرآن بقوله : يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة كاشفة لهم ، فاضحة أستارهم ، مبينة نفاقهم ، كهذه السورة ، ولذلك سميت الكاشفة والفاضحة.
يحذرون من سورة تنبئهم بما في قلوبهم! والمراد اللازم وهو فضيحتهم وكشف عورتهم وبيان شكهم وارتيابهم ، وتربصهم الدوائر بالمسلمين وإنذارهم بما قد يترتب على ذلك من عقابهم ، وقد كان المنافقون دائمى الاستهزاء بالنبي والمؤمنين كما مر إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ولذلك يأمر اللّه نبيه بأن يقول لهم : قل استهزءوا كما تشاءون ، وهذا تهديد لهم شديد ، ووعيد عليه ، إن اللّه مخرج ما تحذرون إخراجه من مخبئات الضمير ، ومكنونات الصدور ، وقد حصل ذلك وظهر نفاقهم لكل الناس.
روى عن قتادة : بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين : فقالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها ؟ هيهات!! فأطلع اللّه نبيه على ذلك فقال : احبسوا على هؤلاء الركب فأتاهم فقال : قلتم كذا قلتم كذا ؟ قالوا : يا نبي اللّه : إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل اللّه فيهم هذه الآية
على طريقة القسم للتأكيد ، ولئن سألتهم عن أقوالهم التي يقولونها نفاقا من وراء الرسول ليقولن :
إنا كنا غير جادين ، ومنكرين بل هازلين لاعبين ، وهذا كفر محض فإن من يهزأ باللّه ورسوله فهو كافر بها.
قل لهم : ألم تجدوا ما تستهزءون به في خوضكم ولعبكم إلا اللّه وآياته ورسوله فقصرتم الهزء عليهم ثم تظنون أن هذا عذر مقبول فتتكلمون به بلا حياء ولا خوف ،(1/901)
ج 1 ، ص : 902
ولكن المنافقين لا يفقهون!!! لا تعتذروا أبدا بهذا أو بغيره قد كفرتم بعد إيمانكم في الظاهر ، وظهر أمركم وبدا الصبح لذي عينين.
الآية صريحة في أن الخوض في كتاب اللّه ورسوله وصفاته - سبحانه وتعالى - كفر حقيقى.
إن نعف عن طائفة منكم ونقبل توبتها الخالصة نعذب طائفة أخرى لإصرارها على النفاق وارتكابها الآثام لأنهم كانوا مجرمين ..
المنافقون والمنافقات بعضهم يشبه بعضا ، وهم ذرية بعضها من بعض فهم متشابهون وصفا وعملا ، ذكرا وأنثى ، وهذا دليل على تأصل الداء وتمكنه من نفوسهم حتى صار كالغرائز الموروثة ، ثم بين اللّه وجه الشبه فقال : هم يأمرون بكل منكر ويدعون إليه ، والمنكر : ما أنكره الطبع السليم ، والعقل الراجح وما نهى عنه الشرع الشريف ، وينهون عن المعروف شرعا وعقلا وطبعا ، ألا لعنة اللّه عليهم!! ويقبضون أيديهم عن الإنفاق ، ويبخلون بمالهم عن الجهاد ، وهذا من أهم علامات النفاق ولقد ورد في الحديث : « آية المنافق ثلاث : إذ حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان »
وفي رواية « إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر »
وهكذا النفاق أسّ الشر وأصل البلاء ، ومجمع كل رذيلة في الوجود.
نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم ، نسوا التقرب إليه ، ونسوا جلاله وعظمته وشرعه وآياته وحسابه وعقابه فنسيهم وجزاهم على عملهم فحرمهم من حبه وذكره والتمتع بدينه وآياته والإنفاق في سبيله ، وحرمهم من الثواب والرضوان ، أولئك حبطت أعمالهم وأولئك هم الخاسرون.
إن المنافقين هم الفاسقون الخارجون عن حدود العقل والدين والمصلحة العامة والخاصة هم الفاسقون لا غير.
أما ما أعد لهم من عقاب وجزاء فها هو ذا ، وعد اللّه المنافقين والمنافقات والكفار وعدهم نار جهنم خالدين فيها وفي ذكر الرجال منهم والنساء دليل على عموم الوصف(1/902)
ج 1 ، ص : 903
وتأصل الداء ، وتأخير ذكر الكفار دليل على أن النفاق أخطر من الكفر الصريح ، ثم لم يكتف بهذا بل زاد في عقابهم والتنكيل بهم ثلاثا. هي حسبهم ، نعم وفي جهنم جزاء يكفيهم عقابا لهم ، ولعنهم في الدنيا والآخرة ، وطردهم من رحمته وتوفيقه في الدنيا ، وفي الآخرة لهم العذاب الشديد ، عذاب مقيم ثابت لا يتحول ولا يزول ، ويظهر - واللّه أعلم - أن القرآن يريد أن يوفيهم العذاب الحسى والمعنوي الذي يتكافأ مع نفاقهم وعملهم.
ثم خاطب اللّه - سبحانه - المنافقين المعاصرين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ذلك بقوله : أنتم أيها المنافقون الذين آذيتم اللّه ورسوله والمؤمنين كأولئك المنافقين السابقين مع أنبيائهم - وهكذا لا يخلو عصر من النفاق إذ هو مرض يصيب بعض النفوس - أنتم مثلهم مغرورون بمالكم مفتونون بأولادكم ، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، ولم يكن لهم في دنياهم إلا مطلب واحد هو المتاع الفاني ، والعرض الزائل ، والتمتع بالمال والولد ، فكان نصيبهم نصيب الحيوان يتمتع ويأكل ويتناسل ، فاستمتعتم بنصيبكم من المال والولد والعرض الزائل كاستمتاعهم بنصيبهم ، لم تفضلوا عليهم بشيء من التمتع بكلام اللّه المحكم الذي نزل على خير الأنبياء وسيد المرسلين صلّى اللّه عليه وسلّم فكنتم أجدر منهم بالملامة ، وأحق بالعذاب والنكال.
فأنتم فعلتم الخبائث كما فعلوا مع توافر دواعي الشر عندهم. وتوافر دواعي الخير عندكم!!! وخضتم في حمأة الرذيلة والفسق كالخوض الذي خاضوه ، وأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا وفسدت لأنها أعمال للرياء والسمعة وقد ظهر نفاقهم فيها ، وفي الآخرة لهم العذاب الأليم لأن شرط الثواب عليها الإيمان ، وهم لم يؤمنوا حقيقة بل نافقوا.
وأولئك هم الخاسرون ، الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وقد ضل سعيهم في الدنيا والآخرة.
ألم يأتهم نبأ السابقين من قوم نوح وعاد وثمود ، وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وقوم لوط ؟ والاستفهام للتقرير والتوبيخ.
هؤلاء أتتهم رسلهم بالبينات فأعرضوا وكذبوا ، فجاءهم العذاب كالطوفان الذي(1/903)
ج 1 ، ص : 904
أغرق قوم نوح ، والريح الذي أهلك عادا ، والصيحة التي أبادت ثمود ، والعذاب الذي هلك به نمروذ ، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها.
فما كان اللّه ليظلمهم حينما عذبهم ، وقد أنذرهم ومن أنذر فقد أعذر ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، والغرض من ضرب المثل أن يفهم الكفار والمنافقون جيدا أن سنة اللّه مع الخلق لا تتغير ولا تتبدل وأن العذاب سينزل بهم حتما أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [سورة القمر آية 43] فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر 2].
المؤمنون وصفاتهم وجزاؤهم [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
المفردات :
أَوْلِياءُ بَعْضٍ المراد بالولاية هنا : ما يعم النصرة في الشدائد ، والأخوة والمحبة والمودة. جَنَّاتٍ : هي البساتين الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان التي تستر ما تحتها من الأرض ، وقد تقدم مثل هذا كثيرا. جَنَّاتِ عَدْنٍ عدن : اسم لمكان خاص في الجنة كالفردوس مثلا.(1/904)
ج 1 ، ص : 905
هكذا أسلوب القرآن يذكر الشيء ثم يردفه بمقابله ليتجلى الفرق ويظهر للعيان بأجلى معانيه ، وليعلم المنافقون أنهم ليسوا على شيء من الإيمان إذ صفته ما يذكر هنا من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف ... إلخ. أما إيمانهم الظاهر فهو نفاق وخداع لا ينفع أبدا.
المعنى :
المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض بالنصرة والمعونة والمساعدة في السراء والضراء ، والوقوف بجانب بعض في الشدائد والمكروه ، بعضهم أولياء بعض ولاية أخوة ومودة ومحبة وصداقة ، فنبيهم صلّى اللّه عليه وسلّم
يقول : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » .
ويقول : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا »
هذا هو أساس الإيمان وطبعه لا فرق بين ذكر وأنثى وقد كانت النساء في العصر الأول يقمن بالمعونة والنصرة في الحروب وغيرها على قدر طاقتهن مع التجمل بالأدب والحياء ولبس لباس الدين والعفاف.
وانظر يا أخى في وصف المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وفي وصف المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ترى أن المنافقين لا ولاية بينهم ولا أخوة تبلغ درجة الإيثار والنصرة وفّى الحروب ، ولكنها أخوة كلام فقط أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [سورة الحشر الآيتان 11 و12].
فالمنافقون بعضهم يشبه بعضا في الشك والنفاق والارتياب ولكن لا صلة بينهم ولا تآلف ، إذ الولاية والصلة والأخوة هي من صفات المؤمنين أصحاب العقائد الراسخة ، ولذا يقول اللّه فيهم : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل والكرامة والدعوة إلى اللّه يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وبالعكس المنافقون يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، ولا غرابة فهاتان الصفتان من أبرز صفات المؤمنين.(1/905)
ج 1 ، ص : 906
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران آية 110] ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، وهاتان صفتان في مقابلة وصف المنافقين بأنهم نسوا اللّه ، وبأنهم يقبضون أيديهم.
وإقامة الصلاة : إتيانها مقومة كاملة تامة الأركان والشروط فيها الخضوع الكامل والخشوع للّه. ومراقبته وذكره ، أما صلاة المنافقين فللرياء وللنفاق إذا قاموا إليها قاموا كسالى ، وإتيان الزكاة دليل كمال الإيمان والخشية من اللّه والأمل في رضائه ورضوانه.
وخص هذان الركنان بالذكر لأنهما علاج الهلع والجزع ، والبخل والخور فهذه أمراض تدفع صاحبها إلى الإحجام عن الدفاع عن الحق وإعلاء كلمة اللّه وتدفعه إلى الشح الصاد عن الإنفاق في سبيل اللّه ، ولذا كان المنافقون أجبن الناس وأبخلهم ، انظر إلى قوله تعالى : إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [سورة المعارج الآيات 19 - 26].
وقد جعل اللّه هذه الأربع : الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. أساس النجاح في الدنيا ووسيلة العمران وإقامة الدولة المسلمة الصالحة للتمكين في الأرض الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [سورة الحج آية 41] والمؤمنون والمؤمنات من صفاتهم أنهم يطيعون اللّه ورسوله بامتثال الأمر واجتناب النهى.
أولئك سيرحمهم اللّه ، ويدخلهم في رحمته الواسعة التي كتبها لهم رحمة خالصة من شوائب الكدر والشقاء. إن اللّه عزيز لا يغلب ، حكيم في كل صنع ، وهذا تدليل مناسب لهذا العطاء الكبير للمؤمنين.
وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات ، جزاء لهم ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان وعدهم اللّه جنات موصوفة بأنها تجرى من تحتها الأنهار فليس فيها تعب ولا مشقة ولا عطش ولا ألم كما أن مياهها طاهرة نظيفة لا تتغير بالمكث ، ولا تفسد بالوقوف.
وهم الخالدون فيها إلى ما شاء اللّه ومقيمون بها إقامة أبدية.(1/906)
ج 1 ، ص : 907
ووعدهم مساكن طيبة يتمتعون بها مشتملة على جميع المرافق من أثاث ورياش وزينة ورزق ومتاع هذه المساكن في جنات عدن ومكانها الطيب.
هذا هو المتاع الجسماني في الآخرة ، وأما متاع الروح فالرضا والرضوان ، ورضوان من اللّه أكبر من ذلك كله لا يقدر قدره ، وقيل : إن الرضوان رؤية اللّه يوم القيامة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [سورة يونس آية 26].
هذا جزاء الإيمان في مقابلة جزاء النفاق السابق ، ألا بئس ما يصنعون ، ذلك الذي ذكر من الوعد للمؤمنين والمؤمنات بالنعيم الجسماني والروحاني هو الفوز العظيم ، أما المتاع في الدنيا فعرض زائل مشوب بالألم والتعب والهم والنصب.
أيها المؤمنون : هذه هي الموازين الحقيقية للإيمان وجزائه فانظروا إلى أنفسكم في أى مكان هي!! وحاسبوها قبل أن تحاسبوا.
معاملة النبي للكفار والمنافقين [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
المفردات :
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الغلظ : الخشونة وعدم الرحمة. وَما نَقَمُوا :
وما كرهوا ، وما عابوا.(1/907)
ج 1 ، ص : 908
هذا تهديد للمنافقين وإنذار لهم بالجهاد كالكفار المجاهرين أعداء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمين والكفار على أنواع ، منهم المجاهرون المقاتلون وهؤلاء أمر النبي بقتالهم بالسيف ، ومنهم غير المحاربين وهم المعاهدون ، والمنافقون الذين قال اللّه فيهم : هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وكان يعاملهم باللطف واللين ولا غرابة في ذلك فقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رحيما كريما ذا خلق عال ، ليس فيه غلظة ولا جفوة
يقول في كلامه : « شر الناس من يخاف شره »
والأحاديث الواردة عنه في هذا الباب كثيرة ، وقد كان يعامل المنافقين كما يعامل المسلمين تماما مما جرأهم على لمزه وعيبه ، والنيل منه بل ورد السلام عليه بقولهم : (السام) حتى كان منهم ما كان وعرفناه في هذه السورة والتي قبلها - ولذلك أمره اللّه - تعالى - في هذه الآية بالغلظة على الفريقين.
المعنى :
يا أيها النبي جاهد الكفار غير المحاربين والمنافقين واغلظ عليهم لا تعاملهم باللين والبشاشة ، ولا تقبل عليهم بوجهك الباسم بل اعبس في وجوههم ، وسيأتى قريبا أنهم يمنعون من القتال مع المسلمين ، ولا تصل على أحد مات منهم أبدا كما سيأتى ، وهذا جهاد لأنه يخالف لين النبي وأدبه ورحمته بالناس ، وهذا علاج رباني ، فإن المذنب إذا عومل معاملة لينة ربما أطغته وجعلته يتمادى ، وبالعكس لو عومل بالشدة نوعا ما كما يقول عمر - رضى اللّه عنه - : « أذلوهم ولا تظلموهم » كان ذلك أدعى إلى أن يرجع إلى نفسه ويحاسبها حسابا قد ينتج عنه رجوعه إلى الجادة ، ولست أرى أشد على المذنب من إنكار الناس عليه ، وهذا دواء من حكيم عليم.
وفي التفسير المأثور : جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان ، وهذا عذابهم في الدنيا ، أما في الآخرة فمأواهم جهنم ، وبئس المصير مصيرهم.
ولقد استأنف القرآن بيان سبب هذا حيث أثبت لهم الكذب الصريح واليمين الفاجرة ، وهمهم بالفعل الشنيع ، وأنهم جعلوا سبب الرضا والشكر سبب النقمة والكفر ، ألا ساء ما كانوا يعملون.
يحلفون باللّه ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوه(1/908)
ج 1 ، ص : 909
ولم يدركوه ، وما كرهوا الدين إلا لأن اللّه أغناهم به ، هؤلاء المنافقون قد كفروا بعد إسلامهم ، وخاضوا في النبي والقرآن ، وهموا بالفتك برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد أطلعه اللّه على ذلك وأنبأه بأنهم سينكرون ذلك ، وسيحلفون باللّه كذبا ليرضوكم اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً « 1 » واللّه تعالى يكذبهم ويثبت بتأكيد القسم أنهم قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم ، ولم تذكر في القرآن لئلا يتعبد المسلمون بتلاوتها ، ولذلك اختلف الرواة في إثباتها ، فبعضهم يقول : إن شخصا اسمه جلاس بن سويد قال : لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير (يقصد الآيات التي نزلت فيمن تخلف من المنافقين) ، وقيل : إنها نزلت في مقالة قالها عبد اللّه بن أبىّ ثم أنكرها ، وعلى العموم فالآية صريحة في إثبات ذلك وأمثاله لهم.
وقد كفر المنافقون بعد إسلامهم الظاهر ، وروى أن بعضهم هم بقتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حين منصرفه من غزوة تبوك ثم ردهم اللّه خاسرين وذلك قوله تعالى وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا.
وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول - عليه الصلاة والسلام - شيئا يقتضى الكراهة والكفر والهم بالانتقام إلا إغناء اللّه إياهم ورسوله بما يقسمه لهم من الغنائم ويعاملهم كالمسلمين ، وهذا تعبير بديع ، كقول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
يا عجبا كل العجب ما يكون سببا في الخير يكون سببا في الشر!!! ومع هذا فباب التوبة والرحمة مفتوح ، فإن يتوبوا يقبل اللّه منهم ، وإن يتولوا يعذبهم اللّه عذابا أليما في الدنيا والآخرة.
وما لهم في الأرض من ولى ولا نصير ، إذ ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ، والمنافقون لا ولاية لهم ، إذ لا ضمير لهم حتى مع أنفسهم.
___________
(1) سورة المنافقون آية 2. [.....](1/909)
ج 1 ، ص : 910
قصة ثعلبة بن حاطب [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
سبب النزول :
روى أنه جاء رجل من الأنصار يسمى ثعلبة بن حاطب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال :
ادع اللّه لي يا رسول اللّه أن يرزقني مالا. فقال - عليه الصلاة والسلام - : « ويحك يا ثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه » ثم عاد ثانيا يطلب ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « أما ترضى أن تكون مثل نبي اللّه ؟ !! لو شئت أن تسير معى الجبال ذهبا لسارت » فقال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت اللّه فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فدعا له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فاتخذ غنما فنمت كما تنمى الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلى الظهر والعصر في جماعة وترك ما سواهما.
ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمى حتى ترك الجمعة أيضا ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « يا ويح ثعلبة » ثم نزل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة 103] فبعث صلّى اللّه عليه وسلّم رجلين على الصدقة وقال لهما : « مرّا بثعلبة وبفلان - رجل من بنى سليم - فخذا صدقاتهما » فأتيا ثعلبة وأقرآه كتاب رسول اللّه ، فقال ثعلبة : ما هذه إلا أخت(1/910)
ج 1 ، ص : 911
الجزية! انطلقا حتى تفرغا ثم عودا ، ولم يعطهما شيئا ، ثم أقبلا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بصدقة السلمى الذي أعطاهما من خيار ماله ، فلما رآهما النبي مقبلين قال : « يا ويح ثعلبة » ثم دعا للسلمى بالبركة ، فنزلت الآية الكريمة وحينما بلغت ثعلبة عاد إلى رسول اللّه ومعه الصدقة ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « إن اللّه منعني أن أقبل منك »
وهكذا لحق النبي بالرفيق الأعلى ولم يقبلها منه ونهج الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان هذه السيرة ومات ثعلبة في خلافة عثمان.
المعنى :
وبعض المنافقين عاهد اللّه ورسوله لئن أعطاه اللّه مالا كثيرا ليصّدّقن ، ويعطى كل ذي حق حقه. وليكونن من عباد اللّه الصالحين ، فلما آتاه اللّه مالا وأغناه من فضله ، بخل بالمال وشح بالخير ، وأمسك فلم يتصدق بشيء ، وبدل أن يصلح نفسه وأمته بالإنفاق كما عاهد اللّه وأقسم على ذلك ، أعرض عن ذلك وتولى وهو معرض بكل قواه إعراضا راسخا ثابتا ، وهذا طبع في المنافقين لازم لهم راسخ فيهم.
فأعقبهم ذلك البخل وهذا الإعراض نفاقا من النوع العالي الدائم إلى يوم القيامة ، ولا غرابة فكل معصية وإن صغرت تحجب شيئا من نور الإيمان حتى إذا كثرت المعاصي حجبت جميع النور فأصبح القلب في ظلمات الفساد والعصيان والنفاق غارقا.
كل هذا بسبب ما أخلفوا اللّه وعده ، كما في قصة ثعلبة وأضرابه من المنافقين ، وبما كانوا يكذبون ... فآية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان « 1 » . صدق رسول اللّه.
ألم يعلم هؤلاء أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم ، وأن اللّه علام الغيوب يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ؟ !! فاللّه يعلم كل هذا ، ولكن المنافقين لا يعلمون ..
___________
(1) أخرجه البخاري 1/ 83 ، 84 في الإيمان باب علامات المنافق ومسلم 59 في الإيمان.(1/911)
ج 1 ، ص : 912
من أذى المنافقين للمؤمنين وجزاؤهم [سورة التوبة (9) : الآيات 79 الى 80]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)
المفردات :
يَلْمِزُونَ اللمز : العيب. الْمُطَّوِّعِينَ أى : المتطوعين ، والمراد : من يؤدون النفل بعد الواجب. جُهْدَهُمْ : طاقتهم.
المعنى :
هذا هو موقف المنافقين ، وإنه لموقف ريب يدل على تأصل النفاق معهم وأنه لا يرجى منه خير أبدا ، فهم لا يقنعون بمنع إنفاقهم في سبيل اللّه بل ويلمزون من ينفق من المسلمين ، ويعيبون على المتطوعين في الصدقات ، والذين لا يجدون إلا ما ينفقونه في سبيل اللّه. فهو غاية جهدهم ، يا عجبا : تعيبون على الغنى المتصدق ، وعلى الفقير الباذل قوته للّه!! روى عن ابن مسعود - رضى اللّه - قال : لما أمرنا بالصدقة كنا نحامل ، أى : نحمل على ظهورنا بالأجرة ونتصدق بها ، فجاء أبو عقيل بنصف صاع ، وجاء إنسان بأكثر منه ، فقال المنافقون : إن اللّه غنى عن صدقة هذا ، وما فعل الآخر هذا إلا رياء ،(1/912)
ج 1 ، ص : 913
فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ يستهزئون بالفقراء احتقارا لما جاءوا به ، ويعدونهم من المجانين والحمقى ، وقيل : إنهم يلمزون الغنى والفقير ، ويسخرون من الجميع سخر اللّه منهم ، وجازاهم بعدله على ذلك العمل جزاء وافيا ، ولهم في الآخرة عذاب أليم.
هؤلاء في أعمالهم التي لا تصدر إلا عن قلوب لا تكاد تعرف الإيمان ، ولم يدخلها شعاع الإسلام ولن يدخل أبدا ، ويقول اللّه فيهم لنبيه - عليه السلام - : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، لن يغفر اللّه لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة. والمراد :
كثرة الاستغفار لا العدد المحض ، فلن يغفر اللّه لهم أبدا.
والظاهر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يستغفر لهم رجاء أن يتوبوا ويوفقهم اللّه للخير فأمر بعدم الاستغفار لهؤلاء المنافقين المعينين الذين حكى اللّه عنهم هذه الأفعال الخبيثة كالتآمر على الفتك بالنبي والهمّ بقتله ، ولمز المتصدقين والعيب عليهم ، فهؤلاء هم زعماء المنافقين ، ورؤساء الشر الذين لا يرجى منهم خير أبدا ولن يعودوا للحق أبدا ، وقد ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، ولذلك علل اللّه هذا بقوله : ذلك بأنهم كفروا باللّه وبرسوله وداموا على هذا مداومة طمست بصائرهم فلن يروا خيرا أبدا ، فلا تستغفر لهم.
واللّه لا يهدى القوم الفاسقين إلى الخير إذ لم يعد لهم استعداد له.
المتخلفون عن الجهاد [سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 82]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)(1/913)
ج 1 ، ص : 914
المفردات :
فَرِحَ الفرح : شعور النفس بالارتياح والسرور. الْمُخَلَّفُونَ : الذين تركهم رسول اللّه عند خروجه إلى غزوة تبوك. خِلافَ : مصدر كالمخالفة ، وقد يراد به معنى بعد وخلف فيكون ظرفا ، ويصح المعنيان هنا.
هذه الآيات في بيان حال المتخلفين عن القتال ، وما يجب عن معاملتهم ، وقد نزلت في أثناء السفر ، ولا نزال في الكلام عن المنافقين ، وأعمالهم في غزوة تبوك.
المعنى :
فرح المتخلفون من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن رسول اللّه عند خروجه إلى غزوة تبوك ، وقعدوا في بيوتهم مخالفين أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قعدوا لأنهم لا يؤمنون أن الغزو خير ، وامتثالا لأمر ربهم ورسوله ، وقالوا لإخوانهم : لا تنفروا في الحر وتتركوا مهام أعمالكم ومصالحكم.
قل لهم يا محمد : نار جهنم التي أعدت للمخالفين العصاة أشد حرا ، فهي تلفح الوجوه وتنضج الجلود ، وتنزعها ، ولو كانوا يفقهون ذلك ويعتبرون لما خالفوها وعصوا ، وآثروا راحة الجسم راحة قليلة على هذا العذاب الدائم ، والنار التي أعدت لهم ، وكان وقودها الناس والحجارة.
فليضحكوا قليلا ، وليبكوا كثيرا ، ليس هذا أمر حقيقيا بل يراد به تهديدهم ، وبيان أن هذا هو الأجدر بهم على حسب حالهم وما تستوجبه أعمالهم لو كانوا يفقهون ما فإنهم من أجر ، وما سيلاقيهم من عذاب وضير ، وهذا جزاء لهم بما كانوا يعملون ويكسبون من الجرائم ويقترحون من الآراء.(1/914)
ج 1 ، ص : 915
كيف عامل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم زعماء النفاق [سورة التوبة (9) : الآيات 83 الى 85]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
المفردات :
الْخالِفِينَ المراد : المتخلفون من النساء والصبيان ، على أن الخالف قد يستعمل ويراد به من لا خير فيه ولا غناء معه.
هذه الآية الكريمة نزلت في سفره صلّى اللّه عليه وسلّم وهو راجع من غزوة تبوك ، وهي من دقائق القرآن لأن أئمة الحديث ذكروا في الصحيحين أحاديث تتعارض معها وهو حديث صلاة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على عبد اللّه بن أبىّ زعيم المنافقين ، ولكن أليس من الخير أن نسير مع القرآن الكريم ؟ فإنه أضبط متنا وسندا ، بل هو المحفوظ الذي تكفل اللّه بحفظه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ « 1 » وقد جمع بعض العلماء في الكتب المطولة بين الحديث والآية.
___________
(1) سورة الحجر آية 9.(1/915)
ج 1 ، ص : 916
المعنى :
قد تخلف المتخلفون عن رسول اللّه ، وفرحوا بمقعدهم مخالفين لأمر اللّه ورسوله ، وكرهوا الجهاد ، بل وثبطوا عنه وخذلوا غيرهم بقولهم : لا تنفروا في الحر ؟
فرتب على هذا كله ما هنا من المعاملة القاسية الشديدة ..
فإن رجعك اللّه وردك من سفرك إلى طائفة وجماعة خاصة من المتخلفين - تلك الطائفة هم المنافقون الذين سبق ذكرهم - فاستأذنوك للخروج أيا كان نوعه فقل لهم :
لن تخرجوا معى أبدا على أى شكل كان وبأى وضع ، ولن تقاتلوا معى عدوا أبدا في المستقبل بأى كيفية كانت!! وذلك لأنكم رضيتم بالقعود أول مرة وتخلفتم بلا عذر وحنثتم في أيمانكم الفاجرة وفرحتم بالقعود بل وثبطتم عن الجهاد .. فاقعدوا مع الخالفين المسيئين الذين لا خير فيهم أبدا. ولن تنالوا شرف الصحبة والجهاد فهذا شرف رفيع ، ووسام عال ، لا يناله إلا المؤمنون المخلصون.
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا في المستقبل ، ولا تقم على قبره أبدا ، داعيا له ومستغفرا. وقد سبق قوله تعالى : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [سورة التوبة آية 80].
نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الصلاة على المنافقين ، والقيام على قبورهم وأن يدعو لهم كما كان يفعل إذا مات مؤمن يقول بعد دفنه :
« استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل »
وقد نص الفقهاء على العمل بهذا الحديث.
وهذا يعارض ما نعلمه من أن المنافقين كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يجرى عليهم أحكام الإسلام العامة ، والجواب كما ظهر لي - واللّه أعلم - أن هذه الآيات نزلت في زعماء النفاق وعدم التوبة ، وقد أعلم اللّه نبيه بهم كما في الحديث ، وأما غيرهم فكان يدعو لهم رجاء التوبة والتوفيق وبعضهم آمن وتاب.
قال الواقديّ : أنبأنا معمر عن الزهري قال : قال حذيفة : قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنى مسرّ إليك سرا فلا تذكره لأحد : إنى نهيت أن أصلى على فلان وفلان »
رهط ذوى عدد من المنافقين قال : فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلى على أحد استتبع حذيفة فإن مشى مشى معه وإلا لم يصل عليه ، ولعل الحكمة في خصوص هؤلاء أن اللّه(1/916)
ج 1 ، ص : 917
علم أنهم ماتوا على الكفر أو سيموتون عليه فلا تنفعهم شفاعة ولا استغفار ولا صلاة أبدا.
ولذلك كان تعليل النهى (لا تصل على أحد منهم مات) لأنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون!! ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد اللّه أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم ، وهم كافرون ، وقد تقدم مثل هذا مع فارق هو ذكر لا في الآية السابقة فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وهو يصدق بالنهى عن الإعجاب بكل منهما ، وفي الآية هنا حذف لا يفيد الكلام النهى عن الإعجاب بهما مجتمعين ، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام يقتضيه الحال ، واللّه أعلم بكتابه.
موقف المنافقين من الجهاد [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
المفردات :
الطَّوْلِ : الغنى والمقدرة ، والمراد : أولو المقدرة على الجهاد المفروض.
ذَرْنا : اتركنا. الْقاعِدِينَ المراد : مع المتخلفين.(1/917)
ج 1 ، ص : 918
المعنى :
هذه عادة المنافقين ، ومن في قلوبهم مرض الشك والنفاق ، كلمات أنزلت سورة تدعو الناس ببعض آياتها إلى الإيمان باللّه والجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استأذنك أولو المقدرة على الجهاد بالمال والنفس ، استأذنوك في التخلف ، منتحلين شتى الأعذار قائلين ، اتركنا مع القاعدين من النساء والصبيان والعجزة ، هؤلاء رضوا بأن يكونوا مع المتخلفين الذين فسدت نفوسهم ولم يعد فيها ميل إلى الخير ، وطبع على قلوبهم فلم يعد يدخل إليها نور العلم والوعظ ، والهداية والنور ، حتى كأنها قد ختم عليها ، ولا غرابة في ذلك فهم قوم لا يفقهون الخير والرشد حتى يهتدوا إليه.
لكن الرسول والذين آمنوا معه بمقتضى إيمانهم الخالص الراسخ في قلوبهم جاهدوا في سبيل اللّه ، وبذلوا النفس والنفيس طيبة قلوبهم مستريحة ضمائرهم ، متهللة وجوههم بشرا وسرورا لأنهم وجدوا الفرصة سانحة لاقتناص ثواب الجهاد في سبيل اللّه.
وأولئك البعيدون في درجات الكمال والجلال لهم الخيرات التي لا يعلمها إلا اللّه ، في الدنيا كشرف النصر ، ومحو الكفر والتمتع بالغنيمة والسيادة في الأرض ، وأولئك هم المفلحون السعداء أعد اللّه لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ..
المتخلفون [سورة التوبة (9) : الآيات 90 الى 92]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)(1/918)
ج 1 ، ص : 919
المفردات :
الْمُعَذِّرُونَ أى : المعتذرون ، واللفظ يحتمل المعتذر بعذر حقيقى أو ادعائى.
هذه الآية في نفاق الأعراب سكان البدو بعد بيان نفاق المنافقين من سكان الحضر (المدينة).
الضُّعَفاءِ جمع ضعيف ، وهو ضد القوى ، والمراد : من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد. حَرَجٌ المراد : ليس عليهم ذنب ولا إثم. نَصَحُوا :
أخلصوا للّه ورسوله في القول والعمل. مِنْ سَبِيلٍ : من طريق يسلك لمؤاخذتهم.
المعنى :
وجاء المعتذرون من الأعراب ليأذن لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في التخلف عن النفير العام في غزوة تبوك وهم قوم عامر بن طفيل ، جاءوا يقولون : يا رسول اللّه : إن نحن غزونا تغير علينا أعراب طيئ
فقال لهم رسول اللّه : « قد أنبأنى اللّه من أخباركم وسيغنى اللّه عنكم »
وقال ابن عباس : هم قوم تخلفوا فأذن لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والظاهر أن عذرهم كان حقا ، والآية تحتمل هذا وذاك.
وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا اللّه ورسوله من الأعراب ، وأظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما ، وهؤلاء هم المنافقون حقيقة في العقيدة ، وقد قعدوا عن القتال بجرأة على اللّه وعلى رسوله سيصيب الذين كفروا منهم ، أى : ممن كذبوا اللّه(1/919)
ج 1 ، ص : 920
ورسوله ، ومن المعتذرين بغير عذر شرعي ، سيصيب هؤلاء وهؤلاء عذاب أليم غاية الألم!!! ...
المعنى :
لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها ، ولا يطلب منها ما هو فوق طاقتها ، وعلى ذلك فكل من عجز عن الشيء سقط عنه ، ولا يكلف به لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا ، ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه » . قالوا : يا رسول اللّه : وكيف يكون معنا وهم بالمدينة ؟
قال : « حبسهم العذر » .
ألست معى في أن هذه الآية وأشباهها من القرآن والحديث بينت أنه لا حرج على المعذورين عذرا شرعيا ، وهم قوم عرف عذرهم كالشيوخ والعجائز ، وأهل الزمانة والهرم ، والعمى والعرج ، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون ، فكل هؤلاء ليس عليهم ذنب ولا إثم إذا نصحوا للّه ورسوله ، وأخلصوا لهما النية ، وأحسنوا الطوية ، وعرفوا الحق - سبحانه وتعالى - وأحبوه ، وأحبوا أولياءه ، وبغضوا أعداءه ، والنصيحة الخالصة للّه ولرسوله (في هذه الحال الحربية) هي عمل كل ما فيه المصلحة العامة للأمة من كتمان السر ، والحث على البر ، وإلهاب الشعور ، وتوحيد الصفوف ، ومحاربة الخائنين ، والقضاء على الطابور الخامس ،
روى عن تميم الداري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : الدين النصيحة - ثلاثا - قلنا : لمن يا رسول اللّه ؟ فقال : للّه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
قال العلماء : النصيحة للّه : إخلاص الاعتقاد في الوحدانية ، ووصفه بكل كمال ، وتنزيهه عن كل نقص ، وامتثال أمره واجتناب نهيه ، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته ، والتزام طاعته ، في أمره ونهيه وحب من أحبه ، وحب آل بيته ومن سار بسيرته وإحياء سنته بالمدارسة والنفقة والعمل بها والدفاع عنها ، والنصيحة لكتابه وقراءته ، والتفقه فيه ومدارسته ، والتخلق به والدفاع عنه ، والنصيحة لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، وتبصيرهم مواضع الزلل وإرشادهم إلى الدين الحق(1/920)
ج 1 ، ص : 921
والرأى المعتدل ، والإنكار عليهم إن خالفوا الدين بلا شدة وعنف حتى تستقيم أمورهم ، والنصح لعامة المسلمين : إرشادهم إلى الطريق الحق ، والإرعاء عليهم وحب الخير لهم والسهر على مصالحهم ، وكل على قدر طاقته.
ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ على معنى ليس هناك سبيل يسلكها ناقد على من أحسن العمل وأخلص النية ، فكل عمل تعمله وأنت ترضى ربك فأنت محسن ، واللّه يجازى المحسن بأضعاف حسنته ، والمسيء بقدر إساءته ، فإذا كان هؤلاء المعذورون عذرا شرعيا قد نصحوا للّه ورسوله وأخلصوا في أعمالهم فليس لأحد عليهم سبيل ما داموا محسنين أعمالهم ، واللّه غفور رحيم.
روى أن بنى مقرن كانوا سبعة إخوة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد هاجروا ، وأتوا رسول اللّه في غزوة تبوك ليحملهم فلم يجد ما يحملهم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون!! وهذه الآية هي التي نزلت في شأنهم وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ.
ولعل الحكمة في التعبير بالإتيان لأجل الحمل والاعتذار عنه بعدم وجدان ما يحمل عليه من دابة أو غيرها : هي إفادة العموم ليشمل الدابة والسيارة والطيارة وغيرها - واللّه أعلم.(1/921)
ج 1 ، ص : 922
فهرست
الموضوع صفحة الإهداء 3 مقدمة 5 أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم 8 سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع 9 سورة البقرة 12 المتقون وجزاؤهم 14 الكافرون وجزاؤهم 15 المنافقون وصفاتهم 17 ضرب الأمثال لهم 20 وحدة الإله اعجاز القرآن. صدق الرسول 22 من أمن بالقرآن وجزاؤهم 25 الأمثال في القرآن وموقف الناس منها 26 مظاهر قدرة اللّه 28 قصة خلق الإنسان وتكريمه بالخلافة وسجود الملائكة له 29 طبيعة الإنسان وموقف الشيطان منه 32 بنو إسرائيل وما طلب منهم 33 علماء اليهود وأحوالهم 35 نعم اللّه على اليهود 37 بعض قبائح اليهود وما لحقهم 41 من جنايات اليهود 43 قصة ذبح البقرة 45 قسوة قلوبهم واستبعاد الإيمان النهم 47 كذب أخبار اليهود وافتراؤهم على اللّه 49 ميثاق بنى إسرائيل 51 مواقفهم من الرسل والكيف 54 كذبهم في ادعائهم الإيمان بالتوراة 56 اليهود وحرصهم على الحياة 57 موقفهم من الملائكة الأطهار 58 من قبائحهم أيضا 60 أدب وتوجيه 63 آيات النسخ 64 موقفهم من المؤمنين 66(1/922)
ج 1 ، ص : 923
موقف كل من اليهود والنصارى بالنسبة للآخر 67 تخريب المساجد 68 مفتريات أهل الكتاب والمشركين 69 تحذير الرسول من أتباع اليهود والنصارى 71 إبراهيم عليه السلام وبيت اللّه الحرام 72 ملة إبراهيم مع المخالفين لها والمهتدين بها 75 لكل ما كسب 76 اللّه ربنا وربكم 78 مقدمات تحويل القبلة 80 تحويل القبلة 83 حول تحويل القبلة 85 الصابرون والمقاتلون في سبيل اللّه 87 بعض شعائر الحج وجزاء من يكتم آيات اللّه 89 إثبات وحدانيته ورحمته ونفى الشركاء عنه 92 العلاج الناجح 95 موقف أهل الكتاب من القرآن والنبي 98 حقيقة البر 100 حق اللّه في المال 102 القصاص وأثره 103 الوصية 105 الصيام وفرضه 106 بعض أحكام تتصل بالصيام 109 الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل 111 اختلاف أشكال القمر 112 القتال في سبيل اللّه 114 الحج وبعض أحكامه 117 بعض أحكام الحج 120 من علامات النفاق أيضا 123 من لا يتبع جميع أحكام الدين وجزاؤه 125 الحاجة إلى الرسل 127 ما يلاقيه الرسول والمؤمنون في دعوتهم 128 النفقة وأحق الناس بها 129 حول القتال في الإسلام 130 الخمر والميسر وحكمهما 133 الولاية على مال اليتيم 136 زواج المسلم بغير المسلمة 137 الحيض وحكمه 139(1/923)
ج 1 ، ص : 924
الحلف باللّه 140 الإيلاء وحكمه 141 براءة الرحم في الطلاق وبعض أحكامه 142 النساء وحقوقهن في الزوجية 143 بعض أحكام الطلاق 145 آداب الطلاق ومعاملة المطلقة 148 بعض أحكام الرضاع 150 عدة المتوفى عنها زوجها 152 خطبة المتوفى وزوجها وآدابها 153 المطلقة قبل الدخول وما يجب لها 155 المحافظة على الصلاة 156 حق المتوفى عنها زوجها 157 كيف تحيا الأمم 158 قصة طالوت وجالوت 160 درجات الأنبياء وطبيعة الناس في أتباعهم 165 في الحث على الإنفاق 167 آية الكرسي 169 الدخول في الدين والولاية على الناس 170 من غرور الكافرين باللّه أو قصة نمرود 172 قصة العزيز وإيمانه 174 وهذا مثال من آيات اللّه 175 الانفاق في سبيل اللّه وآدابه 177 مثل من ينفعه للرحمن والذي ينفعه للشيطان 180 نوع ما ينفق فيه ووصفه 182 الشيطان والانفاق 183 بعض أحكام الانفاق 184 لمن تعطى الصدقة وبعض أحكامها 186 الربا وخطره 189 آية الدين والسر في طولها 194 جواز الرهن 198 احاطة علمه وتمام ملكه وقدرته 199 سورة آل عمران 204 المحكم والمتشابه في القرآن 206 عاقبة الغرور بالمال والولد 209 الإنسان وشهواته في الدنيا 211 ما هو خير من الدنيا وما فيها 213 الشهادة بالوحدانية والعدل وأن الدين الإسلام 215(1/924)
ج 1 ، ص : 925
جزاء قتل الأنبياء ومن يأمر بالمعروف 217 الاعراض عن حكم اللّه مع الغرور 218 من مظاهر قدرة اللّه وعظمته 220 مولاة المؤمنين للكافرين 222 محبة اللّه باتباع رسوله وطاعته 224 اصطفاء الأنبياء وسلالتهم 225 قصة زكريا ويحيى 228 مريم وفضل اللّه عليها 230 قصة عيسى عليه السلام 231 قصة عيسى مع قومه 235 الرد على ألوهيته عيسى وقصة المباهلة 237 كلمة الوحيد وملة إبراهيم 239 من مواقف أهل الكتاب 241 الأمانة والوفاء بالعهد عند اليهود 243 من كذبهم وافترائهم على اللّه أيضا 245 الرد على أهل الكتاب في اشراكهم باللّه 246 الميثاق المأخوذ على أهل الكتاب 247 إيمان المؤمنين بكل الأنبياء 249 حكم الكفر بعد الإيمان 250 اصناف الكفار 251 الإنفاق أيضا 252 فرية اليهود في تحريم بعض المعلومات 253 شرف بيت اللّه الحرام والحج 255 أهل الكتاب وعنادهم وما يضمرونه للإسلام 257 توجيهات وعظات 258 فضل الأمة الإسلامية على غيرها 264 المؤمنين من أهل الكتاب 267 الكافرون وأعمالهم يوم القيامة 269 صداقة المؤمنين للكافرين وخطرها 270 غزوة بدر 272 غزوة أحد 273 ما نزل من القرآن في غزوتى بدر وأحد 276 إرشادات المؤمنين وجزاؤهم 280 سنة اللّه في الخلق والعاقبة للمتقين 284 دروس لمن شهد غزوة أحد 287 ما أصاب المسلمين في أحد وسببه 293 بث الروح التضحية والجهاد 298(1/925)
ج 1 ، ص : 926
بعض أخلاق صلّى اللّه عليه وسلّم 300 بعض قبائح المنافقين وأعمالهم 304 المستشهدون والمجاهدون في سبيل اللّه وجزاؤهم 307 تسلية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبيان
بعض الأحكام 311 البخل شر يوم القيامة 313 نهاية كل حي والابتلاء في الدنيا 317 بعض قبائح أهل الكتاب 319 ذكر اللّه والتفكر في خلقه وآثرهما 322 المؤمنون والكافرون وجزاء كل 326 سورة النساء 331 اجتماع الناس في أصل واحد 331 اليتامى ومعاملتهم في أموالهم 333 تعدد الزوجات والعدل معهن 334 تعدد الزوجات 336 متى نعطى أموال اليتامى لهم ؟ 338 تشريع حقوق اليتامى والنساء 340 آيات المواريث 342 الفاحشة وجزاؤها 342 متى يقبل اللّه التوبة 348 كيف نعامل نساءنا ؟ 350 من يحرم الزواج بهن 353 من أحكام الزواج 357 متى تنكح الأمة. وما جزاؤها على الفاحشة 359 حكم عامة للأحكام السابقة 362 حدود ومعالم 363 تنظيم الحياة الزوجية 369 وعظ وإرشاد 372 ترغيب وتحذير 375 بعض شروط الصلاة. مع بيان رخصة التيمم 377 اليهود وأعمالهم 380 تهديد ووعيد لأهل الكتاب 382 أهل الكتاب وجزاؤهم على أعمالهم 384 جزاء الكفر. وثواب الإيمان 387 السياسة العامة للحكومة الإسلامية 388 هؤلاء هم المنافقون. وهذه أعمالهم 391 إرشادات وآداب للسلم والحرب 393 السياسة الحربية في الإسلام 396(1/926)
ج 1 ، ص : 927
بعض ضعاف النفوس 399 الطاعة للّه ولرسوله 401 القرآن من عند اللّه 402 الرقابة على الأخبار 404 الحث على الجهاد 405 من أدب القرآن 406 المنافقون وكيف نعاملهم 408 قتل المؤمن وجزاؤه 411 التسرع في الحكم 414 الجهاد في سبيل اللّه والمتخلفون عنها 416 كيفية الصلاة في السفر والحرب 419 في الحث على القتال 423 حفظ الحقوق وعدم المحاباة في الأحكام 424 إرشادات 428 الشرك وخطره والشيطان وأثره 429 الأمانى وعاقبتها. والعمل وجزاؤه 432 حقوق الضعفاء وعلاج المشاكل الزوجية 434 كمال القدرة 438 العدل والشهادة للّه والإيمان به وبكتبه 440 المنافقون وصفاتهم 442 موالاة الكافرين وجزاء المنافقين 445 الجهر بالسوء 449 الكفر والإيمان وعاقبة كل 450 من قبائح اليهود وأفعالهم 452 بعض قبائحهم أيضا وجزاؤهم عليها 458 وحدة الوحى وحكمة إرسال الرسل جميعا 460 جزاء الكافرين 464 المسيح ابن مريم في نظر القرآن 465 الدعوة العامة 469 حق الأخوة في الميراث 471 سورة المائدة 473 الوفاء بالعهود 473 المحرمات من المطعومات 476 الحلال من المطعومات 481 الوضوء والغسل والتيمم 484 إتقان العمل والشهادة بالقسط 488 كيف نقض اليهود والنصارى والمواثيق 490(1/927)
ج 1 ، ص : 928
القرآن وما يخفيه أهل الكتاب 494 مناقشة النصارى في عقائدهم 495 من مواقف اليهود مع موسى (ع. م) 500 قصة أول قتيل في الوجود 503 حكم قطاع الطريق 506 أناس الفلاح في الآخرة 509 السارق وجزاؤه 511 اليهود ومواقفهم من أحكام التوراة 513 في التوراة حكم اللّه 517 الحكم بكتاب اللّه ودستور القرآن 520 موالاة اليهود والنصارى وعاقبتها 524 المرتدون المحاربون لهم 526 النهى عن موالاة الكفار 529 من سيئات اليهود 533 تبليغ الرسول للدين 536 من قبائح اليهود أيضا 538 الإله عند المسيحيين 540 خلاصة نظرية القرآن في المسيح 542 السبب في استشراء الفساد فيهم 545 اليهود والنصارى وعلاقتهم بالمؤمنين 549 التشدد في الدين 552 الإيمان وكفارتها 554 الخمر والميسر آفات اجتماعية 557 الصيد في الإحرام وجزاؤه 562 البيت الحرام والشهر الحرام ومكانتهما 565 ترغيب وترهيب 567 السؤال الضار 568 نوع من ضلال الجاهلية 570 في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر 571 الشهادة على الوصية حتى الموت وأحكامها 573 من مواقف يوم القيامة 576 من معجزات عيسى عليه السلام 577 قصة المائدة 579 تخلص عيسى مما ادعته عليه النصارى 581 سورة الأنعام - دلائل على الوحدانية والبعث 584 سبب كفرهم وشبهاتهم والرد عليها 587 تسليته للنبي 591(1/928)
ج 1 ، ص : 929
أسلوب آخر في إثبات الوحدانية والبعث 592 من مظاهر القدرة وشهادة اللّه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم 595 كتمان الشهادة والافتراء على اللّه 597 بعض أعمال المشركين 599 من مواقف المشركين يوم القيامة 601 تسلية اللّه لنبيه وسنة اللّه في خلقه 604 من دلائل قدرة اللّه وكمال علمه 607 إلى اللّه وحده يلجأ العبد في الشدائد 609 من أدلة التوحيد أيضا 611 مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام 613 من مظاهر رحمة اللّه بخلقه 616 موقف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من المشركين 618 كمال علمه سبحانه وتعالى 620 من مظاهر القدرة والرحمة 622 المستهزئون بالقرآن وجزاؤهم 625 الإسلام والشرك 628 كيف ترك إبراهيم الشرك 630 محاجة إبراهيم لقومه 633 إبراهيم أبو الأنبياء ومكانته 636 إثبات رسالة الرسل وأثرها 638 الكذب على اللّه وعاقبته 640 من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة 642 من كذبهم على اللّه والرد عليهم 646 حقائق تتعلق بالرسالة 647 النهى عن سب الذين يدعون من دون اللّه 649 الرد على طلب المشركين الشهادة على الرسالة 651 الشهادة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالصدق وللقرآن بالحق 653 عقائد المشركين وذبائحهم 655 مثل المؤمن والكفار 658 غرورة المشركين وعاقبته 659 سنة اللّه في الخلق ودينه الحق 661 من سنن اللّه في الكون 663 تهديد وإنذار 665 صور من جاهلية العرب 667 قدرة اللّه ونعمه والرد على المشركين 671 ما حرمه القرآن وما حرمته التوراة 674 شبهة واهدة 677(1/929)
ج 1 ، ص : 930
أصول المحرمات والفضائل 679 القرآن مع من يؤمن به
ويكفر 684 تهديد وإنذار 686 عاقبة الاختلاف والجزاء على العمل 688 التوحيد والإخلاص في العقيدة 689 سنة اللّه في الخلق 691 سورة الأعراف 693 القرآن وعاقبة المكذبين به 693 نعم اللّه على بنى آدم وتكريمه 697 قصة سكنى آدم الجنة وخروجه منها 700 من نعم اللّه وفضله 703 شبهات المشركين وأعذارهم الواهية 705 توجيهات في الملبس والمطعم 707 ما حرمه اللّه على عباده 709 مهمة الرسل وعاقبة العمل 711 جزاء الكافرين 713 جزاء المؤمنين 714 حوار بين أهل الجنة والنار وأصحاب الأعراف 716 حوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار 717 من مناظر يوم القيامة 718 الكفار وما يلاقونه وأمانيهم 719 وحدانية اللّه ودعاؤه 721 من أدلة البعث 724 قصة نوح عليه السلام 725 قصة هود عليه السلام 727 قصة صالح مع قومه عليه السلام 731 قصة لوط عليه السلام 734 قصة شعيب عليه السلام - وحاله مع قومه 736 - 738 مآل الكافرين 740 من سنة اللّه مع الأمم 743 قصة موسى عليه السلام 745 السحرة مع موسى وفرعون 749 ما كان من أمر فرعون وملئه مع موسى وقومه 751 جزاة العصاة في الدنيا 753 عاقبة الكفر وخلف الوعد 755 من نعم اللّه على بنى إسرائيل 757 نعم اللّه على بنى إسرائيل وما قابلوها به 758(1/930)
ج 1 ، ص : 931
رؤية اللّه ونزول التوراة 760 السبب الحقيقي للكفر غالبا 763 قصة عبادتهم العجل وموقف موسى 764 ما حصل لموسى أثناء المناجاة 769 محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ورسالته والمؤمنون به 771 من نعم اللّه على بنى إسرائيل 775 عاقبة المخالفين وفوز الآمرين بالمعروف 778 هكذا اليهود في الدنيا 780 الميثاق العام المأخوذ على بنى آدم 782 مثل المكذبين الضالين 784 صفة أهل النار 786 أسماء اللّه الحسنى 788 المهتدون والضالون 789 علم الساعة عند ربي 792 الرسول إنسان لا يملك شيء بل هو نذير وبشير 793 هكذا الإنسان 794 حقيقة الأصنام والأوثان 796 من خلق القرآن في معاملة الناس والشيطان 798 من أدب استماع القرآن والذكر 801 سورة الأنفال 803 مقدمات لغزوة بدر الكبرى 806 توجيهات حربية للمؤمنين 812 تحذير من مخالفة لدين 815 الاستجابة لداعي القرآن 817 الخيانة من صفات المنافقين 819 تقوى اللّه وأثرها 821 عداوتهم لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولدينه 822 صورة من حماقة العرب وجاهليتها 824 عاقبة إنفاقهم للصد عن سبيل اللّه 826 من فضل اللّه على الناس 828 كيف تقسم الغنائم ؟ 829 امتنان اللّه على المؤمنين بالنصر على عدوهم 831 نصائح حربية 833 كيف يتخلص الشيطان 835 ما حل بهم بسبب أعمالهم 836 كيف حال من نقض العهد 838 الاعداد الحربي للأعداء 840(1/931)
ج 1 ، ص : 932
الميل إلى السلام ، وتقوية الروح المعنوية في الجيش 841 التشريع ينزل وفقا لرأى عمر 844 الرابطة الإسلامية أقوى الروابط 846 سورة التوبة 851 إعلامهم بالحرب مع التحدي لهم ونقض عهودهم 852 وجود قتال المشركين 855 سماحة الإسلام في معاملة الكفار 856 سبب البراءة من عهودهم 857 كيف نعامل هؤلاء الكفار 859 تحريض على قتال المشركين 860 اختبار المسلمين وتمحيصهم 861 عمارة المسجد للمسلمين لا للمشركين 862 فضل الإيمان والجهاد 864 ولاء المؤمنين للكفارين وخطرها 867 وهل النصر إلا من عند اللّه ؟ 870 المشركون لا يدخلون المسجد الحرام 872 قتال أهل الكتاب وغايتهم 873 أهل الكتاب لا يعبدون اللّه حقا 875 سلوك رجال الدين من أهل الكتاب 878 بيان عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء 880 في الحث على الجهاد والتحذير من تركه 883 التجنيد العام 886 المنافقون وما صدر عنهم 887 أنفقوا طوعا وكرها 892 إلى من تعطى الصدقة الواجبة 895 أذى المنافقين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والرد عليهم 897 المؤمنون وصفاتهم وجزاؤهم 904 معاملة النبي للكفار المنافقين 907 قصة ثعلبة بن حاطب 910 من أذى المنافقين للمؤمنين وجزاؤهم 912 المتخلفون عن الجهاد 913 كيف عامل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم زعماء النفاق 915 موقف المنافقين من الجهاد 918 المتخلفون 918(1/932)
ج 2 ، ص : 3
[الجزء الثاني ]
[تتمة سورة التوبة]
المتخلفون بغير عذر وموقف المسلمين منهم [سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 96]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)
المفردات :
لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم انْقَلَبْتُمْ رجعتم إليهم ووصلتم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عنهم صفح رضا رِجْسٌ أي : قذارة يجب الإعراض عنهم.
روى أن هذه الآيات - يعتذرون إليكم - نزلت في الجد بن قيس ، ومعتب بن قشير وأصحابهما من المنافقين المتخلفين وكانوا ثمانين رجلا أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المؤمنين إذا رجعوا إلى المدينة ألا يجالسوهم ولا يكلموهم.(2/3)
ج 2 ، ص : 4
المعنى :
ما على المحسنين من سبيل ، ولا على الذين أتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم معتذرين بأعذار حقيقية ، وقد تولوا ، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا لأنهم لم يجدوا ما ينفقون ، ولم يستطيعوا الذهاب معه إلى القتال. وليس على هؤلاء وأولئك جناح.
إنما السبيل والذنب ، والجناح والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن القتال وهم أغنياء موسرون ، يستطيعون القتال ويجدون الزاد والراحلة ، ولكن ما بال هؤلاء يستأذنون وهم أغنياء ؟ ! فأجيب بأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف الذين لا خير فيهم ، كالنساء والصبيان ، والعجزة والمرضى ، ورضوا بأن يكونوا مع الذين شأنهم الضعة والدناءة ، وكان من أسباب تخلفهم زيادة على رضائهم بالقعود مع الخوالف أن طبع اللّه على قلوبهم ، وختمها حتى لا يصل إليها خير ، ولا يدخلها نور ، وهكذا أصحاب المعاصي تصدأ قلوبهم وتقسو حتى تصير كالحجارة أو أشد ، فهم لا يعلمون الخير حتى يتوجهوا إليه ، وهم بسبب ذلك لا يعلمون عاقبة ما فعلوا في الدنيا والآخرة.
هذا كلام مستأنف مسوق لبيان ما صدر من المتخلفين عند رجوع المؤمنين لهم.
يعتذرون إليكم أيها المؤمنون عن جميع سيئاتهم وأهمها التخلف عن القتال بغير عذر مقبول - والخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه ، لأنهم كانوا يعتذرون إليهم جميعا - إذا رجعتم من الغزوة إليهم ، قل لهم أيها الرسول : لا تعتذروا ، وكأن سائلا سأل منهم لما ذا لا نعتذر بما يبرر عملنا ؟ فقيل لهم : لأنا لا نصدقكم أبدا فيكون اعتذاركم عبثا لا يترتب عليه ما تطلبون منه ، والذي حملنا على هذا أن اللّه - سبحانه وتعالى - قد نبأنا من أخباركم ، وأطلعنا على بعض نواياكم ، وما تكنه سرائركم وخبر اللّه هو الحق ، وقوله الصدق ، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل بحال ، وسيرى اللّه عملكم ورسوله بعد الآن ، فلم يعد لكلامكم وظواهر حالكم قيمة عند اللّه وعند رسوله ، فإن تبتم وأنبتم ، وعملتم صالحا من الأعمال فاللّه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، وإن أصررتم على النفاق والكفر فسيعلمكم الرسول بما أمره اللّه به في هذه السورة من جهادكم والإغلاظ عليكم ، ومنعكم من الخروج معه.(2/4)
ج 2 ، ص : 5
ثم تردون بعد هذا كله إلى عالم الغيب والشهادة ، الذي يعلم السر وأخفى ، فينبئكم ويجازيكم على أعمالكم وسرائركم.
والنفاق أخو الكذب. لذلك تراهم يؤكدون اعتذارهم بالأيمان الكاذبة إذا رجعتم إليهم ، يفعلون هذا لتعرضوا عنهم ، وتصفحوا فلا توبخوهم ، ولا تؤنبوهم على قعودهم مع الخوالف من النساء والصبيان فأعرضوا عنهم إعراض إهانة واحتقار ، لا إعراض صفح وأعذار وذلك لأنهم رجس وقذارة ، وأعمالهم دنس ووساخة ، ومأواهم جهنم ، جزاء بما كانوا يكسبون.
وهم لجهلهم بحقيقة أنفسهم وما عملوا ، ولعدم إدراكهم الأمور على وجهها الصحيح لم يقنعوا بالإعراض عنهم ، بل يحلفون لكم أحرج الأيمان لترضوا عنهم ، وتعاملوهم كما كنتم أولا ، كان جل همهم معاملتكم أنتم يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ
« 1 » ولقد صدق اللّه لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ « 2 » ولو كان هؤلاء مؤمنين حقا لكان منتهى همهم إرضاء اللّه ورسوله ، وإذا كان هذا شأنهم فإن ترضوا عنهم فرضا وقد أعلمكم اللّه حالهم فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين عن أمره الخارجين عن دينه ، وهؤلاء قد خرجوا عن أمره ودينه فاستحقوا هذا الجزاء من اللّه.
كيف كان الأعراب [سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 99]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
___________
(1) سورة النساء الآية 108.
(2) سورة الحشر الآية 13.(2/5)
ج 2 ، ص : 6
المفردات :
الْأَعْرابُ اسم جنس للعرب الذين يسكنون البوادي أى : الصحارى ، والعرب : اسم جنس لسكان البدو والحضر وَأَجْدَرُ أى : أحق مَغْرَماً غرامة خسرانا لازما الدَّوائِرَ جمع دائرة وهي ما تحيط بالإنسان والمراد بها ما لا محيص عنه من مصائب الدهر دائِرَةُ السَّوْءِ أى : دائرة الضر والشر والمراد الدائرة السوءى.
هذا بيان لحال المنافقين من سكان البوادي بعد بيان حالهم من سكان المدن والحضر.
المعنى :
الأعراب أشد كفرا ونفاقا من غيرهم سكان المدينة لأنهم أغلظ طبعا وأقسى قلبا ، وهذا طبع سكان الصحارى من الأمم لكثرة اختلاطهم بالحيوان ، ورعيهم للأنعام ، وهذا حكم مسلم.
وهم أجدر وأحق من سكان المدن ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله من آيات بينات ، إذ لم يباشروا الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يطبق النظريات القرآنية العلمية بعمله وشرحه وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ « 1 » وليس هذا طعنا في ملكتهم اللغوية أو مقدرتهم العقلية ولكنه نقص في التطبيق العملي واللّه عليم بخلقه ، حكيم في حكمه وشرعه - سبحانه وتعالى - .
ومن الأعراب من يتخذ لنفسه ويختار ما ينفقه على أنه مغرم وغرامة لازمة ، لا يرجون ثوابا ولا يأملون خيرا بل ينفقون للرياء والسمعة وطمعا في التقرب من المسلمين
___________
(1) سورة النحل الآية 44.(2/6)
ج 2 ، ص : 7
واتقاء شرهم ، روى أنهم بنو أسد وغطفان ، وهم يتربصون بكم مصائب الدهر التي تدور بالناس وتحيط بهم ، وذلك أنهم لما يئسوا من غلبة المشركين من كفار قريش ويهود المدينة أخذوا يتربصون بالمسلمين وينتظرون بهم حوادث الأيام كموت النبي صلّى اللّه عليه وسلم والقضاء على الدعوة الإسلامية وهكذا شأن الضعفاء والجبناء.
عليهم الدائرة السوءى وهذا دعاء من اللّه عليهم محقق الوقوع قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا [سورة التوبة الآية 52] واللّه سميع عليم لا يخفى عليه شيء.
وليس هذا شأن الأعراب كلهم بل منهم من يؤمن باللّه واليوم الآخر إيمانا كاملا - قيل : هم بنو أسلم ، وغفار ، وجهينة ، ومزينة ، وقيل : هم بنو مقرن - ويتخذ لنفسه ويختار أن ما ينفقه لأمرين : أحدهما قربات عند اللّه وزلفى ، والثاني : أنه سبب في دعاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه كان يدعو للمتصدق بالبركة ، ويستغفر له ، ودعاؤه صلّى اللّه عليه وسلّم أمنيتهم المحبوبة.
وقد بين اللّه جزاء هؤلاء الأعراب فقال : ألا إنها قربة لهم عظيمة ودرجة رفيعة أنا أعلم بها ، وسيدخلهم اللّه في رحمته ورضوانه إن اللّه غفور رحيم.
الناس أنواع [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 102]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)(2/7)
ج 2 ، ص : 8
المفردات :
مَرَدُوا مرنوا عليه وحذقوه حتى بلغوا الغاية القصوى فيه.
المعنى :
مما أكرم اللّه به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن جعل أمته وسطا عدولا خيارا شهداء على الناس يوم القيامة ، وكانت أمته خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن باللّه حقا ، وكان خيارها أصحابه - رضي اللّه عنهم - وأعلاهم في الشرف السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
أما السابقون من المهاجرين وهم الذين صلوا إلى القبلتين [إلى الكعبة وإلى بيت المقدس ] وقيل : هم المهاجرون قبل صلح الحديبية ، لأن المشركين قبل ذلك كانوا يضطهدون المؤمنين ويعذبونهم أشد العذاب ، ويحاربونهم في عقر دارهم فكان الفرار منهم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في المدينة أعظم دليل على صدق الإيمان وأكبر تضحية للإنسان ، وقيل : هم أهل بدر ، وإذا كان السبق في الإيمان والهجرة والجهاد والبذل والنصرة ، كان أفضل السابقين الخلفاء الأربعة على الترتيب ثم باقى العشرة المبشرين بالجنة ، وليس كل سابق أفضل من مسبوق.
وأما السابقون من الأنصار فهم الذين أسلموا قبل أن يكون للمسلمين قوة مرهوبة الجانب ، وقيل : هم أصحاب البيعة الأولى وكانوا سبعة أو أصحاب البيعة الثانية وكانوا سبعين رجلا وامرأتين ، أما بعد أن صار للمسلمين دولة فقد ظهر النفاق في المدينة وما حولها ، وأما الذين اتبعوهم بإحسان في الهجرة والنصرة وصدق الإيمان ، فهم الذين(2/8)
ج 2 ، ص : 9
دخلوا في الدين بعد ذلك واتبعوا السابقين بإحسان ، وقلدوهم في الأفعال والأقوال وحسن الاقتداء.
وهذا الوصف للتابعين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ يتضمن الشهادة من اللّه - سبحانه وتعالى - للسابقين بكمال الإحسان ، وعلو الإيمان ، فهم المتبوعون ، وفي المثل العليا والإحسان هم المقلدون ، أما من اتبعوهم في ظاهر الإسلام فقط أو في بعض الأعمال فالآيات الآتية بينت حالهم.
هؤلاء السابقون من المهاجرين والأنصار والتابعين - رضى اللّه عنهم - وقبل طاعتهم وتجاوز عن سيئاتهم وأعز بهم الإسلام كل ذلك بسبب أعمالهم.
ورضوا عنه لما وفقهم إلى الخير ، وهداهم إلى الحق وأفاض عليهم من النعم الدينية والدنيوية ، وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا : وذلك هو الفوز العظيم.
وهنا سؤال : ما المراد بالتابعين ؟ هل هم كما فسرنا أولا وهم الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية وفتح مكة ؟ أم هم التابعون الذين اجتمعوا بالصحابة ولم يشرفوا بصحبة النبي ؟ أم هم الداخلون في الدين المهاجرون ما نهى اللّه عنه ، الناصرون لدين اللّه باللسان والسنان ، والقوة والبيان إلى يوم القيامة اللّه أعلم بكتابه وإن كان الظاهر من قوله اتبعوهم أنهم الصحابة المتأخرون في الإيمان ، وأما التابعون المجتمعون بالصحابة كالفقهاء السبعة (سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير .. إلخ). فهذا اصطلاح خاص بعد نزول القرآن.
بعد أن بين اللّه - سبحانه - مكانة المؤمنين بين مردة المنافقين من أهل البدو والحضر : أن بعض الأعراب الذين حولكم أيها المؤمنون منافقون. قال بعضهم : هم من قبيلة مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار كانت منازل هؤلاء حول المدينة والمراد أن بعضهم منافقون ، وبعضهم مؤمنون صادقون يؤمنون باللّه واليوم الآخر ، ويتخذون ما ينفقون قربات وزلفى إلى اللّه ، والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم دعا لهم بخير وبركة.
وإنه لمن أهل المدينة نفسها منافقون من الأوس والخزرج واليهود غير من تعرفهم - أيها الرسول - بما صدر عنهم من أقوال وأفعال منافية للإيمان.(2/9)
ج 2 ، ص : 10
هؤلاء مردوا على النفاق ومرنوا عليه مرونا جعلهم متأصلين فيه ، قد بلغوا غاية إتقانه ، بحيث لا يعرفهم أحد ، فهم حريصون جدا لا يصدر منهم ما يتنافى مع ظاهر إيمانهم ، ولذلك لا تعرفهم أنت مع بعد نظرك ، ودقة فراستك ، التي تنظر فيها بنور اللّه وذلك لأنهم أجادوا النفاق ، وتجنبوا الشبهات ، وانظر إلى نفى العلم عن ذواتهم لا عن نفاقهم ، واللّه يعلمهم لأنه يعلم السر وأخفى ، ولو شاء لاطلعك عليهم كما أطلعك على غيرهم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [سورة محمد الآيتان 29 و30].
هؤلاء سنعذبهم مرتين : مرة في الدنيا بفضيحتهم وهتك سترهم وتكليفهم بتكاليف الإسلام من جهاد وزكاة ، والحال أن أعمالهم كسراب بقيعة لا تنفعهم بشيء .. ومرة في الآخرة بالعذاب الشديد والجزاء المناسب لجرم عملهم وسوء صنيعهم ثم يردون إلى عذاب عظيم.
نعود إلى القول المختار من هذه الآيات نزلت في بيان حال الناس أيام النبي صلّى اللّه عليه وسلم فمنهم السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم من المهاجرين والأنصار ، ومنهم التابعون لهم بإحسان الذين جاءوا من بعدهم وهاجروا وجاهدوا معهم فأولئك منهم. لهم جميعا الرضوان وذلك هو الفوز العظيم.
ومن الناس المنافقون من سكان البدو والحضر خصوصا المدينة وهؤلاء تأصل فيهم النفاق ، عليهم غضب اللّه وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا.
ومن الناس قوم تخلفوا ولم ينافقوا فليسوا من السابقين ولا من التابعين ولا من المنافقين هؤلاء نزل فيهم قوله تعالى : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية .. والمعنى : وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة أناس آخرون اعترفوا بذنوبهم ولم ينكروها قد خلطوا عملا صالحا وهو الاعتراف بالذنب والتوبة والرجوع إلى اللّه ، والجهاد مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبل ذلك ، وآخر سيئا وهو التخلف بغير عذر ، فلم يكونوا من المؤمنين الخلص ، ولا من المنافقين الفاسقين ،
روى أنهم ربطوا أنفسهم في سوارى المسجد وأقسموا لا يحلنهم إلا رسول اللّه. فلما قدم رسول اللّه وعلم بخبرهم أقسم لا يحلنهم حتى ينزل(2/10)
ج 2 ، ص : 11
فيهم قرآن وهم أبو لبابة وأصحابه ، هؤلاء عسى اللّه أن يتوب عليهم ويقبل عذرهم ، واللّه يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات إنه هو الغفور الرحيم.
ولعلك تقول : ما فائدة هذا التقسيم ؟ قلت : فائدته أنك تعرف أن من يخلط العمل الصالح والآخر الفاسد يجب ألا يقنط من رحمة اللّه بل عليه بالإسراع إلى التوبة وهذا الصنف كثير جدا وهو في كل زمان ، وأن للتابعين لنا أن يتوسعوا في مدلوله حتى يشمل كل عصر فما دمنا نتبع الصحابة في الجهاد والنصرة ونسير على منوالهم ونهتدي بعملهم فنحن داخلون معهم في هذا الجزاء الواسع والفضل العميم.
وأما السابقون السابقون فهذا مقام لا يدانيه مقام ولقد صدق الرسول « أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم لو أنفق أحدكم مثّل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه »
صدق رسول اللّه ..
الصدقة والتوبة والعمل [سورة التوبة (9) : الآيات 103 الى 105]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
المفردات :
سَكَنٌ السكن ما تسكن إليه النفوس وتطمئن من أهل ومال ومتاع ، والمراد :(2/11)
ج 2 ، ص : 12
اطمئنانهم بقبول توبتهم ، ورضا اللّه عنهم الْغَيْبِ ما غاب والشهادة : ما حضر صَدَقَةً قال القرطبي : مأخوذة من الصدق إذ هي دليل على صحة إيمانه وصدق باطنه مع ظاهره ، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات.
روى عن ابن عباس قال : لما أطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أبا لبابة وأصحابه انطلق أبو لبابة وأصحابه بأموالهم فأتوا بها رسول اللّه فقالوا : خذ من أموالنا فتصدق بها عنا ، وصل علينا أى : استغفر لنا وطهرنا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : « لا آخذ منها شيئا حتّى أومر » فأنزل اللّه : خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ الآية.
المعنى :
يا محمد - وكذا كل إمام للمسلمين وحاكم - خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وربطوا أنفسهم في سارية المسجد وحلفوا لا يفكهم إلا رسول اللّه ، ولما أطلقهم أحضروا أموالهم للنبي قائلين : هذه أموالنا التي منعتنا عن الجهاد معك فتصرف فيها بما شئت ، وليس المراد من أموال هؤلاء فقط ، بل من أموال المسلمين جميعا ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم من دنس البخل ، وشح النفس ولؤم الطبع ، وقسوة القلب ، وتزكيهم بها حتى تنمو نفوسهم على حب الخير ، وتزرع في قلوبهم شجر العطف على الفقير والضعيف والمحتاج ، بهذا تنمو النفس وترتفع.
وصل عليهم ، فالصلاة منك دعاء لهم بالخير ، وسكن لنفوسهم من الاضطراب عقب الذنب الذي وقع بالمخالفة ، والمعنى : ادع أيها الرسول للمتصدقين بالخير والبركات واستغفر اللّه لهم فدعاؤك واستغفارك سكن لهم واطمئنان لقلوبهم ، وارتياح إلى قبول توبتهم واللّه سميع لكل قول ومجاز عليه ، عليم بكل قصد ونية ، وبما فيه الخير والمصلحة.
الصدقة مطهرة للنفس ، مرضاة للرب ، وحصن للمال ، وتقوية للسناد ، والتوبة تغسل الذنب وتمحوه ، وتجدد العهد وتقويه ولذلك جاءت بعد الأمر بأخذ الصدقة لبيان السبب في الجملة.(2/12)
ج 2 ، ص : 13
ألم يعلم المؤمنون جميعا أو التائبون فقط أو من كان معهم ولم يتب أن السر في هذا كله هو التوبة ، وأن اللّه يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده ، ويأخذ الصدقات ويثيب عليها ويضاعف أجرها ، وقد ورد في الحديث : « إنّ اللّه يربى الصّدقة كما يربى أحدكم فلوّه »
أى : ولد فرسه وهذا تمثيل لزيادة الأجر ، وأن اللّه هو التواب الرحيم.
وليس هذا الإيمان بالتمني ، ولا التوبة باللسان فقط بل بما وقر في القلب وصدقه العمل ، فالعمل هو المهم ، وهو المعول عليه.
وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله وسيجازيكم عليه جزاء الغنى القادر الكريم الواسع الفضل.
وسيرى العمل رسوله والمؤمنون فيؤدون لكم حقوقكم في الدنيا ، وأما في الآخرة فستردون إلى عالم الغيب الذي يعلم السر وأخفى ، ويعلم الشهادة وما حضر ، وسيجازيكم على أعمالكم كلها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
صنف آخر من المتخلفين [سورة التوبة (9) : آية 106]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
المفردات :
مُرْجَوْنَ مأخوذ من أرجيته إذا أخرته أو من أرجأته بمعنى أخرته ومنه قيل :
المرجئة. لأنهم أخروا العمل ..
المعنى :
من تخلف عن غزوة تبوك : منهم المنافقون الذين اعتذروا بغير عذر ، والذين لم(2/13)
ج 2 ، ص : 14
يعتذروا ، ومنهم المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا ، وقدموا أموالهم كفارة عما فرط منهم فتاب اللّه عليهم وعفا عنهم ، ومنهم فريق حاروا في أمرهم وشق عليهم تخلفهم بغير عذر فأرجئوا توبتهم ، ولم يفعلوا ما فعل أبو لبابة وأصحابه من ربط أنفسهم بسواري المسجد فأرجأ اللّه توبتهم حتى نزلت آيتا التوبة فيهم (117 - 118) من هذه السورة.
وآخرون من المتخلفين مرجون لأمر اللّه ، ومؤخرون لحكمه ، فحالهم غامضة عند الناس ، لا يدرون ما ينزل في شأنهم ؟ هل يخلصون في التوبة فيتوب اللّه عليهم ويقبل منهم توبتهم ؟ أم لا ؟ فيعذبهم ويحكم عليهم كما حكم على المنافقين ، والترديد إنما هو بالنسبة للناس لا بالنسبة إلى اللّه. ولعل الحكمة في ذلك أن بقي الرسول والمؤمنون على حالهم فلا يكلمونهم ولا يخالطونهم ، تربية لهم وتهذيبا لنفوسهم ، وبيانا لجرم التخلف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإيثار الراحة والدعة عن الجهاد ونصر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم.
وهؤلاء المرجون لأمر اللّه هم الثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة ابن الربيع.
واللّه عليم بهم وبعباده كلهم وما به تصلح نفوسهم ، وحكيم في تشريعه ، وقد كان إرجاء قبول توبتهم لحكمة اللّه يعلمها!!.
مسجد الضرار ولم بنى ؟ وموقف الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم منه [سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)(2/14)
ج 2 ، ص : 15
المفردات :
ضِراراً الضرر : الذي لك به منفعة وعلى غيرك مضرة ، والضرار : الذي ليس لك فيه منفعة وعلى غيرك المضرة ، وعلى هذا خرج الحديث : « لا ضرر ولا ضرار » . وقيل : هما بمعنى واحد والجمع بينهما للتأكيد وَإِرْصاداً ترقبا وانتظارا أُسِّسَ التأسيس وضع الأساس الأول الذي يقوم عليه البناء شَفا الشفا الحرف والحد جُرُفٍ جانب الوادي ونحوه الذي يحفر أصله بما يجرفه السيل منه فيجتاح أسفله فيصير مائلا للسقوط هارٍ الضعيف المتصدع المتداعي للسقوط رِيبَةً شكا وحيرة.
سبب النزول :
هاجر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة ونزل قباء على كلثوم بن الهدم شيخ بنى عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس ، وقباء هذه قرية على ميلين جنوب المدينة ، وأقام بها رسول اللّه الاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، وأسس مسجد قباء : لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.
وقد اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء ، وبعثوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه ، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبنى مسجدا ونبعث إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يأتينا فيصلى لنا فيه كما صلّى في مسجد إخواننا ، ويصلى فيه أبو عامر الراهب(2/15)
ج 2 ، ص : 16
إذا قدم من الشام وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فأتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول اللّه ، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة ، والعلة ، والليلة المطيرة ، ونحب أن تصلى لنا فيه وتدعو بالبركة إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى
فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « إنّى على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلّينا لكم فيه »
: فلما انصرف من تبوك وهم بالذهاب إلى مسجد الضرار نزلت هذه الآيات. فدعا النبي مالك بن الدخشم وغيره
فقال : « انطلقوا إلى هذا المسجد الظّالم أهله فاهدموه وأحرقوه » .
وقد تم ذلك ، والذين بنوا مسجد الضرار كانوا اثنى عشر منافقا من الأوس والخزرج.
المعنى :
والذين اتخذوا مسجدا لأغراض ستأتى جزاؤهم معروف ، إذ كان غرضهم بالبناء ما سجله القرآن عليهم وهو :
(أ) أنهم اتخذوه محاولين إيقاع الضرر بالمؤمنين (الذين بنى لهم رسول اللّه مسجد قباء قبل دخوله المدينة) وهؤلاء بنوا مسجدهم بجوارهم لإيقاع الضرر بهم والفتنة لهم.
(ب) واتخذوه للكفر وتقويته والاجتماع لتدبير ما يكرهه اللّه ورسوله. فكان عش الفتنة ، وبيت النفاق ، ويقول المنافق : صليت فيه وما صلى ، والكفر يطلق على الاعتقاد والعمل المنافيين للإيمان.
(ج) وبنوه للتفريق كذلك بين المؤمنين فإنهم كانوا يصلون في مسجد واحد ، فأصبحوا متفرقين في مكانين.
(د) واتخذوه إرصادا وانتظارا لقدوم من حارب اللّه ورسوله حتى إذا قدم وجد المكان مهيأ ووجد أصحابه مستعدين لمحاربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
وقد اتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد هو أبو عامر الراهب من الخزرج ، وحكموا أنه كان رجلا تنصر في الجاهلية وعلم علم أهل الكتاب وكانت له مكانة في قومه - فلما قدم النبي المدينة ، واجتمع المسلمون حوله وأصبح للإسلام كلمة - أكل الحسد قلب الرجل ، وأعلن الحرب على النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وأقسم ليحاربنه مع كل من يحاربه ، وقد حاربه في أحد وحنين ، ولما رأى نور الإسلام يرتفع ارتفاع(2/16)
ج 2 ، ص : 17
الشمس في الضحى فر إلى الشام وأرسل للمنافقين من قومه أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، وابنوا لي مسجدا فإنى سآتى لكل بجند قيصر لمحاربة محمد وأصحابه ، ولقد صدق المنافقون قوله وبنوا المسجد للضرر وللكفر وللتفريق بين المؤمنين ، ولانتظار أبى عامر الراهب ليحارب اللّه ورسوله.
وليقسمن بعد ذلك كله : ما أرادوا إلا الحسنى وأنهم بنوه للضرورة والحاجة التي تلم بالضعفاء ، وأنهم بنوه رفقا بالمسلمين وتيسيرا لصلاة الجماعة على الضعفاء والمعذورين الذين يحبسهم المطر في الليلة المطيرة ، كذبوا!! واللّه يشهد إنهم لكاذبون في ادعائهم ، منافقون في أعمالهم!! أما أنت أيها الرسول فلا تقم فيه أبدا على معنى لا تصل فيه أبدا ، والنهى عن القيام يفسر بالنهى عن الصلاة كما روى عن ابن عباس ، وانظر إلى التقييد بقوله أبدا وهو ظرف يستغرق الزمن المستقبل كله ، ونهى النبي صلّى اللّه عليه وسلم يشمل المؤمنين كذلك.
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أى : واللّه لمسجد كان أساسه والغرض من بنائه من أول يوم بنى هو تقوى اللّه بإخلاص العبادة فيه ، وجمع المؤمنين على محبة رسول اللّه والعمل على وحدة الإسلام ، والتعاون على البر والتقوى لمسجد هذا وصفه أحق بالقيام فيه من غيره خصوصا مسجد هؤلاء المنافقين الذين بنوه لغرض حقير كشف اللّه سترهم فيه ، وبين مقصودهم منه.
وهل هذا المسجد هو مسجد قباء أو مسجد الرسول في المدينة أو الكلام يشمل الاثنين ؟ واللّه أعلم وإن كان الظاهر أن الكلام يشمل الاثنين لوجود الوصف فيهما ، هذا المسجد فيه رجال يعمرونه بالاعتكاف والصلاة مخلصين للّه قانتين ، يحبون أن يتطهروا من دنس المعاصي ، ورجس العبودية ، وقذارة النجاسة فالمتطهرون طهارة حسية ومعنوية.
واللّه يحب المتطهرين المبالغين في الطهارة القلبية والروحية ، والجسدية والمعنوية وهؤلاء هم الكاملون في الإنسانية ، أما محبة اللّه لهم فهذا شيء هو أعلم به إلا أنا نعرف من الحديث أن اللّه يحب من عباده الصالحين الموفقين إلى الخير
« لا يزال عبدى يتقرّب إلىّ بالنّوافل حتّى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الّذى يسمع به وبصره الّذى يبصر به »
إلى أخر الحديث الشريف.(2/17)
ج 2 ، ص : 18
وقد ضرب اللّه المثل للمنافقين وأعمالهم المنهارة ، وللمؤمنين وأعمالهم المؤسسة على الأساس المكين بطريق الإيجاز المحكم فقال ما معناه :
أفمن كان مؤمنا صادقا لا يقصد بعمله إلا وجه اللّه ، ويتقى اللّه في كل عمل ، كمن هو منافق مرتاب مراء كذاب لا يبغى بعمله إلا الشيطان والهوى : أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ « 1 » ؟ فالمنافق يفضحه اللّه وينال جزاءه السيئ في الدنيا والآخرة ، والمؤمن ينال جزاءه الحسن في الدنيا والآخرة.
أفمن أسس بنيانه على أساس التقوى ، والإيمان والإخلاص ، وهو أساس قوى متين نافع في الدنيا والآخرة ، كمن أسس بنيانه على أساس ضعيف منهار! فالأول مثل المؤمن والثاني مثل للمنافق ، وخلاصة المثلين أن الإيمان الصادق وما يتبعه من العمل المثمر النافع كالبناء المتين المؤسس الذي يقي صاحبه عوادي الزمان.
وأن النفاق وما يستلزم من العمل الفاسد هو الباطل الزاهق وهو كالبناء الذي يبنى على الجرف المنهار لا ينفع صاحبه ولا يقيه سوءا ، بل يضره ضررا بليغا حيث ألهاه عن العمل المثمر النافع.
واللّه لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم ولغيرهم.
لا يزال بنيانهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم ، يملؤها شكا ونفاقا وحسرة وألما وخوفا من الفضيحة وهتك الستر ، فهم دائما في ريبة وشك يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ « 2 » .
لا يزال كذلك ولا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم إلا أن تقطع قلوبهم قطعا ، تتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه ، وأما ما دامت سالمة فهم في ريبة وشك واللّه عليم بخلقه حكيم في صنعه.
___________
(1) سورة السجدة آية 18.
(2) سورة التوبة آية 64.(2/18)
ج 2 ، ص : 19
من هم المؤمنون الكاملون ؟ [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
روى القرطبي وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في البيعة الثانية - بيعة العقبة الكبرى - وكان فيها الأنصار نيفا وسبعين ، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عند العقبة فقال عبد اللّه بن رواحة للنبي : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : « الجنّة.
قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل » فنزلت الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ.
وهذه الآية وأمثالها تمثيل ، حيث عبر عن إثابة اللّه المؤمنين الباذلين أنفسهم وأموالهم في سبيله بأن لهم الجنة : عبر عن ذلك بالشراء والمعاوضة وهذا تفضل منه وكرم ، وترغيبا في الجهاد ببيان فضله إثر بيان حال المتخلفين عنه وهم المنافقون.(2/19)
ج 2 ، ص : 20
المعنى :
إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها بأن لهم الجنة الثابتة لهم الخاصة بهم ، إنه بيع اللّه مربح للمؤمنين ، وكأن سائلا سأل وقال : كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة ؟ فقيل : يقاتلون في سبيل اللّه باذلين النفس والنفيس من المال وغيره فيكون منهم أحد أمرين ، إما قتل للأعداء ، وإما استشهاد في سبيل اللّه فلا فرق بين القاتل والمقتول ما دام القتال للّه وحده.
وعدهم ربهم بذلك وعدا حقا مؤكدا أوجبه على نفسه ، وجعله حقا ثابتا لهم في التوراة والإنجيل والقرآن ، وليس لك أن تقول أين هذا في التوراة والإنجيل ؟ بعد ما ثبت أن الموجود منها سوف ومبدل ، وأنهم نسوا حظا منه ، وأوتوا نصيبا منه كما في القرآن. راجع سورة المائدة آية : 13 ، 14.
ومن أوفى بعهده من اللّه ؟ ومن أصدق قيلا منه ، وهو القادر على كل شيء الحكيم الخبير بعباده.
وإذا كان كذلك فاستبشروا وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة مثوبة من اللّه وفضلا على بيعكم أنفسكم وأموالكم للّه ، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز أعظم منه.
والمؤمنون الباذلون هم التائبون توبة خالصة كريمة صادقة من كل ذنب جل أو صغر ، العابدون اللّه ربهم المخلصون له في جميع عبادتهم ومعاملتهم لا يخشون إلا هو ، ولا يرجون إلا هو ، ولا يستعينون إلا به إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة آية 5].
الحامدون اللّه ربهم في السراء والضراء إذ كل ما يصيب المسلم فهو بقضاء اللّه وقدره لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ « 1 » وهذا لا يمنع الأخذ بالأسباب ، السائحون في الأرض يجوبونها لغرض شريف ومعنى كريم كالجهاد في سبيل اللّه أو طلب العلم ، أو التجارة أو الكسب الحلال ، أو لاكتشاف ما في الملكوت من معاني عظمة اللّه وقدرته والوقوف على أحوال الناس للعبرة والعظة ، وقيل المراد بالسياحة : الصوم
لقوله صلّى اللّه عليه وسلم « سياحة أمّتى الصّوم » .
___________
(1) سورة الحديد آية 23.(2/20)
ج 2 ، ص : 21
الراكعون الساجدون في الصلاة ، والآمرون بالمعروف شرعا والناهون عن المنكر ، وهاتان الصفتان من لوازم الجماعات وقوامها.
والحافظون لحدود اللّه كلها ، وحدود اللّه هي شرائعه وأحكامه التي تشمل ما يجب على الفرد والجماعة وجوبا عينيا أو كفائيا ، ولعل ذكر هذا الوصف بالواو وحده لأنه جماع الأصناف كلها وكأن ما مضى كله نوع وهو وحده نوع.
ها هي صفات المؤمنين الكاملة ، وثوابهم الكامل ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، أى : أن الآية عامة في كل مجاهد في سبيل اللّه موصوف بهذه الصفات إلى يوم القيامة.
الاستغفار للمشركين ومتى يؤاخذ اللّه على الذنب ؟ [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)(2/21)
ج 2 ، ص : 22
روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول اللّه فوجد عنده أبا جهل وعبد اللّه بن أمية فقال : يا عم. قل : لا إله إلا اللّه.
كلمة أشهد لك بها عند اللّه ، فقال أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ ولم يزل يكرر رسول اللّه : ولكن اللّه لم يوفق أبا طالب وقال ، هو على ملة عبد المطلب.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : « أما واللّه لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك » فنزلت الآية.
ولا تنس موقف أبى طالب مع النبي ونصرته له ، وفي روايات أخرى أنها نزلت في استغفار بعض الصحابة لأقاربهم. وفي ظني أن الرواية الأولى ضعيفة لأن سورة التوبة من آخر القرآن نزولا.
المعنى :
ما كان من شأن النبي والمؤمنين أى : ما يصح أن يصدر من النبي من حيث كونه نبيا ومن حيث كونهم مؤمنين لا يصح منهم أن يدعو اللّه طالبين المغفرة للمشركين بعد قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ [سورة النساء آية 48] وبعد قوله في سورة البراءة : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، وبعد قوله - تعالى - :
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ [سورة الممتحنة الآية 4] وهذا نفى ، والمراد منه النهى وهو أبلغ لأن نفى الشأن أبلغ من نفى الشيء نفسه.
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين مطلقا ولو كانوا أولى قربى ، وعند عدمها من باب أولى ، هذا الحكم يسرى من بعد ما تبين لهم أنهم أعداء اللّه وذلك بعد الموت ، أما قبله فإن كان الاستغفار بمعنى طلب الهداية والتوفيق للإسلام فجائز. وإن كان بمعنى المغفرة بلا إسلام فغير جائز ، وإنما يظهر أن الكافر من أصحاب الجحيم وأنه عدو للّه بموته على الشرك أو بوحي من اللّه.
وكان استغفار إبراهيم لأبيه آزر بقوله : وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ « 1 » بمعنى وفقه للإسلام كما يفهم من تعليله إنه كان من الضالين وما كان استغفار إبراهيم إلا عن موعدة وعدها إياه بقوله لأستغفرن لك ربي وهذه الموعدة مبنية على عدم تبين أمره فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه ، وعلى هذا فمن استغفر لحى يرجو إيمانه يقصد سؤال اللّه له الهداية فلا بأس.
___________
(1) سورة الشعراء آية 86.(2/22)
ج 2 ، ص : 23
قال ابن عباس : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات وتبين له أنه عدو للّه وأنه من أصحاب الجحيم تبرأ منه ومن قرابته وترك الاستغفار له كما هو مقتضى الإيمان.
إن إبراهيم لأواه كثير التأوه والتحسر ، والخشوع ، والدعاء للّه ، حليم لا يستفزه غضب ولا جهل ولا طيش به هو صبور عطوف صفوح ، وهذا تذيل يفيد اتصاف إبراهيم بما ذكر ، وأنه يأتسى به في ذلك.
لما نزل المنع من الاستغفار خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم قبل البيان وقد مات جماعة منهم قبل النهى فأنزل اللّه وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً .. الآية.
وما كان اللّه ليقضى على قوم بالضلال ويحكم عليهم بذلك. بعد إذ هداهم ووفقهم للإيمان الكامل بمجرد قول أو عمل صدر عنهم خطأ في الاجتهاد حتى يتبين لهم ما يتقون اللّه به بيانا شافيا واضحا ، إن اللّه بكل شيء عليم ، فاللّه لا يؤاخذهم إلا بعد أن يبين لهم شريعته ويوقفهم على حكمه.
واعلموا أن اللّه له ملك السموات والأرض بيده الأمر كله ، يحيى يميت. لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. فلا تهمنكم القرابة والصلة ولا تخشوا إلا اللّه ، وما لكم ولى ولا نصير من غيره - سبحانه وتعالى - .
التوبة وشروطها ، والصدق وفضله [سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)(2/23)
ج 2 ، ص : 24
المفردات :
ساعَةِ الْعُسْرَةِ المراد : وقت العسرة أى : الشدة يَزِيغُ يميل عن الصراط المستقيم خُلِّفُوا أخر أمر هؤلاء الثلاثة مدة ثم تاب اللّه عليهم بعد ذلك ، فهم قد خلفوا عن أبى لبابة وأصحابه في قبول التوبة بِما رَحُبَتْ أي : برحبها وسعتها.
المعنى :
للتوبة معنيان : أولهما العطف والرضا عن العباد وعن أعلاهما. ثانيهما : قبول التوبة منهم بعد توفيقهم إليها ، وكانت توبة اللّه على النبي صلّى اللّه عليه وسلم من النوع الأول.
وقد فسر البعض توبة اللّه على النبي صلّى اللّه عليه وسلم حيث أذن لبعض المنافقين وكان الأولى الانتظار عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا .. الآية وأما المهاجرون والأنصار فقد كانت غزوة تبوك في ساعة العسرة والشدة ، وقد تجاوز اللّه عن هفواتهم وتثاقلهم عن المسير (و هذا كله من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين).
وفي الكشاف هذه الآية مثل قوله - تعالى - : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ « 1 » وهذا حث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إليها حتى النبي المعصوم والمهاجرين والأنصار ، وفي ذلك إبانة لفضلها ومقدارها عند اللّه ، وأنها صفة الأنبياء والسابقين ، وهذا كلام حسن وتخريج جميل.
___________
(1) سورة الفتح آية 2.(2/24)
ج 2 ، ص : 25
لقد تاب اللّه على النبي صلّى اللّه عليه وسلم وعلى المهاجرين والأنصار مما ألم به بعضهم ، وذلك لأنهم اتبعوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم ساعة العسرة والشدة ، ولبوا نداء الرسول صلّى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك.
وكانت عسرة في الزاد حتى اقتسم بعضهم التمرة ، وفي بعض الروايات كانوا يمتصونها وقد تزود بعضهم بحفنة شعير مسوس وتمر فيه دود ، وكانت عسرة في الماء حتى أنهم نحروا البعير وعصروا كرشه ليبلوا به ألسنتهم ، وكانت عسرة في الظهر حتى كان العشرة يعتقبون بعيرا واحدا ، وعسرة في الزمن إذ كان الوقت في نهاية الصيف حيث يشتد الحر ويكثر القيظ والعطش ، وفي أخبار السير الشيء الكثير عن الشدة التي كانوا فيها.
أولئك اتبعوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم من بعد ما قرب أن يزيغ قلوب فريق منهم عن صراط الإسلام بعصيان الرسول ، والتخلف بغير عذر مقبول ، والظاهر واللّه أعلم أنهم المتخلفون بغير عذر ، ولا نفاق معهم وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم فتاب اللّه عليهم. إنه بهم رءوف رحيم.
أما الثلاثة الذين خلفوا أى : أرجئوا حتى ينزل فيهم قرآن وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع. فقد تاب اللّه عليهم بعد أن أرجئوا خمسين يوما بعد مجيء الرسول إلى المدينة ، وخير ما يبين لنا هذه الآية وما بعدها حديث كعب ابن مالك المروي في كتب الحديث وأشهر كتب التفسير وخلاصته :
روى الزهري عن عبد اللّه بن كعب بن مالك قال - أى عبد اللّه - : سمعت عن كعب يحدث حديثه حين تخلف عن رسول اللّه في غزوة تبوك.
قال كعب ما معناه : لم أتخلف عن رسول اللّه في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أنى تخلفت في بدر ، ولم يعاتب أحد عن التخلف عنها لخروج النبي صلّى اللّه عليه وسلم إلى العير إلخ ما هو معروف .. تخلفت عن غزوة تبوك ولم يكن أحد أقوى منى ولا أيسر ، وكانت عندي راحلتان وكان رسول اللّه قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها إلا هذه فكانت في حر شديد وسفر بعيد ، ومع عدو كثير فجلا للمسلمين أمرهم ليأخذوا حذرهم ، ويتأهبوا لغزوهم ، وغزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تلك الغزوة حين الثمار والظلال وأنا إليها أصعر (أى أميل) وتجهز معه المسلمون : وطفقت أعدو لكي أتجهز فأرجع ولا أقضى ، فأقول أنا قادر على ذلك إن أردت!! فلم يزل ذلك يتمادى حتى استمر(2/25)
ج 2 ، ص : 26
بالناس الجد ، فأصبح رسول اللّه غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ، وعللت نفسي بأنى سألحق بعد يوم أو يومين ، ولم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم وليت أنى فعلت ، ثم لم يقدر لي ذلك ، فطفقت وقد خرج الناس يحزنني أنى لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق (مطعونا عليه في دينه) أو معذورا من ضعيف أو مريض.
قال كعب : ولما بلغني أن رسول اللّه قفل راجعا حضرني بثي وحزنى فطفقت أتذكر الكذب وأقول : بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأى من أهلى فلما قيل لي إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قد أظل قادما زاح عنى الباطل حتى عرفت أنى لن أنجو منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه ، وكان إذا جاء من سفره ركع ركعتين في المسجد ثم جلس للناس. فلما فعل جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له فقبل منهم رسول اللّه علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى اللّه ، حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ، وقال لي : « ما خلفك ؟ ! ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ » قال : قلت يا رسول اللّه : إنى واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا (فصاحة وقوة في البيان) ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنى ليوشكن اللّه أن يسخطك على. ولئن حدثتك حديث صدق تجد على فيه (تغضب على فيه) إنى لأرجو فيه عقبى اللّه. يا رسول اللّه : ما كان لي عذر. واللّه ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك. فقال رسول اللّه : « أمّا هذا فقد صدق فقم حتّى يقضى اللّه فيك » فقمت وأنبنى ناس لسلوكى هذا المسلك ، ثم قلت لهم : هل لقى هذا معى أحد ؟
قالوا : نعم لقيه معك مرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية الواقفي. قال : فذكروا له رجلين صالحين قد شهدا بدرا.
ونهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه.
قال : فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا كنت أخرج إلى الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ؟ !.(2/26)
ج 2 ، ص : 27
وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلم بعد الأربعين أرسل لهم من يبلغهم باجتناب نسائهم ففعلوا واستأذنت امرأة هلال في خدمته فأذن لها لكبره وضعفه قال كعب بن مالك : فقلت لزوجي : الحقي بأهلك. ومكثت عشر ليال على ذلك وبينما أنا في صلاة الفجر وإذا بالبشرى تزف إلى من كل جانب : أن اللّه قد تاب علينا وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوننى بالتوبة.
وهكذا التوبة الصادقة ، التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه فلم يعد للسرور مكان فيها ، وأن يعتقد ألا ملجأ من اللّه وعذابه إلا إليه ، وما يتبع ذلك من الندم والعزم على عدم الرجوع إلى الذنب أبدا ، ورد المظالم إلى أهلها إن كانت.
ثم تاب اللّه عليهم ووفقهم للتوبة المقبولة ليتوبوا ويرجعوا إليه رجوعا خالصا إن اللّه هو التواب الرحيم.
وقد كان للصدق أثر كبير في قبول توبة هؤلاء الثلاثة ، ولذا أردف اللّه توبتهم بقوله :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ المخلصين.
وإنى أختم الكلام على هذه الآية الكريمة
بقول النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « عليكم بالصّدق فإنّ الصّدق يهدى إلى البرّ ، وإنّ البرّ يهدى إلى الجنة ، وما يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند اللّه صدّيقا »
والكذب على ضد ذلك
ففي الحديث : « إيّاكم والكذب فإنّ الكذب يهدى إلى الفجور ، وإنّ الفجور يهدى إلى النّار ، وما يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابا » .
وجوب الجهاد مع رسول اللّه وجزاؤه [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)(2/27)
ج 2 ، ص : 28
المفردات :
ظَمَأٌ عطش نَصَبٌ تعب ومشقة مَخْمَصَةٌ جوع وادِياً مسيل الماء في متعرجات الجبال وأغوار الآكام.
المعنى :
الجهاد في سبيل اللّه أعلى شعبة في الإيمان ، وأقدس عمل يقوم به الفرد ليرد عادية العدو عن وطنه وليرسى قواعد الحق والعدل ، والجهاد مع رسول اللّه شرف كبير ، وسمو عظيم ما كان يصح ولا ينبغي لأحد أن يتخلف عنه خاصة أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب كبعض أفراد قبيلة مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار ، نعم ما كان يصح لهؤلاء وهم سكان عاصمة الإسلام وجيران الرسول والمتمتعون بصحبته أن يتخلفوا عنه ، ويرغبوا بمتاع أنفسهم وراحتهم ، عن بذلها فيما يبذل فيه نفسه الشريفة من الجهاد وتحمل المشاق في سبيل اللّه وكيف يكون ذلك منهم ؟ وفي الحديث « لا يكمل إيمان المرء حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله » .
وللزمخشري عبارة جميلة في تفسير هذه الآية بكشافه .. وهذا النفي يفيد النهى عن التخلف ووجوب الجهاد مع رسول اللّه ، ذلك الوجوب بسبب أن لهم فيه أجرا عظيما ، فلا يصيبهم ظمأ ولا تعب ، ولا مشقة من جوع وألم ، في سبيل اللّه ، إلا كان لهم بذلك صدقة ، ولا يطئون موطئا من أرض الكفر يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو(2/28)
ج 2 ، ص : 29
نيلا من قتل أو أسر أو هزيمة أو غنيمة إلا كتب لهم بذلك كله عمل صالح ، وثواب جزيل يكافئ ما قدموه وزيادة ، إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ !! ولا ينفقون نفقة صغيرة مهما كانت ، ولا كبيرة مهما عظمت ، ولا يقطعون واديا بالسير فيه إلى العدو إلا كتب لهم به الجزاء الأوفى ليجزيهم اللّه أحسن الجزاء على ما كانوا يعملون. فإن الجهاد في اللّه فريضة تحفظ الإيمان ووطن الإسلام ، وليست هناك أمة تترك الجهاد إلا ذلت واستعبدت.
طلب العلم فريضة [سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
المفردات :
طائِفَةٌ جماعة لِيَتَفَقَّهُوا ليتعلموا الفقه والأحكام الشرعية.
لما تعرض القرآن الكريم للمتخلفين عن الجهاد مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم وناقشهم نقاشا عنيفا كشف فيه أستار النفاق ، ولام من تثاقل عن الغزو من المؤمنين ووبخهم على التخلف ، صار المسلمون إذا أرسل النبي سرية من السرايا خرجوا جميعا وتركوا النبي وحده بالمدينة. فنزلت الآية ترتب أمورهم وتنظم جماعتهم ، قال ابن عباس هذه الآية مخصوصة بالسرايا التي يرسلها الرسول ، وما قبلها كقوله تعالى مثلا : ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مخصوصة بحالة النفير العام إذا ما خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للقتال.(2/29)
ج 2 ، ص : 30
المعنى :
وما كان ينبغي للمؤمنين من حيث هذا الوصف أن يخرجوا للقتال جميعا [و هذا في غير النفير العام كما سبق ] أى : في السرايا فإن الخروج فيها فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
فلو لا نفر وخرج للقتال من كل فرقة كبيرة كالقبيلة أو البلد جماعة قليلة يقدر عددها بقدر الظروف والملابسات ، وذلك ليتأتى للمؤمنين في جملتهم التفقه في الدين والوقف على أسرار التنزيل ، فيكون حول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جماعة يتعلمون منه الأحكام ، ويأخذون عنه القرآن حتى إذا ما رجع المجاهدون من الميدان بلغوهم ما نزل من القرآن وأوقفوهم على ما جد من الأحكام ، وذلك كله رجاء أن يحذروا عقاب اللّه ويخافوا بطشه.
ومن هنا نعلم أن الآيات تشير إلى وجوب الجهاد العام إذا ما خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم وكذا الحاكم العام للغزو أى : في حالة التغير العام وهذه تقدر بظروفها أما في غيرها فيخرج للجهاد بعض الشعب لا كله.
وتشير الآية إلى أن تعلم العلم أمر واجب على الأمة جميعا وجوبا لا يقل عن وجوب الجهاد والدفاع عن الوطن واجب مقدس ، فإن الوطن يحتاج إلى من يناضل عنه بالسيف وإلى من يناضل عنه بالحجة والبرهان ، بل إن تقوية الروح المعنوية ، وغرس الوطنية وحب التضحية ، وخلق جيل يرى أن حب الوطن من الإيمان ، وأن الدفاع عنه واجب مقدس. هذا أساس بناء الأمة ، ودعامة استقلالها.
وتشير الآية الكريمة إلى أن غاية طلب العلم هو التفقه في الدين ، وفهم أسراره فهما تصلح به نفس العالم حتى يكون ربانيا وقرآنيا ، وأن أثر ذلك في الخارج هو الدعوة إلى اللّه وإنذار قومك إذا رجعت إليهم ، فتعلمهم ، وتثقفهم ، وتهديهم ، وتربيهم على حب الخير ، وعلى حب العمل والجد ، وأن اللّه يحب المؤمن القوى في نفسه وعقله وخلقه وعلمه وبدنه ، وهذه هي مهمة الرسل الكرام.
وإن وضع الآية التي تشير إلى العلم والتعلم في وسط آيات الجهاد والقتال لمن المعجزات التي كشف عنها هذا العصر. فإن الحروب اليوم تعتمد على العلم والفقه الحربي أكثر مما تعتمد على السلاح.(2/30)
ج 2 ، ص : 31
توجيهات في قتال الكفار [سورة التوبة (9) : آية 123]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
المفردات :
يَلُونَكُمْ يتصلون بكم بالجوار وقرب الديار غِلْظَةً شدة وخشونة.
المعنى :
يا أيها المؤمنون قاتلوا الكفار الذين يدنون منكم ، وتتصل بلادهم ببلادكم فإن القتال شرع في الإسلام لتأمين حرية الدعوة إليه ، وتأمين سلامة دولته مع الحرية في الدين ، وأنه لا إكراه فيه أبدا ، وجبران المسلمين من الروم والفرس والقبائل العربية الخاضعة لهم كثيرا ما كانت تغير على أطراف الدولة الإسلامية ، وتؤلب القبائل ضد الدعوة المحمدية ، ولا تنسى ما فعله اليهود في خيبر وغيرها ، والدعوة الإسلامية أساسها الدعوة إلى الأقرب فالأقرب ، لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فهي وإن كانت دعوة عامة ، وأرسل النبي إلى الناس كافة وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أى : لأنذر العرب به ومن يبلغه القرآن في كل زمان ومكان إلا أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سار هو وأصحابه من بعده على دعوة الأقرب فالأقرب وقتال الأقرب فالأقرب ، ولهذا حكم سياسية واقتصادية وحربية يعرفها أصحاب الحروب والدعوات.
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة وشدة ويقابلوا فيكم قوما أولى بأس وعزيمة حتى تنخلع قلوبهم. وتضطرب نفوسهم فترجع إلى هدى القرآن تتفهمه.
واعلموا أن اللّه مع المتقين يعينهم معونة نصر ومساعدة ، والمتقون اللّه هم المؤمنون(2/31)
ج 2 ، ص : 32
العاملون المخلصون ، العابدون الحامدون ، المحافظون على حدود اللّه الحاكمون بقوانين الإسلام.
المنافقون واستقبالهم القرآن [سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 127]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)
المفردات :
إِيماناً الإيمان هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس المصحوب بالعمل يَسْتَبْشِرُونَ من البشرى وهي السرور والفرح مَرَضٌ شك ونفاق رِجْساً كفرا ونفاقا يُفْتَنُونَ الفتنة الاختبار والابتلاء.
المعنى :
النفاق مرض خبيث يدفع صاحبه إلى العمل الرديء وهكذا كان المنافقون أيام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا ما أنزلت سورة من القرآن وبلغتهم ، فمنهم من يقول لأصحابه من المنافقين(2/32)
ج 2 ، ص : 33
أو لضعفة المؤمنين ، أيكم زادته هذه إيمانا بأن القرآن من عند اللّه وتصديقا بأن محمدا صادق في دعواه ؟ ولا شك أن الإيمان بمعنى التصديق الجازم المقرون بإذعان النفس يزيد بنزول القرآن ، وبسماعه وتلاوته خاصة من النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
قال اللّه - تعالى - جوابا لسؤالهم ، فأما الذين آمنوا حقا باللّه ورسوله ، وحل نور الإسلام في قلوبهم. فزادتهم هذه السورة بل الآية الواحدة إيمانا على إيمانهم ويقينا على يقينهم ، واطمئنانا على اطمئنانهم ، والحال أنهم يستبشرون ويفرحون. وأما الذين في قلوبهم مرض وشك ونفاق دعاهم إلى إظهار الإسلام وإبطال الكفر ، فهذه السورة أو غيرها زادتهم رجسا على رجسهم. وكفرا على كفرهم ، ونفاقا على نفاقهم حتى استحوذ عليهم الرجس والكفر والنفاق وماتوا وهم كافرون.
أيجهلون هذا ويغفلون عن حالهم ؟ وقد توالت عليهم الاختبارات ، وحلت بهم الإنذارات تلو الإنذارات ، التي يظهر بها الإيمان من النفاق ، ويتميز بها الحق من الباطل ، هذه الفتن والاختبارات كانت بالآيات التي هي دالة على صدق الرسول فيما يبلغه عن ربه ، وهذه الآيات التي نصحتهم وكشفت سرهم ، وأبانت حقيقتهم ، أليست هذه نذرا كافية في أنهم يرتدعون عن نفاقهم الباطل ؟
ثم بعد هذا كله لا يتوبون ولا هم يتعظون.
وإذا ما أنزلت سورة على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهم جلوس في مجلسه نظر بعضهم إلى بعض نظر لؤم وخبث ، وأخذوا يتغامزون بالعيون وذلك لفساد قلوبهم وسوء سريرتهم.
ينظرون إلى بعض ثم يقولون : هل يراكم من أحد إذا نحن انصرفنا ثم انصرفوا وخرجوا لواذا متسللين ، تبا لهم ثم تبا.
صرف اللّه قلوبهم عن الخير والنور ، وذلك بأنهم قوم لا يفقهون. نعم لا يفقهون الدعوة وسرها ، وما فيها لأن قلوبهم في أكنة لا يصل إليها نور أبدا ، فهم معرضون يجعلون أصابعهم في آذانهم ، من شدة الحقد ، وفساد الطبع وخبث الطوية ، ألا قاتلهم اللّه أنى يؤفكون ، وهنا فرق بين من يحاول الفهم والحكم الصحيح ، وبين من يعرض ولا يقبل النظر في الآيات أبدا ، والمنافقون من النوع الثاني. أما المؤمنون فإذا تليت عليهم آياته وجلت قلوبهم ، وخضعت أعناقهم ، وغابت نفوسهم عن كل ما حولهم فلا يسمعون إلا القرآن!!(2/33)
ج 2 ، ص : 34
الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ونفسه الكريمة [سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
المفردات :
عَزِيزٌ عَلَيْهِ يقال : عز على فلان الأمر واشتد عليه ما عَنِتُّمْ العنت المشقة ولقاء المكروه حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ الحرص شدة الرغبة في الحصول على المفقود وشدة العناية بحفظ الموجود رَؤُفٌ الرأفة أخص من الرحمة ، وتكون مع الضعف والشفقة والرقة ولذا قالوا : رأف بولده وترأف به. وأما الرحمة فعامة تشمل الجميع ، وقيل : هما بمعنى واحد.
المعنى :
أيها العرب ما لكم لا تسرعون في الدخول إلى الدين أفواجا والتصديق بذلك النبي العربي الأمى ؟ ! فأنتم أولى الناس به. ولذا اختار جمهور المفسرين أن يكون الخطاب في الآية للعرب إذ المنة عليهم أعظم ، والحجة عليهم ألزم.
تاللّه لقد جاءكم أيها العرب رسول منكم تعرفون لغته وخلقه ، وتعلمون من شأنه ما لا يعلمه غيركم ، هذا النبي الكريم موصوف بصفات كلها تدعو إلى تصديقه واتباعه خاصة من العرب ، وهذا لا يمنع أنه أرسل للكل قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [سورة الأعراف الآية 158] وهو رحمة للناس بشيرا ونذيرا.
وصفاته صلّى اللّه عليه وسلّم التي أثبتها له القرآن في هذه الآية :(2/34)
ج 2 ، ص : 35
(أ) عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ، شديد على طبعه الكريم عنتكم ومشقتكم في الدنيا والآخرة إذ هو منكم يتألم لألمكم ويفرح لفرحكم.
(ب) حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ. نعم كان صلّى اللّه عليه وسلّم حريصا على إيمان الناس جميعا خاصة العرب لأن إيمان العرب مدعاة لإيمان غيرهم إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ « 1 » . فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً « 2 » .
(ج) بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وكيف لا يكون كذلك وكل تعاليمه ونصائحه تهدى إلى الخير ، وترنو إلى الإصلاح والرشاد للأمة الإسلامية في العاجل والآجل ، وانظر يا أخى وفقك اللّه إلى قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ « 3 » وإلى قوله هنا : بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ولذا قال الحسين ابن الفضل : لم يجمع اللّه - سبحانه - لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
فإن تولوا واعرضوا عنك بعد هذا كله فقل حسبي اللّه وحده لا إله إلا هو ، عليه وحده توكلت ، واعتمدت ، وفوضت أمرى إليه ، وكيف لا يكون ذلك ؟ وهو رب العرش العظيم - سبحانه وتعالى - .
___________
(1) سورة النحل آية 37.
(2) سورة الكهف آية 6.
(3) سورة البقرة آية 143.(2/35)
ج 2 ، ص : 36
سورة يونس - عليه السلام -
مكية كلها ، وقيل إلا آيتي 94 ، 95 فمدنيتان والصحيح الأول ، وعدد آياتها 109 آية. وفيها مناقشة الكفار في العقائد الدينية وتوجيه النظر إلى آيات اللّه الكونية ، وسرد بعض القصص للعظة والعبرة ، وخاصة موسى مع فرعون ، وما يتخلل ذلك من ذكر لطبيعة الإنسان ، ووصف للدنيا ، وانتقال إلى وصف مشاهد القيامة المؤثرة وما يتبع ذلك من إثبات للبعث ، ووصف للقرآن وأثره في النفوس ومناقشة منكريه.
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)
المفردات :
الر تقرأ هذه الحروف الثلاثة بأسمائها ساكنة غير معربة هكذا : ألف. لام.
را. ، وفيها الأقوال التي في أول سورة البقرة الْحَكِيمِ أى : المحكم أَوْحَيْنا الإيحاء إعلام من خفاء أَنْذِرِ الإنذار إعلام مع التخويف من العاقبة وَبَشِّرِ البشارة إعلام مع التبشير بالثواب قَدَمَ صِدْقٍ المراد سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة ، سميت قدما لأن السعى إلى هذه الفضائل بالقدم كما سميت النعمة يدا ، وإضافتها للصدق لتحققها ، والصدق اسم جامع للفضائل.
المعنى :
هذه الآيات البعيدة الشأو العالية المنزلة التي يتألف منها القرآن الكريم والسورة التي(2/36)
ج 2 ، ص : 37
نحن بصددها هي آيات الكتاب الحكيم صاحبها ، والمحكم أجزاؤها ومعانيها كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود الآية 1].
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ إن هذا لعجب وعجب!! لقد تعجب الكفار من أن يوحى إلى بشر بالرسالة ، وأن يكون المرسل بشرا من عامتهم ليس عظيما من عظمائهم ، وقد قالوا : العجب أن اللّه لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب ، وأن يأتى هذا الرسول فيذكر البعث وينذر به ، ويبشرن المؤمنين بأن لهم الجنة ، فهم جعلوا ذلك أعجوبة لهم ، ونصبوه علما يوجهون إليه استهزاءهم.
والهمزة في قوله : أَكانَ .. الآية. لإنكار تعجبهم بل والتعجب من تعجبهم إذ اللّه لم يرسل رسولا قبل محمد إلا وكان بشرا وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام الآية 9] وقال تعالى : قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا « 1 » فإرسال محمد رسولا وهو بشر لا يدعو إلى العجب ، ويتمه وفقره ليس يدعو إلى العجب إذ اللّه أعلم حيث يجعل رسالته ، والغنى والتقدم في الدنيا وكثرة المال والولد ليس مبررا للرسالة وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى « 2 » .
وأما البعث. والجزاء على الخير والشر فهو أمر طبيعي لازم فكيف يدعو إلى العجب ؟ ! وإنما العجب العاجب هو تعجبكم أنتم من الأشياء التي تدعو العامة مع تخويفهم عاقبة الكفر والمعاصي ، وأوحينا إليه بأن أنذر الناس كافة ، وبشر الذين آمنوا خاصة بأن لهم قدم صدق عند ربهم ، يجزيهم بها في الآخرة أحسن الجزاء.
وماذا قال الكافرون وأجابوا به الرسول ؟ قال الكافرون : لما رأوا القرآن وأثره في القلوب ، وفعله في النفوس حتى فرق بين المرء وأخيه ، وأمه وأبيه ، وزوجه وبنيه قالوا :
إن هذا إلا سحر يؤثر ، وما صاحبه محمد إلا ساحر.
___________
(1) سورة الإسراء آية : 95. [.....]
(2) سورة سبأ آية : 37.(2/37)
ج 2 ، ص : 38
وقد ظهر للعرب ولغيرهم أن القرآن ليس سحرا وإنما هو وحى وإلهام ، وحكم وآداب ، وتشريع وقضاء ، وسياسة واجتماع ، وعلم وخلق اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ « 1 » .
المظاهر الكونية ودلالتها على أصول الإيمان [سورة يونس (10) : الآيات 3 الى 6]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
___________
(1) سورة الزمر : 23.(2/38)
ج 2 ، ص : 39
أنكر القرآن الكريم في الآية السابقة على المشركين تعجبهم من إيحاء اللّه إلى رجل منهم ينذر الكافر بالعقاب ، ويبشر المؤمن بالثواب ، وفي تعجبهم إنكار له وكفر به وقد قالوا : إنه ساحر مبين ، فيرد اللّه عليهم بهذه الآية.
للدين الإسلامى أصلان مهمان : أولهما : التوحيد الخالص لله في العبادة والدعاء ، وثانيهما : إثبات البعث والجزاء.
وها هي الآية لإثبات الأصل الثاني بعد أن تكلم القرآن على الأول.
هذا بيان لبعض نواحي الإجمال في الآية الثالثة من هذه السورة : الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ. لتوضيح الدلالة على كمال قدرته وأنه الواحد الأحد المعبود بحق ..
المعنى :
إن ربكم هو اللّه لا إله غيره ، الذي خلق العالم السماوي وما فيه ، مما لا يعلمه إلا هو ، وخلق العالم الأرضى ، ولا يعلم ذراته إلا هو ، خلق كل ذلك في ستة أيام لا يعلم تحديد زمنها إلا هو [اليوم يطلق في اللغة على جزء من الزمن ].
ثم استوى على عرشه استواء يليق بعظمة هذا الملك وصاحبه ، استواء لا يعلمه إلا هو وعرشه كرسيه أو مركز تدبيره ، وفي الحقيقة لا يعلم كنهه إلا هو - سبحانه وتعالى ثم استوى على عرشه يدبر أمر ملكوته بما يتناسب مع جلاله ، وكماله وعمله وحكمته ، والتدبير والنظر في أدبار الأمور وعواقبها وما تنتهي إليه.
ووجه الرد بهذه الآية على منكري النبوة ، أن اللّه - سبحانه - خالق الأكوان ، وفاطر السموات والأرض على هذا النظام البديع المحكم ، المستوي على عرشه المدبر لأمر ملكوته وحده دون سواه ، لا يستبعد منه أن يفيض بما شاء من علمه على البشر من خلقه ليهدى الناس إلى سواء السبيل ، ويرشد الضال إلى الصراط المستقيم ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر قدرته وتدبيره وحكمته.
فيجب الإيمان بهذا الوحى وتصديق صاحبه ، والإيمان بكل ما جاء به ، ليس هناك شفيع يشفع يوم القيامة إلا من بعد إذنه ، ولا يشفع إلا لمن ارتضى يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ(2/39)
ج 2 ، ص : 40
الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا
[طه : 109] ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً [الزمر : 44] هذه حقائق ترد على المشركين اعتقادهم في الشفاعة لآلهتهم ، وكيف يتكلمون في الشفاعة يوم القيامة ، وهم لا يؤمنون به!! ذلكم الكبير المتعال ، الخالق المدبر لهذه الأكوان الذي لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه هو اللّه ربكم لا إله غيره ولا معبود سواه ، فاعبدوه وحده ، ولا تشركوا معه إلها غيره ، ولقد كان العرب يؤمنون بوحدة الربوبية :
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ الآية 38 من سورة الزمر. ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية ، لذلك عالج القرآن هذا بقوله :
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [سورة يونس الآية 3].
أتجهلون هذا الحق الواضح ؟ فالله هو الذي خلق السموات والأرض وحده واستوى على العرش يدبر الأمر يفصل الآيات ، لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ، وأن صاحب هذا كله هو ربكم فاعبدوه وحده ، أتجهلون ذلك أفلا تذكرون ؟ !! إلى اللّه وحده دون سواه مرجعكم جميعا بعد الموت ، لا يتخلف منكم أحد أبدا ، وعد اللّه هذا وعدا حقا.
إنه يبدأ الخلق كله ، وينشئه عند تكوينه ، ثم يعيده في النشأة الأخرى ، فأما بدؤه فقد حصل بلا نزاع ، وأما إعادته فدليلها أن القادر على البدء والتكوين من غير مثال سابق قادر بلا شك على إعادة الحياة بعد الموت : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. [سورة الروم الآية 27].
وإذا كانت الإعادة ليجزي الذين آمنوا بالله والنبي وما أنزل عليه ، ليجزيهم بالقسط والعدل ، فيعطى كل عامل حقه من الثواب ، لا يظلمه شيئا : وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء الآية 47].
وهذا لا يمنع التفضل بمضاعفة أجر المحسنين : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [سورة يونس الآية 26] فالحسنى جزاء والزيادة تفضل من الرحمن الرحيم.
وأما الذين كفروا باللّه وأنكروا البعث وتعجبوا من إرسال بشر لهم ينذرهم ويبشرهم(2/40)
ج 2 ، ص : 41
فأولئك جزاؤهم بعد البعث شراب ماء ساخن يشوى البطون ، بئس الشراب شرابهم ، ولهم بعد ذلك عذاب مؤلم للغاية ، بما كانوا يكفرون.
هو اللّه - سبحانه - الذي جعل الشمس ضياء للكون ، ومصدر للحياة ، ومبعثا للحرارة والحركة للكائن الحي من حيوان ونبات ، وجعل القمر نورا يستضيء به السارى في الليل ، وقدر له منازل لتعلموا عدد السنين والحساب.
ولقد كان للعلماء أبحاث عن الضوء والنور ، وآراء لسنا في حاجة إلى ذكرها بعد ما ثبت علميا أن الشمس مصدر النور ، فالشعاع الواقع منها على الأرض مباشرة هو ضوؤها ، والواصل إلينا بعد انعكاسه على القمر [و هو جسم مظلم ] يسمى نورا فنور القمر من الشمس عن طريق الانعكاس كالمرآة.
والقرآن فرق بين الشمس والقمر في كثير : وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً « 1 » . وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً « 2 » والسراج ما كان نوره من ذاته ، وهذا يؤيد من يقول : إن الضوء ما كان بالذات كالشمس والنار ، والنور ما كان بالعرض والاكتساب من النير كنور القمر ، وعلى العموم فالواجب معرفته واعتقاده أن تعبير القرآن الكريم لأسرار إلهية قد تخفى علينا حينا من الدهر ، ويكشف عنها العلم والبحث ، وليس معنى هذا الجري وراء الاصطلاحات العلمية إذا تعارضت مع النص القرآنى ، فالعلم نظرياته قد تسلم اليوم ، وتنقض غدا.
قدر اللّه للقمر مقادير مخصوصة في الزمان والمكان والهيئة ، لا يتعداها أبدا ومنازل القمر أماكن نزوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ « 3 » أى :
قدره لسيرة في فلكه ، في منازل ينزل كل ليلة منها لا يتخطاها أبدا [و هي معروفة في علم الفلك ] هذا لتعلموا به عدد السنين والحساب للأشهر والفصول والأعوام ، وذلك لضبط عبادتكم من صيام وحج ومعاملات ، ولعل السر في اختيار القرآن السنة القمرية والحساب بها لأنه أسهل على البدوي والحضري وأما السنة الشمسية فحسابها يحتاج إلى علوم وقواعد ، ولكل فائدة.
ما خلق اللّه ذلك إلا بالحق ، نعم ما خلق هذا الكون ، وجعل فيه الشمس ذات
___________
(1) سورة نوح آية 16.
(2) سورة الفرقان آية 61.
(3) سورة يس آية 39.(2/41)
ج 2 ، ص : 42
الضياء والحرارة التي تفيض على الكون حياة ونورا. وما خلق القمر ونوره الذي يهدى السارى ويوقفنا على الزمن وحسابه ، ما خلق ذلك كله إلا بالحق المقرون بالحكمة العالية لنظامنا في الحياة.
وكيف يتصور من خالق الأكوان ، وواهب الوجود وخالق الشمس وضيائها والقمر ونوره ، على هذا النظام البديع المحكم ، أن يترك الإنسان الذي كمله بالعقل والبيان وكرمه على جميع خلقه أن يتركه بلا حساب ولا ثواب ؟
تفصل الآيات الكونية الدالة على عظمتنا وقدرتنا ، والآيات القرآنية ، تفصل ذلك كله وتجليه ، ولكن لا يهتدى به إلا القوم العالمون الذين يعلمون وجوه الدلالة ويميزون بين الحق والباطل.
إن في اختلاف الليل والنهار ، وتعاقبهما طولا وقصرا ، وحرارة وبرودة ونظامهما الدقيق وكون الليل لباسا والنهار معاشا ، وإن في خلق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا يحيط بها إلا خالقها ، إن في هذا وذاك لآيات واضحات على قدرة اللّه وحكمته وعظمته وكمال علمه ، ولكن هذه الآيات لقوم يتقون اللّه ويؤمنون بالغيب ، أما الماديون الطبيعيون فلا يعتبرون بذلك أبدا. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ « 1 » .
المؤمن والكافر وعاقبة كل [سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
___________
(1) سورة يوسف الآية 105.(2/42)
ج 2 ، ص : 43
المفردات :
لا يَرْجُونَ لا يتوقعون لقاءنا مَأْواهُمُ ملجأهم الذي يلجئون إليه ، هذا توضيح لما سبق في آية 4.
المعنى :
إن الذين لا يتوقعون لقاءنا في الآخرة للحساب لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء ، هؤلاء لا يخافون عذاب اللّه ، ولا يرجون ثوابه ، وقد رضوا بالحياة الدنيا ونعيمها بدل الآخرة وما فيها ، واطمأنوا بها لسكون أنفسهم إلى شهواتها ولذاتها ، والذين هم عن آياتنا القرآنية وآياتنا الكونية غافلون فلا يتدبرون ، ولا يتعظون ، أولئك - والإشارة للفريقين - ، وما فيها من معنى البعد لبعد مكانتهم في الضلال ، أولئك مأواهم النار ، وملجأهم الذي يلجئون إليه ، سبحانك يا رب!! النار يوم القيامة هي ملجأ الكافر والويل كل الويل لمن تكون النار مأواه وملجأه.
وذلك بما كانوا يكسبون من أعمال كلها تتنافى مع العقل والحكمة والدين .. هذا جزاء الفريق الكافر أما المؤمن فهذا جزاؤه.
إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسله ، وعملوا الصالحات الباقيات يهديهم ربهم إلى الخير والسداد ، والهدى والرشاد ، يهديهم ربهم إلى كل عمل يوصل إلى الجنة التي وصفها بقوله : تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وهذا مثل للراحة والسعادة والهدوء في الجنة وقد تقدم كثيرا.(2/43)
ج 2 ، ص : 44
دعواهم فيها سبحانك اللهم ، وتحيتهم فيها سلام ، وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين : أوصاف ثلاثة ، وكلمات ثلاث تبين لنا كيف يتنعم أصحاب الجنة ..
فدعاؤهم ، وطلبهم من المولى ، وثناؤهم عليه - سبحانه - يبدءونه بهذه الكلمة :
سبحانك اللهم على معنى تنزيها لك وتقديسا لجلالك يا اللّه.
وأما التحية فيها بينهم وبين أنفسهم ، وبينهم وبين الملائكة ، وتحية اللّه لهم هي :
سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الصابرين.
وآخر دعواهم في كل حال لهم : أن الحمد للّه رب العالمين ..
من طبائع الإنسان وغرائزه [سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 14]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
المفردات :
يُعَجِّلُ تعجيل الشيء تقديمه على أوانه المضروب له ، والاستعجال به طلب(2/44)
ج 2 ، ص : 45 التعجيل في طغيانهم مجاوزة الحد يَعْمَهُونَ يترددن الضُّرُّ الشدة من ألم أو خطر أو شدة مسغبة لِلْمُسْرِفِينَ الإسراف تجاوز الحد الْقُرُونَ جمع قرن وهم القوم المقترنون في زمان واحد خَلائِفَ جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أى : يكون خليفة له.
المعنى :
العجلة من غرائز الإنسان وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا « 1 » فهو دائما يتعجل الخير لأنه يحبه ، ولا يتعجل الشر إلا في حال الغضب والحماقة والعناد والتعجيز ، ظنا منه أن ما أقدم عليه خير مما هو فيه كالمنتحر.
ولو يعجل اللّه للناس الشر الذي يستعجلونه مخالفين طبعهم وغريزتهم ، مدفوعين بدافع الجهالة والحماقة والتعجيز كاستعجال كفار مكة للعذاب وإلحاحهم في نزوله تعجيزا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتكذيبا له ، وذلك حينما قص عليهم القرآن نبأ المكذبين من أقوام الرسل السابقين وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ « 2 » . وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ « 3 » .
ولو يعجل اللّه للناس إجابة الشر الذي يطلبونه كاستعجالهم بالخير الذي يرغبونه لذاته بدعاء اللّه - تعالى - أو بأخذهم بالأسباب ، لقضى إليهم أجلهم ، وانتهى أمرهم وهلكوا كما هلك الذين كذبوا الرسل ، واستعجلوا العذاب من قبل. ولكن اللّه رحم العالم كله بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم خاتم النبيين ، المرسل رحمة للعالمين إلى يوم القيامة ، وقضى بأن يؤمن به العرب من قومه وغيرهم ومن يكفر يعاقبه اللّه بالقتل أو يؤخره إلى يوم القيامة ، وهذا معنى قوله : فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم وضلالهم يعمهون ويترددون ، أما عذاب الخسف والاستئصال فمنعه عنا إكراما لنبينا صلّى اللّه عليه وسلم.
وهاك بيان لغريزة الإنسان العامة وشأنه فيما يمسه من الضر.
___________
(1) سورة الإسراء آية 11.
(2) سورة الرعد آية 6.
(3) سورة الأنفال آية 32.(2/45)
ج 2 ، ص : 46
وإذا مس الإنسان الضر من ألم أو خطر أو شدة ، دعانا واتجه إلينا مضطجعا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، دعانا ملحا في كشفه عنه ، ومن هنا يعلم أن استعجال الكفار للشر من طغيانهم فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه.
مثل ذلك الذي عرفت من اتجاه إلى اللّه في الشدة وتركه في الرخاء زين للمسرفين ما كانوا يعلمونه.
وهكذا الإنسان يستعجل الشر ، ولا يلجأ إلى اللّه إلا في الشدة والضر إن الإنسان كان ظلوما جهولا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر الآية 3].
هكذا الإنسان وتلك سنة اللّه في الأمم ، ولن تجد لسنته تبديلا فاعتبروا يا أولى الأبصار ، وانظروا يا أهل مكة ، ماذا أنتم فاعلون ؟ !! تاللّه لقد أهلكنا الأمم التي مضت من قبلكم يا كفار مكة ، وكانوا أكثر منكم قوة لما ظلموا أنفسهم بالبغي والطغيان ، وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات التي تكشف لهم عن حقيقة الدنيا ، والتي تناديهم بوجوب اتباع الرسل الكرام ، وما كانوا ليؤمنوا لأن نفوسهم مرنت على الظلم والكفر ، واطمأنوا إلى الدنيا ، ومالوا إليها فصارت أعمالهم كلها فسقا وظلما وجورا ، ومن كان كذلك لا يتصور منه إيمان ، مثل ذلك الجزاء على الظلم من الإهلاك وإنزال عذاب الاستئصال ، أو ضياع الأمة بالضعف والانحلال نجزى القوم المجرمين ، وهكذا سنة اللّه في الخلق فاعتبروا يا أهل مكة ثم جعلناكم يا أمة محمد - أمة الدعوة - خلفاء لمن تقدمكم ، وأرسلنا لكم محمدا خاتم النبيين لننظر كيف تعملون ؟ وسنجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ..
من أوهام المشركين والرد عليهم [سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 18]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)(2/46)
ج 2 ، ص : 47
المعنى :
لون من ألوان خداعهم ومكرهم بالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وهو أن يطلبوا منه أن يأتى بقرآن غير هذا ، أو يبدله ، والذي دفعهم إلى هذا كفرهم وعجزهم عن أن يأتوا بمثله ، ولقد مكروا ، ومكر اللّه ، ولقنه الجواب وهو خير الماكرين.
أرسل اللّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الناس كافة ، ودعا قومه العرب إلى دينه طالبا منهم التوحيد ، ومنذرا لهم ومبشرا ، وفي يمينه القرآن المعجزة الباقية ، والحجة الدامغة وقد تحدى العرب به بأسلوب مثير لهم ، تحداهم بعشر سور أو بسورة منه فعجزوا مجتمعين ، وفيهم الفصحاء والشعراء والخطباء قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً « 1 » ، والقرآن لا
___________
(1) سورة الإسراء آية 88.(2/47)
ج 2 ، ص : 48
يكف عن تسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم ، وقد غاظهم ذلك كله ، وفيهم حب المغالبة وشهوة السبق فماذا يعملون ؟ ! ؟
قالوا : يا محمد ائتنا بقرآن غير هذا ليس فيه ذمنا وذم آلهتنا ، أو بدل هذا القرآن أى : وعده ووعيده وحلاله وحرامه ، وذمه ومدحه. إن فعلت ذلك فنحن معك يقصدون إن فعل محمد ذلك فقد هدم أساس دعوته ، وقوض صرح حجته إذ هو يدعى أنه من عند اللّه لا من عنده فإذا غير فيه وبدل ثبت أن القرآن من عنده وهو بشر مثلهم أعطى قوة خارقة للعادة كالسحرة والكهان ، ولكن اللّه أمره أن يجيب بهذا الجواب المسكت.
قل لهم : ما يكون لي وما يصح منى أن أبدله أبدا من تلقاء نفسي!! إذ ما أنا إلا رسول ، وما هو إلا وحى يوحى ، ولا أتبع إلا ما يوحى إلى من عند ربي ، على أنى أخاف إن عصيت ربي بالتبديل في كلامه عذاب يوم عظيم هوله شديد وقعه على.
وفي الإجابة على الإتيان بقرآن غير هذا أمره اللّه بما يأتى :
قل لهم : لو شاء اللّه ما تلوته عليكم أبدا ، ولا أعلمكم به فالمسألة ترجع إلى مشيئة اللّه لا مشيئتى ، وما شاء اللّه كان ، لا راد لحكمه ، ولا معقب لقضائه ومالكم تذهبون بعيدا ؟ فقد لبثت فيكم عمرا من قبل هذا القرآن [أربعين سنة] لم أجلس إلى معلم ، ولم أقرأ كتابا ، ولم أدرس في جامعة وأنا أمى في وسط أمى ، لم أقل كلاما مثله في هذا الزمن الطويل (قبل النبوة) فهل يعقل أن يكون هذا كلامي. يا قومي أغفلتم عن هذا كله فلا تعقلون ؟ !! ولا أحد أظلم من رجلين : أحدهما : افترى على اللّه كذبا ، والثاني : كذب بآياته البينة ، ولا غرابة في هذا الحكم إنه لا يفلح الظالمون أبدا.
كانت العرب في جاهليتهم ذات أديان مختلفة ، ومذاهب في العبادة متشعبة إلا أنها كلها تجتمع في الإشراك وعدم الوحدانية الخالصة لله - سبحانه - كان منهم من تهود(2/48)
ج 2 ، ص : 49
كبعض قبائل اليمن ، ودخل آخرون في النصرانية كالغساسنة والتغلبيين ، وكان بنجران بقايا من أهل دين عيسى - عليه السلام - وتهود قوم من الأوس والخزرج لمجاورتهم خيبر وقريظة والنضير ، ومنهم من كان يميل إلى الصابئة ، ويقول : مطرنا بنوء كذا ، ومن أنكر الخالق والبعث وقالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، ومنهم قوم - ويظهر أنهم الأكثرية - اعترفوا بالخالق وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ « 1 » وأنكروا البعث ، وعبدوا الأصنام وهي لا تنفع ولا تضر إذ هي حجارة أو أجسام مصنوعة ، وقالوا : ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى « 2 » . وعبادتهم كانت بتقديسهم لها والذبح عندها ، واختصاصها بأنواع من الحيوان فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [سورة الأنعام آية 136].
وكانوا يعبدون الأصنام بتعظيم هياكلها ، والإهلال عند الذبح لها ، وبدعائها والاستعانة بها قائلين : هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه يقربوننا إليه زلفى ، روى أن النضر بن الحارث قال : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى.
قل لهم : منكرا عليهم ذلك أتخبرون اللّه بما لا يعلم في السموات والأرض ؟ ونفى العلم دليل على عدم وجود هؤلاء الشفعاء والشركاء للّه - سبحانه وتعالى - عما يشركون!!
هكذا فطر اللّه الناس [سورة يونس (10) : آية 19]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
المعنى :
وما كان الناس في كل زمن إلا أمة واحدة تسير على هدى الفطرة وتأتيهم
___________
(1) سورة الزخرف آية 9.
(2) سورة الزمر آية 3.(2/49)
ج 2 ، ص : 50
الرسل تردهم إلى حياض الإيمان بالله ، وإلى الاعتقاد في يوم القيامة ، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك ، وتعددت بهم السبل ، فبعضهم آمن واهتدى. والآخر ضل واعتدى ، وذلك لأن في الإنسان دوافع الخير والشر فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ « 1 » ومثل هذه الآية قوله - تعالى - كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ .. [سورة البقرة آية 213].
وبعض العلماء يرى أن المعنى : وما كان الناس إلا أمة واحدة على الإسلام والدين الحنيف فطرة وتشريعا ، وأن الشرك وفروعه « جهالة حادثة ، وضلال مبتدع » واللّه أعلم.
ولو لا كلمة سبقت من ربك ، وقضاء محكم حكم به إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ « 2 » لو لا هذا لقضى بينهم فيما فيه يختلفون ، ولعجل لهم العذاب بما كانوا يعملون ، وفي هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبيان لطبع الإنسان.
اقتراح المشركين آيات كونية [سورة يونس (10) : آية 20]
وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
المعنى :
وهذه جناية أخرى من جنايات المشركين وكفار مكة ، فهم يعجبون من الوحى لبشر مثلهم. ويقولون ائتنا بقرآن غير هذا أو بدله ، وهم يعبدون من دون اللّه شركاء ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه.
وبعد هذا كله يقولون : لو لا أنزل اللّه عليه آية من ربه غير ما نزل عليه من الآيات الباقيات البينات وهي آيات القرآن الكريم.
حكى القرآن عنهم في أكثر من موضع هذا الطلب ورد عليهم تارة بالإجمال كما هنا وطورا بالتفصيل.
___________
(1) - سورة هود آية 105.
(2) سورة يونس آية 93. [.....](2/50)
ج 2 ، ص : 51
يقولون : هلا أنزلت عليه آية كونية كالتي كانت تنزل على الأمم السابقة التي يحكى لنا قصصها مع أنبيائها!! فيلقنه اللّه الجواب فقل لهم : إنما الغيب للّه وحده فكل ما غاب فهو للّه ومنه الآيات المقترحة ، وإنما أنا رسول من عنده أبلغكم ما أنزل إليكم ، ولا أدرى ما يفعل بي ولا بكم ، فانظروا حكمه وقضاءه فيكم ، إنى معكم من المنتظرين ما قدر لي فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [سورة يونس الآية 102].
هكذا طبع الإنسان وخلقه [سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 23]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
المفردات :
أَذَقْنَا الذوق إدراك الطعم بالفم ، واستعمل مجازا في إدراك غيره ضَرَّاءَ(2/51)
ج 2 ، ص : 52
من الضر وتقابل السراء. مَكْراً التدبير الخفى الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسبه ولا يتوقعه ، وهو حسن وسيئ. يُسَيِّرُكُمْ السير الانتقال من مكان إلى آخر ، والتسير جعل الشيء ينتقل بنفسه أو بدابة أو مركب. عاصِفٌ المراد : ريح شديدة قوية تعصف بالأشياء وتكسرها يَبْغُونَ أصل البغي طلب ما زاد على القصد والاعتدال إلى الإفراط المفضى إلى الفساد والظلم.
المعنى :
هذه الآيات الكريمة تكشف لنا عن غرائز الإنسان وطبائعه التي لا تتغير تبعا للزمان والمكان ، وهي تشير إلى الرد على الكفار الذين يطلبون الآيات الكونية حيث إنهم لا يعتبرون ولا يتعظون.
وإذا أذقنا الناس رحمة وفضلا من عندنا من بعد ضراء ، ألم بهم ألمها وبؤسها إذ الشعور بالنعمة عقب زوال البؤس والشدة أكمل وأتم.
ما كان منهم إلا أن أسرعوا بالمفاجأة بالمكر في مقام الحمد والشكر ، وهكذا الإنسان ، إذا أصابه المطر بعد الجدب والشدة قال : مطرنا لأنا في فصل الأمطار.
وإذا نجا من مكروه حاق به قال : نجوت بالمصادفة ، ولقد فعل فرعون وقومه ذلك كما فعل مشركو مكة بعد قحط وجدب أصابهم ثم سألوا النبي الدعاء لإزالته فكشفه اللّه عنهم وما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا ومكرا وفسادا ، كما ثبت ذلك في حديث عبد اللّه بن مسعود الذي رواه الشيخان.
ألست معى في أن مكرهم في آيات اللّه بالطعن فيها ، والاحتيال في دفعها وعدم الاعتداد بها ، قل لهم يا محمد : اللّه أسرع مكرا ، وأعجل عقوبة على مكركم ، وعذابه أسرع وصولا إليكم مما تفعلونه لدفع الحق ، وإطفاء نور اللّه ، ولا غرابة في ذلك إن رسلنا والحفظة من الملائكة يكتبون ما تفعلونه مكرا وتدبيرا ، وفي هذا إشارة إلى تمام الحفظ والعناية حتى لا يغادر الكتاب صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقد ضرب اللّه مثلا لهؤلاء المعاندين هو أبلغ أمثال القرآن.(2/52)
ج 2 ، ص : 53
هو الذي يمكنكم من السير والانتقال بما أودع فيكم من القدرة على ذلك وبما أعطاكم من دابة أو مركب كالسيارة ، والقطار ، والسفينة تجرى في البحر.
حتى إذا كنتم في الفلك (السفينة) وجرت بكم في البحر بسبب ريح طيبة مواتية لهم في جهة السير وفرحوا بها جاءتها ريح شديدة قوية ، ولاقتها ريح تعصف بالأشياء وتكسرها وجاءهم الموج من كل مكان ، والمراد اضطراب البحر وأنه أرغى وأزبد ، وظنوا أى : اعتقدوا أنهم مغرقون وهالكون بإحاطة الموج بهم كإحاطة العدو اللدود.
إذا كان هذا دعوا اللّه والتجئوا إليه مخلصين له في الدعاء والعبادة ، ولم يتوجهوا إلى آلهتهم وأوثانهم التي يشركون بها ، وذلك طبع الإنسان وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ الآية 12 من هذه السورة.
ماذا قالوا في دعائهم ؟ قالوا : لئن أنجيتنا يا رب من هذه لنكونن من الشاكرين ، ولا نكفر ولا نشرك بك شيئا لا ينفع ولا يضر ، فلما نجاهم مما هم فيه أسرعوا بالمفاجأة يبغون في الأرض كلها بغير الحق ، يظلمون ويعبثون في الأرض الفساد ، وبغيهم بغير حق قطعا ، ولعل السر في تقيده بهذا أنهم يفعلونه معتقدين أنه بغير حق.
يا أيها الناس : انتبهوا إنما بغيكم وجزاؤه على أنفسكم في الدنيا ، وأنتم تتمتعون به متاعا زائلا لا أساس له إذ هو في الحياة الدنيا. وأما نتيجة البغي في الآخرة فاللّه يقول : إلينا مرجعكم يوم القيامة يوم الفصل والجزاء فيجازيكم عليه الجزاء الأوفى بسبب ما كنتم تعملون.
المثل البليغ للحياة الدنيا [سورة يونس (10) : آية 24]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)(2/53)
ج 2 ، ص : 54
المفردات :
مَثَلُ المثل : الصفة العجيبة التي تشبه في غرابتها المثل زُخْرُفَها الزخرف : كمال حسن الشيء ومنه قيل للذهب زخرف لَمْ تَغْنَ يقال غنى بالمكان أقام به وعمره.
المعنى :
تقدم ذكر البغي وجزائه في الدنيا والآخرة ، وكان من أسبابه حب الدنيا والاغترار بها ، فناسب ذكر الدنيا وضرب الأمثال لها ليعتبر العاقل ، ويتعظ المؤمن.
إنما مثل الحياة الدنيا في سرعة انقضائها ، وزوال نعيمها ، وأنها تعطى لتأخذ ، وتحلى لتمر ، وتمنح لتسلب ، إنما مثلها وحالها كحال نبات الأرض الذي ينمو ويزدهر ويتشابك بعضه مع بعض بسبب ماء السماء الذي لا فضل لأحد فيه ، هذا النبات المزدهر مما يأكل الناس من قمح وشعير وذرة وغيره ، ومما يأكل الأنعام من كلأ وحشائش ، وما زال النبات ينمو ويزدهر حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ، واستوفت زينتها من سندس أخضر ، وزهر أحمر وأصفر ، وأغصان شامخة ، وثمار يانعة ، وما أروع التركيب حيث شبه الدنيا بعروس بالغت في تزينها بالثياب والزينة حتى كمل لها ما أرادت. وهكذا الدنيا قبيل قيام الساعة.
وظن أهلها أنهم قادرون عليها متمكنون منها ، أغنياء بثمرها وغلتها حتى إذا حصل هذا كله أتاها أمرنا وقضاؤها ليلا أو نهارا. عشية أو ضحاها فجعلناها كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها ، كأن لم تكن بالأمس ، والمعنى : هلكت فجأة فلم يبق من زرعها شيء.(2/54)
ج 2 ، ص : 55
كهذا المثل في جلاله ووضوحه وتمثيله لحقيقة الدنيا وغرور الناس بها وسرعة زوالها عند تعليق الآمال بالنبات الغض الذي ينزل عليه ماء السماء فيزدهر وينمو ، وتزدان به الأرض حتى إذا ظن أهله وأصحابه أنهم قادرون عليه ومتمكنون منه يأتي أمرنا فيكون حصيدا كأنه لم يكن شيئا مذكورا.
مثل هذا نفصل الآيات في حقائق التوحيد وإثبات الجزاء وإحقاق الحق ولكن لقوم يتفكرون ويستعملون عقولهم.
ترغيب في الجنة وتنفير من النار [سورة يونس (10) : الآيات 25 الى 27]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)
المفردات :
دارِ السَّلامِ هي الجنة وَلا يَرْهَقُ
يلحق ومنه غلام مراهق ، أى لحق بالرجال. وقيل يغشى قَتَرٌ أى : غبار ذِلَّةٌ ذل أُغْشِيَتْ ألبست.
هذا ترغيب في الجنة والحياة الأخروية بعد التنفير من الحياة العاجلة بضرب الأمثال لها ، والذي يدعو إلى الدنيا وعرضها هو الشيطان ، والذي يدعو إلى الجنة ونعيمها هو الرحمن.(2/55)
ج 2 ، ص : 56
المعنى :
واللّه يدعو إلى دار السلام ، بطلبه من الناس جميعا الإيمان ، والعمل الصالح الذي يوصل صاحبه إلى دار السلام وهي الجنة فأصحابها يسلمون من جميع الشوائب ، والمتاعب والمخاوف ، وتحيتهم فيها السلام ، وهي دار السلام - جل شأنه - ، ودعاؤه إلى دار السلام وأمره بالإيمان عام للكل ، وأما الهداية فنوعان : هداية دلالة وإرشاد وهي للجميع « الدعوة للإسلام » ، وهداية توفيق وهي خاصة ، يهدى من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم ، أى : يوفق من يشاء إليه.
وها هي ذي صفة من هداهم ربهم إلى صراط الإسلام فوصلوا إلى دار السلام.
للذين أحسنوا في العمل المثوبة الحسنى التي تزيد في الحسن على إحسانهم وتشمل المضاعفة للحسنة بعشر أمثالها أو أكثر ، وأما الزيادة فقيل : هي النظر إلى الوجه الكريم.
ورؤية المولى - جل شأنه - بهذا نطق الحديث الشريف ، وقيل : المراد بالحسنى الجنة والزيادة المضاعفة ولا حرج على فضل اللّه.
ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، ولا يلحق وجوههم الكريمة دخان من سيّئ الأعمال ولا مذلة.
أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة الملازمون لها هم فيها خالدون.
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة مثلها ، جزاء وفاقا لا يزيدون ولا ينقصون من العذاب شيئا ، وتغشاهم ذلة الفضيحة ، وخزي الظلم والفجور والعمل السيئ ، مالهم عاصم يعصمهم من عذاب اللّه كالشركاء والشفعاء الذين اتخذوهم أولياء : يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [سورة الانفطار آية 19].
كأنما ألبست وجوههم قطعا من سواد الليل البهيم حالة كونه مظلما فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.
أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون ، وفي هذا(2/56)
ج 2 ، ص : 57
المعنى ما سبق في سورة الأنعام : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام : 160] ، وما في سورة عبس. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ. [عبس 38 - 42].
من مشاهد يوم القيامة [سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 30]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
المفردات :
فَزَيَّلْنا فرقنا وقطعنا ما بينهم من صلات تَبْلُوا تذوق وتختبر أَسْلَفَتْ قدمت.
المعنى :
يتكرر في القرآن الكريم التكلم على البعث والجزاء ومشاهد يوم القيامة بألوان مختلفة ، وأساليب متعددة. وهذا مشهد من مشاهدها :
يوم نحشر هؤلاء وهؤلاء من المؤمنين والكافرين ليوم الحساب ، ثم نقول للمشركين :
الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ « 1 » فزيلنا بينهم ، وفرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع اللّه وقطعنا ما بينهم من أسباب الصلة والمودة.
___________
(1) سورة الصافات آية 24.(2/57)
ج 2 ، ص : 58
وقال شركاؤهم لما رأوا ما هم فيه : ما كنتم إيانا تعبدون أى : ما كنتم تخصوننا بالعبادة ومن حق العبادة قصرها على المعبود دون سواه فهم يتبرءون منهم ومن عبادتهم ، فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم فهو العليم بحالنا وحالكم إننا كنا في غفلة عن عبادتكم ، لا ننظر إليها ولا نفكر فيها ولا نرضى عنها.
هنالك يوم القيامة تختبر كل نفس من عابدة ومعبودة ، وظالمة ومظلومة في ما قدمت في حياتها الدنيا من عمل ، وهكذا كل نفس تذوق عاقبة أعمالها إن خيرا وإن شرا.
وردوا إلى اللّه مولاهم الحق لا إلى غيره ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ويختلفون من الشركاء والأوثان ، إذ الأمر يومئذ لله - سبحانه وتعالى - .
نقاش مع المشركين لإثبات التوحيد وبطلان الشرك [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 36]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)(2/58)
ج 2 ، ص : 59
المفردات :
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كيف تصرفون عن الإيمان إلى غيره ، حَقَّتْ ثبتت تُؤْفَكُونَ تصرفون عن الحق إلى الباطل لا يَهِدِّي أي : لا يهتدى وهذا احتجاج أخر على المشركين بأسلوب آخر ، وهو يقتضى إثبات التوحيد والبعث ، وذم الظن الذي لا يغنى بدل الحق شيئا.
المعنى :
قل يا أيها الرسول : لهؤلاء المشركين مع اللّه غيره : من يرزقكم من السماء والأرض ؟ ! من ينزل من السماء المطر ؟ ومن يحيى الأرض بالنبات الذي تأكلون منه أنتم وأنعامكم ؟
أم من يملك السمع والأبصار ؟ أم بمعنى بل - للإضراب الانتقالى من سؤال إلى آخر - والمعنى بل قل لهم : من يملك السمع والأبصار ؟ ! من يملك خلقهما على هذا النمط البديع والتركيب الغريب ؟ ومن يملك حفظهما من الآفات ؟ ولقد خص السمع والبصر لأنهما طريق العلم والإدراك ؟ وفي جهاز السمع والبصر الأعاجيب.
ومن يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ؟ ولقد كان القدامى يفهمون الآية فهما بسيطا. فاللّه يخرج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة ، ويخرج النطفة من الإنسان ، والبيضة من الطائر ، وكانوا يفهمون أن النطفة والبيضة ميتة لا حياة فيها ، وهذا الفهم صحيح إذا اعتبرنا أن البيضة وإن تكن فيها حياة فهي حياة خاصة ليس فيها حركة ولا نمو.
والعلماء المحدثون يقولون : إن في البيضة والنطفة حياة بل في البذور حياة ، والمثل الصحيح أن الغذاء بعد دخوله النار ميت بلا شك ، وهو يكون الدم ومنه المنى فهذا(2/59)
ج 2 ، ص : 60
المنى الحي خرج من الغذاء الميت ، ويخرج اللّه الفضلات والهشيم من الإنسان والنبات وهو ميت خرج من حي ، والمراد من ذلك كله إثبات القدرة الكاملة لله - سبحانه وتعالى - وأنه خالق الموت والحياة.
وفي التفسير المأثور أراد الحياة والموت المعنويين ومثلهما أخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن.
ومن يدبر الأمر ، ويصرف الكون ؟ ومن صاحب هذا النظام المحكم في كل شي ء ؟
وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه الواحد
فسيكون جوابهم عن هذه الاستفهامات الخمسة : أن الفاعل لذلك كله هو اللّه رب كل شيء ، لا جواب غيره ، ولا مجال للمكابرة في ذلك.
فقيل لهم : أتعلمون هذا فلا تتقون أنفسكم عذابه ، ولا تتقون عقابه لكم عن شرككم وعبادتكم لغيره مما لا يملك نفعا ولا ضرا!! فذلكم الذي يفعل ما ذكر هو اللّه ربكم خالقكم ومدبر أمركم ، هو الحق الثابت بذاته الحي القيوم ، لا إله غيره ولا معبود سواه.
وإذا كان هو ربكم الحق الذي لا ريب فيه المستحق للعبادة دون سواه فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ !! فالقول بألوهية غيره باطل ، وعبادة غيره ضلال.
وإذا كان الأمر كذلك فكيف تصرفون ، وتتحولون عن الحق إلى الباطل ؟ وعن الهدى إلى الضلال ؟ !! كذلك حقت كلمة ربك أى : مثل ذلك حقت به كلمة ربك أيها الرسول ، وثبتت في وحدة الربوبية والألوهية ، وأنه ما بعد الحق إلا الضلال. حقت كلمته على الذين فسقوا وخرجوا من نور الفطرة ، وحظيرة الهدى والحق ، أنهم لا يؤمنون بما ينزله اللّه على ألسنة الرسل ، وليس المعنى أنه يمنعهم - سبحانه - بل المراد أنهم يظلون على العناد والاستكبار وعدم الإيمان فهم لا يؤمنون.
قل لهم أيها الرسول : هل من شركائكم الذين عبدتموهم مع اللّه أو من دون اللّه ، أو اتخذتموهم شفعاء عنده يقدر على بدء الخلق في طور ثم إعادته في طور آخر ؟ سواء كان صنما أو وثنا أو كوكبا أو ملكا أو بشرا من الرسل أو غيرهم.(2/60)
ج 2 ، ص : 61
ولما كانوا لا يعترفون بالبعث والميعاد لقن اللّه رسوله الجواب إذ لا يمكنهم الجواب أبدا. قل : اللّه يبدأ الخلق ثم يعيده إذ القادر على البدء قادر على الإعادة ، وهم يرون الإعادة تتكرر كل عام في النبات والكون ، بقدرة اللّه وحده أفلا يحكمون عقولهم ؟
ويسلمون بمبدأ البعث والجزاء يوم القيامة! فأنى تؤفكون ؟ فكيف تصرفون عن ذلك الحق وهو من دواعي الفطرة والطبيعة والنظر السليم ؟ إلى الباطل والجهل بالمصير.
قل لهم : هل من شركائكم من يهدى إلى الحق والخير ؟ هداية بالطبيعة والفطرة أو بالتشريع والتقنين ، أو بالتوفيق ومنع الصوارف ، هذه الهداية بأنواعها من تتمة الخلق والتكوين رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى « 1 » وهم بأى شيء يجيبون عن هذا ؟ !! والشواهد كثيرة تدل على الجواب المتعين الذي لقنه اللّه إلى رسوله :
قل لهم : اللّه يهدى للحق ، ويهدى إلى صراط مستقيم ، وهو يمن عليكم أن هداكم للإيمان.
أفمن يهدى إلى الحق والهدى ، والخير والفلاح ، أحق أن يتبع فيما يشرعه ؟
أم من لا يهتدى إلى الخير أبدا في حال من الأحوال إلا أن يهدى ؟ أى يهديه اللّه وذلك كالأصنام لا تهتدى أبدا إلى الخير ولا تهدى إلى الخير ، وأما عزير والمسيح والملائكة فتهدى إلى الخير ولكن بهداية اللّه - سبحانه وتعالى - وهذا معنى قوله :
إِلَّا أَنْ يُهْدى .
فما لكم ؟ استفهام تعجب وتقريع عن حالهم على معنى أى شيء أصابكم ؟ وماذا دهاكم ؟ حتى تتخذوا أصناما وآلهة بهذا الوصف!! كيف تحكمون ؟ وعلى أى حال ووضع تحكمون بجواز عبادتهم أو وساطتهم وشفاعتهم عنده ؟ نعم إن هذا لشيء عجيب!! والحق الذي لا مرية فيه أنه ما يتبع أكثرهم في هذا إلا الظن لا اليقين وما يتبعون في شركهم وإنكارهم البعث ، وتكذيبهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلا ضربا
___________
(1) سورة طه آية 50.(2/61)
ج 2 ، ص : 62
من ضروب الظن كاستبعادهم خطأ آبائهم في العبادة ، وكتقليدهم لهم ، وقياسهم الغائب على الشاهد واستبعادهم الإعادة والبعث بعد أن يصير الخلق ترابا منثورا.
واستبعادهم نزول الوحى على بشر منهم لم يكن عظيما في نظرهم.
فإن قيل : وما حكم هذا الظن ؟ أجيب أن الظن لا يغنى بدل الحق شيئا ، فالحق هو الثابت عن دليل لا يقبل الشك ، والظن مبنيّ على الشك والوهم ، فهو عرضة للزوال والتغيير.
إن اللّه عليم بما يفعلون وسيجازون على ذلك كله ، خاصة بعد توضيح الأمور وسياق الأدلة وضرب الأمثال.
القرآن كلام اللّه ومعجزة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وموقفهم منه [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 44]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)(2/62)
ج 2 ، ص : 63
القرآن الكريم هو المعجزة الباقية الخالدة ، الدالة على صدقه صلّى اللّه عليه وسلّم القائمة مقام قول الحق : « صدق عبدى في كلّ ما يبلّغه عنّى » لذلك كانت عناية القرآن الكريم بإثبات أنه من عند اللّه ، وليس من عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما نرى في كثير من الآيات ، ولا ننسى أنه أساس الدين ، ودستور الإسلام ، فإثبات التوحيد ، والبعث ، وأن القرآن كلام اللّه من مقاصد الدين الهامة.
المعنى :
وما كان هذا القرآن العظيم الشأن في أسلوبه ونظمه ، وبلاغته وحجته ، وتشريعه وعلمه ، وحكمته وأدبه ، وسياسته الإلهية ، والاجتماعية ، والعمرانية ، والاقتصادية وقصصه وأخباره عن الغائب في ضمير الزمن والمستقبل في كنه الكون ، نعم ما كان وما صح ولا يستقيم أبدا في نظر العقل أن يفترى هذا القرآن أحد من الناس مهما كان!! يفتريه من دون اللّه وينسبه إليه إذ لا يقدر عليه إلا اللّه - سبحانه وتعالى - فليس القرآن من كلام محمد وإنما هو وحى من عند اللّه. ثم ذكر ما يؤكد هذا بقوله :
وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ .. أى : ولكن كان هذا القرآن تصديقا لما بين يديه من الكتب السابقة المشتملة على الوحى لرسل اللّه بالإجمال : كإبراهيم وموسى وعيسى. ولما فيه من الدعوة إلى الإيمان والتوحيد الخالص. وإثبات البعث والجزاء فهو على نسق ما قبله ، ومحمد ليس بدعا من الرسل ، وكان تفصيل جنس الكتاب المنزل فيه الشرائع والحكم والمواعظ والقصص ، وأصول الاجتماع والشرائع فكيف يكون من عند البشر ؟ ! ولا ريب فيه أبدا لأنه الحق والهدى ، وهو من عند رب العالمين لا يقدر عليه غيره(2/63)
ج 2 ، ص : 64
وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [سورة النساء آية 82].
ترى أنه وصف القرآن الكريم بصفات :
1 - لا يصح أن يفترى هذا القرآن ، وينسب إلى اللّه!! 2 - وهو مصدق لما قبله ومهيمن عليه.
3 - مفصل الكتاب الإلهى والحكم الرباني.
4 - ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
5 - هو من عند اللّه إذ قد تحدى العرب فعجزوا. فهل بعد هذا حجة لمدع أن القرآن ليس من عند اللّه ؟
ثم انتقل القرآن الكريم لبيان عقيدتهم في القرآن ، ناعيا عليهم سوء فهمهم بعد ما بين أنه أجل وأعلى من أن يفترى ويختلق.
بل يقولون افتراه محمد من عنده ؟ !! قل لهم يا محمد : إذا كان الأمر كذلك فأتوا بسورة مثله قوة وإحكاما وبلاغة ودقة ، وادعوا من استطعتم دعاءه من دون اللّه ، ليعينكم على عملكم ، فإن الخلق مجتمعين عاجزون عن الإتيان بمثله : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 88] إن كنتم صادقين في دعواكم فإن لم تفعلوا هذه ولن تفعلوا أبدا فاسمعوا ، وارجعوا إلى الحق وآمنوا باللّه ، ورسوله ، وهذا تحد سافر لقوم أولى بلاغة وقوة ، قوم أنفقوا النفس والنفيس للقضاء على دعوة الإسلام ، وحاربوا النبي بكل الأسلحة ليطفئوا نور اللّه فلم يفلحوا. ألست معى في أن هذا إعجاز صارخ ، وحجة باقية خالدة على أن القرآن من عند اللّه ، وأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله مع تحديهم ، فكيف يكون من عند محمد ؟ !! بل كذبوا بالقرآن وأنه من عند اللّه ، ولسوء حظهم كذبوا بالذي لم يحيطوا علما به ، فهم لفساد طبعهم ورداءة نفسهم كذبوا به قبل بحثه والنظر فيه والإحاطة بجزئياته ، وهذا شأن المعاند المعتدى.
ولما يأتهم تأويله ، ونتيجة ما فيه من الوعد والوعيد على تكذيب الرسل ، وقد كان هذا متوقعا وآتيا لا شك فيه ، وقد كذبوا كما كذب الذين من قبلهم.
فانظر كيف كان عاقبة المكذبين من جميع الأمم ، وكيف كان نظام اللّه معهم وسنته(2/64)
ج 2 ، ص : 65
فيهم التي لا تتغير : فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة العنكبوت آية 40].
هؤلاء المشركون منهم من يؤمن بالقرآن باطنا ، وإنما يكذبه في الظاهر ، بل من زعمائهم من كان يقول فيه : إن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر.
فهؤلاء عرفوا الحقيقة ولكنهم كذبوا عنادا واستكبارا ، ومنهم من لا يؤمن به جهلا وتقليدا من غير نظر ولا معرفة ، وربك أعلم بالمفسدين في الأرض بالشرك والظلم والعصيان والبغي فسيعذبهم في الدنيا والآخرة ، وفي هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويؤكدها قوله تعالى : وإن كذبوك ، وأصروا على ذلك ، فقل لهم : لي عملي وهو تبليغ الرسالة والإنذار والتبشير وسيجازينى عليه ربي ، ولكم عملكم ، الذي تعملونه وسيجازيكم عليه ربكم : هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ « 1 » ، أنتم بريئون مما أعمل ، وأنا برىء مما تعملون ، ولن يؤاخذ اللّه أحدا بذنب غيره ، وصدق اللّه : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [سورة هود آية 35].
وأما أنت يا محمد فلا تعجب من حال هؤلاء ، ولا تحزن إن عليك إلا البلاغ وأنت تقوم بعملك خير قيام ، ولكن منهم من يستمعون إليك بأسماعهم دون تدبر ولا فهم إذ قلوبهم في أكنة مما تدعو إليه. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ « 2 » والسماع النافع للمستمع هو ما عقل بما يسمعه ، وعمل بمقتضاه وإلا كان كالأصم الذي لا يسمع ، وأنت أيها الرسول لم تؤت القدرة على إسماع الصم حقيقة أو مجازا وهم الذين لا يعقلون.
ومنهم من ينظر إليك بوجهه ، ويوجه بصره إليك عند قراءتك القرآن ، ولكنه لا يبصر نور القرآن وهدى الدين ، وعمى البصيرة (و العياذ بالله) أشد وأنكى من عمى البصر : أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ. والمعنى : أنك لا تقدر على هداية هؤلاء ، فمن فقد حاسة السمع لا يسمع ومن فقد حاسة البصر لا ينظر ، كذلك من فقد الاستعداد للفهم والهداية لا يمكن أن يهتدى ولا يهديه غيره ولو كان نبيا مرسلا. ___________
(1) سورة يونس آية 52.
(2) سورة الأنبياء الآيتان 2 و3.(2/65)
ج 2 ، ص : 66
إن اللّه لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس يظلمون أنفسهم فقط ، إذ هم يجنون عليها بالكفر والمعاصي.
هكذا الدنيا وهذه نهايتها [سورة يونس (10) : آية 45]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)
المعنى :
ويوم يحشر ربك الظالمين يوم القيامة ، ويجمعهم بعد خروجهم من المقابر ويسوقهم إلى موقف الحساب والجزاء ، كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة يسيرة هي ساعة من النهار يتعارفون بينهم.
يا ويل هؤلاء الذين يضيعون الدنيا في اللهو والعبث والفساد ولا ينظرون إلى ما ينفعهم في الآخرة والحياة الباقية حتى إذا رأوا ما يوعدون يوم القيامة تذكروا الدنيا فإذا هي مرت كلمح البصر ، وكأنهم لم يمكثوا فيها إلا ساعة من النهار أى : وقتا قليلا مقدار تعارف الزوار والأقارب.
قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه ، ولم يعلموا من الصالحات ما ينفعهم ليوم الحساب وما كانوا مهتدين في الدنيا ، ولا موفقين في العمل ، وفقنا اللّه جميعا إلى ما فيه الخير وأرشدنا إلى الصواب.
القول الفصل في الرد على المشركين وعلى استعجالهم العذاب [سورة يونس (10) : الآيات 46 الى 56]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55)
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)(2/66)
ج 2 ، ص : 67
المفردات :
أَجَلٌ وقت معين من الزمن أَرَأَيْتُمْ أى : أخبرونى وَيَسْتَنْبِئُونَكَ يستخبرونك أى : يطلبون منك الخبر إِي حرف جواب أى : نعم.(2/67)
ج 2 ، ص : 68
المعنى :
كان المشركون يكذبون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في توعده لهم إذا أصروا على الشرك ، وكانوا يستعجلونه استهزاء به وتكذيبا ، ويتمنون موته ظنا منه أنه إذا مات ماتت دعوته.
فيرد اللّه عليهم بما يكبتهم ، ويشد من عزيمة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم. وإما نرينك أيها الرسول بعض الذي نعدهم أو نتوفينك قبل أن ترى ما يحل بهم ، فإلينا المرجع والمآب ، وقد رأى رسول اللّه بعض الذي وعدهم اللّه ببدر وحنين ، وغيرهما ، والمراد تأكيد الموعود به من العقاب في الدنيا والآخرة ، فإلينا مرجعهم ، ثم اللّه شهيد على ما يفعلونه مطلقا وسيجازيهم به على علم وشهادة حق.
ولستم أنتم يا أمة محمد بدعا بين الأمم ، بل هناك قانون عام يشمل الجميع هو :
ولكل أمة من الأمم رسول يهديهم ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد ، فإذا جاء رسولهم وكذبوه وكفروا به ، وقامت الحجة عليهم قضى بينهم بالقسط ، وهم لا يظلمون إذ العدل يقتضى إثابة الطائع والعاصي كل بما يستحق.
ويقولون متى هذا الوعد ؟ ومتى يكون ؟ !! إن كنتم أيها المؤمنون صادقين وهنا يلقن اللّه رسوله الجواب قل لهم : إننى بشر مثلكم ، ورسول من رب العالمين ، لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ، فكيف أملك لغيري ؟ وليس لي علم بشيء ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ « 1 » ، لكن ما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن ، واللّه - سبحانه - جعل لكل أمة أجلا لبقائها وهلاكها لا يعلمه إلا هو فإذا جاء الأجل المضروب والوقت المحدود لنفاذ أمره ، فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون لحظة ، ولا يملك رسولهم أن يؤخر أو يقدم شيئا ، وهذا هو النظام العام.
ومن هنا نعلم أن المؤمن يجب أن يعتقد أنه ليس هناك بشر في الوجود حيا أو ميتا رسولا أو وليا له دخل في شيء فهذا إمام الأنبياء وخاتم المرسلين يسجل اللّه عليه في القرآن قوله : لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا. وقد قرر ذلك في القرآن بأساليب متعددة. وهاكم رد آخر على استعجالهم :
___________
(1) الأعراف 188.(2/68)
ج 2 ، ص : 69
قل لهم : أخبرونى إن أتاكم العذاب المعد للعصاة والمجرمين وأنتم بالليل نائمون أو في النهار لاهون أو مشتغلون ، ولا يخلو الحال من واحد منهما ، إن أتاكم العذاب ماذا تستعجلون ؟ أعذاب الدنيا أم عذاب الآخرة ، إن كان هذا أو ذاك فهو حماقة وجهالة ، لأنه استعجال لأمر محقق الوقوع.
أيستعجل بالعذاب المجرمون منكم ، ثم إذا وقع آمنتم به يوم لا ينفع نفسا إيمانها ما لم تكن آمنت من قبل ، إذ فرق بين الإيمان والتصديق الخالص للّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وبين الإيمان للضرورة ولرؤية الخطر الداهم.
ويقال لكم حينئذ : توبيخا وتأنيبا الآن آمنتم به اضطرارا ؟ وقد كنتم به تستعجلون تكذيبا واستنكارا وتعجيزا ، ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ذوقوا عذاب الخلد ، والعذاب الدائم المستمر المعد لكم ولأمثالكم ، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ؟ !! ويستنبئونك أيها الرسول ، ويطلبون منك الخبر الصحيح أحق هذا الذي تقوله وتعد به الكفار ؟ أحق هو ؟ كأنهم لم يكونوا على يقين من تكذيبهم وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا قل لهم أيها الرسول : نعم إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ وما أنتم بمعجزين ، ولا أنتم بهاربين وكيف تعجزون خالق السماء والأرض ، وكيف تهربون ؟ ولأيّ جهة تتجهون ؟ !! هذا العذاب الذي تستعجلونه في الدنيا ، والذي أعد لكم في الآخرة ، عذاب اللّه أعلم به وقد وصفه اللّه فقال : وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالاعتداء على نفسها أو على غيرها ، ولو أن لها كل ما فِي الْأَرْضِ ثم رأت العذاب المعد لها لَافْتَدَتْ بِهِ نفسها ، ولكن أنى لها ذلك ؟
وهم حين يرون العذاب يسرون الندامة لاعتقادهم أنه لا فائدة في إظهار الندم والحسرة على ما فرط ، وتارة يجهرون ويقولون : يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وقضى بينهم بالقسط ، وهم لا يظلمون.
واللّه - سبحانه - قادر على ذلك ، ووعد به ، ووعده الحق وكلامه الصدق ، وهو القادر على كل شيء ، وإليه المرجع والمآب ولذا اختم الآية بقوله : ما معناه أَلا إِنَّ لِلَّهِ(2/69)
ج 2 ، ص : 70
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
ملكا وخلقا وتصرفا ، أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ومن أصدق من اللّه حديثا.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، وهُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وهو على كل شيء قدير ، وإليه مرجعكم جميعا.
القرآن الكريم وأغراضه الشريفة [سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
المفردات :
مَوْعِظَةٌ الموعظة والوعظ الوصية بعمل الخير ، واجتناب الشر بأسلوب الترغيب والترهيب الذي يرقق القلب ويلهب العاطفة. ويبعث على الإحسان في العمل وَرَحْمَةٌ رقة في القلب تقتضي الإحسان والبر والتعاطف والرحمة بالغير فَلْيَفْرَحُوا الفرح والسرور انفعال نفسي بنعمة حسية أو معنوية يلذ له القلب وينشرح به الصدر.
هكذا القرآن يعاود الكلام على نفسه بأسلوب آخر مبينا هنا مقاصده وأغراضه الشريفة ليتجدد دائما عند القارئ الإدراك الصحيح والفهم السليم له ، ولا تنس أن إثبات التوحيد ، والبعث ، والرسالة ، وأن القرآن من عند اللّه ، كل هذا من مقاصد الدين الحنيف.
المعنى :
يا أيها الناس ما بالكم تكذبون بالقرآن ؟ ولما يأتكم تأويله ، ولم تحيطوا به علما ،(2/70)
ج 2 ، ص : 71
يا أيها الناس قد جاءكم بهذا الكتاب وعظ يزلزل القلوب ، ويرقق الطباع ، ويصلح الأعمال ، ويشفى أمراض الصدر ، ويطهر القلوب ويهدى الناس إلى طرق الخير ، ويغرس في قلوب المؤمنين أكثر من غيرهم رحمة على الغير وتعاطفا على الجميع.
وها هو ذا القرآن الكريم وما فيه من تشريعات ، وتوجيهات ، ووصايا ، وحكم ، وقصص ، وآداب ، واجتماع يهدف إلى أربعة أغراض :
1 - موعظة حسنة من الذي رباكم وتعهدكم بفضله ورحمته وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران آية 138] إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [سورة النساء آية 58].
2 - وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ من أمراض الشك والنفاق ، والشرك ومخالفة الوجدان والحقد والحسد ، والبغي والعدوان ، وحب الظلم وكراهية العدل وغير ذلك من الأمراض التي يضيق بها الصدر ويموت بها الضمير الحي.
3 - والقرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فهو الذي يبين الحق من الضلال ، ويهدى إلى الخير والرشاد ، ويحذر من البغي والفساد.
4 - وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وهي صفة قلبية نتيجة لما مضى من الوعظ والشفاء والهدى فالوعظ تعليم ينشأ عنه الشفاء من الأمراض وإزالة الأوساخ ، ويترتب عليهما الهداية والتوفيق إلى الخير ، وينشأ عن الثلاثة الرحمة وهي الرقة في القلب ، وهي بكمال صفتها لا تكون إلا في المؤمنين الكاملين.
وفي السنة المطهرة الكثير من الأحاديث التي تحث على الرحمة بالخلق جميعا ، ويكفيها شرفا أنها صفة المؤمنين وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [سورة البلد آية 17] أليس الرحمة من صفات النبي صلّى اللّه عليه وسلم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.
قل. لهم : بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أصل العبارة في التركيب العادي ليفرحوا بفضل اللّه وبرحمته ، ولكنها بالأسلوب القرآنى آية في البلاغة يعجز القلم عن بيان نواحيها وأحسن وصف لها أنها آية من كلام اللّه وكفى!! ولكن لا مانع من بيان بعض النواحي. فلقد قدم بفضل اللّه وبرحمته ليفيد الاختصاص أى : ليكن الفرح والسرور بفضل اللّه وبرحمته فقط ، وكانت الفاء في(2/71)
ج 2 ، ص : 72
قوله : فَلْيَفْرَحُوا للإشارة إلى تسبب الفضل والرحمة في الفرح ، ويكون المعنى :
إن كان في الدنيا شيء يستحق أن يفرح به فهو فضل اللّه ورحمته ، وكان قوله :
فَبِذلِكَ للتأكيد والتقرير ، وإعادة الباء بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ للإشارة إلى أن كلا منهما يصلح سببا في الفرح ، إن الفرح بفضله ورحمته أفضل وأنفع لهم مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية لأنه هو الذي يجمع سعادة الدارين ، ويدعو إلى الخيرين وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ [سورة القصص آية 77].
لون آخر في إثبات الوحى والنبوة [سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)
المفردات :
تَفْتَرُونَ تختلقون وتكذبون أصل الفري قطع الجلد لمصلحة ، والافتراء تكلف القطع ، وشاع في تعمد الكذب.
وهذه حجة أخرى على منكري الوحى ، ورسالة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكون القرآن من عند اللّه.
المعنى :
قل لهم أيها الرسول : أخبرونى ، هذا الذي أفاضه عليكم ربكم من السماء والأرض ، وأنزله عليكم من رزق تعيشون به فترتب على ذلك أن جعلتم بعضه حراما ،(2/72)
ج 2 ، ص : 73
وبعضه حلالا وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا الآيات من سورة الأنعام قل لهم : اللّه أذن لكم ؟ ومعلوم أنه ليس لأحد في الوجود أن يحرم أو يحلل إلا اللّه - سبحانه وتعالى - فهل اللّه أذن لكم ؟ بهذا عن طريق الوحى أم على اللّه وحده تفترون وتكذبون ؟ !! لا بد من الإجابة بأحد الأمرين ، إما أن تقولوا بأن اللّه أذن بوحي من عنده نزل علينا ، مع العلم أنكم تنكرون الوحى الإلهى وإما أنكم تفترون على اللّه الكذب.
وما ظن الذين يفترون الكذب يوم القيامة ؟ !! أيظنون أنهم يتركون بغير عقاب على الجريمة ؟ أم لهم شركاء شرعوا لهم ما لم يأذن به اللّه ؟ وسيشفعون لهم يوم القيامة :
لا هذا ولا ذاك ، والويل لهم ثم الويل لهم!! إن اللّه لذو فضل على الناس عظيم لا ينكره إلا مكابر ومعاند فهو الرزاق ذو القوة المتين. وهو الرحمن الرحيم ، وهو صاحب الفضل في أن جعل الشرع له وحده ولم يجعل حق التحليل والتحريم لغيره لئلا يتحكم في الخلق مخلوق ، وهو صاحب النعم التي لا تعد ولا تحصى ولكن أكثر الناس لا يعرفون هذا ولا يشكرون فضل اللّه عليهم وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ : 13].
مراقبته تعالى لعباده ، وإحاطته بكل شيء علما [سورة يونس (10) : آية 61]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)
المفردات :
شَأْنٍ أى : أمر مهم تُفِيضُونَ أفاض في الشيء أو أفاض من المكان اندفع فيه بسرعة ما يَعْزُبُ أى : يبعد يقال عزب الرجل بإبله يعزب أى : يبعد ... بعد(2/73)
ج 2 ، ص : 74
أن بين أن فضل اللّه عظيم ، أنه قليل من عباده الشكور إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أردف ما يفيد أنه عالم بكل شيء في الكون ، وأنه محيط بكل ما يعملون ليحاسب الناس أنفسهم على تقصيرهم في شكرهم له.
المعنى :
وما تكون أيها الرسول في شأن من شئونك الخاصة بك أو العامة التي تدعو فيها إلى اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن ينزل عليك.
وانظر إلى التعبير عن العمل بالشأن حين خطابه صلّى اللّه عليه وسلّم فإن في ذلك إشارة إلى أن أعماله كلها عظيمة وخطيرة حتى العادي منها إذ هو قدوة حسنة لغيره ، ولقد خاطب الأمة بعد خطاب النبي وهو سيدها في أخص شئونه وأعلاها فقال : وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ صغير أو كبير إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً فيه ومطلعين وسنجازيكم عليه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ « 1 » إذ تفيضون فيه ، وتندفعون بسرعة وخفة ، وما يعزب عن ربك - جل شأنه - ولا يبعد عن علمه أقل شيء يبلغ وزنه ثقل ذرة « الذرة كالغبار الذي لا يرى إلا في ضوء الشمس من النافذة » في الأرض ، ولا في السماء ، ولا شيء أصغر من الذرة ولا شيء أكبر منها إلا وهو معلوم ومحصى في كتاب مرقوم عظيم الشأن تام البيان.
وهل هناك ما هو أصغر من الذرات ؟ نعم أثبت العلم الحديث مبدأ تحطيم الذرة وتقسيمها إلى ذرات ولقد صدق اللّه فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ « 2 » نعم. ولقد أرتنا آلات الكشف الحديثة « كالمكرسكوب » دقائق في الكون ما كنا نعرفها قبل ذلك ، فسبحان الذي يعلم ما في البر والبحر وما في الأرض والسماء!!
من هم أولياء اللّه [سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
___________
(1) سورة الزلزلة الآيتان 7 و8.
(2) سورة الحاقة الآيتان 38 و39.(2/74)
ج 2 ، ص : 75
المعنى :
أولياء اللّه هم أحبابه وأصفياؤه ، والخلص من عباده ، المخلصون في عبادتهم وتوكلهم ، وحبهم ، هم الذين آمنوا وكانوا يتقون - أولياء جمع ولى - وهذه الكلمة تتكون من واو ولام وياء. وهذه الأحرف مجتمعة تدل على القرب ، والقرب منه - تعالى - في المكان والجهة محال ، إنما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معارفه ، غارقا في بحر إدراكه ، وسبحات وجهه ، فإن رأى رأى دلائل قدرة اللّه ، وإن سمع سمع آيات اللّه ، وإن نطق نطق بالثناء على اللّه ، وإن تحرك ففي خدمة دين اللّه ، وإن اجتهد اجتهد في طاعة اللّه ، فهنالك يكون في غاية القرب من اللّه ، وحينئذ يكون وليا من أولياء اللّه وإذا كان العبد كذلك كان اللّه وليه وناصره ، ومعينه ومتولى أمره ، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. قال العلامة البيضاوي : أولياء اللّه الذين يتولونه باطاعة ويتولاهم بالكرامة ومحبة العبد للّه تكون بطاعته ومحبة اللّه للعبد الكامل بحسن مثوبته ، أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وهذا الجزاء ثابت لجميع المؤمنين الصالحين المتقربين إلى اللّه في آيات كثيرة سبقت وستأتى.
الذين آمنوا إيمانا كاملا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وكانوا يتقون اللّه في ما يعملون ويذرون ، فهم يتقون غضبه وعقابه بترك ما يغضبه ، هؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا بالنصر فيها ما داموا ينصرون اللّه ورسوله ويقيمون شريعته وأحكام قرآنه ، ولهم البشرى بحسن العاقبة ، وباستخلافهم في الأرض إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللّه عاقبة الأمور وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ وأما البشرى في الآخرة فالنعيم والجنة العالية ذات القطوف الدانية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [سورة فصلت الآيات 30 - 32].(2/75)
ج 2 ، ص : 76
لا تبديل لكلمات اللّه ، ولا خلف في وعد اللّه بل قوله الحق ، ووعده الصدق ، ومنه هذه البشارة ، وذلك المذكور هو الفوز العظيم الذي ليس بعده فوز.
وهنا لبعض الناس كلام في الأولياء لست أراه .. نسأله التوفيق والهداية واللّه أعلم بكتابه ..
العزة للّه [سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 67]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
المفردات :
الْعِزَّةَ الغلبة والقوة والمنعة يَخْرُصُونَ الخرص : الحزر والتخمين. لقد وعد اللّه أولياءه بالبشرى في الدنيا والآخرة ، وأنهم لا يحزنون ولا يخافون وإذا كان لهم ذلك فما بالك بإمامهم وقائدهم الرسول الأعظم سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم ؟ !!
المعنى :
ولا يحزنك يا محمد قولهم أبدا ، الذي سجل عليهم في هذه السورة وغيرها من تكذيب وكفر وتعجب من الوحى إلخ. ما مضى ، ولا تحزن فالله قد كتب وقدر(2/76)
ج 2 ، ص : 77
ليغلبن هو ورسله ، إن اللّه قوى عزيز ، وكأن سائلا سأل وقال لم ؟ فأجيب إن العزة لله جميعا ، نعم إن الغلبة والقهر ، والنصر والمنعة لله جميعا ، لا يملك أحد من دونه شيئا ، له الأمر من قبل ومن بعد ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، وهو السميع لما يقولونه العليم بما يفعلونه وسيجازيهم عليه ، فلا يهمنك أمرهم وفي هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتأكيد لوعده بالنصر.
ألا إن لله كل من في السموات ، وكل من في الأرض ، وخص العقلاء بالذكر لكون غيرهم من باب أولى في العبودية والملكية ، فالأصنام والأوثان التي لا تعقل أولى وأحق ألا تتخذ لله شريكا ولا ندا ، وما يتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء في الربوبية ؟ إن يتبعون إلا الظن الذي لا يغنى من الحق شيئا ، وإن هم إلا يخرصون ويكذبون ، فإن من يحكم حكما على غير أساس يكون كاذبا فيه ومدعيا غير الواقع وكيف يسوون اللّه الذي له كل من في السماء والأرض بهذه الأصنام ؟ وهو الذي جعل لكم الليل ظلاما لتسكنوا فيه وتهدءوا من عناء العمل ولتجددوا نشاطكم حتى إذا أقبل النهار قمتم فيه للعمل والكدح في الدنيا والعبادة والتقرب إلى اللّه ، فهو الذي جعل الليل للنوم والنهار مبصرا للمعاش والعبادة إن في ذلك لآيات واضحات لقوم يسمعون.
كيف يكون للّه ولد [سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 70]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)(2/77)
ج 2 ، ص : 78
المفردات :
سُلْطانٍ المراد حجة قوية تتسلط على العقول.
هذا لون آخر من شركهم ، وادعاء باطل هو اتخاذ اللّه ولدا وقد شاركهم في ذلك بعض أهل الكتاب ، ولذلك مكان آخر.
المعنى :
زعم بعض المشركين أن الملائكة بنات اللّه كما زعم بعض النصارى أن المسيح ابن اللّه وبعض اليهود أن عزير ابن اللّه ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم جميعا إن يقولون إلا كذبا وبهتانا ، كيف يتخذ اللّه ولدا ؟ وهو الخالق للسموات والأرضين وكل ما فيهما ، لا يشبهه أحد من خلقه ، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه بل الكل محتاج إليه ، وهو الغنى بذاته عن كل شيء - سبحانه وتعالى - له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا لا يشاركه في ذلك أحد.
والولد يحتاج إليه أبوه لإبقاء ذكره ، وهو قوته وعصبته وأهله وعشيرته ، ومتاعه وزينته ، عليه يعتمد ، وبه يفاخر ، وقد يحتاج إليه في كبره وضعفه وهل يحتاج اللّه إلى شيء من ذلك كله ؟ ! وهو الغنى - سبحانه وتعالى - عما يصفون!! ما عندكم من سلطان وحجة على قولكم الإفك!! أتقولون على اللّه ما لا تعلمون!! وهذا استفهام تبكيت وتوبيخ.
قل لهم : إن الذين يفترون على اللّه الكذب الصريح باتخاذهم الشركاء ، وزعمهم أن له ولدا لا يفلحون أبدا ، ولا ينجون من عذاب اللّه.
وهل يمتعون في الدنيا أم لا ؟ فأجيب أن الدنيا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة ومتاعها قليل لا قيمة له.
ثم إلى اللّه مرجعهم فسيحاسبهم حسابا عسيرا ثم يذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم بالله ووصفه بما لا يليق قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [سورة الإخلاص ].(2/78)
ج 2 ، ص : 79
قصة نوح عليه السلام [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 74]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
المفردات :
كَبُرَ عَلَيْكُمْ عظم وشق عليكم مَقامِي أى : قيامي فيكم تَذْكِيرِي أى : إعلامى بآيات اللّه ووعظي ونصحى غُمَّةً أي : خفيا فيه شيء من الحيرة واللبس اقْضُوا أدوا إلى خَلائِفَ جمع خليفة والمراد : يخلفون غيرهم في عمارة الأرض وسكناها.
هذه السورة في خطاب المشركين والاحتجاج عليهم وإثبات الوحدانية والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة ، وتذكيرهم بمن سبقهم وكيف كانت عاقبة المكذبين للرسل وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا.(2/79)
ج 2 ، ص : 80
وها هي ذي قصة بعض الأمم مع رسلهم ، حيث كان النصر للرسل ومن معهم ، والهزيمة للكفار مع كثرة عددهم وعدتهم ، وفي هذا كله تسلية للنبي ، ووعد له بالنصر ، وحث للمؤمنين على أن يقلدوا من سبقهم.
المعنى :
واتل يا أيها الرسول على قومك المكذبين المغرورين قصة نوح وخبره المهم إذ قال لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي فيكم - فقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما - وشق عليكم ما أدعوكم إليه من عبادة ربكم وعدم الإشراك به شيئا ، وكبر عليكم تذكيري بآيات اللّه ووعظي ونصحى لكم وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ [سورة هود آية 34] إن كان هذا كله حصل فعلى اللّه وحده توكلت ، وعليه اعتمدت لا على غيره.
فأجمعوا أمركم واتفقوا على ما تريدون مع شركائكم وآلهتكم التي تعبدونها من دون اللّه ، ثم لا يكن أمركم بعد هذا خفيا عليكم بل كونوا على بصيرة منه ، ثم اقضوا إلىّ بعد العزم الثابت والفحص التام الذي يجلى الأمر بحيث لا يكون فيه خفاء بما ترون ، ونفذوا ما عزمتم عليه ، ولا تنظرون ، وهكذا الموقف! وهكذا الوثوق باللّه ، ولا غرابة في ذلك فهو نوح الأب الثاني للبشر ، توكل على اللّه ، ووثوق بنصره ، وتحد سافر للمشركين ولشركائهم ، فإن توليتم وأعرضتم عن دعوتي وتذكيري فما سألتكم على ذلك أجرا ولا مالا إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، يا قومنا إن أجرى وجزائي عند اللّه وحده ، وقد أمرت أن أكون من المسلمين إليه المنقادين لحكمه. وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه.
أما هم فكذبوه وعصوه ، ولم يستمعوا لأمره ونهيه فكان من أمرنا وسنتنا التي لا تتخلف ، أن نجيناه والذين معه في السفينة التي صنعها بأمرنا ووحينا ، وجعلنا المؤمنين معه خلفاء في الأرض يخلفون أولئك المكذبين وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا بعد أن أنذرناهم ووعظناهم فانظر يا من يتأتى منه النظر. كيف كان عاقبة المنذرين الذين يكذبون الرسل خاصة أنت يا محمد انظر كيف كان حالهم وكذلك تكون عاقبة المؤمنين ، وعاقبة المكذبين.(2/80)
ج 2 ، ص : 81
ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم فأرسل إلى عاد أخوهم هود وإلى ثمود أخوهم صالح ، وإلى مدين والمؤتفكات أخوهم شعيب وهكذا غيرهم مما لا يعلمهم إلا ربهم ، فجاءوا قومهم بالبينات والهدى والآيات فما كان منهم أى من أكثرهم أن يؤمنوا بما كذب به المتقدم من قبل.
وهكذا ، وعلى غرار هذه السنة التي اطردت في الأمم السابقة نطبع على قلوب المعتدين إذا كانوا مثلهم ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا والمراد بالطبع عدم قبولها شيئا من نور الهداية والمعرفة لأنهم اعتدوا كل حد وتجاوزوا كل وضع سليم.
قصة موسى مع فرعون [سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 82]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79)
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)(2/81)
ج 2 ، ص : 82
المفردات :
لِتَلْفِتَنا لتصرفنا عنه الْكِبْرِياءُ الرياسة الدينية والملك الدنيوي هذه هي قصة موسى وهارون مع فرعون وأشراف قومه ، وهذه الآيات الأربع في تكذيب فرعون وملئه لموسى ووصف آياتهم بالسحر وبيان السبب في التكذيب.
المعنى :
ثم بعثنا من بعد الأنبياء الذين أرسلت إلى أقوامهم وكان منهم ما كان ، بعثنا موسى وأخاه هارون إلى فرعون ملك مصر وأشراف قومه ، أما العامة فتابعون لهم في الإيمان والكفر ولذا لم يذكروا ، بعثناهما مؤيدين بالآيات التسع التي ذكرت في سورة الأعراف وغيرها.
فاستكبروا ، وأعرضوا عن الإيمان بموسى وهارون كبرا وعلوا في الأرض وفسادا وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ [سورة الأنعام آية 123] وكان فرعون وملؤه قوما مجرمين ، تلك خلاصة مجملة لقصتهم ، وأما التفصيل.
فلما جاءهم الحق ، وهو الآيات الدالة على الألوهية ، وصدق رسله جاءتهم من عندنا على لسان موسى وهارون وعلى يديهما. قالوا : إن هذا لسحر مبين ظاهر ، قالوا مقسمين على قولهم مؤكدين له بأن ، واسم الإشارة ، واللام ، واسمية الجملة.
فماذا قال لهم موسى ؟ قال : أتقولون هذا ؟ !! للحق الظاهر والآيات البعيدة عن السحر وكيده عجبا لكم أتقولون : أسحر هذا ؟ ! أى : هذا الذي ترونه من آيات اللّه البيّنات لا يمكن أن يكون سحرا ، وكيف يكون ذلك ؟ والحال المعروف أنه لا يفلح الساحر في الأمور الجدية المهمة وإنما السحر خيال ووهم في الأمور الشكلية البحتة فكيف بعظائم الأمور من دين أو قانون.
قالوا : أجئتنا يا موسى لتصرفنا عن دين ورثناه عن قومنا ، ووجدنا عليه آباءنا ولتكون لكما الرياسة الدينية ، وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية ، وما نحن لك(2/82)
ج 2 ، ص : 83
ولأخيك بمؤمنين حتى لا يضيع دين الآباء ، وما يتبعه من رئاسة وملك وهكذا كان السبب في تكذيب الرسل دائما!! وقال فرعون لملئه بعد ما رأوا موسى مصرا على دعواه قال : ائتوني بكل سحار عليم ، ماهر في هذه الصنعة صناع إذ هم كانوا لغباوتهم لا يفرقون بين السحر والآية الإلهية.
فلما جاءهم السحرة وجمعوهم من كل حدب وصوب قال لهم موسى بعد أن خيروه بين أن يلقى ما عنده أولا أو يلقوا هم ما عندهم كما هو في سورة الشعراء : أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ [الآية 43] من فنون السحر وأفاعيله.
فلما ألقوا ما عندهم من الحبال والعصى قال موسى : ما جئتم به هو السحر بعينه لا ما جئت به من الآيات التي سماها فرعون وملؤه سحرا ، إن اللّه سيبطله قطعا أمام الناس ولا غرابة أن اللّه لا يصلح عمل المفسدين ، وأن اللّه يحق الحق بكلماته التكوينية والتشريعية ولو كره المجرمون ، اقرأ يا أخى تتمة هذه القصة في سورة الأعراف وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ... [117 وما بعدها]
الذين آمنوا بموسى [سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 87]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)(2/83)
ج 2 ، ص : 84
المفردات :
ذُرِّيَّةٌ الصغار من قومه أَنْ يَفْتِنَهُمْ الفتنة الاختبار والابتلاء بالشدائد لَعالٍ قوى شديد البطش والفتك.
المعنى :
ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون ، وألقى السحرة ساجدين ، وقال فرعون : آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه ، لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ولأصلبنكم أجمعين إزاء هذا العمل الفاجر ، والقوة الغاشمة : وبسبب هذا كله ما آمن لموسى وما استسلم له إلا ذرية من قومه بنى إسرائيل ، آمنوا على خوف من فرعون وأعوانه ، أن يبتلوهم بالشدائد ، وأن يفتنوهم عن الإيمان ، والحال أن فرعون لقوى البطش شديد الفتك قال : سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون. وإن فرعون لمن المسرفين المتجاوزين حدود العقل والإنسانية ، وهكذا كل جبار عتيد.
وإذا كان لم يؤمن لموسى إلا الشبان المراهقون من قومه وجماعة من قوم فرعون يكتمون إيمانهم خوفا من بطش فرعون بعد ظهور هذه الآيات الكونية الظاهرة التي لا تدع شكا لناظر ، فأنت يا محمد لا تحزن ولا تغتم بسبب إعراض قومك عن الإيمان بك ، ولك في الأنبياء قبلك الأسوة الحسنة.
وقال موسى : يا قوم إن كنتمآمنتم ، فاصبروا ، وكونوا مؤمنين حقّا بالله ، وعليه وحده توكلوا ، وإليه وحده الجأوا إن كنتم مسلمين ..
فقالوا : على اللّه وحده توكلنا ، وبه وحده استعنا على أعدائنا وأعداء ديننا ، ودعوا اللّه قائلين : ربنا لا تجعلنا فتنة بأن تنصرهم علينا فيفتتن الناس ويقولون : لو كان هؤلاء(2/84)
ج 2 ، ص : 85
على حق لما هزموا أمام فرعون وظلمه ، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ، ونجنا برحمتك وعفوك من القوم الكافرين الطغاة المجرمين فإنك وعدت ، ووعدك الحق إنك تنصر عبادك المؤمنين بك المتبعين لرسلك ، كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم 47].
وأوحينا لموسى وأخيه ، أن اتخذوا لقومكما بمصر بيوتا تسكنون فيها ، واجعلا بيوتكم متقابلين في جهة واحدة ، وقيل المعنى : واجعلوا بيوتكم قبلة للصلاة تصلون فيها خوفا من فرعون وملئه بدليل قوله وأقيموا الصلاة ، وبشر المؤمنين بحفظ اللّه ورعايته ، ونصره لهم في كل زمان وحين.
من مواقف موسى مع فرعون [سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 93]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)(2/85)
ج 2 ، ص : 86
المفردات :
زِينَةً ما يتمتع به من الحلل والحلي والرياش والأثاث واللباس اطْمِسْ طمس الأثر إذا أزاله حتى لا يعرف وَجاوَزْنا جاز المكان وتجاوزه ، وجاوزه إذا ذهب فيه وقطعه حتى خلفه وراءه فَأَتْبَعَهُمْ لحقهم نُنَجِّيكَ نجعلك على نجوة من الأرض والنجوة المكان المرتفع الذي ينجى صاحبه من السيل.
وذكر سبب كفرهم وعنادهم ، وهو حب الدنيا ومتاعها الفاني ، وقال موسى :
ربنا إنك أعطيت فرعون وأعوانه وجنده زينة من الحلي والحلل ، والفراش والأثاث ، وأعطيتهم المال والجاه حتى بنوا القصور ورفعوا القبور ، وأنفقوا في حظوظ الدنيا ومتاعها الشيء الكثير.
ربنا أعطيتهم هذا العطاء فكان عاقبة أمرهم خسرا ، وكانت نتيجة هذه النعم أنهم ضلوا عن سبيلك ، وأضلوا غيرهم.
ربنا اطمس على أموالهم ، وأزل آثارها ، وامحها بما تنزله من الآفات والكوارث ، واشدد على قلوبهم ، واربط عليها برباط قوى حتى لا ينفذ إليها نور الهدى والإيمان فيزدادوا قسوة وظلما ، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
روى أن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، واستجاب اللّه دعاءهما ، وأمرهما أن يظلا على استقامتهما ودعوتهما فرعون وقومه إلى الحق والعدل وألا يتبعا سبيل الذين لا يعلمون
.(2/86)
ج 2 ، ص : 87
المعنى :
كان لا بد للمتعب أن يستريح ، وللمضطهد أن يتنفس الصعداء ، ويخرج من السجن ، نعم أراد اللّه لبنى إسرائيل أن يكشف عنهم ظلم فرعون ، وأن يخرجوا من مصر إلى أرض الميعاد ، وقد خرج بهم موسى وأخوه على حين غفلة من فرعون وعيونه فلما وصل خبرهم إليه ، جمع جموعه وأدركهم على شاطئ البحر (بحر السويس) فقالوا : يا موسى هذا فرعون وراءنا والبحر أمامنا وماذا نفعل ؟ فأوصى اللّه إلى موسى :
أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالجبل وسط البحر فساروا عليه وجاوزوا البحر بعناية اللّه ورعايته حتى كأنه معهم ، أما فرعون فلحقهم هو وجنوده حالة كونهم باغين معتدين. وخاضوا البحر كما خاض بنو إسرائيل ، ولكن اليم قد ابتلعهم إذ لم يركبوا سفن النجاة فلما أدركهم الغرق ، وأيقنوا أنهم المغرقون لا محالة قال فرعون في تلك الحال التي يؤمن فيها البر والفاجر ، والكافر والعاصي ، تلك الساعة التي لا تنفع فيه توبة ، ولا إيمان ، قال : آمنت باللّه ، أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وأنا من المسلمين المنقادين. تراه وقد جمع الإيمان والإسلام ، وكرر المعنى الواحد ثلاث مرات ولكن هو كما قال الشاعر :
أتت وحياض الموت بيني وبينها وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل
أتؤمن الآن ؟ ! وقد عصيت اللّه كثيرا ، وكنت من المفسدين ، فاليوم نجعلك بنجوة من الأرض ، ونقذف ببدنك على ساحل البحر ليؤمن بموتك من شك أنك لم تمت ، وظن أنك فوق البشر ، ولتكون لمن خلفك آية على قدرة اللّه وحكمته.
فها هم بنو إسرائيل الضعفاء المستضعفون الذين طالما أذاقهم فرعون سوء العذاب يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين!! اللّه نجاهم ونصرهم على من ؟ على فرعون صاحب الجند والطول ، والحول والقوة ، فرعون الذي يقول : أنا ربكم الأعلى!! أليس لي ملك مصر ؟ وهذه الأنهار تجرى من تحتي.
وها أنتم أولاء يا معشر قريش لستم أشد قوة ولا أكثر جندا ، ولا أكثر مالا وعددا من فرعون. فاعتبروا يا أولى الأبصار : وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ.(2/87)
ج 2 ، ص : 88
ولقد بوأنا بنى إسرائيل مكانا للإقامة أمينا ، ورزقناهم من الطيبات فيه ، لقد وعد اللّه على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب هذه الأرض وهي أرض فلسطين ، ولما كفروا بالأنبياء وخاصة عيسى ومحمدا - عليهما السلام - نزعها اللّه منهم.
وإذا كان كذلك فما اختلفوا حتى جاءهم ما كانوا به عالمين ، وذلك أنهم كانوا قبل بعثة النبي (محمد) مقرين به ، مجمعين عليه ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، ولما بعث اختلفوا فيه فآمن بعضهم وكفر البعض الآخر حسدا وحبا للرياسة ولجمع المال ، وإن ربك يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا يختلفون ، وسيجازيهم على ذلك فلا يهمنك أمرهم في شيء.
تقرير صدق القرآن [سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 97]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
المفردات :
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أى : ثبت عليهم قضاؤه وحكمه.
المعنى :
أن اللّه - عز وجل - قدم ذكر بنى إسرائيل فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ(2/88)
ج 2 ، ص : 89
وهم حملة الكتاب « التوراة والإنجيل » ووصفهم بأن العلم قد جاءهم إذ أمر رسول اللّه مكتوب عندهم ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأراد هنا - جل شأنه - أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصدق نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - على سبيل المبالغة فقال : فإن وقع منك شك فرضا وتقديرا - كما تقول لابنك : إن كنت ابني حقا فافعل كذا - مما أنزلناه إليك من قصص نوح وموسى مثلا ، فسل علماء أهل الكتاب الذين يقرءون الكتاب من قبلك ، والمراد أنهم على علم تام بصحة ما أنزل إليك ، وهم يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم فضلا عن غيرك ، فالغرض وصف الأخبار بالعلم لا وصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالشك والريب ، وعن ابن عباس - رضى اللّه عنه - :
لا واللّه ما شك طرفة عين ، ولا سأل أحدا منهم ، وقيل : خوطب رسول اللّه فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ والمراد أمته أو من يقع في شك فعليه بالرجوع إلى مصادر العلم من الكتب الإلهية ، ومناقشة أهل العلم ورجاله.
تالله لقد جاءك الحق الثابت من ربك الذي لا شك فيه أبدا ولا ريب ، فلا تكونن من الممترين الشاكين. والمراد دم على ما أنت عليه. ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه فتكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة ، وفي هذا تعريض بالكفار المكذبين الخاسرين الضالين.
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك وثبت فيهم حكمه وقضاؤه لا يؤمنون أبدا ، وليس المعنى أن اللّه يمنعهم من الإيمان ، بل هم الذين يختارونه ويكسبونه ، والمراد أن من علم اللّه فيهم خيرا أو شرا لا بد من حصوله لأن علم اللّه لا يتخلف.
إن هؤلاء الذين علم اللّه أنهم لا يؤمنون. هم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية كونية أو علمية أو قرآنية ، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، وحينئذ لا ينفعهم إيمان ولا توبة.
إيمان قوم يونس [سورة يونس (10) : الآيات 98 الى 100]
فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)(2/89)
ج 2 ، ص : 90
المفردات :
الرِّجْسَ القذارة ، وأقبح الخبث المعنوي.
المعنى :
الإيمان الذي ينفع صاحبه هو الإيمان وقت التكاليف ، أما إذا حصل في وقت تسقط فيه التكاليف. وذلك عند حشرجه الموت ، أو عند الغرق ، كما حصل لفرعون ، أو عند نزول العذاب ، فلا ينفع نفسا - والحالة هذه - إيمانها.
فهلا كانت قرية من القرى التي أرسل فيها الأنبياء السابقون آمنت في وقت ينفعها الإيمان أى : وقت العمل لا وقت نزول العذاب واستحالة العمل والمعنى : ما كانت قرية آمنت إلا قوم يونس آمنوا لما ذهب مغاضبا ، وحذرهم العذاب الشديد ، ورأوا تباشيره ، فلما آمنوا كشفنا عنهم العذاب ، ومنعنا عنهم الخزي والهلاك في الدنيا ، ومتعناهم لما آمنوا إلى انقضاء آجالهم المقدرة لهم.
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. بأن يخلقهم وفيهم الاستعداد للإيمان فقط كالملائكة ، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولكن شاءت مشيئته العالية لحكم هو يعلمها أن يخلق الإنسان وفيه استعداد للخير والشر ، وللإيمان وللكفر وتركه بلا إلجاء وقسر بل جعل له الحرية الكاملة لاختيار إحدى الطريقتين بعد أن هداه النجدين وأبان له الأمرين.
أفأنت تكره الناس على الإيمان ؟ !! لا ، لا إكراه في الدين لمخلوق أبدا وإنما الذي يقدر على الإكراه هو اللّه - سبحانه وتعالى - القادر على كل شيء.(2/90)
ج 2 ، ص : 91
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه وإرادته ، ويجعل الرجس والهلاك على الذين لا يعقلون ، ولا يختارون الخير ولا يسلكون سبل الرشاد والسداد فاعتبروا يا أولى الأبصار لعلكم تذكرون ..
إنذار وبشارة ، وحث على العلم [سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 103]
قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
المفردات :
أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا المراد : وقائع الذين مضوا وحوادثهم.
المعنى :
يأمرنا اللّه - سبحانه وتعالى - بالنظر والتفكير بعين البصيرة والاعتبار انظروا ماذا في السموات والأرض من آيات اللّه البينات ؟ انظروا ما فيها من نظام رتيب ، وترتيب عجيب وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ « 1 » انظروا إليها بعين البصر والبصيرة ، تجد خالق هذا الكون على هذا النظام لا يمكن أن يتركه هملا ، ولم يخلقه عبثا ، وهذا يدعو إلى التصديق بالرسل والإيمان بالوحي والقرآن.
___________
(1) سورة يس الآيات 38 - 40.(2/91)
ج 2 ، ص : 92
ولكن ما تغنى الآيات القرآنية والآيات الكونية عن قوم لا يؤمنون بالله ورسله ، ولم يستخدموا عقولهم فيما خلقت من أجله ، وليس المراد بقوله - تعالى - فيما مضى وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ المجانين بل الذين لم يستخدموا العقول فيما خلقت له من المعرفة الصادقة والإيمان الكامل فهل ينتظر الذين لم يؤمنوا ، ولم يستفيدوا من الآيات إلا وقائع وحوادث كالتي نزلت بمن مضى من الأقوام السابقين ، وقد مر بك جزء منها في هذه السورة. قل لهم : إذا كان الأمر كذلك فانتظروا إنى معكم من المنتظرين. وفي النهاية قد حكم اللّه حكما لا راد له أنه سينجى رسله والمؤمنين ، حكم بذلك وقدر ، وقال في كتابه : كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا « 1 » وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ « 2 » .
وفي هذه الآية إشارة إلى وجوب النظر في الكون ، والبحث عما فيه للاعتبار ، وتربية الخشية من اللّه والإيمان به ، وحث على العلم والبحث في الكون ولا غرابة فأنت إذا قلت أن أول ما نزل على نبيك محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قوله تعالى : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ « 3 » أدركت أن الإسلام دين علم وعمل ، وأن نبيك الأمى هو المعلم الأول.
المبادئ العامة للدعوة الإسلامية [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
___________
(1) سورة النساء آية 103.
(2) سورة التوبة آية 111.
(3) سورة العلق آية 1.(2/92)
ج 2 ، ص : 93
المفردات :
يَتَوَفَّاكُمْ يقبض أرواحكم حَنِيفاً مائلا عن الشرك وما يتبعه بِضُرٍّ من مرض أو ألم.
المعنى :
قل يا محمد للناس جميعا قولا مجملا مختصرا تبين فيه الخطوط الرئيسية لرسالتك العامة الشاملة ، إن كنتم في شك قليل من ديني ورسالتي فاعلموا أنى لا أعبد الذين تعبدونهم من دون اللّه أبدا ، كالأحجار ، والأصنام ، والأوثان ، والبشر هؤلاء جميعا لا ينفعون ولا يضرون أنفسهم فكيف يتصور منهم نفع أو ضر لغيرهم ؟ ولكني أعبد اللّه وحده لا أشرك به شيئا - سبحانه وتعالى - الذي يتوفاكم إليه ، وإليه مرجعكم وجزاؤكم ، وعنده حسابكم الدقيق الذي أحصى كل شيء عددا ، وأمرت أن أكون من المؤمنين الناجين من عذاب يوم القيامة ، وهذا الوصف بالإيمان يجمع جميع شعبه ونواحيه ، وأمرت بأن أقيم وجهى خالصا لله ولدينه مائلا عن الشرك بكل صوره وأشكاله البسيطة والكبيرة ، ونهيت عن أن أكون من المشركين ، ولا تدع يا محمد متجاوزا اللّه - سبحانه - ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين لنفسك.
واعلم أن اللّه - سبحانه وتعالى - إن يمسسك في جسمك أو في مالك بأى شكل كان فلا كاشف لهذا الألم والضر إلا هو ..
وإن يرد بك خيرا في دينك أو دنياك فلا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا مانع لفضله - سبحانه وتعالى - عما يصفون.
بل فضله يصيب به من يشاء من خلقه حسب حكمته وعلمه وهو الحكيم في أمره العليم بخلقه وهو الغفور الرحيم.(2/93)
ج 2 ، ص : 94
خلاصة ما مضى [سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
هذه خاتمة المطاف في تلك السورة العظيمة التي شرحت الأسس العامة للذين ، وبينت عقائد الإسلام التي ينكرها مشركوا العرب من توحيد اللّه. والوحى والرسالة والبعث والجزاء ، وما ينكرونه من صفات اللّه - سبحانه وتعالى - وتكلمت على القرآن الكريم وهدايته وما فيه من خير للبشرية جميعا ، وكيف كانت الأمم السابقة وما حصل لها ، نتيجة كفر من كفر وإيمان من آمن.
هذا النداء المأمور به الرسول الأعظم هو للناس جميعا على اختلاف أشكالهم وألوانهم من سمع منهم بالقرآن ومن سيسمع في المستقبل وهو إجمال عام لما في السورة.
قل يا أيها الرسول للناس جميعا قد جاءكم الحق من ربكم على لسان رجل منكم أوحى إليه ، هذا الحق الثابت الذي لا شك فيه كتاب أحكمت آياته ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فمن اهتدى به فإنما يهتدى لنفسه ومن كفر فإنما يضل على نفسه ، وما أنا عليكم بوكيل ، إن أنا إلا نذير وبشير.
واتبع يا محمد ما يوحى إليك من ربك في القرآن علما وعملا وتعليما وحكما وهداية وإرشادا ، واصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ، ولا تستعجل لهم حتى يحكم اللّه بينك وبينهم وهو خير الحاكمين.
يا أيها الناس ....
إن اللّه الذي وضع نظاما دقيقا محكما لهذا الكون وما فيه ، لم يختل ولن يختل لا(2/94)
ج 2 ، ص : 95
يعقل أن يترك الإنسان المكرم عنده ، المشرف من خلقه بلا نظام ولا قانون يحكمه ويهديه.
واللّه قد أنزل القرآن وفيه حكم اللّه وآياته وقوانينه الصالحة النافعة ، قوانين إلهية ودساتير ربانية صنعها صانع السماء والأرض ، وأوجدها موجد هذا الكون. أفبعد هذا تتركونها إلى غيرها أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. [سورة المائدة آية 50].
أسأل الكريم في ختام هذا الجزء أن يوفق قادة الأمة وحكامها إلى الخير والسداد في اختيار دستور البلاد وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [سورة المائدة آية 49].(2/95)
ج 2 ، ص : 96(2/96)
ج 2 ، ص : 97
سورة هود عليه السلام
مكية على القول الصحيح ، وعدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة.
وقد نزلت بعد سورة يونس ؟ هي في معناها وموضوعها ، وفصل فيها ما أجمل في سابقتها ، وكلاهما يتناول أصول العقائد ، وإعجاز القرآن والكلام على البعث والجزاء والثواب والعقاب ، مع ذكر قصص بعض الأنبياء بالتفصيل ألا ترى أن المناسبة بينهما ظاهرة ؟ ! وروى الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر - رضى اللّه عنه - : يا رسول اللّه : قد شبت! قال : « شيّبتنى هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعمّ يتساءلون ، وإذا الشّمس كوّرت »
، ولا غرابة ففي تلاوة هذه السورة ما يكشف سلطان اللّه وبطشه مما تذهل منه النفوس ، وتضطرب له القلوب وتشيب منه الرءوس.
وذلك حينما نقف على أخبار الأمم الماضية ، وما حل بها من عاجل بأس اللّه ، وقيل :
إن الذي شيبه من سورة هود قوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.
في الأصول العامة للدين [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (4)(2/97)
ج 2 ، ص : 98
المفردات :
الر تقرأ ألف. لام. را ، وفيها ما ذكرناه في أول سورة البقرة من اختلاف العلماء وانتهينا إلى أنها سر من أسراره تعالى ، هو أعلم به ، وفي القرآن الكريم محكم ظاهر المعنى ومتشابه اللّه أعلم به ، والرأى الثاني : أنها للتحدى والإلزام ، أو هي أداة استفتاح وتنبيه لما سيلقى بعدها. والملاحظ أن هذه السور المفتتحة بتلك الحروف مكية إلا سورتي البقرة وآل عمران ، وأنها تعالج إثبات التوحيد والبعث والكلام على القرآن الكريم وإعجازه إلخ. ما كان يخاطب به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مشركي مكة ، ويلاحظ أن فيها غالبا قصص الأنبياء الذين كانوا يسمعون عنهم ، ولا يعرفون من أخبارهم شيئا ، وهذه الحروف تارة تكون آية مستقلة ، أو تكون جزء آية وصدق اللّه وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الإسراء آية 85].
المعنى :
هذا كتاب عظيم الشأن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، كتاب أحكمت آياته بوضوح المعنى ، وبلاغة الدلالة وقوة التأثير ، فهي كالبناء المحكم والحصن المنيع لا ريب فيها ولا شك. ثم فصلت ، ورتبت ، ونظمت ، وسويت ، في سور مترابطة ، وآيات متناسبة فكل سورة منه آية بديعة ، وقطعة فنية عالية في سماء البيان والبلاغة ، فصلت كما تفصل القلائد بالفوائد ، ففي السورة عقائد وأحكام ، وقصص ومواعظ وأدب واجتماع ، وعلوم ومعارف ، وغير ذلك.
أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم كامل الحكمة ، وخبير عليم ، هو الذي فصلها ، وفي ذكر (ثم) إشارة إلى أن مرتبة التفصيل أعلى وأسمى من مرتبة الأحكام فقد جمع القرآن بين أطراف الكمال والجلال.
فصل هذا الإحكام ، والتفصيل للقرآن وآياته لئلا تعبدوا إلا اللّه وحده ولا تشركوا به شيئا ، وهذا هو الأساس الأول ، والمقصود المهم لكل نبي ورسول كما ستراه في القصص الآتية.
وقيل أمر رسول اللّه أن يقول للناس : أمركم ربكم ألا تعبدوا إلا اللّه ، إننى لكم(2/98)
ج 2 ، ص : 99
منه - سبحانه وتعالى - نذير لمن أصر على الكفر والشرك والمعصية ، نذير لهؤلاء بالعذاب الأليم ، وبشير لمن آمن واهتدى بالسعادة والنعيم المقيم.
وأن استغفروا ربكم ، واسألوه المغفرة من الشرك والكفر والذنب ثم توبوا إليه نادمين على الفعل ، عازمين على عدم العودة ، مصلحين ما أفسدتم ، عاملين الصالح من الأعمال إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [سورة الفرقان آية 70].
وانظر يا أخى في الجمع بين الاستغفار والتوبة والعطف بثم!! وهذا كله يفيد أن القول غير العمل ، وأن مرتبة العمل (التوبة) مرتبة عالية سامية فوق مرتبة الاستغفار.
ما جزاء هذا ؟ !! جزاء من تاب وعمل صالحا بعد الاستغفار جزاؤكم أن اللّه يمتعكم متاعا حسنا من رزق حلال ، وسعادة في الدنيا ، وعيشة رغدة ، ونعمة متتابعة كل هذا إلى أجل مسمى ، ونهاية محدودة بالموت والفناء ، وانقضاء الأجل. المحدد عنده - تعالى - ، هذا هو الجزاء في الدنيا ، أما في الآخرة فسيؤتى كل ذي فضل من علم وعمل نافع جزاء فضله مطردا كاملا غير منقوص.
انظر يا أخى - وفقك اللّه - إلى قوله - تعالى - : يُمَتِّعْكُمْ. وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ حيث جمع في جزاء الدنيا ، وجعله موقوتا محدودا ، وفي جزاء الآخرة إفراد ولم يقيد بشيء ، وفي هذا إشارة إلى أن ثواب الدنيا لمجموع الناس لا لكل فرد ، وأما في الآخرة فسيكون لكل فرد على حدة وعلى ذلك فالمعنى :
أيها المخاطبون من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إنكم إن تجتنبوا الشرك والإثم ، وتعبدوا ربكم وحده وتستغفروه من كل ذنب ، وتتوبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا تكونون به في الدنيا غير الأمم نعمة وقوة وعزة ودولة ، ويعط كل ذي فضل وعمل جزاء فضله في الآخرة كاملا غير منقوص كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ وأن تتولوا وتعرضوا فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير هوله ، عظيم خطره ، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب اللّه شديد ، وقيل : المراد بهذا اليوم أن يصيبنا في الدنيا ما أصاب غيرنا من أقوام الرسل ، وأما يوم الآخرة فأشار إليه بقوله : إِلَى اللَّهِ وحده مَرْجِعُكُمْ جميعا ، وجزاؤكم على أعمالكم كلها وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.(2/99)
ج 2 ، ص : 100
من أعمال الكفار مع كمال علم اللّه وقدرته [سورة هود (11) : الآيات 5 الى 7]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
المفردات :
يَثْنُونَ يقال : ثنى الثوب إذا عطف بعضه على بعض فطواه ، وثناه عنه لواه وحوله وطواه ليخفيه ، وثنى عطفه أعرض بجانبه تكبرا والمراد : أعرضوا وطووا صدورهم على ما فيها من مكنون الحقد والحسد لِيَسْتَخْفُوا أى : فلا يراهم أحد يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يغطون بها جميع أبدانهم.
دَابَّةٍ الدابة اسم عام يشمل كل ما يدب على الأرض زحفا على بطنه أو مشيا على قوائمه سواء كانت ثنتين أو أكثر ، وإطلاق الدابة على ما يركب من خيل أو حمير أو بغال إطلاق عرفي رِزْقُها غذاؤها.(2/100)
ج 2 ، ص : 101
المعنى :
ألا إن المشركين حين يسمعون الدعوة إلى اللّه ، وما يقوم به الرسل من البشارة والإنذار يثنون صدورهم ، ويعرضون عنه ويستدبرون الرسول عند تلاوة القرآن حتى لا يراهم أحد وقد ظهرت عليهم علامات الحقد والحسد والكراهية عند وقوع القوارع والحجج التي هي كالصواعق عليهم أو أشد.
ألا حين يستغشون ثيابهم ، ويغطون بها أجسادهم ، حين يخلون وأنفسهم فتظهر على حقيقتها ، والمراد أنهم لجهلهم يظنون خطأ أنهم لو يثنون صدورهم ، ويلتحفون بأثوابهم لا يراهم اللّه يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ
.
ألا فالله يعلم السر وأخفى ، ويعلم ما يسرون وما يعلنون ، وهو العليم بذات الصدور.
وقد أوجب اللّه على نفسه بمقتضى رحمته وكرمه ، وقدرته وعلمه. أوجب على نفسه أنه ما من دابة من أنواع الدواب توجد على ظهر الأرض أو في جوف البحر ، أو بين طيات الصخر. أو تطير في الجو ، إلا على اللّه رزقها وغذاؤها المناسب لها ، هدى كل دابة إلى ذلك بمقتضى الغريزة والطبيعة الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [سورة طه آية 5] لكل دابة رزقها المهيأ لها الواصل إليها بعد البحث والعمل.
وهو - سبحانه - يعلم مكان استقرارها ، ومكان استيداعها فهو يعلم مستقرها في الأصلاب أو الأرحام ، ويعلم مستودعها في الأرحام أو بطن الأرض ، كل ذلك من رزق واستقرار وتغيير واستيداع ثابت مرقوم في كتاب ظاهر معلوم كتب اللّه فيه قضاءه وقدره ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ [سورة الأنعام آية 38].
وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ، يومان لخلق الأرض ، ويومان لخلق أقوات الخلق وما يتبعه ، ويومان لخلق السموات السبع كما هو مفصل في سورة فصلت من « الحواميم » الآيتان 9 و10.
والأيام هنا المراد بها : الأوقات التي لا يعلم تحديدها إلا اللّه - سبحانه وتعالى - خلق السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام ، وكان عرشه على الماء أى : وكان عرشه قبل السموات والأرض على الماء ، وهل المراد بعرشه تصريفه وملكه أو هو شيء مادى آخر ؟ اللّه أعلم بكتابه مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [سورة آل عمران آية 7].(2/101)
ج 2 ، ص : 102
يقول اللّه - سبحانه وتعالى - : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ. وصدق اللّه العظيم.
وإنى أحب أن أقول : إن القرآن الكريم لم يأت كتابا علميا يفصل نظريات ويشرح قواعد علمية. وإنما جاء يعالج أمة بل العالم كله ، يعالجهم من ناحية التشريع والحكم ، ومن ناحية العمل والفقه ، ومن ناحية السياسة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ولذلك من يتعرض لاستنباط النظريات العلمية الدقيقة من القرآن ، ويحاول أن يحمل الألفاظ ما لا تطيق ، إنما هو باحث عاطفى.
ولكن القرآن الكريم لا يتعارض مع النظريات - أيضا - وإن تعارض ظاهره فإن الواجب علينا أن نرجع إلى أنفسنا ونعيد الفهم والتطبيق في النظريات العلمية. وهي محل بحث ونظر وقد تعدل أو يرجع عنها أصحابها فلا نجد في النهاية تعارضا وعلى ذلك يمكننا أن نفهم قوله - تعالى - : وكان عرشه على الماء.
والعرش هو التصريف والملك والأمر والحكم على رأى الخلف ، والسلف يرون أن العرش هو العرش بلا تأويل ، واللّه أعلم بحقيقته.
وأما الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض فهو الدخان الذي ذكر في الآيتين 9 و10 من سورة فصلت ، وهو الموافق لنظرية السديم ، ونظرية التكوين العلمية توافق نظرية القرآن في قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [سورة الأنبياء آية 30] كما توافق خلاصة البحث العلمي.
قبل أن تتكون الكواكب والنجوم كان الفضاء مملوءا بذرات دقيقة صغيرة تشبه الدخان والماء يقال لها السديم ، وكان لكل ذرة من هذه الذرات السديمية خاصيتان خلقهما اللّه في الذرة (الدوران حول النفس والجاذبية) ثم أخذت هذه الذرات في التجمع بسبب الجاذبية والدوران ، ونتج عن ذلك التجمع احتكاك تولد عنه الحرارة والالتهاب والضوء ، وهذه هي العناصر التي تتصف بها الشمس وتميزها عن الكواكب المعتمة المظلمة ، نشأ عن ذلك الاحتكاك وعن هذه الحرارة أن كان قرص الشمس رخوا. ومن شدة الحرارة وسرعة دوران الشمس حول نفسها انفصلت أجزاء منها وكونت ذلك الكوكب الذي نعيش عليه (الأرض) وأخذت الأرض تفقد حرارتها(2/102)
ج 2 ، ص : 103
بالإشعاع إلى أن بردت وأمكن الحياة عليها بعد أن صار فيها الماء واليابس ، وظل باطنها كما هو حار بدليل البراكين والزلازل.
ولجميع الكواكب والنجوم التي انفصلت عن الشمس خواص الذرات السديمية فالأرض مثلا تدور حول نفسها ، وتجذب ما فوقها وصدق اللّه - تعالى - : وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس آية 40].
ويمكن أن نستنتج الحقائق العلمية التالية التي تؤكد ما جاء في القرآن :
1 - قبل خلق السماء والأرض كانت هناك ذرات تشبه الدخان والماء هي أصل ذلك الكون.
2 - أن السموات وما فيها والأرض كانتا رتقا واحدا أى جزءا واحدا ففصلهما اللّه على النحو المذكور سابقا ، وجعل بينها الهواء الذي كان له الأثر الفعال في فقدان الأرض حرارتها لنعيش عليها ، وهذا الهواء المتحرك المتنقل على هيئة رياح سريعة هو سبب سقوط الأمطار وتكوين البحار والأنهار ، والماء أساس كل شيء حي ، فالله فتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ وهذا رأى في تفسير الفتق غير الماضي.
3 - ليس هناك جرم محسوس ملموس اسمه السماء بل السماء هي الفضاء اللانهائى الذي لا يعلمه إلا اللّه ، ويحتوي على سائر الكواكب والنجوم ، ومن الجائز أن السموات السبع هي المجرات .. والمجرة هي مجموعة الكواكب والنجوم التي ترتبط مع بعضها في أفلاك ومدارات محدودة ، وتشغل جانبا معلوما من الكون ، وهذه المجرات قد سواها اللّه في طبقات بعضها فوق بعض.
تلك نظرية العلم وهذا رأيه وإن كان ظاهر نصوص القرآن يفيد بأن السماء جرم وقد قلنا أن الأمور الغيبية يجب أن نعلمها كما ورد في القرآن وليس من الدين في شيء البحث الدقيق في تكوينها وما هي عليه ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة الآيتان 2 و3].
وعلىالمسلم أن يقف في أمر دينه عند نصوص قرآنه فإن أراد البحث العلمي الدقيق فليبحث وفي النهاية سيلتقى مع نظرية القرآن.(2/103)
ج 2 ، ص : 104
ثم علل - سبحانه وتعالى - هذا الخلق العجيب للسماء والأرض وما فيهما بقوله :
لِيَبْلُوَكُمْ أيها الناس ، وليظهر أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ؟ وذلك أنه خلق لنا ما في الأرض ، وسخر لنا كل شيء ، ورسم لنا الطريقين ليعلم علم ظهور من يقابل النعم بالشكران ، ومن يقابلها بالكفران ، وليجزي الذين أحسنوا بالحسنى وزيادة ، والذين أساءوا بما كانوا يعملون.
ولئن قلت يا محمد لهؤلاء الكفار : إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا بعد عجزهم عن قرع الحجة بالحجة : إن هذا إلا سحر مبين وهذه حجة العاجز.
طبائع الإنسان وتهذيب الدين لها [سورة هود (11) : الآيات 8 الى 11]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
المفردات :
أُمَّةٍ المراد أجل معدود وزمن معلوم وأصلها الجماعة من جنس واحد أو هم مجتمعون في زمن واحد ، وقد تطلق على الدين والملة إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ(2/104)
ج 2 ، ص : 105
وتطلق على الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ ، وعلى الزمن كما في قوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ وكما في هذه الآية نَعْماءَ النعمة ضَرَّاءَ الضر والألم.
المعنى :
لقد أرسل اللّه رسوله بالهدى ودين الحق ، وأرسله مبشرا ونذيرا وقد قال لقومه الكفار : إنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير ، ولكنهم يستهزئون به وبوعيده ويستعجلون العذاب استهزاء وكفرا فيقول اللّه ما معناه : واللّه لئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة من الزمن معدودة في علمنا ومحدودة في نظامنا وتقديرنا الذي اقتضى أن يكون لكل أجل كتاب .. ليقولن : أى شيء يمنع هذا العذاب من الوقوع!! فهم لا يسألون عن المانع ، وإنما ينكرون مجيء العذاب وحبسه عنهم ألا يوم يأتيهم ذلك العذاب ليس مصروفا عنهم ولا محبوسا إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ، وله يستعجلون وسيحيط بهم يومئذ من كل جانب فلا هو يصرف عنهم ، ولا هم ينجون منه ، اللّه - سبحانه - يقول :
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وفي هذه الآية بيان لحال الإنسان في اختبار اللّه له.
ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ، وأعطيناه نعمة من صحة وعافية وسعة رزق وأمن ثم نزعنا تلك النعمة منه مما يحدث على وفق سنتنا من مرض أو وهن أو موت أو كارثة إنه ليئوس شديد اليأس من رحمة ربه ، قطوع للأمل والرجاء في عودة النعمة له ، كفور بالنعم التي هو فيها إذ مهما أصيب في نعمة فعنده نعم وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم آية 34] وهكذا الإنسان لا يصبر ولا يشكر.
وتالله لئن أذقناه نعماء بعد ضراء ليقولن ذهبت المصائب عنى ولن تعود ضراء لي ، وإنما أوتيت ما أوتيت على علم عندي!! إن الإنسان لفرح بطر شديد الفرح والمرح فخور متعال على الناس لا يقابل النعم بالشكر الجزيل.
وانظر إلى قوله - تعالى - : أَذَقْنَا الذي يفيد اللذة والاغتباط ثم إلى قوله :(2/105)
ج 2 ، ص : 106
نَزَعْناها المفيد شدة تعلقه بالنعمة وحرصه عليها ثم إلى قوله في جانب النعمة أَذَقْنَا وفي جانب النقمة والضر مَسَّتْهُ فإن المس يشعر بكون الضر في أقل مرتبة من الملاقاة والإصابة.
هذا طبع الإنسان ، وتلك غريزته التي جبل عليها كل إنسان إلا الذين صبروا ، وعملوا الصالحات.
ومن هنا نعلم أن في الإنسان طبائع مادية كاليأس من رحمة اللّه ، والكفر بنعمته ، والفرح والبطر والفخر والكبر ، وهذه أدواء فتاكة وأمراض خطيرة علاجها الصبر والسلوان الناشئ عن قوة الإيمان والرضا بقضاء اللّه وقدره ، وعمل الصالحات من الأعمال النافعة كالبر والخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى آخر ما هو معلوم.
أولئك الصابرون العاملون المؤمنون لهم مغفرة من اللّه وأجر كبير لا يعلم كنهه إلا اللّه - سبحانه - وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ.
تقوية الروح المعنوية للنبي (صلّى اللّه عليه وسلم) وتحديهم بالقرآن [سورة هود (11) : الآيات 12 الى 14]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)(2/106)
ج 2 ، ص : 107
المفردات :
فَلَعَلَّكَ لعل تكون للتوقع وترجى المحبوب ، وهي في قوله - تعالى - لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ للإعداد والتهيئة. وقد تكون للتعليل كما في قوله : لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى وللاستفهام الشامل للإنكار منه كما في هذه الآية والمراد النفي أو النهى أى : لا تترك ضائِقٌ عارض لك ضيق الصدر والمراد الحرج والألم كَنْزٌ ما يدخر من المال في الأرض والمراد المال الذي يناله بغير كسب.
لا يزال الكلام من أول السورة في القرآن وحال الناس معه ، وما يلاقيه الرسول منهم من غم وضيق صدر ، وما يتبع ذلك من التحدي المثبت للوحى.
المعنى :
أتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك مما يشق سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد والنهى عن الشرك ، والإنذار لهم والنعي عليهم ؟ !! وضائق به صدرك ، وتتألم له نفسك من تبليغهم كل ما أنزل إليك والمراد بالاستفهام النفي أى : لا يكن منك ذلك كراهة أن يقولوا : لو لا أنزل عليه كنز يغنيه عن التجارة والكسب ، ويكون دليلا على صدقه ، أو جاء معه ملك من السماء يؤيده في دعواه ، وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [سورة الفرقان الآيتان 7 و8].
إن عناد المشركين وجحودهم وإعراضهم مع شدة اهتمام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بإيمانهم يفضى بحسب شأنه إلى ذلك لو لا عصمة اللّه - سبحانه - لنبيه وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء 74]. اقرأ معى قوله - تعالى - : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة 67].
لا يهمنك قولهم ، وطلبهم منك هذا ، إنما أنت نذير تبلغ كل ما أنزل إليك ولا عليك شيء بعد هذا سواء أرضى الناس أم غضبوا ، واللّه على كل شيء وكيل فهو الموكل بالعباد والرقيب عليهم والمجازى لهم فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [سورة الغاشية الآيتان 21 و22] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [سورة ق آية 44].(2/107)
ج 2 ، ص : 108
أيقولون افتراه واختلقه من عنده ؟ !! إن يقولون إلا كذبا وزورا ، قل لهم يا محمد : إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله في البيان والبلاغة والدقة والفصاحة ، والإحكام والإتقان في السياسة والاجتماع ، والقانون والتشريع ، والقصص والأخبار ، مفتريات من عند أنفسهم لا تدعون أنها من عند اللّه فإنكم أهل اللسان والبيان ، وأنتم العرب الفصحاء ، وفيكم الخطباء والشعراء ، وقد افتريتم على اللّه كثيرا باتخاذ الآلهة والأنداد والبنات والشفعاء له ، وحرمتم السائبة والوصيلة والحامي وغير ذلك من الأنعام والحرث.
وأما أنا فواحد منكم لم يسبق لي شيء من ذلك وقد لبثت فيكم عمرا من قبله لم تجربوا علىّ كذبا على مخلوق فكيف أفترى على اللّه - عز وجل - ؟ ! وإن كنتم تزعمون أن لي أعوانا على ذلك فادعوا من استطعتم من دون اللّه من الشركاء والشفعاء ، أو الخطباء والشعراء ، أو أهل الكتاب والأحبار ليعينوكم على الإتيان بمثله كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [سورة الكهف آية 5].
لقد عالج القرآن الكريم هذا الموضوع في عدة سور من القرآن الكريم فمرة تحداهم بالإتيان بمثل القرآن أو بسورة مثله أو بعشر سور مثله كما في هذه الآية ، ولقد علل المرحوم « الشيخ رضا » تعليل التحدي بعشر سور بأن هذه الآية في السورة العاشرة (سورة هود).
تحداهم القرآن بذلك فعجزوا ، ولم يجدوا من يعاونهم من آلهة وشركاء ، ولا من الفصحاء والبلغاء ، ولا من أعداء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من أهل الكتاب وغيرهم فلما عجزوا قامت الحجة عليهم إلى يوم القيامة ، وغيرهم من باب أولى.
فإن لم يستجب لكم من تدعوهم من دون اللّه ليظاهروكم على الإتيان بمثل هذا القرآن ، وبدا لكم الأمر ظاهرا للعيان ، فاعلموا أيها الناس علما أكيدا أنه إنما أنزل هذا القرآن على النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بعلم اللّه ومبينا لما أراده المولى لعباده من دين قيم ، وقانون محكم ، وتشريع كامل ، وقصص حق لا يمكن أن يعلمه محمد ولا غيره لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا.
واعلموا أنه لا إله إلا هو ، ولا معبود بحق سواه.(2/108)
ج 2 ، ص : 109
فهل أنتم مسلمون ؟ !! إنك لا تهدى من أحببت ولكن اللّه يهدى من يشاء - سبحانه وتعالى - .
من يؤثر الدنيا على الآخرة [سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
المفردات :
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ نؤد لهم ثمرات أعمالهم وافية تامة حَبِطَ الحبط :
هو هلاك بعض الأنعام من كثرة الأكل لبعض المراعى الخضراء والمراد فساد عملهم في الخير.
المعنى :
الناس على اختلاف مذاهبهم وألوانهم صنفان : صنف يؤمن بيوم القيامة وبالحياة الأخرى ، وصنف يعتقد أنه ما هي إلا الحياة الدنيا يموت ويحيا ، وما يهلكه إلا الدهر ، وهؤلاء هم المعنيون بهذه الآية من المشركين وغيرهم ، وهذا هو السبب في عدم إيمانهم بالقرآن بعد ظهور إعجازه فيما سبق ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة الآيتان 2 و3].
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها من متاع ولباس ، وزينة وأثاث ، وكان حظه من حياته ذلك فقط ، هؤلاء نوفى إليهم أعمالهم ، ونؤدى لهم جزاءهم كاملا في الدنيا ، وإنك تراهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم فيها غالبا على جانب من سعة الرزق ورغد العيش ، وهم لا يبخسون في الدنيا شيئا من نتائج كسبهم لأجل كفرهم.(2/109)
ج 2 ، ص : 110
أما في الآخرة فأولئك ليس لهم فيها إلا النار وسعيرها إذا لم يعملوا لها لأنهم لا يؤمنون بها ، وقد حبط ما صنعوا في الدنيا من صالح الأعمال وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً فأعمالهم من بر وخير لم يكن لها تأثير ولا فائدة إذ لم يعملوها لله وإنما الأعمال بالنيات ، ولذا كانت أعمالهم باطلة مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً.
[سورة الإسراء الآيتان 18 و19].
المؤمنون بالآخرة [سورة هود (11) : آية 17]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)
المفردات :
بَيِّنَةٍ حجة وبصيرة من ربه مِرْيَةٍ شك وريب.
ولما ذكر اللّه - تعالى - في الآية المتقدمة الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر في هذه الآية من كان يريد بعمله الآخرة وآمن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم.
المعنى :
أفمن كان على صلة بالله وبينة من ربه وثقة به ، وقد شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه كمن يريد الحياة الدنيا ويعمل لها ؟ إن بين الفريقين تفاوتا بعيدا وقد كان الأنبياء جميعا يحتجون على قومهم بأنهم على بينة من ربهم إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ(2/110)
ج 2 ، ص : 111
مِنْ رَبِّي
. قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان على علم يقيني ضروري بنبوته ، وهكذا كل مسلم آمن به ، وقيل المراد بالبينة : الحجج الناطقة الدالة على صدقه وأهمها القرآن.
وكان الشاهد الذي يتلوه ذلك الأمر النفسي والإيمان القلبي بأن الإسلام حق من اللّه. هو القرآن ، وقيل البينة القرآن والشاهد جبريل ويتلوه من التلاوة لا من التتبع.
أولئك يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعا لا يفرقون بين نبي ونبي.
ومن يكفر بهذا من الأحزاب والجماعات فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بذلك.
الكافرون وأعمالهم وجزاؤهم ، وكذلك المؤمنون [سورة هود (11) : الآيات 18 الى 24]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)(2/111)
ج 2 ، ص : 112
المفردات :
يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ المراد يحاسبهم ربهم الْأَشْهادُ هم الملائكة الكتبة الكرام الحفظة لَعْنَةُ اللَّهِ اللعن واللعنة : الطرد من رحمة اللّه عِوَجاً أى :
معوجة لا جَرَمَ أى : لا بد ولا مناص وهي تفيد التحقيق والتأكيد وَأَخْبَتُوا أصل الإخبات قصد الخبت وهو المكان المطمئن المستوي والمراد : خشعوا وأخلصوا للّه.
المعنى :
لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على اللّه الكذب ، واختلق البهتان والزور على اللّه في وحيه ، أو في صفته ، أو اتخذ الأولياء والشركاء والشفعاء له بدون إذنه ، أو زعم أن له ولدا. تعالى اللّه عما يشركون .. تنزه عما يصفون ، أولئك البعيدون في درجة الكفر والإشراك المتميزون على غيرهم من الخلق يعرضون على ربهم فيحاسبهم على أعمالهم ، ويقول الأشهاد من الملائكة الأبرار ، وقيل : منهم ومن الأنبياء والصالحين. يقول الأشهاد : هؤلاء المتميزون على غيرهم لسوء فعالهم هم الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة اللّه على الظالمين.
هم الذين يصدون عن سبيل اللّه غيرهم بكافة الطرق وكل الأساليب ويصفونها بالعوج وعدم الاستقامة ، ويطلبونها معوجة ليست على طريق الحق والعدل والكرامة والحال أنهم بالآخرة هم كافرون بها لا يؤمنون ببعث ، ولا يثقون في جزاء وتكرير (هم) للتوكيد.
أولئك لم يكونوا معجزين اللّه في الدنيا حتى يعاقبهم بالخسف والإزالة ، كما فعل بغيرهم وكيف يعجزون اللّه!! وهو القوى القادر الذي له ملك السموات والأرض ،(2/112)
ج 2 ، ص : 113
والحال أنهم ما كان لهم من دون اللّه أولياء ينصرونهم. ويمنعونهم من عذاب اللّه إن نزل بهم ، بل اقتضت حكمته أن يؤخر عذابهم إلى يوم تشخص فيه الأبصار ، يضاعف لهم العذاب ضعفين بالنسبة إلى عذاب الدنيا كل ذلك بسبب أنهم ما كانوا يستطيعون إصغاء السمع للقبول والبحث عن الحق ، وما كانوا يبصرون طريق الحق والخير وينظرون إلى الآيات القرآنية ، والآيات الكونية ، وذلك أنهم استحوذ عليهم الباطل ، وران على قلوبهم وفسدت نفوسهم حتى لم يعد فيها استعداد للخير أبدا ، وليس المراد نفى السمع والبصر بل المعنى أنهم ما كانوا يستخدمونهما في إيصال المعلومات ، وما كانوا يطيقون سماع الكلام ورؤية الآيات لفرط عنادهم وعتوهم وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
أولئك الذين وصفوا بما مضى قد خسروا أنفسهم ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وأى خسارة أشد من خسارة الذي يصلى نارا حامية لا يموت فيها ولا يحيا ؟ !! لا جرم ولا شك أنهم في الآخرة الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا.
أما من كان على عكس هذا فالله يقول فيه : إن الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات وخشعوا له ، واطمأنت نفوسهم بالإيمان ، ولانت قلوبهم ووجلت بالقرآن أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
مثل الكافر والمؤمن كالأعمى والأصم ، والسميع والبصير هل يستويان مثلا ؟ !! أتجهلون هذا المثل الحسن والفارق الكبير فلا تتذكرون ؟
القصة في القرآن
إن من أغراض القرآن المهمة إثبات التوحيد ، وما يتبعه من إثبات النبوة والبعث ، والكلام في التشريع للفرد والجماعة والأمة ، والقصص الخاص بالأمم السابقة وهو غالبا يساق في السور المكية والمبدوءة بأحرف مقطعة كهذه السورة مثلا.(2/113)
ج 2 ، ص : 114
وهنا يظهر سؤال لما ذا سيقت القصة في القرآن ؟ وما السر في اختلاف الأسلوب للقصة الواحدة ، ولما ذا كررت في عدة سور ؟
لقد كان القصص في كل لغة لونا من ألوان الأدب الفنى الرائع ، لما له من الأثر النفسي في قلوب سامعيه.
والقصص في القرآن ينبئنا عن أخبار الأنبياء والرسل ، وما حصل لهم ، وكيف قاموا بدعوتهم ؟ وكيف عالجوا أزماتهم ؟ وما انتهى إليه أمرهم ، وعلى العموم فهو مدرسة إلهية معلموها الأنبياء ، وتلاميذها الأمم.
ولقد سيقت للعبرة والعظة حيث يقف المسلمون والمشركون على أحوال من تقدمهم من الأمم فيعتبر ذوو الألباب ويتعظون ، وفيها التسلية الكاملة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه من حيث يقفون على أخبار الرسل وأممهم وكيف كانت العاقبة للمتقين ، والدائرة على الكافرين المعاندين ، وفي هذا تثبيت لهم وشحذ لعزائمهم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ والعبرة والعظة تظهر في قوله تعالى لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ آخر سورة يوسف.
وقد سيقت القصة دليلا على صدق الرسول وأن خبره من السماء إذ هو يقص أخبارا ما كان يعلمها هو ولا أحد من قومه ، ولا يكون هذا إلا بوحي من السماء تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف : 102] وهي علاج للقلوب ، ودواء للنفوس لما فيها من أخبار الأمم وما حل بالعاصين من عاجل بأس اللّه. فأهل اليقين وغيرهم إذا تلوها تراءى لهم من ملكه وسلطانه وعظمته وجبروته حيث يبطش بأعدائه ما تذهل منه النفوس. وتشيب منه الرؤوس
« شيّبتنى سورة هود وأخواتها »
. صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.(2/114)
ج 2 ، ص : 115
والقصة مدرسة المؤمنين المنتفعين بهدى القرآن هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ فيها أحسن الدروس ، وأقوى الأمثال التي تضرب لتحمل الدعاة المرشدين إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ. قال يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ إلى آخر ما في قصة نوح.
أما تكرارها في القرآن فلما في أغراضها ومقاصدها من معان جلية ، وفوائد سامية يحرص القرآن دائما على ذكرها لتكون ماثلة أمام أعين المسلمين بكل لون وأسلوب ، ولا غرابة فإنا نرى أصحاب الثورات والدعوات دائما في كل خطبة وفي كل موقف يرددون مبادئهم وأغراضهم وأعمالهم بأساليب مختلفة.
ولعل السر في اختلاف الأسلوب في القصة الواحدة تجديد النشاط وطرد السآمة والملل من نفس القارئ والسامع ، ولا تنس أن لكل سورة لونا خاصا وصفة خاصة وحسا خاصا. وفواصل خاصة ، وحالا للمخاطب خاصة تتناسب مع السياق وعلى العموم فلكل قصة سياق يتناسب مع ما سبقها وما أتى بعدها وهذا البحث يحتاج إلى كتاب يبحث فيه حال القصة الواحدة مع كل الملابسات السابقة.
قصة نوح عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 31]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)(2/115)
ج 2 ، ص : 116
المفردات :
أَراذِلُنا جمع أرذل الذي هو جمع رذل مثل كلب وأكلب. وقيل : جمع أرذل وهو النذل والمراد : الأخساء والسفلة وأصحاب الحرف الخسيسة ، وورد أنهم الفقراء والضعفاء بادِيَ الرَّأْيِ ظاهره ، الذي يبدو للناظر فيه من غير فكر ، أو المراد بادئ الرأى أى : في بدئه الذي يظهر منه أول وهلة فَعُمِّيَتْ خفيت عليكم خَزائِنُ اللَّهِ المراد أنواع رزقه التي يحتاج إليها العباد تَزْدَرِي المراد تحتقرهم أعينكم وهذه القصة مسوقة لتأكيد ما قبلها من دلائل النبوة وأصول التوحيد.
وإثبات البعث والجزاء لمن آمن ومن كفر ، حتى يعلم الكفار عن أمة محمّد صلّى اللّه عليه وسلم أنه ليس بدعا من الرسل ، وأن حاله كحال غيره من النبيين وأن جميع الأنبياء متفقون في أصول الدعوة من التوحيد الخالص ، وإثبات البعث والجزاء .. وفي هذا ما فيه من أغراض القصة في القرآن.(2/116)
ج 2 ، ص : 117
ولقصة نوح في هذه السورة عناصر منها :
(أ) بيان دعوته بالإجمال وما رد به قومه عليه.
(ب) مناقشتهم والرد عليهم في شبهاتهم.
(ج) اشتداد الحالة وتوترها حتى استعجلوا العذاب ، وقد يئس نوح منهم.
(د) كيف صنع نوح السفينة.
(ه) بدء نهايتهم ونجاة نوح ومن آمن.
(و) استشفاع نوح لابنه.
المعنى :
تالله لقد أرسلنا نوحا وهو أول رسول ، وقومه أول قوم أشركوا بالله غيره ، أرسلناه فقال لهم : إنى لكم نذير بين الإنذار ظاهره. على ألا تعبدوا إلا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. ألست معى في أن الرسل جميعا يشتركون في أصول الدعوة إلى اللّه ؟ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [سورة نوح الآية 2].
أمرهم أن يعبدوا اللّه وحده ثم أنذرهم عذاب يوم أليم وعظيم وكبير ، ألا هو يوم القيامة أو يوم الغرق ، وصف بالألم الشديد ، والعذاب العظيم ، والهول الكبير في غير موضع من القرآن ، والظاهر أن نوحا وصفه بكل هذه الأوصاف التي حكيت عنه ، وفي غير هذه السورة أردف الأمر بالعبادة بقوله : أفلا تتقون. وهكذا غيره من الرسل للإشارة إلى أن التقوى هي الأمر الجامع المهم .. فبادر الملأ من قومه. والأشراف الذين كفروا بالله ورسوله إليه بحجج هي أوهى من نسيج العنكبوت قائلين :
ما نراك إلا بشرا مثلنا ، لا مزية لك ولا فضل حتى تدعى الرسالة والسفارة بيننا وبين اللّه. هل لك مال كبير ؟ أو جاه عريض ؟ . أو ولد وخدم ؟ ليس لك شيء من هذا فكيف تكون المطاع فينا والآمر لنا ؟ !! وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا وسفلتنا أصحاب الحرف والصناع من الفقراء والضعفاء ، أنكون مع هؤلاء في صف واحد على أن إقبال هؤلاء عليك واتباعهم(2/117)
ج 2 ، ص : 118
لك في بادئ الأمر وظاهره بدون تأمل ولا فكر! ولا نظر في عواقب الأمور وبواطنها يدعونا إلى مخالفتك وعدم اتباعك. أنفوا أن يكونوا مثل هؤلاء الفقراء وطلبوا من نوح أن يطردهم حتى لا يجتمعوا معهم في دين فأبى وخاف من اللّه.
وقالوا : ما نرى لكم ، أى : أنت ومن معك من عامة الناس ، ما نرى لكم علينا من فضل في علم أو رأى أو جاه أو قوة يحملنا على اتباعكم والنزول عن جاهنا وشرفنا ونكون معكم في سلك واحد لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف الآية 11].
بل الأمر أكثر من هذا وأشد وهو أننا نظنكم من الكاذبين المفترين ، ونرجح أنك - في دعواك النبوة لتكون متبوعا - كاذب ، وأنهم في تصديقهم لك واتباعهم رأيك - كاذبون. فأنتم جميعا متآمرون على قلب الوضع ونظام الحكم عندنا.
كيف ناقشهم نوح - عليه السلام - ورد عليهم شبهاتهم :
قال نوح يا قومي الأعزاء أخبرونى ماذا أفعل! إن كنت على حجة من ربي ظاهرة فيما جئتكم به ، تبين لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي إذ ليست النبوة من كسب البشر حتى يستقيم لكم ادعاؤكم أنى بشر مثلكم فكيف أكون نبيا مرسلا ، يا قوم : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته ، وقد أرسلنى لكم وآتاني رحمة من عنده خاصة بي فوق رحمته العامة للناس جميعا ، ولكنها عمّيت عليكم بالجبر والإلجاء! لا. إنه لا إكراه في الدين أبدا من قديم الزمان ، وهذا رد على شبهتهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا.
ويا قوم لا أسألكم على دعائي لكم مالا ولا أجرا. ولست أطلب ملكا ولا جاها حتى تخشوا منى ، وتنفقوا على ، ما أجرى إلا على اللّه وحده ، وهكذا كل رسول.
انظر إلى قول اللّه على لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلم : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [سورة الشورى آية 23].
وماذا أفعل فيمن تسمونهم الأراذل ؟ !! وما أنا بطارد الذين آمنوا أبدا سواء أكانوا أغنياء أم فقراء ، لاحتقاركم لهم فأنتم تحتقرونهم لفقرهم وضعفهم ، وأنا أجلهم وأكرمهم لأنهم آمنوا واعتزوا بالله وبرسوله ، ويظهر أن هذه عادة مجرمى الكفار والأشرار من الناس قديما وحديثا اقرأ معى قوله تعالى : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام الآية 52] فهذا نهى للنبي صلّى اللّه عليه وسلم.(2/118)
ج 2 ، ص : 119
قال نوح : أنا لا أطرد من آمن بالله. إنهم سيلاقون ربهم وسيحاسبهم على أعمالهم كما أنه سيحاسبكم على أعمالكم ، ما على إلا البلاغ فقط ، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق.
ويا قوم : من ينصرني من عذاب اللّه إن طردتهم ؟ أفلا تتذكرون وتتعظون ؟ فهذا رد على شبهتهم الثانية وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا.
ولا أقول لكم : عندي خزائن اللّه ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول : إنى ملك.
نفى نوح - عليه السلام - هذه الثلاث ، فإن الكفار مع الأنبياء جميعا كانوا يعتقدون لنظرتهم المادية للأشياء أن الأنبياء لا بد أن يكونوا أغنياء موسرين ، يعلمون الغيب ، ويجب أن يكونوا من الملائكة لا من البشر وإلا كانوا كسائر البشر لا فضل لهم فكيف يدعون النبوة ؟ !!.
فالمعنى لا أَقُولُ لَكُمْ بادعائى النبوة : إنى أملك خزائن اللّه وأرزاق الناس ، ولست أعلم الغيب إلا ما علمني اللّه مما يتصل بالرسالة وهذا من إمام الأنبياء يقول اللّه عنه : قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [سورة الأعراف الآية 188].
يا عجبا لكم!! كيف تطلبون أن يكون الرسول ملكا ؟ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا حتى يمكن التفاهم معه وللبسنا عليهم ما يلبسون.
ولا أقول للذين تزدريهم أعينكم ، وتحتقرونهم لفقرهم وضعفهم : لن يؤتيهم اللّه خيرا وسعادة في الدنيا والآخرة ، لا أقول هذا أبدا اللّه أعلم بما في نفوسهم وسيجازيهم عليه ، إنى إذا قلت ذلك لأكونن من الظالمين لأنفسهم لا من الأنبياء والمرسلين.
اشتداد الحال حتى استعجلوا العذاب [سورة هود (11) : الآيات 32 الى 35]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)(2/119)
ج 2 ، ص : 120
المفردات :
جادَلْتَنا الجدل اشتداد الخصومة مشتق من الجدل وهو شدة القتل ومنه قيل للصقر : أجدل ، والجدل في الدين محمود فهو وظيفة الأنبياء ، وأما الجدال فهو المخاصمة بما يشغل عن ظهور الحق فهو باطل ومذموم نُصْحِي النصح : قصد الخير للمنصوح والإخلاص فيه قولا وعملا يُغْوِيَكُمْ الإغواء الإيقاع في الغي والفساد حسيا كان أو معنويا ، وقيل : هو المرض أو الهلاك.
بذل نوح غاية جهده في نصح قومه ، واجتهد في أن يتبعوه في الإيمان بالله والبعد عن عبادة الأصنام ، مكث على ذلك ألف سنة إلا خمسين عاما ، ولكن ما زادهم ذلك إلا فرارا ، وعتوا واستكبارا حتى ضاقوا به ذرعا ، وضاق بهم ذرعا ، وكبر عليهم مقامه وبلغ السيل الزبى : اقرأ إن شئت قوله - تعالى - في سورة نوح الآيات من 1 - 24 وقوله - تعالى - : في سورة يونس يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ. آية : 71.
المعنى :
قالوا يا نوح قد خاصمتنا وحاججتنا فأكثرت جدالنا ، ولم تدع لنا حجة إلا أبطلتها ورددتها حتى سئمنا ومللنا .. فائتنا بما تعدنا به من العذاب في الدنيا أو الآخرة إن كنت من الصادقين في قولك : إنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير.
فرد نوح عليهم بقوله : إن الذي أعدكم به وأخاف عليكم منه بيد اللّه لا بيدي ، وأمره إلى اللّه فقط إن شاء أنزله فورا وإن شاء أجله على أنكم لستم بمعجزين اللّه هربا(2/120)
ج 2 ، ص : 121
فأنتم في ملكوته وتحت قبضته .. ولا ينفعكم نصحى لكم وإخلاصى معكم في شيء أبدا إن أردت ذلك. إن كان اللّه يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحى أبدا ، إذ قبول النصح والانتفاع به يكون للمستعد للخير القابل له. أما إذا فسدت النفس وران على القلب الحجاب فلن يرى النور ولن ينتفع به ، ومعنى إغواء اللّه على إرادته أن يكونوا من الغاوين لا خلق هذه الغواية فيهم ، وفسر ابن جرير الطبري الغواية بالهلاك فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [سورة مريم آية 59].
إن كان اللّه يريد أن يغويكم هو ربكم ومالك أمركم وإليه ترجعون .. أم يقولون افتراه وهذا إضراب انتقالي على معنى بل أيقولون افتراه واختلقه ؟ قل لهم : إن افتريته فعلىّ وحدى ذنب جرمي. قال بعضهم : إن هذه الآية معترضة في قصة نوح وهي من قول مشركي مكة وهذا رد محمد صلّى اللّه عليه وسلّم عليهم.
وقيل هذا من كلام نوح ، ومن رد نوح عليهم .. وهذا يشبه قوله : وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. [يونس 41].
يأس نوح منهم وصنعه السفينة [سورة هود (11) : الآيات 36 الى 41]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)(2/121)
ج 2 ، ص : 122
المفردات :
تَبْتَئِسْ الابتئاس : حزن في استكانة ، والمراد : لا تغتم بهلاكهم بِأَعْيُنِنا المراد بملاحظتنا ومراقبتنا ، والفلك السفينة سَخِرُوا استهزءوا وضحكوا فارَ التَّنُّورُ المراد : ظهور الماء على وجه الأرض بكثرة ، والفوران الغليان ، والتنور هو المكان الذي يصنع فيه الخبز. وقيل : هو تمثيل لاشتداد الغضب.
المعنى :
أوحى ربك إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من آمن بالفعل فلا تحزن على كفرهم ولا تبتئس لفعلهم فقد سبق فيهم القضاء وحقت كلمة ربك على الذين كفروا.
واصنع الفلك لتكون أداة لنجاتك من الغرق أنت ومن معك من المؤمنين ، اصنعها بأعيننا وتحت ملاحظتنا حالة كونك مشمولا برعايتنا ومعلما بوحينا لك كيفية الصنع حتى لا تقع في خطأ ، وجمع الأعين بِأَعْيُنِنا للإشارة إلى كمال العناية وتمام الرعاية.
ولا تخاطبني يا نوح في شأن الذين ظلموا أبدا فقد حم القضاء ، ونزل البلاء ، وحقت عليهم الكلمة أنهم لمغرقون فلا تأخذك بهم رأفة ولا رحمة.
ويصنع السفينة وكلما مر عليه جماعة من أشراف قومه سخروا منه واستهزءوا به ظانين أنه مجنون ينفق وقته وجهده في عمل لغو لا فائدة فيه ، قال نوح مجيبا لهم :
إن تسخروا منا اليوم لصنعنا شيئا هو في ظنكم خرق وحماقة فإنا نسخر منكم كما تسخرون جزاء وفاقا ، فلسوف تعلمون قريبا من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا بالغرق ، ويحل عليه عذاب مقيم دائم في الآخرة.(2/122)
ج 2 ، ص : 123
كان يصنع السفينة جادا في عمله ، متألما من سخريتهم حتى إذا جاء أمرنا ، واشتد غضبنا وحانت الساعة ، ويا لها من ساعة حين فار التنور ، وجاءت السماء بالمطر مدرارا ، وتفتحت العيون بماء غزير فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ قلنا : احمل في السفينة من كل نوع من الأحياء زوجين اثنين ذكر وأنثى ، واحمل فيها أهل بيتك ذكورا وإناثا ، إلا ما استثنى منهم ممن سبق عليه القول فصار في عداد الكفار المغرقين ، واحمل فيها من آمن معك من قومك ، وما آمن معه إلا القليل. نعم وقليل ما هم .. إن الكرام قليل.
وقال نوح : اركبوا فيها قائلين : باسم اللّه مجريها ، أى : إجراؤها ومرساها أى :
إرساؤها نعم من اللّه كل شيء ، وهذه بشارة لهم بحفظها ورعايتها من اللّه.
إن ربي لغفور ستار رحيم بالخلق كريم ، ومن مظاهر رحمته نجاة المؤمنين وهلاك الظالمين.
نهاية القوم واستشفاع نوح لابنه [سورة هود (11) : الآيات 42 الى 49]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)(2/123)
ج 2 ، ص : 124
المفردات :
مَوْجٍ جمع موجة وهي ما يحدث عند اضطراب البحر من التموج وارتفاع المياه سَآوِي سألجأ يَعْصِمُنِي يحفظني ابْلَعِي البلع ازدراد الطعام أو الشراب بسرعة غِيضَ الْماءُ جف ونضب الْجُودِيِّ جبل معروف في ديار بكر.
المعنى :
تصوير للسفينة وقد سارت وسط المياه. تصوير إلهى.
وهي تجرى بهم وتسير بسرعة دافقة وسط أمواج كالجبال الشاهقة في ارتفاعها وعظم حجمها ، ولما رأى نوح نهاية القوم أخذته عاطفة الأبوة واستولت عليه ، ونادى ابنه ،(2/124)
ج 2 ، ص : 125
وكان في مكان منعزل عنه : يا بنى ، اركب معنا سفينة النجاة ، وإياك يا بنى أن تكون مع الكافرين المهلكين.
وكان هذا الابن عاصيا لوالده ، غير مطيع لأمره كافرا برسالته ووحيه ولذا قال مجيبا أباه : سآوى إلى جبل يحفظني من الماء ، يا سبحان اللّه!! من يهد اللّه فهو المهتد ، ومن يضلل اللّه فلا هادي له.
نوح يبصّر ابنه طريق الخير فيأبى إلا طريق الشر ، ويقول : سألجأ إلى جبل يحفظني من طغيان الماء كأنه فهم أنه ماء من بحر أو نهر له حد محدود يقف أمام ربوة عالية أو جبل شامخ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص آية 56] قال نوح ردا على كلامه وحجته الواهية : يا بنى لا شيء في الوجود يعصم أحدا من أمر اللّه إذا نزل ويرد قضاءه إذا حكم لكن من رحم اللّه من الخلق فهو وحده يعصمه ويحفظه ، وقد جعل السفينة منجاة للمؤمنين.
وبينما هم في هذا النقاش حال بينهما الموج فكان الابن من المغرقين.
أقرأ يا أخى إن شئت قوله - تعالى - في سورة القمر : فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [11 - 16] إنه لتصوير رائع للسفينة.
وقيل : يا أرض ابلعي ماءك وجففيه ، ويا سماء أقلعى وكفى عن المطر وامنعيه ، وما هو إلا أمر وامتثال ، أمر من قال للشيء كن فيكون ، فهو أمر تكويني يوجه للعقلاء وغيرهم ..
وغاض الماء عقب هذا الأمر ، وقضى الأمر ، ونجا المؤمنون ، وهلك الكافرون فهل من مدكر ؟ !! واستوت السفينة واستقرت على الجودي ، وقيل بعدا وهلاكا ، وطردا وعذابا أليما للقوم الظالمين.
ويقول المفسرون مجمعين : إن هذه الآيات من البلاغة بالمحل العالي ، والمكان المرموق.(2/125)
ج 2 ، ص : 126
ولما رأى نوح نهاية القصة وقد ختمت بهلاك الكافرين ومنهم ابنه ساورته أحاسيس العطف على ابنه والأسف العميق على نهايته فنادى ربه فقال رب : إن ابني من أهلى ، وقد وعدتني بنجاتهم ، وأن وعدك الحق وقولك الصدق ، وحكمك العدل ، وأنت خير الحاكمين ، ومن أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون ؟ !! قال الرب - سبحانه وتعالى - : يا نوح ، إن ابنك ليس من أهلك الذين أمرتك أن تحملهم معك : لما ذا ؟ !! إنه عمل عملا غير صالح ، وكفر باللّه ورسوله ولا ولاية بين مؤمن وكافر مهما كان قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ [سورة الممتحنة آية 4] وفي قراءة حفص « إنّه عمل غير صالح » كأنه نفس العمل السيّئ مبالغة.
فلا تسألن يا نوح في شيء ليس لك به علم صحيح إنه حق وصواب إنى أعظك وأنصحك أن تكون من الجاهلين يسألون بطلان تشريع اللّه وقانونه ، وتقديره في خلقه فهو العليم بهم البصير بشأنهم ، ويظهر لي واللّه أعلم سؤال كان بناء على أنه رأى ابنه في معزل من القوم فظن أنه ربما يكون قد آمن ، ودخل في زمرة أهله ، وقد سهل له هذا ما في الإنسان من غريزة حب الولد ، فنوح - عليه السلام - قد أخطأ في الفهم والاجتهاد ، وكان عتاب اللّه له لأنه نبي وأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ولذا قال نوح بعد هذا : ربي. إنى أعوذ بك وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح.
وإن لم تغفر لي وترحمني : وتقبل توبتي برحمتك التي وسعت كل شيء أكن من الخاسرين.
فانظر يا أخى وفقك اللّه إلى أن القرابة والأخوة في اللّه أقوى من قرابة النسب ، وأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، وأن ابن نوح - عليه السلام - حين كفر قد حكم اللّه عليه بأنه ليس من أهله. واعلم أن الإيمان والصلاح لا علاقة له بالوراثة كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [سورة الطور آية 21] وأن جزاء الإيمان الصالح من الأعمال يكون في الدنيا غالبا وفي الآخرة حتما.
وقد كان ما كان من قصة نوح مع قومه التي انتهت بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين ،(2/126)
ج 2 ، ص : 127
قيل بعد هذا : يا نوح اهبط من السفينة أو من على الجبل بعد أن كفت السماء عن المطر ، وابتلعت الأرض الماء ، واستوت السفينة على الجودي.
اهبط متلبسا بسلام منا ومتمتعا بأمان وتحية من عند اللّه مباركة طيبة ، اهبط بسلام وبركات ونماء وسعة في الرزق عليك وعلى أمم ممن معك من الخلق إنسانا كان أو حيوانا ، وأمم من ذرية من معك سيتمتعون بالخيرات والطيبات في الدنيا والآخرة ، وأمم من الذرية سنمتعهم في الدنيا ثم نضطرهم إلى عذاب أليم في الآخرة وذلك لكفرهم وعنادهم.
وهكذا كان الخلق أولا من ذرية نوح مؤمنين صالحين متمتعين في الدنيا والآخرة ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ، وسيمسهم من عذاب أليم.
أما العبرة العامة لهذه القصة فقد تقدم الكلام عليها ، ومنها هنا الدلالة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فما كان يعلم هو ولا أحد من قومه ذلك القصص المحكم التام الشامل لأخبار نوح وقومه ، وكيف كانت عاقبة الظالمين ؟ ! فاصبر يا محمد كما صبر نوح من قبل فلقد عرفت مآل الصبر لنوح ولقومه المؤمنين وعاقبة الكفر ؟ واعلم أن العاقبة للمؤمنين.
قصة هود عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 60]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)(2/127)
ج 2 ، ص : 128
المفردات :
فَطَرَنِي خلقني على الفطرة السليمة مِدْراراً كثيرا اعْتَراكَ أصابك آخِذٌ بِناصِيَتِها المراد مسخرها ومصرفها كيف شاء جَبَّارٍ الجبار القاهر الذي يجبر غيره على اتباعه عَنِيدٍ لا يذعن إلى الحق مهما كان.
وتشمل القصة : تبليغ هود الدعوة إلى قومه ، وما ردوا به عليه ونقاشه لهم ، ونهاية القصة بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين.(2/128)
ج 2 ، ص : 129
المعنى :
وأرسلنا هودا إلى قبيلة عاد ، المشهور أنها عربية وقيل غير ذلك ، وكانت تسكن الأحقاف (في شمال حضر موت وغربي عمان ، وكانت قبيلة ذات قوة وبطش وأصحاب زرع وضرع ، زادهم اللّه بسطة في الجسم والمال ، وهم خلفاء قوم نوح) ، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الأعراف آية 69] أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشعراء الآيات 128 - 133].
أرسل إليهم أخاهم هودا من أوسطهم نسبا ، وأكرمهم بيتا قال لهم : يا قومي ويا أهلى : اعبدوا اللّه وحده ، لا تشركوا به غيره ، مالكم من إله غيره خلقكم ورزقكم وأمدكم بما تعلمون وما لا تعلمون ، إن أنتم إلا مفترون على اللّه الكذب في الشركاء والأوثان.
وكان في قبيلة عاد مترفون ألفوا التعالي على الغير ، واستمتعوا بالنعم حتى امتلأت قلوبهم كبرا وبغيا وفسادا وضلالا ، وهؤلاء هم أعداء الحق دائما إذ يرون في النبوة نورا يعمى أبصارهم ، ويفتح أذهان العامة فيأخذون حقهم ، فتكسر شوكتهم وتضيع دولتهم لذلك نرى مع كل نبي أن أول كافر به هم أشراف قومه إذ كيف يخضعون لواحد منهم بشر مثلهم.
قال هؤلاء : أجئتنا لنعبد اللّه وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟ إنا إذن لفي ضلال مبين ، ما أنت إلا شخص لك غرض خاص في هذه الدعوة.
فيرد عليهم هود : يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من عبادة اللّه وحده ونبذ الشرك والشركاء لا أسألكم عليه أجرا حتى تتهموني بطلب المنفعة ، وأن لي غرضا ما أجرى إلا على الذي خلقني على الفطرة السليمة ، وهداني إلى الحق الذي أدعو إليه أفلا تعقلون ما أدعوكم إليه ، وتميزون بين الحق والباطل ، ويا قوم استغفروا ربكم من ذنوبكم ثم توبوا إليه توبة نصوحا إنكم إن فعلتم ذلك يرسل المطر عليكم كثيرا فأنتم في حاجة إليه ، ويزدكم قوة إلى قوتكم ، وعزا زيادة على عزكم ، وإياكم والإعراض عن دعوتي فإن فيها الخير والفلاح.(2/129)
ج 2 ، ص : 130
قالوا إنا لنراك في سفاهة ، وضعف عقل وخروج عن جادة الصواب وإنا لنظنك من الكاذبين قال هود : ليس بي سفاهة وكيف أكون ذلك وأنا رسول رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين.
اشتد الأمر بعد ذلك ، وقالوا : يا هود ما جئتنا بحجة قوية تدل على أنك رسول من اللّه ، وما نحن بتاركي آلهتنا صادرين عن قولك من تلقاء نفسك ، وما نحن لك بمؤمنين ومصدقين برسالتك.
إن نقول إلا أصابك بعض آلهتنا بسوء حين تعرضت لهم وإنك اليوم مصاب بخبل في العقل وجنون في الرأى.
قال هود : أشهد اللّه أنى بلغت ما كلفت به ، واشهدوا أنى برىء مما تشركون به ، وإذا كان الأمر كذلك وأن آلهتكم لها قدرة على عمل ، فأجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم ثم كيدوني جميعا ، ولا تمهلون ، إنى توكلت على اللّه ربي وربكم ووكلت له أمر حفظي ، وهو على كل شيء قدير.
ما من دابة في الأرض أو السماء إلا هو آخذ بناصيتها ، ومصرف أمرها ومسخرها إلى أجل مسمى ، إذ له ملك السموات والأرض ، إن ربي على صراط مستقيم هو طريق الحق والعدل فإن تتولوا بعد هذا ، ولم تطيعوا أمرى فقد بلغت ما أرسلت به إليكم وأبرأت ذمتي من اللّه وسيستخلف ربي قوما غيركم ، ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ، وقائم ورقيب .. وهذه هي النهاية.
ولما جاء وقت أمرنا ، ونزول عذابنا ، نجينا هودا ومن معه من المؤمنين برحمة خاصة بهم لا تتعداهم إلى غيرهم ، نجيناهم من عذاب غليظ فظيع إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [سورة القمر الآيتان 19 - 20] فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [سورة الحاقة الآيتان 7 و8].
وتلك عاد جحدوا آيات ربهم وعصوا رسله أى : جنس الرسول وجنس الآيات الصادقة بآياته ورسوله وهم قد اتبعوا أمر كل جبار يجبر غيره على اتباع رأيه وهم الأشراف العنيدون الذين لا يخضعون للحق.(2/130)
ج 2 ، ص : 131
ألا إن عادا كفروا بربهم ، وجحدوا بآياته ، وكذبوا رسله ألا بعدا وطردا من رحمة اللّه لعاد وقوم هود.
قصة صالح - عليه السلام - [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)(2/131)
ج 2 ، ص : 132
المفردات :
اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها جعلكم تعمرونها مُرِيبٍ الريب الظن والشك يقال :
رابنى من فلان أمر يريبني ريبا إذا استيقنت منه الريبة. فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه الريبة قلت : أرابنى منه أمر فهو مريب فَذَرُوها اتركوها فَعَقَرُوها قتلوها الصَّيْحَةُ المرة الواحدة من الصوت الشديد والمراد بها الصاعقة التي أحدثت رجفة في القلوب وصعق بها الكافرون جاثِمِينَ ساقطين على وجوههم مصعوقين ، والجثوم للطائر كالبروك للبعير يَغْنَوْا يقال : غنى بالمكان أقام به.
وتتلخص قصة صالح فيما يأتى : كيف بلغ صالح دعوته. ورد قومه واحتجاجهم عليه ، ونقاشه لهم ، وآيته على صدقه ، وإنذارهم بالهلاك ، ووقوعه بالفعل.
وثمود قبيلة صالح من العرب ، وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشام إلى جهة واد القرى ، وآثار مدائنهم باقية إلى اليوم وكانت تعبد الأصنام فأرسل لهم صالح لإنقاذهم.
المعنى :
وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا من أوسطهم نسبا وأكرمهم خلقا وأرجحهم عقلا قال : يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله خلقكم ورزقكم غيره. أفلا تتقون ؟ هو الذي أنشأكم من الأرض بقدرته حيث خلق أباكم آدم من تراب ، وخلقكم أنتم من ماء مهين يتكون من الدم ، والدم من الغذاء وهو من الأرض ، واستعمركم فيها فجعل لكم جنات وعيونا ، وزروعا ونخلا طلعها هضيم [لطيف لين منكسر] وقد جعلكم تعمرونها بالزرع والصناعة وأنشأتم فيها بيوتا فارهين [حاذقين في صنعها] فاتقوا اللّه وأطيعونى ، واستغفروا ربكم من عبادتكم الأصنام ، ثم توبوا إليه واعملوا صالحا من الأعمال :(2/132)
ج 2 ، ص : 133
إن ربي قريب من خلقه يعلم خائنه الأعين وما تخفى الصدور خصوصا الاستغفار والتوبة ، ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
وما كان منهم إلا أن قالوا (ردا عليه) : يا صالح قد كنت فينا موضع رجائنا ومعقد أملنا لما لك من خلق وعقل قبل هذه الدعوة التي دعوتها ما الذي دهاك وألم بك!! تنهانا عن عبادة ما يعبده آباؤنا الأقدمون والمحدثون ؟ ! وإنا يا صالح لفي شك مما تدعونا إليه من عبادة اللّه وحده وترك عبادة أوليائه وأحبابه وشركائه. حقا إننا لفي شك وسوء ظن منك.
قال يا قوم : أخبرونى ماذا أفعل ؟ إن كنت على حجة من ربي ، وبصيرة من أمرى أن ما أدعوكم إليه هو من عند اللّه لا من عندي.
فمن ينصرني من عذاب اللّه إن عصيته بكتمان الرسالة فما تزيدونني بحرصى على رجائكم وخوفي من سوء ظنكم غير إيقاعى في الهلاك.
ويا قوم هذه آية على صدقى ، ناقة اللّه لكم. حيث لم تكن على السنن الطبيعي في نشأة أمثالها فقد
روى أنها خلقت من صخرة وكان لها شرب في يوم ، ولهم شرب في يوم آخر
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر 27 و28] وفي كتب التفسير روايات كثيرة عن الناقة.
يا قوم هذه ناقة اللّه لكم آية فذروها تأكل في أرض اللّه ، واتركوها ترعى حيث تشاء لا يعترضها أحد ، ولا تمسوها بسوء أيا كان نوعه ، فإنكم إن مسستموها بسوء فسيأخذكم عذاب قريب الوقوع ، عذاب أليم يدعكم كالهشيم المحتظر.
فنادوا صاحبهم قيل : هو قدار بن سالف فتعاطى فعقر ، وقد نسب العقر لهم جميعا لرضائهم على فعله فعقروها فقال لهم صالح : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ، وما أشد انتظار البلاء ، وما أطولها مدة يترقب فيها الإنسان عذابا محقق الوقوع ، ذلك وعد غير مكذوب فيه ومن أصدق من اللّه حديثا ؟ ! فلما وقعت الواقعة ، ونزلت الصاعقة نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ، ونجيناهم من خزي يومئذ ، إن ربك أيها الرسول هو القوى القادر العزيز الحكيم يعز من يشاء ويذل من يشاء من عباده فأخذهم العذاب إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء آية 8].(2/133)
ج 2 ، ص : 134
وأخذ الذين ظلموا أنفسهم بعصيان الرسول ، ومخالفته ، أخذتهم صيحة الصاعقة التي نزلت بقوم صالح فارتجفت لها قلوبهم وصعقوا بها حتى أصبحوا في ديارهم جاثمين جثوم الطير على الأرض لا حراك بهم كالهشيم المحتظر ، كأنهم لم يقيموا في ديارهم ، وقد خلت من بعدهم.
ألا إن ثمود كفروا بربهم فاستحقوا عقابه الصارم ، ألا بعدا لهم وسحقا لثمود ومن يشبههم من رحمة اللّه.
قصة إبراهيم - عليه السلام - وبشارته [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 76]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)(2/134)
ج 2 ، ص : 135
المفردات :
حَنِيذٍ مشوى يقطر دهنا نَكِرَهُمْ المراد : نكر ذلك منهم وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أحس منهم خوفا في نفسه يا وَيْلَتى أى : يا ويلي وهلاكي عَجُوزٌ عقيم الرَّوْعُ الخوف والرعب أَوَّاهٌ كثير التأوه مما يسوء ويؤلم.
ذكر إبراهيم - عليه السلام - في القرآن الكريم كثيرا ، فذكر مع أبيه وقومه ومع بشارته ولديه إسماعيل وإسحاق ، وذكر مع إسماعيل خاصة ، وذكر مع الملائكة مبشرين له بإسحاق ويعقوب مخبرين له بهلاك قوم لوط كما هنا.
المعنى :
وتالله لقد جاءت رسلنا من الملائكة قيل : هم جبريل وميكال وإسرافيل وقيل غير ذلك والأفضل التفويض إلى اللّه ، فالله أعلم بذلك ورسوله ، ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى بعد التحية منهم وقيام إبراهيم بواجب الضيافة.
فلما دخلوا عليه قالوا : سلاما عليك : قال عليكم سلام اللّه ، ترى أنه حياهم بأحسن من تحيتهم إذ من دقائق اللغة العربية أن قولك عليك سلام أبلغ من أسلم سلاما ، فما مكث ولا أبطأ في أن جاء بعجل سمين مشوى ينقط دهنا ، لونه أحمر ، لذة للآكلين فقربه إليهم وقال : ألا تأكلون ؟ فلما رأى أيديهم لا تصل إلى الأكل أنكر ذلك ووجده على غير ما يعهد في الضيفان. فإن الضيف لا يمتنع من الأكل إلا لريبة فيه أو قصد سيئ ، وأحس في نفسه منهم خوفا وفزعا إذ تبين أنهم ليسوا بشرا ، وقد يكونون ملائكة نزلت لتنفيذ عذاب واقع.
فلما رأوا منه ذلك قالوا له : لا تخف ولا يساورك شك فينا ، إنا رسل ربك أرسلنا إلى قوم لوط الذين بغوا واعتدوا ، لا نريد بك شرا ، ونحن مبشروك وأهلك بغلام عليم يحفظ نسلك ويبقى ذكرك ويلد يعقوب ، ومن ذريته أنبياء بنى إسرائيل ، وكانت امرأة إبراهيم قائمة على خدمتهم سامعة حوارهم فضحكت تعجبا مما رأت وسمعت أو سرورا من هلاك قوم لوط أو من البشرى لها بولد صالح ، ولعل البشرى كانت بعد الضحك بدليل العطف بالفاء.(2/135)
ج 2 ، ص : 136
فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، فلما سمعت البشرى قالت : يا ويلتى ويا عجبي!! أألد وأنا عجوز عقيم ؟ ! وهذا بعلى وزوجي شيخا كبيرا مسنا. إن هذا لشيء عجيب!! قالت الملائكة لها : أتعجبين من أمر اللّه وقضائه الذي لا يعجزه شيء إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
رحمة اللّه الواسعة وبركاته الكثيرة عليكم يا معشر بيت النبوة ، وأهل بيت إبراهيم الخليل تتصل وتتابع إلى يوم القيامة ، وهذا يدعو بلا شك إلى عدم العجب أنه - جل جلاله - حميد يستحق غايات المجد والثناء ، ممجد في الأرض وفي السماء.
فلما ذهب عن إبراهيم الروع والخوف من الملائكة ، وعلم أنهم ملائكة العذاب أتوا لقوم لوط ، وقد جاءوا له بالبشرى ، أخذ يجادل الملائكة ، وهم رسل اللّه في قوم لوط - إن إبراهيم لحليم فلا يحب أن يعاجل بالعقوبة ، كثير التأوه والتألم من عذاب الناس منيب إلى اللّه وراجع إليه - فأجابته الملائكة : يا إبراهيم أعرض عن جدالك واسكت ، إنه قد جاء أمر ربك بتنفيذ العذاب على هؤلاء ، وأنهم آتيهم عذاب لا يعلمه إلا هو غير مردود أبدا.
قصة لوط مع قومه وكيف نجا المؤمنون وهلك الكافرون [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)(2/136)
ج 2 ، ص : 137
المفردات :
سِي ءَ بِهِمْ وقع فيما ساءه منهم وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً المراد ضاق صدره بمجيئهم وكرهه ، وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق عن ذلك عَصِيبٌ شديد في الشر ، وفيه معنى الاجتماع يُهْرَعُونَ يسرعون ، ولا يكون الإهراع إلا سراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمى أو شهوة ، وهو فعل ملازم للبناء للمجهول رَشِيدٌ شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ السرى السير ليلا بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ببقية من الليل سِجِّيلٍ أى : من طين بدليل قوله في سورة أخرى :
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مَنْضُودٍ متتابع ومنظم ومعد لأعداء اللّه مُسَوَّمَةً لها علامة خاصة عند ربك لا تصيب غيرهم ، وهي مسومة أى : محكمة حرة لا يثنيها أحد وقوم لوط هم أسفل سدوم في دائرة الأردن.
المعنى :
ولما جاءت رسلنا من الملائكة لوطا بعد ذهابهم من عند إبراهيم سىء بهم ، واغتم(2/137)
ج 2 ، ص : 138
بمجيئهم لما يعلم من أخلاق قومه وضاق بهم ذرعا ، وعجز عن احتمال ضيافتهم ، وذلك لما يخافه من اعتداء قومه عليهم ، وقد روى أنهم جاءوا على شكل غلمان حسان وقال لوط (و هو ابن أخ إبراهيم - عليه السلام - ) : هذا يوم شديد قد اجتمعت فيه أسباب الشر.
وجاء قومه عند ما سمعوا بالضيوف وقدومهم جاءوا يهرولون مسرعين مدفوعين بدوافع نفسية شيطانية ، ولا غرابة في هذا فهم قوم كانوا يعملون السيئات من قبل ، فالسوء والاعتداء ، وإتيان الرجال شهوة من دون النساء غريزة فيهم مستحكمة أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال لوط : يا قوم هؤلاء بناتي لصلبى أو بنات القوم جميعا من ثيبات وأبكار تحت طلبكم وفي مقدوركم ، وهن أطهر لكم ، [و ليس معنى أطهر أن إتيان الرجال طاهر لا. لا ..] والمراد هؤلاء تحت طلبكم فتزوجوا العذارى. وأتوا نساءكم في الحلال ، ولا يعقل أن يعرض لوط بناته لهم للزنا فهذا لا يليق من رجل عاقل فما بالك بنبي مرسل لا يعقل هذا أبدا وإن كتب في سفر التكوين ونقله جهلا أو بحسن الظن بعض المسلمين ، بدليل قوله : فاتقوا اللّه ولا تخزون في ضيفي ، والمعنى : أجمعوا بما آمركم به بين تقوى اللّه باجتناب الفاحشة وبين حفظ كرامتي وعدم إذلالى وامتهانى في ضيفي ، أليس منكم رجل رشيد ؟ ذو رشد وعقل يرشدكم إلى الخير ويهديكم إلى الرأى ؟
قالوا : لقد علمت ما لنا في بناتك من حاجة ولا أرب ، فلا معنى لعرضك علينا هذا وإنك لتعلم ما نريد من الاستمتاع بالذكران ، قال لوط مخاطبا ضيوفه كما هو الظاهر : لو أن لي بكم قوة تقاتل معى هؤلاء القوم أو تدفع شرهم عنى ، والمعنى أتمنى أن يكون لي ذلك أو آوى إلى ركن شديد من أصحاب العصبيات والقوة في الأرض ، قالت الملائكة : يا لوط : إنا رسل ربك جئنا لنجاتك من شرهم وإهلاكهم ، ومعنى هذا أنهم لم يصلوا إليك بسوء في نفسك ولا فينا ، ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم ، فلم يبصروا شيئا ثم قيل لهم : فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر! فقالت له الملائكة تنفيذا لوعد ربه :
أسر بأهلك واخرج من هذه القرية الظالم أهلها بطائفة مع الليل تكفى لتجاوز حدودها والبعد عنها فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ(2/138)
ج 2 ، ص : 139
بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
[سورة الذاريات الآيتان 35 و36] ولا يلتفت منكم أحد إليها أبدا خوفا من أن يرى العذاب فيصيبه ، وامضوا حيث تؤمرون.
فأسر بأهلك جميعا إلا امرأتك كانت من الغابرين أى : الباقين ، وكانت امرأة كافرة لها ضلع مع قوم لوط الكفرة. إنه مصيبها ما أصابهم ، إن موعدهم الصبح إذ سيبتدئ عذابهم من طلوع الفجر وينتهى عند شروق الشمس فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر 73] أليس الصبح بقريب ؟ وقد كانوا يتعجلون العذاب كفرا واستهزاء بلوط.
فلما جاء أمرنا ، ونفذ قضاؤنا جعلنا عاليها سافلها وقلبنا أرضها وخسفناها ، وأمطرنا عليها حجارة من طين متراكب بعضه في أثر بعض ، حجارة لها علامة لا تنزل على غيرهم ، وقيل المعنى : سخرها عليهم وحكمها فيهم لا يمنعها مانع ، انظر إلى قوله - تعالى - : « مسوّمين » وصفا للملائكة في غزوة بدر ، وقولهم إبل مسومة وسائحة أى : ترعى حيث شاءت ، وما هذه العقوبة من الظالمين وحدهم ببعيد ، يا سبحان اللّه هذا العقاب الصارم ليس ببعيد أبدا عن الظالمين ، فانظروا يا كفار مكة أين أنتم منه ؟ !!
قصة شعيب - عليه السلام - [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 95]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)(2/139)
ج 2 ، ص : 140(2/140)
ج 2 ، ص : 141
المفردات :
بِخَيْرٍ بثروة وسعة في الرزق تَبْخَسُوا تنقصوا الأشياء أو تعيبوها تَعْثَوْا تفسدوا في الأرض قاصدين الفساد. الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ العاقل المتأنى ، الراسخ في هدايته لا يَجْرِمَنَّكُمْ الجرم الكسب والمراد لا يحملنكم شِقاقِي خلافي معكم الشديد : ما نَفْقَهُ الفقه الفهم الدقيق العميق المؤثر في النفس رَهْطُكَ عشيرتك الأقربون وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا المراد جعلتموه بشرككم كالشىء الملقى وراء الظهر مَكانَتِكُمْ تمكنكم في قوتكم وعصبيتكم.
هذه القصة تشمل تبليغ شعيب دعوته وما أمر به ونهى عنه من آية 84 إلى آية 87.
مناقشة قومه له ورده عليهم وذلك في الآيات 87 - 90.
تطور الحالة واشتدادها وإنذار شعيب لهم بالعذاب ، ووقوع ذلك بالفعل ونجاة المؤمنين من آية 90 إلى نهاية القصة.
المعنى :
وأرسلنا إلى قبيلة مدين - وكانت تسكن الحجاز مما يلي الشام ، وكانوا في غنى وسعة إلا أنهم طففوا الكيل ، ونقصوا الوزن ، وعاثوا في الأرض الفساد - أرسلنا لهم شعيبا من أوسطهم نسبا وأعلاهم خلقا ، قال لهم : يا قومي ويا أهلى [و هذا مما يدعو إلى الاستجابة والقبول ] اعبدوا اللّه وحده ولا تشركوا به شيئا ، ما لكم إله غيره يتصف بما اتصف به اللّه - جل شأنه - حتى يعبد ، ألست معى في أن الرسل جميعا متفقون في طلب عبادة اللّه وحده ؟ أما الأمور العملية فكل يعالج ناحية الضعف في أمته ، ولذا قال شعيب ، يا قومي اعبدوا اللّه ، ولا تنقصوا الكيل والميزان فيما تبيعون ، وكانوا إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون أى : ينقصون ،(2/141)
ج 2 ، ص : 142
ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ومحاسبون ؟ امتثلوا الأمر واجتنبوا النهى لأنى أراكم بخير وعافية وغنى وسعة ، وهذا يدعو لشكر اللّه وامتثال أمره ، ولأنى أخاف عليكم عذابه إذا أنتم أصررتم على العصيان.
ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط والعدل ، وهذا أمر بالوجوب بعد النهى عن ضده لتأكيده وتنبيها على أنه لا بد منهما قصدا ، لا تنقصوا الناس أشياءهم في كيل أو وزن أو عد في حق حسى أو معنوي ولا تعيبوا شيئا لا يستحق العيب ، ولا تفسدوا في الأرض بأى نوع من الفساد حالة كونكم قاصدين له ، واعلموا أن ما يبقيه اللّه لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة ، وأحمد عاقبة مما تبقونه لأنفسكم من تطفيف في الكيل أو نقص في الوزن وصدق اللّه بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وما أنا عليكم بحفيظ ورقيب إن علىّ إلا البلاغ وعلى اللّه الحساب.
مناقشتهم له ورده عليهم :
قالوا : يا شعيب أصلاتك تقضى بتأثيرها فيك أن تحملنا على ترك ما كان يعبد آباؤنا من أصنام نتخذهم قربى إلى اللّه ؟ ولست أنت خيرا منهم حتى نتركهم ونتبعك ، والاستفهام في الآية للإنكار والسخرية بشعيب ، أصلاتك تأمرك أن نترك ما نفعله في أموالنا من تنمية واستغلال على حسب نشاطنا واجتهادنا ، أليس هذا حجرا على حريتنا وحدا لنشاطنا ؟ إنك يا شعيب لأنت الحليم المتأنى في حكمه العاقل المتروى ، والرشيد الذي لا يأمر إلا بما استبان له فيه وجه الخير والرشاد ، وهذا التأكيد الكثير في كلامهم يفيد الاستهزاء والتعريض به.
انظروا إلى رد شعيب عليهم في هذه الاتهامات.
يا قومي ويا أهلى أخبرونى ماذا أفعل معكم ومع نفسي ؟ إن كنت على يقين تام ، وحجة واضحة من ربي تفيد أن ما آمركم به هو من عند اللّه لا من عند نفسي ، واللّه أعلم حيث يجعل رسالته ، وقد رزقت من فضله وخيره رزقا حسنا كثيرا ، حصل لي من طريق الكسب الحلال فأنا رجل ملئ وخبير بما ينمى المال ، وأخبرونى ماذا أفعل ، وماذا أقول لكم غير الذي قلت ؟ .
وما أريد أن أخالفكم مائلا إلى ما نهيتكم عنه بل أنا مستمسك به قبلكم لأنى أرى فيه الخير والرشاد في الدنيا والآخرة.(2/142)
ج 2 ، ص : 143
وأنا ما أريد إلا الإصلاح والخير العام لي ولكم ما استطعت إلى ذلك سبيلا ليس لي فيما أفعل غرض خاص. ومن هنا نأخذ أن العاقل يجب أن يكون عمله مراعيا فيه حق اللّه ورسوله ، وحق نفسه ، وحق الناس عليه.
وما توفيقي وهدايتي إلى الخير إلا بالله وحده ، عليه توكلت ، وإليه أنيب إذ هو المرجع والمآب والنافع والضار لا أرجو منكم خيرا ، ولا أخاف ضرا ، ويا قوم لا يحملنكم شقاقي وخلافي معكم في الرأى والعقيدة على العمل الضار الذي يترتب عليه أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح بالغرق ، أو قوم هود بالريح العاتية ، أو قوم صالح بالصيحة الطاغية ، وما عذاب قوم لوط منكم ببعيد زمانا ولا مكانا ولا إجراما.
واستغفروا ربكم من ذنوبكم ثم توبوا إليه واعملوا صالحا من الأعمال ، وإن ربي وربكم عظيم كثير المودة ، فإنكم إن فعلتم ذلك يمتعكم متاعا حسنا في الدنيا والآخرة.
اشتداد الحالة ووقوع العذاب :
قالوا يا شعيب : ما نفهم كثيرا مما تقول فهما عميقا ، ولا نفهم له معنى ولا حكمة ، وإنا لنراك فينا ضعيفا لا حول لك ولا قوة ، فكيف يقبل منك هذا الذي يوصلك إلى الرياسة في الدين والدنيا ، على أنا لو أردنا البطش بك لما منعنا مانع ، ولو لا عشيرتك الأقربون لفتكنا بك فتكا يتناسب مع عملك معنا من ذم آلهتنا ، وطلبك الحجر علينا في تصرفنا أى : نقتلك رميا بالحجارة وما أنت علينا بعزيز.
قال : يا قومي ، أرهطي وأسرتى أعز وأكرم عليكم من اللّه الذي أدعوكم اليه ؟
وأشركتم به وجعلتم مراقبته والخوف منه وأمره ونهيه وراءكم ظهريا كالأمر الذي يهون على صاحبه فينساه ولا يحسب له حسابا ، إن ربي بما تعملون محيط علما فسيجازيكم على عملكم.
ويا قومي اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم إنى عامل على مكانتى وحالتي!! وغدا سوف تعلمون الذي سوف يأتيه عذاب يخزيه ويذله في الدنيا والآخرة ، ومن هو كاذب في قوله لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا وانتظروا مراقبين من سيقع عليه العقاب ، إنى معكم من المنتظرين ، وهذا الأمر (اعملوا وارتقبوا) للتهديد والوعيد ممن وثق بربه وبوعده.(2/143)
ج 2 ، ص : 144
ولما جاء أمرنا ، وحانت ساعة التنفيذ نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة خاصة بهم : وما ذلك على اللّه بعزيز ، وأخذت الذين ظلموا الصيحة التي أخذت ثمود فأصبحوا جاثمين ، وجوههم منكبة على الأرض كالطير الجاثمة ، وأصبحت ديارهم خاوية على عروشها كأنهم لم يقيموا فيها وقتا من الأوقات ألا بعدا وهلاكا لّمدين كما بعدت وهلكت ثمود.
من قصة موسى وفرعون [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
المفردات :
وَسُلْطانٍ مُبِينٍ المراد : حجة قوية ظاهرة. وقيل : هي العصا يَقْدُمُ أى :
يتقدم. يقول قدمهم يقدمهم إذا تقدمهم فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أدخلهم فيها الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ المراد : بئس العطاء المعطى لهم وقيل : الرفد القدح : والرفد ما في القدح من الشراب : والمراد : بئس ما يسقونه في النار عند ما يردونها.
المعنى :
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع المفصلة في غير هذه السورة وأرسلناه بحجة قوية(2/144)
ج 2 ، ص : 145
كقوة السلطان ظاهرة لا غموض فيها ، وهي محاورته مع فرعون. وقيل هي عصاه ، أرسلناه إلى فرعون وملئه وهم أشراف قومه ، وقادة شعبه ، ومستشاروه في الرأى وأما بقية الشعب فتابع لهم ، وسائر وراءهم بدون تفكير ، فاتبع الأشراف أمر فرعون ، ونفذوه حرفيا في الكفر بموسى وإحضار السحرة ، وقتلهم لمن آمنوا ، وما أمر فرعون برشيد أبدا بل هو الغواية والضلال ، والشر والفساد ، وهذا فرعون كبير قومه وقائدهم إلى الشر في الدنيا يتقدمهم يوم القيامة إلى النار فيدخلون فيها جميعا ، وبئس الورد المورود الذي دخلوه وهو جهنم ، وذلك لأن وارد الماء يرده للتبريد ولذة الشرب ، ووارد النيران يحترق بلهبها ، ويتلظى بنارها.
وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ، ويوم القيامة هم من المقبوحين ، ويوم القيامة يسقون ماء حميما يقطع الأمعاء مع اللعنة عليهم في الدنيا والآخرة وبئس هذا العطاء المعطى لهم جزاء ما قدموا من سىء الأعمال.
العبرة والعظة من القصص [سورة هود (11) : الآيات 100 الى 108]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)(2/145)
ج 2 ، ص : 146
المفردات :
تَتْبِيبٍ مأخوذ من التباب أى : الخسران والهلاك يقال تب فلان ، وتبت يده أى : خسر وهلك شَقِيٌّ الشقي : من استحق النار لإساءته سَعِيدٌ من استحق الجنة لعمله بعد فضل اللّه ورحمته زَفِيرٌ الزفير إخراج النفس ، والشهيق رده مع السرعة والجهد مَجْذُوذٍ مقطوع مأخوذ من جذه يجذه إذا قطعه أو كسره.
المعنى :
ذلك الذي ذكرنا بعض أنباء القرى التي ظلمت نفسها وعصيت رسلها نقصه عليك للعبرة والعظة ولمعان أخر ، ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه ، من القرى ما له بقايا آثار باقية كالزرع القائم ، ومنها ما عفى ودرس حتى لم يعد له أثر كالزرع المحصود ، وما ظلمناهم في شيء أبدا بل أرسلنا لهم الرسل لهدايتهم وتنوير بصائرهم ولكنهم ظلموا وبغوا وما ازدادوا إلا فجورا وضلالا ، أنذرتهم رسلهم بالعذاب فتماروا بالنذر ، واتكلوا على آلهتهم في دفع العذاب عنهم فما أغنت عنهم آلهتهم شيئا لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير هلاك وضلال فإنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا وظلما وضلالا.
ومثل ذلك الأخذ بالعذاب والنكال أخذ ربك إذا أخذ القرى في حال تلبسها بالظلم في كل زمان ومكان ، إن أخذه أليم شديد موجع قاس ، فاعتبروا يا أولى الأبصار فهل من مدكر ؟ يا كفار قريش لستم بأقوى منهم وأشد بأسا ، وليس رسولكم بأقل من(2/146)
ج 2 ، ص : 147
إخوانه الرسل أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة الروم آية 9].
إن في ذلك القصص الذي مضى لآية قوية وحجة ظاهرة على أن هذا الكون يجرى على سنن مرسوم ووضع مقصود لله - سبحانه وتعالى - ، وإنه لآية لمن يؤمن بالآخرة والحياة فيها وأنها محل الثواب والعقاب ، أما من لم يؤمن بها ويقول إن عذاب الأمم كان طبيعيا فالغرق والصاعقة والزلازل أمور طبيعية ليست إلهية فنقول له على رسلك :
إن عذاب الأمم أتى بعد إنذار الرسل لأقوامهم. وقد كان محددا بوقت تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ.
وإنه لآية على أن عذاب الآخرة. ذلك اليوم المعد له يوم مجموع له الناس للحساب وذلك يوم مشهود فيه ، يشهده الخلق جميعا.
وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء مدة محدودة في علمنا وتلك هي عمر الدنيا.
يوم يأتى ذلك اليوم المعهود المعروف لا تتكلم نفس إلا بإذنه - سبحانه - فهو صاحب الأمر والنهى والإذن يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [سورة النبأ آية 38] يوم تخضع فيه الأصوات فلا تسمع إلا همسا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [سورة طه آية 109] هو يوم شديد هوله ، طويل وقته مختلف حاله فتارة يؤذن لهم بالكلام فيعتذرون ويندمون وطورا جامدون جمود الصخر لشدة الهول ، ونفى الكلام إلا بإذنه يفسر لنا الجمع بين الآيات المثبتة للكلام والنافية له.
فمن الناس شقي حقت عليه الكلمة وعمل عمل أهل النار ، ومنهم سعيد ، أريد له الخير فعمل عمل أهل الخير ، وكل ميسر لما خلق له.
فأما الذين شقوا في الدنيا بالعمل الفاسد والاعتقاد الزائغ ، ففي النار مستقرهم ومثواهم ، لهم فيها زفير وشهيق من شدة الكرب ، وضيق الصدر بما حل بهم فهم يتنفسون الصعداء تكاد صدورهم تخرج من شدة الحزن والبكاء خالدين فيها وباقين بها ما بقيت السموات والأرض ، وهل تبقى السموات والأرض ؟ نعم تبقى بشكل(2/147)
ج 2 ، ص : 148
آخر ولون آخر اللّه أعلم به يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وسماء كل من أهل النار والجنة ما فوقهم ، وأرضهم ما تحتهم.
قال ابن عباس : لكل جنة أرض وسماء. وهذا معنى قوله تعالى : خالِدِينَ فِيها أَبَداً إذ العرب يريدون بمثل هذا التركيب التأبيد.
هذا الخلود وهذا الدوام ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ، وللعلماء قديما وحديثا في هذا الاستثناء وأمثاله أقوال كثيرة ذكر القرطبي منها عشرة والظاهر واللّه أعلم أنه استثناء من الخلود على معنى أنهم خالدون فيها إلا ما شاء ربك من تغيير هذا النظام المعد ، ويكون المراد أن كل شيء في قبضته وتحت تصرفه إن شاء أبقاه وإن شاء منعه ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى : حكاية عن الرسول قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ.
وقيل : هو استثناء من الدوام في قوله : ما دامَتِ لأن أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السموات والأرض في الدنيا لا في الجنة ولا في النار فكأنه قال خالدين في النار أو في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
والرأى الأول ذكره تفسير المنار وأظنه هو المناسب لقوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ه ويشاءه - سبحانه وتعالى - .
وأما الذين سعدوا فهم في الجنة خالدين فيها وماكثين بها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مقطوع ولا ممنوع.
وانظر إلى الفرق بين ختام الآيتين فكل من الجزاءين دائم - بمشيئة اللّه تعالى - ولكن جزاء المؤمنين السعداء هبة منه وإحسان دائم غير مقطوع وصدق رسول اللّه « لن يدخل أحد منكم الجنّة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال : ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى اللّه برحمته » وأما الكافرون فجزاؤهم موافق لأعمالهم.(2/148)
ج 2 ، ص : 149
تحذير وتثبيت [سورة هود (11) : الآيات 109 الى 111]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
المعنى :
إذا علمت ما مضى ووقفت عليه ، وأنها سنة اللّه ولن تتغير فلا تك في مرية ولا شك مما يعبد هؤلاء الناس من قومك. لا يكن عندك شك في نهايتهم وجزائهم أبدا ، ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ، فجزاؤهم في الآخرة ، وإنا لموفوهم نصيبهم على أعمالهم الصالحة في الدنيا فقط غير منقوص ، والواجب أنهم لا يغترون بما هم فيه من نعمة ورخاء فالدنيا لهم فقط ، وأما الآخرة فعذاب شديد ولا عجب في هذا.
فها هم أولاء قوم موسى.
وتالله لقد آتينا موسى الكتاب وهو التوراة فاختلف فيه قومه من بعده بغيا بينهم ، وتنازعا على الرياسة الكاذبة والدنيا الزائلة ، وإنما أنزل الكتاب لجمع الكلمة ، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
ولو لا كلمة سبقت من ربك بتأجيل العقوبة لقضى بينهم في الدنيا بإهلاك البغاة المثيرين للفتنة كما أهلك الأمم السابقة.
وإنهم لفي شك منه مريب ، والظاهر - واللّه أعلم - أن الضمير يعود على قوم(2/149)
ج 2 ، ص : 150
موسى ، وشكهم المريب كان في التوراة وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ من سورة الشورى آية : 14 ، والمراد بالذين أورثوا الكتاب هم اليهود والنصارى إلا المسلمون فإن التوراة قد أحرقت مع هيكل سليمان ، ولذلك يقول اللّه :
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فلم يأخذ عيسى التوراة من اليهود ، وإن احتج عليهم بما حفظوا منها وخالفوه في العمل ، وإن أولئك المختلفين - واللّه - ليوفينهم ربك أعمالهم ، ولا يظلم أحدا ، إنه بما يعملون خبير ، وفي هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلم.
نتيجة ما مضى من السورة [سورة هود (11) : الآيات 112 الى 115]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
المفردات :
وَلا تَطْغَوْا الطغيان مجاوزة الحد بالإفراط أو التفريط تَرْكَنُوا الركن الناحية القوية والجانب الأقوى ، ومنه قوله تعالى : فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ والمراد النهى عن الاعتماد عليهم والالتجاء إليهم. طَرَفَيِ النَّهارِ الغداة والعشى أو بكرة وأصيلا زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ الطائفة من أول الليل لقربها من النهار والمراد بها المغرب والعشاء.
هذا الأمر والنهى ثمرة عامة لما في القصص الماضي من العبرة والعظة ، حيث كان الجزاء على الإيمان ما عرفناه ، وجزاء الكفر ما علمناه ، وكان منه الغرق والخسف والهلاك ... إلخ.(2/150)
ج 2 ، ص : 151
المعنى :
إذا كان حال أولئك الأمم كما قصصنا عليك أيها الرسول فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ، ولا تطغوا.
الاستقامة المأمور بها في الآية مرتبة عليا ، تقتضي الإيمان بالغيب كله كما جاء في القرآن الكريم ، وعدم التفرق والاختلاف في أسس الدين وأصوله الذي وعد اللّه صاحبه بالهلاك والعذاب ، والاستقامة تقتضي كذلك التزام ما أمر به الكتاب من العبادات والمعاملات ، والاحتكام إليه عند النزاع واختلاف الرأى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] أليست الاستقامة درجة عليا بدليل أمر اللّه نبيه بها! وهو على الاستقامة مستقيم ، وقد أمر بها موسى وهارون على أنها الطريقة المثلى للنجاح قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس 89] وانظر إلى قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [سورة فصلت آية 30].
والاستقامة تطبيق عملي لروح الدين ، وكرامة يختص بها اللّه بعض المخلصين من عباده ليكونوا مع النبيين والصديقين والشهداء ، وحسن أولئك رفيقا وصدق رسول اللّه حين قال لسفيان الثقفي إجابة لطلبه : يا رسول اللّه ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك.
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم « قل آمنت باللّه ثمّ استقم » .
فاستقم كما أمرت يا أيها الرسول ومن تاب معك من المؤمنين ، ولا غرابة في هذا الأمر ، والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم مستقيم غاية الاستقامة إذ هو أمر يقصد به الدوام والاستمرار على ما هو عليه.
وألا تطغوا إنه بما تعملون بصير ، والطغيان مجاوزة الحد المرسوم ، والخروج عن الطريق المستقيم ، وهذا أمر عام يقع فيه الخاص والعام ، ولذلك جاء النهى فيه للجميع مع التذييل بأن الناقد بصير وخبير.
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ، ولا تعتمدوا عليهم في شيء أبدا فالركون إلى الظالمين ظلم بين ، وهذا النهى علاج لمرض نفسي متفش عندنا كثيرا وهو اللجوء إلى الكبار والرؤساء معتمدين عليهم في قضاء المصالح وهذا ما يدعونا إلى إطرائهم وتملقهم ، وكتمان(2/151)
ج 2 ، ص : 152
الحق ، وعدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وكل من اعتدى على دين اللّه أو على حكمه فهو ظالم ، فما بالك بالكفرة والمشركين.
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم وأمتهم ووطنهم فتمسكم النار ، وما لكم من دون اللّه أولياء أبدا ينفعونكم ثم أنتم لا تنصرون في شي ء ؟ !! وانظر - رعاك اللّه - إلى خير ما يستعين به الإنسان في حياته.
أمرنا اللّه بالاستقامة ، والصبر على الطريق المستقيم ، ونهانا عن الطغيان ومجاوزة الحد ، ونهانا عن الركون إلى الظالمين والاستعانة بهم. وكل هذا أمر شاق على النفس ، كبير إلا على الخاشعين ، ولذا عطف على ذلك الأمر بإقامة الصلاة وتحصيل الصبر لأنهما العدة للامتثال.
أما إقامة الصلاة فهي ترأس العبادات العملية ، وهي الصلة بين العبد والرب وهي مطهرة للنفس مرضاة للرب ، مدعاة لتطهير الروح وتزكية النفس.
والصبر سلاح المؤمن وعدته ، والوقاية له من الجزع المفضى إلى الخروج عن الجادة ، وقد صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « الصّبر نصف الإيمان » .
لذلك كله لا غرابة في جعل الصلاة والصبر خير ما يستعين بهما المسلم على امتثال الأمر واجتناب النهى.
وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، والمراد أدها كاملة مقومة تامة الأركان مستوفية الشروط والهيئات في أول النهار وآخره ، بكرة وأصيلا ، وفي ساعات الليل المتداخلة في النهار وساعات النهار المتداخلة في الليل ، وهذا التحديد في الزمن يشمل جميع أوقات الصلاة كما ذكرت في آيات أخرى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم 17 و18] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء 8] والمراد بدلوك الشمس زوالها المنتهى إلى غسق الليل ويدخل فيه صلاة العصر والمغرب والعشاء وأقم صلاة الفجر إنها كانت مشهودة من اللّه والملائكة.
وأقم الصلاة. إن الحسنات بامتثال الأمر خصوصا في العبادات التي أهمها الصلاة يذهبن السيئات.(2/152)
ج 2 ، ص : 153
روى أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر له كأنه يسأله عن كفارتها فأنزلت الآية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ فقال : يا رسول اللّه ، إلىّ هذه ؟ قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « هي لمن عمل بها من أمّتى » .
المعنى :
في الحديث أن الذنب الذي قارفه السائل ليس فيه حد وإنما يكفره العمل الصالح من إسباغ وضوء ، وإقامة صلاة ، وإحسان في العمل فذلك كله يطهر النفس ويزكيها من أثر الدنس الذي ألم بها.
ومراحل التوبة الصادقة علم بالذنب وخطره على صاحبه ، وحال عند الشخص من ندم على الذنب ، وألم في النفس يوجب العزم على عدم العودة ، والعمل الصالح الذي يطهر النفس من خب الذنب إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً. [مريم 60] ، ذلك الذي مر من الوعظ الصادق والأمر النافع الذي يقتضى المراقبة التامة للّه في السر والعلن ذكرى وموعظة حسنة للذاكرين ذوى الألباب والأرواح الطاهرة واصبر ..
يا سبحان اللّه!! أمرتنا بالصبر المطلق العام في كل شيء صبر على الطاعة وما فيها من تحمل المشاق ، وصبر على الابتعاد عن المحرمات والمنكرات التي تهواها النفس البشرية ، وصبر على الشدائد والمصائب والأزمات التي تعترض الإنسان في حياته الخاصة والعامة ، واصبر أيها المسلم فإن اللّه لا يضيع أجر المحسنين الصابرين اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة آية 153] واللّه يوفى الصابرين أجرهم بغير حساب.
السبب العام في هلاك الأمم السابقة [سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119]
فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)(2/153)
ج 2 ، ص : 154
المفردات :
الْقُرُونِ
جمع قرن ويطلق على عدد من السنين قيل : مائة سنة ، وعلى الجماعة من الناس المقترنين في زمن واحد بَقِيَّةٍ أصحاب طاعة وعقل وبصر بالأمور ، والأصل أن البقية ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره ، ومن الناس كذلك ثم استعمل في الخيار الصالحين النافعين إذ الغالب أن المنفق ينفق الرديء ويبقى الحسن وهذا مما يدخل في قاعدة بقاء الأصلح الْجِنَّةِ الجن سموا بهذا لاستتارهم.
هذه الآيات لبيان السبب في هلاك الأمم التي قص خبرها في السورة مع إرشادنا إلى تجنب تلك الأسباب ، والابتعاد عن المزالق التي انزلق فيها السابقون من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، واتباع دواعي الترف والبطر ، والإجرام والظلم بأنواعه ، والبعد عن الاختلاف والتفرق في اتجاهنا العام.
المعنى :
فهل كان من الأمم السابق قصصها ، والتي مضت قبلكم جماعة أولو بقية وعقل ، وأصحاب رأى وعزم ينهون عن الفساد في الأرض ، ويأمرون بالمعروف لا يبالون شيئا ولا يخافون خطرا ، لا يمنعهم منه لومة لائم ، ولا جاه سلطان جائر. ولو لا التي في الآية للتحضيض والحث على عمل ما بعدها مع الإشارة إلى الأسف لعدم تحقيقه فيما مضى.(2/154)
ج 2 ، ص : 155
لكن قليلا من الذين أنجيناهم مع رسلهم كانوا أولى بقية نهوا عن المنكر وأمروا بالمعروف ، واتبع الذين ظلموا أنفسهم - وهم الأكثرية الكثيرة في تلك الأمم - ما أترفوا فيه ، من نعمة وعافية ودولة وسلطان ، فكانت الأكثرية لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر ، ولكنهم عقدوا عزمهم على اتباع الشهوات ، وساروا وراء ما فيه التنعم والترف من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهنيء ورفضوا ما وراء ذلك ، ونبذوه وراءهم ظهريا ، وكانوا مجرمين! وأى إجرام أكثر من هذا ؟
ومن هنا يعلم أن الترف هو الذي يدعو إلى السرف المفضى إلى الفسوق والعصيان والظلم والإجرام ، يظهر هذا في الكبار والموسرين ثم ينتقل إلى الفقراء المعوزين فتسوء حال الأمم وتتدهور أخلاقها وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[سورة الإسراء آية 16].
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ، نعم ليس من شأنه سبحانه وتعالى ، أن يهلك القرى ظالما لها وأهلها مصلحون. وقيل المعنى : وما كان ربك مهلكا القرى بسبب الظلم الذي هو الشرك والحال أن أهلها مصلحون في المعاملة بينهم وبين الناس بمعنى أنهم لا يطففون الكيل كما فعل قوم شعيب ، ولا يأتون الرجال كما فعل قوم لوط ، ولا يتبعون كل جبار عنيد كما فعل قوم فرعون ، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كما فعل قوم هود ، بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام ، وهو الظلم المقوض للأمم ولذا قيل الأمم تبقى مع الكفر. ولا تبقى مع الظلم.
وتحتمل الآية : وما كان ربك مهلكا لهم بظلم قليل يقع من الأقلية البسيطة ، والأكثرون مصلحون ، والآية الكريمة تحتمل كل هذا وفوق هذا ، وسبحان من هذا كلامه - تبارك وتعالى - !! ولو شاء ربك أيها الحريص على إيمان قومه لجعل الناس أمة واحدة ، وآمن من في الأرض كلهم جميعا.
ولو شاء ربك لخلق الناس وفي غريزتهم وفطرتهم قبول الدين بلا تفكير ولا نظر فكانوا كالنمل والنحل أو الملائكة لا يعصون اللّه ما أمرهم ، ولكنه شاء لهم ذلك وقدر لهم(2/155)
ج 2 ، ص : 156
عقولا مختلفة واتجاهات متباينة إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص آية 56] وبهذا عمر الكون ، وكانوا خلفاء اللّه في الأرض.
ولا يزالون مختلفين في كل شيء حتى قبول الدين إلا من رحم ربك منهم فاتفقوا على تحكيم كتاب اللّه والأخذ بما أخذ وترك ما ترك ، ولذلك خلقهم فمنهم شقي ومنهم سعيد ، قال ابن عباس : خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم فيختلف ، وفي معناه قول مالك بن أنس : خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير : نعم كان الاختلاف الناشئ من خلقهم مختلفين سبب دخول كل من الدارين.
وتمت كلمة ربك وقضى الأمر لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين الذين لا يهتدون بما أرسل به الرسل من الآيات والأحكام.
خاتمة السورة [سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
هذا ختام السورة الكريمة ، وفيه بيان ما استفاده الرسول والمؤمنون من هذه القصص ، وتهديد غير المؤمنين وإنذارهم ، وبيان شمول علمه - سبحانه وتعالى - والأمر بعبادته والتوكل عليه.
وكل قصص نقص عليك أيها الرسول من أنباء الرسل قبلك وأخبارهم المهمة التي هي عين العبرة والعظة ، نقص عليك ما نثبت به فؤادك ، حتى يكون كالجبل ثباتا ورسوخا بما يطلعك اللّه - سبحانه وتعالى - عليه من أنواع العلوم والمعارف ؟ وما(2/156)
ج 2 ، ص : 157
وقفت عليه من طبائع الناس وسنن اللّه في الكون وما قاساه الرسل الكرام من الإيذاء فصبروا صبرا كريما ، ولا شك أن دراسة أخبار الأمم الماضية مما يثبت القلب. ويزيد الإيمان ويقوى اليقين ، وجاءك في هذه السورة وتلك الأنباء الحق الثابت واليقين الراسخ والأساس الذي اتفق عليه الكل من دعوة إلى التوحيد وإثبات البعث والحث على التقوى والخلق الكامل والبعد عن الرذيلة.
وفي هذا موعظة وذكرى للمؤمنين ، فإنهم الذين يستفيدون من الوعظ والذكرى والمراد بالمؤمنين المعاصرون ومن يأتى بعدهم.
وقل للكافرين الذين لا يؤمنون اعملوا على ما في مكنتكم واستطاعتكم من مقاومة الدعوة ، فإنا عاملون ما في استطاعتنا ، وانتظروا بنا ما تتمنونه إنا منتظرون بكم الدواهي في الدنيا والعذاب في الآخرة واعلموا أن لله غيب السموات والأرض. وله وحده علم ما غاب مطلقا في سماء أو في أرض أو في غيرهما ، وإليه وحده يرجع الأمر كله فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وإذا كان الأمر كذلك فاعبده كما أمرت أنت والمؤمنون وتوكل عليه حق التوكل فمن توكل على اللّه فهو حسبه وكافيه ، وما اللّه بغافل عما تعملون بل سيحاسبكم على كل صغير وكبير .. واللّه أعلم.(2/157)
ج 2 ، ص : 158
سورة يوسف عليه السلام
وهي مكية وعدد آياتها إحدى عشرة آية ومائة ، وهي مناسبة لما قبلها إذ الكل في قصص الأنبياء ، وتتضمن السورة قصة يوسف على أحسن نظام وأدق تعبير وأروع وصف ، وقد برز أثناء سردها تأييد الرسول في قضيته الكبرى حيث لم يكن يعرف شيئا عن يوسف ولفت لأنظار العالم إلى الكون وما فيه من آيات وعبر ، وإلى ما في الإنسان من غرائز كحب الولد ، والغيرة والحسد بين الأخوة ، والمكر والخديعة من بعضهم ، ومن امرأة العزيز الثائرة ، وما يتبع ذلك من ندم ، والإشارة إلى ما في المجتمع المصرى إذ ذاك. كل ذلك بأسلوب قوى وعبارة بليغة وتصوير دقيق.
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)
المفردات :
الْمُبِينِ من أبان إذا أوضح وفصل ما يريد الْقَصَصِ مأخوذة من قص الخبر إذا حدثه على وجهه الصحيح ، والأصل قصصت الأثر فتبعته بعناية لأحيط به خبرا ، وقد يطلق القصص ويراد به المقصوص من الخبر والأحاديث.
افتتاح حار العقل الإنسانى في فهمها وهي كسابقتها.(2/158)
ج 2 ، ص : 159
المعنى :
تلك آيات هذه السورة هي آيات الكتاب المبين الظاهر الذي أوضح المعنى وبين المقصود من القصة بأجلى بيان ، ولعله وصفه هنا بالبيان لهذا ، وفي سورة يونس لما تعرضت لبيان التوحيد والبعث والجزاء ورسالة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وللتحدى بالقرآن إلى آخر ما مضى ناسب بدؤها بقوله : تلك آيات الكتاب الحكيم واللّه أعلم بكلامه.
إنا أنزلنا هذا الكتاب حالة كونه يقرأ بلغتكم يا معشر العرب ويبين لكم كل شيء ، ويجمع لكم كل خبر بلسان عربي مبين ظاهر ، يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من قصص وأخبار ، وحكم وحكمة ، وسياسة واجتماع ، ودين ودولة كل هذا بلغتكم رجاء أن تقفوا على تلك المعاني ، وهذه الأغراض التي تخرج فردا مسلما وأسرة مسلمة ومجتمعا نظيفا مسلما وحكومة إسلامية قوية.
نحن نقص عليك أيها الرسول أحسن القصص والحديث بيانا وأسلوبا وإحاطة وكمالا من كل ناحية ، وأحسن ما يقص ويتحدث عنه في الموضوع والغاية ، فالقرآن كامل في قصصه شكلا وموضوعا ، نحن نقصه بإيحائنا إليك هذه السورة من القرآن إذ جاءت فيها قصة يوسف كاملة تامة مفصلة مع اشتمالها على ما يوضح العقيدة ويثبتها ويبين أثرها في حياة الفرد والجماعة.
وإن كنت يا محمد من قبل هذا لمن الغافلين شأنك شأن قومك لا يعرفون من أخبار الماضين وغيرهم شيئا.
يوسف في دور الطفولة مع أبيه وقد رأى الرؤيا [سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 6]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)(2/159)
ج 2 ، ص : 160
المفردات :
يَجْتَبِيكَ الاجتباء من اجتبيت الشيء إذا خلصته لنفسك والجبابة : جمع الشيء النافع كالماء ، والمال للسلطان تَأْوِيلِ الأخبار بما تؤول إليه الرؤيا في الوجود.
يعقوب - إسرائيل - بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام - ، كان له أولاد اثنا عشر من أربع نساء.
وكان من بينهم يوسف وأخوه بنيامين من امرأته راحيل بنت خاله لابان ، وكان يوسف جميل المنظر تبدو عليه مخايل الشرف والكرامة والخلق والنبل وتلوح عليه أمارات النبوة والرسالة ، ولذا كان مقربا لدى أبيه ، أثيرا عنده خصوصا بعد الرؤيا التي كانت سببا في محنته والتي هي خير وبركة في النهاية عليه وعلى شعب مصر.
المعنى :
اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف لأبيه ، وهذا شروع في بيان أحسن القصص.
قال يوسف لأبيه : يا أبتي إنى رأيت في منامي أحد عشر كوكبا. والشمس والقمر رأيتهم جميعا لي ساجدين سجود انحناء وخضوع وانظر إلى قوله : رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ، وهذه عبارة تقال في سجود العقلاء المكلفين! ولذا فهم أبوه أنها رؤيا إلهام ليست أضغاث أحلام.
فهم يعقوب من هذه الرؤيا أنه سيكون ليوسف شأن عظيم وسيسود قومه حتى أباه وأمه وإخوته ، وخاف أن يسمع إخوته بها فيحسدوه ويكيدوا له كيدا فنهاه عن أن يقص رؤياه على إخوته : يا بنى العزيز لا تقص رؤياك على إخوتك فإنى أخاف إن قصصتها يحسدوك فيكيدوا لك كيدا ، ويدبروا لك أمرا ولا تعجب يا بنى من ذلك فإن الشيطان للإنسان عدو مبين ، لا تفوته فرصة من دواعي النفس الأمارة بالسوء(2/160)
ج 2 ، ص : 161
كالحسد والأنانية حتى يوسوس لصاحبها ويوقعه في الشر ، وقد كان الشيطان مع إخوة يوسف على أتم استعداد إذ زين لهم ما عملوه لأخيهم.
قال يعقوب : ومثل ذلك الشأن الرفيع والمكانة العالية التي تشير إليها رؤياك يجتبيك ربك لنفسه ، ويصطفيك على آلك فتكون من المخلصين ، ويعلمك من تأويل الرؤيا ، وتعبيرها صادقا ، ويتم نعمته عليك بالنبوة والرسالة ، والملك والرياسة ، ويتمها بسببك على آل يعقوب حيث تكون حلقة النبوة وسلسلة الرسالة فيك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم جد أبيه ، وإسحاق جده والعرب تسمى الجد أبا « أنا ابن عبد المطلب » ألست معى في أن يعقوب فهم من رؤيا يوسف فهما دقيقا نتج عنه أن حذره من إخوته ، وبشر بتلك البشارات.
إن ربك عليم بخلقه ، يجعل رسالته عند من فيه استعداد لتحمل أعبائها ، حكيم في كل أفعاله.
الرؤيا والحلم ما يراه النائم في نومه ، وقد تكون من استشراف الروح وصفائها فهي ترمز لذلك برموز يعرفها بعض الناس الذين يدرسون تفسير الرؤيا وتعبير الأحلام ، وهي تعبر غالبا عما تتطلبه النفس وما تميل إليه ، وللعقل الباطن فيها أثر فعال ولعلماء الغرب تفسيرات وأبحاث يحسن الوقوف عليها.
وقد تنشأ الأحلام من تخمة في الأكل وضغط على القلب فيرى النائم المزعجات والأحلام المختلطة التي لا ترمز إلى شيء وهذه هي أضغاث الأحلام.
والرؤيا الصالحة جزء من النبوة ، ونوع من الإخبار بالغيب إن جاز هذا التعبير.
يوسف وإخوته وما كان منهم [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 18]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11)
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16)
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)(2/161)
ج 2 ، ص : 162(2/162)
ج 2 ، ص : 163
المفردات :
عُصْبَةٌ هي الجماعة من الرجال ما بين الواحد إلى العشرة. غَداً الغد اليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه لَيَحْزُنُنِي الحزن : ألم في النفس لفقد محبوب أو وقوع مكروه ، والخوف : ألم في النفس مما يتوقع من مكروه يَرْتَعْ يقال رتع البعير والإنسان إذا أكلا كيف شاءا والرتوع أكل ما يطيب لهم من الفاكهة والبقول أصل الرتعة الخصب والسعة نَسْتَبِقُ يتكلف كل منا أن يسبق غيره.
هذا بدء القصة الحقيقي. والذي تقدم مقدمتان لها :
(أ) في الكلام على هذا الكتاب الذي هي فيه وأنه نزل باللسان العربي المبين.
(ب) وفي الكلام على رؤيا يوسف ، وما كان لها من الأثر في نفس أبيه وما فهمه يعقوب من تأويلها ، وسيتلو القصة خاتمة في العبرة منها وما يتعلق بذلك ، وهذا ترتيب غريب لم يسبق القرآن بمثله أبدا - وإن كنت في شك فاقرأ القصة في التوراة - ولقد استخدمه أصحاب القصص المحدثون.
روى أن اليهود سألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في مكة أو أرسلوا له من يسأله عن نبي كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمى
فأنزل اللّه عليه سورة يوسف محكمة كما في التوراة وكانت هنا أدق وأحكم.
المعنى :
تالله لقد كان في قصة يوسف مع إخوته لأبيه آيات ودلائل على قدرة اللّه ، وحكم ومواعظ للسائلين عنها الراغبين في معرفة حقائقها ، وما تشير إليه وهم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ فهذه القصة بظواهرها الغريبة تشير إلى معان دقيقة ، إذ حسد إخوته له نتج عنه رميه في الجب وأخذ السيارة له وبيعه في مصر لعزيزها ، وقد قلده أمر بيته لأمانته وصدقه فنشأ عن ذلك مراودة امرأته له عن نفسه فاستعصم. ونشأ عن ذلك ظهور أمره ، ومعرفة خبره ، ولو لم تبالغ في كيدها ليوسف لما ألقى في السجن الذي خرج منه إلى بيت الملك وإدارة الحكم في مصر إلى آخر ما سيأتى.(2/163)
ج 2 ، ص : 164
نعم لقد كان في هذا كله عبر ومواعظ وأسرار لا يفهمها إلا السائلون عنها ، هذه آيات ودلائل على أن من يرعاه ربه فلن يشقى أبدا ، ومن يهديه فلن يضل أبدا. انظر لهم في وقت قالوا فيه جازمين مقسمين : ليوسف وأخيه بنيامين أحب إلى أبينا منا ، يفضلهما علينا جميعا ، ونحن له عصبة قوية تقوم له بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والحماية والرعاية والكفاية.
إن أبانا إذ أحب يوسف وشقيقه لقد ضل طريق العدل والصواب وضل ضلالا مبينا حيث يحب الولد حبا أكثر لحب أمه ، والمراد ضلاله في الحب لا في العقيدة وهذا حكم منهم على أبيهم جائز إذ حب يوسف وأخيه لضعفهما وصغرهما في السن ولموت أمهما ، ولما كان يأمله في يوسف من عقل وحكمة ، وما فهمه من رؤياه.
ولما استبد بهم الحسد وغلب على عقلهم قالوا بعد التشاور : اقتلوا يوسف حتى لا يلقاه أبوه أبدا أو اطرحوه في أرض بعيدة عنا حتى ينقطع خبره عن أبيه ، إن فعلتم ذلك يخل لكم وجه أبيكم وهذا تعبير دقيق يراد به يكمن لكم كل وجهه وإقباله ، لا يشارككم فيه أحد.
وتكونوا من بعده قوما صالحين ، بهذا زين لهم الشيطان أعمالهم ، ومناهم بأنهم إذا ارتكبوا هذا الجرم يتوبون عنه ويصيرون صالحين عند أبيهم وعند ربهم فاحذروا أيها الناس ألاعيب الشيطان.
قال قائل منهم - اللّه أعلم باسمه ولا حاجة لنا في معرفته - قال : لا تقتلوا يوسف فهو أخوكم ، ولكن إذا أردتم التخلص منه حقا فألقوه في غيابات البئر (و هي ما يغيب عن النظر من قعره أو حفرة بجانبه ) يلتقطه بعض السيارة (و هم المسافرون الذين يسيرون في الأرض للتجارة) فيتم لكم غرضكم وهو إبعاده عن أبيه حتى يخلو لكم وجهه إن كنتم فاعلين الصواب فهذا هو الصواب.
عبارة القرآن الكريم تؤيد أن يوسف - عليه السلام - كان يتمتع بقسط وافر من محبة أبيه ، وكان أبوه يفهم أن هذا يغضب إخوته خصوصا بعد الرؤيا فما كان يستريح إذا غاب يوسف عنه لحظة ولو مع إخوته ، وكانوا يفهمون حرص أبيهم على يوسف.
قال إخوة يوسف ، وقد رأوا ما رأوا : يا أبانا مالك لا تأمنا عليه ؟ وأى شيء عرض لك من الشبهة حتى لا تأمنا على يوسف « يكاد المريب أن يقول خذوني » والحال(2/164)
ج 2 ، ص : 165
إنا له لناصحون ومخلصون إخلاصا أكيدا مؤكدا ، وانظر إلى عبارتهم المؤكدة بأن واسمية الجملة ، وتقديم له ، واقتران الخبر باللام. كل ذلك يؤيد ما قلناه من أنهم يشعرون بما في نفس أبيهم بالنسبة لهم وليوسف ، يا أبت أرسله معنا في الغد يرتع كما يشاء ويطيب له من أكل الفاكهة والبقول في الهواء الطلق ويلعب معنا في وقت سرور ونشاط ، ولا تخف إنا له لحافظون حفظا مؤكدا كما ترى من عبارتهم.
ماذا يفعل الأب ؟ إنه لموقف حرج جدا ، طلب أبناؤه مرافقة أخيهم لهم في الرعي والنزهة. إنه لطلب جميل ، ولكن ماذا يفعل يعقوب ؟ وهو يعلم ما عندهم بالنسبة لأخيهم ، وما يعلمه بالإجمال من رعاية اللّه للصغير يوسف ، قبل طلبهم على مضض ومع إظهار الكثير من الألم لفراق يوسف.
قال : إنى ليحزنني ذهابكم به وفراقه لي على أى صورة!! وأخاف أن يعتدى عليه بعض أفراد الذئب وأنتم عنه غافلون.
ماذا يجيبون على أبيهم وتخوفه من الذئب ؟ أيقولون له لا تحزن ؟
وإنما طمأنوه من ناحية الذئب ، قالوا تالله لئن أكله الذئب وهو معنا ، جماعة قوية وعصبة فتية ، إنا إذن لخاسرون وخائبون في ادعائنا أننا عصبة قوية ولا يصح الاعتماد علينا في شيء.
تلك هي المؤامرة التي دبرت ليوسف ، وبقي تنفيذها.
فلما ذهبوا به من عند أبيهم ، وأمكنهم إقناعه واقتنع هو في الظاهر فقط ولأمر ما سلم في فلذة كبده يوسف ، وأجمعوا أمرهم في أن يجعلوه في غيابة الجب المعروف عندهم ليذهب حيث شاء فيستريحوا ويخلو لهم وجه أبيهم نفذوا ما أجمعوا عليه وألقوه في الجب.
ولكن اللّه العالم البصير الرحمن الرحيم ، لا يترك مظلوما يتخبط بل هو معه وناصره وحافظه ومطمئنه ، أوحى إلى يوسف : لا تخف فالله معك ، وسيظهرك عليهم ، ويذلهم لك ويحقق رؤياك ، ويسجد لك سجود خضوع إخوتك الأحد عشر وأبوك وأمك (قيل هي أمه أو خالته وأمه ماتت) وربك القوى لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لهول الموقف لا يشعرون.(2/165)
ج 2 ، ص : 166
هذا حالهم مع يوسف ، وأما مع أبيهم فجاءوا أباهم في وقت العشاء وانتشار الظلام في الأفق يبكون ويولولون ، ما أجهلك يا ابن آدم ، وما أحمقك!! أليس اللّه عالم الغيب والشهادة ؟ ! ألم تعلموا يا إخوة يوسف أن اللّه لطيف خبير! مالكم لم ترحموا أباكم وهو شيخ كبير ؟ !! ومالكم تتخطون حدود العقل والحكمة ، وتقتلون معاني الأخوة والمحبة ؟ إن هذا لشيء عجيب!! اعتذروا بغير العذر ، واستخفوا من أبيهم ، واللّه معهم ، وقالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق في الرمي والجري ، وتركنا أخانا يحرس متاعنا فأكله الذئب ، وهم يعرفون ما عند أبيهم بالنسبة لهم فصرخوا وقالوا : ما أنت بمصدق لنا أبدا في كل حال ، ولو كنا صادقين.
وجاءوا على قميصه بدم ليس من دمه ليشهد كذبا وزورا أنه دمه واللّه يعلم أن الذئب برىء من دم ابن يعقوب.
روى أن يعقوب قال استهزاء : ما أحلمك يا ذئب تأكل ابني ولا تشق قميصه!! قال هذا استهزاء بهم.
وقال ملوّحا بكذبهم : بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا إدا ، وفعلتم فعلا نكرا وأما أنا فأمرى صبر جميل لا يأس فيه ولا قنوط من رحمته واللّه معى وهو المستعان وحده على ما تصفون ، هذه قصة يوسف مع إخوته مصدرها القرآن فقط ، وهذا ما نطمئن إليه دائما.
أما الأخبار والأقوال والإسرائيليات وقول التوراة فهذا شيء آخر لا نلتفت إليه.
يوسف مع السيارة [سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 20]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)(2/166)
ج 2 ، ص : 167
المفردات :
سَيَّارَةٌ هم الجمع المسافرون كالجوالة والكشافة وارِدَهُمْ هو الرائد الذي يبحث عن الماء فَأَدْلى دَلْوَهُ فأرسل دلوه - إناء يستقى به من البئر وَأَسَرُّوهُ أخفوه شَرَوْهُ باعوه بثمن قليل.
المعنى :
وجاء هذا المكان جماعة مسافرون روى أنهم من العرب الإسماعيليين فأرسلوا رائدهم يبحث عن الماء ويأتيهم به فأرسل دلوه في البئر فتعلق به يوسف حتى خرج ، قال :
يا بشرى احضرى فهذا أوانك هذا غلام وسيم الطلعة ، صبوح الوجه فاستبشروا به وسروا.
وأخفوه عن أعين الناس حتى لا يعلم به أحد لأجل أن يكون بضاعة لهم يتاجرون فيه ويبيعونه لأهل مصر واللّه - سبحانه - لا يغيب عنه شيء ، عليم بما يفعل هؤلاء وهؤلاء ، وباعته السيارة بثمن قليل دراهم معدودة لم تصل إلى حد الوزن وكانوا فيه من الزاهدين الراغبين عنه الذين يبتغون الخلاص منه.
يوسف في مصر [سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 22]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)(2/167)
ج 2 ، ص : 168
المفردات :
مَثْواهُ مقامه عندنا مأخوذ من ثوى بالمكان أقام به أَشُدَّهُ رشده وكماله.
المعنى :
وقال الذي اشتراه من مصر ، لم يذكر القرآن اسمه ولا صنعته ولا مسكنه لأن القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص يعنى بهذه الأشياء ، بل قصصه لمعنى أعلى وأسمى ولا يهتم بمثل هذا ، وقد ذكرت روايات في اسمه ووظيفته كثيرة ، والظاهر أنه كان رئيس شرطة وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ.
قال أكرمى مقام هذا الغلام ، فلا يكن في منزلة العبيد والأرقاء ، بل عامليه كفرد منا فإنى ألمح فيه النبل والخلق ، وأرى أنه سيكون له شأن : أكرميه رجاء أن ينفعنا في أعمالنا الخاصة أو العامة أو نتخذه ولدا لنا تقر به أعيننا ونرثه ويرثنا.
يا سبحان اللّه!! أهكذا يكون يوسف الذي ألقى في الجب! وقد وقع في قلب سيده هذا الموقع ولا غرابة فالله حارسه وهاديه ، وحافظه وراعيه ومثل ذلك التدبير والعناية بيوسف مكناه في أرض مصر ، وكان هذا العطف من عزيزها فاتحة الخير وإن اعترض سبيله بعض المشاق فتلك حكم اللّه يعلمها ، وكما قيل : الحوادث تخلق الرجال .. مثل ذلك مكناه في الأرض ، ولنعلمه من تأويل الأحاديث ، وتعبير الرؤيا وهكذا إعداد الأنبياء.
واللّه غالب على أمره ، ومنفذ ما أراده لا راد لقضائه ، فكل ما وقع ليوسف من إلقائه في الجب ومن استرقاقه وبيعه وتوصية سيده لامرأته بخصوصه وتعليمه الرؤيا وغير ذلك خطوات لإعداد يوسف للمحل الذي ينتظره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.
ولما بلغ أشده ؟ وكمل رشده ، واستوى عقله وبدنه آتيناه حكما إلهاميا فيما يعرض له من المشاكل والنوازل ، وسن الرشد هل هي ثلاثون أو أربعون ؟
مثل ذلك نجزى المحسنين العاملين خصوصا الأنبياء والمرسلين وقائدهم وخاتمهم محمد صلّى اللّه عليه وسلم ..(2/168)
ج 2 ، ص : 169
يوسف مع امرأة العزيز وكيف كانت محنته ؟ ودفاعه ، وحكم زوجها [سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)
المفردات :
وَراوَدَتْهُ طلبت منه أن يواقعها طلبا بلين ورفق كالمخادعة ، يقال : راود الرجل(2/169)
ج 2 ، ص : 170
المرأة عن نفسها ، وراودته عن نفسه ، والمراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد وعليه قوله : سنراود عنه أباه أى : نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل أخانا معنا ، والمراد في الآيات تحايلت لمواقعته إياها ولم تجد منه قبولا غَلَّقَتِ أحكمت إغلاق الأبواب كلها هَيْتَ لَكَ هلم أقبل وبادر لما أقوله لك بُرْهانَ المراد تذكر اللّه - سبحانه وتعالى - ، وما بيّنه من تحريم الزنى والخيانة ومراقبة اللّه - سبحانه - في كل عمله ، وهي مرتبة الإحسان في العمل كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم ربهم وصفاهم من الشوائب مِنْ قُبُلٍ من قدام مِنْ دُبُرٍ من خلف.
المعنى :
هكذا كانت محنة يوسف في طيها منة عليه ، ورب محنة ولكن في طيها منن .. دخل دار العزيز وأراد سيده أن يكون رئيسا للخدم وأن يحسن معاملته أو أن يتخذه ولدا وأمر امرأته بتنفيذ ذلك. وأراد اللّه - سبحانه - فوق ذلك كله أشياء واللّه بالغ أمره ، وأرادت امرأة العزيز غير ذلك ، أرادت أن يكون يوسف عشيقا لها ، وراودته عن نفسه ، وطلبت منه ذلك بالحيلة والمكر لتصرفه عن رأيه ، راودته عن نفسه لأجل أن يريد منها ما تريد هي منه مخالفا لإرادته هو وإرادة ربه ، وأعدت العدة لذلك وغلقت باب مخدعها وأبواب البهو المحيط به لتأمن الطارق والزائر وقالت ليوسف : هلم أقبل ونفذ ما أريده منك!! قال يوسف : أعوذ بالله وحده أن أكون من الجاهلين! يا هذه إن زوجك سيدي وقد أحسن مثواي وأكرم وفادتي واستأمنني على نفسه وبيته فكيف أخونه ؟ !! يا هذه إنه لا يفلح الظالمون أبدا الذين يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي ومخالفة القانون الإلهى .. ترى يوسف - عليه السلام - أجابها معتزا بالإيمان بالله وبالأمانة لسيده وأنه لا يفلح الظالمون والخائنون ، لقد ردها يوسف ردا عنيفا وصادمها في عواطفها في وقت هي فيه ثائرة ثورة جنسية عاصفة وهي سيدته وهو خادمها إنه شيء يخرج الشخص عن صوابه.
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.
وللعلماء في هذا الموضوع آراء واتجاهات كثيرة يجمل بنا أن نذكر الأقرب إلى(2/170)
ج 2 ، ص : 171
الصواب الملتئم مع النسق العام للقرآن في نظرنا واللّه أعلم بمراده قال بعضهم : لقد همت به ليفعل بها ، ولولا أن رأى برهان ربه وتذكر جلاله وأمره ومراقبته لهمّ بها وفعل .. ترى أنه لم يهم بها قط لأن رؤيته برهان ربه قد سبق الهم ومنعه.
وقال البعض : إن أساليب اللغة قد تمنع مثل هذا الفهم في الآية (إذ جواب لولا لا بد أن يؤخر عنها) ولنا أن نجيب عن هذا بأن الجواب مقدر بقوله : لفعل ولفظ هم المتقدمة دليل الجواب. لا الجواب .. وبعضهم قال : إنما الرأي أن هذه الحادثة وقعت ليوسف قبل النبوة والرسالة على أن الهم الذي حصل إنما هو بمقتضى الطبيعة والفطرة الإنسانية البشرية ويوسف وقتئذ شاب يافع قوى فتى على أنه هم ولم يفعل إذ ما أن هم بمقتضى الطبيعة حتى تذكر ربه فكف نفسه بعد أن أثارتها الطبيعة ، والعيب أن يرتكب الإنسان الخطيئة لا أن يهم بها فيمنعه دينه ولذا يقولون : إنه هم وما ألم ، ومن هم بسيئة فلم يفعلها كتبها اللّه له عنده حسنة كاملة.
وخلاصة الرأيين ، أن الكل متفق على أن يوسف لم يفعل سيئة قط وإنما الرأى الأول يقول إنه ما أهم لرؤية برهان ربه فرؤية البرهان منعت الهم والرأى الثاني أنه هم بدواعى الطبيعة ثم جاء الكف والمنع من وقوع المعصية برؤية البرهان وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [سورة الإسراء آية 74].
وللمفسرين أقوال وأحاديث وروايات منقولة عن الإسرائيليين وغيرهم كثيرة وتتنافى مع مقام النبوة وشرف الرسالة أردنا أن نعرض عنها حتى تموت في بطون أصحابها.
مثل ذلك فعلنا وتصرفنا مع يوسف لأنا نعده لتحمل أعباء الرسالة في المستقبل ولنصرف عنه السوء يا سبحان اللّه لم يقل القرآن لنصرفه عن السوء إذ فرق العبارتين كبير!! ولنصرف عنه الفحشاء ، إنه من عبادنا المصطفين الأخيار الذين اختارهم ربهم وأخلصهم من شوائب المعاصي { وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ }[سورة ص 45 - 47].
وللشيخ رشيد رضا - رحمه اللّه - وأجزل ثوابه رأى في هذه الآية خلاصته : ولقد همت بإيذائه وضربه بعد عصيانه أمرها وطلبها بلطف ولين وهذا شأن المرأة همت بضربه والبطش به لعصيانه أمرها وإفساده حيلها وهم هو برد الاعتداء وبمقابلته بالمثل لو لا أن رأى برهان ربه ، واستبقا الباب كل يريد أن يصل إليه فطلبه يوسف ليفر منها وطلبته(2/171)
ج 2 ، ص : 172
لتمنعه من الفرار ، ونشأ عن ذلك أن قدت قميصه من الخلف ووجدا سيدها وزوجها لدى الباب ، وروى أنه كان معه قريب لها ، وهنا يظهر لؤم الطبع وفساد النية وصحة قولهم : ضربني وبكى وسبقني واشتكى ، قالت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ؟
ولم تعينه لأمر في نفسها ما جزاؤه إلا أن يسجن لتقتص من رجل أهان كبرياءها ومنعها من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة لتريه أن في يدها إعزازه وإهانته ، وما علمت أن ذلك كله سلسلة محكمة الأطراف وطريق موصل إلى غاية اللّه يعلمها ، ويعد يوسف لها إلا أن يسجن أو يعذب عذابا مؤلما موجعا.
ولكن يوسف إزاء هذا لم ير بدا من إخبار زوجها وسيده بما حصل غير عابئ بما سيكون ما دام يرضى ربه ولم يخالفه.
وقال يوسف هي راودتني عن نفسي وسلكت في ذلك كل الطرق الممكنة وغير الممكنة واحتالت بأساليب الخداع والمكر ما شاء اللّه لها.
وشهد شاهد من أهلها في هذه القضية التي تحير قاضيها .. امرأته وزوجه تدعى دعوى ، وغلامه وفتاه يناقضها ، وهي دعوى تتعلق بالشرف والعرض شهد فيها شاهد قريب لها كان مع زوجها قائلا : إن كان قميص يوسف قد قدّ من قبل تكون صادقة في دعواها أنه أراد بها سوءا ، فإنه لما وثب عليها ودفعته مزق القميص من قدام ، وإن كان قميصه قد من الخلف تكون كاذبة في دعواها بالهجوم عليها ، وهو من الصادقين في قوله أنها راودته وهو فر منها ، فلما رأى سيده أن قميصه قد من دبر قال حاكما بهذا الحكم الذي يدل على ضعف الرجولة وذهاب الشهامة.
إنه من كيدكن أيها النساء إن كيدكن عظيم ، فمحاولة التخلص بالاتهام من كيدك أيتها المرأة.
يا يوسف أعرض عن هذا الخبر لا تخبر أحدا أبدا وأنت استغفري ربك لذنبك ، وتوبي من عملك إنك كنت من الخاطئين المذنبين.(2/172)
ج 2 ، ص : 173
شيوع الخبر في المدينة وما ترتب على ذلك [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
المفردات :
شَغَفَها حُبًّا اخترق حبه شغاف قلبها وصل إلى سويدائه والشغاف : غطاء القلب ، وَأَعْتَدَتْ هيأت لهن مُتَّكَأً مكانا يجلسن فيه متكئين مستريحين(2/173)
ج 2 ، ص : 174
حاشَ لِلَّهِ كلمة تفيد معنى التنزه والبراءة فَاسْتَعْصَمَ فامتنع امتناعا بليغا من العصمة وهي المنع من الوقوع في المعصية الصَّاغِرِينَ المهانين أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إليهن ثُمَّ بَدا لَهُمْ أى : ظهر لهم رأى جديد.
المعنى :
شاع في المدينة نبأ امرأة العزيز مع فتاها. وقد أصبح حديث المجالس خصوصا في مجالس كبار المدينة : فاجتمع عدد من النساء واتفقن على تدبير أمر يكون من ورائه اجتماعهن بيوسف هذا.
وقال عدد من نساء المدينة قليل يمكن اجتماعه على رأى ، وتدبيره لأمر ، امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ، وهذا كلام يفيد التعجب والإنكار من فعلها لأنها امرأة رجل كبير هو الوزير الأول وقد راودت هي بنفسها وطلبت ، والمألوف أن المرأة تتمنع ويطلب منها ما لا تطلب هي ، أليس من الغريب الذي يدعو إلى العجب أن تطلب امرأة من فتاها وخادمها ، وتدوس كبريائها ، والعجب العاجب أن تظل كما هي بعد أن افتضح أمرها وعلم به زوجها وعاملها معاملة فيها كثير من التنازل.
كل هذا تفيده العبارة القرآنية : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه : قد شغفها حبا ، وأشرب قلبها حبه حتى ملك أمرها ، واستبد بقلبها وعقلها وأضحت كالولهان ، قالت النسوة : إنا لنراها في ضلال بيّن وجهل ظاهر يتنافى مع مكانتها وحالها.
فلما سمعت بمكرهن ، ووصل إليها خبرهن ، أرادت أن تمكر بهن مكرا يوقعهن في الشرك ، ويجعلهن في صفها ، وكان من أمرها أن أرسلت إليهن وأعدت لهن مكانا مهيئا فيه الأرائك مصفوفة ، وجلسن متكئات عليها متقابلات وأعطت كل واحدة منهن سكينا تستعين به على قطع الطعام ، وبينما هن في تناول الأطعمة ، وكلّ تمسك بسكينها الحادة قالت : اخرج يا يوسف عليهن ويظهر أنه كان داخل حجرة متصلة بقاعة الطعام فلما رأينه أعظمنه ودهشن لذلك الجمال السحرى الفاتن وغبن عن شعورهن ، وقطعن أيديهن. والمعنى كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي ، والمراد جرحتها ، وقلن حاشا لله والمعنى تنزيها لله - تعالى - عن صفات العجز ، والتعجب من قدرته على(2/174)
ج 2 ، ص : 175
خلق مثل هذا .. ما هذا بشرا إذ لم يعهد مثل هذا في البشر ما هو إلا ملك كريم من الملائكة تمثل في صورة بشر.
قالت وقد وصلت إلى ما تريد من إيقاعهن في شبكة جماله : إذا كان الأمر ما رأيتن بأعينكن ، وما أكبرتن في أنفسكن ، وما حصل منكن عند ما رأيتنه ، وقد قلتم ما قلتم فذلكن الذي لمتنني فيه وكان الظاهر أن تقول : فهذا الذي لمتنني فيه ولكنها تريد فذلك يوسف البعيد في الكمال والجمال ، بل هو أكبر من كل ذلك هو ملك روحانى في صورة بشر إنسانى.
وإذا كان هذا أمركن معه في لحظة فماذا أفعل وهو معى ليلا ونهارا ؟ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع امتناعا بليغا مؤكدا ، واستمسك بعروة عصمته التي ورثها عن أسلافه.
وتالله لئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكونا من الصاغرين ، يا عجبا أبعد هذا كله تظل المرأة على حالها وتلح بطلب الوصال بيوسف!! لم تكتف بالإشارة مع يوسف حتى صرحت له وطلبت علنا وقالت (هيت لك) ، ولم تقنع بالطلب بينها وبينه حتى عادت فطلبت علانية بحضور النسوة أترابها إن هذا لعجيب!! قال يوسف : يا رب. السجن أحب إلى مما يدعونني جميعا إليه فتلك بيئة ملوثة لا أحب المكث فيها أبدا ، وإن لي في السجن لراحة بال وهدوء نفس ، وهكذا لا يستريح الطيب في البيئة الفاسدة ، وهذه إشارة إلى أثر البيئة ، وإلا تصرف عنى يا رب كيدهن أصب إليهن وأمل ، وأكن من عداد الجاهلين الذين يعملون السوء بجهالة ، فاستجاب له ربه وصرف عنه كيدهن ، وعصمه إنه هو السميع المجيب لدعاء المظلومين ، عليم بصدق الإيمان وكمال الإخلاص.
ولكن ماذا يفعل العزيز وقد شاع الخبر أولا وأخيرا ؟ لا بد أن يلجأ إلى أمر شاذ فاستشار وأشير عليه أن يزج يوسف في السجن حتى يرى كأنه المعتدى وامرأته شريفة هذا عند العامة ، أما الخاصة فتعرف كل شيء وقد سهل اللّه هذا لأن السجن فيه مصلحة ليوسف.(2/175)
ج 2 ، ص : 176
ثم ظهر لهم رأى جديد بعد طول فكر ونظر بعد ظهور الآيات الدالة على صدق يوسف وكذب امرأة العزيز. ليسجننه إلى أجل غير معلوم وليكونن من المهانين الصاغرين ، وهكذا فتنة الأنبياء وصبرهم على المكارة.
يوسف في السجن [سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 40]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)(2/176)
ج 2 ، ص : 177
المفردات :
خَمْراً المراد : عنبا يكون خمرا بِتَأْوِيلِهِ بتفسيره الذي يؤول إليه في الخارج.
المعنى :
بدا لهم أن المصلحة في سجن يوسف فسجنوه ، ودخل معه فتيان مملو كان للملك :
أما أحدهما فخازن طعامه والآخر ساقيه وليس الأمر من باب المصادفة ولكنه تقدير العزيز العليم ، وماذا كان من شأنهما ؟ قال أحدهما : يا يوسف إنى أرانى أعصر عنبا ويكون في المستقبل خمرا رأيت هذا في منامي رؤية واضحة كأنى رأيتها في اليقظة. وقال الآخر : إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه ، قال كل منهما : يا يوسف نبئني بتأويل رؤياي وأخبرنى بتفسير حلمي الذي يؤول إليه في الخارج نبئنا بتأويله ، ثم عللوا هذا الطلب بقولهم : إنا نراك من المحسنين الذين يعملون الإحسان بمقتضى الغريزة والفطرة لا بسبب آخر. وقيل المعنى : إنا نراك من المحسنين تعبير الرؤيا وتفسيرها.
وانتهز يوسف هذه الفرصة ، وهي ثقة هذين الشخصين به وبعلمه وبعقله فعمل على أن يبدأ حديثه معهما بدعوتهما إلى دين التوحيد الخالص وترك الأوثان ومن هنا نفهم أن دخول السجن كان لحكمة اللّه يعلمها ، وأن يوسف ينتقل من مكان إلى مكان فيه خير له ولدينه.
أخذ يوسف يدعوهما إلى التوحيد بعد أن قدم مقدمة كالمعجزة الدالة على صدقه فقال : اسمعوا. إنه لا يأتيكما طعام ترزقانه من أى مكان إلا ونبأتكما بتأويله وتفسيره من أين أتى ؟ ولأى غرض أتى ، وفي أى وقت سيأتى ؟ كل ذلك قبل أن يأتيكما ، وذلك بعض ما علمني ربي بوحيه لا بشيء آخر كالكهانة والسحر ومن هنا يعلم أن يوسف أوحى إليه وهو في السجن ليدعو الضعفاء والفقراء والمظلومين فهم أقرب إلى التصديق من غيرهم. وسبق أن قلنا إنه ألهم بما يطمئنه على نفسه ومستقبله وهو في البئر كل ذلك ليعلم أن اللّه يرعاه ، والسبب في ذلك : أنى تركت شريعة قوم لا يؤمنون(2/177)
ج 2 ، ص : 178
بالله خالق السموات والأرض وما بينهما وتركتها أى لم أدخل فيها مطلقا ، وهم بالآخرة كافرون لا يؤمنون بالثواب والعقاب كما ينبغي ، واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فالجد أب كذلك ، ما كان ينبغي أن نشرك بالله شيئا نتخذه ربا معبودا وهو لا ينفع ولا يضر ، سواء كان المعبود من الملائكة أو البشر أو الحيوان كعجل أبيس أو الجماد كالشمس والقمر ، وهذا فضل اللّه علينا حيث هدانا إلى الخير وعلى الناس حيث أرسلنا إليهم نهديهم وندعوهم إلى الخير. ولكن أكثر الناس لا يقومون بواجب الشكر لله - سبحانه وتعالى - .
وانظر إلى هذا الذي في القرآن حيث ينزه شجرة النبوة الطيبة عن عبادة الشرك والتوراة تنسب إلى بعض أولاد إسحاق الشرك.
يا صاحباي في السجن قروا واعترفوا بالله الواحد القهار.
يا صاحباي أرباب متفرقون في ذواتهم وصفاتهم التي تدعو إلى النزاع والتصادم والفساد. أهؤلاء خير أم اللّه الواحد الأحد الفرد الصمد القهار بقدرته وإرادته ؟ ! سبحانه وتعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء آية 22].
ما تعبدون من دون اللّه الواحد إلا أسماء وضعتموها لمسميات لا تستحق الربوبية فاتخذتموها أربابا من دون اللّه ، وهي أشياء لا ترزق ولا تحيى ولا تميت ولا تنفع وتضر ، ما أنزل اللّه بتسميتها أربابا أى نوع من الحجة والبرهان : لم يأمركم ربكم بذلك على لسان الرسل الكرام ، ولم يطلبها عقل راجح حتى يكون برهانا وسلطانا ، إن الحكم إلا لله وحده فهو الإله الواجب الوجود الواحد المعبود ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، فادعوه واعبدوه وحده دون سواه.
ذلك الدين القيم والشرع الكامل والرأى الوسط ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
تأويل يوسف لرؤيا صاحبيه [سورة يوسف (12) : الآيات 41 الى 42]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)(2/178)
ج 2 ، ص : 179
المفردات :
تَسْتَفْتِيانِ الاستفتاء طلب الفتوى أى : السؤال عن المشكل المجهول والفتوى جوابه وهذا اللفظ مأخوذ من الفتوة الدالة على معنى القوة والثقة بِضْعَ قيل :
هو من ثلاث إلى تسع ويغلب أن يطلق على السبع.
المعنى :
بعد أن تكلم مع صاحبيه في شأن التوحيد ومقدماته تكلم في تأويل رؤياهما فقال :
يا صاحباي أما أحدكما - الذي رأى أنه يعصر عنبا يصير خمرا - فيسقى ربه خمرا وربه مالكه وسيده ولم يقصد ربوبية العبادة فإن ملك مصر أيام يوسف لم يدع الألوهية كفرعون مصر أيام موسى. وأما الثاني - وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه فيصلب فتأكل الطير آكلة اللحوم كالحدأة من رأسه ، لا تناقشا! قد قدر اللّه الأمر وسبق الحكم الذي فيه تستفتيان ، وهذا خارج عن تأويل الرؤيا ولكنه من باب المكاشفة وصفاء الأرواح ، لعله إخبار ووحى ليوسف ، وقال للذي ظن أنه ناج منهما - وانظر إلى التعبير بقوله : ظن أى : في الواقع لأنه ربما يغير الملك رأيه الذي قال أو تأتى حوائل تحول بين تحقيق ما قاله يوسف قال له - : اذكرني عند ربك وسيدك الملك ، أى :
حدثه عن خبري وحالي ، ويقصد يوسف أن يطرق الأبواب الظاهرية والأسباب المادية ليخرج من السجن فيتمم فصول روايته.
فأنسى الشيطان صاحبه أن يذكر يوسف عند الملك فأنساه الشيطان ذكر إخبار ربه أى : تذكيره بأمر يوسف فترتب على هذا أن يلبث في السجن بضع سنين هل هي ثلاثة أو سبعة أو قل أو أكثر اللّه أعلم بتحديدها وإن كانت من ثلاث إلى تسع.(2/179)
ج 2 ، ص : 180
تأويل يوسف لرؤيا ملك مصر [سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
المفردات :
عِجافٌ مهازيل في غاية الضعف تَعْبُرُونَ تفسرون وتؤولون الرؤيا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من الحطب وَادَّكَرَ أى :
تذكر أُمَّةٍ طائفة من الزمن دَأَباً بجد ونشاط تُحْصِنُونَ تدخرون البذر يُغاثُ من الغوث والإغاثة.(2/180)
ج 2 ، ص : 181
المعنى :
رأى الملك في نومه رؤيا أزعجته فقصها على وزرائه وحاشيته وعلمائه فعجزوا عن تفسيرها وكان عجزهم من دواعي التفكير في يوسف ، واتصال الملك به.
وقال الملك : إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف هزيلات ، وأرى سبع سنبلات خضر وأخرى سنبلات يابسة مهيأة للقطوف ، الخيال والرموز إلى الواقع والحقائق.
قالوا : هي أحلام مختلطة ، وخيالات غير منتظمة ، وهذه أضغاث أحلام لا تأويل لها ولا تفسير ، وإنما هي رموز مضطربة تنشأ عن ارتباك في المعدة وكدرة في النفس أحيانا وما نحن بتأويل أمثالها بعالمين.
وهكذا إعداد الله لبعض خلقه ، وتربيته لهم جعل الكهنة وعلماء المصريين يعجزون عن تأويل الرؤيا فيبحثون ، عمن يؤول لهم فلا يجدون إلا يوسف. وقال صاحبه القديم الذي كان في السجن معه واختبره عن كثب وأدرك ما عليه نفسه وما عنده من علوم ومعارف في تأويل الرؤيا ، وقد تذكره بعد طول الزمن يا قوم لا تبحثوا فإنى أنبئكم بتأويل هذا الحلم فأرسلون إلى السجن فإن فيه فتى قد خبرته ووقفت منه على أسرار ، فأرسلوه ليوسف فقابله وقال له : يوسف أيها الصديق الكريم أفتنا في رؤيا رآها الملك تتلخص في سبع بقرات سمان أكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، أخبرنى فإنك بتأويل الرؤيا من العالمين.
أفتنا في رؤية الملك فإنى أرجو أن يحقق لك الخروج من السجن وانتفاع الملك بحسن رأيك لعلى أرجع إلى الناس أهل الحل والعقد بتأويلك الدقيق وخبرك الوثيق لعلهم يعلمون مكانتك ، وما أنت عليه من ذكاء وعقل ، وحكمة وإلهام.
قال يوسف مؤولا الرؤيا ، ومبينا لهم ما يجب عمله لتلافي الخطر الذي تشير له الرؤية بالرمز مع اعتزاره برأيه وأن له صفة الآمر الناصح :
تزرعون على معنى ازرعوا سبع سنين قمحا وشعيرا دائبين مجدين بلا انقطاع وإذا فعلتم ذلك فما حصدتموه فاتركوه في سنبله ليكون الحب لكم والتبن لدوابكم وهذه(2/181)
ج 2 ، ص : 182
طريقة علمية دقيقة لحفظ المحصول ، اصنعوا هذا في المحصول كله إلا قليلا مما تأكلون فهذا هو تأويل البقرات السبع والسنابل السبع.
ثم يأتى بعد ذلك سبع سنين شداد في جدبهن وانقطاع الخير فيهن ، يأكلن ما قدمت تلك السنين الأولى من المحصول المدخر والمراد ما في تلك السنين ، تأكل الكل إلا قليلا مما تحصنون وتدخرون للبذر ، ثم يأتى من بعد هذا كله عام فيه يكون الرخاء على أتم ما يكون وأحبه عام فيه يغاث الناس بكل أنواع الإغاثة من مطر وحسن محصول ومنع للآفات وفي هذا العام تعصرون عصير القصب والفاكهة ، وعصير العنب والسمسم والزيتون ... إلخ.
وهذا الإخبار الأخير الخاص بهذا العام من قبيل الوحى والإلهام لا جزءا من تأويل الرؤيا. والله أعلم.
طلب الملك له وحكمة يوسف [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)(2/182)
ج 2 ، ص : 183
المفردات :
بالُ النِّسْوَةِ حالهن وأمرهن الذي يشغل البال خَطْبُكُنَّ أمركن العظيم وخطبكن الجسيم حَصْحَصَ الْحَقُّ ظهر الحق.
المعنى :
بلغ الملك ما قاله يوسف من تفسير الرؤيا فرأى أنه كلام خطير يدل على رجاحة عقل صاحبه وقوة فطنته وذكائه ، وأن من الخير للملك أن يحضر هذا الشخص أمامه ليسمع منه ويرى.
وقال الملك : ائتوني به وأحضروه لي لأسمع بنفسي ، فلما جاء الرسول ليوسف قال له : كيف أذهب إلى الملك من السجن ، وأنا ملوث بتهمة باطلة لا تليق بي وإنى برىء منها براءة الذئب من دمى ، ولكن الرأى السديد أن ترجع إلى ربك وسيدك فتسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ؟ ما خبرهن ؟ اسأل الملك أن يحقق في ذلك قبل أن أحضر إليه ، إن ربي عالم الغيب والشهادة. وهو بكيدهن لي عليم.
وهذه حكمة آل ابراهيم - عليه السلام - حكمة يوسف الحكيم الذي يطلب هذا الطلب وهو في السجن ؟ وفي هذا الدليل على صبره وأناته ، واعتزازه بنفسه ودينه ، وعفته وفي طلبه التحقيق ولم يتهم أحدا صراحة ، وحفظه للجميل حيث لم يذكر سيدته وهي أصل البلاء.
قال الملك للنسوة : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ وهل كانت المراودة له ناشئة عن مغازلة وخضوع منه بالقول لكن ؟ ! وأنطقهن الله بالحق فقلن : حاش لله ما علمنا عليه سوءا يشينه في كبير ولا صغير.
وقالت امرأة العزيز ، شهادة ليوسف شهادة إثبات : الآن ظهر الحق وبدا الصبح لذي عينين أنا راودته عن نفسه وطلبت منه بكل حيلة وهو لم يراودني أبدا بل استعصم وأعرض عنى وإنه لمن الصادقين في كل ما قاله في شأنى وشأن غيرى.(2/183)
ج 2 ، ص : 184
ذلك الإقرار بالحق ليعلم يوسف في سجنه أنى لم أخنه بالغيب أى وهو غائب عنى بل صرحت للنسوة أنى راودته عن نفسه فاستعصم وسأسجنه إن أبى ، واعلموا أن الله لا يهدى كيد الخائنين أبدا.
وقيل المعنى أن يوسف قال : ذلك ليعلم العزيز أنى لم أخنه بالغيب والله أعلم.(2/184)
ج 2 ، ص : 185
النفس أمّارة بالسوء [سورة يوسف (12) : آية 53]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
هذا أول الجزء بناء على التقسيم اللفظي العددى ، وفي الواقع هذه الآية متصلة بما قبلها إذ هي من كلام امرأة العزيز على معنى : ذاك الإقرار بالحق ليعلم يوسف أنى لم أخنه بالغيب وهو سجين فلم أنل من أمانته أو أطعن في شرفه أو ليعلم زوجي أنى لم أخنه بالغيب في خلوتي بيوسف وأنى لم يحصل منى إلا المراودة فأبى واستعصم ، ولئن برأت يوسف فما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء.
هذا هو الظاهر من نظم الكلام والسياق ، وبعضهم يقول : وما أبرئ نفسي حكاية لكلام يوسف على معنى : ذلك الذي كان منى ليعلم العزيز أنى لم أخنه في زوجه بالغيب ، وأن يوسف لا يبرئ نفسه وهذا تواضع منه ، والقائلون بهذا القول ممن يثبتون ليوسف هما ، وقد مضى الكلام في مسألة الهم.
وما أبرئ نفسي ، وكأن سائلا سأل وقال : لم ؟ أجيب إن النفس لأمارة بالسوء هذا بطبعها فالنفس أرضية ظلمانية لا تدعو إلى الخير ، ولا تأمر إلا بسوء ، فالحسد والحقد والعجب والكبر والبطر وحب الأذى ، وحب المال وكراهية الموت ، وقول السوء والغيبة والنميمة وغير ذلك من دواعي الفساد ، كل ذلك من عمل النفس ومن دأبها إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص 71 و72].
ولكن لا نيأس من روح اللّه ولا نقنط من مغفرته ورحمته إن تبنا وأنبنا إن ربي غفور ستار رحيم كريم يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ...(2/185)
ج 2 ، ص : 186
يوسف وقد تولى زمام الأمر في مصر [سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 57]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
المفردات :
أَسْتَخْلِصْهُ المراد أجعله خالصا لنفسي لا يشاركني فيه أحد مَكِينٌ ذو مكانة يَتَبَوَّأُ ينزل من مصر في أى مكان أراده ، والمراد أنه صاحب الأمر.
انتهى التحقيق الذي طلبه يوسف وهو في السجن بظهور براءته مما نسب إليه ، وفهم من هذا أنه كان أمينا على مال العزيز ، وعرضه ، وظهر لهم أنه ذو كياسة وعقل ، وصاحب خبرة ، وله إلمام بالتأويل.
كل هذا جعل الملك يطلبه ويصطفيه لنفسه ، ويسند إليه أسمى الوظائف وأعلاها.
المعنى :
وقال الملك حينما وقف على أمر يوسف بالتفصيل : ائتوني به أجعله خالصا لي ، وموضع ثقتي ومشورتي. فلما حضر يوسف وكلمه الملك ، وناقشه ووقف على عقله وحنكته ، وأمانته وحسن تصرفه قال له : إنك اليوم عندنا ذو مكانة سامية ومنزلة عالية ، وأمانة تامة فأنت من الآن صاحب التصريف بغير منازع في أمر المملكة.(2/186)
ج 2 ، ص : 187
وانظر إلى الملك وعقله حينما علم به قال : ائتوني به ، وحينما أجرى التحقيق وظهرت براءته وطول صبره وقوة جلده وكمال عقله قال : ائتوني به أستخلصه لنفسي ، فلما ناقشه وكلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين.
قال يوسف : اجعلنى أيها الملك على خزائن الأرض الخاصة بك أتصرف في الأقوات والزرع حتى أنقذ البلاد من شر المجاعة المقبلة التي رأيت رؤياها بالأمس ، ولا تعجب من طلبى هذا إنى حفيظ شديد المحافظة خبير عليم بإدارة السياسة المالية والاقتصادية.
وهنا نقف .. كيف رضى يوسف أن يتعاون مع الملك ؟ وكيف طلب تعيينه على خزائن الأرض.
والجواب عن الأول : أن يوسف قبل العمل مع الملك لأنه رأى فيه العقل وحسن السياسة ، وقد جعله صاحب التصرف في الأمر وفي هذا خير ليوسف ولمصر.
وأما طلبه أن يكون واليا على خزائن مصر فلثقته بنفسه وعلمه بأن هذا فيه خير للأمة ، ومن هنا هل لنا أن نقلد يوسف في عمله هذا ؟ ومرجع ذلك ضمير المسلم ودينه فيختار ما فيه خير له ولأمته ولدينه.
ومثل ذلك التمكين السابق الذي انتقل يوسف فيه من محنة إلى محنة ومن شدة إلى نعمة فها هو ذا يوسف في الجب نتيجة لحسد إخوته له ، ثم تأخذه السيارة وتبيعه بيع الرقيق بدراهم معدودة ليذهب إلى بيت العزيز ، ولأمانته ونزاهته جعله العزيز أمينه ، ثم كان موقفه مع امرأة العزيز الذي انتهى به إلى السجن ، ولو لا السجن لما اتصل بخادم الملك فيه الذي رفع اسمه وشهر مكانته حتى عرفه الملك واستخلصه لنفسه.
فكما مكنا له ذلك ورعيناه حتى وصل إلى ما وصل إليه مكنا له في أرض مصر حتى أصبح الآمر الناهي ، والملك المطاع بعد أن دخلها مملوكا طريدا وعبدا يباع بدراهم قليلة وما ذلك إلا من صبره وجلده وقوة تحمله الشدائد ، ومن أمانته وعفته وخلقه ودينه ، وحسن بصره وتدبيره للأمور ، وارعاء اللّه له في كل طور من أطوار حياته إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحج آية 38].
وها هو ذا يوسف يتبوأ من الأرض وينزل منها حيث شاء ، يصيب برحمته من يشاء من خلقه جزاء لصبرهم وعاقبة لفعلهم ، ولقد صبر يوسف صبرا كثيرا على إخوته ،(2/187)
ج 2 ، ص : 188
وعلى كيد امرأة العزيز له ، وعلى كيد النسوة. وعلى أذى السجن وما فيه ، واللّه لا يضيع أجر المحسنين الذين أحسنوا العمل بشكرهم النعم بل يجازيهم عليها سعادة وقناعة وعزا ودولة ، هذا في الدنيا ، وفي الآخرة جزاؤهم فيها خير وأبقى لإيمانهم وتقواهم هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ من سورة ص.
موقف إخوة يوسف معه ، ثم مع أبيهم [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 66]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)(2/188)
ج 2 ، ص : 189
المفردات :
جَهَّزَهُمْ يقال : جهزت القوم تجهيزا أى : تكلفت لهم بجهازهم للسفر ، وجهاز العروس ما يحتاج إليه عند الزفاف. والمراد به هنا الطعام الذي امتاروه من عنده أُوفِي أتم الْمُنْزِلِينَ المضيفين للضيوف سَنُراوِدُ نطلبه من أبيه برفق ولين ومخادعة بِضاعَتَهُمْ هي المال الذي يستقطع ويستعمل للتجارة رِحالِهِمْ جمع رحل وهو ما يوضع على ظهر الدابة وفوقه المتاع. نَكْتَلْ يقال : في كلت له الطعام إذا أعطيته واكتلت منه إذا أخذته نكتل أى نأخذ مَتاعَهُمْ المتاع : ما ينتفع به والمراد هنا أوعية الطعام بِضاعَتَهُمْ ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام وَنَمِيرُ نجلب لهم الميرة وهي الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد كَيْلَ بَعِيرٍ أى : مكيل بعير أى جمله الذي يعطى لصاحبه مَوْثِقاً الموثق العهد الموثق إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ المراد إلا أن تغلبوا على أمركم.
المعنى :
كان يوسف على خزائن أرض مصر وهو الحفيظ للقوت العليم بأساليب الصرف والإكثار من الزرع ، وقد كان الزمن زمن جدب وقحط عم مصر وما جاورها من البلاد كبلاد كنعان (فلسطين) لكن يوسف قد أرسل لمصر لإنقاذها من الجدب.
بل وفر من أقواتها ما كان يباع لجيرانها. ولما علم يعقوب وبنوه بخيرات مصر ، وكانوا في أشد الحاجة إلى الطعام أرسل أبناءه العشرة ليبتاعوا من عزيز مصر القوت ويعطوه(2/189)
ج 2 ، ص : 190
الثمن بضاعة كانت معهم ، وكان يوسف لا يعطى لفرد إلا حمل بعير فقط توفيرا للمؤن.
وجاء إخوة يوسف العشرة فدخلوا عليه ، وهو في أبهة السلطان فعرفهم لما وصل خبر مقدمهم إليه ، ورآهم بعينه أما هم فلم يعرفوه لتغير حاله واستبعاد أن يكون الطريد الشريد الملقى في البئر عزيز مصر الذي يتحكم في أقوات الخلق ، يا سبحان اللّه!! ولما جهزهم بجهازهم أوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله من الطعام وأعطاهم ما يحتاج إليه المسافر في سفره ، وكانوا عشرة وطلبوا أكثر من حقهم ، طلبوا لأبويهم ولأخيهم الحادي عشر فإنه بقي في خدمة أبويه الكبيرين. أعطاهم حمل بعيرين بشرط أن يحضروا له أخاهم لأبيهم ليراه. ثم أخذ يجب إليهم المجيء ثانية مع أخيهم بقوله : ألا ترون أنى أتم لكم الكيل الذي تكتالون ، وأريحكم في سعره وصنفه ، وأنا خير المضيفين فقد أحسنت ضيافتكم وجهزتكم بزاد يكفيكم في سفركم زيادة على تجارتكم ، ومن هنا يعلم أن اتهامه لهم بالتجسس بعيد وأخذ رهينة منهم أبعد.
يا بنى يعقوب إن لم تحضروا لي أخاكم كما اتفقنا ، وعدتم تمتارون لأهلكم منعتكم من الكيل في بلادي فضلا عن إيفائه وكماله ، ولا تقربون بلادي فضلا عن الإحسان في المعاملة والضيافة.
قالوا : أيها العزيز سنراود عنه أباه ، ونحتال بكل حيلة ، ونخادعه بكل خدعة حتى يسلم لنا بنيامين الذي يعتز به أبوه فهو خلف لأخيه المفقود ، وإنا لفاعلون ذلك إن شاء اللّه.
وقال يوسف لفتيانه الذين يتولون الكيل للتجار : اجعلوا بضاعتهم التي جاءوا بها ثمنا للطعام -
روى أنها كانت جلودا وأدما - اجعلوها في رحلهم لكي يعرفوها إذا انقلبوا إلى أهلهم فيكون ذلك أدعى لرجوعهم ثانية حيث يقفون على مدى إكرام العزيز لهم ، لعلهم يرجعون حسبما أمرتهم بذلك طمعا في برنا وحسن معاملتنا.
ابتاع إخوة يوسف منه طعامهم ، وهو يعرفهم وهم لا يعرفونه ، وطلب منهم أن يحضروا أخاهم من أبيهم وإلا منع عنهم الكيل .. فلما رجعوا إلى أبيهم بعد هذه الرحلة قالوا بمجرد وصولهم : يا أبانا إن عزيز مصر قد منع منا الكيل بعد هذه المرة إن لم(2/190)
ج 2 ، ص : 191
ترسل معنا أخانا بنيامين كما طلب ، فأرسله معنا نكتل من الطعام ما نحتاج إليه بقدر عددنا : ونكون قد وفينا له بما شرط علينا ، وهو العزيز الذي أكرم وفادتنا ، وإنا يا أبانا لنحفظ أخانا في ذهابنا وإيابنا.
قال يعقوب الشيخ الحزين على يوسف الذي لا يزال يذكره حتى ابيضت عيناه من الحزن : هل آمنكم عليه إلا ائتمانا كائتمانى لكم على أخيه يوسف من قبل ؟ على معنى كيف آمنكم على ولدي بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم وإنكم ذكرتم مثل هذا الكلام بعينه في يوسف وضمنتم لي حفظه وقلتم : إنا له لحافظون فلم يحصل الأمن والحفظ سابقا فكيف يحصل الآن ؟ !! يا بنى ما أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل!!.
وظاهر الكلام يدل على أنه أرسله معهم اعتمادا على حسن الظن بهم وأنه ما كان يرى علامات الحسد والحقد بينهم في هذه اللحظة وتلبية لدعوة الحاجة إلى الطعام.
فاللّه خير حافظا يحفظ لي ولدي ، ولا يجمع بين مصيبتين لي ، وهو أرحم الراحمين.
طلبوا من أبيهم هذا ساعة وصولهم وقبل فتح أمتعتهم.
ولما حطوا رحالهم وفتحوا متاعهم ، وجدوا بضاعتهم التي أخذوها ثمنا لطعامهم وجدوها ردت إليهم.
قالوا : تأييدا لطلبهم يا أبانا ما نبغى ؟ ماذا نطلب زيادة على وصفنا لك من إكرامه وفادتنا وحرصه على راحتنا ؟
هذه بضاعتنا ردت إلينا من حيث لا نشعر أليس هذا دليلا على منتهى الكرم ؟ وداعيا لأن نوفى له بما طلب.
ونحن إذا ذهبنا ثانية مع أخينا نمير أهلنا ، ونحضر لهم الطعام بلا ثمن ، ونحفظ أخانا بنيامين بعنايتنا ورعايتنا فلا تخش عليه شيئا ، ونريد كيل بعير لأجله ، إذ يوسف كان يعطى كل رجل حمل بعير فقط اقتصادا وتوفيرا ، ونظهر أمامه بأنا صادقون في دعوانا بأن لنا أخا مع أبوينا يخدمهما ، وربما كان ذلك له تأثير عند العزيز.
وذلك أى البعير الزائد أمر يسير على مثل هذا الرجل الكريم الذي لو كان من نسل يعقوب لما أكرمنا هذا الإكرام.(2/191)
ج 2 ، ص : 192
قال يعقوب : وقد تذكر حوادث الماضي. وتمثلت له صورة العزيز يوسف : لن أرسل بنيامين معكم حتى تعطوني عهدا مؤكدا بإشهاد اللّه وقسمه لتأتننى به ، ولترجعنه لي ، فهو قرة عيني وسلوتى عن يوسف لتأتننى به على أى حال كنتم. إلا في حال يحيط بكم العدو أو الموت أو أى سبب يمنعكم عنى فلما أعطوه المواثيق قال يعقوب :
اللّه على ما نقول جميعا وكيل ، وهو نعم الحفيظ وأفوض أمرى إلى اللّه إن اللّه بصير بالعباد ...
يعقوب يوصى أبناءه الذاهبين إلى مصر [سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 68]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)
المعنى :
رضى يعقوب أن يذهب بنيامين مع إخوته ليقابلوا عزيز مصر ، ولكنه كان يتوجس أمرا ، ويتوقع حدثا ، وهكذا المؤمن القوى الإيمان تتطلع روحه فتستشف الغيب المحجوب ، لذا نصحهم فقال :
يا أولادى لا تدخلوا مصر من باب واحد ولكن ادخلوها من أبواب متفرقة حتى لا يحسدكم حاسد أو يكيد لكم كائد فيحل بكم مكروه.
وهنا يدور سؤال : هل للحسد أثر مادى في المحسود ؟ ؟(2/192)
ج 2 ، ص : 193
ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم. « أنّ العين لتدخل الرّجل القبر والجمل القدر »
« وأعوذ بكلمات اللّه التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة »
وقوله (صلّى اللّه عليه وسلم) وقد أخبر بوعكة لبعض أصحابه من أثر حسد فقال. « علام يقتل أحدكم أخاه! ألا بركت إن العين حق ، توضأ له »
فتوضأ الحاسد ومعنى بركت قلت تبارك اللّه أحسن الخالقين اللهم بارك فيه بكلمات اللّه التامة .. إلخ وعلى الحاسد أن يتوضأ وأن يقول ، تبارك اللّه أحسن الخالقين عند ما يرى شيئا وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [سورة الفلق آية 5].
وبعض العلماء ينفى أثر العين ويفهم الآية هنا على معنى يا بنى لا تدخلوا من باب واحد لتروا بأعينكم ما يكون من تأثير كل طائفة منكم في نفس العزيز وعلى أسارير وجهه.
يا بنى اعملوا بنصيحتى واعلموا أنى لا أغنى عنكم من اللّه شيئا ، ولا أدفع عنكم بتدبيري من قضاء اللّه شيئا إذا لا يغنى حذر من قدر ، ولكن اسلكوا الأسباب العادية مع العلم أن قضاء اللّه نافذ لا محالة. إن الحكم إلا للّه وحده له الحكم وله الأمر وعليه وحده فليتوكل المتوكلون لا على غيره.
ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ، ما كان دخولهم على هذا الشكل يغنى عنهم من أمر اللّه شيئا. ولكن كانت هناك حاجة في نفس يعقوب تدور بخلده أراد أن يظهرها لأبنائه ، قضاها وأظهرها بوصيته لأولاده من حيث لا يفطنون لها.
إنه لذو علم وبصر بالأمور لما علمه ربه بالوحي والإلهام وتأويل الرؤيا الصادقة ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.
يوسف يتعرف على أخيه بنيامين ويحتال على إبقائه عنده [سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 76]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)(2/193)
ج 2 ، ص : 194
المفردات :
آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ضمه إليه فَلا تَبْتَئِسْ لا تحزن السِّقايَةَ وعاء يسقى به ، وكان يكال للناس طعامهم به وهو صواع الملك جَهَّزَهُمْ هذه المادة تفيد الإسراع وتنجيز الأمر ومنه أجهز على الجريح والمراد كما مضى أوقر ركائبهم بالطعام أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد ، وأذن تفيد التكثير والتكرير الْعِيرُ الجمال التي تحمل الطعام وتنقله من بلد إلى بلد والمراد هنا أصحابها زَعِيمٌ كفيل وضمين كِدْنا الكيد التدبير الخفى دِينِ الْمَلِكِ شرعه وقانونه.
المعنى :
ولما دخلوا على يوسف في ديوانه ، وأحضروا معهم أخاه بنيامين ، واجتمع بهم ضم(2/194)
ج 2 ، ص : 195
إليه أخاه في مجلس خاص وصارحه بكل شيء وقال له : إنى أنا أخوك يوسف فلا تحزن ولا تتألم بما كانوا يفعلون قديما فينا ، وهذا جزاء الصبر يا بنيامين ، وهنا روايات كثيرة في كيفية ضم يوسف لأخيه لا تخرج في مجموعها عما ذكرنا.
عرف يوسف أخاه الحبيب ، وألم بحاله مع أبيه الحزين وما حصل من إخوته حينما طالبوا بنيامين من أبيهم ولكن يوسف يريد أخاه ولأمر ما يريد مكثه معه ، فمضى في تنفيذ غرضه بكل وسيلة وحيلة! فلما جهزهم بجهازهم ، وقضى لهم أمرهم ، جعل السقاية في رحل أخيه بنيامين دون أن يعلم أحد ، وحينما ساروا في طريقهم فرحين مسرورين أذن مؤذن ، ونادى مناد ، شأن من يضيع منه شيء : أيتها العير أى : يا أصحاب العير ، قفوا إنكم سارقون!! كان هذا خبرا كالصاعقة عليهم ، فما سرقوا ولا أخفوا شيئا.
قالوا : وأقبلوا على فتيان العزيز في دهش وحيرة ماذا تفقدون ؟ وماذا ضاع منكم ؟
أنكروا ضياع شيء ، ولم ينفوا عن أنفسهم سرقة لأنهم يعلمون أنها بعيدة كل البعد لا تحتاج إلى نفى.
قال الفتيان : نفقد الصواع الذي نكيل به للناس الذي عليه شارة الملك ، ولمن جاء به حمل بعير برّا وقال المنادى : إنى بهذا زعيم وضمين.
قال إخوة يوسف : تاللّه لقد علمتم أنتم بعد تجربتكم لنا أننا ما جئنا لنفسد في أرض مصر بأى نوع من أنواع الفساد فضلا عن السرقة التي هي أحط أنواع الاعتداء ، وكيف نسرق من جماعة أكرمونا هذا الإكرام! وما كنا سارقين في يوم من الأيام ..
قال فتيان يوسف لهم : إذا كان الأمر كذلك فما جزاؤه إن كنتم كاذبين في نفى كون الصاع في رحالكم أما السرقة فهم صادقون في دعوى البراءة منها يدل على هذا قولهم جزاؤه أخذ من وجد في رحله ، وظهر أنه السارق للصواع ، أخذه وجعله عبدا لصاحبه واسترقاقه عاما وذلك كان في شريعة يعقوب - عليه السلام - .
فَهُوَ جَزاؤُهُ وهذا تقرير للحكم السابق ، وتوكيد له بعد توكيد ، مثل ذلك الجزاء الشديد نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم أما يوسف فبعد أن رجعوا إليه تلبية لنداء المنادى وتبرئة لساحتهم وإجابة لطلبه بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه ،(2/195)
ج 2 ، ص : 196
ليبعد الشبهة عن نفسه ثم استخرجها أى السقاية من وعاء أخيه ، [و قد قلنا إن السقاية والصواع والصاع شيء واحد].
كذلك كدنا لأجل يوسف ، وأوحينا إليه أن يفعل ذلك لأنه ما كان يصح له أن يأخذ أخاه في شريعة الملك التي يسير عليها يوسف ، ولكنه احتال حتى حكموا هم بذلك فوصل إلى المطلوب والمقصود.
ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية منكرة في الظاهر لأنها تهمة باطلة حكى اللّه عن يوسف أنه فعلها بوحي منه وإذن فقال : ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك في حال من الأحوال إلا في حال أن يشاء اللّه ذلك.
كذلك نرفع من نشاء درجات كثيرة في العلم والتوفيق. كما رفعنا ووفقنا يوسف إلى بلوغ المقصود.
وفوق كل ذي علم من هو أوسع منه علما وإحاطة ، حتى يصل إلى اللّه - سبحانه - الذي يعلم كل شيء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك آية 14].
حوار بين يوسف وإخوته ثم بينهم وبين أبيهم [سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 87]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)(2/196)
ج 2 ، ص : 197(2/197)
ج 2 ، ص : 198
المفردات :
اسْتَيْأَسُوا يئسوا يأسا كثيرا خَلَصُوا انفردوا عن الناس وتخلصوا منهم نَجِيًّا متناجين متشاورين فَرَّطْتُمْ قصرتم أَبْرَحَ أترك سَوَّلَتْ زينت يا أَسَفى يا أسفى والأسف الحزن الشديد على ما فات كَظِيمٌ مملوء غيظا على أولاده ممسك له في قلبه حَرَضاً الحرض المرض المشرف على الهلاك ثِّي
البث في الأصل إثارة الشيء وتفريقه ، ومنه بث الريح ، والمراد هنا إظهار ما انطوت عليه نفسه من الحزن فَتَحَسَّسُوا تعرفوا أحوال يوسف بحواسكم رَوْحِ اللَّهِ فرجه ورحمته.
المعنى :
افتقدوا صواع الملك ، ثم وجدوه في وعاء بنيامين ومتاعه بعد أن نفى إخوته السرقة نفيا باتا ، وشهدوا أنه إذا وجد في متاع شخص فجزاؤه أن يأخذه العزيز ويسترقه عنده غاظهم ذلك وساءهم هذا الحادث لأمور : منها عهدهم الذي أخذ عليهم عند أبيهم ، وما فعلوه في يوسف من قبل ، وألم والدهم الشديد عند ذهابهم بدون بنيامين فأخذوا يؤنبون أخاهم ويقولون :
إن يسرق بنيامين فقد سرق أخ له من قبل ، وما ذاك إلا من عرق أمهما وخلقها.
أما أبوه الذي نجتمع معهما فيه فليس فيه هذا العرق ، وفي هذا إشارة إلى أن الأخلاق تورث ، وأن الحقد والحسد عندهم لا يزال.
وهل سرق يوسف من قبل ؟ أصح شيء وأسلمه رواية أنه سرق صنما وهو صغير فكسره ، أما الروايات التي تثبت أن عمته احتالت على أبيه وجعلت منطقة إسحاق أبيها تحت ثياب يوسف ونسبته إلى سرقتها وهو صغير ليمكث عندها فأظن أن هذا صغار لا يليق ببيت إبراهيم وإسحاق.
سمع يوسف قولهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ، وأضمر ولم يجبهم عنها ، بل صفح عنهم وقال في نفسه. بل أنتم شر مكانا إذ أنكم سرقتم من أبيكم أخاكم وألقيتموه في الجب ، وادعيتم : كذبا أن الذئب أكله ، واللّه أعلم وحده بما تصفون.(2/198)
ج 2 ، ص : 199
ولما رأوا أن الموقف جد خطير ، ولا ينفع فيه إلا الاستعطاف. قالوا : يا أيها العزيز إن لهذا الأخ أبا شيخا طاعنا في السن كبير المقام جديرا بالرعاية والعناية وهو سلوته ، وموضع أنسه ومحط أمله ، وعوضه عن ابنه المفقود فخذ أحدنا مكانه رحمة بهذا الشيخ الكبير إنا نراك من الذين يحسنون العمل ، ويعملون الصالح ، فسر على عادتك وتقبل طلبنا.
قال يوسف : معاذ اللّه!! وحاش للّه أن نخالف شريعتكم وشريعة الملك هنا ، ونأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده وانظر إلى قوله وجدنا متاعنا ولم يقل من سرق متاعنا فإنه لم يسرق أبدا.
إنا إذا أخذنا غيره لنكونن من الظالمين لأنفسهم المتجاوزين حدود الشرع.
ردهم يوسف ردا شديدا مبينا لهم أن هذا الرأى مما يستعاذ منه .. فلما يئسوا من فكاك بنيامين يأسا بليغا خلصوا من القوم ، وانفردوا تاركين الناس ليجتمعوا اجتماعا خاصا للنجوى والتشاور فيما دعاهم ولم يكن في الحسبان.
قال كبيرهم سنا أو عقلا ولذا قيل هو يهوذا أو غيره : يا إخوتى إن هذا لحدث الأحداث .. ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم عهد اللّه وميثاقه المؤكد لتأتننى به إلا أن يحاط بكم ؟ ألم تعلموا ما فرطتم في يوسف وقصرتم في حفظه من قبل ؟ يا قوم إن الأمر جد خطير فماذا أنتم فاعلون ؟ !! إذا كان الأمر كذلك فلن أفارق أرض مصر أبدا وأترك بنيامين فيها حتى يأذن لي أبى في ذلك ، أو يحكم اللّه لي وهو خير الحاكمين ، والرأى عندي : أن ارجعوا إلى أبيكم فقولوا : يا أبانا إن ابنك سرق صواع الملك ، فاسترقه وزيره عملا بشريعتنا ، وما شهدنا عليه بالسرقة وجزائها إلا بما علمنا علما أكيدا حيث أخرج الصواع من متاع بنيامين ، وقد أقررنا له أولا أن من يوجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى في شريعتنا الظالمين ، حصل هذا كله ، وما كنا للغيب المستور حافظين وعالمين أنه سيسرق وعاء الملك وسيأخذه فيه ، ولو كنا نعلم هذا لما آتيناك العهد الموثق علينا.
وإن كنت في شك من أمرنا فاسأل أهل القرية التي كنا فيها ساعة أن فتشنا العزيز وهي مصر فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة ، واسأل العير وأصحابه الذين كانوا يمتارون معنا وإنا لصادقون في أقوالنا على أى حال.(2/199)
ج 2 ، ص : 200
بعد هذه المقالة التي كلفهم بها أخوهم الذي مكث في مصر وبلغوها لأبيهم فلم يصدقهم وقال : بل سولت وزينت لكم أنفسكم أمرا آخر [و كيدا ثانيا] فنفذتموه ، ومما يؤيد هذا أنكم لقنتم العزيز شريعتنا التي تحكم بأسر السارق.
فأمرى صبر جميل ، وليس لي إلا الرضا بقضاء اللّه وقدره ، عسى اللّه أن يأتينى بهم جميعا يوسف وبنيامين والأخ الثالث ، إنه هو العليم بحالي وضعفى وحزنى على أولادى الحكيم في كل صنع يصنعه وتولى عنهم وأعرض قائلا : يا أسفا احضرى فهذا أوانك يا أسفى على يوسف الحبيب ، وابيضت عيناه من كثرة البكاء ، ولا عجب فهو مملوء غيظا يردد حزنه في جوفه.
والحزن على فقد محبوب أمر طبيعي لا حرج فيه ما دام لا يبلغ بصاحبه أن يقول قولا لا يرضى اللّه ورسوله وصدق رسول اللّه : « إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا »
قال أولاد يعقوب الذين حضروا من مصر إلى أبيهم حينما سمعوا أسفه على يوسف وحزنه العميق عليه وعلى إخوته قالوا : تاللّه يا أبت لا تزال تذكر يوسف وقد مضت حوادثه من زمن بعيد لا تزال تذكره حتى تصير مريضا مرضا مشرفا بك على الموت أو تكون من الهالكين!! قال إنما أشكو بثي وحزنى إلى اللّه وحده. لا إلى أحد من خلقه فلا لوم على ولا تثريب ، وأنا أعلم من اللّه وأمره مالا تعلمون فأنا أعلم أنهم أحياء يرزقون ، وأن اللّه اجتبى يوسف وأتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب ، وإن كنتم تظنون غير ذلك فأنا يا أولادى أعلم أن رؤيا يوسف حق وستراكم الأيام صدق نظريتى يا أولادى اذهبوا إلى مصر وتعرفوا أخبار يوسف وأخيه حتى تقفوا على جلية أمرهما.
ولا تيأسوا من رحمة اللّه وفضله فإنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس إنه لا ييأس من رحمة اللّه وفضله إلا القوم الكافرون ، أما المؤمنون حقا فلا تقنطهم المصائب ، ولا تزعزعهم الشدائد وهم صابرون راضون بقضاء اللّه وقدره ، واثقون من دفاع اللّه عنهم إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وفي قول القرآن : وابيضت عيناه من الحزن : معجزة أثبتها الطب الحديث إذ الحزن كثيرا ما ينشأ عنه بياض العين بياضا يمنعها من الرؤية.(2/200)
ج 2 ، ص : 201
تعرف إخوة يوسف عليه وما دار بينهم [سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 93]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
المفردات :
مَسَّنا أصابنا الضُّرُّ ألم الجوع مُزْجاةٍ بضاعة ناقصة غير تامة لا تقبل إلا بدفع وعرض وعليه قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أى يسوق ويدفع لَخاطِئِينَ الخاطئ من يتعمد الذنب والمخطئ من يخطئ القصد أى لا يعرف الصواب ثم يصير إلى غيره لا تَثْرِيبَ لا لوم ولا توبيخ.(2/201)
ج 2 ، ص : 202
المعنى :
سمع إخوة يوسف نصيحة أبيهم ، وجاءوا إلى مصر ، يتحسسون يوسف وأخاه ، بلا يأس ولا ملل.
فلما دخلوا على يوسف أرادوا اختباره بذكر حالهم وتضرعهم له فإن رق قلبه وتغير حاله ذكروا ما يريدون ، وكان أبوهم يرجح أن هذا العزيز هو يوسف : وقالوا : أيها العزيز. قد مسنا وأهلنا الضر ، وأصابتنا سنين مجدبة قاحلة لم تدع لنا « سبدا ولا لبدا » لم تترك لنا شيئا وجئنا لك أيها الأمير ببضاعة قليلة لا يقبلها التجار ، بضاعة لا تروج إلا بالدفع وحسن العرض وكثرته ، فأوف لنا الكيل وأتمه كما كنت تفعل فقد عودتنا الجميل ، وتصدق علينا بالزائد ، إن اللّه يجزى المتصدقين ، ويكافئهم على أعمالهم.
هذا كلامهم الذي تحسسوا به يوسف ، وتطلعوا به إلى معرفة خبره.
أما هو فقال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ؟ ! وهو استفهام يراد به تعظيم فعلتهم بيوسف قديما حيث ألقوه في الجب وحيدا طريدا عاريا من اللباس ، وما فعلوه في أخيه بنيامين من المعاملة الجافة ، إذ أنتم جاهلون قبح فعلتكم ، وعظم جرمكم ، أى : كنتم في حال يغلب فيها الجهل والطيش إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [سورة النساء آية 17] ، وقيل المعنى : هل علمتم قبح ما فعلتم ؟ ! ألا فلتعلموا أن هذا ذنب كبير يجب أن تسرعوا فيه إلى التوبة ورضاء اللّه ، أما حقي فأنا أسامحكم فيه ، وهكذا خلق آل إبراهيم من الأنبياء والمرسلين.
كان سؤال يوسف لهم وهو العارف بما فعلوه فاتحة لأن يعرفوه فيطمئنوا أباهم على أولاده الأحبة : وكان مصداقا لقوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وصدق اللّه. ثم وجهوا ليوسف سؤالا يدل على التعجب والاستغراب :
أإنك لأنت يوسف ؟ ! عجبوا من ترددهم عليه سنتين وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم.
قال نعم أنا يوسف!! وهذا أخى بنيامين الذي فرقتم بيني وبينه وبيني وبين أبى ، قد منّ اللّه علينا إذ هو الرحمن الرحيم ، العليم الخبير الذي يدافع عن المؤمنين ، يا إخوتى إن الحق الذي نطقت به الشرائع جميعا واتفقت عليه هو : من يتق اللّه حق تقواه ،(2/202)
ج 2 ، ص : 203
ويعتمد عليه ، ويصبر فهو حسبه وكافيه من كل مكروه ، ولا غرابة فإن اللّه لا يضيع أجر المحسنين ، قالوا إحقاقا للحق ، وإزهاقا للباطل : لقد آثرك اللّه علينا ، وفضلك ووفقك ، وعلمك ما لم تكن تعلم ، ولا حرج على فضل اللّه وأما نحن فما كنا إلا خاطئين معتدين ، لا عذر لنا أبدا.
ماذا قال يوسف إزاء هذا الإقرار بالذنب ؟ قال : يا إخوتى لا تثريب عليكم ولا لوم فقد صفحت عن زلتكم. وأسأل اللّه أن يغفر اليوم لكم ، وهو أرحم الراحمين.
يقول البعض كيف جاز ليوسف وقد عرفهم أن يكتم أمرهم سنتين مع علمه بحزن أبيه وألمه.
والجواب عن ذلك أنه يسير تبعا لوحى اللّه ، فلما أمره نفذ ، ويمكن أن يقال كتم الأمر ليصادفوا شدة وألما وليكون لقيا أبيه بعد فقده هو وأخيه أوقع في نفسه وأكثر أثرا واللّه أعلم. ثم قال يوسف :
يا إخوتى اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى ليعلم علما موافقا للواقع أنى حي وأن اللّه تولاني بالعناية والرعاية كما كان يأمل ويفهم من الرؤيا ، وألقوه على وجهه يأت بصيرا ، ويرتد إليه بصره إذ قد ضعف أو فقد لكثرة البكاء فإذا فرح واستبشر رجع له بصره كما كان ، ولا حرج على فضل اللّه.
وأتونى بأهليكم جميعا لتفسر الرؤيا في الواقع.
يعقوب وقد جاءه البشير [سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 98]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)(2/203)
ج 2 ، ص : 204
المفردات :
فَصَلَتِ انفصلت عن البلد وجاوزت حدودها رِيحَ رائحة يوسف أو قميصه تُفَنِّدُونِ تنسبونى إلى الفند وهو ضعف العقل وفساد الرأى ضَلالِكَ خطئك.
المعنى :
تعرف إخوة يوسف على أخيهم وأقروا له بذنبهم وعفا عنهم وأمرهم أن يحملوا قميصه إلى أبيه ، وأن يأتوا بأهليهم إليه.
ولما خرجوا من مصر وانفصلوا عنها قال يعقوب وهو النبي الصادق : إنى لأشم رائحة يوسف ، وقال هذا لمن كان بمجلسه ، قال الحاضرون له : تاللّه إنك لفي خطئك القديم ، وحبك الأعمى ليوسف ، واعتقادك فيه أنه حي يرزق ، وما نظن هذا إلا ضلالا وتخبطا.
فلما أن جاء البشير بعد هذا بأيام يبشر بلقيا يوسف مع أخيه حاملا قميصه وقد ألقاه على وجه أبيه فارتد بصيرا ورجع له بصره قال لمن حوله : ألم أقل لكم يا أولادى :
إنى أعلم من اللّه أشياء لا تعلمونها ؟
الآن حصحص الحق وظهر ، وبدأ الصبح لذي عينين ، واعترفوا بالجرم بعد الإنكار وقالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا ، واطلب المغفرة لنا من اللّه فقد تبنا وأنبنا.
قال يعقوب : سوف أستغفر لكم ربي في المستقبل إذ قد أتيتم ذنبا كبيرا ، ليس من السهل أن أطلب المغفرة بهذه السرعة ، على أن هذا الذنب وهو إلقاء يوسف في(2/204)
ج 2 ، ص : 205
الجب إيذاء ليوسف أولا ، ولى ثانيا ، فلا أستغفر حتى يعفو صاحب الحق. وأنتم أولادى وأنا المشرف على تربيتكم فلا بد من بقائكم مدة تعالجون فيها نفوسكم وتندمون فيها على فعلكم.
وانظر إلى يوسف وكيف أزال الخوف من نفوس إخوته بسرعة حيث اعترفوا بذنبهم وقد كانوا في قلق وهمّ شديدين.
أما كيف شم يعقوب رائحة يوسف على مسيرة أيام فالذي يستبعد هذا شخص محروم ومن ذاق عرف ، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده ، أنستبعد على يعقوب بن ابراهيم هذا ، وجده ألقى في النار فلم تؤثر فيه ، هؤلاء أرواحهم قوية لا تحجزها مادة ولا يحدها مكان ولا زمان ، وهو نبي وقد تكون هذه معجزة له.
وأما رجوع بصره إليه فهي معجزة كالمعجزات التي جاءت على يد الأنبياء ، وليس من العقل ولا من الدين البحث في كيفيتها ، بل نؤمن بها كما جاءت ، وهذا هو الإيمان بالغيب وهو صفة المؤمنين المهديين.
تأويل رؤيا يوسف من قبل [سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 101]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)(2/205)
ج 2 ، ص : 206
المفردات :
الْعَرْشِ كرسي تدبير الملك وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ساجدين سجود إجلال وتعظيم لا سجود عبادة نَزَغَ نخس. والمراد وسوس وأفسد ما بيني وبين إخوتى الْبَدْوِ البادية.
المعنى :
عرف يوسف إخوته ثم عرفهم بنفسه متى شاء اللّه ، وطلب منهم أن اذهبوا بقميصي وألقوه على وجه أبى ، وأحضروا لي أهلكم جميعا يعيشون معى في مصر.
ذهب الإخوة كما أشار يوسف وأحضروا له أبويه ، ولما علم بمقدمهم خرج هو ووجوه القوم للقيا يعقوب إسرائيل اللّه ونبيه ، فلما دخلوا عليه وهو في عظمة الملك وأبهة السلطان آوى إليه أبويه ، وضمهما وعانقهما عناق المشوق الولهان ، وقال :
ادخلوا مصر ، وتمتعوا بخيرها إن شاء اللّه آمنين لا خوف عليكم ، ولا أنتم تحزنون فيها أبدا ، ورفع أبويه على سرير ملكه زيادة في تكريمهما. وهل هي أمه أو خالته ؟ اللّه أعلم فبكل قال بعض المفسرين.
وما كان من أبويه وإخوته الأحد عشر إلا أن خروا له ساجدين سجود تحية وإجلال ، وكانت تحيتهم كذلك فلما رآهم يوسف قال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ، وذلك تفسيرها إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فالشمس أبوه والقمر أمه أو خالته والكواكب إخوته قد جعلها ربي حقيقة واقعة ، وقد أحسن بي ، وأفاض على من نعمه إذ أخرجنى من السجن إلى الملك والرياسة ، وجاء بكم من البدو وشظف العيش إلى الحضر والمدنية ، وانظر إلى سياسة يوسف وحكمته لم يثر الموضوعات التي ينشأ عنها ألم لبعض الناس فلم يذكر إلقاءه في الجب لئلا يتألم إخوته ، ولا زجه في السجن ، ومكر النسوة به لئلا يثار هذا(2/206)
ج 2 ، ص : 207
الموضوع الشائك ، ولكنه ذكر إخراجه من السجن وهو يد للملك عليه وهكذا الحكمة والكياسة وحسن التصريف والسياسة.
هذا كله من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتى وأوقع بيننا الحسد والبغضاء للقضاء على الأخوة الصادقة.
إن ربي - سبحانه وتعالى - لطيف بخلقه رحيم بعباده إنه هو العليم بحالهم الحكيم في أفعاله - جل شأنه - .
لما أتم اللّه النعمة على يوسف ، وخلصه من شدة الإلقاء في الجب ، ومحنة امرأة العزيز وكيد النسوة له ، وألم السجن ، وأنعم عليه بالملك بعد البراءة مما نسب إليه لما حصل هذا وأمثاله ليوسف تاقت نفسه الكريمة إلى دعاء اللّه - تبارك وتعالى - أن يجزل اللّه له ثواب الآخرة كما أجزل له العطاء في الدنيا فقال :
يا ربي قد عودتني الجميل وآتيتني ملك مصر ، وعلمتني شيئا من تأويل الأحاديث وتعبير الرؤيا ، والوقوف على أسرار كلامك ، يا رب يا فاطر السموات والأرض وخالقهما على أبدع نظام وأحكم ترتيب أنت يا ربي وليي وصاحب أمرى ومتولى شأنى في الدنيا والآخرة يا ولى الأولياء وسيد الضعفاء والأقوياء ، يا صاحب الأمر ، توفني مسلما ، وألحقنى بالصالحين من آبائي ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فأنت الرحيم الكريم القادر على كل شيء ..
القصة وما تشير إليه من أهداف [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)(2/207)
ج 2 ، ص : 208
المفردات :
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ اتفقوا على إلقائه في الجب وعزموا عليه وَكَأَيِّنْ المراد بها كثير من الآيات غاشِيَةٌ عقوبة تغشاهم وتحيط بهم بَغْتَةً فجأة(2/208)
ج 2 ، ص : 209
بَصِيرَةٍ حجة واضحة ومعرفة تامة. اسْتَيْأَسَ يئس بَأْسُنا عقابنا وعذابنا عِبْرَةٌ العبرة والاعتبار نوع واحد وفيها معنى العبور من جهة إلى جهة.
هذا ختام السورة الكريمة ، وتلك القصة القوية المؤثرة التي اشتركت فيها عناصر مختلفة في أماكن متعددة ، قصة فصولها متعددة الألوان فيوسف مع إخوته ، وهو في بيت العزيز ، وفي السجن ، وفي دست الحكم قصة جمعت بين كيد الإخوة وحسدهم ، وكيد النساء ومكرهن ، قصة الصبر والحكمة ، والفداء والبطولة ، قصة السياسة والرياسة ، قصة لها معان وفيها إشارات وعبرة وذكرى لأولى الألباب.
المعنى :
بعد أن قص اللّه قصة يوسف أحسن القصص شكلا وموضوعا وكانت أروع مثل للقصة ذكر اللّه - تبارك وتعالى - أن القصص دليل على نبوءة محمد وصدقه فقال :
ذلك الذي ذكرناه سابقا مما يتعلق بيوسف من أنباء الغيب وأخباره التي لا يعلمها إلا اللّه عالم الغيب والشهادة ، ذلك نوحيه إليك ، ونطلعك عليه ، إذ ما كنت تعلم هذا أنت ولا أحد من قومك ، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم ، واتفقوا على إلقاء يوسف في الجب ، وعزموا على ذلك مصممين ، وهم يمكرون ، ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين.
نعم هذه أخبار كيف وصلت إليك ؟ هل كنت حاضرها وشاهد أمرها ؟ أم وصلت إليك عن طريق الرواية ممن حضرها ؟ لا هذا ولا ذاك ولم تكن هناك كتب فيها هذا القصص المحكم بهذه الصورة فلم يبق إلا أنها وصلت إليك عن طريق الوحى الإلهى ، وهذا بلا شك من دلائل النبوة وعلامات الرسالة ، وكان هذا يكفى في إيمان الناس بك وتصديقهم لرسالتك لو أن اللّه أراد ذلك.
ولكن اعلم أن أكثر الناس ولو حرصت وعملت المستحيل لا يؤمنون مهما ظهرت الآيات الناطقة فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد.
أيكون السبب في عدم إيمانهم بك أنك تطلب مالا أو أجرا أو جاها أو ملكا حتى يكون لهم العذر في عدم الإيمان ؟ !! لا ، لا ، إنك كبقية الرسل قبلك لا تسأل الناس(2/209)
ج 2 ، ص : 210
أجرا أيا كان ولا مالا ، وما أجرك إلا على اللّه وحده ، وما القرآن إلا ذكر وتذكرة للعالمين جميعا فمن شاء ذكره وآمن به ، ومن شاء غير ذلك فحسابه على ربه.
لا تعجب يا محمد من كفرهم وقد ظهرت الدلائل في القصة دالة على صدقك فكثير من الآيات في السموات وما فيها والأرض وما عليها يمرون عليها مرور الحيوان أو الجماد وهم عنها معرضون لا يلتفتون إليها ولا يؤمنون بها ، ولا غرابة فقد ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة ، فمن يهديهم من بعد اللّه ، وهؤلاء الكفار المعاصرون لك ومن على شاكلتهم لا يؤمنون باللّه إلا وهم مشركون ، فالعجب أنك إن سألتهم قائلا من خلقكم ؟ يقولون : اللّه وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان آية 25 ، وسورة الزمر آية 38] ولكنهم يعبدون معه آلهة وشركاء قائلين : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى.
أعملوا هذا فأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب اللّه تحيط بهم وتغشاهم فلا تترك أحدا منهم أو تأتيهم الساعة بغتة وفجأة وهم لا يشعرون ؟ ولكنهم في ضلال مبين.
بعد هذا النقاش الدقيق وسوق الأدلة المفحمة وبيان أنه لا غرض لك إلا الخير لهم ، وبيان أن طبعهم الكفر مهما ظهر من الأدلة ، بعد هذا ساق البيان والطريقة المثلى التي تحمل الغرض العام من دعوته ، فقال اللّه له : قل هذه سبيلي .. الآية والمعنى : قل يا محمد : هذه الدعوة التي أدعو لها والطريقة التي أنا عليها سبيلي وسنتي أدعو إلى دين اللّه لا غرض لي ولا قصد إلا إرضاء ربي والقيام بواجبى والامتثال لأمره - سبحانه وتعالى - .
وأنا على بصيرة من أمرى وحجة ظاهرة ، ومعرفة كاملة بما أدعوا إليه أنا ومن تبعني ودعا بدعوتي وسار على طريقتي إلى يوم الدين وسبحان اللّه وما أنا من المشركين به غيره في أى ناحية من النواحي ، لا أشرك به عرضا من أعراض الدنيا ، ولا أوثر عليه مالا ولا ولا ولدا ولا تجارة ولا كسبا. بل : اللّه أكبر وللّه الحمد ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا ، لا ملائكة ولا إناثا ، لقد أرسلنا رسلنا تترا وأوحينا إليهم. وأيدناهم بروح من أمرنا ، وكانوا في جماعة من أهل القرى المجتمعة فيها الخلق ، وهكذا الرسل كانوا لقيادة بعض الشعوب والأمم وأنت يا محمد لهداية كل القرى والأمم.(2/210)
ج 2 ، ص : 211
عجبا لكم يا كفار مكة أعميتم فلم تسيروا في الأرض فتنظروا وتروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم ، وكانوا أشد منكم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرتموها وجاءتهم رسلهم بالبينات فكفر من كفر وآمن من آمن فكان عاقبة الكفر هلاكا ودمارا ، وعاقبة الإيمان نجاة واستقرارا في الدنيا ، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا : أجهلتم كل هذا فلا تعقلون ؟ ! لقد أرسلنا رسلنا ولم نعاجل الكفار بالعقوبة بل أمهلناهم علهم يثوبون لرشدهم ويرجعون عن غيهم حتى يئس الرسل من النصر وإنزال العقوبة ، واستيأسوا من إيمانهم أو عقوبتهم وظنوا أن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم من العذاب. وقيل المعنى :
وظن القوم أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد.
حتى إذا يئسوا وظنوا الظنون جاءهم نصرنا وأمرنا. ولا راد لقضاء اللّه ولا معقب لحكمه ، فنجا المؤمنون الذين أراد اللّه لهم النجاة فآمنوا أما الكافرون فحاق بهم البأس والعذاب من كل جانب ، ولا يرد بأس اللّه عن القوم المجرمين.
فأنت ترى أن من أغراض القصة في القرآن العبرة والعظة بمن تقدم من الأمم فضلا عن أنها دليل النبوة وبرهانها لما فيها من الأخبار بما لا يعرف الرسل ولا طريق لمعرفتهم إلا بالوحي.
ولقد كان في قصص الأنبياء جميعا خصوصا يوسف وإخوته عبرة وعظة وذكرى.
وهدى لأولى الألباب والعقول الصافية.
ما كان هذا الحديث ، أى القرآن الشامل للقصة وغيرها ، ليفترى ويختلق ، وكيف يكون هذا ؟ وهو المصدق لما بين يديه من الكتب بل هو المهيمن عليها الحارس لها :
وكان فيه تفصيل كل شيء.
نعم ما فرطنا في الكتاب من شيء إذ فيه أمهات المسائل وأسس القواعد الشرعية وهو الأصل للسنة والإجماع والقياس فما وافق روح الكتاب أخذناه وما تنافر معه رددناه ، وهو هدى ورحمة لقوم يؤمنون بالغيب ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية 2].(2/211)
ج 2 ، ص : 212
سورة الرعد
روى أنها مكية
، وقيل : مدنية ، وعدد آياتها ثلاث وأربعون ، وهي مناسبة لسابقتها ، فقد قال اللّه في سورة يوسف : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وهنا توضيح لهذا المجمل وتفصيل له ، وفيها ذكر للتوحيد أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ؟ . وهنا امتداد لدعوة التوحيد ، وذكر كثير من صفات اللّه ، وفي كل سلوة للنبي صلّى اللّه عليه وسلم.
القرآن حق واللّه قادر على كل شيء [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)(2/212)
ج 2 ، ص : 213
المفردات :
المر تقرأ هكذا : ألف. لام. ميم. را ، وفيها ما في أخواتها عَمَدٍ جمع عماد أو عمود وقرئ عمد بالضم مَدَّ الْأَرْضَ بسطها رَواسِيَ جمع راسية والمراد الجبال لأن الأرض ترسو بها أى : تثبت يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ التغشية إلباس الشيء ، والغشاء كالغطاء صِنْوانٌ جمع صنو وهي النخلات أو النخلتان يجمعهن أصل واحد وتتشعب منه رؤوس فتصير نخيلا ، وقيل : الصنو المثل وعليه
قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « عمّ الرّجل صنو أبيه »
والمراد نخيل متماثلات وغير متماثلات.
المعنى :
تلك الآيات من آيات هذه السورة آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن ، العظيمة القدر ، والذي أنزل إليك من ربك - وهو القرآن كله - هو الحق. لا حق بعده ، ولا شك فيه ، تنزيل من حكيم حميد ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بهذا.
وكيف لا يؤمنون بهذا ؟ ! واللّه الذي أنزله هو الذي رفع السماء بلا عمد ، وها أنتم أولاء ترونها من غير عمد ، نعم رفع اللّه السموات وما فيها من كواكب وأجرام.
وشموس وأقمار بقدرته وعظمته أليس اللّه على كل شيء قدير ؟ ! ثم استوى على العرش وقصد إليه ، واستولى عليه ، وفي الحقيقة الاستواء والعرش اللّه أعلم بهما ، على أن الآية تدل على نفوذ الأمر ، وتمام السلطان والتدبير.
وسخر الشمس والقمر ، ذللهما لما يريده من دوران وضياء وظهور وإخفاء ، كل من الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب السيارة يجرى لأجل مسمى عنده - سبحانه - وهو انتهاء الدنيا وقيام القيامة فكل يجرى في فلك له إلى وقت معلوم وزمن محدود عنده تتبدل الأرض غير الأرض والسموات.
هكذا يدبر اللّه الأمر ، ويصرف الكون حسب إرادته وحكمته حالة كونه يفصل الآيات الدالة على كمال قدرته وبالغ حكمته ، وتفصيلها ذكرها مفصلة كرفع السماء ، ومد الأرض ، وتسخير الشمس والقمر ، وجريهما إلى أجل مسمى ، وغير ذلك مما هو مذكور في القرآن.(2/213)
ج 2 ، ص : 214
لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات القواطع توقنون بأن هذا القرآن حق ، وما نزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم صدق ، وأن البعث والجزاءات لا شك فيه إذ القادر على هذا لا يعجزه بعث ولا حساب.
هذه بعض الآيات السماوية ، وأما الآيات الأرضية فقال فيها : وهو اللّه الذي مد الأرض وبسطها. وفرش الأرض ومهدها وجعل فيها رواسى شامخات وسقاكم ماء عذبا فراتا : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ؟ ! [سورة النبأ الآيات 6 - 8] ، ومد الأرض وبسطها ليس دليلا على عدم كرويتها إذ هي مبسوطة ممدودة في نظرنا لنعيش عليها ، وفي الواقع كرويتها أمر لا يشك فيه عاقل.
وجعل - سبحانه وتعالى - من كل الثمرات زوجين اثنين ذكرا وأنثى ، للتلقيح والإنتاج والحمد للّه أثبت العلم الحديث أن في كل نبات ذكورا وإناثا ، قد تكون في الزهرة الواحدة أو الشجرة الواحدة أو في شجيرات ويتم التلقيح إما بالريح أو الطير ، وسبحان اللّه أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وقيل جعل فيها من كل ثمرة صنفين كبيرة وصغيرة إلى آخر ما ذكروه ، يغشى الليل النهار بجعل الليل كالغشاء للنهار فيغطي بظلمته ضياءه. شبّه إزالة النور بسبب ظلمة الليل بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية حتى تسترها.
إن في ذلك الذي ذكره الحق - سبحانه - من مد الأرض وبسطها وإرساء الجبال فيها مع تحركها ودورانها وما جعله اللّه فيها من الثمرات الناشئة عن الازدواج والتلقيح وتعاقب النور والظلمة مع طول كل وقصره إن في ذلك لآيات بيّنه للناظرين المتفكرين المعتبرين.
وفي الأرض قطع متجاورات ترابها واحد ، وماؤها واحد ، وفيها زرع واحد ، ثم تتفاوت الثمرة ، بعضها حلو وبعضها مر ، بعضها يثمر وبعضها لا يثمر.
وفي الأرض جنات وبساتين من زروع ونخيل وأعناب وغيرها من الفواكه التي عرفت في غير جزيرة العرب ، ومن عجائب النخل أن فيه صنوانا وغير صنوان ، والمعنى أن أشجار النخيل قد تكون الواحدة لها رأسان وأصل واحد وقد تكون غير ذلك كبقية الشجر. وقيل المعنى : إن أشجار النخل قد تكون متماثلة وغير متماثلة مع اتحاد التربة والزرع يسقى ذلك كله بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ، أليس في هذا(2/214)
ج 2 ، ص : 215
دليل على بديع صنعه وعظيم قدرته فإن القطع المتجاورة فيها الجنات متلاصقة ، بل والأشجار المتشابكة المتداخلة ، تسقى بماء واحد وبنظام واحد وبذرها واحد ثم نرى في بعضها نضجا وكمالا وطعما وحلاوة ، وفي البعض جفافا ونقصا ، وصغرا وحموضة بل وطعما متغيرا تمام التغير عن زميلتها ، أليس هذا دليلا على وجود القادر المختار الواحد القهار ، وأن الدنيا لم تسر بطبعها من غير مدبر لها حكيم ؟ إن في ذلك لآيات وحججا ، ولكن لقوم يعقلون ويتدبرون بفكر حر وعقل سليم.
والحمد للّه أثبت علماء الطبيعة الأحرار الذين درسوا الكون وما فيه أنه على نظام لو اختل قيد شعرة لهلك العالم وفنى ، وهذا دليل على وجود اللّه وكمال قدرته على كل شيء.
بعض أقوالهم والجزاء عليها [سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)
المفردات :
الْأَغْلالُ جمع غل وهو طوق تشد به اليد إلى العنق والمراد وصفهم بالإصرار الْمَثُلاتُ جمع مثلة ، وهي عقوبة أمثالهم من المكذبين سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه من مماثلة.(2/215)
ج 2 ، ص : 216
بعد أن صدر السورة الكريمة بذكر الآيات القواطع الدالات على أنه على كل شيء قدير ، وأن البعث والإعادة مما يدخل تحت القدرة. تعرض لبعض أقوالهم المنافية تماما لهذه المقدمات.
المعنى :
وإن تعجب يا محمد من قولهم في إنكار البعث فقولهم حقيق بالعجب جدير به إذ من قدر على رفع السماء بلا عمد ، ثم استوى على العرش ، وسخر الشمس والقمر إلى آخر الآيات السابقة سواء كانت علوية أم أرضية ، من قدر على ذلك وعلى غيره ، ولم يعي بخلقهن قادر بلا شك على أن يحيى الموتى بل هو أهون عليه!! إذن إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب ، والعجب : تغير نفسي عند خفاء السبب ، وهو محال على اللّه فالمراد تعجب الرسول ومن حوله من المؤمنين.
قالوا : أإذا كنا ترابا ؟ !! أننا لفي خلق جديد ؟ قالوا مستبعدين ومحيلين البعث بعد أن كانوا ترابا ؟ !! أى أنبعث بعد أن كنا ترابا ؟ ، فكان جزاؤهم على هذا ..
أولئك الكاملون في الضلال المتمادون في الكفر والعناد هم الذين كفروا بربهم وأولئك هم المصرون على ما هم عليه فلا أمل فيهم البتة ، وينظر إلى هذا قول الشاعر العربي لهم عن الرشد أغلال وأقياد وقيل المعنى : أولئك يغلون يوم القيامة بالأغلال إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [سورة غافر الآيتان 71 و72].
وأولئك هم أصحاب النار الملتزمون لها دائما هم فيها خالدون إلى ما شاء اللّه.
ويستعجلونك بالسيئة والعذاب الذي أنذرتهم به ، استهزاء بك وتكذيبا لك قبل الحسنة من الإمهال أو الإيمان ، ولا غرابة فهم القائلون اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 32].
يستعجلونك بالعذاب وقد خلت من قبلهم المثلات ، وحلت بمن سبقهم العقوبات لما كذبوا واستعجلوا العذاب ، وإن ربك لذو مغفرة للناس حالة كونهم ظالمين ، نعم(2/216)
ج 2 ، ص : 217
هو يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئة ، وقد كتب على نفسه الرحمة لمن يتوب توبة نصوحا ، وإن ربك لشديد العقاب لمن أصر على الذنب ولم يرجع نادما على ما فعل وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 40] وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 46].
ومع هذا كله يقول الذين كفروا : لو لا أنزل عليه آية من ربه! لم يكتفوا بالآيات التي نزلت على محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
عجبا لهم وأى عجب ؟ ! ألم يكفهم أن اللّه أنزل القرآن حجته الباقية وآيته الخالدة فقيل لرسول اللّه تطمينا لقلبه : إنما أنت منذر ورسول ، وما عليك إلا البلاغ ، فلا يهمنك أمرهم ولا تعبأ به ، لم يكتفوا بالقرآن وطلبوا معجزة موسى وعيسى من انقلاب العصا حية وإحياء الموتى ، فرد اللّه عليهم بقوله : لكل قوم هاد من الأنبياء يأتى إليهم ومعه معجزة تتلاءم مع طبيعتهم وفنهم الذي برعوا فيه وقيل المعنى : إنما أنت رسول ، ولكل قوم هاد هو اللّه - سبحانه وتعالى - يلجئهم إلى الخير وحده لا دخل لأحد غيره.
من مظاهر علمه وحكمته [سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)(2/217)
ج 2 ، ص : 218
المفردات :
تَغِيضُ الْأَرْحامُ تنقصه الأرحام في زمن أو جسم يقال : غاض الماء إذا جف ونقص الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب وما حضر مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ مستتر بالليل وقيل ظاهر فيه وَسارِبٌ بِالنَّهارِ سرب : ذهب ، وسارب : ذاهب بالنهار ، أى ظاهر فيه. وقيل : المراد متوار فيه فهو من الأضداد في اللغة مُعَقِّباتٌ جمع معقبة والتاء للمبالغة لا للتأنيث ، والمراد ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار والٍ ناصر ينصرهم.
المناسبة :
يقول اللّه لنبيه : أنت منذر فقط ، ولا عليك شيء بعد هذا ولكل قوم هاد ورسول ، معه معجزاته المناسبة ، المؤيدة له تبعا لعلم دقيق وحكم سامية إذ اللّه يعلم الغيب والشهادة إلخ .. الآيات.
وعلى الرأى الثاني في تفسير وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فقد أتى بهذه الآيات للإشارة إلى أن هذه قدرته وهذا علمه فهو وحده القادر على هدايتهم بأى شكل ، وأما أنت فنذير فقط.
المعنى :
اللّه وحده هو الذي يعلم ما تحمله المرأة في بطنها أهو ذكر أم أنثى ؟ اللّه وحده يعلم الجنين في بطن أمه على أية كيفية يكون وضعه!! وفي أى وقت يكون مولده فالأشعة الحديثة لا تعلم إن كان الجنين ذكرا أم أنثى نعم أثبتت التجارب أن اللّه وحده هو الذي يعلم ذلك علما قطعيا لا شك فيه. وكثيرا ما قالوا : إن في بطن فلانة ذكرا ثم يكون أنثى! وصدق اللّه. اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى ويعلم ما تنقصه الأرحام وما يزداد ، والنقص والزيادة اللتان يعلمهما العالم البصير شاملان لكل نقص حسى أو معنوي وكذا الزيادة ، وكل شيء عنده - تبارك وتعالى - بقدر قدره ، وقضاء قضاه إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ وهذه الآية الكريمة تصف المولى - جل شأنه - بإحاطة(2/218)
ج 2 ، ص : 219
العلم وأنه يعلم ما غاب وما حضر ، وأنه يعلم الباطن الذي خفى عن الخلق كما يعلم الظاهر المشاهد ، وهو الكبير المتعالي عما يقوله المشركون السفهاء.
وإذا كان المولى يعلم السر والجهر والغيب والشهادة فسواء منكم أيها الناس من أسر القول وحدث به نفسه ، ومن جهر به ليسمعه غيره يستوي هذا وذاك فاللّه عالم بكل شيء سواء عنده من هو مستتر في الظلمات ، ومن هو ظاهر في الطرقات ، من هو مستتر بالليل ، ومن هو سارب وذاهب بالنهار على وجه السرعة والوضوح لكل فرد من الظاهر أو المستتر معقبات من الملائكة يتعاقبون على حفظه بالليل والنهار في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر يتبادلون الحفظ والرعاية كما ورد في الحديث.
له معقبات من بين يديه ومن خلفه أى من أمامه ومن خلفه ، والمراد من كل جهة هؤلاء الملائكة الحفظة يحفظونه من الوحوش والهوام والأخطار لطفا من المولى به وهم يحفظونه بأمر اللّه وإذنه وهذا معنى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فمن في الآية بمعنى الباء ، وقيل المعنى : يحفظونه عن أمر اللّه لا عن أمر أنفسهم فهم موكلون به يحفظونه من اللّه أى عن أمره كقوله تعالى : أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أى عن جوع وقيل المعنى : يحفظونه من اللّه أى من ملائكة العذاب حتى لا تحل بهم عقوبة لان اللّه لا يغير ما بقوم من نعمة وحفظ ورعاية حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان والعدل والاستقامة ، ولا يظلم ربك أحدا.
نعم لكل إنسان منا حفظة يحفظونه من بأس اللّه وعذابه فإذا أعلم أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد راقب ربه وخشي حسابه فاستقام أمره ، وإذا كان اللّه قد جعل للإنسان حفظة يحفظونه بأمر اللّه فكيف يصاب بسوء ؟ نعم يصاب إذا قدر له ذلك فهم يحفظونه من أمر اللّه بمعنى أن ذلك مما أمرهم به لأنهم لا يقدرون أن يدفعوا أمر اللّه.
إن اللّه لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وعز واستقلال حتى يغيروا ما بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة التي ترضى اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وتثبت دعائم الدولة.
ولقد أثبت التاريخ الإسلامى صدق هذه النظرية القرآنية فاللّه لم يغير ما كان عند الأمة الإسلامية من عز ورفاهية وعلم واقتصاد حتى غيروا ما بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة التي ترضى اللّه ورسوله ، وتثبت ما بأنفسهم حيث حكموا بغير(2/219)
ج 2 ، ص : 220
القرآن ، وتركوا دينهم ، وقلدوا غيرهم ، وشاعت بينهم الموبقات وانحلت أخلاقهم والأمل عندنا الآن ليحول اللّه ضعفنا إلى قوة وذلنا إلى عزة ، وفقرنا إلى غنى ، واحتلالنا إلى استقلال ، وصدق اللّه : إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، واللّه على كل شيء قدير ، وإذا أراد اللّه بقوم سوءا من احتلال وذل أو مرض وفقر ونحوهما من أسباب البلاء التي تكون بسبب أعمالهم وما كسبته أيديهم فلا راد له ولا معقب لحكمه ، وفي هذا إيماء إلى أنه ينبغي ألا يستعجلوا السيئة قبل الحسنة فإن ذلك كله مرجعه إلى عالم خبير لا يرد له قضاء ، وما لهم من دونه من وال وناصر.
من مظاهر قدرة اللّه وألوهيته [سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 16]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)(2/220)
ج 2 ، ص : 221
المفردات :
الْبَرْقَ شرارة كهربائية تظهر في السماء من اتصال سحابتين مختلفتين في كهربتهما الرَّعْدُ هو صوت احتكاك الهواء الناشئ من تفريغ جزء منه بسبب احتراقه بالشرارة الصَّواعِقَ جمع صاعقة وسببها أن السحب قد تمتلئ بكهربة شديدة والأرض بكهربة أخرى مخالفة. فإذا اقتربت السحب من الأرض حصل احتكاك كهربائى تنشأ عنه صاعقة إذا صادفت شيئا أحرقته ، وللبرق والرعد والصاعقة تفسيرات أخرى لا تلتئم في ظننا مع القواعد العلمية الحديثة يُجادِلُونَ الجدال شدة الخصومة الْمِحالِ الماحلة والكيد للأعداء ضَلالٍ ضياع وخسارة ظِلالُهُمْ جمع ظل وهو الخيال المقابل للشمس الذي يظهر للجرم بِالْغُدُوِّ جمع غداة وهي أول النهار وَالْآصالِ مفردها أصيل وهو ما بين العصر إلى المغرب.
هذا امتداد لبيان صفات اللّه القدسية ، ووصفه بمظاهر العلم والإحاطة ، والقدرة والكمال ، وتفرده بالألوهية والربوبية.
المعنى :
هو اللّه - سبحانه وتعالى - الذي يريكم البرق الخاطف ، والنور اللامع ، الذي يظهر فجأة ويختفى من تقارب سحابتين مختلفتين في الكهرباء ، هو الذي يسخر البرق بشيرا بمطر يطمع فيه من له حاجة إليه ، ونذيرا لمن يخاف المطر كمن في جرينه قمح أو شعير أو هو مسافر يضره المطر ، يا سبحان اللّه! لك في خلقك شئون ونظام.
وهو الذي ينشئ السحاب الثقال بالماء ، ويسبح الرعد بحمده تسبيحا بلسان الحال لا بلسان المقال وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وفي المأثور عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قوله إذا سمع صوت الرعد والصواعق : « اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك » رواه البخاري وأحمد
، وتسبيح الملائكة(2/221)
ج 2 ، ص : 222
من هيبته وجلاله. وما أجهلك يا ابن آدم إنك لظلوم جهول يسبح الجماد في الأرض والسماء وتسبح الملائكة رهبة من جلاله ، وأنت يا ابن آدم خلقت من مادة وروح ففيك شيء من الجماد وشيء من الملائكية (الناحية الروحية) ومع هذا فكثير منكم يا أبناء آدم لا تسبحون ولا تعبدون اللّه وحده.
وهو يرسل الصواعق المحرقة المبيدة فيصيب بها من يشاء من خلقه.
والحال أن الكفار مع هذا كله يجادلون في للّه - سبحانه وتعالى - وفي رسوله وفي الحساب والجزاء وهو شديد المحال شديد البطش والكيد لأعدائه شديد الحيلة ينزل بأعدائه عذابه من حيث لا يشعرون ، وهو القادر على أن ينزل عليكم العذاب من فوقكم ومن تحت أرجلكم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة النمل آية 51].
له - سبحانه وتعالى - دعوة الحق ، ودعاء الصدق ، له وحده العبادة ومنه الاستعانة ، وإليه التضرع وعليه التوكل ، إذ هو وحده له دعوة الحق. سبحانه وتعالى ، فهو الخالق والمبدئ والمعيد ، والرحيم الودود ، ذو العرش المجيد ، فعال لما يريد ، جل شأنه ، وتباركت أسماؤه والذين يدعونهم من دونه كالأصنام والأوثان والأحجار والمعبودات لا يستجيبون لهم بشيء وكيف يستجيبون ؟ وهم أضعف من الضعف ، بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ، هؤلاء الشركاء لا يستجيبون لهم بشيء مما يريدونه من نفع أو إزالة ضر إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفه إليه من بعيد ليبلغ فاه وهو عطشان فهل يجيبه الماء ؟ . إنه لا يجيبه لأنه جماد لا يعقل دعاء ، ولا يشعر به.
وما دعاء الكافرين أصنامهم ، وما عبادتهم لهم إلا ضلال وخسران : وضياع وهلاك.
وللّه وحده - تبارك وتعالى - يسجد من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن يسجدون سجود انقياد وامتثال طائعين إن كانوا مؤمنين ومكرهين إن كانوا كافرين.
نعم للّه يسجد ما في السموات وكل ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد وإنسان وجن وملك ، كلهم خاضعون منقادون للذي خلقهم وفطرهم بقدرته وإرادته.(2/222)
ج 2 ، ص : 223
وظلالهم خاضعة كذلك بالغدو والآصال. خاضعة لقدرة للّه فهو الذي سخر الشمس وغيرها.
أمر رسول اللّه أن يسألهم : قل يا محمد لهم : من رب السموات والأرض ؟ ولما كانوا يقرون بأن اللّه خلقهما وهو ربهما ولا سبيل إلى إنكار ذلك أبدا أمر أن يجيب ويقول : قل : اللّه!! وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [سورة الزخرف آية 9].
قل لهم أفاتخذتم من دونه أولياء ؟ !! أى وإذا كان الأمر كذلك وأنتم تقرون بأنه الخالق والرب للسماء والأرض فما بالكم اتخذتم من دونه أولياء عاجزين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ؟ ! قل لهم : هل يستوي الأعمى عن طريق الحق والبصير به ؟ بل هل تستوي الظلمات والنور ؟ وجمع الظلمات وأفرد النور لأن طريق الحق واحد وطرق الباطل متعددة.
بل أجعلوا للّه شركاء خلقوا كخلقه ؟ فتشابه خلق الشركاء بخلق اللّه عندهم.
والمعنى ليس الأمر على هذا يشتبه عليهم ويختلط ، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا أن اللّه هو المتفرد بالخلق والإيجاد ، وكل الشركاء أصنام لا تدفع عن نفسها ضرا.
قل لهم يا محمد : قد بدا الصبح لذي عينين وظهر الحق جليا. اللّه خالق كل شيء وهو الواحد القهار.
هذا مثل للحق وأهله وللباطل وحزبه [سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 19]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)(2/223)
ج 2 ، ص : 224
المفردات :
أَوْدِيَةٌ جمع واد وهو المنفرج بين مرتفعين الذي يسيل فيه الماء بِقَدَرِها بمقدارها الملائم لها زَبَداً الزبد ما يعلو وجه الماء ، ويقال له الغثاء والرغوة رابِياً منتفخا زائدا بسبب انتفاخه جُفاءً والجفاء ما يرمى به الوادي من الزبد والغثاء.
بعد أن ضرب اللّه مثل الأعمى والبصير للمؤمنين والكافرين ، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر. ضرب هنا مثلا للحق وأهله وللباطل وحزبه.
المعنى :
مثل اللّه - تبارك وتعالى - الحق الذي هو القرآن الكريم في نزوله من عند اللّه واستقراره في قلوب المؤمنين ، وثباته فيها وانتفاعهم به بمقدار الحكمة موزونا بميزان العلم والمعرفة كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ في المعاش والمعاد بالماء النازل من السماء السائل في أودية سيلانا مقدرا ، هذا المقدار هو المناسب لكل واد حتى لا يحصل خطر من سيلان الماء فيه ، ولأمر ما كان القرآن كالماء ، وما ذاك إلا لأن الماء عليه قوام الحياة وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ والقرآن عليه نظام الكون وحياة العالم أجمع.(2/224)
ج 2 ، ص : 225
ومثل القرآن كذلك بالمعدن النافع من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس فهذا كله فيه خير الناس وينتفعون به في الحلية والمتاع وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [سورة الحديد آية 25].
ومثل الباطل في سرعة زواله وعدم فائدته بالزبد الطافي فوق الماء ، والغثاء الطافي فوق المعدن عند انصهاره بالنار فكل منهما خبيث سريع الزوال لا ينتفع به صاحبه ولا يؤثر على الماء الصافي ولا على المعدن الخالص.
وهاك المثل بعبارة القرآن الكريم مشروحة شرحا أسأل اللّه أن أكون موفقا فيه أنزل اللّه - سبحانه وتعالى - من السماء ماء هو ماء المطر فسالت بذلك أودية خاصة - لا كل الأودية - بقدرها أى : بمقدارها الذي عرف اللّه أنه نافع غير ضار انظر إلى قوله :
وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ وفي هذه العبارة تجوّز إذ الذي يسيل هو الماء ، فاحتمل السيل الجاري في تلك الأودية زبدا وغثاء ورغوة مرتفعة رابية طافية فوق سطح الماء وهكذا الباطل يرتفع في أول الأمر ثم لا يلبث أن يمحى ويضيع ولا يبقى إلا الحق مثل الزبد يطفو ويعلو ثم يذهب ويبقى الماء وهل يؤثر الزبد على الماء لا. كذلك الباطل.
وهناك زبد وغثاء آخر يطفو فوق المعدن الذي يسيل بواسطة النار هذا الزبد ينشأ مما يوقدون عليه في النار من ذهب وفضة أو حديد ونحاس وغيره يوقدون عليه لأجل الحلية في الذهب مثلا أو للمنفعة في الحديد ، والأبحاث العلمية التي استخدمت الحديد والمعادن في هذه النهضة الحديثة شاهد عدل على ذلك.
مثل ذلك التصوير الفنى الرائع يضرب اللّه مثلا للحق والباطل فأما عاقبة كل وهي التي تدفع العقلاء إلى اتباع الحق وأهله ، والبعد عن الباطل وحزبه فها هي ذي.
فأما الزبد الذي يعلو فوق الماء أو على المعدن فيذهب جفاء مرميا به بسرعة إذ لا خير فيه ولا نفع.
أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ويبقى فيها ، والعاقبة له مهما علا الباطل ، نعم أما الماء فيبقى في الأرض للانتفاع به في الشرب والسقي بأى صورة كانت بواسطة الآبار إن غار في الأرض وأخذا باليد إن بقي على ظهرها وهكذا المعدن شأنه كالماء.
أما الحق والقرآن أمام الشرك وزخرف الباطل فهما الباقيان النافعان المفيدان للناس(2/225)
ج 2 ، ص : 226
جميعا إما مباشرة لمن تمسك بهما أو بالتبع لمن كفر بهما فحضارة أوروبا التي هي فيها لا نبالغ إن قلنا إنها من الإسلام عن طريق مدارس القسطنطينية والأندلس ، وفي الحروب الصليبية يعرف هذا الأحرار في عقولهم وتفكيرهم ، وللأسف يتمسك الغربي بما يدعو إليه ديننا من الحق والعدل والكرامة والعزة والصدق وعدم النفاق ، ونتمسك نحن بباطل عقائدهم وزيف أخلاقهم!! كذلك يضرب اللّه الأمثال للناس جميعا للذين استجابوا لربهم وآمنوا بالحق والقرآن المثوبة الحسنى! والذين لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا لهم العقاب الشديد والعذاب الأليم ، بدليل لو أن لهم ما في الأرض جميعا من مال ومنافع ومثله معه لأحبوا من صميم قلوبهم وعن طيب خاطرهم أن يفتدوا به أنفسهم.
أولئك لهم الحساب السيّئ الشديد ومأواهم جهنم ، وبئس المهاد مهادهم.
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من القرآن من عند ربك الذي مثل بالماء الصافي والمعدن الخالص النافع هو الحق الذي لا شك فيه كمن هو أعمى بصيرة وقلبا لا يشاهد الشمس في رأد الضحى كأنه يقول : أبعد ما بين حال كل من الباطل والحق ومآلهما يتوهم المماثلة أحد ؟ إنما يتذكر بذلك أولو الألباب. ومن هم ؟ !!
من هم أولو الألباب ؟ وما جزاؤهم ؟ [سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)(2/226)
ج 2 ، ص : 227
المفردات :
يَنْقُضُونَ النقض : الفك وأصله للحبل ثم استعمل في العهد لأنه يشبهه يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ الخشية : الخوف مع العلم بمن تخشاه وَيَدْرَؤُنَ يدفعون عَدْنٍ أى : إقامة.
بعد أن ضرب اللّه المثل لمن اتبع الحق ولمن اتبع الباطل ، وأبان أنه لا يتذكر إلا أولو الألباب ناسب أن يذكر من هم أولو الألباب وما جزاؤهم.
المعنى :
إنما يتذكر بالأمثال ويتعظ بها أولو الألباب وأصحاب العقول ، فالذكرى والموعظة لا تنفع إلا المؤمنين أولى الألباب ، ولكنا نرى أناسا يصفون الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، ويتفننون في جمع المال من شتى الطرق بأنهم أولو الألباب أما القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يبين لنا أصحاب العقول ويصفهم بصفات ثمانية.
1 - الذين يوفون بعهد اللّه. وهو ما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وفيما بينهم وبين أنفسهم ، وفيما بينهم وبين الناس ، وقد شهدت فطرتهم السليمة به.
وأنزل عليهم في الكتاب إيجابه.
ولا ينقضون الميثاق وهو العهد الموثق المؤكد الذي وثقوه بينهم وبين اللّه وبينهم وبين العباد من العقود والمعاملات والعهود والالتزامات وفي الحديث « آية المنافق ثلاث :
إذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر »
وقال قتادة : إن اللّه ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين موضعا في القرآن عناية بأمره واهتماما بشأنه.
2 - والذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل ، وظاهر الآية يشمل كل ما أمر اللّه(2/227)
ج 2 ، ص : 228
بصلته ونهى عن قطعه من حقوق اللّه وحقوق جميع العباد خصوصا حقوق الأقارب التي هي صلة الرحم من باب أولى.
3 - ويخشون ربهم ، والخشية من اللّه مرتبة العلماء وسمة المقربين من الأتقياء إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [سورة فاطر آية 28] وهي صفة تحملهم على فعل كل ما أمروا به واجتناب كل ما نهوا عنه.
4 - ويخافون سوء الحساب ، فهم يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، ويزنون أعمالهم قبل أن توزن عليهم لأنهم يخافون الحساب الذي يستقصى كل الأعمال مع المناقشة في الصغير والكبير.
5 - والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم. والصبر حبس النفس على ما تكره ويكون بفعل الطاعات والتكليف ، واجتناب المنهيات والمنكرات ، والرضا بقضاء اللّه وقدره في الرزايا والمصائب ، والصبر المطلوب لأنه عمل نفسي قلبي شرط فيه أن يكون ابتغاء مرضاة اللّه ، وطلبا لجزاء الصبر لا حبا في الرياء والسمعة.
6 - وأقاموا الصلاة ، وإقامتها إتيانها مقومة كاملة تامة الأركان والهيئات مع الخشوع الكامل والاتجاه إلى اللّه ، والاستحضار العرفي إن لم يكن الحقيقي وذلك يكون إذا تذكرت أنك واقف بين يدي اللّه وأمام جبار السماء والأرض. الواحد القهار ، وعليك أن تروض نفسك على ذلك وتعودها الوقوف بأدب أمام اللّه فلا يشغلك شيء أبدا عن الصلاة بحيث لا تفكر إلا فيها ، يا أخى حاول أن تشعر قلبك بخشية اللّه وتملأ نفسك بالخوف منه وأن تفهم أن الصلاة الناقصة تلف في خرق بالية وترد على صاحبها فتظل تدعو عليه إلى يوم القيامة.
7 - وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، والواقع هو الذي يفهمنا سر تكرار القرآن لطلب الإنفاق فلو أنفق الناس بعضا من أموالهم ، وامتثلوا أمر ربهم ما كنا في حاجة أبدا إلى قانون يحد من تصرفهم ، ولما شاعت تلك الأفكار الهدامة التي تقوض صرح مجتمعنا.
8 - ويدرءون بالحسنة السيئة وهذه هي آخر صفة لأصحاب العقول إذ من العقل أن ندفع السيئة بالحسنة فالحسنات يذهبن السيئات ، والواقع أثبت أن من الخير للشخص(2/228)
ج 2 ، ص : 229
أن يعامل أخاه معاملة حسنة معاملة بالشفقة والرحمة حتى يسل سخائمه ، ويميت حسده وبغضه بالإحسان إليه.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استبعد الإنسان إحسان
أما جزاؤهم في الدنيا السعادة والهدوء ، والراحة واطمئنان البال ولظهور هذه لم تذكر في القرآن وأما في الآخرة : فأولئك لهم عقبى الدار التي هي الجنة العالية ذات القطوف الدانية ، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ويكفى أنها نزل الرحمن الذي أعده لأحبابه وأوليائه فهل بعد ذلك شي ء ؟ !!.
ومن صلح من آبائهم سواء أكان ذكرا أم أنثى وأزواجهم ، وذرياتهم الأقربين يكونون معهم ليأنسوا بهم هذا بشرط أن يكونوا مستحقين لذلك والا فالحديث
عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لفاطمة « يا فاطمة اعملي فلن أغنى عنك من اللّه شيئا »
وفي القرآن يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ هؤلاء في الجنة على سرر متقابلين ومعهم أهلهم إكراما لهم وأنسابهم ، ثم تمر عليهم الملائكة تحييهم يا له من شرف كبير الملائكة تستقبل وتحيى المؤمنين الموصوفين بما ذكر ، نعم يدخلون عليهم من كل باب قائلين سلام عليكم بما صبرتم ، وأمن عليكم ورحمة من ربكم بسبب صبركم وتحملكم فنعم عقبى الدار.
ورد أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
، وكذا كان يفعل أبو بكر وعمر وعثمان - رضى اللّه عنهم - ..
من هم الأشقياء ؟ وما جزاؤهم ؟ [سورة الرعد (13) : آية 25]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)(2/229)
ج 2 ، ص : 230
بعد ما ذكر المتقين وأصحاب العقول وصفاتهم وجزاءهم ذكر حال الأشقياء وجزاءهم وهذا ديدن القرآن يتكلم على الطائع والعاصي ليظهر الفرق واضحا جليا فيكون ذلك أدعى إلى الامتثال والعمل الصالح.
المعنى :
والذين ينقضون عهد اللّه الذي ألزمه عباده وأمر به في كتابه مما يشمل عهد اللّه والناس ، وما ركبه في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات ونقضه عدم العمل به عنادا وكفرا من بعد ميثاقه وتوكيده ، وإلزامهم به عن طريق العقل والطبع والشرع والنقل.
ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل من الإيمان والامتثال وصلة الرحم فالكفر وعدم الإيمان بجميع الرسل ، وقطع الرحم والأخوة ، ومنع المساعدات التي يوجبها الوطن والضمير الإنسانى في كل ذلك قطع لما وصله اللّه وأمر به.
ويفسدون في الأرض بأعمالهم الخبيثة التي ينشأ عنها الحرب والهلاك والدمار والفساد.
هؤلاء الناقضون العهد الذين لا يخافون ربهم ولا يخشون حسابه ، القاطعون الرحم المفسدون في الأرض لهم اللعنة والطرد من الرحمة ، والبعد عن خيرى الدنيا والآخرة ولهم سوء الدار لما اجترحوا من سيئات الأعمال وارتكبوا من شرور الآثام ..
من أوصافهم أيضا [سورة الرعد (13) : الآيات 26 الى 29]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)(2/230)
ج 2 ، ص : 231
المفردات :
وَيَقْدِرُ أى : يضيق أو يعطى بقدر الكفاية فقط مَتاعٌ شيء قليل ذاهب مأخوذ من قولهم متع النهار إذا ارتفع وهو لا بد زائل بالزوال طُوبى من الطيب أى : العيش الطيب ويشمل النعمى والخير. والحسنى. والكرامة والغبطة وقيل : هي اسم لشجرة في الجنة.
المعنى :
هذا امتداد لوصف الأشقياء الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض ، أولئك لهم سوء الدار.
وفرحوا بالحياة الدنيا وقالوا ، لو لا أنزل عليه آية من ربه إلخ.
ولما نعتهم اللّه بقوله : لهم سوء الدار كأن سائلا سأل وقال : كيف هذا ؟ مع أننا نرى هؤلاء الأشقياء منعمين في الدنيا فكيف قيل فيهم لهم سوء الدار.
والجواب أن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء بقطع النظر عن كونه مؤمنا أو كافرا لأن الدنيا عنده لا تزن جناح بعوضة فالمؤمن قد يضيق عليه الرزق ابتلاء واختبارا ، فبسط الرزق للكافر لا يدل على الكرامة ، والتقتير على المؤمن لا يدل على الإهانة ، وعلى هذا فقوله تعالى : اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ جملة معترضة بين أوصاف الأشقياء الكفار.
وهم فرحوا بالحياة الدنيا واطمأنوا ولم يذكروا الآخرة ولا حسابها ولم يعملوا لها أبدا ، وما الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة إلا متاع زائل وعرض فإن حائل يزول بسرعة كما يزول متع النهار.(2/231)
ج 2 ، ص : 232
وهم لسوء فهمهم وتقديرهم يقولون : لو لا أنزل عليه آية من ربه كأنهم لم يقتنعوا بالآيات المنزلة على النبي محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم التي أهمها القرآن ، يا عجبا كل العجب!! إن هذا لعجيب. وما أشد عنادكم وما أعظم كفركم!! اللّه يضل من يشاء ، من يضله فلا سبيل إلى اهتدائه ولو أنزلت عليه كل آية ، ويهدى إليه من أناب ورجع عن غيه وشيطانه.
ويهدى إليه الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم وتلين جلودهم ، وتهدأ نفوسهم لذكر اللّه ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب الثائرة ، وتهدأ النفوس المضطربة ، هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى وخير ، ومثوبة وكرامة لهم يوم القيامة وحسن مآب ولا حرج على فضل اللّه.
رد على المشركين وبيان قدرة اللّه على كل شيء وتسلية النبي صلّى اللّه عليه وسلم [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)(2/232)
ج 2 ، ص : 233
المفردات :
قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ شققت وتصدعت حتى صارت قطعا يَيْأَسِ المراد يعلم ، وقيل هو يأس على حقيقته قارِعَةٌ داهية تفجؤهم ونكبة تحل بهم فَأَمْلَيْتُ الإملاء والإمهال أن يترك الشخص ملاوة من الزمن في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى لتأكل ما تشاء قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ رقيب وحفيظ عليها بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بباطل من القول لا حقيقة له في الواقع أَشَقُ
أشد وأنكى واقٍ
حافظ.
طلبوا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم آية خلاف القرآن فرد اللّه عليهم بأن المسألة ليست آية تأتى ، وإنما الهداية من اللّه ، والرسول مبشر ونذير فقط ، وهنا يقول : إن محمدا رسول كبقية الرسل وآيته القرآن ، ولو أنزل عليكم ما تطلبونه وزيادة لما آمنتم :
المعنى :
مثل ذلك الإرسال الذي سبق مع الأمم الماضية أرسلناك يا محمد إرسالا له شأن وفضل ، أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها الأمم فهي آخرها ، وأنت خاتم الأنبياء والمرسلين لتتلو عليهم وتقرأ الذي أوحيناه إليك ، وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فكيف يطلبون بعد ذلك آية ؟ !! وهم يكفرون بالرحمن المنعم بجلائل النعم ، والذي وسعت رحمته كل شيء في(2/233)
ج 2 ، ص : 234
الكون ، ومن رحمته إرسالك من أنفسهم وأنت عزيز عليك عنتهم حريص عليهم بالمؤمنين رءوف رحيم هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة آية 2] ، وهذا القرآن الذي معك فيه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة .. فكيف يكفرون بالرحمن ؟ !! قل لهم يا محمد : هو ربي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الذي كفرتم به وأشركتم به غيره وهو اللّه الأحد الفرد. الصمد. الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، عليه وحده توكلي وإليه وحده توبتي ورجوعي ، وهذا بيان لفضل التوبة ومقدارها ، وحث عليها إذ أمر بها - عليه الصلاة والسلام - وهو المنزه عن اقتراف الذنوب والآثام.
وروى أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل ، وعبد اللّه بن أمية جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأتاهم فقال له عبد اللّه : إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها عنا حتى تنفسخ فإنها أرض ضيقة فلست - كما زعمت - بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه ، وسخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا ، ثم نرجع من يومنا ، فقد سخرت لسليمان الريح كما زعمت فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود. وأحيى لنا جدك قصى ابن كلاب أو من شئت أنت من موتانا نسأله أحق ما تقول أنت أم باطل! فإن عيسى كان يحيى الموتى ولست بأهون على اللّه منه فأنزل اللّه : وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ.
ولو ثبت أن قرآنا سيرت به الجبال وزحزحت عن أماكنها كما فعل بالطور لموسى ، أو لو ثبت أن قرآنا شققت به الأرض وجعلت أنهارا وعيونا كما حدث للحجر حين ضربه موسى بعصاه ، أو لو ثبت أن قرآنا كلم به أحد الموتى في قبورهم وأحياهم بتلاوته كما وقع لعيسى - عليه السلام - لو ثبت هذا لشيء من الكتب لثبت للقرآن المنزل على محمد لما اشتمل عليه من الآيات الكونية الدالة على عظم قدرة اللّه وبديع صنعه ، ولما انطوى عليه من الحكم والأحكام التي فيها صلاح العباد في المعاش والمعاد ، ولما فيه من القوانين الاقتصادية والسياسية والعمرانية التي تكفل للأمة أن تعيش عيشة سعيدة وتكون خير أمة أخرجت للناس.(2/234)
ج 2 ، ص : 235
لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه مما تقتضيه الحكمة الإلهية لكان مظهر ذلك هو القرآن الذي لم يعدوه آية.
وقيل المعنى : لو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى ، لما آمنوا به كقوله تعالى. وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [سورة الأنعام آية 111].
بل للّه القدرة على كل شيء وهو القادر على الآيات التي اقترحوها وغيرها إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة يصرفه عن إظهارها ويمنعه.
وهم يكفرون بالرحمن في كل حال وعلى أى وضع ، ولو ثبت أن قرآنا سيرت به الجبال إلخ الآية.
أنسوا!! أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات والمعجزات.
وقيل : إن المراد أفلم ييأس الذين آمنوا ويقنطوا من إيمان هؤلاء الكفار لعلمهم أن اللّه - تعالى - لو أراد إيمانهم لهداهم ، وذلك أن بعض المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعا في إيمانهم إذ لو أراد هدايتهم لهداهم.
ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة تقرعهم ، وداهية تفجؤهم في أنفسهم وأموالهم وديارهم أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتى وعد اللّه وينتهى هذا العالم ، وهكذا يحقق اللّه وعده ووعيده فهم دائما في حروب وفتن لا تنتهي أبدا إن لم تكن حربا حقيقية تكن حربا باردة ، وأما أنت أيها الرسول فلا يحزنك أمرهم ، ولا يؤلمك استهزاؤهم ، ولقد استهزئ برسل من قبلك ، ونالوا ما نالوا من قومهم ، وقالوا لهم ما قالوا مما علمته في قصصهم ، ولكن كانت العاقبة والدائرة عليهم ولقد أملى اللّه لهم ، وأمهلهم حتى ارتكبوا التعاسيف وظن المسلمون باللّه الظنون ، ثم أخذهم ربك بالعذاب الأليم أخذ عزيز مقتدر فكيف كان عقاب ؟ ! فهل من مدكر ؟ ! أفمن هو قائم على كل نفس بالحفظ والرعاية والعناية والكلاءة وهو المولى القدير كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تضر ولا تنفع ؟ بل إن يسلبهم أحقر الحيوانات شيئا لا يستنقذوه منه.(2/235)
ج 2 ، ص : 236
أفمن هو قائم على الكون كله بالحفظ والرعاية والخلق والإيجاد كشركائهم الذين اتخذوهم آلهة من دون اللّه وجعلوا له شركاء! والمراد نفى المماثلة.
قل لهم يا محمد : سموهم وانعتوهم من هم ؟ ! بل أتنبئونه بشيء لا يعلمه في الأرض! مع أنه العالم بكل ما في السموات والأرض ، بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول ليس له حقيقة واقعة ، وليس له ظل في الخارج فكلامكم قول باطل زائل كاذب تقولونه بأفواهكم فقط. ليس للّه شريك أبدا ، بل زين للذين كفروا مكرهم ، وصدوا عن سبيل اللّه بكل قواهم وما يملكون ، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون ومن يضلله اللّه فلا هادي له أبدا.
ولهم عذاب أليم في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأنكى ، وما لهم من واق ولا حافظ يحفظهم من عذاب اللّه. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذن اللّه!!
وصف الجنة ، ومناقشة المعترضين من أهل الكتاب والمشركين [سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 39]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)(2/236)
ج 2 ، ص : 237
المفردات :
مَثَلُ الْجَنَّةِ صفتها العجيبة التي تشبه المثل في غرابتها الْأَحْزابِ جمع حزب ويطلق على الطائفة المتحزبة المجتمعة لشأن من الشئون مَآبِ مرجع واقٍ
حافظ أَجَلٍ الأجل المدة والوقت كِتابٌ قيل : هو الحكم المعين الذي يكتب على العباد على حسب ما تقتضيه الحكمة أُمُّ الْكِتابِ أصله قيل : هو علم اللّه وقيل غيره.
هكذا ديدن القرآن إذا وصف النار وعذابها قفّى على ذلك بذكر الجنة ونعيمها وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً [سورة الفرقان 11 - 15] إلى آخر الآيات من السورة.
المعنى :
يريد اللّه - تبارك وتعالى - أن يمثل الغائب بما هو مشاهد معروف عندنا ، تقريبا للأفهام وتوجيها للأذهان ، وإلا فالجنة على حقيقتها شيء لا يدرك كنهه إلا بعد دخولها والتمتع بها - إن شاء اللّه - فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [سورة الزخرف آية 71].
فيما يتلى عليكم صفة الجنة التي وعدها اللّه للمتقين تجرى من تحتها الأنهار سارحة في أرجائها وجوانبها وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيرا ، ويوجهونها حيث أرادوا مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة محمد آية 15].(2/237)
ج 2 ، ص : 238
أكلها دائم وظلها دائم وفيها الفواكه والمطاعم والمشارب بلا انقطاع ولا فناء وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [سورة الواقعة الآيتان 32 و33] وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا [سورة الإنسان آية 14] تلك عقبى الذين اتقوا وهذا جزاؤهم ، وعقبى الكافرين وجزاؤهم ونهايتهم النار التي وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون اللّه ما أمرهم.
وهذا الذي مضى من وصف الجنة والنار ، وغير ذلك مما نزل به القرآن. الناس فيه على صنفين : مصدق ومكذب ، فالذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى وهم قائمون بمقتضاه ، ومؤمنون حقا بما فيه يفرحون بما أنزل إليك من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به.
ومن الأحزاب من ينكر بعضه ، نعم كان من أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام ، وتميم الداري من المؤمنين الكاملين ، وبعضهم كان يتحزب على النبي ويؤلب عليه ككعب بن الأشرف وغيره من زعمائهم ورؤسائهم ينكرون بعض القرآن وهو ما لم يوافق ما حرفوه من كتبهم وشرائعهم المغيرة.
وكيف تختلفون بين مصدق ومكذب ؟ وهناك أساس واحد هو الذي يحتاج إليه المرء ليفوز بالسعادة ، وهو ما أمر اللّه به نبيه فقال : قل يا محمد : إنما أمرت أن أعبد اللّه ولا أشرك به شيئا ، إليه وحده أدعو وإليه وحده مآبي ومرجعي ، فهذا هو التوحيد الخالص الكامل ، وتلك الرسالة بإيجاز ، دعوى إلى اللّه فقط وطاعة وإخلاص وعبادة واستعانة باللّه وحده ، وأما المرجع والمآب والحساب والجزاء فإليه وحده أيضا.
ومثل ذلك الإرسال للرسل قديما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك كتابا هو القرآن وهو كتاب محكم الآيات ، فيه الحكم الحق والقول الفصل ، أنزلناه حكما بلسان عربي مبين فكان مبينا لمقاصده موضحا لمراميه لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت آية 42].
ولئن اتبعت يا محمد أهواءهم وآراءهم من بعد ما جاءك العلم من اللّه - سبحانه وتعالى - فليس لك من دون اللّه ولىّ ولا ناصر ، وهذا وعيد وتهديد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعد الذي وصلوا إليه من الوقوف على أسرار الشرع والإلمام بالسنة النبوية والحجة المحمدية.(2/238)
ج 2 ، ص : 239
روى أن اليهود عابت رسول اللّه بكثرة النساء ، وقالوا لو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء
. وقد لجوا في طلب الآيات كما تقدم ، فرد اللّه عليهم ليس محمد بدعا من الرسل ، ولقد أرسلنا قبله رسلا وكانوا بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويفعلون كل ما يفعله البشر قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف 110] وصدق اللّه فهذا تسجيل في القرآن لا يقبل شكا ولا جدلا وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وفي الصحيحين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « أمّا أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وآكل اللّحم ، وأتزوّج النساء فمن رغب عن سنّتى فليس منّى »
. وأما الآيات المقترحة فتلك نغمة رددها القرآن ورد عليها كثيرا بما يفيد أن الرسول رسول فقط والآيات من عند اللّه ، وما كان لرسول أن يأتى بآية إلا بإذن اللّه وأمره ، وقد جاءكم القرآن وكفى به معجزة خالدة باقية ثابتة على جهة التحدي والإفحام.
والآيات لا تأتى اعتباطا ولكنها لحكمة وفي زمن ، اللّه يعلمه لكل أجل كتاب أى :
لكل مدة مضروبة ووقت معلوم كتاب مكتوب ، وكل شيء عنده بمقدار إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [سورة القمر آية 49] لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [سورة الأنعام آية 67] وقيل المعنى : لكل كتاب أجل ، أى لكل أمر كتبه اللّه أجل معين ووقت معلوم ، فليست هناك آية مقترحة بنازلة قبل أوانها ، ولا عذاب استعجلوه بنازل قبل أوانه ، فالآجال والأعمار والأرزاق والأحداث ، كل ذلك بقضاء اللّه وقدره ، وله وقت محدود لا يتقدم ولا يتأخر فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف آية 34].
يمحو اللّه ما يشاء من الأحداث الكونية والإنسانية ويثبت ما يشاء من هذا كله في الخارج ، وعنده - سبحانه وتعالى - أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ ، أو علمه - جل شأنه - ثابت أزلا لا يتغير ولا يتبدل كل شيء على حسب علمه ووفق إرادته ، والمعنى يمحو ويثبت في الخارج ما يشاء ، وعلمه لا يتغير ولا يتبدل وهو موافق لما في اللوح المحفوظ ، ومظاهر المحو والإثبات نراها في كل لحظة من ليل ونهار ، وشمس وقمر ، ونور وظلام ، وحياة وموت ، وقوة وضعف ، وزرع وحصاد إلى آخر ما في الأحداث الكونية ، هذا المحو والإثبات خاضع لعلمه القديم الذي لا يتغير ولا يتبدل ، وعلى هذا فالآية رد - أيضا - على اقتراحهم الآيات حيث كان المحو والإثبات خاضع لمشيئة اللّه ولقانونه الذي وضعه ، وهو لكل كتاب أجل محدود لا يتقدم ولا يتأخر.(2/239)
ج 2 ، ص : 240
وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال نجملها واللّه أعلم بكتابه :
1 - قال ابن عباس : يدبر أمر السنة فيمحو ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت.
2 - قال مجاهد : مثل هذا.
3 - قال الحسن : يمحو اللّه من جاء أجله ويثبت من بقي أجله.
4 - قال عكرمة : يمحو اللّه القمر ويثبت الشمس.
5 - قال الربيع : يقبض اللّه الأرواح في النوم فيميت من يشاء ويمحوه ، ويرجع من يشاء فيثبته.
6 - وقال آخرون : يمحو اللّه ما يشاء من الشرائع بالنسخ ويثبت ما يشاء بلا نسخ.
7 - وقال بعضهم : يمحو اللّه المحن والمصائب بالدعاء.
الرسول صلّى اللّه عليه وسلم مبلغ واللّه محاسب ومنتقم [سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)(2/240)
ج 2 ، ص : 241
المفردات :
أَطْرافِها جوانبها مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ المعقب الذي يتعقب الشيء فيبطله بالنقد والتجريح.
المعنى :
يريد اللّه - سبحانه وتعالى - تحديد موقف الرسول من مطالب الكفار العنادية التي يطلبونها من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم تطمينا لخاطره وتهدئة لنفسه ووعدا بنصره .. وإن نرينك بعض الذي وعدناهم من العذاب في الدنيا أو توفيناك قبل هذا فاعلم أن عليك شيئا واحدا تؤديه كاملا ألا وهو تبليغ كل ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - ولا يهمنك شيء بعد هذا أبدا فاللّه معك وحافظك وعاصمك من الناس ، وعلى اللّه وحده حسابهم وجزاؤهم.
أنسوا ولم يروا أن اللّه - سبحانه وتعالى - يأتى إلى أرض الكفر فينقصها شيئا فشيئا وأن أرض الإسلام تتسع شيئا فشيئا حتى دخل الناس في دين اللّه أفواجا وسبح المسلمون وكبروا بحمد اللّه ونعمته.
ولا غرابة في ذلك فاللّه يحكم لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، بل قوله الفصل وأمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ، وهو سريع الحساب ، وقد كنا نفهم في الآية أنها دليل على فرطحة الأرض وأنها ليست تامة الكروية بل هي منبعجة ناقصة الأطراف ، ولكن يظهر أن الآية واللّه أعلم نص في المعنى الأول.
وقد مكر الذين من قبلهم من كفار الأمم الماضية بأنبيائهم كعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط واستنفدوا جهدهم وطاقتهم في إطفاء نور الحق ، أو لم يعلموا أن للّه وحده المكر جميعا ، وقد أبى اللّه إلا إتمام نوره ولو كره الكافرون .. واللّه وحده يعلم ما تكسب كل نفس في كل حركة تتحركها ، وسيعلم الكفار - يوم لا يغنى عنهم ذلك شيئا - لمن عقبى الدار ؟ !! وفي هذا سلوى للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم حيث يعلم أن ديدن الناس قديما مع إخوانه الرسل وحديثا معه لم يتغير ولم يتبدل ، وفي هذا تقوية لعزمه ببيان أن النصر في النهاية له وأن الدائرة على الكفار.(2/241)
ج 2 ، ص : 242
روى عن ابن عباس - رضى اللّه عنه - قال : قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أسقف من اليمن فقال له - عليه السلام - : « هل تجدني في الإنجيل رسولا ؟ » قال : لا.
فأنزل اللّه - تعالى - : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا
للنّاس تخرجهم من الظّلمات إلى النّور وتهديهم إلى طريق الحقّ والعدل والكرامة وتنقذهم من ضلال الجاهلية وظلم الأوثان إلى نور التوحيد الخالص ، وتنقل العالم إلى مجتمع كامل ومدنية فاضلة.
قل لهم يا محمد : حسبي اللّه شاهدا ومؤيدا لرسالتي ، بما أنزله على من القرآن المعجز ومن الآيات البينات التي تدل على صدقى وأنى رسول حقا من عند اللّه وكفى باللّه الذي أنزل القرآن يعلمه شهيدا بيني وبينكم!! ومن عنده علم الكتاب أى : جنس الكتاب المنزل الصادق على التوراة والإنجيل فإن علماء اليهود والنصارى الأحرار الذين آمنوا باللّه وصدقوا برسول اللّه يعلمون حقا أن النبي محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم هو المبشر به عندهم وأنه النبي العربي المبعوث في آخر الزمن وهو خاتم الأنبياء والمرسلين وقد كان هذا في الإنجيل والتوراة شاهد صدق على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولكن يد التحريف والتغيير قد امتدت إليه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية 146].(2/242)
ج 2 ، ص : 243
سورة إبراهيم عليه السلام
مكية حكاه القرطبي في تفسيره عن الحسن وعكرمة إلا آيتين منها قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ
إلى قوله : فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية.
وهي امتداد لما في سورة الرعد ، وتوضيح لما أجمل فيها أو اختصار لما وضح في سابقتها ، ألا ترى أن كلا منهما تكلم عن القرآن وعن الآيات الكونية ، وإثبات البعث.
وضرب الأمثال للحق والباطل ، والكلام على مكر الكفار وعاقبته إلى آخر ما في السورة.
نعمة إنزال القرآن وإرسال النبي وأثرهما [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)(2/243)
ج 2 ، ص : 244
المفردات :
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتيسيره وتسهيله وَوَيْلٌ الويل الهلاك والعذاب يَسْتَحِبُّونَ يؤثرونها لمحبتهم لها يَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون لها زيغا وميلا.
استفتاح لسورة إبراهيم موافق لأغلب السور المكية التي بدأت بذكر حروف تنطق بمسمياتها هكذا ألف لام. را ، وفي السورة ذكر للقرآن وإثبات للتوحيد والبعث ، وذكر لبعض القصص.
المعنى :
هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد لتخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور الإيمان والعلم والهداية ، أخرج القرآن الكريم بما فيه من أصول الحكم الصحيح السليم ، وأسس العمران والحياة الكريمة والمدنية الفاضلة التي هي أمنية الفلاسفة قديما ، وحاول الإتيان بها الأنبياء والرسل السابقون ، أخرج الناس من الظلمات التي كانت تغشاهم والجهالات والضلالات إلى نور الدين والحق والفضيلة والمجتمع الكامل!.
أخرجتهم يا محمد بدعوتك وهدايتك وبشارتك وإنذارك بأمر اللّه وإذنه وتسهيله وتيسيره ولطفه وتوفيقه ، وأسند الفعل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه الداعي والهادي إلى ذلك ، أخرجتهم من الظلمات إلى النور الذي هو صراط اللّه العزيز الحميد ، وصراطه شرعه لعباده وطريقه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا نقص لأنه صراط العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ، الكامل في استحقاق الحمد والمحمود في الأرض وفي السماء الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 158] ثم توعد من لم يعترف بربوبيته ووصفه بهذه الأوصاف ، وكفر بالقرآن والوحى فقال : الويل والهلاك للكافرين الجاحدين .. يولولون ويضجون من العذاب الشديد الذي صاروا فيه ، الكافرون الذين يستحبون ويفضلون الحياة الدنيا على الآخرة بل رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وهم عن الآخرة هم عنها غافلون ، وهم الذين يصدون عن سبيل اللّه كل من أراد الإسلام ، ويصرفونه عنه ، ويبغون لسبيل اللّه عوجا وميلا ، لموافقة أهوائهم وأغراضهم.(2/244)
ج 2 ، ص : 245
أولئك المذكورون الموصوفون بتلك الصفات القبيحة في ضلال بعيد الغور سحيق القاع.
ولما من على الناس بإنزال القرآن وهدايته وأثره بين لهم أن من كمال النعمة أن كل رسول يكون بلغة قومه.
وما أرسلنا من رسول إلا كان بلسان قومه وبلغتهم ليبين لهم شرعه ويوضحه بلسانهم ولهجتهم وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ « 1 » وذلك حتى لا يكون على اللّه حجة ، وهنا يظهر سؤال : إذا كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أرسل للناس جميعا قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً « 2 » فإذا قطعت الحجة عند العرب فغيرهم يقولون : لم نفهم ما قال ، ولم نع كتابه ، وهلا نزل بالألسنة كلها حتى يتسنى خطابه للكل.
والجواب : أن نزوله بكل لغة لا حاجة له لأن الترجمة تكفى في ذلك ولو كتب بكل لغة لتعددت أساليبه وألفاظه وتعددت طبعا معانيه ، وذلك يؤدى إلى الطعن فيه كما حصل للكتب السماوية الأخرى ، ولأصبح لكل أمة قرآن يدعو إلى غير ما يدعو إليه الثاني ضرورة اختلاف اللغات في الصياغة والدلالة على المعنى ، بقي لما ذا اختار اللّه العربية لغة القرآن ؟ لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإن كانت رسالته إلى الثقلين لكن لما كان العرب قومه وكانوا أخص به وأقرب ، وقد تهيأت الظروف كلها لظهور دينه ورسالته في جزيرة العرب فكانت لغتهم أولى حتى لا تكون لهم حجة في تكذيبه فإنه واحد منهم ونشأ بينهم ويتكلم بلغتهم فإذا فهموا دينه وصدقوا به وأسلموا كانوا هم الدعاة والمترجمين في جميع الآفاق ولكل اللغات ، وقد كان ذلك كذلك.
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم تلك الشرائع باللغة التي ألفوها ومع ذلك فإن المضل والهادي هو اللّه - عز وجل - ، والبيان لا يوجب الهداية إلا إذا جعله اللّه سببا فيها : وهو العزيز الذي لا يغلب الحكيم في كل أفعاله.
___________
(1) سورة فصلت الآية 44.
(2) سورة الأعراف الآية 158.(2/245)
ج 2 ، ص : 246
مهمة الرسل [سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
المفردات :
بِأَيَّامِ اللَّهِ المراد وقائعه في الأمم السابقة ، وحوادثه الشديدة الشاملة للنعم والنقم صَبَّارٍ شَكُورٍ كثير الصبر والشكر يَسُومُونَكُمْ المراد يذيقونكم العذاب السيئ الشديد وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يبقونهم أحياء للذل والعار تَأَذَّنَ أذن إذنا بليغا.
هكذا كل رسول مهمته إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، والتذكير بنعمة اللّه.(2/246)
ج 2 ، ص : 247
المعنى :
وكما أرسلناك يا محمد لتخرج الناس من ظلمات الجهل والشرك والضلالة إلى نور الإسلام والعلم والهداية فقد أرسلنا موسى مؤيدا بآياتنا التسع التي مرت في سورة الأعراف ، وقلنا له : أخرج قومك يا موسى من الظلمات إلى النور ، والمعنى أمرهم بالتوحيد الخالص والإيمان باللّه إيمانا كاملا ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان.
وذكرهم بأيام اللّه التي مرت على أمم الأنبياء السابقة ، وكيف نجا المؤمنون وهلك الكافرون ؟ !! وذكرهم بأس اللّه وشدائده وانتقاماته ممن كذب رسالته كقوم عاد وثمود وقوم هود وإخوان لوط ، ففي التذكير بأيام اللّه ترغيب وترهيب ، ولقد كان لموسى مع قومه أيام فيها محنة وبلاء وأيام فيها نعم ونجاة وكلها من أيام اللّه.
إن في ذلك التنبيه والتذكير لدلائل على وحدانية اللّه وقدرته لكل صبار في المحنة والشدة ، شكور في المنحة والعطية.
ولقد قيل : نعم العبد عبد إذا ابتلى صبري وإذا أعطى شكر ، وفي الحديث « عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له » .
وفي هذه إشارة إلى أن الواجب على المسلم أن يكون صابرا شكورا.
وقد كان موسى ممتثلا أمر ربه فأخذ يذكر قومه بنعم اللّه عليهم. واذكر وقت قول موسى لقومه والمراد ذكر ما حصل فيه اذكروا نعمة اللّه عليكم إذا أنجاكم من فرعون وآله فقد كانوا يذيقونكم العذاب ، ويكلفونكم من الأعمال مالا تطيقون مع القهر والإذلال ، وكانوا يذبحون أبناءكم خوفا من ظهور ولد يضيع على يده الملك كما فسرت الرؤيا لفرعون مصر ، وكانوا يتركون النساء أحياء أذلاء وفي ذلك أعظم ألوان البلاء.
نعم فيما ذكر ابتلاء واختبار عظيم فالنعم والنقم بلاء للإنسان ليعرف أيشكر أم يكفر ؟ !! وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [سورة الأعراف آية 168] وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء آية 35].(2/247)
ج 2 ، ص : 248
واذكروا إذ تأذن ربكم يا بنى إسرائيل وأذن لكم إذنا لا شك فيه ولا غموض لئن شكرتم لأزيدنكم من النعم إذ الشكر من دواعي الزيادة واستمرار النعم ، ولئن كفرتم وجحدتم ولم تقوموا بالواجب عليكم إن عذابي بحرمانكم منها لشديد ، ففي
الحديث « إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه »
بهذا يعلم أن فائدة الشكر تعود على الشاكر فقط لا على غيره ، فمن شكر أعطى ومن كفر حرم.
وقال موسى : إن تكفروا نعمة اللّه عليكم وتجحدوا فضلها أنتم ومن في الأرض جميعا لم تضروا بذلك أحدا ، ولم تنقصوا في ملك اللّه شيئا بل أضررتم أنفسكم إذ حرمتموها من المزيد من النعم ، وعرضتموها للعذاب الشديد ، وإن اللّه لغنى عن شكركم غير محتاج لعملكم ، فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن 6] نعم. اللّه مستغن عن حمدكم وشكركم ، مستوجب للحمد لكثرة نعمه وأياديه وإن لم يحمده الحامدون.
بعض أنباء الأمم السابقة [سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 12]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)(2/248)
ج 2 ، ص : 249
المفردات :
مُرِيبٍ الريب : اضطراب النفس وقلقها فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعهما على أكمل نظام بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة قوية ظاهرة.
المعنى :
يقول اللّه - تبارك وتعالى - ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم ؟ ألم تعلموا أخبارهم وتقفوا على أحوالهم المهمة كأخبار قوم نوح. وعاد. وثمود. وأمم جاءت بعدهم لا يعلمهم إلا اللّه - سبحانه وتعالى - وصدق اللّه وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
هؤلاء جاءتهم رسلهم بالآيات البينات والحجج الواضحات التي تثبت صدقهم ، وتؤيد دعواهم الرسالة عن اللّه : فما كان من القوم إلا أنهم ردوا أيديهم في أفواههم غيظا وحنقا ، وعضوا أيديهم أسفا وألما عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [سورة آل عمران آية 119] والمراد أنهم كذبوا واستهزءوا.
وللعلماء في تفسير هذه الجملة [ردوا أيديهم في أفواههم ] آراء كثيرة كلها تدور حول الإنكار والتكذيب والسخرية بالرسل.
وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به من الآيات البينات على زعمكم ، وإنا لفي شك عظيم مما تدعوننا إليه من الإيمان باللّه وحده وترك ما سواه ، وقد قيل : كيف صرحوا(2/249)
ج 2 ، ص : 250
بالكفر ثم بنو أمرهم على الشك ؟ ويمكن أن يقال : إنهم أرادوا إنا كافرون في الواقع بما تدعوننا إليه وإن نزلنا عن هذا المقام جدلا فلا أقل من أن نشك شكا يجعلنا في ريب وقلق نفسي من رسالتكم ، فلا أمل أبدا في تصديقكم ماذا قالت الرسل ؟
قالت لهم رسلهم : أفي اللّه شك ؟ !! أفي وحدانيته شك أم في وجوده شك ؟ !! وكل الدلائل والشواهد تدل على وجوده - سبحانه - وعلى تفرده بالألوهية والعبادة وكيف تشكون في اللّه فاطر السموات والأرض ؟ إذ الذي خلقهما على هذا النظام البديع المحكم ، وخلق كل ما فيهما من عوالم لا يحصيها إلا هو ينبغي ألا يشك في وحدانيته ووجوده ، وهو الذي يدعوكم إلى الإيمان الكامل ليغفر لكم بعض ذنوبكم وهذا الدعاء منه وحده دليل على تفرده بالألوهية ، وهو الذي إن استجبتم إليه وآمنتم به واستقمتم على صراطه يؤخركم إلى أجل مسمى عنده بلا عذاب في الدنيا حتى الموت.
وهل سكت الكفار وأسلموا للّه أم اعترضوا على ذلك ؟
قالوا : ما هذا ؟ كيف نؤمن بكم وننقاد لكم ؟ وما أنتم إلا بشر مثلنا تأكلون مما نأكل وتشربون مما نشرب ، ولا نرى لكم علينا من فضل حتى نجعلكم قادة وحكاما وأئمة وأنبياء.
وأنتم تريدون أن تصدونا عن عبادة ورثناها عن آبائنا من قبل ؟ وآباؤنا أبعد نظرا ، وأحسن قولا ، أفنتركهم ونتبعكم ؟ ! على أننا لا يمكن أن تترك ما ألفناه إلا بحجة وبرهان وقوة وسلطان ، أما ذكر السموات والأرض وعجائبهما فهذا ليس دليلا على صحة ما أتيتم به.
أما رد الأنبياء على شبههم الثلاثة ، أنتم بشر ، تدعوننا إلى ترك عبادة الآباء ، وهاتوا حجة ودليلا على ما تقولون.
فقالت لهم رسلهم : ما نحن إلا بشر مثلكم نأكل ونشرب ، ونمشي في الأسواق ونبحث عن الأرزاق ، ونأتى النساء إلخ. ولكن هذا لا يمنع أن اللّه يمن على من يشاء من عباده بالنبوة والرسالة اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية 124] وقد منّ اللّه علينا بالرسالة ولا حرج على فضل اللّه يؤتيه من يشاء من عباده.
أما طلبكم الحجة والبرهان بعد أن قدمنا لكم من المعجزات فأمره إلى اللّه ولا دخل(2/250)
ج 2 ، ص : 251
لنا في ذلك ، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن اللّه ومشيئته وإرادته وليس ذلك في قدرتنا.
أما تقليدكم الآباء لأنهم آباء ولو كانوا في ضلال مبين فهذا شيء يجب أن يدخل في الحسبان ويرد عليه بالبرهان.
بعد هذا النقاش انتقلت المسألة إلى العمل والانتقام من الأنبياء فقال لهم الأنبياء :
إنا لا نخاف تهديدكم ، ولا يضيرنا وعيدكم ، بل نحن نتوكل على اللّه وحده ، ونعتمد عليه ولا نقيم وزنا لما تفعلون ، وعلى اللّه وحده فليتوكل المؤمنون فهم أحق به وأولى من غيرهم.
وما لنا ألا نتوكل على اللّه ؟ وكيف لا يكون هذا ، وأى شيء عرض لنا حتى لا نتوكل عليه ؟ وقد هدانا لأقوم طريق وأهدى سبيل ، ولنصبرن على إيذائكم وعلى اللّه فليستمر توكل المؤمنين ، وفقنا اللّه إلى التوكل عليه حقا.
العاقبة للمتقين [سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 18]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)(2/251)
ج 2 ، ص : 252
المفردات :
لَتَعُودُنَّ لتصيرن وكثيرا ما تستعمل عاد بمعنى صار مِلَّتِنا الملة : الشريعة والدين مَقامِي قيامي للحساب وَاسْتَفْتَحُوا طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء خابَ هلك جَبَّارٍ الجبار هو العاتي المتكبر الذي يجبر غيره على اتباع رأيه ولو باطلا صَدِيدٍ يسيل من جلودهم ، من دم أو قيح يَتَجَرَّعُهُ جرعته الدواء سقيته جرعة بالشدة والقهر يُسِيغُهُ يزدرده عاصِفٍ شديد الريح.
بعد الحوار والنقاش بين الرسل وأقوامهم تأتى مرحلة العمل والحرب ، وفي النهاية الغلبة للمتقين وتلك سنة اللّه في جميع الأزمنة ومع كل الأمم والرسل.
المعنى :
وقال الذين كفروا لرسلهم حين دعوهم إلى التوحيد وترك عبادة الأوثان ، ورأوا في الرسل إصرارا على هذا الدين. قالوا : ليكونن أحد الأمرين ، ولا ثالث لهما أبدا :
إما أن تخرجوا من أرضنا أو لتصيرن في ملتنا وشرعنا : وذلك كما قال قوم مدين لشعيب ومن آمن معه لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [سورة الأعراف آية 88] وكما قال كفار مكة : وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الإسراء آية 76].
قال الكفار هذا مغرورين بقوتهم وكثرتهم ، وقلة عدد المؤمنين وضعفهم فأوحى ربك إلى الأنبياء ، لا تحزنوا وأبشروا. لنهلكن الظالمين من المشركين ولنسكنكم الأرض من بعدهم عقوبة لهم على قولهم. لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا ولقد كرر هذا المعنى في القرآن كثيرا كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 21] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا(2/252)
ج 2 ، ص : 253
لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
[سورة الصافات الآيات 171 - 173] وقال موسى لقومه : اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الأعراف آية 128].
ذلك لمن خاف مقامي وخشي حسابي ، وخاف وعيدي بتجنب سخطى وغضبى.
واستفتحوا نعم استفتح كل من الأمم والرسل ألا ترى إلى قوله - تعالى - حكاية عن كفار مكة : اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [سورة الأنفال آية 32] الآية وإن كان هذا يدل على منتهى الحماقة وسوء الرأى ، وتأصل العناد واستفتحت الرسل على أممها واستنصرت باللّه.
فقال اللّه : وخاب كل جبار عنيد وهلك كل متكبر يجبر غيره على أخذ رأيه الباطل وهو عنيد ، أمامه جهنم وبئس القرار ، ويسقى من ماء صديد هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [سورة ص الآيتان 57 و58] شرابهم في جهنم الصديد الذي يخرج من جوفهم ، والحميم الشديد الحرارة والغساق الشديد البرودة وآخر من شكله أزواج ، وعبارة القرآن تفيد أن هلاك الجبار قاعدة وقانون .. وهل يشرب شرابه بسهولة ؟
أم يشربه بعسر وألم ؟ فذكر اللّه أنه يتجرعه جرعة بعد جرعة بمنتهى الألم والشدة والقسوة ولا يكاد يسيغه من شدة كراهته له ورداءة طعمه ولونه وريحه وحرارته ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [سورة الرعد آية 15] وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً [سورة الكهف آية 29].
ويأتيه ألم الموت وشدة نزع الروح من كل مكان في جسمه ، وما هو بميت ولكنه الألم والتعب والهم والحزن ، ومن وراء ذلك كله عذاب غليظ.
أليس هذا تصويرا لجهنم ومن فيها تصويرا يجعلنا نرسم لها صورة بشعة ، صورة مؤلمة حقا وقانا اللّه شرها.
هذا جزاء الكفار ، أليس لهم في الدنيا من عمل يخفف عنهم ؟ فقال اللّه ردا : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا أى : صفتهم العجيبة الغريبة غرابة المثل هي أن أعمالهم كرماداشتدت به الريح ، أى : حملته بشدة وسرعة في يوم عاصف ، ريحه شديد ،(2/253)
ج 2 ، ص : 254
وقد وصف اللّه اليوم بأنه عاصف والعاصف الريح للمبالغة في الوصف كما قالوا يوم بارد ويوم حار ، والبرد والحر فيهما لا منهما.
هؤلاء لا يقدرون مما كسبوا من تلك الأعمال على شيء منها ، ولا يرون له أثرا في الآخرة يجازون به بل جميع أعمالهم باطلة ضائعة ذاهبة كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة الفرقان آية 23] أعمالهم الحسنة كالبر والإعطاء والكرم ، وصلة الرحم.
حوار بين أهل النار من الضعفاء والمستكبرين والشيطان [سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 23]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)(2/254)
ج 2 ، ص : 255
المفردات :
وَبَرَزُوا البروز الظهور والبراز المكان الواسع لظهوره ، ومنه امرأة برزة أى :
تظهر للرجال الضُّعَفاءُ العوام والأتباع اسْتَكْبَرُوا المستكبرون وهم الرؤساء الأقوياء تَبَعاً جمع تابع كخدم جمع خادم مَحِيصٍ أى : منجى ومهرب سُلْطانٍ تسلط عليكم بحجة بِمُصْرِخِكُمْ صرخ إذا استغاث والمصرخ المغيث والمستصرخ المستغيث.
بعد ما ذكر جزاء الكفار الأشقياء في الآخرة أردف ذلك ببيان قدرة اللّه على كل شيء ثم ذكر الحوار بين الرؤساء والضعفاء ثم بين الشيطان وأتباعه وختم المقالة بجزاء المؤمنين العاملين.
المعنى :
ألم تعلم أيها الرسول أن اللّه أنشأ السموات والأرض وما فيها بالحق والحكمة ؟
وخلقهما على الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقهما عليه ليستدل بهما على كمال القدرة وعدم الحاجة إلى أحد من خلقه ، بل إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد على شكل جديد ، وما ذلك على اللّه بعزيز بل هو هين عليه يسير ، إذ هو القادر على كل شيء قدرة ذاتية إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون.
وهذه الآية بيان لعظيم جرمهم في كفرهم باللّه الواحد القهار القادر على كل شيء ، وبيان أنه هو الحقيق بأن يعبد وحده ويخاف عقابه ويرجى ثوابه ولذلك أردف هذه الآية بذكر أحوال الآخرة فقال وبرزوا للّه جميعا ... الآيات والمعنى :(2/255)
ج 2 ، ص : 256
وبرزت الخلائق جميعا للّه الواحد الأحد العالم بالغيب والشهادة برزوا للحساب.
وقد كان الكفار العصاة يفعلون الفعل وهم يظنون أن اللّه لا يراهم فها هم الآن يراهم الكل لأنهم بارزون ظاهرون خاضعون للّه.
فقال الضعفاء في العقل والتفكير كالأتباع والعوام : للذين استكبروا كالقادة والزعماء : إنا كنا لكم تابعين مقلدين في الأعمال ، فكذبنا الرسل وكفرنا باللّه متابعة لكم ومشايعة لرأيكم ، فهل أنتم دافعون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب اللّه ؟
قال القادة المتبوعون مقرين بذنبهم : لو هدانا اللّه ووفقنا الى الخير لهديناكم وحملناكم على الهداية وسلوك الطريق الحق.
كان عتاب الضعفاء للمستكبرين عتاب جزع وقلق فقيل لهم : يستوي عندنا جزعنا وصبرنا ، إن اللّه قد حكم بين العباد فما لنا من محيص ولا مهرب ولا منجى من عذاب اللّه وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [سورة غافر الآيتان 47 و48] رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [سورة الأحزاب الآيتان 67 و68].
وتلك مناظرة أخرى وحوار بين الشيطان وأتباعه.
وقال الشيطان ، لما قضى الأمر وأدخل اللّه أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار قال لأتباعه في النار :
إن اللّه وعدكم وعد الحق ، وعدكم على ألسنة رسله ، وقوله الحق ووعده الصدق وعدكم بالبعث والجزاء.
ووعدتكم أنا أنه لا جنة ولا نار ، ولا حشر ولا حساب ، ولئن كان شيء من ذلك فشفعاؤنا من الآلهة تشفع لنا وتمنعنا فأخلفتكم الوعد ، واتبعتم زخرف القول منى ، وباطله ، وتركتم وعد ربكم الحق يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [سورة النساء آية 120].
يا سبحان اللّه! هذه مقالة الشيطان لأتباعه يوم القيامة يرويها لنا الحق - تبارك وتعالى - في ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا شك ، يا حسرة على أتباع الشيطان ويا خيبتهم!(2/256)
ج 2 ، ص : 257
وعدتكم فأخلفتكم ، ودعوتكم وما كان لي عليكم من سلطان يلجئكم ويقهركم على اتباعى في الكفر والمعاصي.
لكن دعوتكم إلى الضلال ووسوست لكم ، وزينت الباطل فأسرعتم إلى إجابتى فلا تلوموني أبدا ولكن لوموا أنفسكم ، فأنتم الذين فعلتم واخترتم واتجهتم ناحية الشر وتركتم ناحية الخير رغم دعاء اللّه لكم وتحذيره الشديد من سلوك سبل الشيطان وما كان منى إلا الوسوسة وزخرف القول وغروره.
يا أتباعى كلنا في الغم والألم والعذاب سواء ، ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب ، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه من العذاب والنكال.
إنى كفرت اليوم بإشراككم إياى من قبل أى في الدنيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [سورة فاطر آية 14] وأنه يتبرأ من شرككم ويستنكره!! إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة الممتحنة آية 4] ومعنى إشراكهم الشيطان مع اللّه طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها.
إن الظالمين لهم عذاب أليم ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون من كلام اللّه لهم أو حكاية لكلام إبليس لهم تسجيلا عليهم.
نرى أن الشيطان قصم ظهورهم وقطع قلوبهم بأمور :
1 - كانت مواعيده باطلة ، ووعد اللّه هو الحق وقد تركوا الحق واتبعوا الباطل.
2 - اتبعوا قوله بلا حجة ولا برهان.
3 - لا لوم لكم وإنما عليكم اللوم.
4 - قطع أملهم بأنه لا نصر عنده بل هو محتاج إلى من ينصره.
5 - إنه قد كفر بشركهم له في الدنيا وتبرأ من عملهم.
ذلك جزاء الظالمين أتباع الشياطين.
وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، واتبعوا الحق من ربهم كفّر عنهم ربهم سيئاتهم وأصلح بالهم ، وأدخلهم الجنة عرفها لهم ، وهي جنة عالية قطوفها دانية تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وكان هذا كله بإذن ربهم وتحيتهم بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين الملائكة : سلام عليكم طبتم فنعم عقبى الصابرين ..(2/257)
ج 2 ، ص : 258
مثل كلمة الحق وكلمة الباطل [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
المفردات :
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا اعتمد ووضع مثلا ، والمثل في كلامهم قول موجز سائر يملك الألباب ويأسر العقول لما فيه من تصوير رائع ودقة محكمة ثابِتٌ ضارب بجذوره في الأرض تُؤْتِي تعطى ثمرها كل وقت أراده اللّه لها اجْتُثَّتْ الاجتثاث أخذ الجثة كلها ، المراد استؤصلت بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أى : القول الثابت في قلوبهم المتمكن منها.
ما تقدم كان بيان مآل السعداء من المؤمنين والأشقياء من الكافرين والعصاة ، وقد ضرب اللّه المثل هنا للكلمة الطيبة وهي كلمة الإسلام وللكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك ليظهر الفرق بين الحالين ، وفي المثل إلباس المعنويات لباس الحسيات ليكون أوقع في النفس ، والعرب قديما جعلت الأمثال عيون كلامها ، وخصتها بالحكم والنوادر وشاع بينهم ضرب المثل لما فيه من التأثير على النفوس والعقول.(2/258)
ج 2 ، ص : 259
المعنى :
ألم تعلم أيها المخاطب كيف ضرب اللّه مثلا واختاره وجعله في موضعه اللائق به ، وجعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، والمراد بالكلمة الطيبة وهي كلمة الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، أو كل كلمة في الخير ، والشجرة الطيبة قيل هي شجرة النخل.
شبه اللّه الكلمة الطيبة وهي دليل الإيمان الثابت في قلب المؤمن الذي يرفع به عمله إلى السماء إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ « 1 » ولا عجب فالمؤمن كلما قال كلمة الحق وشهد بكلمة التوحيد صعدت إلى السماء وأخذت حظها من الثواب الجزيل : شبه اللّه تلك الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة المثمرة لها أصلها الراسخ في الأرض ، وفرعها في السماء الشامخ في الجوزاء ، وتؤتى أكلها الطيب كل وقت وقته اللّه لإثمارها بإذن ربها وتيسير خالقها.
نعم إذا حلت الهداية قلب عبد ، وامتلأ قلبه نورا وإسلاما فاض منه الخير والنور على قلوب كثيرة ، كالشجرة الطيبة المثمرة التي يتمتع بثمرها الكثير من الناس.
وهكذا يضرب اللّه الأمثال للناس ، وفيها زيادة فهم وتذكير لأنها تخرجهم من دائرة المعقول إلى المحسوس ، ومن دائرة المعنى الجلى الذي لا يشك فيه أحد كل ذلك لعلهم يتذكرون ويتعظون!! ومثل كلمة خبيثة وهي كلمة الكفر أو ما شاكلها كشجرة خبيثة وهي الحنظل ليس لها أصل ثابت بل عروقها وجذورها طافية فوق سطح الأرض فيسهل اقتلاعها. وهذه الشجرة اجتثت من الأرض ليس لها من قرار.
وهكذا أصحاب النفوس العالية والإيمان العميق هم أصحاب الكلمة الطيبة التي تؤتى ثمرها كل حين ، وينتفع بها الناس ، وهي مستقرة في نفوسهم ، وفروعها ممتدة إلى العوالم العلوية ، وما أشبههم بالنخل أصلها مستقر وفرعها عال وثمارها دائم.
وأرباب الشهوات والنفوس الضعيفة هم أصحاب الكلمة الخبيثة التي هي كالحنظل طعما وأثرا.
___________
(1) سورة فاطر الآية 10. [.....](2/259)
ج 2 ، ص : 260
يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت والكلمة الطيبة التي ذكرت صفاتها العجيبة.
إذا وجد من يفتنهم عن دينهم أو يؤثر عليهم في عقيدتهم ، انظر يا أخى لبلال وصهيب وغيرهم من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد ثبتهم اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا.
وبعد الموت في القبر الذي هو منزل من منازل الآخرة ، وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون ، ولا يضطربون إذا سئلوا عن معتقداتهم ولا تدهشهم أحوال القيامة الغريبة عنهم.
روى عن أبى قتادة الأنصارى وأبى هريرة ، وأسماء بنت أبى بكر في هذا المعنى « إنّ المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له من ربّك ؟ فيقول : اللّه ، فيقال له : من نبيّك ؟ فيقول. محمد بن عبد اللّه ، فيقال له ذلك مرات ثمّ يفتح باب إلى الجنّة فيقال له : انظر إلى منزلك من الجنّة إذا ثبتّ ، وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له :
من ربك ، ومن نبيك فيقول : لا أدرى كنت أسمع الناس يقولون فيقال له : لا دريت ، ثم يفتح له باب إلى الجنّة فيقال : انظر إلى منزلك لو ثبتّ ، ثم يفتح له باب النار فيقال له انظر إلى منزلك إذ زغت فذلك قوله تعالى : يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.
هكذا يضل اللّه الظالمين لسوء استعدادهم وميلهم مع شهوات النفس ويصرفهم عن الحق إلى الباطل قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [سورة الشمس الآيتان 9 و10] يفعل اللّه ما يشاء إذ بيده أمور كل شيء وهو على كل شيء قدير.
هكذا يفعل الكفار ، وبمثل هذا يربى المؤمنون [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)(2/260)
ج 2 ، ص : 261
ضرب اللّه المثل للمؤمن يقول كلمة الحق ، وللكافر يقول كلمة الباطل والشرك وما يناله كل في الدارين ، وهنا ذكر الأسباب الموصلة إلى حسن العاقبة وإلى سوئها.
المعنى :
انظر أيها المخاطب متعجبا إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا ، وأحلوا قومهم دار البوار ، وجعلوا للّه أندادا ليضلوا عن سبيله.
عجبا لهؤلاء الكفار الذين وصفهم اللّه بثلاث صفات :
1 - بدلوا نعمة اللّه كفرا ، إذ شكر النعم الواجب عليهم ، وضعوا مكانه الكفر والجحود فكأنهم غيروا الشكر وجعلوا بدله الكفر ، وقد كان أهل مكة يسكنون حرم اللّه آمنين وجعلهم قواما عليه - وأكرمهم برسالة النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من أنفسهم عزيزا عليه عنتهم حريصا عليهم ، فكفروا بنعمة اللّه بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. ألست معى في أنهم بدلوا شكر نعمة اللّه كفرا ؟ !! 2 - وأحلوا قومهم الذين شايعوهم واتبعوهم في الكفر والضلال ، دار الهلاك والبوار الذي لا هلاك بعده ، وهي جهنم التي يصلونها وبئس القرار قرارهم.
3 - يا عجبا لهؤلاء بدلوا شكر النعمة كفرا ، وأحلوا قومهم جهنم ، وجعلوا للّه أندادا وشركاء من الأصنام والأوثان لتكون عاقبة أمرهم أنهم يضلون من شايعوهم واتبعوهم ..
وما كان لهذه الهنات التي وصفوا بها إلا هذا التهديد البليغ المعبر عنه بقوله : قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ أى : اعملوا ما شئتم ، وسيروا كما أنتم سائرون فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ومرجعكم إليها حتما.
وقد سمى اللّه هذا العمل تمتعا لأنهم تلذذوا به. وأحسوا غبطة بعمله ، ولأنهم(2/261)
ج 2 ، ص : 262
منغمسون فيه ولا يعرفون غير الكفر والصد عن سبيل اللّه. كأنهم قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرا دونه وهو أمر الشهوة. والمعنى : إن متم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار حتما.
هذا أمر الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه وأحلوا قومهم جهنم ، وتلك عاقبتهم وبعد هذا أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأمر عباده المخلصين بالعمل المثمر النافع فهذا أوانه ، وأن يربيهم تربية إسلامية على العبادة والعمل.
قل يا محمد لعبادي الذين آمنوا باللّه ورسوله : أقيموا الصلاة على وجهها الكامل فهي عماد الدين ، وأنفقوا مما رزقناكم الإنفاق المطلوب شرعا وعرفا ، الشامل للصدقة المطلقة والمقيدة بما في ذلك الزكاة الواجبة ، أنفقوا سرا في الصدقة ، ما لم تكن أنت قدوة يقتدى بك الغير ولم تقصد رياء ولا سمعة فالجهر أولى ، وفي الزكاة المفروضة أنفق جهرا وعلانية ، امتثلوا أمر اللّه ورسوله من قبل أن يأتى يوم ليس فيه بيع ولا شراء ولا تجدى فيه صداقة أو صحبة ، هو يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الحديد آية 15].
وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها [سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)(2/262)
ج 2 ، ص : 263
المفردات :
سَخَّرَ لَكُمُ ذلل دائِبَيْنِ دأب في العمل إذا سار فيه على عادة مطردة والمراد دائمين لا يفتران لا تُحْصُوها لا تحصروها كَفَّارٌ شديد الكفر والجحود للنعم.
من الناس من بدل شكر النعم كفرا ، ومنهم من قام بالشكر الواجب عليه ، وأقام شعائر الدين بالصلاة والزكاة وغيرها ، وفي هذه الآيات بيان للنعم التي توجب الشكر للّه حيث أنعم بها علينا وتوجب النقم والعذاب على من لم يشكر اللّه عليها.
المعنى :
اللّه - جل جلاله - ، وتقدست أسماؤه ، المعبود بحق. الذي لا إله غيره ، ولا معبود سواه ، هو الذي خلق السماوات والأرض ، وما فيهن. وما في العالم العلوي من الأجرام السماوية ، والكواكب السيارة ، والهواء والأثير ، والشمس والقمر وغير ذلك مما لا نعلمه آيات ودلائل على عظم قدرة اللّه ، وكمال نعمه على الوجود وكذلك ما في العالم السفلى من الأرض ومعادنها والعوالم التي فيها آيات ناطقة لقوم يتفكرون.
اللّه - سبحانه وتعالى - هو الذي أنزل من السماء ماء ، وجعل منه كل شيء حي وأخرج بسببه من الثمرات أنواعا وأشكالا مختلفة لا يعلمها إلا هو رزقا للعباد ، وأحيا بالماء ميتا وصحراء مجذبة.
وهو الذي سخر لكم يا بنى آدم وذلل لكم الفلك لتجرى فوق سطح الماء فتنقلكم وتنقل متاعكم حيث تريدون فهو الذي أرشدكم لصنعها وهو الذي سخر البحر لحملها والريح والبخار لتحريكها وسبحان اللّه خالق كل شيء فاعبدوه.
وهو الذي سخر لكم الأنهار ، وشقها في بطون الأودية وجعل منها حياة الأقاليم والأقطار. ألا ترى إلى نهر النيل والفرات وغيرهما ؟ ! وهو الذي سخر الشمس والقمر دائبين في الحركة ، دائمين لا يفتران لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ « 1 » .
___________
(1) سورة يس الآية 40.(2/263)
ج 2 ، ص : 264
وهو الذي سخر لكم الليل والنهار ، فالنهار للمعاش والعمل ، والليل للسكون والراحة وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فالشمس والقمر يتعاقبان والليل والنهار يتعارضان يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [سورة لقمان آية 29].
وآتاكم كل ما تحتاجون إليه على حسب طاقتكم وقوتكم واستعدادكم من كل الذي هو حقيق أن تسألوه سواء سألتموه أو لم تسألوه ، وذلك لأنه خلق لكم ما في الأرض جميعا ، وسخر لكم قوى الطبيعة كلها حتى تكون تحت تصرفكم ، والحمد للّه نرى الإنسان استخدم البخار والأثير والهواء والريح والكهرباء وغيرها.
دعاء إبراهيم عليه السلام [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)(2/264)
ج 2 ، ص : 265
المفردات :
وَاجْنُبْنِي أبعدنى ، وباعد بيني وبينها تَهْوِي إِلَيْهِمْ شوقا وحبا يَقُومُ الْحِسابُ يتحقق الحساب ويوجد.
هذا بيان للنعم الخاصة بالعرب لا سيما سكان الحرم بعد بيان النعم العامة وهذه هي المناسبة بين الآيات وما قبلها.
المعنى :
واذكر يا محمد وقت قول إبراهيم - عليه السلام - داعيا إلى اللّه طالبا منه الإجابة وقد تعود إبراهيم من ربه أن يجيبه إلى طلبه.
رب اجعل هذا البلد آمنا ، لا يسفك فيه دم ، ولا يظلم فيه أحد ، ولا يصاد فيه صيد ولا يقطع فيه شجر أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت آية 67].
واجنبنى يا رب وباعد بيني وبين عبادة الأصنام أنا وبنى لصلبى ، وقد استجاب اللّه دعاءه في بعض بنيه دون بعض.
يا رب إن الأصنام قد أضلت كثيرا من الناس ، وأزالتهم عن طريق الحق والصواب إلى طريق الباطل والضلال ، فمن تبعني وصدقنى فيما دعوته إليه من الإيمان الكامل والتوحيد الخالص فإنه منى ، ومستن بسنتي وسائر على طريقتي ، ومن عصاني فإنك غفور رحيم - في غير الشرك باللّه - وقادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة عليه والهداية إلى الصراط المستقيم.(2/265)
ج 2 ، ص : 266
يذكر اللّه - تعالى - في هذا المقام محتجا على مشركي العرب بأن البلد الحرام مكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة اللّه وحده لا شريك له ، وأن إبراهيم أبو العرب تبرأ من عبادة الأصنام ، ودعا لمكة بالأمن ، وهذا دعاء ثان لإبراهيم بعد أن بنى البيت لإسماعيل ، يا ربي إنى أسكنت بعض ذريتي وهم أولاد إسماعيل بواد غير ذي زرع وهو واد بمكة عند بيتك المحرم الذي لا يستباح فيه ما يستباح في غيره من صيد طيره وقطع شجره ، ولا يحتمي إلا بحماه ، وهو محرم فيه القتال والنزاع ، يا رب إنى أسكنت بعض ذريتي في هذا الوادي القفر ليقيموا الصلاة متوجهين إليه متبركين به وإنما خصت الصلاة بالذكر دون سائر العبادات لمزيد فضلها.
ويظهر أن سكان البلاد الزراعية كثيرا ما تشغلهم الزراعة وتوابعها عن إقامة الصلاة كاملة. ولهذا كانت النواة الأولى للإسلام في تلك البقاع.
فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات ، وقد حقق اللّه دعاء إبراهيم - عليه السلام - وحديثا ترى الناس في كل عام ، وقد تملكهم حب عميق وحنين إلى الحج وزيارة الأماكن المقدسة باذلين فيها الكثير من الأموال في الصدقات والبيع والشراء ، وهذا مما يحدث في البلاد حركة تجارية تجعل التجار يجلبون إلى مكة الثمرات والأرزاق من كل قطر ، كل هذا رجاء أن يشكروا تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء واجب العبادة.
وفي هذا إشارة إلى أن تحصيل المال يعين عن أداء الواجبات الدينية ربنا إنك تعلم ما تخفى قلوبنا وما تعلن ، وما يخفى على اللّه شيء أبدا في الأرض ولا في السماء ؟
إذ هو عالم الغيب والشهادة السميع البصير.
الحمد للّه الذي استجاب الدعاء ووهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق وإن ربي لسميع دعائي الذي أدعو به ومجيب له ، وقد عودنى ذلك.
يا رب اجعلنى مقيم الصلاة ، ومؤديها كاملة تامة الأركان والشروط واجعل - أيضا - من ذريتي من يقيم الصلاة ويؤديها.
ربنا وتقبل دعائي ، واقبل عبادتي فإنها خالصة لك :
ربنا اغفر لي واغفر لوالدي واغفر للمؤمنين يوم يقوم الحساب ويتحقق الميزان ،(2/266)
ج 2 ، ص : 267
اغفر لي يا رب ما فرط منى أنا ووالدي والمؤمنين ، وما دعاؤه لأبيه واستغفاره له إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه.
تذكير وعظة بيوم القيامة ومشاهده [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)(2/267)
ج 2 ، ص : 268
المفردات :
تَشْخَصُ ترفع مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ ناظرين بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا ترجع إليهم بأبصارهم ، وأصل الطرف تحريك الأجفان وسميت العين طرفا لأنه يكون بها أَجَلٍ أى زمن قريب مِنْ زَوالٍ من انتقال مُقَرَّنِينَ مشدودين مع بعض فِي الْأَصْفادِ القيود واحدها صفد سَرابِيلُهُمْ جمع سربال وهو القميص قَطِرانٍ القطران والهناء شيء كالزفت تدهن به الجمال من الجرب بَلاغٌ كفاية في العظة والتذكير ..
بعد ما ذكر اللّه - جل شأنه - حال الذين بدلوا نعمة اللّه وجزاءهم ، وما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العبادة وإقامة أحكام الدين ثم ذكر مقالة إبراهيم ودعاءه لبنيه علهم يتعظون ، ذكر اللّه هنا هذا التهديد الشديد للكفار مع ذكر بعض مشاهد يوم القيامة ليعلم الجميع عاقبة الكفر ومآله!!
المعنى :
ولا تحسبن يا محمد أن اللّه غافل عما يفعله الظالمون ، بل هو محصيه ومحيط به وسيجازيهم على ذلك. فلا تظن أن اللّه يهملهم لا إنه يمهل ولا يهمل ، وهو يملى للظالمين ، ولكن لا عن غفلة بل عن حكمة ودقة ، إذ اقتضت حكمته أن تكون الدنيا أهون عند اللّه من جناح بعوضة فليست محل عقوبة بل عقوبتهم يوم القيامة إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار وخطاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بهذا وأمثاله كقوله : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام آية 14] وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [سورة الشعراء آية 213](2/268)
ج 2 ، ص : 269
من باب [إياك أعنى واسمعي يا جارة] ففي الظاهر خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي الواقع هو لأمته.
وفي ذلك تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتطمين لخاطره.
إنما يؤخر هؤلاء الكفار وعذابهم ليوم القيامة تشخص فيه الأبصار ، وترتفع إلى السماء من شدة ذهولهم ، واضطراب نفوسهم.
مهطعين إلى الداعي ومسرعين نحوه ، مقنعي رءوسهم ورافعيها مع دوام النظر من غير التفات إلى شيء أبدا ، وكيف لا ؟ وهو يوم الذهول ويوم الصاعقة والحاقة والصاخة ، ويوم الفزع الأكبر لمن لم يعمل له ، مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم ولا يطرفون أبدا من شدة الهول ، وسوء الفزع ، وأفئدتهم مضطربة متحركة كالهواء المتحرك وهذا حالهم يوم الفزع الأكبر ؟
وأنذر الناس جميعا يوم يأتيهم العذاب فيقول الظالمون هلعا وجزعا : ربنا أرجعنا إلى الدنيا وأعطنا مهلة قليلة نجب فيها دعوتك إلى التوحيد ، وإخلاص العبادة لك ، ونطيع فيها الرسل. ثم انظر إلى الرد عليهم.
أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال أبدا!! ؟ يقال لهم توبيخا : ألم تقسموا في الدنيا أنكم إذا متم فلا بعث ولا حساب ؟ !! ولا زوال ولا انتقال لحياة أخرى! وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [سورة النحل آية 38].
وقد سكنتم في مساكن الظالمين لأنفسهم ، وعرفتم مآلهم وعاقبتهم. وتبين لكم كيف فعلنا بهم حينما كفروا وعصوا الرسل ، وضربنا لكم الأمثال ، ولكنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا ..
وها هي ذي حالكم الآن تتغير عن حالهم ، وقد مكروا مكرهم جهد طاقتهم ، وعند اللّه مكرهم لا محالة فكل شيء مكتوب ومسجل عليهم وسيحاسبهم الحساب الشديد. وما كان مكرهم لتزول منه الآيات الرواسخ بل هي كالجبال الشم ، وكيف يتم لهم ما أرادوا ، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن اللّه مخلف وعده لرسله حيث يقول كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا واللّه لا يخلف الميعاد أصلا مع الكل فكيف يخلف وعده مع رسله وأحبابه ؟ إن اللّه عزيز لا يغلب ذو انتقام ، وهذا تذييل للآية(2/269)
ج 2 ، ص : 270
مناسب ، واللّه هو المنتقم الجبار يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات كذلك وهل تبدل في الشكل والموضوع أو الشكل فقط ؟ أو تغير الحقيقة كلها ؟ اللّه أعلم بذلك.
وبرزوا للّه الواحد القهار ، وترى المجرمين يومئذ مشدودين بعضهم مع بعض ومشدودين أيديهم إلى أرجلهم تراهم مقرنين ومشدودين في الأصفاد والأغلال والقيود ..
سرابيلهم من قطران - يا سبحان اللّه أنت الواحد القهار - والكافرون يوم ذاك في غاية الذلة والضعف مقرنون في الأصفاد والأغلال ، ولهم سرابيل من القطران وتغشى وجوههم النار.
وفي هذا إيلام لهم شديد لأمور :
1 - كونهم في الأغلال مع بعض « فكبكبوا فيها هم والغاوون » .
2 - كون قميصهم من القطران ، والمراد أن جلودهم تطلى بالقطران حتى تسرع النار في الاشتعال مع سواد البشرة ونتن الرائحة.
3 - كون وجوههم تعلوها النار وتغشاها وهي محط كبرهم في الدنيا يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [سورة القمر آية 48].
كل ذلك ليجزي اللّه كل نفس ما كسبت فمن يعمل صالحا يجز به ، ومن يعمل سوءا يجز به جزاء وافيا : إن اللّه سريع الحساب ، وشديد العقاب.
هذا القرآن الكريم بلاغ للناس ، وأى بلاغ أقوى من هذا ؟
ولينذروا بعقابه ويبشروا بثوابه ، وليعلموا أنما هو إله واحد وليتذكر أولو الألباب والعقول الراجحة ..(2/270)
ج 2 ، ص : 271
سورة الحجر
مكية. وحكى القرطبي الإجماع على ذلك. وعدد آياتها تسع وتسعون ، وسميت سورة الحجر لذكر قصة أصحاب الحجر فيها ، وهي كبقية السور المكية تدور حول نقاش المشركين في معتقداتهم وأفكارهم وما يتبع ذلك من إثبات البعث وبيان مظاهر قدرة اللّه أو تذكير الإنسان بنشأته الأولى ، وعلاقته بالملائكة والجن ، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء ، وختام السورة بالحديث مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)(2/271)
ج 2 ، ص : 272
المفردات :
رُبَما وقرأ بعض القراء (ربّما) وهما لغتان فأهل الحجاز يخففون ، وتميم وربيعة يثقلون أى : يشددون ، والأصل أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير والقرآن الكريم نزل على النبي وقرأه صلّى اللّه عليه وسلّم بلهجات العرب تخفيفا عليهم وتسهيلا لحفظهم ذَرْهُمْ دعهم وَيُلْهِهِمُ يشغلهم الأمل وتغرهم الأمانى الخادعة لوما بمعنى هلا وهي كلمة تفيد التحضيض مُنْظَرِينَ المعنى مؤخرين ومؤجلين شِيَعِ جمع شيعة وهي الفرقة والجماعة المجتمعون على رأى واحد نَسْلُكُهُ يقال سلك الشيء في الشيء أدخله فيه يَعْرُجُونَ يصعدون سُكِّرَتْ حبست عن الإبصار كما يحبس النهر من الجري وقيل المراد : حارت كما يحار السكران والمراد منعت من النظر السليم.
هذا افتتاح لسورة الحجر - وهي سورة مكية - بذكر حروف من حروف المعجم ، وهي كغيرها المبدوء بهذه الحروف ، قد جمعت بين الكلام على القرآن الكريم وذكر بعض القصص ونقاش الكفار والمشركين ، ومن هنا كانت المناسبة بينها وبين سورة إبراهيم ظاهرة.
المعنى :
تلك الآيات - والإشارة لآيات السورة - آيات الكتاب الكامل في كل شيء ، وآيات قرآن مبين كامل في البنيان ، وأنت ترى أنه جمع بين اسمى القرآن الكريم بالعطف لأنهما مقصودان بالذات ، وكان تنكير لفظ قرآن للتفخيم ، ولا غرابة في ذلك فهو القول الحق الصادر من الحق - سبحانه وتعالى - ، ولذا ترى الكفار حينما يجدون ما وعدهم ربهم حقا يوم القيامة يودون لو كانوا مسلمين.(2/272)
ج 2 ، ص : 273
نعم كثيرا ما يودون لو كانوا مسلمين حينما يرون العذاب يصب عليهم صبّا والمسلمون في جنات النعيم ، وقيل إنهم يودون ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب ، ولفظ ربنا يستعمل للتكثير والتعليل ، وأما أنت يا محمد : فدعهم ، ولا يهمنك أمرهم فهم لا يرعوون ، ذرهم يأكلوا كما تأكل الأنعام ويتمتعوا بالعرض الزائل والمتاع الفاني ، ويلههم الأمل وتغرهم الأمانى ، فسوف يعلمون عاقبة عملهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
وفي قول القرآن الكريم لهم على لسان الرسول : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا منتهى التهديد والذم لهم ، وتصوير بارع لما انطوت عليه نفوسهم وإن من يعرف مقدار ألم الزبرقان بن بدر - رضي اللّه عنه - حينما هجاه الخطيئة بقوله :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
وشهادة حسان بن ثابت بأن الشاعر ساح عليه أى عابه عيبا فظيعا يدرك مقدار ذم القرآن لهم وأنهم يستحقون ذلك.
وللّه سنة لا تتخلف مع الأمم : وهي أنه لا يهلك قرية من القرى أبدا إلا في حال أن لها كتابا معلوما وأجلا محدودا. لا تسبق أجلها عنه وَكُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.
ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [سورة الرعد آية 38].
ولقد قالوا مقالتين جانبوا فيهما الصواب. وافتروا الباطل الصريح ورد القرآن الكريم عليهما :
قالوا : يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. وفي قولهم للنبي وندائهم له - بالذي نزل عليه الذكر - استهزاء وأى استهزاء ؟ ! ومعنى قولهم هذا : إنك لتقول قول المجانين حين تدعى أن اللّه أنزل عليك الذكر هي المقالة الأولى ..
وأما الثانية فهي : لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ على معنى تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك في قولك لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [سورة الفرقان آية 7]. وبعضهم يرى أن المعنى : هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا إن كنت صادقا في دعواك اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال آية 32].(2/273)
ج 2 ، ص : 274
ولقد رد عليهم فقال ما معناه : لسنا ننزل الملائكة أبدا إلا تنزيلا متلبسا بالحق من عندنا والحكمة التي نعلمها ، وليس هناك حكمة في أن تروا الملائكة عيانا يشهدون بصدق النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، أو المعنى : ما ننزلهم بالعذاب إلا بالحق وفي الوقت المقدر بالضبط ، ولو نزلنا الملائكة وقتئذ ما كانوا منظرين ، وما أخر عنهم العذاب لحظة.
وهذا رد على مقالتهم الثانية :
وأما الرد على الأولى فها هو ذا : إنا نحن نزلنا الذكر - فأكد لهم أنه - سبحانه - هو المنزل على سبيل القطع والجزم ، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه حفظة ورصدة يحفظون القرآن حتى يبلغه جبريل إلى النبي محفوظا تاما غير منقوص ولا مزيد فيه ، نعم إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، وتلك خصوصية للقرآن قد تكفل اللّه وحده بحفظه ورعايته ما دامت السموات والأرض ولذلك لم ير فيه في أى وقت ولا في أى مكان زيادة أو نقصان ولا تحريف ولا تبديل بخلاف الكتب السابقة حيث وكل اللّه أمر حفظها للربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا وعدوانا واشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا وعرضا حقيرا فكان التحريف والتبديل الظاهر في كل طبعة من طبعات الكتب السابقة إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [سورة المائدة آية 44].
وأما أنت يا محمد فلست بدعا من الرسل - والناس هكذا قديما وحديثا - فلا تأس على القوم الكافرين ، ولقد أرسلنا من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين في شيع وفرق وأمم سابقة ، وما أتاهم من رسول قبلك إلا كانوا به يستهزئون ، وعليه غاضبون ، وبه كافرون ، وتلك سنة اللّه في الخلق.
مثل ذلك التكذيب والكفر الذي أدخل في قلوب المجرمين السابقين ندخله في قلوب المجرمين المعاصرين ، أو المعنى : مثل ذلك الإدخال ندخل القرآن مكذبا به ومستهزئا به في قلوب المجرمين حالة كونهم لا يؤمنون أبدا مهما حاولت وفعلت ، ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فعرجوا فيه وصعدوا إلى السموات العلا ورأوا من آيات ربك الكبرى ، وكان ذلك في وضح النهار وتحت نور الشمس لو حصل هذا لقالوا : إنما سكرت أبصارنا وحبست عن الإبصار ونحن في حيرة وارتباك ، وعبارتهم تفيد حصر(2/274)
ج 2 ، ص : 275
الإسكار في البصر فقط ، أما العقل والوجدان فهم يعتقدون به كذلك في دعواهم.
بل نحن مسحورون ، أضربوا عن قولهم سكرت أبصارنا إلى قولهم بل نحن مسحورون ، والمعنى : أن هؤلاء المشركين بلغ من عنادهم أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ويسر لهم معراج يصعدون فيه ورأوا عيانا لقالوا هذا شيء خيالي لا حقيقة فيه بل قالوا قد سحرنا محمد ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم وكذبوا في دعواهم الباطلة.
من مظاهر قدرته وآثار نعمه [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
المفردات :
بُرُوجاً جمع برج وهي القصور والمنازل وأصل البروج الظهور ومنه قيل :
تبرجت المرأة إذا أظهرت زينتها ، والمراد هنا منازل الشمس والقمر والنجوم السيارة ،(2/275)
ج 2 ، ص : 276
وللعرب في معرفة النجوم ومنازلها علوم ومعارف. رَجِيمٍ مرجوم اسْتَرَقَ السَّمْعَ تسمعه بخفة وحذر فَأَتْبَعَهُ أى تبعه : أدركه شِهابٌ مُبِينٌ المراد به الكواكب أو النار المشتعلة التي نراها في السماء ، انظر إلى قوله : « شهاب قبس » مَدَدْناها بسطناها وفرشناها ومهدناها رَواسِيَ المراد الجبال ، مَوْزُونٍ مقدر بميزان الحكمة والعلم الصائب خَزائِنُهُ جمع خزانة وهي ما تحفظ فيه الأشياء لَواقِحَ أى : حوامل للسحاب والتراب واللقاح للشجر انظر إلى قوله : حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا أى : حملت ، وقولهم : ناقة لا قح أى : حامل.
المناسبة :
ما تقدم كان في شأن الكفار وأحوالهم ، وما قالوه وتمنوه بعد ظهور الحقائق وعجز الآلهة : وهنا بيان لقدرة اللّه الباهرة وخلقه البديع المحكم ، ونعمه التي لا تحصى ليكون دليلا على وحدانيته ، وأنه وحده المعبود بحق.
المعنى :
تاللّه لقد جعلنا في السماء بروجا وسيرنا فيها منازل الشمس والقمر والنجوم ، وزيناها للناظرين المفكرين ، والباحثين المعتبرين ، إن ذلك لآيات لقوم يتفكرون تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سورة الفرقان آية 61].
روى عن ابن عباس قال : ولقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء فكانوا يدخلونها ويتسمعون من سكانها الأخبار ، ويلقون أخبارها على الكهنة فيزيدون عليها ويحدثون بها أهل الأرض ، كلمة حق واحدة وتسع باطلة. فإذا رأى الناس شيئا مما قالوه حقّا صدقوهم في كل ما جاءوا به. فلما ولد عيسى ابن مريم منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد صلّى اللّه عليه وسلّم منعوا من السموات كلها ، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمى بشهاب.
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [سورة الصافات 6 - 10](2/276)
ج 2 ، ص : 277
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [سورة الجن الآيتان 8 و9].
وهذا يبين لنا معنى قوله تعالى هنا : (و حفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) : على معنى حفظنا السماء من الشياطين بمنعهم من الصعود إليها إلا من استرق السمع فحفظناها منهم بأن أعددنا لهم شهابا رصدا ليصيبه ، وقيل المعنى : وحفظناها من كل شيطان رجيم ولكن من استرق السمع أعددنا له وهيأنا له شهابا رصدا ، وهم يسترقون غير الوحى من الأخبار أما الوحى فهم ممنوعون منه دائما لقوله تعالى : وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ. وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ وإذا استرق الشيطان وتسمع شيئا ليس بوحي قيل : إنه يقذفه بسرعة إلى الكهنة بواسطة أعوانه ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تصيبهم بسوء فقط وهذا رأى بعيد ، والصحيح أن الشهاب يقتلهم قبل إلقائهم الخبر فلا تصل أخبار السماء إلى الأرض أبدا إلا عن طريق الأنبياء والوحى ، ولذلك انقطعت الكهانة ببعثة النبي صلّى اللّه عليه وسلم : فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وهذا هو الرأى الذي أميل إليه.
هذه نظرة إلى السماء وما فيها بالإجمال ، ثم بعد ذلك تعرض القرآن إلى الأرض التي تقلهم : فقال : والأرض مددناها وفرشناها ، وجعلناها ممهدة صالحة للسكنى والمعيشة عليها ، وألقى اللّه فيها رواسى من الجبال شامخات حتى لا تميد بكم ولا تضطرب ، وهي دائرة في مدارها حول الشمس وحول نفسها وليس في الآية دليل على أن الأرض ليست كروية بل هو الدليل القوى على كمال قدرة اللّه وتمام عظمته إذ كل منا يراها منبسطة رغم تكويرها ، ثابتة رغم تحركها.
يا سبحان اللّه ، لقد ثبت بما لا يقبل الشك أن الأرض كروية ومع هذا فالذي في القطب الشمالي وأخوه الذي في القطب الجنوبي كل منهما يرى أرضه منبسطة ممهدة وهي تقله وله سماء تظلله والماء حوله ساكن ثابت فسبحانه وتعالى قادر حكيم!!! والأرض فرشناها فنعم الماهدون ، وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها كل شيء من النبات موزون بميزان الحكمة والتقدير ، ليس في الأرض على سعتها نبات ليس له وزن وفائدة ، بل كل شيء لحكمة ومصلحة قد تخفى على الكثير منا ، والطب الحديث يكشف لنا(2/277)
ج 2 ، ص : 278
كل يوم أسرارا من النبات والأعشاب ، وقد جعل اللّه لنا فيها معايش ورزقا وجعل فيها لمن لستم له برازقين من حيوان وخدم وأولاد فإن اللّه هو الرزاق ذو القوة المتين.
وما من شيء في هذا الكون إلا ونحن قادرون على إيجاده والإنعام به ، وما نعطيه إلا بقدر حسب الحكمة والعلم الشامل فذكر الخزائن من باب التمثيل لا الحقيقة ، واللّه أعلم.
وأرسلنا الرياح لواقح أى : حوامل ، نعم الريح تحمل السحب والسفن وتذرو التراب وتحمله حتى تكاد تنقل الجبال من مكانها ، وتلقح النبات والأشجار ، وتلقيح الشجر أمر أظهره العلم الحديث فقد اكتشف لنا أن كل زهرة أو ثمرة فيها ذكر وأنثى وتحتاج إلى اللقاح ، ويحمل لقاحها الريح وبعض الحيوانات ، فأنزلنا من السماء بواسطة الرياح ماء لكم منه شراب فأسقيناكموه ، ولستم له بخازنين ، وهل يمكننا حجز مياه النيل كلها وقت الفيضان ؟ !! أو حجز مياه الأمطار ؟
ثم تعرض القرآن لذكر شيء له الأثر العميق في نفوسنا وهي قصة الموت والحياة فالمولى القدير يحيى وحده ويميت وحده كل المخلوقات كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ « 1 » وتاللّه لقد علمنا المستقدمين منكم في الحياة والموت والعمل وكل شيء ، وتاللّه لقد علمنا المستأخرين في الحياة والموت والعمل ، وكل شيء عند ربك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وأن ربك هو يحشرهم ويحاسبهم إنه هو الحكيم في كل شيء العليم بكل شيء - سبحانه وتعالى - ..
قصة آدم وتكوينه ، وعلاقته بالملائكة والجن [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
___________
(1) سورة القصص الآية 88.(2/278)
ج 2 ، ص : 279
المفردات :
صَلْصالٍ طين يابس يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد مِنْ حَمَإٍ الحمأ الطين الأسود مَسْنُونٍ متغير مأخوذ من قولهم أسن الماء إذا تغير قال القرطبي :
كان أول الأمر ترابا أى : متفرق الأجزاء ، ثم بلّ فصار طينا ، ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا ، أى : متغير الرائحة ، ثم يبس فصار صلصالا ، وقوله - تعالى - من(2/279)
ج 2 ، ص : 280
حمأ مفسر لجنس الصلصال كقولك : أخذت هذا من رجل من العرب وَالْجَانَّ هو إبليس وسمى بذلك لتواريه عن الأعين السَّمُومِ النار لا دخان لها وقيل السموم الريح الحارة التي تقتل سميت بذلك لتأثيرها على مسام الجسم فَأَنْظِرْنِي أمهلنى بِما أَغْوَيْتَنِي الغواية ضد الرشد لَأُزَيِّنَنَّ لأحسنن لهم المعاصي الْمُخْلَصِينَ الذين استخلصهم اللّه. وقرئ المخلصين على معنى الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أورياء.
وهذا مظهر - أيضا - من مظاهر قدرة اللّه وعظمته وفيه بيان فضل اللّه على آدم وبنيه ، وتكريمه حيث أمر الملائكة بالسجود له ، مع بيان أثر مخالفة اللّه والتحذير من الشيطان وو وسوسته.
المعنى :
ولقد خلق الإنسان الأول أعنى آدم أبا البشر من طين جاف أصله طين أسود منتن متغير الرائحة.
وإن الإنسان منا ليقف أمام أسرار كلام اللّه ودقائقه مبهوتا متحيرا ، وصدق اللّه قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء آية 88].
نعم خلقنا اللّه من طين جاف له صوت إذا نقر ، أصله طين أسود منتن متغير وفي هذا إشارة إلى ما فينا من طبع وما نحن عليه من خلق وغريزة! وفي الحديث « إنّ اللّه - عزّ وجلّ - خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فجاء منهم الأحمر والأسود وبين ذلك ، والسّهل والحزن والطّيّب والخبيث » .
وإذا عرفنا أننا خلقنا من طين أسود منتن الرائحة (حمأ مّسنون) عرفنا السرفى في وقوعنا في الآثام ، وارتماء أكثر الناس في أحضان الرذيلة ولو بحثنا لوجدنا لنا رائحة تزكم الأنوف ، وتصد النفوس.(2/280)
ج 2 ، ص : 281
ولعلك تقول وما سواد هذا الطين ؟ إنه إشارة إلى ظلام النفس وكدرتها ، وسلوكها الطريق الملتوى غير الواضح (اللّه ولىّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور) أى : بسبب الكتب السماوية.
وأما الصلصال وما أدراك ما هو ؟ إنه الإناء المتخذ من الطين الجاف الذي لم تنضجه النيران فإذا ضربته سمع له صوت أترى هذا الإناء قويا ؟ أرأيته وهو أجوف فارغ ضعيف غير متماسك وهكذا الإنسان أمام مغريات الدنيا وثورة الغرائز.
وأما الجان قد خلقه اللّه من نار السموم.
الجن خلق من خلق اللّه منهم الصالحون والطالحون وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [سورة الجن آية 11] وهم مكلفون مثلنا ، ويتكاثرون ، ويروننا ولا نراهم إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [سورة الأعراف آية 27]. ومنهم من سبقت له الحسنى فهو مؤمن بربه ، ومنهم من غلبت عليه الشقوة فكان من العصاة المذنبين كإبليس وقرينه وهم الشياطين.
ولقد ذكر اللّه أن الجن خلقوا من نار السموم ، أما حقيقة النار هذه فشيء اللّه أعلم به ، ولكن في هذا إشارة إلى بعض طبائع الجن. فالنار تعلو وتتعالى ، وقد تؤذى غالبا ، وفيها معنى العجلة والسرعة وقوة الغضب.
ونحن نرى أن إبليس تكبر وعصى ، وتعجل في الحكم وغضب حينما أمر بالسجود لآدم.
إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون ، فإذا سويته وأتممت خلقه ، ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
ومن هنا يعلم أن الإنسان مكون من مادة أصلها الطين الأسود المنتن ، ومن روح هي من روح اللّه ، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء 85].
نعم .. الروح سر من أسرار اللّه لا يعلم كنهها إلا خالقها ، ولكنها قوة في الإنسان لها الأثر الفعال في سلوك الإنسان واتجاهه في الحياة. هي مصدر الخير والهدى والتقوى والفلاح وكل صفة حسنة من صدق وإيمان وإيثار وتعاون وتساند وأخوة في اللّه ، روح(2/281)
ج 2 ، ص : 282
المؤمن هي مصدر فضائل الحق والخير والنور والهدى ، بل هي الحياة التي يعنيها القرآن الكريم ، أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [سورة الأنعام آية 122].
هذا البشر المكون من مادة وروح هو الذي أراد له أن يكون خليفته في الأرض هو الذي يصلح لعمارتها ، فهو من الأرض وقد عادلها ، وفيه نوازع الشر ، ونوازع الخير ، وعليهما تسير الحياة ويعمر الكون وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها « 1 » أما من خلق من نور خالص فليس فيه هذا الاستعداد واللّه أعلم بخلقة ولذا رد اللّه الملائكة بقوله :
إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية 30].
هذا الإنسان المخلوق من طين وروح أمر اللّه ملائكته بالسجود له. سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وتقديس ، وله - سبحانه - أن يفضل من يشاء على من يشاء إذ بيده الأمر كله.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. وما منعك يا إبليس من السجود وقد أمرك ربك وخالقك ؟ ! إنما منعه من السجود استكباره ، وتعاليه وسرعة انفعاله وغضبه .. ألم يخلق من نار فيها خصائص التعالي والارتفاع والسرعة والانفعال ؟ ! قال اللّه : يا إبليس ما المانع لك في ألا تكون مع الساجدين قال إبليس المغرور المخدوع غير الموفق : لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون!! ما كان ينبغي لي السجود لبشر أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، ومن إجابة إبليس يمكننا أن نتأكد من أبرز صفاته وهي الكبر والتعجل والغضب.
وقد أجابه اللّه على موقفه هذا ، قائلا : فاخرج من السموات أو من الجنة أو من عداد الملائكة ، فإنك مرجوم مطرود ، وإن عليك اللعنة من اللّه إلى يوم الدين.
قال إبليس : رب فأمهلنى إلى يوم يبعثون. أراد بسؤاله هذا ألا يموت. فأجابه اللّه بقوله : فإنك من المنظرين المؤجلين إلى البعث ثم لا بد من موتك وحسابك كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [سورة الرحمن آية 26].
___________
(1) سورة البقرة الآية 31.(2/282)
ج 2 ، ص : 283
قال إبليس : رب بسبب إغوائك لي وحكمك على باللعنة والطرد من رحمتك لأزينن لهم الأرض ، يا سبحان اللّه!! إنه لسر عظيم ، ذكر الأرض هنا ، فإن إبليس لا يأتى لنا إلا من ناحية الأرض ، والمادة التي ركبنا منها ، وليس له تسلط على الروح فإنها من أمر اللّه وسلطانه فهو يأتى لنا من ناحية غريزة حب التملك والبقاء ألم يقل لأبينا آدم تزيينا له وإغواء هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى « 1 » ولقد ذكر الرسول سبب ضعف المسلمين وذهاب عزهم وتكاثر الأجانب عليهم « حبّ الدّنيا وكراهية الموت » ، وهذه أسس البلاء ، ولأغوينهم أجمعين ، والغي ضد الرشاد وخصمه فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ « 2 » .
وما يحسه كل منا من ناحية الشيطان ووسوسته يجعلنا ندرك سر قوله تعالى وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ « 3 » الذين استخلصتهم وأخلصوا لك في العبادة فلا فساد ولا رياء ، ولا يحبون أن يحمدهم الناس بل إلى اللّه وحده عملوا.
قال اللّه تعالى : هذا صراط على مستقيم ، وقضاء قضيته على نفسي محتوم ، إنك يا إبليس ليس لك سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، إنما سلطانك على الذين لم يخلصوا الإيمان ، ولم يعمر قلوبهم نور الروح ولم يتصل بهم سر اللّه اتصالا وثيقا إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ « 4 » .
فالناس صنفان خاضع لشهواته ونزواته وماديته وطبيعته وغرائزه وهم شعب إبليس المتسلط عليهم ، وصنف مؤمن تقى روحه طيبة ونفسه كريمة واتصاله باللّه قوى وهؤلاء ليس لإبليس عليهم سلطان وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ « 5 » .
وهذا هو الحكم العام : إن جهنم لموعد من اتبعك وسار خلفك ، لها سبعة أبواب مفتحة ومهيأة لكل داخل ، واسعة تسع العصاة والمذنبين ، لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم.
___________
(1) سورة طه الآية 120.
(2) سورة الأعراف الآيتان 16 و17.
(3) سورة ص الآيتان 82 و83.
(4) سورة الحجر الآية 42.
(5) سورة الأعراف الآية 200.(2/283)
ج 2 ، ص : 284
المتقون يوم القيامة [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 50]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
المفردات :
وَعُيُونٍ جمع عين قيل المراد : أنهار الجنة التي ذكرت في قوله تعالى : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى الآية 15 من سورة محمد وقيل هي عيون خاصة لكل فرد أو عامة ينتفع بها الكل غِلٍّ الغل : الحقد والحسد الدفين نَصَبٌ تعب ومشقة.
هذا الكلام على الصنف الثاني وهم الذين لا سلطان لإبليس عليهم وهم المتقون.
المعنى :
إن المتقين الذين اتقوا اللّه وامتثلوا أمره ، وتركوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن في جنات وبساتين ، أكلها دائم وظلها ، وتلك عقبى المتقين ، ولهم عيون ماء وخمر ولبن وعسل مصفى ، عيون خاصة بهم أو عامة ولا نزاع عليها ولا عراك ، لأن اللّه نزع منهم الغل والحسد والحقد الدفين.(2/284)
ج 2 ، ص : 285
ويقال لهم ، ادخلوها بسلام آمنين ادخلوها سالمين آمنين لا خوف عليكم ، ولا أنتم تحزنون ، ونزعنا ما استقر في صدورهم من غل وحقد وحسد التي هي من طبع الإنسان المادي في الدنيا حالة كونهم إخوانا متحابين متصادقين متساندين وهذه هي معاني الأخوة في اللّه ، والتحاب في اللّه ، حالة كونهم على سرر متقابلين لا ينظر الواحد منهم إلا لوجه أخيه ، ولا ينظر إلى ظهره ، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يكون هناك غيبة ولا نميمة ، ولا تزاحم ، ولا تنازع لأن خصائص المادة قد ذهبت بالموت في الدنيا.
وهم لا يمسهم فيها نصب ولا مشقة. لا تعب ولا ألم وفي الصحيحين « إنّ اللّه أمرنى أن أبشر خديجة ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب »
وما هم من الجنة بمخرجين وفي الحديث : يقال. يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [سورة الكهف آية 108].
وهذا تقرير لما ذكر من أهل الجنة والنار ، وفي الحديث « لو يعلم المؤمن ما عند اللّه من العقوبة ما طمع بجنّته أحد. ولو يعلم الكافر ما عند اللّه من الرّحمة ما قنط من رحمته أحد » .
نبىء عبادي أنى أنا الغفور الرحيم أغفر لمن تاب وأناب ، وعمل عملا صالحا وأن عذابي هو العذاب الأليم الشديد الموجع لمن كفر أو عصى ولم يتب ولم يرجع عن غيه وسوء صنعه.
قصة ضيف إبراهيم مع لوط وقومه [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 77]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)(2/285)
ج 2 ، ص : 286(2/286)
ج 2 ، ص : 287
المفردات :
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ هم الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط وَجِلُونَ فزعون خائفون الْقانِطِينَ القانطون الآيسون من الولد في الكبر الضَّالُّونَ البعيدون عن طريق الحق فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم وحالكم ؟ والخطب الأمر الخطير لَمُنَجُّوهُمْ لمخلصوهم مما هم فيه قَدَّرْنا قضينا الْغابِرِينَ الباقين في العذاب مُنْكَرُونَ أى : لا أعرفكم يَمْتَرُونَ يشكون أنه نازل بهم وهو العذاب فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ تقدم تفسيره في سورة هود - لا قصة لوط وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أوحينا إلى لوط دابِرَ هؤُلاءِ أى : آخرهم وسيستأصلون - عن آخرهم فلا يبقى منهم أحد مُصْبِحِينَ عند طلوع الصبح وَلا تُخْزُونِ هو من الخزي والذل والهوان وقيل هو الخزاية أى الحياء والخجل لَعَمْرُكَ قسم من اللّه سبحانه وتعالى بحياة النبي صلّى اللّه عليه وسلم. وأصله بضم العين ، وفتحت لكثرة الاستعمال الصَّيْحَةُ المراد الصوت القاصف عند الشروق مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ثم قلبها وجعل عاليها سافلها سِجِّيلٍ أى من طين لِلْمُتَوَسِّمِينَ المتفكرين الناظرين المعتبرين لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ على طريق قومك يا محمد إلى الشام.
وفي هذا القصص بيان عملي لعذاب اللّه الأليم الذي يحل بالعصاة والمذنبين ، ولرحمته الواسعة التي تشمل الطائعين ، وقد أمر رسول اللّه بإخبار المشركين بذلك علهم يعتبرون بما حل بقوم لوط من عذاب ، وإن عذابهم هو العذاب الأليم ، وبما حل بلوط ومن تبعه من الرحمة وأنه هو الغفور الرحيم.
المعنى :
ونبئهم يا محمد أنى أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم ، ونبئهم وأخبرهم عن ضيف إبراهيم المكرمين ، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما .. قال إبراهيم :
إنا منكم وجلون وخائفون ، قال لهم ذلك بعد أن رد عليهم بأحسن منها ، وقدم لهم عجلا سمينا مشويا ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم ، وتوجس منهم خيفة.
قالوا : يا إبراهيم ، لا تخف ، إنا رسل ربك نبشرك بغلام عليم ، قال : أبشرتمونى(2/287)
ج 2 ، ص : 288
على أن مسنى الكبر ؟ فبم تبشروني ؟ قالوا : يا إبراهيم ، بشرناك بالحق الثابت إذ هو وعد اللّه الذي لا يتخلف. فلا تكن من القانطين اليائسين فإنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون ، ولا غرابة في ذلك فاللّه الذي أوجد ولدا من غير أب وأم قادر على إيجاده من أبوين عجوزين!! قال إبراهيم : ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون المكذبون البعيدون عن طريق الحق والصواب.
ولما علموا أنهم ملائكة وليسوا بشرا حيث أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد قال لهم : ما خطبكم أيها المرسلون! قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ضالين مشركين ، قوم يأتون في ناديهم المنكر ، ويأتون الرجال شهوة من دون النساء!! إنا أرسلنا إلى قوم لوط.
أرسلنا إلى هؤلاء لنهلكهم بالعذاب إلا آل لوط وأتباعه وأهل دينه ، إنا لمنجوهم أجمعين ، ومخلصوهم من ذلك العذاب إلا امرأة لوط كانت من الغابرين قد قضى اللّه عليها أن تكون من المهلكين ، لأنها كانت تفعل فعلهم ، وتعينهم على قصدهم.
فلما جاء آل لوط المرسلون ، وهم الملائكة ضيف إبراهيم جاءوهم في بلدهم (سدوم) قال لوط : إنكم أيها القادمون قوم منكرون لا أعرفكم وقيل : أنكر حالتهم وخاف عليهم من قومه لما رآهم شبانا مردا حسان الوجوه ، قالوا : يا لوط ، بل جئناك بعذاب قومك وهلاكهم ، وقد كانوا يشكون في مجيئه ، ولا يصدقونك في خبرك ، ونحن قد آتيناك بالحق والأمر الصدق فإنا رسل الحق - سبحانه وتعالى - وإنا لصادقون في كل ما ادعيناه.
ثم جاءت مرحلة التنفيذ فقالوا له : أسر مع أهلك المؤمنين ببقية من الليل أى :
أسر بطائفة من الليل تكفى لتجاوز حدود القرية والبعد عنها واتبع أدبارهم ، وكن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد. ولا تشغل قلبك بأحد من الكفار المتخلفين منهم ، بل كن ذاكرا للّه شاكرا له أن نجاك وأهلك من العذاب ، ولا يلتفت منكم أحد لئلا تروا العذاب وهو نازل بهم فترق قلوبكم لهم ولكن جدوا في المسير وأسرعوا في الهجرة غير ملتفتين إلى من وراءكم ، وامضوا حيث تؤمرون.
وأوحينا إلى لوط ذلك الأمر : أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين : وأوحينا إليه ذلك(2/288)
ج 2 ، ص : 289
الأمر ثم فسر بعد الإبهام بقوله : إن دابرهم وآخرهم مقطوع ويستأصل ، أى : أنه لا يبقى منهم أحد أبدا وسينزل عليهم العذاب وهم داخلون في الصباح.
وفي هذه السورة ذكر عذابهم وهلاكهم قبل فعلهم ، (و الواو لا تقتضي ترتيبا) وجاء أهل المدينة (سادوم) يستبشرون بالأضياف طامعين فيهم ، مؤملين أن يفعلوا معهم الفاحشة.
ولما رأى لوط ذلك فيهم قال لهم : إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ، واتقوا اللّه ، ولا تحزون. أليس فيكم رجل رشيد يدافع عن الفضيلة!! قالوا : يا لوط أو لم ننهك عن أن تضيف أحدا من العالمين ، لأنا لا يمكننا أن نمنع أنفسنا عن ارتكاب الفاحشة معهم ، وقيل المعنى : أو لم ننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس قصدناه بالفاحشة.
قال : يا قوم هؤلاء بناتي تزوجوهن فهن أطهر لكم ، إن كنتم فاعلين.
أقسم اللّه - سبحانه وتعالى - بعمر النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبحياته أن هؤلاء لفي سكرتهم وضلالهم يعمهون ويتيهون ، وما علموا أن العذاب ينتظرهم وأنهم في طريق الفناء والهلاك فاعتبروا يا أهل مكة.
عقب هذا مباشرة أخذتهم الصيحة ، وحلت بهم الصاخة ، وقت شروق الشمس إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فجعلنا عالى ديارهم سافلها ، وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود ، مسومة عند ربك ، وما هي من الظالمين ببعيد.
إن في ذلك لآيات للمتوسمين المفكرين الناظرين بعين الاعتبار وأن ديارهم بطريق قومك إلى الشام فهم يرونها. فهل من مدكر ؟ ! إن في ذلك لآية للمؤمنين الصادقين!!
أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 86]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)(2/289)
ج 2 ، ص : 290
المفردات :
أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هم قوم شعيب ، والأيكة : الغيضة والشجر الملتف لَبِإِمامٍ مُبِينٍ بطريق واضح أَصْحابُ الْحِجْرِ الحجر ديار ثمود فَاصْفَحِ اعف عنهم وتجاوز عن مسيئهم ، والصفح الإعراض.
المعنى :
ولقد كان أهل مدين أصحاب أيكة وغيضة ظالمين بشركهم ، وقطعهم الطريق ونقصهم الكيل والميزان ، فانتقم اللّه منهم بالصيحة والرجفة ، وعذاب يوم الظلمة وقد كانوا قريبا من قوم لوط في المكان ولذا قال اللّه : وإنهما لبطريق واضح يسلكه الناس لم يندرس بعد ، والناس تبصر تلك الآثار الشاهدة عليهم ، وهذا تنبيه لقريش وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
«
1 » ولقد كذب أصحاب الحجر وهم قبيلة ثمود المرسلين إذ كذبوا نبيهم صالحا. ومن كذب نبيا واحدا فقد كذب الكل لأنهم متفقون في الأصول ، وآتيناهم آياتنا الدالة على صدق رسولنا صالحا وهي الناقة التي أخرجها اللّه من صخرة صماء وكانت تسرح في بلادهم ، ولها شرب ولهم شرب فهي ضخمة ، ولبنها كثير كان يكفى القبيلة ، وكانت لهم بيوت نحتوها في الجبل ، وأصبحوا فيها آمنين من العدو ، ومن سقوطها عليهم. فلما عتوا وبغوا ، واعتدوا على الناقة أخذتهم الصيحة في وقت الصبح فما أغنى عنهم ما كانوا يكتسبون من أموال وديار.
___________
(1) سورة الصافات الآية 137.(2/290)
ج 2 ، ص : 291
وهذه سنة اللّه في الخلق ، وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق والعدل ليجزي اللّه الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ، وإن الساعة لآتية لا ريب فيها ، فاصفح يا محمد وأعرض عمن أساء إليك ، واصفح الصفح الجميل ، وهذا قبل الأمر بالقتال ، ولا تعجب من هذا. إن ربك هو الخلاق العليم الذي يعلم المصلحة والعلاج الناجح للكل لأنه خلق الكل أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك آية 14] إذا لا غرابة أن يأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بمكة بالعفو والصفح ثم يأمره وهو بالمدينة بالقتال والجهاد والغلظة في الحرب ..
توجيهات إلهيّة إلى الحبيب المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم [سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)(2/291)
ج 2 ، ص : 292
المفردات :
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمع ببصرك إلى ما عند غيرك من حطام الدنيا أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا منهم وَاخْفِضْ جَناحَكَ المراد ألن جانبك وتواضع لهم ، مأخوذ من خفض الطائر جناحه على فرخه إذا غطاه به وضمه إليه الْمُقْتَسِمِينَ جماعة من قريش اقتسموا الطريق ليصدوا عن سبيل اللّه ، وقيل : اقتسموا للقرآن فقال بعضهم هو سحر ، وبعضهم. هو شعر ، وبعضهم هو كهانة ، وقيل هم أهل الكتاب عِضِينَ جمع عضة والمراد فرقوه ، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وقيل فرقوا أقوالهم فيه فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ المراد بلغ الرسالة للجميع ، وأظهر دينك ولا تخش أحدا ، وأصل الصدع الشق ومنه تصدع البناء وتصدع القوم تفرقوا يَضِيقُ صَدْرُكَ المراد تتألم وتتحرج الْيَقِينُ الموت لأنه متيقن الوقوع.
هكذا السور المكية المبدوءة بأحرف هجائية تبدأ غالبا بالكلام على القرآن الكريم والنبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وتختتم بالحديث عنهما ألا ترى إلى سورة هود ويوسف وإبراهيم وها هي ذي سورة الحجر.
المعنى :
وتاللّه لقد آتيناك يا أيها الرسول سبع آيات هي المثاني ، والقرآن العظيم ، ولقد اختلف العلماء في
المراد بالسبع المثاني فقال البعض : هي الفاتحة وقد روى الشيخان ذلك التفسير عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
والفاتحة تثنى في كل صلاة بقراءتها في كل ركعة ، وقيل سميت بذلك لأن فيها الثناء على اللّه - سبحانه وتعالى - ، وقال البعض السبع المثاني هي السبع الطوال : البقرة. وآل عمران. والنساء. والمائدة. والأنعام. والأعراف. والأنفال.
والتوبة : بناء على أنهما سورة واحدة ، وسميت مثاني لأن القصص والأحكام والحدود ثنيت فيها وكررت ، وقيل المراد بالسبع المثاني جميع القرآن. ويكون عطف والقرآن العظيم من باب الترادف أو عطف الصفات والموصوف واحد اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر 23].(2/292)
ج 2 ، ص : 293
ولقد آتيناك وأنزلنا عليك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، وهذا شرف كبير. وفضل عظيم ، وجاه عريض ، ومن يعطى هذا لا يطمح ببصره طموح راغب إلى ما متعنا به أزواجا من الكفار وأصنافا منهم ، وكيف يطمع في عرض زائل ، وحطام فان وقد أعطى القرآن العظيم ؟ ! روى عن أبى بكر - رضى اللّه عنه - . من أوتى القرآن فرأى أن أحدا أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى فقد صغر عظيما ، وعظم صغيرا ، وروى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم « ليس منّا من لّم يتغنّ بالقرآن »
أى : يستغنى به.
وهذا توجيه سام وأدب عال من اللّه - سبحانه - لعباده المؤمنين ، وتربية لنفوسهم بعيدة الأثر ، فليس أضر على الإنسان من طموحه إلى من هو فوقه في الدنيا وعرضها بل انظر إلى من دونك تسترح فإذا أعطيت مع هذا القرآن فكفى به شرفا ، وليست الآية تدعو إلى عدم العمل. كلا فليس في ديننا رهبانية ولا كسل بل هو دين العمل والقصد الحسن ، وفي الآية إشارة إلى ما في القرآن من الخير والفلاح ، وأنه لا يغرنا تقلب الذين كفروا في البلاد بل هو متاع قليل ومأواهم جهنم وبئس المصير.
ولا تحزن على المشركين إن لم يؤمنوا ، ويقول القرطبي : ولا تحزن على ما تمتعوا به في الدنيا فلك في الآخرة أفضل منه.
واخفض جناحك للمؤمنين ، نعم وألن جانبك لهم ، وتواضع معهم ، فلو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر يا سبحان اللّه هذه تعاليم إلهية تلقى للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم الذي شهد له القرآن بأنه على خلق عظيم ليعمل بها كل رئيس أراد أن تلتف حوله قلوب جماعته ، فلينظر حكامنا وقادتنا إلى تعاليم القرآن.
وقل لهم : إنى أنا النذير المبين فقط ، فليس لي من الأمر شيء وإنما علىّ البلاغ والتبشير والإنذار ، وعلى اللّه كل شيء بعد هذا.
ولقد آتيناك ونزلنا عليك القرآن مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين ، نعم أهل الكتاب اقتسموا القرآن فجعلوا بعضه حقا لأنه موافق لهواهم ، وبعضه باطلا لأنه مخالف لهواهم! وقال بعضهم هذه السورة لي ، وقال الآخر وهذه السورة لي ، ترى أنهم اقتسموا القرآن وجعلوه فرقا ، ويجوز أن يراد بالقرآن(2/293)
ج 2 ، ص : 294
كتبهم التي يقرءونها ، وقد آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، ويكون هذا من باب التسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم حيث قال قومه إنه سحر ، أو شعر ، أو كهانة.
وبعضهم يقول : المقتسمون هم القرشيون الذين اقتسموا الطريق ووقف كل منهم على باب يحذر الناس من اتباع النبي ويقولون عن القرآن إنه سحر وصاحبه ساحر ، وهو كذب ، وصاحبه كذاب ، وهو شعر وصاحبه شاعر ، ولعل المعنى إنى أنا النذير المبين إنذارا بعذاب ينزل بكم كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن فرقا وأنواعا.
فاقسم بربك لنسألنهم جميعا يوم لا ينفع مال ولا بنون ، عما كانوا يعملون وسنجازيهم عليه الجزاء الوافي حتى يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.
وإذا كان الأمر كذلك ، وقد نفذ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كل هذه التوجيهات وعمل بها فاصدع أيها النبي بما تؤمر.
أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بتبليغ الرسالة للجميع ، والجهر بها فقد مضت مرحلة الإسرار في الدعوة.
فاصدع بالذي تؤمر به وفرق به جمعهم ، واجهر بدعوتك فسينشق بها حائطهم وسيصدع جدارهم ، وأعرض عن المشركين ، ولا تبال بهم فاللّه عاصمك منهم ، ومؤيدك بروح من عنده ، وكافيك شر المستهزئين بك المجاهرين لك في العداوة والبغضاء ، وقد صدق اللّه وعده ونصر عبده ، ونال كل من زعماء الشرك وقادة الباطل حتفهم على أسوأ صورة في غزوة بدر وما بعدها.
هؤلاء المستهزئون بك يستحقون أكثر من ذلك فهم الذين يجعلون مع اللّه إلها آخر ، ويشركون به من لا يملك ضرا ولا نفعا فسوف يعلمون عاقبة عملهم ونتيجة شركهم.
ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ، وتتحرج نفسك بما يعملون ولكن الدواء الناجح الذي به تطمئن القلوب وتهدأ النفوس ، حتى تستعذب في سبيل اللّه كل عذاب ، وتعده من أكبر النعم وتمام التطهير لها.
هذا الدواء هو التسبيح والتقديس والركوع والسجود ، والإكثار من العبادة والاتصال باللّه إذ هذه مطهرات للنفس مقويات للروح ومتى قويت الروح ضعفت النفس المادية التي تشعر بالألم والتعب والنصب إذا عملت في سبيل اللّه.(2/294)
ج 2 ، ص : 295
وهذا علاج نفيس يجب أن يتحلى به كل داعية إلى اللّه ، وعامل في سبيل اللّه.
ولقدصدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حينما عالج ألم ابنته وتعبها من الرحى بعلاج التسبيح والتحميد والتكبير.
واعبد ربك أيها الرسول حتى يأتيك الأمر اليقين ، وتلقى ربك ، وإذا كان هذا هو توجيه اللّه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فأين نحن ؟ ! أين نحن ؟ ! اللهم وفقنا واهدنا إلى سواء السبيل.(2/295)
ج 2 ، ص : 296
سورة النحل
وتسمى سورة النعم لما عدد اللّه فيها من النعم ، وهي مكية على الصحيح ، ويدور الكلام فيها حول ذكر النعم وبيان مظاهر القدرة ، ونقاش المشركين في عقائدهم مع التعرض ليوم القيامة وما فيه ، وقد ذكر في آخر السورة السابقة المستهزئين المكذبين وذكر الموت ، وقال : لنسألنهم أجمعين ، كل ذلك يتناسب مع أول السورة هنا ، وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية.
من دلائل وحدانية اللّه [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)(2/296)
ج 2 ، ص : 297
المفردات :
أَنْ أَنْذِرُوا الإنذار التحذير مما يخاف منه دِفْ ءٌ الشيء الذي يدفئك جَمالٌ المراد هنا جمال الصورة وتركيب الخلقة تُرِيحُونَ الرواح رجوعها بالعشي من المرعى تَسْرَحُونَ السراح ذهابها بالغداة إلى المرعى أَثْقالَكُمْ أحمالكم بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بمشقتها وغاية جهدها جائِرٌ أى : مائل إلى الحق وزائغ الْأَنْعامَ الإبل والبقر والغنم وهي الثمانية المذكورة في سورة الأنعام.
المعنى :
يقول اللّه - سبحانه وتعالى - : أتى أمر اللّه ، وتحقق مجيئه إذ خبر اللّه في الماضي والمستقبل سواء لأنه خبر الحق الآتي ولا شك فيه ، وأمر اللّه هنا عقابه وعذابه لمن أقام على الشرك وتكذيب الرسول ، وقد كان كفار مكة يستعجلون العذاب الذي وعدهم به رسول اللّه حتى قال النضر بن الحارث : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء .. وقيل أمر اللّه الآتي : هو قيام الساعة وما يتبعه من إحياء الموتى.
أتى أمر اللّه فلا تستعجلوه. سبحانه وتعالى عما يشركون أى : تنزيها له وتقديسا عما تشركون ، فاللّه - سبحانه - هو الواحد الأحد. تبرأ من أن يكون له شريك أو ولد وتعالى جنابه عن الشركاء.
ولقد كان استعجال العذاب وقيام القيامة منهم تكذيبا للنبي واستهزاء بوعده ، وذلك(2/297)
ج 2 ، ص : 298
لون من الشرك وضرب من الكفر ، ولهذا قرن النهى عن الاستعجال بإثبات التنزيه له عن الشرك والتعالي عن الشركاء!! ينزل الملائكة بالروح من أمره والروح هو الوحى الذي يحيى القلوب كما تحيى الروح موات الأبدان ، فالإنسان بلا روح جزء من طين أسود منتن ، وهو - بلا وحى يهديه - ميت لا حياة فيه أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها فالروح الذي ينزل من أمره - سبحانه - هو الحياة والنور والهدى والقرآن ينزله على من يشاء من عباده ، فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
وينزل الملائكة بالروح من عنده أن أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا أنا فاتقون وبأن خافوا عقابي ، وارجوا ثوابي.
وفي هذه الآية يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ توكيد لسابقتها وتفصيل لإجمالها ولذا فصل بينهما ، ومن دلائل التوحيد ومظاهر القدرة أيضا .. خلق السموات وما فيها والأرضين وما فيها فقد خلق العالم العلوي ، والعالم السفلى خلقهما بالحق الذي لا شك فيه لم يخلقهما عبثا ، ولكن ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ، تعالى سبحانه وتسامى عما يشركون ، إذ هو الذي خلق وحده فهو الذي يعبد وحده.
وأما أنت أيها الإنسان فمخلوق ضعيف مهين حقير ، خلقت من نطفة مذرة ونهايتك جيفة قذرة خلقت من ماء مهين ، وآخرك عظم رميم. فإذا أنت خصيم مبين ؟ ؟
تخاصم ربك وتجادل رسله وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وقد أتى أبى بن خلف الجمحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعظم رميم (بال متفتت) وقال : يا محمد أترى أن اللّه يحيى هذا بعد ما قد رم ؟ ! ما أجهلك يا ابن آدم.
لما ذكر الإنسان وأصله ذكر ما منّ به عليه من نعم لا تحصى فذكر أنه خلق الأنعام ، خلقها لكم يا بنى آدم فيها دفء من صوف ووبر ، وجلد وشعر وبلحمها وشحمها تتولد الحرارة الكافية لنشاط الجسم ، وفيها منافع ، نعم في الأنعام منافع جمة(2/298)
ج 2 ، ص : 299
فهي عنصر للغذاء ، وآلة للعمل ، وناحية مهمة في الاقتصاد ، ومركب ذلول في السفر ، ومنها تأكلون لبنها وسمنها ولحمها وشحمها ، ولبنها غذاء جيد نافع.
ولكم فيها جمال وزينة ، وفرح ومسرة في رواحها بالعشي حيث تكون أبهى منظرا وأعلى أسنمة وأكثر لبنا ، تملأ البيت ثغاء ورغاء والعين جمالا والنفس سرورا ، ولذا قدم الرواح على السرور ، وهي تحمل أحمالكم الثقيلة إلى بلد لم تكونوا بالغيه وحدكم إلا بالمشقة والتعب فالجمل سفينة الصحراء ، ومركب الأعراب ، ولقد أعده العليم الخبير للسير فيها أرأيت خفه الذي لا يغوص في الرمال وصبره على الجوع والعطش الأيام الطوال ، إن ربكم لرءوف بكم رحيم. وخلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها وتنتقلوا بها من مكان إلى آخر فتتخذونها للركوب والزينة ، ومهما تعددت السيارات والدراجات فلا يزال للإبل والبغال والحمير مكانتها عند أصحابها وأربابها ، ويخلق اللّه - سبحانه - غير ذلك مما لا تعلمون. أليس في هذا دليل على إعجاز القرآن الكريم ؟ وأن خالقه يعلم بما كان وما سيكون فهذه العبارة جمعت الدراجة والسيارة والطيارة والسفينة وغير ذلك من المخترعات التي جدت وستجد وسبحان العليم البصير القوى القادر سبحانه وتعالى عما يشركون!.
ويستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على عدم جواز لحوم الخيل والبغال والحمير لأنها خلقت للركوب والزينة بخلاف الأنعام.
يقولون من تداعى المعاني كلام اللّه - سبحانه - هنا على السبيل بخصوصه وإن كان ذلك من نعمه علينا بل هي نعمة من أجل النعم أن اللّه يهدينا إلى سواء السبيل.
وعلى اللّه وحده هدايتنا بواسطة رسله وكتبه إلى السبيل القصد والطريق الحق المستقيم إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى . وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ومن السبيل طريق جائر عن العدل والحق فلا تتبعوه. طريق الشيطان والنفس والهوى فلا تسلكوه.
ولو شاء ربكم لهداكم أجمعين على طريق الإلجاء والقسر ، ولكنه بيّن وترك لك الاختيار ليجازيك عن عملك واختيارك وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [سورة يونس آية 99].(2/299)
ج 2 ، ص : 300
ولا تنس أن الهداية نوعان هداية دلالة وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 10] وهداية توفيق وإلجاء اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 6]. وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.
من نعم اللّه علينا أيضا [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 16]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)(2/300)
ج 2 ، ص : 301
المفردات :
تُسِيمُونَ ترعون ، والسائمة التي ترعى وَما ذَرَأَ لَكُمْ أى : وسخر ما خلق لكم ، ومن ذرأ أخذت الذرية وهي تشمل الثقلين إلا أن العرب تركت همزها أَلْوانُهُ أشكاله ومناظره مَواخِرَ جواري فيه تذهب وتجيء مقبلة ومدبرة بالريح وأصل المخر شق الماء عن يمين وشمال رَواسِيَ جبالا ثابتة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ خوف أن تضطرب يمينا وشمالا بكم من ماد يميد إذا تحرك ومال وَعَلاماتٍ هي معالم الطرق بالنهار.
المعنى :
لما ذكر اللّه - سبحانه وتعالى - ما أنعم به علينا من الأنعام والدواب شرع في ذكر نعمته علينا في المطر والنبات ، وما يتبع ذلك من ذكر السماء ونجومها والبحار وسفنها.
هو الذي أنزل من السماء ماء عذبا فراتا لكم منه شراب تسيغونه ليس ملحا بل هو النمير الصافي إذ أصله بخار تكاثف في الجو ثم حمله الريح إلى حيث شاء ثم نزل مطرا شرب منه الحيوان ونبت بسببه شجر وزرع ، فيه تسام الدواب وترعى مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ.
ينبت لكم ربكم به الزرع بجميع أصنافه وأشكاله ، وينبت لكم به الزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الأخرى التي لم يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكلام أولا ، إن في ذلك لآية ودلالة على وحدانية اللّه وقدرته لقوم يتفكرون ، نعم إن في عملية المطر وخروجه من ماء البحر الملح ثم صعوده إلى السماء ونزوله منها حيث شاء ثم إنبات الزرع والشجر المختلف الأشكال والألوان بسببه مع أن الماء واحد والأرض واحدة ، إن في ذلك كله لآيات ودلائل لقوم يتفكرون ..
هو الذي سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان ، الليل للسكون والهدوء والنوم والراحة ، والنهار للحركة وكسب الرزق ، وسخر الشمس والقمر كل في فلك يسبحون ذللها للنور والضياء ، والحياة والدفء والحرارة ولتعلموا عدد السنين والحساب بمسير الشمس(2/301)
ج 2 ، ص : 302
والقمر ، والنجوم مسخرات بأمره لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، إن ذلك لآيات لقوم يستعملون عقولهم في فهم حقائق الكون الذي هم فيه.
هو الذي سخر لكم ما خلق في الأرض جميعا على اختلاف أشكاله وألوانه خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً « 1 » إن في ذلك لآية لقوم يتذكرون ويتدبرون ، وهو اللّه - سبحانه وتعالى - الذي سخر البحر وذلله وجعله خاضعا وهو صاحب قوة وبطش فجعلنا نحده بالجسور والقناطر ، ونركبه ، ونتخذه طريقا لنقل أنفسنا ومتاعنا إلى حيث نشاء ، وجعل فيه - سبحانه - السمك ولحمه الطري والحلية من اللؤلؤ والمرجان ، ومكننا من كل ذلك ونرى السفن الكبيرة الثقيلة محمولة على ظهر البحر وتشق الماء شقا ، وتمخر عبابه وهي كالبلد المتنقل ، سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ، ولتستخرجوا منه حلية تلبسونها ، ولتبتغوا من فضله بالتجارة والرحلات والأسفار ، وقد من اللّه علينا بذلك لننتفع ولعلنا نقوم بواجب الشكر علينا.
هو الذي ألقى في الأرض رواسى من الجبال الشامخات لئلا تميد بكم الأرض وتضطرب عند دورانها وتحركها ، وجعل لكم فيها أنهارا كنهر النيل والفرات والمسيسبى وغيرها وجعلها سبلا وطرقا لربط أجزاء الأرض ولنقل التجارة والمصالح ، وجعلها علامات وحدودا ، وفي الأرض علامات أخرى وحدود من أنهار وجبال وآكام ، وفي السماء نجوم نهتدي بها في الظلمات وسبحان اللّه عما يشركون.
هذا هو الخلاق المنعم فأين الشركاء ؟ ! [سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
___________
(1) سورة البقرة الآية 29.(2/302)
ج 2 ، ص : 303
المعنى :
هذا خلق اللّه فأرونى. ماذا خلق الذين من دونه ؟ أرونى ماذا خلقوا من الأرض ؟
أم لهم شركاء في السماء ؟ !! عجبا لكم أيها المشركون. أفمن يخلق مما تقدم كمن لا يخلق ؟ أعميتم فلا تذكرون وتتعظون ؟
ما تقدم من أنواع الخلق بعض نعم اللّه علينا وهذا في الواقع قطرة من بحر ، وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها أبدا. ولا تطيقوا حصرها ، فكيف بأداء شكرها والقيام بحقها ؟ ومع هذا فاللّه هو الغفور الرحيم بكم ، فأنت مهما عملت للّه فعملك لا يوازى نعمة واحدة من نعمه ، ولعلك تدرك السر في ختم الآية بالمغفرة والرحمة.
اللّه خلق جميع الخلق ما نعلم وما لا نعلم ، وهو صاحب النعم التي لا تحصى ولا تحصر ، وهو الغفور الرحيم ، واللّه يعلم ما تسرون وما تعلنون إذ هو عالم الغيب والشهادة اللطيف الخبير.
والذين تدعونهم من دون اللّه آلهة. وشركاء للّه ، لا يخلقون شيئا بل هم يخلقون ، وهم أموات غير أحياء أى : هم أجساد ميتة. لا حياة فيها أصلا ، فزيادة (غير أحياء) لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها ، بل لا حياة لهذه أصلا فكيف يعبدونها وهم أفضل لأنهم أحياء ، وهم أموات ، إن هذا لعجيب!! وهؤلاء الأصنام لا تشعر في أى وقت يبعث عبدتهم من الكفار ، وهذا ضرب من التهكم بهم عظيم إذ شعور الجماد بالأمور الظاهرة والمحسوسة مستحيل فكيف بالأمور الخفية التي لا يعلمها إلا اللّه ؟ !!(2/303)
ج 2 ، ص : 304
إلهكم أيها الناس إله واحد لا إله إلا هو المعبود بحق إذ هو وحده الخالق المدبر لهذا الكون ، وهو فاطر السموات والأرض فكيف يعبد غيره من المخلوقات بل من الأحجار والأوثان والجمادات ؟ !! وإذا كان هو الحق لا شك فيه ، فما سبب هذا الشرك ؟
الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها ، ولا يؤمنون بالوحدانية ، قلوبهم منكرة لا يؤثر فيها وعظ ، لا ينفع معها تذكير ، والحال أنهم مستكبرون عن الحق متعالون على الصواب ، دائبون على الكفر والجحود ، حقا إن ربك يعلم ما يسرون وما يعلنون ، وهو مجازيهم على أفعالهم ، إنه لا يحب المستكبرين أبدا ، ألست معى أن سبب الكفر هو غلق القلوب وختمها بالخاتم حتى لا يدخلها نور ؟ وهؤلاء لا يسمعون وإن كانت لهم آذان ، ولا يبصرون وإن كانت لهم عين ، ولا يفقهون وإن كان لهم قلب ، وذلك أن روحهم خبيثة مظلمة بداء الكبر والتكبر ، ولقد كان امتناع وليهم إبليس عن امتثال أمر ربه لسبب واحد هو التكبر قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص 76] أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً [الإسراء 61] ولقد صدق اللّه : إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ [غافر 56].
المستكبرون وجزاؤهم [سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)(2/304)
ج 2 ، ص : 305
المفردات :
أَساطِيرُ أباطيل وترهات القدماء أَوْزارَهُمْ ذنوبهم الْقَواعِدِ الأسس التي عليها البناء تُشَاقُّونَ تعادون أنبيائى بسببهم الْخِزْيَ الهوان والذل فَأَلْقَوُا السَّلَمَ المراد استسلموا وأقروا للّه بالربوبية.
المعنى :
الذين لا يؤمنون بالآخرة ، قلوبهم منكرة ، وهم مستكبرون ، وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ؟ : أى شيء أنزله ربكم ؟ ومن هو السائل ؟ هل هو الوافد عليهم أو هو واحد من المسلمين أو هو النضر بن الحارث ؟ وقال هذا تهكما قالوا في الجواب عن السؤال : ما تدعون نزوله عليكم أيها المسلمون إن هو إلا أساطير الأولين وأباطيل المتقدمين.
قالوا هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم وذنوبهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة وليحملوا أوزار من يضلونهم ويتبعونهم في ذلك بغير علم ، وهم العوام فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ألا ساء ما يحملون! وبئس شيئا يحملونه هذا.(2/305)
ج 2 ، ص : 306
ولا غرابة في ذلك فها هي ذي حال من تقدمهم من الأمم يحكيها الحق - تبارك وتعالى - بقوله : قد مكر الذين من قبلهم ، وفعلوا المكايد لدين اللّه ، واحتالوا بكافة الطرق أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ « 1 » هؤلاء الماكرون قديما قد أتى اللّه بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ، وهذا تمثيل والمعنى : أهلكهم اللّه فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه ، وأحبط اللّه أعمالهم ، وأبطل كيدهم ، وانظر إلى السر في قوله تعالى : من فوقهم والسقف لا يكون إلا من فوق. السر هو تأكيد سقوط السقف ، وهلاكهم تحته بسببه ، وأتاهم العذاب من كل مكان ومن حيث لا يشعرون ، فاعتبروا يا أهل مكة ، هذا عذابهم في الدنيا ..
أما في الآخرة فها هو ذا.
ثم يوم القيامة يخزيهم ويذلهم ، ويقول بواسطة الملائكة لهم تأنيبا وتهذيبا : أين شركائى ؟ أين آلهتكم التي عبدتموها من دوني ؟ أين الذين كنتم تشاقون فيهم رسلي ، وتعادونهم ؟ !! قال الذين أوتوا العلم من الملائكة والمؤمنين : إن الخزي اليوم والهوان ، والذل والحسرة والسوء على الكافرين وحدهم.
الذين تتوفاهم الملائكة حالة كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي ، لما حضرهم الموت وبدا لهم ما كانوا ينكرون ألقوا السلم واستسلموا لقضاء اللّه ، وتيقنوا أن قول الرسل حق ، وأنه لا إله إلا اللّه ، وقالوا لسوء تقديرهم وظنّا منهم أن ذلك ينفع :
ما كنا نعمل سوءا ، فيرد اللّه عليهم بلى : قد عملتم السوء كله إن اللّه عليم بما كنتم تعلمون ...
فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس المثوى والمآب مثوى المستكبرين إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ .. [سورة الصافات آية 35].
المتقون وجزاؤهم [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
___________
(1) سورة التوبة الآية 32.(2/306)
ج 2 ، ص : 307
هذه مقالة المؤمنين واعتقادهم في المنزل عليهم وهو القرآن إثر مقالة المشركين والمستكبرين عليه. ليظهر الفرق واضحا بين الاثنين.
المعنى :
وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم ؟ والسائل هم الوافدون على المسلمين في المواسم والأسواق ، وذلك أن رسل العرب كانت تأتى إلى مكة فإذا صادفت مشركا قال في شأن محمد والقرآن : هذا ساحر. كاذب. شاعر وما أنزل عليه أساطير الأولين ، وإذا صادفت مؤمنا قال : ما حكاه القرآن ها هنا. قال المتقون في جوابهم : أنزل ربكم خيرا ، وانظر يا أخى في الجوابين جواب المشركين أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وجواب المسلمين قالُوا خَيْراً ولعل التخريج كما ذكر القرطبي أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل وقالوا أساطير الأولين بالرفع والمؤمنون آمنوا بالنزول المستمر فقالوا : أنزل خيرا وهذا أساسه الإعراب في الآية.
للذين أحسنوا في هذه الدنيا بالإيمان والعمل حسنة من النصر والفتح والعز والسلطان ، ولدار الآخرة ونعيمها وما فيها خير وأبقى لهم ، فهم يثابون على عملهم الطيب في الدنيا والآخرة وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى في الدنيا وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أى في الآخرة ...
ولنعم دار المتقين جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار ، لهم فيها ما يشاءون من متاع ونعيم مثل هذا الجزاء العظيم يجزى اللّه المتقين ، الذين تتوفاهم الملائكة طيبين طاهرين(2/307)
ج 2 ، ص : 308
من الشرك والعمل السيئ ، وزاكية أعمالهم وأقوالهم ، تقول الملائكة لهم : سلام عليكم من اللّه ، ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون من عمل ، وذلك كله تفضل من المولى إذ العمل وحده لا يكفى
للحديث « لن يدخل أحد منكم الجنّة بعمله ، قالوا : حتّى أنت يا رسول اللّه! قال : حتّى أنا إلّا أن يتغمّدنى اللّه برحمته » .
عاقبة الكفار [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
المعنى :
ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ثم يأخذون جزاءهم ، أو يأتى أمر ربك بالعذاب والنكال لهم في الدنيا ، أو يأتى أمر ربك بحدث القيامة وما فيها من عذاب لهم ، لأنهم تسببوا في لحوق ما ذكر بهم ، وشبهوا بالمنتظرين المتوقعين لحدوثه ، كما فعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم ، وكان الجزاء على ذلك واحدا ، وما ظلمهم اللّه ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
كذلك فعل الذين من قبلهم مثل أفعالهم فأصابهم سيئات فعلهم ، وحاق بهم جزاؤه ، وأحاطهم خطر ما كانوا يستهزئون ، فإنهم كانوا يستعجلون العذاب ، ويطلبونه استهزاء بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكفرا ، وظلوا كذلك حتى حاق بهم العذاب ، وأحاط بهم الخطر من كل جانب.(2/308)
ج 2 ، ص : 309
بعض حججهم الواهية [سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 40]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
المفردات :
اجْتَنِبُوا اتركوا الطَّاغُوتَ كل ما عبد من دون اللّه فهو طاغوت ، وقيل الطاغوت : الشيطان والمراد اجتنبوا ما يدعو إليه مما نهى عنه الشرع ، والطاغوت من الطغيان وهو مجاوزة الحد حَقَّتْ وجبت وثبتت لإصراره على الكفر.(2/309)
ج 2 ، ص : 310
المعنى :
لما سدت السبل أمام المشركين ، ولزمتهم الحجج الدامغة ، تهربوا وقالوا : لو شاء اللّه ما أشركنا ، ولا فعلنا محرما أبدا ، وهم يقصدون بذلك الطعن في الرسالة : قال الشوكانى في كتابه فتح القدير : « ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة الطعن في الرسالة أى : لو كان ما قاله الرسول حقا من المنع من عبادة اللّه ، والمنع من تحريم ما لم يحرمه اللّه حاكيا الرسول ذلك عن اللّه. ولو كان هذا صحيحا لم يقع منا ما يخالف ما أراده اللّه. فإنه قد شاء ذلك وما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن ، فلما وقعت منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه كان ذلك دليلا على أن ذلك المطابق لمراده والموافق لمشيئته ، مع أنهم في الحقيقة لا يعترفون بذلك ، ولا يقرون لكنهم قصدوا بذلك الطعن على الرسل.
وقال المشركون : لو شاء اللّه ما عبدنا شيئا حال كونه من دون اللّه أى غيره ، نحن ولا آباؤنا من قبل ، ولا حرمنا شيئا حال كونه دونه أى : دون اللّه ، والمراد :
ما حرمنا شيئا مستقلين بتحريمه.
مثل ذلك الفعل ليس جديدا بل كذلك كذب الذين من قبلهم رسلهم ، ولجئوا إلى مثل هذه الطرق. وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق ، فهل على الرسل إلا البلاغ الواضح الذي يبين الشريعة وأحكامها! وأما علم اللّه وإرادته ، فشيء آخر ولقد بعثنا في كل أمة رسولا لإقامة الحجة عليهم بأن اعبدوا اللّه حق العبادة واتركوا كل معبود سواه كالشيطان والصنم الكاهن ، وكل من دعا إلى ضلال وتجاوز حدود الدين والعقل.
فمنهم من هداه اللّه ووفقه فآمن وامتثل ، ومنهم من حقت عليه الضلالة وثبتت لإصراره على الذنب والمعاصي فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [سورة الشمس 8 - 10].
ومن هنا نعلم أن اللّه أرسل الرسل تدعو إلى الخير وامتثال أمر اللّه ، وترك عبادة الأوثان وفعل المحرمات (و هذا معنى الهداية والدلالة) ثم بعد ذلك آمن البعض وكفر البعض فمنهم شقي وسعيد ، ولهذا عاقب من خالفه وأثاب من أطاعه فكان في ذلك(2/310)
ج 2 ، ص : 311
دليل على أن أمر اللّه - سبحانه - لا يستلزم موافقة إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان ، ولا يريد الهداية إلا للبعض ، وهذا رد لحجتهم وتفنيد لكلامهم ، ثم قال : فسيروا في الأرض. وانظروا كيف كان عقاب المكذبين ، ودعوكم من هذه الحجج الواهية ، والمناقشة الباطلة.
ثم خصص الخطاب برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ليؤكد ما تقدم بقوله :
إن تحرص على هدايتهم وتطلبها فليس يجدي ذلك شيئا فإن وراء الهداية والطلب باللسان توفيق اللّه وإلهامه ، واللّه - سبحانه - لا يهدى ولا يوافق الضالين المكذبين الذين ختم على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
انظر إليهم متعجبا وقد أقسموا باللّه ، وبالغوا في تغليظ اليمين بأن اللّه لا يبعث من يموت.
بل يبعث من يموت ، ويعد ذلك وعدا عليه حقا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يبعث اللّه الخلق ليبين لهم الذي يختلفون فيه من أمر البعث ، وليظهر لهم أنه حق أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا [الأعراف 44] ، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.
وما لكم لا تؤمنون بالعبث ؟ وتقولون من يحيى العظام وهي رميم ؟ وما علمتم أن كل شيء في الكون خاضع له سبحانه ، وإذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل آية 40].
جزاء المؤمنين وتهديد الكافرين [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 50]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)(2/311)
ج 2 ، ص : 312
المفردات :
هاجَرُوا فِي اللَّهِ الهجرة : ترك الأوطان والأهل والبلد في سبيل اللّه وهي بعد ذلك ترك السيئات من الأعمال لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم في الدنيا منزلا حسنا يَخْسِفَ خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض وخسف اللّه به الأرض غاب فيها فِي تَقَلُّبِهِمْ في أسفارهم وتصرفهم عَلى تَخَوُّفٍ مع تخوف وتوقع للبلايا ، وقيل التخوف والتنقص في المال والأنفس والثمرات يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ يميل من جانب إلى جانب ومنه قيل للظل بالعشي : فيء ، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق أى : رجع والفيء الرجوع ، ومنه حتى تفيء إلى أمر اللّه أى : ترجع داخِرُونَ خاضعون صاغرون والدخور : الصغار والذل.(2/312)
ج 2 ، ص : 313
المعنى :
والذين هاجروا من بلادهم وأوطانهم ، وتركوا أموالهم وأولادهم في سبيل اللّه وحبا في رضائه ، هاجروا من بعد ما ظلموا ، وذاقوا الأمرين من المشركين ، قيل نزلت في بلال. وصهيب ، وخباب ، وعمار عذبهم أهل مكة حتى ذاقوا العذاب ألوانا ، وقال قتادة نزلت في المهاجرين إلى الحبشة والأولى أن تفهم في الآية العموم ، وأنها تشمل كل من عذب في سبيل اللّه وهاجر للّه ولا مانع من أن تفهم الهجرة على أنها ترك المنهيات كما
ورد في الحديث « والمهاجر من ترك ما نهى اللّه » .
والذين هاجروا في سبيل اللّه لينزلهم اللّه منزلا ويعطيهم عطاء حسنا في الدنيا ، فيه سعادتهم وغناؤهم وعزهم ، ولأجر الآخرة أكبر وأفضل من أجر الدنيا ، إذ الآخرة هي دار الجزاء والبقاء ، لو كانوا يعملون ، ولو رأوه لعلموا أنه خير وأفضل بكثير ، هؤلاء المهاجرون هم الذين صبروا واحتسبوا أجرهم عند اللّه ، وعلى ربهم فقط يتوكلون ويعتمدون.
ولقد كانت قريش ترى أن اللّه أجل وأعلى من أن يرسل بشرا أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [سورة يونس آية 2].
فيرد اللّه عليهم بقوله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وليسوا من أهل السماء كالملائكة ، ويأمر اللّه نبيه بقوله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [سورة الإسراء آية 93].
فإن شككتم في ذلك فاسألوا أهل الذكر والعلم من أهل الكتاب فهم أدرى منكم وأعلم بالرسول إن كنتم لا تعلمون ، ويقولون لكم : إن جميع الرسل بشر ، ولم يرسل اللّه رسولا إلا وكان بشرا من خلقه أوحى إليهم بدين صحيح موافق لعصره نعم ما أرسل اللّه من قبلك إلا رجالا أوحى إليهم بالآيات البينات وأنزل معهم الكتاب.
وأما أنت يا رسول اللّه فقد أنزل اللّه إليك الذكر والقرآن لتبين للناس ما أنزل إليهم ، فأنت أدرى الناس به ، وأحرص الناس عليه وعلى اتباع الناس له ، فأنزله إليك لتبينه للناس ولعلهم يتفكرون ويهتدون.
أعمى هؤلاء الكفار فأمنوا جزاء مكرهم وعملهم السيئات!! أفأمنوا أن يخسف(2/313)
ج 2 ، ص : 314
اللّه بهم الأرض كما خسف بقارون ، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ، وهم في حال غفلتهم كما فعل بقوم لوط.
أو يأخذهم على تخوف أى حال تخوف وتوقع العذاب ، وقيل على تخوف أى :
على تنقص في المال والولد والزرع والثمار ، فإن ربكم لرؤوف رحيم حيث لم يعاجل بالعقوبة بل أمهل رجاء التوبة والرجوع إلى الخالق. وما لهم ينكرون ذلك!! ويؤمنون على أنفسهم العذاب!! أو لم يروا إلى ما خلق اللّه من شيء يتفيأ ظلاله ، ويميل من جانب إلى جانب ، وفي هذا من مظاهر القدرة والعظمة ما لا يخفى فإن دوران الأرض ، وتحركها حتى يتحول وجهها من جهة إلى جهة ، والظل من حال إلى حال لدليل على عظمة اللّه وكمال قدرته ، يتفيأ الظل على اليمين والشمائل ، ساجدين لأمره ، وهم صاغرون وخاضعون للّه ، ولا شك أن انتقال الظل من حال إلى حال دليل على القدرة الكاملة ، هذا في الجمادات أما الأحياء فلله وحده يسجد كل ما في السموات وكل ما في الأرض من دابة ، وقد سجد الملائكة والحال أنهم لا يستكبرون أبدا عن شيء كلفوا به أو أراده اللّه لهم. فالكل يسجد إن طوعا وإن كرها يخافون ربهم من فوقهم فوقية مكانة لا مكان ، وهم يفعلون ما يؤمرون.
مناقشة المشركين في عقائدهم وأعمالهم [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 62]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)(2/314)
ج 2 ، ص : 315
المفردات :
الدِّينُ الطاعة والإخلاص واصِباً دائما. واجبا خالصا. تَجْئَرُونَ تضجون بالدعاء ، يقال جأر يجأر جؤاره ، والجؤار مثل الخوار وهو صوت البقر مُسْوَدًّا المراد متغيرا والسواد كناية عن غمه بالبنت كَظِيمٌ ممتلئ غما وحزنا ، أو هو المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من شدة الألم مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة يَتَوارى يختفى ويغيب هُونٍ هون وبلاء يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ يواريه في التراب ويرده إليه مَثَلُ السَّوْءِ المثل المراد به الصفة الغريبة غرابة المثل مُفْرَطُونَ متروكون فيها مقدمون إليها.(2/315)
ج 2 ، ص : 316
المعنى :
بعد ما ثبت أن كل ما في الكون خاضع للّه - سبحانه وتعالى - ، ومنقاد لأمره أتبع ذلك بالنهى عن الشرك ، ببيان بعض فضائح العرب المشركين وأعمالهم علهم يرجعون ويثوبون إلى رشدهم.
وقال اللّه - سبحانه - : لا تتخذوا إلهين اثنين إنما اللّه إله واحد فالألوهية منحصرة في الذات الأقدس - جل جلاله - .
وقد يقال : ما فائدة زيادة اثنين بعد قوله إلهين ، وزيادة واحد بعد قوله إله ؟ وقد قالوا في الجواب : إن الزيادة لأجل المبالغة في التنفير من اتخاذ الشريك حيث قال :
إلهين اثنين ، وكانت زيادة (واحد) دفعا لتوهم أن المراد إثبات الألوهية دون الوحدة ، وخلاف المشركين منصب على الوحدة في الإله.
إن كنتم ترهبون شيئا في الوجود فإياى وحدي فارهبون.
وكيف لا يكون ذلك ؟ وللّه كل ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا ، وله الدين والطاعة ، والإيمان والإخلاص ثابتا. واجبا دائما ، إذ ليس لأحد أن يطاع ، إلا انقطع ذلك بهلاكه أو زوال ملكه ، إلا اللّه - سبحانه وتعالى - فطاعته دائمة ثابتة واجبة.
أفغير اللّه بعد ذلك تتقون وتخافون ؟ ؟ ؟
وما بكم من نعمة أيّا كان لونها وجنسها فمن اللّه وحده. فعلى العاقل ألا يشرك باللّه ، وألا يعبد إلا اللّه ، وألا يتقى إلا اللّه.
ولكن الإنسان يتلون ، ولا يتجه الوجهة الصحيحة وهو غارق في بحار النعمة ولذا يقول اللّه : ثم إذا مسكم الضر في نعمة من صحة أو ولد أو مال فإلى اللّه - سبحانه - تجأرون ، وتتضرعون في كشف الضر عنكم ، إذ لا يكشف الضر إلا هو ، ثم إذا كشف الضر عنكم ، ورفع ما نزل بكم عاد بعض أفراد الإنسان إلى طبعه ، وإذا فريق منكم يا بنى آدم يشركون بربهم ، ألست تعجب من فعل هؤلاء حيث يضعون الشرك باللّه الذي أنعم عليهم بكل نعمة ، وكشف عنهم ما نزل بهم من ضر جعلوه مكان(2/316)
ج 2 ، ص : 317
الشكر له ؟ فعلوا هذا ليكفروا بما آتيناهم من نعمة ، حتى كأن هذا الكفر منهم - الواقع موقع الشكر الواجب عليهم - غرضا لهم ومقصدا انظر إلى قوله : لِيَكْفُرُوا وهذا غاية في العتو والفساد ثم قال لهم ربهم على سبيل التهديد : فتمتعوا بما أنتم فيه فسوف تعلمون عاقبة أمركم ونهاية عملكم.
ثم حكى - سبحانه وتعالى - نوعا آخر من قبائحهم فقال : ويجعلون للأصنام التي لا يعلمون حقيقتها نصيبا مما رزقناهم.
أليس عجبا أن يجأر هؤلاء إلى اللّه بالدعاء إذا مسهم الضر ، ثم إذا أزاح عنهم الضر أشركوا به غيره ، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات أو لما صنعوه بأيديهم نصيبا مما رزقناهم من الأموال يتقربون به إليه ... تاللّه قسما بذاته العليا لتسألن عما كنتم تفترون وتختلقون من الأكاذيب والضلالات.
وهؤلاء يجعلون للّه البنات وقد كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات اللّه ..
سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا! ولهم ما يشتهون من الذكور أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم 21] أى : جائرة. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.
[الصافات 151 و152].
إن هذا لعجيب!! البنات للّه والذكور لهم!! وهم يأنفون من البنات ، وإذا بشر أحدهم بالبنت ظل وجهه مسودا ، وظل كئيبا حزينا كاسف البال لأنه بشر بولادة أنثى ، ويظل في حيرة من أمره أيمسك المولود الأنثى على هوان وذل وعار وفقر أم يدسه في التراب ؟ وكانوا يصنعون ذلك في الجاهلية ، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون أن يجعلوه لأنفسهم يجعلونه للّه ؟ !! ألا ساء ما يحكمون!! لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة وما فيها مثل السوء والصفة السوءى التي لا أسوأ منها ، وللّه - سبحانه - المثل الأعلى والكمال المطلق وهو العزيز الحكيم.
وهو الرحمن الرحيم واسع الكرم كثير الحلم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ، ويعاقبهم على جرمهم فورا ما ترك على ظهر الأرض من دابة ، ولكنه - جل جلاله - حليم ستار غفور رحيم ، وهو يؤخرهم إلى أجل مسمى عنده فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، وعندئذ يأخذ المسيء جزاءه حتما بلا تأخير ولا إمهال.(2/317)
ج 2 ، ص : 318
ثم رجع الحق - تبارك وتعالى - إلى أعمال الجاهلين فقال : ويجعلون للّه ما يكرهون من البنات والشركاء الذين هم عبيده ، والعجب العاجب أن تصف ألسنتهم الكذب فيقولون كذبا وزورا أن لهم الحسنى على هذا العمل ، لا : ليس الأمر كما تزعمون ، حقا إن لهم النار وأنهم مفرطون ومتروكون فيها ومنسيون ، ومعجلون إليها ومتقدمون.
من مظاهر قدرته ونعمه علينا [سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 69]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)(2/318)
ج 2 ، ص : 319
المفردات :
فِي الْأَنْعامِ الإبل والبقر بنوعيه والضأن والمعز لَعِبْرَةً العبرة تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة فَرْثٍ الفرث ما ينزل إلى كرش الحيوان فأما الخارج منه فلا يسمى فرثا سَكَراً السكر ما يسكر من الخمر ، وقيل غير ذلك وَرِزْقاً حَسَناً جميع ما يأكل من هاتين الشجرتين وَأَوْحى الوحى قد يستعمل بمعنى الإلهام وهو ما يخلق في القلب ابتداء من غير سبب كالغرائز والطبائع في الحيوان مِمَّا يَعْرِشُونَ من الذي يعرشه ابن آدم ويعمله بيده كالخلايا من الطين والغاب والخلايا الحديثة من الخشب والزجاج.
بعد ما ذكر بعض صنيع العرب في جاهليتهم ووقوفهم من الدعوة الإسلامية موقف المشرك المعاند أخذ يذكر أن هذا طبع في الناس قديما وحديثا ليعلم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه ليس بدعا من الرسل ، وليس قومه منفردين بالعتو والاستكبار ثم أخذ بعد ذلك يعدد نعمه علينا وأياديه المختلفة.
المعنى :
تاللّه العلى القدير (إنه لقسم من اللّه بنفسه) لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلهم فوقفوا منهم مثل ما وقفوا معك : وزين لهم الشيطان أعمالهم ، وفي هذا إشارة إلى أن الأنبياء جميعا يدعون إلى ناحية الخير والروح في الإنسان ، والشيطان دائما يقف منهم موقف العناد ويستغل ناحية المادة في الإنسان ويزين له عمله السوء ومعاكسة الأنبياء.
زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة فهو وليهم اليوم ، وقرينهم في الدنيا ، ويحتمل أن يكون المعنى فهو وليهم وناصرهم اليوم أى يوم القيامة ، والمراد نفى الناصر عنهم على أبلغ وجه.
وقيل المعنى : فهو ولى هؤلاء الكفار اليوم ، ولهم في الآخرة عذاب أليم. ولم يكن هلاك الأمم وعذابهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ، وأنت مع أمتك كذلك ، ولهذا قال :
وما أنزلنا عليك الكتاب أى : القرآن لحال من الأحوال أو لعلة من العلل إلا لتبين(2/319)
ج 2 ، ص : 320
للناس الذي اختلفوا فيه من العقائد والعبادات ، والناس كما قلنا بين داعيين : داعي البشرية المادية التي هي ارتكاز الشيطان ، وداعي الروح الطيبة التي هي من اللّه ، وجاءت الرسل تحكم بين الداعيين وفيما اختلفوا فيه من الاتجاهات ، وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى للناس ورحمة لقوم يؤمنون ، أليس القرآن وبيانه للمختلف فيه وهدايته ورحمته من أجلّ النعم ؟ ! ، ثم عاد الكلام إلى بيان نعم اللّه علينا المادية بعد بيان أكبر نعمة في الوجود لأنها تتعلق بالهداية والإرشاد وسلوك الطريق الحق.
واللّه - سبحانه - أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، ألم تر إلى الأرض وهي هامدة فإذا أنزل اللّه عليها الماء اهتزت وتفاعلت مع البذور وربت وانتفخت وأنبتت من كل زوج بهيج ، ذلك النبات الأخضر ، اليانع الذي يخرج من تراب فيه ماء ، فبدل العفونة التي تنشأ من وضع شيء غريب في الأرض المبتلة يخرج نبات بهجة للناظرين ، إن في ذلك لآية لقوم يسمعون كلام اللّه ويتدبرون معناه.
نعم وإن لكم في الأنعام لعبرة وعظة ، ودلالة على قدرة اللّه ووحدانيته وعظمته ، وقال أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم ، وتمردك على ربك ، وخلافك له في كل شيء ، ومن أعظم العبر برىء يحمل مذنبا.
وإن لكم يا بنى آدم في الأنعام لعبرة وعظة حيث نسقيكم مما في بطونه لبنا خالصا من كل شيء يكدر صفوه سائغا للشاربين لذيذا وهنيئا ، لا يغص به شاربه ، فيه الغذاء الكامل الذي يكفى عن كل طعام وشراب ، ويكفى أنه يغذى الطفل مدة من الزمن فلا يحتاج لغيره واللبن من بين الأطعمة قد أظهر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مكانته بقوله إذا أكل غيره ولو لحما
« اللهم بارك لنا فيه وزدنا خيرا منه ، وإذا أكل اللبن قال : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه »
والطب الحديث يعرف مقدار اللبن ويفسر لنا كلام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم تفسيرا عمليا.
هذا اللبن خرج من بين فرث ودم ، يا سبحان اللّه! إنه من غذاء الحيوان ، والغذاء تتحول عصارته إلى فرث ، وإلى دم وإلى لبن بواسطة شعيرات دقيقة حول أنسجه الجهاز لهضمه يا سبحان اللّه!! أنت القدير الحكيم ، ومن الذي علم هذا الرجل الأمى الذي نشأ في بيئة أمية جاهلة لم تعرف شيئا أبدا ؟ !! إنه اللّه الذي أنزل عليه القرآن كتابا أحكمت آياته.(2/320)
ج 2 ، ص : 321
ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا وخمرا ، وتتخذون رزقا حسنا في مطعمكم ومأكلكم ، فثمر النخيل والعنب وما شاكلهما يتخذ منه عصير الخمر ، ومادة الأكل والرزق الحسن.
يقولون إن هذه أول آية نزلت في تحريم الخمر ، وقد نزلت بمكة لأن السورة مكية ، وتحريم الخمر في المدينة ، وقد سأل بعضهم كيف تكون هذه أول آية في تحريم الخمر ؟
ولأنها أول آية في تحريم الخمر التي امتدت جذورها وتأصلت عند العرب كانت الإشارة فيها للتحريم إشارة بعيدة الغور ، حيث كانت ثمرات النخيل والعنب سكرا ورزقا حسنا فوصف الرزق منها بأنه حسن وترك السكر دليل على أنه ليس بحسن ، وفي هذا إشارة إلى خلو ذلك من الخير والحسن ، وفي الآيات التالية لتحريم الخمر أبان خطرها وضررها ، والآية الكريمة التي معنا دلالة على قدرة اللّه وعظمته إن في ذلك لآية لقوم يعقلون.
وأوحى ربك إلى النحل ، وجعل من غريزتها وطبعها ذلك. أوحى لها أن اتخذى من الجبال وكواها بيوتا ، وكذلك من الشجر وجوفه ، ومما يعرش ابن آدم ، ويصنع لك ويهيأ من الخلايا على النظام القديم والحديث وقد أوحى اللّه لها وألهمها أن كلى من رحيق كل الثمرات ، يا سبحان اللّه هذا الكون وحدة لا يتجزأ ، ولا يمكن أن يكون نظامه مصادفة ، بل لا بد له من إله مدبر عالم حكيم قوى قادر ، هذه النحلة التي ألهمت تأكل من كل الثمرات ، وتدخل في أكمام الأزهار تبحث عن الغذاء هي التي تنقل على أجنحتها تلقيح الأزهار من الذكر إلى الأنثى من حيث لا تشعر ، ويظهر أن لكل كائن في الوجود رسالة يؤديها علم بها أو لم يعلم ، أوحى لها أن كلى من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك مذللة طائعة.
يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه هو العسل.
يا سبحان اللّه!! لقد صدق من قال : ورق التوت : يأكله الدود فيخرج منه الحرير ، ويأكله الظبى فيخرج منه المسك ، ويأكله النحل فيخرج منه العسل ، ويأكله المعز فيخرج منه الروث.
هذا العسل فيه شفاء للناس ، نعم فيه شفاء لكثير من الأدواء ، ولقد حدثنا أستاذنا الدكتور محمد جعفر عن فوائده الطبية بما به عرفنا أن فيه شفاء لكثير من أمراض الناس.(2/321)
ج 2 ، ص : 322
إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ويتعظون.
من عجائب قدرة اللّه وآياته ووجدانيته [سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 74]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)
المفردات :
أَرْذَلِ الْعُمُرِ أردؤه يَجْحَدُونَ يكفرون حَفَدَةً جمع حافد وهو المسرع في الخدمة المسارع في الطاعة ولذا قيل الحفدة هم الأعوان والخدم ، والرأى أنهم أولاد البنين.(2/322)
ج 2 ، ص : 323
المعنى :
هذا لون آخر من ألوان صنعه الباهر ، ومظهر من مظاهر قدرته وألوهيته في الإنسان ، وما يتصل به بعد بيان ذلك في المطر والنبات والحيوان.
واللّه خلقكم يا بنى آدم ، ولم تكونوا شيئا ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وأردئه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ « 1 » . اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً « 2 » فمن يكبر في السن حتى يبلغ أرذل العمر يفقد قوة إحساسه وشعوره العام ، بل ويصبح كالطفل من ناحية إدراكه ورغبته في تحقيق ما تصبو إليه نفسه ، ولقد صدق اللّه حيث علل بلوغه أرذل العمر بقوله : لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً من العلم لا كثيرا ولا قليلا بعد علم كان قد حصل له ، أما تحديد أرذل العمر فذلك موكول إلى ظروف الإنسان ، وإن كان الغالب أن يكون بعد الخامسة والستين.
وهذا حكم غالبى
ففي الحديث ما معناه : « خير الناس من طال عمره وحسن عمله ، وشر الناس من طال عمره وساء عمله » .
واللّه فضل بعضكم على بعض في الرزق ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا ، ولم يترك اللّه الغنى يعبث بماله حيث شاء ، بل جعل للفقير في ماله حقا معلوما ، وللدولة ممثلة في الحاكم المسلم حق آخر تبعا لظروف الدولة العامة.
ومع هذا فما الذين فضلهم اللّه بسعة الرزق على غيرهم برادي رزقهم - الذي أعطاه اللّه لهم بلا سبب - فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم من عبيدهم وإمائهم فالمالكون والمملوكون في الرزق سواء عند اللّه إذ هم أنفقوا من مال جعلهم اللّه خلفاء عليه.
ومعنى الآية بالتوضيح أن اللّه فضل بعضا على بعض في الرزق ، وأوجب على الغنى أن يعطى الفقير ، وعلى المالك أن يعطى المملوك ، ومع هذا فلم يعط غنى فقيرا ولم يرد مالك على مملوك رزقا حتى يتساوى معه ، وإنما يردون عليهم شيئا يسيرا ، وندرا قليلا في بعض الأحيان.
وهذا مثل ضربه اللّه للناس بمعنى : إذا كنتم لم ترضوا أن يكون خدمكم معكم
___________
(1) سورة التين الآيتان 4 و5.
(2) سورة الروم الآية 54.(2/323)
ج 2 ، ص : 324
بل والفقير من جلدتكم وعصبتكم يكون معكم سواء في الرزق الذي رزقكم إياه اللّه فكيف تجعلون عبيدي معى سواء ؟ ! وتجعلونهم لي شركاء في الألوهية ، وأنتم وخدمكم سواء في البشرية وأنتم تنفقون مما جعلكم خلفاء فيه ، ومع هذا ما رضيتم بالتساوي ، فكيف تسوون بين الخالق البارئ فاطر السموات والأرض وهذه الأصنام والأوثان ؟ ! أتشركون به فتجحدون نعمته عليكم التي ذكر جزء منها في هذه السورة ؟ ! واللّه جعل لكم من أنفسكم وجنسكم أزواجا لكم تسكنون إليهم ، وجعل بينكم مودة ورحمة ، وجعل لكم منهم بنين وحفدة.
ورزقكم من الطيبات التي تستطيبونها في الدنيا أعموا ؟ فبالباطل من الشركاء والأصنام يؤمنون به وحده ، وبنعمة اللّه البينة السابقة التي لا تعد ولا تحصى هم يجحدون ويكفرون ؟ ! ويعبدون من دون اللّه أشياء لا تملك لهم رزقا أى رزق من السموات والأرض ، ولا يستطيعون هذا أبدا ، وانظر إلى الجمع بين نفى الملك ، ونفى الاستطاعة ، وإذا كان الأمر كذلك فلا تضربوا للّه الأمثال والأشباه والنظائر فلله المثل الأعلى ، وهو لا يشبه أحدا من خلقه أيا كان ، واعلموا أن البحث في كنه ذات للّه إشراك ، والوقوف عند ما أجمله اللّه إدراك.
وقد كانوا يقولون ، إن الملوك تخدمهم الأكابر ، والأكابر تخدمهم العبيد فهؤلاء أصنام نتخذهم قربى وواسطة إلى اللّه العلى الكبير ، وهذا خطأ فاحش ، وفهم سقيم وقياس الخلق على الخالق.
ليس بينك وبين اللّه حجاب ، وليس له وزير ولا حاجب بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد ، وهو الذي يقول : وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة 186].
إن اللّه يعلم وأنتم لا تعلمون شيئا فاسمعوا وأطيعوا يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ...(2/324)
ج 2 ، ص : 325
مثل الأصنام والأوثان [سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 79]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
المفردات :
أَبْكَمُ الأبكم من ولد أخرس ، وقيل : الذي لا يسمع ولا يبصر كَلٌّ ثقل على وليه وقرابته ، ووبال على صاحبه وابن عمه ، ولذا يسمى اليتيم كلا لثقله(2/325)
ج 2 ، ص : 326
على من يكفله كَلَمْحِ الْبَصَرِ اللمح النظر بسرعة مُسَخَّراتٍ مذللات لأمر اللّه تعالى جَوِّ السَّماءِ الجو هو ذلك الفضاء اللانهائى المحيط بالأرض.
المعنى :
ضرب اللّه مثلا للأصنام المعبودة وهي لا تنفع ولا تضر ، واللّه الواحد الخالق البارئ فاطر السموات والأرض ، واهب الوجود ، والمنعم بكل شيء موجود ، ضرب اللّه مثلا : عبدا مملوكا لمالكه ، وهو لا يقدر على شيء أبدا ، فلا ينفع نفسه ولا غيره ، وحرا رزقناه منا رزقا حسنا ، وأعطيناه مالا وفيرا ، فهو ينفق المال سرا وجهرا في جهات الخير والبر ، هل يستوي هذا الذي لا خير فيه مع هذا الحر الغنى المنفق في وجوه البر والخير ؟ هل يستوي الضار مع النافع ؟ ! لا يستوي هذا وذاك أيضا! ، ومن يسوى بين الصنم من حجارة أو خشب الذي لا يدفع عن نفسه الذباب وبين المولى القدير - جل جلاله - وتباركت أسماؤه صاحب اليد والنعم ، وله ملك السموات والأرض ، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء.
الحمد للّه ، والثناء بالجميل والشكر الجزيل للّه الواحد القهار المنعم بجلائل النعم ، والمتفضل بجلائلها ، لا مانع لما أعطى. ولا معطى لما منع ، هو المستحق وحده للحمد والثناء لا إله إلا هو ، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فيتبعوه ، ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة فيخصوه وحده بالتقديس والتنزيه.
ثم ضرب اللّه - سبحانه - مثلا ثانيا لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية ، وللأصنام التي هي أموات بل لم تسبق لها الحياة وهي لا تضر ولا تنفع فقال.
وضرب اللّه مثلا رجلين أحدهما أبكم عيى مفحم ، مقطوع اللسان أخرس ، لا يقدر على شيء أبدا لعدم فهمه ، وعدم قدرته على النطق ، لا يقوم بحاجته ، ولا يؤدى عمله وهو كل على مولاه ، وثقل على قرابته ، هذا الإنسان الأبكم الذي لا يقدر على تحصيل شيء أبدا ، وهو كل على مولاه ، أينما يوجهه إلى أى جهة أخرى لا يأت بخير قط لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له.(2/326)
ج 2 ، ص : 327
هل يستوي هذا الذي وصفناه هو والذي يأمر بالعدل ، ويسير بالعدل ، ويحكم بالعدل ، ويأمر بالعدل ، وينطق ويفهم ويتصرف على أتم وجه وأكمله ؟ ! وهو في نفسه على صراط مستقيم ، ودين قويم ، وسيرة صالحة لا إفراط فيها ولا تفريط.
وحاصل الوصفين في المثل الثاني أن الأول لا يستحق شيئا ، والثاني يستحق أكمل وصف ، والمقصود الاستدلال بعدم تساوى هذين الموصوفين على امتناع التساوي بينه وبين ما يجعلونه شريكا له.
ولما فرغ من ذكر المثلين أخذ يتحدث عن نفسه فقال :
وللّه وحده - سبحانه - غيب السموات والأرض ، يختص بذلك لا يشاركه أحد من خلقه ، وما أمر الساعة التي هي محط الأنظار ، ومحل البحث والجدل بين المنكرين وبين الذين يؤمنون بالبعث ويوم الساعة ، إلا كلمح البصر ، أو غمضة العين ، أو هو أقرب. وهذا مثل في وصف سرعة القدرة على الإتيان بها لأن اللّه إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، إن اللّه على كل شيء قدير.
واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم ، لا تعلمون شيئا ، وجعل لكم طرق العلم ، وسبل الإدراك وهي السمع والبصر والفؤاد ، لتدركوا البيئة التي أنتم فيها ، وتقفوا على أسرارها ، واللّه خلق كل هذا لكي تصرفوا كل حاسة فيما خلقت له ، ولعلكم بهذا تشكرون ربكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم ، ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ومذللات للطيران في أرجاء الفضاء ، ما يمسكهن وهن طائرات إلا اللّه ، ألم يروا إلى الطائر يطير في الجو باسطا جناحيه أو قابضهما ما الذي حمله في الهواء وهو جسم ثقيل ؟ ومن الذي خلق في الطائر حب الطيران ؟ وذلّله وعلمه كيف يطير اللّه - سبحانه وتعالى - ..
من نعم اللّه علينا [سورة النحل (16) : الآيات 80 الى 83]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (28) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)(2/327)
ج 2 ، ص : 328
المفردات :
سَكَناً أى : تسكنون فيها وتهدءون تَسْتَخِفُّونَها يصير خفيفا عليكم حملها ظَعْنِكُمْ الظعن سير أهل البادية للانتجاع وللانتقال من موضع إلى آخر أَثاثاً الأثاث متاع البيت ، وفيه معنى الكثرة ، ومنه شعر أثيث أى كثير أَكْناناً جمع - كن وهو الغار يتحصن فيه الإنسان من المطر ، ويأوى إليه من وهج الشمس وضوضاء الناس سَرابِيلَ جمع سربال وهو القميص أو كل ما يلبس.
هذا امتداد لبيان نعم اللّه على خلقه ، وتعداد آيات اللّه على عبيده بعد ما ثبت أن آلهتهم لا تضر ولا تنفع ، وفي هذا تنفير من الشرك وغرس لبذور التوحيد ، وكشف لمظاهر قدرة اللّه ونعمه علينا.
المعنى :
واللّه جعل لكم من بيوتكم التي تأوون إليها سكنا وراحة ، فيها تسكنون ، وبها تهدءون ، وجعل لكم من جلود الأنعام إبلها وبقرها وغنمها بيوتا يتخذها المسافر ويأوى إليها ، وتكون خفيفة في حملها ونقلها يوم سفركم وانتقالكم ويوم إقامتكم.(2/328)
ج 2 ، ص : 329
وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها - فللغنم الصوف ، وللجمال الوبر ، وللمعز الشعر - جعل من الصوف والوبر والشعر أثاثا لبيوتكم ، وجعل لكم فيها متاعا تتمتعون به إلى حد وزمن اللّه يعلمه ، ملابسنا اليوم وأثاثنا في المنازل قد يكون غير هذه الأشياء ، واللّه جعل لكم مما خلق من الأنعام والبيوت والجبال ظلالا تستظلون بها من وهج الشمس ، وزمهرير البرد.
واللّه جعل لكم من الجبال أكنانا ومغارات تأوون إليها من العدو أو خوفا من الشمس أو من زحمة الناس ، وجعل لكم سرابيل ولباسا تلبسونها فتقيكم الحر والبرد ، وسرابيل تقيكم بأسكم في الحرب والشدائد ولقد لبس النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لباس الحرب ودروعها ولأمتها استعدادا للقاء العدو ، واللّه يفعل ما يشاء.
مثل ذلك الإتمام البالغ نهايته يتم عليكم نعمته في الدنيا والآخرة للدين والدنيا رجاء أن تسلموا للّه وتنقادوا لصاحب هذه النعم وتتركوا عبادة الأوثان والأصنام واتباع الهوى والشيطان.
فإن تولوا وأعرضوا عنك يا محمد. فلا عليك شيء أبدا إنما عليك البلاغ المبين ، وعلينا الحساب والجزاء.
هؤلاء الناس يعرفون نعمة اللّه بلسانهم فإذا سألتهم من صاحبها ؟ قالوا : هو اللّه ، ثم ينكرونها بأفعالهم وعبادتهم غير اللّه.
وأكثرهم الكافرون الجاحدون وأقلهم المؤمنون الصادقون.
مشهد من مشاهد يوم القيامة [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)(2/329)
ج 2 ، ص : 330
المفردات :
يُسْتَعْتَبُونَ أصل العتب من عتب عليه يعتب إذا وجد عليه وأنكر عليه فعله وأعتبه أزال عتبة وترك ما كان يغضب عليه لأجله ، واستعتبه استرضاه ، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب ، ومنه في الحديث « لك العتبى يا ربّ حتى ترضى » وقول النابغة الشاعر الجاهلى يعتذر للنعمان ابن المنذر.
فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب
والمراد أنهم لا يقبل منهم عتاب ، ولا يكلفون بأعمال ترضى ربهم في الآخرة السَّلَمَ الاستسلام والانقياد لعذابه تِبْياناً بيانا كاملا بكل شيء.
بعد بيان آيات اللّه التي ترشدنا إلى التوحيد الخالص ونعمه على الناس وبيان أن منهم المؤمنين وأكثرهم الكافرون أخذ يتكلم عن مشاهد يوم القيامة لعل فيها عبرة وعظة.
المعنى :
واذكر لهم يا محمد يوم نبعث من كل أمة من الأمم شهيدا عليهم بالإيمان والكفر(2/330)
ج 2 ، ص : 331
والتبليغ والرسالة. انظر إلى قوله تعالى : فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء آية 41] ، ثم لا يؤذن لهؤلاء الكفار في الاعتذار والدفاع عن أنفسهم إذ لا حجة لهم ، وإيراد « ثم » يفيد أن منعهم من الكلام والاعتذار أشد عليهم من شهادة الأنبياء والرسل عليهم.
ولا هم يستعتبون إذ لا فائدة من العتاب مع العزم على السخط وعدم الرضا ، ولا هم يسترضون أى : يكلفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست دار تكليف وعمل :
وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم يوم القيامة - وقد رأوا بأعينهم ما وعدهم ربهم حقا قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم ونعبدهم من دونك!! يا حسرتنا على ما فرطنا في جنبك يا رب وهم يقصدون بذلك إحالة الذنب والإثم على هؤلاء الشركاء.
وهذا عمل المتخبط المتحير في عمله.
أما الشركاء فألقوا إليهم القول ، وردوا إليهم دعواهم أسوأ رد ، قالوا لهم : إنكم أيها الشركاء ، لكاذبون فيما تزعمون وتدعون ، وتعللون به أنفسكم.
وألقى المشركون إلى اللّه يومئذ السلم ، واستسلموا لقضاء اللّه مكرهين وانقادوا لعذابه الشديد ، وضل عنهم ما كانوا يفترونه ويدعونه من أن للّه شركاء ستشفع لهم ، وتدفع عنهم السوء.
الذين كفروا ، وصدوا عن سبيل اللّه وهو طريق الحق والإسلام زدناهم عذابا فوق العذاب ، وألما فوق الألم بما كانوا يفسدون. ويوم نبعث من كل أمة شهيدا يشهد عليهم من أنفسهم إتماما للحجة ، وقطعا للمعذرة ، وتأكيدا لما مضى.
وجئنا بك يا محمد شهيدا على هؤلاء الأنبياء ، فأنت الحكم العدل الذي تقضى بين الأمم وأنبيائها ، وكتابك الذي أنزل عليك هو المهيمن على ما سبقه من الكتب وشاهد على رسالاتهم.
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ، وكان كتابك فيه البيان الشافي والدواء الناجع الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ [سورة الأنعام آية 38] وهو الهداية للناس ، والراحة والبشرى التامة للمسلمين خاصة.(2/331)
ج 2 ، ص : 332
وفي كتاب الكشاف للزمخشري في تفسير هذه الآية « فإن قلت : كيف كان القرآن تبيانا لكل شي ء ؟ قلت. المعنى : أنه بين كل شيء من أمور الدين حيث كان نصّا على بعضها أو أحاله على ما فيه باتباع رسول اللّه وطاعته مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أو حثا على الإجماع في قوله. من يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وقد رضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأمته ابتاع صحابته والاقتداء بآثارهم في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، وقد اجتهدوا وقاسوا وسلكوا طريق القياس والاجتهاد ، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيان فمن ثم كان القرآن تبيانا لكل شيء.
وهذا القرآن الكريم وروافده من سنة وإجماع وقياس قد بينت لنا النظام الإسلامى الدقيق الشامل لكل نواحي الحياة من دين ودنيا وقيادة وعبادة ، فالنظم الاقتصادية والسياسية والحربية والاجتماعية وغيرها تصلح لكل زمان ومكان موجودة في هذا الفيض الإلهى ، وبأسلوب مرن يتفق مع أحدث النظريات العلمية ، وهذا هو النظام الذي وصفه الإله العليم الخبير بخلقه فهلموا إليه أيها المسلمون وفقكم اللّه إلى الخير.
أجمع آية للخير والشر [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 96]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)(2/332)
ج 2 ، ص : 333
المفردات :
بِالْعَدْلِ بالإنصاف ، والتوسط في الأمور ، والمساواة وَالْإِحْسانِ إحكام العمل وإتقانه ، ومقابلة الخير بأكثر منه والشر بأقل منه الْفَحْشاءِ من الفحش وهو الإفراط في القبح وَالْمُنْكَرِ ما أنكره الشرع ، وأباه العقل السليم وَالْبَغْيِ التطاول والظلم وتجاوز الحد وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ نقض اليمين الحنث فيه وعدم الوفاء به كَفِيلًا شاهدا ورقيبا نَقَضَتْ أفسدت مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أى إحكام له أَنْكاثاً جمع نكث بمعنى منكوث وهو المنقوض ، ونكث ونقض بمعنى واحد دَخَلًا الدخل الفساد والخديعة فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فتسقط بعد ثبوتها على ساحل الأمان.(2/333)
ج 2 ، ص : 334
هذا بيان عملي ، وتفسير لقوله تعالى : وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ ولا شك أن العدل والإحسان - بالمعنى العام - ووحدة القلوب بإعطاء ذي القربى ، والبعد عن الفحشاء والمنكر من جميع الأفراد ، والتباعد عن البغي والظلم ، والوفاء بالعهد ، وعدم نقض المعاهدات كل ذلك : دعائم لإخراج مجتمع إسلامى نظيف ، مجتمع قوى عزيز ، مجتمع كان أمل الفلاسفة والمصلحين ، وفي هذا رد على من يفهم الدين على أنه عبادة فقط أنه دين لا دولة أو أنه لا يصلح لكل زمان ..
المعنى :
إن اللّه يأمر فيما أنزله عليك يا محمد بالعدل والإنصاف والتوسط بلا إفراط ولا تفريط ، أليست كلمة العدل مع وجازتها قد جمعت كل حق وعدل وفضل وواجب في الدين والدنيا.
ويأمر بالإحسان والإتمام والكمال ، وعبادة اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .. يا سبحان اللّه تربية إلهية ، وتأديب رباني وغرس المراقبة للّه في القلوب ، وهذا خير للناس عظيم.
وبإيتاء ذي القرى ... والعطاء مطلقا شيء ندبه الدين وحببه إلينا خصوصا مع الأقارب فهو يثل السخائم ، ويجمع القلوب ، وينزع الضغائن ويظهرنا صفا واحدا كالبنيان المرصوص ، والقريب له أمل خاص فإن لم تعطه مع حاجته كان شرا عليك.
وينهى عن الفحشاء ، والفحش كل ما فيه تجاوز لحدود اللّه المحدودة ومعالمه المرسومة فمن تجاوزها هلك ، وباء بالخسران المبين.
أما المنكر فهو ما أنكره العقل السليم والطبع المستقيم والدين الحنيف فكيف تأتيه ، وفيه بلاء عظيم وخطر جسيم ؟ ! يعظكم ربكم بهذا رجاء أن تتذكروا وتثوبوا إلى رشدكم ، وترجعوا عن غيكم.
إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ، وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم ، وعهد اللّه عام شامل جامع لكل عهد بينك وبين ربك أو بينك وبين نفسك أو بينك وبين غيرك(2/334)
ج 2 ، ص : 335
كل ذلك عهد اللّه إن عهده كان مسئولا ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وتأكدها وليس النهى خاصا باليمين المؤكدة. بل كل يمين وإنما المؤكدة إثمها أعظم وهذا التعظيم مخصوص بما
ثبت في الصحيحين من قوله صلّى اللّه عليه وسلم : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذى هو خير وليكفّر عن يمينه » .
وكيف تنقضونها ؟ وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلا ، وشاهدا وحفيظا ، وإن اللّه يعلم ما تفعلون.
ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض فقال :
ولا تكونوا فيما تفعلون من النقض كالتي نقضت وأفسدت ما غزلته من بعد قوة وإحكام وعمل وإجهاد ، نقضته أنكاثا ونقضا شديدا ، بل ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا وفسادا بسبب أن تكون أمة هي أربى وأزيد من جماعة أخرى.
والمعنى لا تتخذوا الأيمان دخلا وخديعة للناس بسبب أن تكون جماعة أقوى من جماعة فتنقضوا اليمين لمصلحة تافهة حقيرة.
إنما يبلوكم اللّه بهذا ، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ومن بلائه للناس أن جعلهم مختلفين ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ، ولو شاء ربك لجعلهم أمة واحدة لا اختلاف فيها أبدا ، ولكن لحكمة هو يعلمها يضل من يشاء ممن رأى في سابق علمه أنه لو ترك ونفسه لما فعل إلا الضلال والبهتان ، ويهدى من يشاء ممن اطلع عليه في سابق الأزل فرآه يميل إلى الخير ولو ترك وشأنه لما فعل إلا الخير.
ولتسألن عما كنتم تعملون ، وأما ربك فلا يسأل عما يفعل - سبحانه وتعالى - ، ويظهر واللّه أعلم أن القرآن أعاد النهى عن اتخاذ الأيمان دخلا لأنها أيمان خاصة في البيعة مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بدليل المبالغة في قوله فتزل قدم بعد ثبوتها ، ولا تتخذوا أيمانكم فسادا وخديعة بينكم ثم تنقضوها فتزل قدم بعد ثبوتها ورسوخها ، وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم وبلاء كثير كمن تزل قدمه فيقع في الخطر ، وتذوقوا العذاب السيئ الشديد بما صددتم عن سبيل اللّه فإن الذي يبايع ويدخل في الدين ثم يخرج منه كان دخوله وخروجه مشجعا لغيره وداعيا للفساد ومزلزلا لعقائد العامة ، ولكم عند ذلك عذاب عظيم.(2/335)
ج 2 ، ص : 336
ولا تشتروا بعهد اللّه وأيمانه ثمنا قليلا وعرضا تافها بسيطا حيث تنقضونه إن ما عند اللّه خير جزاء وأحسن ثوابا إن كنتم تعلمون.
ما عندكم ينفد قطعا فكل آت قريب وكل شيء هالك وما يصادفنا ينتهى بانتهاء وقته وما عند اللّه باق لأنه هو الذي ينفع ثوابه ، ويدخر جزاءه ولنجزين الذين صبروا في اللّه وجاهدوا فيه حق جهاده أجرهم بأحسن جزاء وأكرم مثوبة بسبب ما كانوا يعملون مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها.
من آداب القرآن وتوجيهه [سورة النحل (16) : الآيات 97 الى 105]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)(2/336)
ج 2 ، ص : 337
المفردات :
سُلْطانٌ تسلط وقوة بَدَّلْنا آيَةً رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها رُوحُ الْقُدُسِ أى : جبريل يُلْحِدُونَ يميلون إليه ويشيرون أَعْجَمِيٌّ العجمة في لسان العرب الإخفاء وضدها البيان ، ورجل أعجم وامرأة عجماء أى : لا يفصح.
المعنى :
من عمل عملا صالحا سواء كان ذكرا أو أنثى أو بأى صفة كانت وهو مؤمن باللّه واليوم الآخر ومصدق بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلنحيينه حياة طيبه كريمة حياة فيها سعادة ونعيم ، وقناعة وغنى عن الغير ، حياة فيها توفيق واتجاه إلى اللّه - سبحانه وتعالى - ، لا ضنك فيها ولا تعب : يقول عبد اللّه التستري : « الحياة الطيبة هي أن ينزع عن البعد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق » وقيل هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق هي كما يقول القرآن بأبلغ عبارة : حياة طيبة : هذا في الدنيا وأما في الآخرة فلنجزينهم أجرهم كاملا بأحسن ما كانوا يعملون.
ومعنى الاستعاذة باللّه اللجوء إليه لجوءا صحيحا حتى يطرد من قبله الشيطان الرجيم ووسوسته له ، وحتى يكون قلبه مخلصا وعمله للّه.
إنه ليس للشيطان سلطان ولا قوة على المؤمنين المتوكلين إنما سلطانه وقوته على الذين يتولونه والذين رسخ في نفوسهم حب المادة وحب الدنيا والذين هم بربهم يشركون ، وهذا كقوله تعالى : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ. [الحجر 42](2/337)
ج 2 ، ص : 338
وفي الآية الآتية شبهة واهية للمشركين ... وإذا بدلنا آية مكان آية ورفعنا آية وجعلنا مكانها آية أخرى ، أو أنزلنا حكما وجعلنا مكانه آخر لحكمة اللّه أعلم بها ، وهو أعلم بما ينزله من القرآن.
قال هؤلاء المشركون : إنما أنت مفتر كاذب ، بل أكثرهم لا يعلمون ، راجع بحث النسخ في القرآن في آية (ما ننسخ) جزء ثان.
قل لهم يا محمد : أنزله روح القدس جبريل من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا ونزله هدى وبشرى للمسلمين.
كان هنا غلام للفاكه بن المغيرة واسمه جبر وكان نصرانيا فأسلم وكان المشركون إذا سمعوا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما مضى وما هو آت مع أنه أمى لم يقرأ قالوا : إنما يعلمه جبر وهو أعجمى فقال اللّه تعالى : عجبا لكم لسان الذي تشيرون إليه وتقولون إنه علمه ، لسان أعجمى ولغته أعجمية ، وهذا القرآن الذي نزل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عربي مبين.
ولا غرابة في افترائهم فهم دائما غير موفقين إن الذين لا يؤمنون بآيات اللّه لا يهديهم ربهم إلى خير أبدا ، ولهم عذاب أليم ، وأما محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فلا يمكن أن يفترى كذبا ، وهو الصادق الأمين ، الذين لا يؤمنون بآيات اللّه وأولئك البعيدون في درجات الكفر والضلال هم الكاذبون الضالون.
المرتدون عن الإسلام والعياذ باللّه [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)(2/338)
ج 2 ، ص : 339
المفردات :
شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فتحه ووسعه والمراد اطمأن صدره له غَضَبٌ أشد من اللعن الذي هو الطرد من رحمة اللّه اسْتَحَبُّوا اختاروا وأحبوا فُتِنُوا اختبروا بالعذاب.
لا يزال الكلام في نقض البيعة والعهد والردة عن الإسلام نقض البيعة الكبرى.
المعنى :
من كفر باللّه ورسوله من بعد إيمانه ، وارتد عن دين الإسلام - والعياذ باللّه - فعليه غضب اللّه ولعنته ، وله عذاب عظيم ، إلا من أكره على الكفر وكان قلبه مطمئنا بالإيمان ، عامرا باليقين. فليس عليه شيء من العذاب ولكن من شرح بالكفر صدرا ، واطمأن إليه ودخل في غماره راضية نفسه مطمئنا قلبه ، فعليه الغضب من اللّه وله العذاب العظيم.
ذلك الجزاء الوافي بسبب أن المرتدين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، واختاروا العاجلة وآثروها على الباقية ، وأن اللّه لا يهدى القوم الكافرين خصوصا هؤلاء الذين(2/339)
ج 2 ، ص : 340
ذاقوا شيئا من حلاوة الإيمان ثم رجعوا إلى خبث الشرك وسوء الردة أولئك البعيدون في درجات الضلال الذين طبع اللّه على قلوبهم وختم عليها فلم يهتدوا إلى نور ولا إلى يقين ، وطبع على سمعهم وعلى أبصارهم فلم يدركوا شيئا من الخير والنور الإلهى ، إذ لا شك أن من يؤثر العاجلة على الفانية رجل لا قلب له ولا عقل ، وأولئك هم الغافلون عن مصلحتهم الحقيقية الذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم ، حقا لا شك فيه أنهم في الآخرة هم الخاسرون خسارة كاملة وافية.
روى عن ابن عباس قال : أخذ المشركون عمارا وأباه ياسرا ، وأمه سمية وصهيبا وبلالا. وخبابا وسالما ، فعذبوهم ، وربطوا سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحرية وقيل لها : إنك أسلمت من أجل الرجال (و في رواية إن الذي قال لها وفعل بها هو أبو جهل) وقتلت سمية بسبب ذلك ، وقتل زوجها ياسر فكانا أول قتيلين في الإسلام ومن أجله ، وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها فشكا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
فقال له الرسول صلّى اللّه عليه وسلم : « كيف تجد قلبك ؟ قال مطمئن بالإيمان فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
فإن عادوا فعد »
ومن هنا قال القرطبي في تفسيره : « أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فإنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بكفر » وفي الحديث « رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه »
وللفقهاء في حكم المكره أقوال وتفصيلات يحسن الرجوع إليها في كتب الفقه.
ثم إن ربك للذين هاجروا وجاهدوا وصبروا أى : لهم بالمعونة والنصر والتأييد من بعد ما فتنوا وعذبوا ثم جاهدوا وصبروا بعد ذلك إن ربك من بعدها لغفور رحيم.
والمعنى في الآية أن من يفتن في دينه فيتكلم بكلمة الكفر مكرها ، وصدره غير منشرح للكفر إذا صلح عمله وجاهد في سبيل اللّه وصبر على المكاره فاللّه غفور رحيم به ، وثم التي في الآية لبيان بعد مرتبة من فتن في دينه وصبر ولم ينطق بالكفر عن مرتبة من فتن وكفر مكرها.
واذكر يوم تأتى كل نفس وذات تجادل عن نفسها ، وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وهذا وصف جامع ليوم القيامة.(2/340)
ج 2 ، ص : 341
عاقبه من يكفر بالنعمة [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 117]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116)
مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
المفردات :
فَأَذاقَهَا شبه إدراكهم الضرر والألم بتذوقهم طعم المر الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ تقدم تفسيرها في سورة المائدة ..(2/341)
ج 2 ، ص : 342
المعنى :
هذا مثل ضربه اللّه لكل قرية فيها جماعة من الناس مجتمعين.
وضرب اللّه مثلا قرية مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم اللّه عليهم بالنعم فأبطرتهم النعمة وكفروا وتولوا ، فأنزل اللّه عليهم نقمته ، وبدل نعمتهم سوءا وسرورهم ألما وحزنا ، وقد ضربها اللّه مثلا لكل قرية خصوصا مكة.
وانظروا إلى وصف اللّه أهل القرية بالأمن والطمأنينة فلا يزعجهم خوف ، ولا قلق ثم بالرزق الرغد الواسع الكثير ، ومع هذا قدم نعمة الأمن على نعمة الرزق لعل الناس يعتبرون بهذا ، وأن السيادة في الهدوء والطمأنينة ، هذه القرية التي غمرها اللّه بفيض من عنده ، ولكنها لما كفرت بأنعم اللّه ولم تقابل النعمة بالشكر بل قابلتها بالكفر أذاقها اللّه عاقبة عملها ذوقا عميقا يشبه تذوقهم طعم المر أو أشد.
أما لباس الجوع فاستعارة في لفظ لباس حيث شبه ما يعترى الإنسان الجائع الخائف باللباس لظهور الأثر عليه.
أهل هذه القرية جاءهم رسولهم فكذبوه فأخذهم العذاب ، وهم ظالمون لأنفسهم ، وما ظلمهم ربهم أبدا.
وأما أنتم يا أهل مكة فينطبق عليكم المثل تماما ، فلقد جاءكم رسول من جنسكم يعرفكم وتعرفونه ، وقد أمركم بما ينفعكم فكذبتم فأصابكم العذاب وأنتم ظالمون.
وإذا كان الأمر كذلك فاتركوا ما أنتم عليه من أعمال الجاهلية وكلوا مما رزقكم اللّه حلالا طيبا هنيئا مريئا ، واشكروا نعمة اللّه عليكم إن كنتم إياه وحده تعبدون ، ولا تحرموا شيئا مما أحله اللّه لكم ، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما ذبح على اسم غير اسمه - تعالى - وأما ما حرمتموه أنتم على أنفسكم من البحيرة والسائبة والوصيلة (انظر تفسيرها في سورة المائدة آية 104) فشيء لا يلتفت إليه أصلا ..
فمن كان مضطرا لا باغيا ولا معتديا فلا مانع من أكله بقدر إزالة ضرورته فإن اللّه غفور ستار رحيم بخلقه كريم.(2/342)
ج 2 ، ص : 343
لما عدد عليهم محرمات اللّه ، نهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم دون اتباع شرع اللّه فقال : ما معناه :
ولا تقولوا القول الكذب لما تصفه ألسنتكم بالحل والحرمة في قولكم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد في ذلك الوصف إلى وحى من اللّه أو قياس أو سند شرعي لا تقولوا القول الكذب. هذا حلال وهذا حرام.
والمعنى لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذبا وزورا ، ويجول في أفواهكم بلا حجة ولا بينة.
لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على اللّه الكذب وتختلقوه إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون أبدا.
وما تراهم فيه في الدنيا فعرض زائل وعارية مستردة ، ومتاع قليل ، ولهم في الآخرة عذاب أليم جدا يصغر بجانبه كل متاع قليل في الدنيا.
نقاش المشركين في معتقداتهم [سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 124]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)(2/343)
ج 2 ، ص : 344
المفردات :
أُمَّةً لها معان كثيرة والمراد بالأمة هنا الرجل الجامع للخير ، والذي يعلم الناس الخير قانِتاً مطيعا اجْتَباهُ اختاره ، واصطفاه حَسَنَةً المراد نعمة الولد أو الثناء أو الحسن أو النبوة حَنِيفاً مائلا عن الشرك والباطل.
المعنى :
ما لكم أيها العرب تحرمون وتحلون من عند أنفسكم ؟ بدون الرجوع إلى دين حق أو شرع من اللّه ، ولا يصح لكم أن تقلدوا اليهود فيما حرم عليهم فعلى الذين هادوا وحدهم حرمنا ما قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام وكان التحريم بسبب ظلم ارتكبوه ، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ..
ولا تيأسوا أيها المشركون من رحمة اللّه فإن تبتم قبل اللّه عملكم وأثابكم وغفر لكم :
ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة أى : جاهلين غير عارفين باللّه - تعالى - وعقابه غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا أنفسهم ، وعملوا صالحا إن ربك من بعدها لغفور رحيم.
وأنتم أيها العرب تدعون أنكم على ملة أبيكم إبراهيم ، ولكنكم كاذبون في دعواكم لأن إبراهيم كان أمة وحده جامعا لخصال الخير ، عالما معلما ، فيه من صفات الكمال والخلق ما يوازى ما عند أمة من الناس ، وكان مطيعا للّه مائلا عن الشرك وعبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن ، ولم يك من المشركين ، شاكرا لأنعم اللّه عليه ، اختاره واجتباه ربه ، وهداه إلى صراط مستقيم معتدل لا عوج فيه.(2/344)
ج 2 ، ص : 345
ثم أوحينا إليك يا محمد أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ، فما جئت به ليس بعيدا عن شرع إبراهيم بل أنتما متفقان في الدعوة إلى التوحيد والخلق الطيب أما الفروع فلكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يوافق بيئة كل نبي ووضعه.
إنما جعل إثم السبت ووباله وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه وقد اختلف اليهود في السبت فبعضهم عظمه وامتثل أمر اللّه في تحريم الصيد وبعضهم خالف ذلك ، و
روى أنهم اختلفوا في تعظيم يوم السبت وقد كان موسى أمرهم بتعظيم يوم الجمعة.
وإن ربكم ليحكم بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه وسيجازى المحسن على إحسانه والمسيئ على إساءته.
منهاج الوعاظ والدعاة [سورة النحل (16) : الآيات 125 الى 128]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
هذه تذكرة الدعاة والمرشدين ، وقانون سنه لهم رب العالمين.
المعنى :
كل خير في الوجود لا بد له من دعاة ومحامين يدافعون عنه ، ويشرحون حقيقته ،(2/345)
ج 2 ، ص : 346
ويبينون أغراضه ومراميه إذ الحق وحده لا يستوي قائما أمام أعاصير الدنيا ، وألا عيب الشيطان ، وغرائز الإنسان الفطرية التي تدعوه إلى التحلل ، أرأيت إلى النظام الإسلامى في الدعوة والوعظ والخطابة في كل جمعة مرة أو مرتين ، وفي كل عام في الأعياد والمواسم والحج مثلا ، ولكن يجب على الدعاة أن يقتفوا أثر زعيمهم الحبيب المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم ، وأن يمتثلوا أمر اللّه فهم به أولى وأحق ، وما أمر صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك إلا لعظم الغاية وشرف المقصد.
ادع إلى سبيل ربك كل من يصادفك فدعوة الإسلام عامة والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أرسل إلى الناس كافة ولكن ادع بالحكمة والمقالة المحكمة التي تصيب المحز ، وتحرك النفس ، وتستولى على القلب فتنزع أعراق السوء وتقلع جذور العادات السيئة الموروثة ، ادع إليه بالحكمة ، والموعظة الحسنة التي تستحسنها العقول السليمة ، وتألفها الطباع المستقيمة ، وإن صادفت في طريقك أشياء فجادل بالتي هي أحسن ، ولا تسب الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدوا بغير علم ، وإياك أن تصادم قوما في معتقداتهم الباطلة قبل أن تهيء نفوسهم وعقولهم لقبول كلامك وإلا كنت داعيا للفرقة والفساد.
واعلم أن من النفوس نفوسا لا تلين بوعظ ، ولا تستجيب لعقل ، وهؤلاء قوم أضلهم اللّه فأعمى أبصارهم ، وهو أعلم بهم ، فإذا صادفك شيء من هذا فكل الأمر للّه ، ولا عليك شيء أبدا ، إن عليك إلا البلاغ والزمن كفيل بتحقيق ما تطلب.
ولا بد من وقوع الخطوة الثانية خطوة العمل والنزاع العملي بعد النقاش الكلامى.
وإن عاقبتم غيركم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم بلا زيادة في الأذى ، بمعنى لو سمح الزمان ومكنكم من أعدائكم الذين أذاقوكم ألوان الشدائد فخذوا منهم القصاص وعاقبوهم بمثل ما عاقبوكم ولا تزيدوا.
ولئن صبرتم على المكروه. ووكلتم الأمر للّه فهو خير لكم أيها الصابرون فالصبر خير كله ودعوا الأمر للّه.
والصبر!! نعم الصبر هو مطية النجاح ، وسلاح المؤمن بل هو سلاح كل من يريد النصر ، ولا بد منه لكل مسلم أراد أن ينجح في حياته الخاصة والعامة.(2/346)
ج 2 ، ص : 347
ولقد أثبتت التجارب أن النجاح وليد الصبر فمن صبر نجا ونجح ، ومن تعجل هلك وخسر ، وما صبرك إلا باللّه وتوفيقه.
ولا تحزن يا محمد عليهم فالأمر موكول للّه ، وهكذا أراد اللّه ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.
ولا تك في ضيق وألم مما يمكرون ، ودعهم لمن خلقهم.
إن اللّه معك وناصرك وحافظك لأن اللّه مع الذين اتقوا ، وأنت إمامهم ، والذين هم محسنون في عملهم ، وأنت زعيمهم.
وفقنا اللّه وهدانا إلى الخير والصواب ، وإلى اتباع نصائح القرآن.(2/347)
ج 2 ، ص : 348(2/348)
ج 2 ، ص : 349
سورة الإسراء
كلها مكية وقد جزم البيضاوي في تفسيره بذلك ، وقيل : كلها إلا آيات وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ .. فإنها نزلت حين جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد ثقيف ، وحين قالت اليهود : ليست هذه - أى المدينة - بأرض الأنبياء ، وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وإِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فهذه الآيات الثلاث مدنية ، ويظهر واللّه أعلم أن الأصح رأى البيضاوي ، وعدد آياتها مائة وإحدى عشرة آية.
وتسمى سورة بنى إسرائيل.
وهذه السورة عالجت العقيدة الإسلامية في شتى مظاهرها ، فتراها تكلمت عن الرسول ورسالته ، والقرآن وهدايته وموقف القوم منه ، ثم عن الإنسان وسلوكه وأسس المجتمع الإسلامى السليم ، وامتازت بتنزيه اللّه عما يقوله المشركون ، وفي ثنايا ذلك كله قصص عن بنى إسرائيل ، وذكرت طرفا من قصة آدم ، وابتدأت الكلام عن الإسراء.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)(2/349)
ج 2 ، ص : 350
المفردات :
سُبْحانَ أصل المادة مأخوذة من قولهم سبح في الماء أو الأرض أى : أبعد وتوغل ، ومنه فرس سبوح أى تبعد بصاحبها ففي المادة معنى البعد ، والتنزيه فيه بعد عن النقائص ، وبعد عن صفات العجز ، ولذا قالوا : إن سُبْحانَ علم على التنزيه والتقديس والتسبيح ، ولا يستعمل إلا في الذات الأقدس - سبحانه وتعالى - أَسْرى وسرى لغتان في السير ليلا.
المعنى :
سبحان اللّه أسرى بعبده محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وما أبعد الذي له هذه القدرة القادرة. ما أبعده عن النقائص والسوء ذاتا وفعلا وحكما ، واعجبوا أيها المخاطبون من قدرة اللّه على هذا الأمر الغريب!! وآمنوا بهذا المجد العالي وهذا الشرف السامي للحبيب المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم.
سبحانه وتعالى ، وتقديسا له وتنزيها عن كل نقص لأنه الذي أسرى بعبده في جزء من الليل بسيط من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام الذي باركنا فيه بنزول الأنبياء حوله ، وباركنا فكان فيه الماء والخضرة والزرع والضرع. سرينا به لنريه بعض آياتنا ، وما زاغ البصر في ذلك وما طغى ، ولقد رأى من آيات ربه الكبرى ولا عجب في ذلك كله أنه - سبحانه - هو السميع لكل قول ، البصير بكل نفس ، الذي يضع الأمور في مواضعها حسب الحكمة ، ووفقا للحق والعدل ، وهو أعلم بخلقه وسيجازى من يؤمن بالإسراء ومن يكفر بها إذ هو السميع البصير.
هذا هو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من نسل إسماعيل ، وهذا الشرف السامي للعرب ولأمة محمد في كل زمان ومكان ، شرف الإسراء ولقيا اللّه ، وإمامة الأنبياء جميعا ، وأما ولد إسحاق أخى إسماعيل وهم بنو إسرائيل الذين يدعون أنهم شعب اللّه المختار ، وأنهم نسل الأنبياء والمرسلين ، وأنه لا يكون نبي من غيرهم فقد تكلم القرآن الكريم عليهم بعد هذا الفخار العظيم الذي كان لمحمد وأمته حتى توضع الأمور في نصابها وحتى تعرف كل أمة قدرها.
وآتينا موسى الكليم نبي بنى إسرائيل الكتاب : التوراة ، وجعلناه هدى وهداية لعلهم يهتدون ، ولئلا يتخذوا من دوني وكيلا يفوضون إليه أمرهم ، ويعاملونه معاملة الإله.(2/350)
ج 2 ، ص : 351
يا ذرية من حملناهم مع نوح ، وأنجيناهم من الغرق ، وهديناهم إلى الحق والخير أنتم أولى الناس بالتوحيد الخالص والسير على سنن الأنبياء والمرسلين ، وها هو ذا نوح أبوكم - عليه السلام - كان عبدا شكورا فاقتفوا أثره ، واتبعوا سنته.
وفي تعبير القرآن الكريم بِعَبْدِهِ بدل حبيبه مثلا أو بدل اسمه. إشارة دقيقة :
إذ حادثة الإسراء والمعراج معجزة خارقة قد تؤثر على بعض النفوس الضعيفة فتضع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في غير موضعه كما وضعت النصارى المسيح فقيل : عبده أى : الخاضع لعزه وسلطانه حتى توضع الأمور في نصابها ، على أن وصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالعبودية منتهى الكمال والسمو له.
وفي قوله : لَيْلًا وقد تحير فيها المفسرون فإن الإسراء لا يكون إلا ليلا فما فائدة ذكرها ؟ ! ولقد أجابوا على ذلك بأنه لفظ مفرد منكر سيق لبيان أن الإسراء كان في جزء من الليل. ولم يكن من مكة إلى المسجد الأقصى الذي يقع في أيام وليال طوال إلا في جزء من الليل بسيط.
ويقول أستاذنا مصطفى صادق الرافعي في وحى القلم ص 32 في الإسراء والمعراج :
والحكمة - في ذكر ليلا في الآية - هي الإشارة إلى أن القصة قصة النجم الإنسانى العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في المعجزة ، ويتمم هذه العجيبة أن آيات المعراج لم تجيء إلا سورة « والنجم ... » .
قصة الإسراء والمعراج :
وخلاصتها : كان صلّى اللّه عليه وسلّم مضطجعا فأتاه جبريل فأخرجه من المسجد فأركبه البراق فأتى بيت المقدس ، ثم دخل المسجد هناك واجتمع بالأنبياء - صلوات اللّه وسلامه عليهم - ، وصلّى بهم إماما ثم عرج به إلى السموات فاستحقها جبريل واحدة واحدة فرأى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من آيات ربه الكبرى ما رأى ، وهكذا صعد في سماء بعد سماء إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر اللّه ما غشيها ، فرأى صلّى اللّه عليه وسلّم مظهر الجمال الأزلى ، ثم زج به في النور فأوحى اللّه إليه ما أوحى ، وكلفه هو وأمته بالصلاة في ذلك المكان المقدس فكانت الصلاة هي العبادة الوحيدة التي أوجبها اللّه بنفسه بلا واسطة.(2/351)
ج 2 ، ص : 352
تلك خلاصة خالصة أما وشيها وطرازها فباب عجيب من الرموز الفلسفية العميقة التي لا يقف عليها إلا كل من صفت نفسه وزكت روحه ، ومن هذه الرموز
قوله صلّى اللّه عليه وسلم « فجاءني جبريل بإناء من خمر وآخر من لبن فأخذت اللّبن فقال جبريل : أخذت الفطرة »
، أوليس دين الإسلام دين الفطرة ؟ !! ولقد رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في هذه الرحلة الإلهية العلوية رموزا تشير إلى مجتمع عال نظيف خال من الربا والزنى والسرقة والقتل مع تحلى أصحابه بالجهاد والصدق وحسن الاقتصاد ، وسرعة القيام إلى الصلاة.
أليس في إمامة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للأنبياء جميعا إشارة إلى كمال رسالته ، وأنهم جميعا سبقوه مبشرين به ، وأن من لم يؤمن فما آمن بنبيه فدينه جمع المحاسن كلها ، وكان وسطا بين مادية اليهود وروحانية النصارى ، وكانت أمته وسطا عدولا شهودا على الأمم السابقة ، وقد جمع صلّى اللّه عليه وسلّم. قوة موسى ، وزهد عيسى ، وجدل إبراهيم ، وصبر أيوب ، وما امتاز به كل نبي.
وهي تشير إشارة صريحة إلى أن هذا النبي قد سمت روحه الكريمة سموا طغى على الناحية المادية فيه حتى صار نورا إلهيا ونجما سماويا ألم يشق جبريل صدره الكريم ويغسله من أدران المادة ؟ !! ألم يقل اللّه لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا فهذه العبارة نص على ارتفاع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فوق الزمان والمكان والحجاب والحواس ، ومرجع ذلك كله إلى قدرة اللّه لا قدرته هو بخلاف ما لو كانت العبارة ليرى من آيات ربّه فإنها تفيد أن الرؤيا في حدود القدرة البشرية ، وتحويل فعل الرؤيا من صيغة إلى صيغة دليل على تحويل الرائي وهو المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم من شكل إلى شكل ومن حال إلى حال فسبحان من هذا كلامه.
أيها المسلمون ..
لا تألفوا العجز والكسل. وفي أول دينكم تسخير الطبيعة.
لا تركنوا إلى الجهل. وأول آية نزلت على نبيكم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ...
لا ترتموا في أحضان الراحة وفي صدر تاريخكم صنع المعجزة الكبرى.(2/352)
ج 2 ، ص : 353
كيف لا تحملون النور إلى العالم : !! ونبيكم هو الكائن الروحي العظيم ، والنور الإلهى الأعظم!! كيف لا تحملون القرآن بينكم ؟ !! وهو التبيان لكل شيء ، والنور لكل حي ، والشفاء والرحمة ، والهدى والنور للناس أجمعين!! ولست أدرى كيف يختلفون في الإسراء ؟ ! وهل كانت بالجسد والروح أو بالروح فقط!!! ولو كانت بالروح فقط لما آمن بها بعض الناس وكفر البعض إذ كان إنسان يرى في منامه ما يستحيل عليه في يقظته ، وفي العلم الذي أوقفنا على سرعة الضوء ، والصوت واختراق الهواء الأرضى مما يؤيد ذلك.
خلاصة لتاريخ بنى إسرائيل [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 11]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)(2/353)
ج 2 ، ص : 354
المفردات :
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أوحينا إليهم وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً لتستكبرن على اللّه ولتستعلن على الناس بالبغي والظلم مجاوزين الحدود أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب قوة وبطش في الحروب فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ في القاموس الجوس بالجيم طلب الشيء باستقصاء مع التردد خلال الديار والبيوت ففي اللفظ معنى للتفتيش والتنقيب خلال الديار أى : وسطها ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ المراد ثم رددنا لكم الدولة والغلبة عليهم أَكْثَرَ نَفِيراً النفير من ينفر مع الرجل من عشيرته ، وقيل : جمع نفر وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو وَلِيُتَبِّرُوا أى : يهلكوا ما عَلَوْا أى :
مدة علوهم واستكبارهم ، وقيل المراد : البلاد التي علوها وغلبوا أهلها حَصِيراً سجنا ومحبسا إذا الحصر والحصير فيه معنى المنع والحبس.
وهذا امتداد للكلام على بنى إسرائيل ، وبيان لتاريخهم وما ينتظرون من بيان بعض الحكم النافعة.
المعنى :
وأوحينا إلى بنى إسرائيل في التوراة وحيا مقضيا أى : مقطوعا بحصوله بأنهم يفسدون في الأرض مرتين.
وأقسمنا لتفسدن في أرض الشام وبيت المقدس أو في كل أرض تحلون فيها لتفسدن مرتين ، ولتفسدن نفوسكم بمخالفة ما شرعه لكم ربكم في التوراة ، لتفسدن مرتين :
أما أولاهما : فبمخالفة التوراة وقتل بعض الأنبياء ، والثانية - بقتل زكريا وقيل : بقتل يحيى ، والعزم على قتل عيسى ابن مريم وقيل : غير ذلك.(2/354)
ج 2 ، ص : 355
ولتعلن وتتجاوزن حدود الشرع والعقل بالبغي والظلم والتعالي على الناس والكبر.
فإذا جاء وعد أولاهما ، وحان وقت العقاب الموعود به في الدنيا على المرة الأولى بعثنا عليكم عبادا من عبيدنا أولى بأس وقوة ، أصحاب عدة في الحروب وعدد ، وهؤلاء القوم الذين أغاروا عليكم قد جاسوا خلال الديار ، وفتشوا البلاد ، ونقبوا عليكم ليستأصلوكم بالقتل والتشريد ، وهكذا كل أمة تفسد في الأرض بالبغي والظلم ، حتى تفسد نفوس أبنائها وتطغى لا بد من أن يرسل اللّه عليها من يذلها ويذيقها سوء العذاب جزاء فسادها ، ولو كان المؤدب لها من الكفار المشركين وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ، وهذا قضاء محتوم ، وسنة لا تتخلف ، ووعد محقق ، وكان وعد ربك مفعولا حتما.
هذا الدرس القاسي الذي تلقاه بنزول إسرائيل على يد المغير ، قيل : هو بختنصر وقيل : هو جالوت ، وقيل : جند من بابل أو فارس ، واللّه أعلم بذلك ، وليس القرآن كتاب تاريخ حتى تلزمه ببيان الشخص أو الجماعة بالضبط مع تحديد المكان والزمان ، ولكن القرآن جاء للعبرة والعظة ، والنظرة العليا التي هي أسمى من هذا وذاك ، لعل الناس يعتبرون بالحوادث.
هذا الدرس القاسي الذي تلقوه أثمر معهم فثابوا لرشدهم ، ورجعوا عن غيهم وتمسكوا بكتابهم ودينهم فكانت النتيجة كما قال اللّه.
ثم رددنا لكم يا بني إسرائيل الكرة عليهم ، وأعدنا لكم الدولة والغلبة عليهم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أو أمدكم اللّه بالأموال والبنين وأمدكم بالسلاح والرجال المخلصين وجعلكم أكثر نفيرا مما كنتم عليه ، وهكذا سنة اللّه ولن تجد لسنة اللّه تبديلا.
إن أحسنتم العمل أحسنتم لأنفسكم لأن نتيجة العمل وثوابه لكم ، وإن أسأتم العمل بالفساد والبغي فلأنفسكم فقط ، كل نفس بما كسبت رهينة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فإذا جاء وعد المرة الآخرة ، وحان موعد العقاب فيها بعثنا عليكم رجالا ليذيقوكم سوء العذاب وليجزوكم بالقتل والسبي حزنا تظهر علاماته في وجوهكم ، وليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه في أول مرة للتخريب والتدمير وإحراق التوراة ، وهتك المقدسات عندكم ، وليهلكوا ما علوه وغلبوكم عليه من الأرض والزروع والثمار هلاكا شديدا.(2/355)
ج 2 ، ص : 356
وقد كان جالوت هو الذي سلط عليهم في أول مرة ثم لما قتل داود جالوت رد عليهم ملكهم ودالت الدولة لهم مدة من الزمن حتى فسدوا وظلموا وقتلوا زكريا وقيل يحيى فأرسل اللّه لهم بختنصر فأذاقهم الخسف والعذاب للمرة الثانية وقيل غير ذلك كما مر.
وكان هذا الدرس من اللّه تأديبا لكم وتهذيبا ، عسى ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بهذا ، وإن عدتم للمرة الثالثة عدنا إلى عقوبتكم بأشد مما مضى.
إن عادت العقرب عدنا لها بالنعل والنعل لها حاضرة
وقد عادوا للمرة الثالثة فكذبوا محمدا وافتروا الباطل عنادا وجحودا وهم أدرى الناس به ، بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو أشد. فعاقبهم اللّه على ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وضرب الجزية عليهم.
هذا في الدنيا. أما في الآخرة فقد جعل اللّه لهم جهنم محبسا وحصيرا لا يفلت منهم أحد أبدا.
وما لكم يا بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم مالكم لا تؤمنون ؟ وأنتم تعلمون أن هذا القرآن المنزل على محمد يهدى للتي هي أقوم ، ويدعو إلى الصراط المستقيم. أليس يدعو إلى البر والخير ، والتعاون والتساند. ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وعدم الشرك والبعد عن الزنى والقتل والزور والبهتان وأكل مال اليتيم والتطفيف في الكيل والميزان والتعامل بالربا والقسوة في المعاملة إلى آخر ما هو معروف ؟ !! وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ إن هذا القرآن يهدى الناس إلى الطريقة المثلى ، ويدعو إلى خيرى الدنيا والآخرة ويبشر المؤمنين العاملين الخير والصلاح بأن لهم أجرا كبيرا في الدنيا والآخرة وأن الذين لا يؤمنون ولا يعملون الخير أعد لهم ربهم عذاب جهنم وبئس المصير.
ويدعو الإنسان ربه بالشر - عند غضبه - على نفسه وأهله وماله كما يدعوه لهم بالخير وكان الإنسان عجولا أى : خلق وفي غريزته حب العجلة والسرعة ، لهذا جنح كثير من المفسرين ، وبعضهم فسر الإنسان بالكافر خاصة ودعاؤه الشر هو استعجاله العذاب استهزاء وكفرا بالنبي ، والعذاب آتيه لا محالة ...(2/356)
ج 2 ، ص : 357
ألا يصح أن نفهم الآية على أن الإنسان قد يدعو ربه ، ويلح في طلب شيء هو في الواقع شر ولكنه يظنه خيرا فيدعو ربه له كما يدعوه للخير ، وذلك ناشئ من العجلة وعدم التأنى ، في الفهم والتأكد فيه ، وكان الإنسان عجولا ، ألم نطلب المال والجاه ونلح في طلبنا وندعو للّه فيه وقد يكون في تحقيق ما طلبنا حتفنا وهلاكنا ؟ !! ولو أمعنا النظر ولم نتعجل ما ألحفنا في طلبنا ، ولا غرابة فخلق الإنسان عجولا.
بقي شيء آخر ما السر في وضع هذه الآية هنا ؟
أليس فيها إشارة إلى أن هؤلاء اليهود في موقفهم من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكفرهم به طلبا للدنيا ، واستجابة لدعاء الشر قد آثروا العاجلة على الباقية ولو أمعنوا النظر ودققوا الفهم ما عملوا شيئا من هذا!!! فهم دعوا الشر وطلبوه في الواقع ونفس الأمر كدعائهم الخير ، وما دفعهم إلى ذلك إلا حب العاجلة ، وإيثار الفانية على الباقية والعجلة في إدراك الأمور.
من نعم اللّه علينا [سورة الإسراء (17) : الآيات 12 الى 17]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)(2/357)
ج 2 ، ص : 358
المفردات :
آيَتَيْنِ علامتين دالتين على القدرة فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ.
أى : جعلنا آية الليل ممحوة لا نور فيها عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ يقول العلامة الشوكانى في كتابه فتح القدير في تفسير الآية : « والفرق بين العدد والحساب أن العدد إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله كالسنة المكونة من 365 يوما ، والحساب إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص فالسنة مثلا إن نظرنا لها من ناحية أنها أيام فقط فذلك العدد ، وإن نظرنا لها من حيث تكونها من شهور اثنى عشر وكل شهر ثلاثون يوما مثلا وكل يوم أربع وعشرون ساعة فذلك هو الحساب » طائِرَهُ عمله المقدر له ولعل السر في ذلك أن العرب كانوا يتشاءمون ويتباشرون بالطير عند طيرانه فكانوا يستدلون بالطير على الخير والشر والسعادة والشقاوة وكانت لهم علوم ومعارف في ذلك قال شاعرهم :
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا مقالة لهبى إذا الطير مرت
ولما كثر منهم ذلك سموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه وقال أبو عبيدة عن علماء اللغة : الطائر عند العرب : الحظ والمقدر للشخص من عمر ورزق وسعادة وشقاوة كأن طائرا يطير إليه من وكر الأزل ، وظلمات عالم الغيب طيرانا لا نهاية له ، ولا غاية إلى أن ينتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص ، وقوله تعالى : في عنقه كناية عن لزوم ذلك له لزوم القلادة للعنق إن كان خيرا أو الغل للعنق إن كان شرا وِزْرَ الوزر الحمل والثقل والمراد الإثم مُتْرَفِيها
متنعميها وأترفته النعمة أطغته.
وهذا سيل آخر من بيان نعمه وفضله وفيه بيان لهداية القرآن وبشارته.(2/358)
ج 2 ، ص : 359
المعنى :
يقول الحق - تبارك وتعالى - ، وجعلنا الليل والنهار آيتين دالتين على قدرتنا وبديع صنعنا وأحكام نظامنا ، وذلك لما فيهما من الظلام الدامس والنور الساطع ، وما فيهما من تعاقب واختلاف يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وانظر إلى الليل وهدوئه العميق وقمره المنير ، ونجمه الذابل وقد سكن الكون فيه وهدأت الطبيعة.
ثم انظر إلى النهار وما فيه من حركة وضجيج. وذهاب ومجيء ، وإلى الشمس وضحاها والنهار إذا جلاها ، والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
فمحونا آية الليل ، والمعنى : محونا آية هي الليل كما نقول دخلت مدينة القاهرة أى مدينة هي القاهرة ، ومحوناها أى : جعلناها ممحوة الضوء والحركة لأنها كانت مضيئة ثم محيت (و في هذا إشارة إلى هدوء الليل وسكونه) وجعلنا آية هي النهار مبصرة أى : يبصر فيها الرائي وينظر إلى ما حوله فيحس به ويتحرك تبعا لذلك ، وهكذا تنبعث الحياة والحركة ، ويولد النشاط والعمل لتبتغوا بذلك فضلا من ربكم ورزقا ، فالرزق تابع للحركة والسعى والعمل واللّه الموفق.
ولتعلموا باختلاف الجديدين وهما الليل والنهار عدد السنين ، والحساب ، فلو كان الليل والنهار لا يختلفان في شيء أبدا من حركة وسكون ونور وظلام وطول وقصر وبرد ودفء لما تيسر معرفة السنين وحسابها ، انظر إلى القطبين وما جاورهما هل يصلحان للحياة ؟ كلا!!!.
وكل شيء مما تفتقرون إليه في شئون دينكم ودنياكم فصلناه تفصيلا وبيناه تبيينا عن طريق الإجمال أو التفصيل ، لئلا يكون للناس على اللّه حجة ، فيهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، وكل إنسان ألزمناه طائره من حظه المقدر وعمله الذي سيعمله في عنقه فلا يمكنه الانفلات منه بل هو أمر محتوم ، وقضاء معلوم وكل ميسر لما خلق له ، وليس معنى هذا نفى الاختيار الذي هو مناط الثواب والعقاب.
ونخرج له يوم القيامة كتابا بين يديه يلقاه منشورا أمامه ، كتابا لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وقد وجد الكل ما عمله حاضرا ، ولا يظلم ربك أحدا ،(2/359)
ج 2 ، ص : 360
ويقال له : اقرأ يا هذا كتابك ، وكفى بنفسك في هذا اليوم عليك حسيبا وشهيدا أى :
محاسبا وشاهدا.
وإذا كان الأمر كذلك فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه فقط لأن ثواب عمله له ، ومن ضل في عمله فإنما يضل على نفسه فقط ، فكل شخص محاسب عن نفسه مجزى بطاعته ، معاقب على معصيته ، ثم أكد هذا بقوله ، ولا تزر وازرة وزر أخرى أى :
ولا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلصها من وزرها ، وتأخذ به الأولى ، وقد كانوا يقولون ، نحن لا نعذب في شيء وإن كان هناك عقاب فهو على آبائنا ، إذ نحن مقلدوهم فقط ، فرد اللّه عليهم أبلغ رد وآكده.
وما كنا معذبين أحدا من الناس حتى نبعث رسولا يهديهم ، ويدعوهم إلى الخير ، ويحذرهم من الشر ، وهذه الآيات تحثنا على العمل وتدفعنا إلى الجد وعدم الكسل ، وإذا أردنا أن نهلك قرية من القرى - وقد دنا وقت إهلاك أهلها ولم يبق من زمان إمهالها إلا قليل أمرنا مترفيها بالطاعات ففسقوا عن أمر ربهم ، وخرجوا من طاعته.
والأمر للجميع مترفا كان أو غير مترف ، وغنيا كان أو فقيرا ، ولكن لما كان الأمراء والأغنياء هم القادة وغيرهم تبع ، والعامة شأنها التقليد دائما ، قيل :
أمرنا المترفين الأغنياء حتى كأن الفقراء غير مأمورين.
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ
[سورة إبراهيم آية 21].
وقيل إن المعنى : أمرنا مترفيها أى : جعلناهم كثرة يعيثون في الأرض فسادا.
وللزمخشري في كشافه رأى في قوله : أمرنا مترفيها خلاصته : أن هذا الأمر مجازى لا حقيقى ، ووجهه أنه صب عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بالفسق لتسبب النعمة في ذلك ، والنعمة أعطيت للشكر لا الكفر. فلما كفروا وفسقوا حقت عليهم كلمة العذاب فدمرهم تدميرا وفي قراءة أمرنا مترفيها أى : جعلنا أغنياءها حكامها وقادتها ، وفي الأمم الضعيفة الجاهلة يكون هؤلاء الأمراء الأغنياء مصدر الشقاء والهلاك للأمة كلها.
وكثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح لما بغوا وعصوا ، واللّه - جل جلاله - يحصى(2/360)
ج 2 ، ص : 361
عليهم أعمالهم وذنوبهم ، وهو ناقد بصير ، وكفى به بذنوب عباده خبيرا بصيرا. وقد علمنا أن كل شيء في الكون مفصل تفصيلا محكما سواء كان في أمور الدين أو الدنيا ، وكل إنسان له عمل مقدر له لا ينفك عنه ، وهو ملاق حتما جزاء عمله يوم القيامة.
وسيقرأ كتابه الذي سجل فيه عمله وإن كل نفس بما كسبت رهينة ، وأن ليس للإنسان إلا سعيه فقط ، ولا يعذب ربك أحدا إلا بعد إرسال الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللّه حجة وأنه لا فرق بين الفرد والجماعة فالأمة التي تأمر بالطاعات ثم تخرج عن حدودها يدمرها ربك تدميرا. كل هذا يدفع العاقل منا إلى العمل الصالح النافع له في الدنيا والآخرة.
من أراد العاجلة ومن أراد الباقية [سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 21]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
المفردات :
الْعاجِلَةَ المراد الدنيا مَدْحُوراً مطرودا من رحمة اللّه مَشْكُوراً مثابا عليه نُمِدُّ نعطى هؤلاء وهؤلاء من الفريقين مَحْظُوراً ممنوعا ...
وهذا حكم آخر من أحكام اللّه ، وقضاء من أقضيته ، بعد ما مضى من أحكام(2/361)
ج 2 ، ص : 362
المعنى :
من كانت الدنيا أكبر همه ، واتجه بنفسه إلى العاجلة الفانية ، وأرادها بكل جوارحه ، وخصها بكل أعماله ، من كان هكذا عجل اللّه فيها ما يشاء ويريد ، عجل لمن يريده منهم لا لكل من أحبها ، فترى أن القرآن الكريم قيد التعجيل بأمرين : أولا : يعجل اللّه بما يشاؤه هو لا بما يحبه العبد ، والثاني : يعجل اللّه لمن يشاء لا لكل من أراد الدنيا.
ألست ترى كثيرا ممن يحبون الدنيا ويريدون العاجلة - وهم القوم الماديون الذين يحبون المال حبّا جمّا ويأكلون التراث أكلا لما - يتمنون ما يتمنون ، ولا يعطون إلا بعضا من أمانيهم ، وترى كثيرا منهم يتمنون ذلك البعض. ولا يعطون شيئا أبدا فقد جمعوا بين فقر الدنيا وفقر الآخرة.
هؤلاء الماديون المحبون للدنيا بكل جوارحهم تراهم في الدنيا كما وصف القرآن وفي الآخرة لهم جهنم يصلونها مذمومين من اللّه والملائكة والناس أجمعين ، ومطرودين من رحمة اللّه.
أما الصنف الثاني ، وهو من لم يجعل الدنيا أكبر همه بل كان قصده المهم الآخرة ، أرادها ، وسعى لها سعيها المناسب لما لها من فضل وثواب ، والحال أنه مؤمن باللّه واثق فيه مصدق به وبكتبه ويومه الآخر فأولئك البعيدون في درجات الكمال والجلال كان سعيهم مشكورا.
يا أخى انظر إلى هؤلاء الذين يريدون بعملهم الآخرة ، ولا يبالون بشيء بعدها فإن أوتوا حظا من الدنيا شكروا ربهم ، وإن منعوا منه رضوا وصبروا معتقدين أن ما هم فيه خير وأبقى.
غنى النفس ما استغنت غنى وفقر النفس ما عمرت شقاء
انظر إلى السعى المشكور والعمل المأجور ، وقد تقدمه ثلاث إن تحققت فاز صاحبها وشكره ربه.
(أ) قصد الآخرة والاتجاه إليه في كل عمل حتى يكون رائده ثواب الآخرة لا متاع الدنيا.(2/362)
ج 2 ، ص : 363
(ب) العمل لها عملا يناسبها عملا تاما كاملا خاليا من الرياء والسمعة والغرض الحقير.
(ج) الإيمان العميق بعد الفهم الدقيق ، والإخلاص الوثيق.
فتلك سفن التجارة ، ومركب السعادة وما عدا هذا فمتاع زائل ، وعرض حائل لا غنى فيه ولا خير.
كل واحد ممن يريد الدنيا. وكل واحد ممن يريد الآخرة نمد له في الرزق ونعطيه وكل ميسر له عمل الخير وعمل الشر ، ولم يبق إلا الاختيار والتوفيق والقدرة الصالحة ، وما كان عطاء ربك ممنوعا.
انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض في الرزق ومتاع الدنيا ، وللآخرة وما فيها من نعيم مقيم ، وعطاء جزيل أكبر درجات وأكبر تفضيلا.
روى أن قوما من العرب فيهم الأشراف والعامة وقفوا بباب عمر فأذن لبلال وصهيب فشق على أبى سفيان وأمثاله من أشراف قريش وملوك العرب فقال سهيل :
ذلك عمر إنما أوتينا من قبلنا ، إنهم دعوا ودعينا يعنى إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب عمر!! فكيف التفاوت في الآخرة ، ولئن حسدتموهم على باب عمر. فما أعده اللّه لهم في الجنة أكثر وأعظم.
دعائم المجتمع الإسلامى [سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 41]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)(2/363)
ج 2 ، ص : 364(2/364)
ج 2 ، ص : 365
المفردات :
فَتَقْعُدَ يجوز أن تكون على معناها الأصلى ، وهي كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات ، وقيل هي بمعنى : تصير مأخوذ من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أى : صارت كأنها حربة أُفٍّ لفظ يدل على التضجر والاستثقال وَلا تَنْهَرْهُما النهر الزجر والغلظة يقال : نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره جَناحَ الذُّلِّ قالوا : إن خفض الجناح للذل كناية عن حسن الرعاية والعناية مأخوذ من أن الطائر يخفض جناحه على أولاده عند تربيتها والعناية بها ، أو هو كناية في التواضع وترك التعالي وذلك أن الطائر يخفض جناحه عند النزول وينشر جناحه عند الطيران وَلا تُبَذِّرْ التبذير تفريق المال كيفما كان كما يفرق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه قَوْلًا مَيْسُوراً قولا حسنا ووعيدا جميلا وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ كناية عن البخل وعدم الإنفاق ، كما أن بسط اليد بحيث لا يعلق بها شيء كناية عن الإسراف خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أى : خوف الفقر خِطْأً أى خطأ وَلا تَقْفُ لا تتبع مالا تعلم مأخوذ من قولك قفوت فلانا إذا أتبعت أثره مَرَحاً المرح هو شدة الفرح ويلزمه التكبر والخيلاء في المشي ، وتجاوز الإنسان قدره غالبا أَفَأَصْفاكُمْ أى : أفاختاركم وخصكم.(2/365)
ج 2 ، ص : 366
المعنى :
هذا قبس من نور الذكر الحكيم. يرسل فيملأ القلوب إيمانا واعترافا بأن ذلك القرآن من عند اللّه لا من عند محمد.
نعم ذلك بعض ما أوحى إلى ذلك النبي من الحكمة والموعظة الحسنة. وهذه الآيات تدلنا على أن محمد بن عبد اللّه ذلك الإنسان الذي نشأ في بيئة جاهلية بكل معاني الكلمة ، بيئة ، كل همها فتك وقتل وتخريب وإغارة وزنا وخمر ، ووأد البنات مخافة الفقر أو العار لا يمكن أن يكون من عنده هذا النور ، وهذا السمو في الخلق إذ فاقد الشيء لا يعطيه.
أهذه البيئة تخرج مثل ذلك النبي الذي يدعو في هذه الآيات إلى كل خير وبر ، وينهى عن كل إثم وشر ؟ !! ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولكنها المعجزة الباقية على أن هذا القرآن من عند اللّه لا من محمد وإلا فمن علمه ذلك ؟
ومن عرفه الأسس والدعائم التي تبنى مجتمعا صالحا طيبا ، فلو اجتمع فلاسفة الأخلاق في القرن العشرين ليبنوا مجتمعا صالحا أتراهم يوصون بهذه الدعائم ؟ !! هذه الآيات بدئت بالنهى عن الشرك ثم بالأمر بالإحسان إلى الوالدين إلى آخر ما فيها من معان سامية ثم اختتمت كذلك بإثبات أن ذلك وحى من عند اللّه بالنهى عن الشرك ، وبيان الجور في حكمهم أن للّه البنات ولهم البنين ، وفي النهاية الكلام على القرآن الكريم.
وهذا النسق القرآنى يرشدنا إلى خطر الشرك باللّه وأن هذه الأوامر والنواهي مما يتطلبه الدين ويحث عليه ، وتبين لنا أن القرآن الكريم قد صرفه اللّه على أحسن وجه وأكمله ليذكروا ، ولكن ما يزيدهم ذلك إلا نفورا واستكبارا.
والمناسبة بين هذه الآيات والتي قبلها ظاهرة حيث تكلم القرآن على من أراد الآخرة وسعى لها سعيا وهو مؤمن ، ثم أردف ذلك ببيان السعى الموصل للآخرة بالتفصيل ، مع الكلام على الشرك المحبط للأعمال ، وهاكم الآيات بالتفصيل.(2/366)
ج 2 ، ص : 367
التوحيد :
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا. وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ....
والخطاب في الظاهر للنبي صلّى اللّه عليه وسلم لبيان أهمية الخبر وخطورته وهو لكل مخاطب لكل أحد ، والمعنى : لا تجعل مع اللّه الذي خلقك ورزقك إلها آخر على أية صورة وبأى شكل فهو وحده الذي يجب أن يعبد ، إنك إن اتخذت إلها آخر تكن مذموما من اللّه والملائكة والناس أجمعين ومخذولا من اللّه حيث عبدت غيره ومن الشريك لأنه لا يملك نفعا ولا ضررا ، وقد قضى ربك ، وحكم حكما لا نقض فيه ولا رجوع أن لا تعبدوا إلا اللّه وحده لا شريك له. إذ هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.
الإحسان إلى الوالدين :
... وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً.
وقضى ربك بأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا في المعاملة ، إحسانا ليس بعده إحسان إذ يجتمع فيهما كل أسباب المودة والعطف ، فمن قرابة قريبة ، إلى صلة وشيجة وجوار كريم ، وعطف سابغ ، وحنان أبوى سليم ، ولا عجب فهما أول من يعطف عليك عطفا غرزيا وأنت في أشد الحاجة إليه ، فمن المروءة أن ترد الجميل لا أقول بأحسن منه فليس هناك جميل يوازى عملهما ، ولهذا ترى القرآن الكريم يجمع بين الأمر بعبادة اللّه والأمر بالإحسان إليهما وفي آية أخرى يقول. أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ولا غرابة فوالداك هما اللذان كونا الظاهر من جسمك ، واللّه الذي خلقك وسواك ونفخ فيك من روحه. اعبده وحده ولا تشرك به شيئا واحسن إلى والديك إحسانا يكافئ ما قدماه لك ، وهذا الأمر بالإحسان عام في كل حال ، ووضعه هنا دليل على أنه من دعائم الدين وأصوله ، وهناك أوضاع خاصة تقتضي التنصيص عليها بخصوصها مثلا :(2/367)
ج 2 ، ص : 368
إن يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما كلمة ضجر أو تألم ، والكبر ملازم للضعف والعجز والحاجة إلى المعين والناصر الذي يتغاضى عن العيب والأذى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً.
وليس النهى عن التضجر والتألم خاصا بحالة الكبر بل في كل حال خصوصا التي يتهاون فيها الولد بأبيه لضعفه وعجزه عن الكسب.
وقل لهما قولا لينا لطيفا ، مع حفظ الكرامة ، والأدب والحياء. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وهذه كناية عن حسن رعايتهما ، وتدبير أمرهما فكأنه قال : واضممها إلى نفسك كما فعلا بك وأنت صغير وتواضع لهما ، وألن جانبك معهما ، واخفض لهما الجناح الذليل من أجل فرط الشفقة بهما ، والعطف عليهما إذ هما في حاجة إلى عطف من كان أفقر خلق اللّه إلى عطفهما.
ولا تكتف بهذا بل قل رب ارحمهما ، وتجاوز عن سيئاتهما فإنهما ربياني صغيرا.
وأنت ترى أن اللّه بالغ في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعر منها جلود العاقين.
وفي السنة الكريمة
قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « الجنّة تحت أقدام الأمّهات »
وقوله : « أتانى جبريل فقال : يا محمد ، رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك قل :
آمين. فقلت : آمين ثم قال : رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل : آمين. فقلت : آمين. ثم قال : رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل : آمين. فقلت : آمين » .
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً وهذا تذييل يعلمنا أن العبرة بالقلب ، وما فيه ، فإن بدرت منه بادرة لم تكن مقصودة منه فاللّه أعلم به ، ولا يعاقبه عليه ما دامت نيته حسنة وهو من الصالحين ، وإذا تبتم إلى اللّه وندمتم على ما فعلتم فاعلموا أن اللّه غفور للأوابين رحيم بهم.
حق ذوى القربى والمساكين وابن السبيل :
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والخطاب في ذلك للنبي صلّى اللّه عليه وسلم(2/368)
ج 2 ، ص : 369
تهييجا وإلهابا لغيره من الأمة والخطاب لكل من هو صالح لذلك ، وحق ذوى القرابة هو صلة الرحم التي أمر اللّه بها مرارا ، وهل الأمر للوجوب أو الندب وهل تجب للوالد فقط أولهما ولغيرهما من الأقارب كالأخوات وبنى الأعمام.
فعند أبى حنيفة الأمر للوجوب فيجب على الموسر مواساة أقاربه إذا كانوا محارم كالأخ والأخت ، والوالد من باب أولى ، وعند الشافعى - رضي اللّه عنه - الأمر للندب ولا تجب إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب.
والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة ، والتعاطف أمر قلبي لا يغرسه قانون.
أما حق المساكين وابن السبيل فهو من الصدقة الواجبة أو المندوبة. والأقربون أولى بالمعروف.
ولما أمر بما أمر به ها هنا نهى عن التبذير حتى نكون وسطا فلا إفراط ولا تفريط.
التبذير :
وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً.
الإسلام دين ودولة ، وعقيدة وعمل ، وفكرة ونظام ، واجتماع وعمران ولا أدل على ذلك من نهيه عن التبذير وحثه على الاقتصاد ، ولقد كان أسلوب القرآن. ووصفه المبذرين بأنهم إخوان الشياطين أسلوبا لاذعا وتصويرا عمليا أبرز في صورة بشعة حيث كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لنعم ربه كفورا ، وهكذا المبذرون كفروا بنعمة ربهم وفرقوا المال في غير موضعه ، وأسرفوا فيه إسرافا مذموما لمجاوزتهم الحد المستحسن شرعا ، والآية تفيد أن المبذر مماثل للشيطان والشيطان كفور لربه فالمبذر كفور لربه جاحد لنعمته.
وإن أعرضت عن ذوى القربى والمساكين وابن السبيل لضيق يد ولفقد مال ترجو أن يفتح اللّه به عليك فقل لهم قولا ميسورا سهلا لينا كالوعد الجميل ، والاعتذار المقبول.(2/369)
ج 2 ، ص : 370
القصد في الإنفاق :
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً.
وهذا أمر بالقصد في الإنفاق والتوسط في المعيشة على سبيل التمثيل ، وذلك أن البخيل وقد امتنع عن الإنفاق يشبه رجلا يده مغلولة إلى عنقه فلا يقدر على التصرف بحال ، والمسرف الذي يضيع ماله شمالا ويمينا بغير حساب يشبه رجلا يبسط يده كل البسط حتى لم يبق في كفه شيء.
حقيقة كل فضيلة وسط بين رذيلتين فالتقتير مذموم ، والإسراف مذموم ، والتوسط بينهما محمود شرعا وعقلا ، ولا شك أن البخيل الممسك ملوم من اللّه والناس ، والمسرف المبذر محسور نادم على ما فرط منه منقطع لا شيء معه.
يا أخى انظر إلى تعاليم القرآن وهديه وإلى السر في ارتقاء الأمم الغربية أفرادا أو جماعات في الاقتصاد والمال ، فهل كان نظام الإسلام يقصر دون أحدث النظم الاقتصادية ؟ ! إن ربك يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء بقطع النظر عن عقله وأصله ، ويقدر الرزق ويقتره على من يشاء من خلقه وهو أعلم بهم وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِوَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ
[سورة الشورى آية 27].
ولعل فائدة التذييل بهذه الآية بعد الأمر بالقصد ، أننا مأمورون بالقصد لأنه حكمة ، وأما الغنى والفقر فأمر مرجعه إلى اللّه فقط.
تحريم وأد البنات :
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً.
من عادات الجاهلية التي جاء الإسلام يحاربها بأقوى الأسلحة ويصورها للناس بأبشع صورة وأد البنات أى : قتلهم خشية الفقر أو منعا للعار الذي يلحق بهم بسببهم وقد يقتلونهم خشية فقرهم كما هنا ولذلك قال : نحن نرزقهم وإياكم لأنه خاطب الموسرين(2/370)
ج 2 ، ص : 371
منهم ، وقد يقتلونهم من إملاق حاصل فقال لهم كما في سورة الأنعام : نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لأنه خاطب الفقراء.
إن قتلهم من الفقر أو العار كان خطئا كبيرا وإثما عظيما.
تحريم الزنى :
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا.
الزنى عادة تتنافى مع مبادئ الإنسانية الأولى ، لم يقره شرع أبدا ولم يؤيده قانون ، فيه هتك الأعراض ، واختلاط الأنساب ، وقضاء على الحرمات ، وتقويض دعائم الاجتماع والعمران ، وما شاع الزنى في قوم إلا ابتلاهم اللّه بالأمراض والأوجاع ، وسلط عليهم الفقر والذل والهوان ، ولقد صدق الرسول حيث يقول : « بشّر الزّانى بالفقر ولو بعد حين »
. « ومن زنى يزنى فيه ولو بجدار بيته » .
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [سورة النور آية 3] ، ولا غرابة إذ يقول اللّه فيه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا.
أين دستور الإسلام ، الذي حرم الزنى بهذا الوصف ، من دساتير الغرب التي تبيحه مادامت الزانية بلغت السن وكانت راضية ؟ ! كأن عرضها ملك لها ، وكأن اختلاط الأنساب لا يهم في شيء أبدا ، ! فسبحان من هذا كلامه! ولعلكم تتعظون يا أيها الناس!
تحريم القتل :
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً.
القتل اعتداء على خلق اللّه ، وانتهاك لحرمة اللّه - سبحانه وتعالى - اللّه يبنى والقاتل الأثيم يهدم ويعتدى ، والإنسان ليس ملكا لنفسه وحده إنما هو ملك للمجتمع والدولة ، ولذلك حرم الانتحار وحرم قتل النفس إلا بالحق ، فمن قتل نفسه فهو آثم بقتله نفسه ،(2/371)
ج 2 ، ص : 372
ومن قتل غيره فهو معتد أثيم ، ولا يباح إلا بحق من حقوق ثلاث ، فمن قتل مسلما بلا قصاص ، ومن زنى وهو محصن ، ومن ارتد عن الإسلام ، كل أولئك دمهم مهدور ، ومن قتل مظلوما أى : لم يكن يستحق القتل ، وكانت نفسه محرمة فقد جعلنا لوليه الذي يستحق المطالبة بدمه سلطانا على القاتل في القصاص منه فلا يسرف في القتل ، ولا يقتل غير القاتل كعادة الجاهلين الذين كانوا يقتلون الجماعة في الواحد لأنه شرف عظيم في نظرهم ، فهذا مهلهل بن أبى ربيعة يقول حين قتل بجير بن الحارث ابن عباد : بؤ بشسع نعل كليب أخى أى : أنت تساوى نعل كليب ولا يكفيني في كليب إلا قتل آل مرة جميعا ... لا تسرف في القتل يا ولى الدم إنك منصور من اللّه ومن عامة المسلمين حيث أوجب لك القصاص في القتل.
تحريم أكل مال اليتيم :
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
يربى الإسلام نفوسنا تربية إسلامية عالية ، ويغرس فينا المثل العالية ، وها هو ذا يحرم علينا أكل مال اليتيم لأنه ضعيف مسكين لا حول له ولا قوة ، نهانا عن أن نقترب من مال اليتيم إلا بالطريقة الحسنى تعود على اليتيم بالفائدة فليس الاعتداء على ماله بأى شكل حتى يبلغ أشده ، ويكتمل عقله ورشده فينطبق عليه القانون العام الذي يشمل جميع المسلمين.
الوفاء بالعهد :
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا الوفاء بالعهد فضيلة من الفضائل الإسلامية العليا ، وخلف الوعد رذيلة من الرذائل وصفة من صفات المنافقين ، وللأسف الشديد نجد الوفاء بالوعد عند الغربيين الذين لم يحثهم دينهم عليها ، ونحن فينا خلف الوعد كأنه غريزة من الغرائز ، والعهد أمر عام يشمل ما بينك وبين اللّه والناس ونفسك.(2/372)
ج 2 ، ص : 373
الوفاء في الكيل والوزن :
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا : . هكذا ديننا الحنيف يحارب فينا المادية والأنانية بكل معانيها ويربى فينا السمو والبعد عن الدنية ، والعدل في كل شيء لذا أمرنا بالوفاء في الكيل إذا بعنا لأحد أو اشترينا منه ، وأمرنا بالعدل والقسطاس المستقيم في كل ما نزنه ذلك خير بلا شك وأحسن عاقبة ، إذ بالتجربة أن التاجر الذي يطفف في الكيل أو الوزن هو المبغوض من الناس أجمعين ، وبالعكس التاجر الصادق هو الكسوب الرابح وللأسف نرى عند التجار الأجانب صدقا في الوعد وكمالا في الكيل والوزن.
تتبّع العورات والقول بالحدس :
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا.
يرشدنا ديننا الحنيف إلى أننا لا نتبع في سلوكنا الظن والحدس ولا نقفوا ما ليس لنا به علم فلا يصح أن يقول إنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم به ولا يليق بك أن تذم أحدا بما لا تعلم وعلى هذا فشهادة الزور وقول الزور والقذف والتكلم في الناس بالظن وتتبع العورات كل هذا محرم شرعا إن السمع والبصر والفؤاد كل واحد من ذلك كان صاحبه عنه مسئولا فيقال له : لم سمعت ما لا يحل لك سماعه ؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه ؟ ولم نويت وعزمت على ما لا يحل لك العزم عليه ؟ واعلم أن تتبع العورات واستعمال الظن داء أصاب الشرقيين خاصة المسلمين وهو يدل على ضعف النفس وانغماسها في المادة وعدم صفائها.
النهى عن الكبر والخيلاء :
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً.
الكبر والخيلاء مرضان نفسيان ينشآن من مركب النقص الذي يصاب به بعض الناس. فلا يتكبر ولا يختال رجل كبير النفس واسع العقل أبدا ، ولهذا نهى الإنسان(2/373)
ج 2 ، ص : 374
عنهما نهيا معللا بقوله : إنك لن تخرق الأرض إذا سرت عليها ولن تبلغ بتطاولك الجبال وهذا تهكم بالمتكبر والمختال.
كل ذلك المتقدم من قوله : لا تجعل مع اللّه إلها آخر إلى هنا كان سيئه مكروها عند ربك ومبغوضا عند العقلاء من الناس.
ذلك إشارة إلى ما تقدم من قوله : لا تجعل مع اللّه إلها آخر إلى هنا بعض ما يوحى إليك ربك من الحكمة ، حقّا إنه هو الكلام المحكم الذي لا دخل فيه للفساد أبدا.
أليس هذا المجتمع الذي يعيش على هذه النظم مجتمعا فاضلا كريما ذا عزة وقوة وفضل ونبل هو المجتمع الإسلامى الذي يدعو إليه الإسلام وأما نحن وأعمالنا فلسنا حجة على الإسلام في شيء.
ولا تجعل مع اللّه إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما من اللّه والملائكة والناس جميعا مطرودا من رحمة اللّه وقد كرر هذا النهى للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه فإن من لا قصد له بطل عمله ومن قصد بفعله غير اللّه ضاع سعيه وخاب ظنه.
ولما أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك أتبعه بذكر من أثبت الولد له - تعالى - خصوصا إذا كان الولد أنثى!! أيكرمكم ربكم فيخصكم بالبنين ويتخذ من الملائكة إناثا له ؟
أيعقل هذا إنكم لتقولون قولا عظيم إثمه كبير جرمه تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى فإنكم تكرهون البنات وتحبون الذكور فكيف تقسمون الأولاد هكذا الذكور لكم والإناث للّه.
وبعد هذا البيان الجامع لأسس الخير والفلاح يقول اللّه ممتنا على عباده : ولقد صرفنا في هذا القرآن. وبينا فيه كل شيء ليذّكّروا ولكن ما يزيدهم ذلك إلا عتوا ونفورا واستكبارا في الأرض ومكرا وما كان جزاؤهم في ذلك إلا سعيرا وحميما.
الرد على من يدّعى للّه شريكا [سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 44]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)(2/374)
ج 2 ، ص : 375
لما أثبت اللّه - سبحانه وتعالى - خطأهم في ادعائهم أن الملائكة بنات اللّه. قفّى على ذلك بإبطال التعدد وإثبات الوحدانية للّه ، والتنزيه له.
المعنى :
قل لهم يا محمد : لو كان مع اللّه - تبارك وتعالى - آلهة وشركاء كما تقولون أيها المشركون إذن لابتغوا إلى صاحب العرش سبيلا ولطلبوا طريقا لمقاتلة اللّه ولتنازعوا على الألوهية. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء آية 22].
سبحانه وتعالى عن قولهم الإثم واعتقادهم الخطأ سبحانه وتعالى علوا كبيرا مناسبا لمقامه إذ فرق بين الغنى المطلق والفقر المطلق فرق شاسع وبون واسع.
ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر جلال ملكه وعظيم سلطانه وكامل وحدانيته فقال : تسبح له السموات السبع ومن فيها والأرضون السبع ومن فيهن وليس هناك في الوجود شيء إلا يسبح بحمده تسبيحا بلسان الحال ولكنكم أيها المشركون لا تفقهون تسبيحهم كل ما في الكون من إنسان وحيوان وشجر ونبات وجماد وأجرام يدل دلالة قوية على وجود الصانع القادر الواحد المختار فكل شيء يسبح بحمد اللّه وشكره.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
ولكن الذين لا يعرفون لغة الكائنات ودلالة الموجودات لا يفقهون ذلك بل لا يفهمون أصلا.
ومع ذلك إنه هو الحليم بعباده الغفور الذي يغفر عن السيئات ويقبل التوبة من عباده قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [سورة الأنفال آية 38].(2/375)
ج 2 ، ص : 376
السر في كفرهم وعنادهم [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
المفردات :
حِجاباً حاجزا أَكِنَّةً جمع كنان وهو الغطاء والستر وَقْراً صمما وثقلا في السمع.
المعنى :
وإذا قرأت يا محمد القرآن كله أو أى آية منه جعلنا بينك وبين هؤلاء المشركين الذين لا يعنون بالآخرة حجابا حاجزا وسترا ساترا بحيث لا يبصرون ببصائرهم نور القرآن وهدايته وجعلنا على قلوبهم أكنة وأغطية تحول دون تفهم معاني القرآن وتدبر آياته وأمثاله وجعلنا في آذانهم صمما حتى لا يسمعوا سماع قبول وتدبر.
وهذا تمثيل وتصوير لموقفهم من القرآن وصاحبه وذلك أن حالهم وما نشأوا فيه وبيئتهم وحبهم للرياسة الكاذبة ، وتغلغل الحسد في قلوبهم ، كل ذلك كان بمثابة غطاء(2/376)
ج 2 ، ص : 377
وحجاب يمنع القلب والبصيرة من أن ترى أو تسمع أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ؟ ؟ ..
قال الكشاف : ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله جَعَلْنا للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه.
وهم يقولون إن للبدن حواسه التي بها يحس كالأذن والعين وحاسة الشم وحاسة اللمس والذوق ، وللروح حواسه كذلك الباطنية وموضعها القلب وهي المعبر عنها بالبصائر فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج : 46].
فحين ينفى القرآن عنهم حواس السمع والبصر والفؤاد إنما يقصد الحواس الروحية حواس البصيرة القلبية ، وعند ذلك يفهم السر في إعراضهم وكفرهم إذ الحواس معطلة وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده جمحوا ونفروا نفورا ناشئا من أن عقلهم قاصر عن إدراك غير المحسوس المشاهد ، وعقولهم غير مستعدة لإدراك السر الإلهى الأعظم مجردا عن المادة.
نحن أعلم يا محمد بما يستمعون به ، وبهم حين يستمعون إليك ، وسنجازيهم على استهزائهم وكفرهم وقت سماع القرآن إن ربك عليم بما في الصدور. وربك أعلم بما يتناجون به في خلواتهم ، والشيطان معهم إذ يقول هؤلاء الظالمون الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم ، إن تتبعون إلا رجلا قد سحر فاختلط عقله ، وزال اعتداله وطاش حكمه.
انظر يا من يتأتى منك النظر كيف ضربوا لك يا محمد الأمثال ؟ فقالوا كاهن ، ساحر ، وشاعر ، ومجنون ، فهم قد ضلوا في جميع ذلك عن سواء السبيل فلا يستطيعون طريقا إلى الهدى والحق.
شبهتهم في البعث والرد عليهم [سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 55]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)(2/377)
ج 2 ، ص : 378
المفردات :
رُفاتاً الرفات : ما بولغ في دقه وتفتيته حتى صار كالتراب وهو اسم لأجزاء ذلك الشيء المفتت ، وقال بعضهم : الرفات التراب بدليل تكرير ذكره في القرآن مع العظام : ترابا وعظاما فَسَيُنْغِضُونَ سيحركون إليك رءوسهم تعجبا يَنْزَغُ المراد يفسد بينهم بالوسوسة.
لقد سبق الكلام في شأن التوحيد والقرآن والسبب في كفرهم ، وهنا تكلم عن شبههم الباطلة في البعث ، ثم عن البعث مع تحذير المسلمين عاقبة المخالفة لأن الناقد بصير.
المعنى :
نظر المشركون بعقلهم القاصر ، وقلبهم الأعمى إلى نظرية البعث وإعادة الحياة للحساب والثواب والعقاب فقالوا : إذا مات الإنسان جفت عظامه وتناثرت وتفرقت(2/378)
ج 2 ، ص : 379
أجزاؤه في جوانب العالم ، واختلطت عناصر الجسم بغيرها ، وهب أن إنسانا ابتلعه حوت في البحر وتحول جسمه إلى غذاء له مثلا فكيف يعقل بعد ذلك كله اجتماع أجزاء الجسم ثم عودة الحياة إليها ؟ !! وقالوا : أإذا كنا عظاما نخرة ورفاتا مفتتة نبعث ؟ ! ونكون خلقا جديدا له حس وحركة وفيه حياة وإدراك ؟ !! إن هذا لشيء عجيب! فيرد اللّه عليهم إن إعادة الحياة إلى الجسم أمر ممكن ، بل هو أهون على اللّه من خلقه أول مرة - وهو أهون بالنسبة إلى إدراكنا وحكمنا وإلا فخلق الجبال والناس جميعا عند اللّه كخلق ذرة واحدة - ولو فرضتم أيها المشركون أن بدن الميت قد صار أبعد شيء عن الحياة بأن صار حجرا أو حديدا أو خلقا آخر مما يكبر في صدوركم وعقولكم كالسماء والأرض فاللّه قادر على إحيائه وبعثه من جديد.
فسيقولون : من يعيدنا ؟ قل لهم : الذي فطركم وخلقكم أول مرة قادر على إعادتكم وإحيائكم للبعث والجزاء فسينغضون إليك رءوسهم ، ويحركونها تعجبا ، ويقولون :
متى هذا ؟ وفي أى وقت يكون ؟ قل لهم : عسى أن يكون قريبا فكل آت قريب ، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [سورة المعارج الآيتان 6 و7].
اذكروا يوم يدعوكم فتستجيبون حامدين طائعين منقادين ، وتظنون عند البعث أنكم ما لبثتم إلا زمنا قليلا لهول ما ترون.
وقل لعبادي المؤمنين يقولوا المقالة التي هي أحسن من غيرها عند محاورة المشركين وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لأن الشدة في الخطاب تنفر الناس وتجعلهم يعاندون ويستكبرون خصوصا هؤلاء الذين في قلوبهم مرض ، ومعهم الشياطين التي لا تألوا جهدا في إيقاع الفساد والشر فيما بينكم وبين غيركم إن الشيطان ينزغ بينهم ويفسد ، إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ظاهر العداوة بينها.
ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم ويوفقكم إلى الخير والإسلام أو إن يشأ يعذبكم ولا يهديكم إلى الهدى والنور ، وما أرسلناك يا محمد عليهم وكيلا تحاسب على أعمالهم إن أنت إلا نذير وبشير فقط ، وربك أعلم بمن في السموات ومن في الأرض جميعا علم إحاطة وانكشاف أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ؟ [الملك 14].(2/379)
ج 2 ، ص : 380
ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ونحن أعلم بخلقنا فموسى كليم اللّه ، وعيسى كلمته وروح من عنده ، وإبراهيم خليله ، ومحمد حبيبه وخاتم رسله وصاحب الإسراء والمعراج ، ولا تعجبوا من إعطائه القرآن فداود أعطيناه الزبور وفيه أن محمدا خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [سورة الأنبياء آية 105].
مناقشة المشركين في عقائدهم [سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 60]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)(2/380)
ج 2 ، ص : 381
المفردات :
تَحْوِيلًا المراد : تحويله من حال إلى حال ، أو من مكان إلى مكان الْوَسِيلَةَ القربى بالطاعة والعبادة مَحْذُوراً مخوفا أَحاطَ المراد أنهم في قبضته وتحت قدرته.
وهذا رد على من عبد غير اللّه - سبحانه وتعالى - من العقلاء كالملائكة وعيسى وعزير ومناقشة لهم في عقائدهم.
المعنى :
قل لهؤلاء المشركين الذين يعبدون من دون اللّه شركاء ، وزعموا أنهم آلهة من دونه قل لهم : ادعو الذين زعمتم أنهم من دون اللّه شركاء فهل يجيبونكم ؟ إنهم لا يستجيبون فهم لا يملكون كشف الضر عنكم ، ولا تحويله من مكان إلى مكان ، بل لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، أولئك الذين عبدتموهم من دون اللّه كعزير والمسيح يدعون ربهم يبتغون الوسيلة إليه والقربى منه بالطاعة ، ويخصونه بالعبادات وهم أقرب إلى اللّه وأولى به لأنهم عباده الأطهار المخلصون من ملائكة وأنبياء وهم يرجون رحمته ، ويخافون عذابه ، إن عذاب ربك كان محذورا ، إذ هو حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم فكيف أنتم ؟ ! ثم بين - سبحانه وتعالى - مآل الدنيا وأهلها فقال : وما من قرية كانت من قرى الكفار إلا نحن مهلكوها بالموت أو معذبوها عذابا شديدا يستأصلهم ، وهذا الحكم عام ثابت ، كان ذلك في الكتاب مسطورا.
كان أهل مكة سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحى عنهم جبال مكة فأتاه جبريل فقال. إن شئت كان ما سأله قومك. ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا ، وإن شئت استأنيت بهم فأنزل اللّه هذه الآية وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.
وما منعنا من إرسال الآيات واستجابة طلباتهم التي سألوها إلا تكذيب الأولين فإننا إن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ، ولم يمهلوا كما هو سنة اللّه - سبحانه - مع(2/381)
ج 2 ، ص : 382
الأمم ، والمعنى : ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلا لتكذيب الأولين فإنهم إن كذبوا بعدها حل بهم ما حل بغيرهم من الأمم السابقة ، وقد أراد اللّه أن يؤخر عذاب من أرسل لهم محمد إلى يوم القيامة ، واذكروا أنا آتينا قوم ثمود الناقة كما طلبوا وكذبوا ، بعدها عقروها فأخذتهم الصيحة ، وجعلنا آية الناقة مبصرة ذات أبصار يدركها الناس ، وإنما خصت بالذكر دون غيرها لأن آثار هلاك ثمود قريبة منهم وفي طريقهم ، وما نرسل بالآيات إلا تخويفا للناس وإنذارا لهم ، فكأن الآية مقدمة لعذاب الاستئصال ، وأما أنت يا محمد فثق بالنصر وأن اللّه معك وناصرك واذكر وقت أن قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس علما وقدرة فهم في قبضته وتحت قدرته ، فإلى أين يذهبون! وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس ، أما الرؤيا التي رآها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقيل إنها : بشر اللّه له بانتصاره على قريش في بدر وغيرها ، وأنه سيهزم الجمع ، ويولون الدبر ، ولذلك كان يقول النبي وهو في العريش مع أبى بكر قبل بدء المعركة : اللهم إنى أسألك عهدك ووعدك ، ولعل اللّه أراه مصارع القوم في منامه فكان يقول ، هذا مصرع فلان ، وذاك مصرع فلان تسامعت قريش بذلك وبما رأى في منامه فكانوا يضحكون ويسخرون ، ويستعجلون العذاب ، وحين يقول اللّه. إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ، وأنها في النار قالوا : إن محمدا يزعم أن نار جهنم نار وقودها الناس والحجارة ثم يقول : ينبت فيها الشجر. فهذه الرؤيا بالنصر للنبي ، والشجرة الملعونة كانت فتنة للناس بعضهم آمن بهذا وبعضهم كفر.
وقيل الرؤيا هي الإسراء وقد كانت فتنة للناس آمن بها البعض وكفر بها البعض وبه تعلق من يقول كان الإسراء في المنام ومن قال إن الإسراء كان في اليقظة ، قال هي رؤية بالبصر ، وسماها رؤيا بناء على قول المكذبين.
ونحن نخوفهم بعذاب الدنيا والآخرة فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا. فكيف يؤمن قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحونه من الآيات.(2/382)
ج 2 ، ص : 383
أصل الداء [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
المفردات :
أَرَأَيْتَكَ أى : أخبرنى لَأَحْتَنِكَنَّ لأستأصلنهم بالأعوان إلا قليلا يقال :
احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا بالحنك موفورا اسْتَفْزِزْ كاملا استخف يقال أفزه واستفزه أزعجه واستخفه وَأَجْلِبْ من الحلبة والصياح أى : صح عليهم ، والمراد : أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك غُرُوراً باطلا.
المعنى :
لما ذكر القرآن الشرك والمشركين وناقشهم وألزمهم الحجة أخذ يبين لهم أصل الداء والسبب الحقيقي لعلهم يتعظون وهو أن إبليس اللعين أخذ على عاتقه إغواءهم والوسوسة(2/383)
ج 2 ، ص : 384
لهم مع بيان موقفه من آدم أبى البشر ، ولقد ذكرت هذه القصة في القرآن سبع مرات بأشكال مختلفة. وصور متباينة تتناسب مع الغرض العام في السورة والغرض الخاص المناسب للسابق واللاحق من الآيات. لهذا سنختصر في سردها.
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجودا رمزيا للامتثال ولإظهار المحبة ومكانة بنى آدم لا سجود عبادة وخضوع فسجدوا جميعا إلا إبليس أبى واستكبر وقال : أأسجد لمن خلقته من طين ، وأنا خلقت من نار فأنا خير منه فكيف أسجد له. قال : أخبرنى عن هذا الذي فضلته على! لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين! تاللّه لئن أخرتنى إلى يوم القيامة لأستولين عليهم بالإغواء والإضلال جميعا إلا قليلا منهم ، وهم عبادك المخلصون.
قال اللّه له : اذهب فامض لشأنك الذي أخذته لنفسك فمن تبعك منهم وأطاعك فإن جهنم مأواكم وجزاؤكم جميعا أنت ومن اتبعك جزاء موفورا.
واستفزز من استطعت منهم بصوتك واستخفه وادعه بكل ما تستطيع من قوة وإغراء ، وأجمع عليهم خيلك وفرسانك ، ورجالك ، وهذا تمثيل ، والمراد أجمع لهم مكايدك وما تقدر عليه ، ولا تدخر وسعا في إغوائهم ، وشاركهم في الأموال حتى يتصرفوا بما يخالف وجه الشرع من سرقة وغصب إلى غش وخديعة ، أو أخذ بالربا ، وشاركهم في الأولاد عن طريق الزنى ، وتسميتهم بأسماء غير شرعية ، وعدم احترام الحقوق الشرعية في الزواج والطلاق والرضا وغيره وعدهم بكل ما تعد به من زخرف القول وباطله.
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا باطلا ، وتزيينا كاذبا ، وإظهارا للباطل في صورة الحق.
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ولا قوة إلا من اتبعك ، وكفى بربك وكيلا يتوكلون عليه فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه.
ومن هنا نعلم أن الناس صنفان : صنف مؤمن تقى إذا مسه الشيطان تذكر نفسه وما حمل من أمانة ، وما عليه من حساب ، واستعاذ باللّه فإذا هو مبصر محاسب نفسه وهؤلاء هم العباد الذين ليس للشيطان عليهم سبيل.
والصنف الثاني : هو العاصي الذي يتولاه الشيطان ، ويستولى عليه مستعينا بالمال والدنيا والنفس الأمارة بالسوء.(2/384)
ج 2 ، ص : 385
من نعم اللّه علينا [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
المفردات :
يُزْجِي يسوق ويدفع والمراد يسير الضُّرُّ أى : الشدة وخوف الغرق يَخْسِفَ الخسف أن تنهار الأرض بالشيء حاصِباً المراد ريح شديدة حاصبة وهي التي ترمى بالحصى الصغيرة قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ القاصف هي الريح الشديدة التي تكسر كل ما يصادفها أو هي الريح الشديدة الصوت تَبِيعاً أى : تابعا ثائرا يطالبنا بما فعلنا.
وهذا بيان لكمال قدرته ، وتذكير ببعض النعم حملا لنا على الإيمان الكامل به.(2/385)
ج 2 ، ص : 386
المعنى :
ربكم الذي يستحق وحده العبادة هو الذي يسير لكم السفن في البحر ، ويدفعها بقوة الريح وتيار الماء أو قوة البخار ، يسير الفلك تمخر عباب الماء حاملة الناس والتجارة لتبتغوا من فضل اللّه ورزقه ، إنه كان بكم رحيما منعما بدقائق النعم وجليلها.
وأنتم أيها الكافرون المشركون أمركم عجيب ، إذا مسكم الضر ، واضطرب بكم البحر وعدا على سفنكم هوج الرياح فانخلع قلبكم من خوف الغرق المحقق ، إذا حصل هذا ضل من تدعونه من الآلهة إلا اللّه ، وذهب عن خاطركم ، ولم يدر بخلدكم ذكر واحد منهم فإنكم لا تذكرون سواه ، وقيل المعنى : ضل ولم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوين.
فلما نجاكم إلى ساحل السلامة واستجاب دعاءكم أعرضتم وكفرتم وصرتم تدعون غيره يا عجبا لكم!! في الشدة تذكرونه وحده ، وفي غيرها تدعون معه غيره ، ولا غرابة فخلق الإنسان كفورا بربه جحود النعمة ، وهذا يتحقق في أكثر الأفراد.
ها أنتم أولاء نجوتم الآن وكشف عنكم ربكم الضر الذي أصابكم ، ولكن أنجوتم فآمنتم أن يخسف بكم جانب البر فحملكم ذلك الأمان الصادر عن الغرور الكاذب على الإعراض والكفر.
نعم أمر المشركين عجيب يتضرعون إلى اللّه في البحر فإذا نجاهم منه أعرضوا وكفروا ، ألم يعلموا بأن اللّه قادر على أن يخسف بهم البر ، ويدك عليهم جانبه فيصبحوا أثرا بعد عين ؟ .
أفأمنتم وقد نجاكم من البحر وصرتم في البر أن يرسل عليكم ريحا حاصبا تصيبكم بالحصباء ؟ فأنتم تحت قبضته في كل مكان في البر والبحر ، وإن لم يصبكم من أسفل أصابكم إن أراد من فوقكم قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [سورة الأنعام آية 65] لا تجدون لكم وكيلا يدافع عنكم.
بل أأنتم وقد نجوتم الآن من البحر أن يعيدكم فيه تارة أخرى ؟ ، بأن يهيئ لكم أسباب ركوبه مرة ثانية فيرسل عليكم وأنتم في السفن من الريح شديد فتكسر كل ما(2/386)
ج 2 ، ص : 387
يقابلها فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم بسبب هذا تبيعا علينا يطلب الثأر منا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس 14 و15] وهذا تهديد شديد لا يصح إلا ممن رفع السماء فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها سبحانه وتعالى.
ولقد كرمنا بنى آدم بالعقل والتفكير فسخرنا له كل شيء في الكون كالماء والهواء والأثير ، وكرمه بأن خلق له كل ما في السموات والأرض وكرمه في خلقه السوى وقامته المرفوعة ، وكرمه بالتكليف وإرسال الرسل - عليهم الصلاة والسلام - خاصة محمدا صلّى اللّه عليه وسلم.
وها هي ذي بعض أنواع التكريم فقد حمله ربه في البر على الدابة والسيارة والدراجة والقطار وفي البحر على السفن ، وفي الجو بالطائرة والقلاع الجوية.
وإنما لم تذكر لأنه كان يخاطب العرب الذين لا يمكنهم تصور هذا ، ورزقناهم من الطيبات في المأكل والملبس ، وفضلنا بنى آدم على كثير ممن خلقنا تفضيلا اللّه أعلم به.
وهنا بحث العلماء بحوثا كثيرة في تفضيل بنى آدم على الملائكة واختلفوا اختلافا كثيرا ، وليس في الآية دليل لواحد منهم.
بعض مشاهد يوم القيامة [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 77]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)(2/387)
ج 2 ، ص : 388
المفردات :
بِإِمامِهِمْ المراد من يتقدمهم وينسبون إليه ، وقيل كتاب أعمالهم فَتِيلًا مقدار الخيط الذي في شق النواة الطولى تَرْكَنُ تميل إليهم ضِعْفَ الْحَياةِ المراد ضعف عذاب غيرك في الدنيا خِلافَكَ بعدك.
المعنى :
اذكروا أيها الناس يوم ندعو كل جماعة بإمامهم وقائدهم فيقال مثلا يا أمة موسى يا أمة عيسى. يا أمة محمد ، يا أمة فرعون : يا أمة نمرود ، ويا أتباع فلان وفلان من رؤساء الكفر وزعماء الشرك.
وقيل المعنى يقال لهم : يا أهل التوراة ، ويا أهل الإنجيل ، ويا أهل القرآن ما ذا عملتم في كتابكم ؟ ! وقيل المراد بإمامهم : كتاب أعمالهم نظرا إلى قوله تعالى وكل شيء أحصيناه في إمام مبين.
فإذا نودي الناس يوم القيامة ، فمن أوتى كتابه الذي فيه أعماله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم فرحين مسرورين قائلين لإخوانهم : هلموا اقرءوا كتابنا ، وهم لا يظلمون فتيلا ولا يضيع عليهم مثقال ذرة من أعمالهم.
وأما الصنف الثاني : وهو من يؤتى كتابه بشماله ، فأولئك يصدمون من هول الموقف ويقفون حيارى ، وهؤلاء قد عبر عنهم القرآن بقوله : ومن كان في هذه الدنيا(2/388)
ج 2 ، ص : 389
أعمى القلب والبصيرة ، ولم يهتد إلى طريق الحق والنور فهو في الآخرة أعمى لا يهتدى إلى طريق النجاح والفلاح بل هو في الآخرة أضل سبيلا.
و
روى أن قبيلة ثقيف وكانت تسكن الطائف قالت للنبي صلّى اللّه عليه وسلم : لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب فلا يكون علينا زكاة ، ولا جهاد ، ولا صلاة ، وأن كل ربا علينا فهو موضوع ، وكل ربا لنا فهو لنا فإن قالت العرب لم فعلت ذلك ؟ فقل : إن اللّه أمرنى .. وطمع القوم أن يعطيهم النبي ما طلبوا فأنزل اللّه وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ .. الآية.
وإن هموا وقاربوا أن يفتنوك عن الذي أوحى إليك. ويستنزلونك عن طريق الحق الذي ارتضاه لك ربك لتفترى عليه غيره ، وتبدل فيه ، إنك لو فعلت ذلك بأى صورة لاتخذوك خليلا ، ولكنك تخرج من ولاية اللّه ، وتطرد من رحمته.
ولو لا أن ثبتناك وعصمناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ، إنك لو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الموت.
وفي قوله - سبحانه - : كدت ، شيئا قليلا ، ثم مضاعفة العذاب في الدنيا والآخرة دليل على أن جرم العظيم عظيم.
وفيها إشارة إلى أن التهاون في شأن الدين وأحكامه خطر وأى خطر!!! وعليه عذاب مضاعف في الدنيا والآخرة ، فيا ويلنا مادمنا نتهاون في شأن الدين وحكمه. وعلى المؤمنين جميعا إذا قرءوا هذه الآيات أن يملؤوا قلوبهم خشية وخوفا وتصلبا في دين اللّه ولقد صدق رسول اللّه في قوله : « اللّهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين » .
وإن كاد أهل مكة ليزعجونك بعداوتهم ، ويستفزونك من أرضها ليخرجوك منها ، إنهم إن فعلوا ذلك وأخرجوك كرها لا يبقون بعدك إلا قليلا.
وقيل : نزلت في يهود المدينة حينما قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم حسدا وزورا ، يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام فلو خرجت إليها لآمنا بك واتبعناك ، وهذا مما يؤيد أن هذه الآيات مدنية.
واعلموا أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بلادهم فسنة اللّه أن يهلكهم ولا تجد لسنته تحويلا وخروج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة كان بأمر اللّه.(2/389)
ج 2 ، ص : 390
إرشادات ومواعظ [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 85]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)
المفردات :
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ المراد : من زوال الشمس عن كبد السماء ، وقيل : إنه غروبها إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وغسق الليل : اجتماع الظلمة وسواد الليل فَتَهَجَّدْ الهجود : النوم بالليل ، والتهجد : ترك الهجود كالتأثم والتحرج في ترك الإثم والحرج نافِلَةً لَكَ النافلة : الزيادة ومنه النوافل للسنن الزائدة عن الواجب وَزَهَقَ(2/390)
ج 2 ، ص : 391
الْباطِلُ
بطل واضمحل وَنَأى بِجانِبِهِ النأى : البعد. والمراد لوى عنه عطفه ، أى : جانبه وولاه ظهره ، وهو تأكيد للإعراض شاكِلَتِهِ طريقته.
تقدم ذكر المعاد والجزاء وبعض الإلهيات ، وهنا ذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة وبعض التعليمات الإلهية مع بيان شرف القرآن وسمو الروح ، وهذا هو العلاج لثبات المسلم على الطريق الحق.
المعنى :
يا أيها النبي أقم الصلاة ، وأت بها مقومة تامة الأركان مستوفية الشروط والآداب فهي عماد الدين ، وصلة العبد بخالقه. والأمر للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمر لأمته ، وإنما خص به لمكانة المأمور بها وهي الصلاة.
أقم الصلاة من دلوك الشمس - وهو زوالها عن كبد السماء - إلى غسق الليل واجتماع الظلمة ولعل السر في التعبير باللام بدل من قوله دلوك : الإشارة إلى أن الوقت سبب في إقامة الصلاة ، وشرط فيها.
وأقم قرآن الفجر والمراد صلاة الصبح ، إن قرآن الفجر كان مشهودا من الملائكة حرس الليل وحرس النهار ، ومن يوفق لصلاة الفجر ، والتعبد في السحر والتهجد في الليل يدرك السر ويشعر بأنها صلاة مشهودة ، ودرجة مرفوعة ، وفقنا اللّه لها.
وبعض الليل فتهجد بالقرآن والصلاة نافلة زائدة عن الفرائض المطلوبة ، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. وعسى من الكريم إطماع محقق الوقوع ، والمقام المحمود والمكان المرموق والمركز المعلوم المعد للنبي صلّى اللّه عليه وسلم مقام الشفاعة التي يتخلى عنها كل نبي ورسول ، قائلا للخلق : عنى عنى اذهبوا إلى غيرى. ويقول الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أنا لها :
فيشفع للخلق جميعا حين يضيق بهم الأمر. وتدنو الشمس من الرءوس ، ويتمنون الانصراف ولو إلى النار ، وقيل المقام المحمود غير ذلك.
وقل يا محمد : رب أدخلنى مدخل صدق الذي وعدتني به ، وأخرجنى مخرج صدق وإضافة المدخل والمخرج إلى الصدق لأجل المبالغة ، والآية تشمل كل مدخل للنبي وكل(2/391)
ج 2 ، ص : 392
مخرج ، كدخوله المدينة ، وخروجه من مكة مثلا ، واجعل لي في هذا سلطانا وحجة قوية.
وقل يا محمد : جاء الحق وزهق الباطل وقد قالها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حين كسر الأصنام وهو يفتح مكة.
والمراد بالحق : الإسلام أو كل ما هو حق. والمراد بالباطل : الشرك أو كل متناف مع الحق ، إن الباطل شأنه الزهوق ، وعدم الثبات.
واعلموا أن القرآن هدى وشفاء لما في الصدور ورحمة وخير للمؤمنين. وهو الوسيلة إلى اللّه والدواء والعلاج من كل داء فاللّه يقول : وننزل من القرآن ما هو شفاء من كل داء نفسي ورسمي وشفاء من كل مرض ، وعلاج للأمة والفرد ورحمة للمؤمنين وقد كان رحمة وأى رحمة فهو الذي أخرج العرب الجاهلين الحفاة العراة إلى أمة ذات علم وحضارة وعز وسلطان ، قهرت الأكاسرة والقياصرة ، فهو الرحمة للناس جميعا خاصة المؤمنين وهو السبيل لاكتساب الدين والدنيا.
هذا مع المؤمن الذي يتوجه إليه بقلب خال من الكبر والحسد والبغضاء وحب الرياسة أما مع هذه الأمراض فلا يزيد الظالمين أصحابها إلا خسارا وعتوا واستكبارا.
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض عن ذكر اللّه متكبرا. ؟ ونأى بجانبه وولى ظهره ، وتلك عادة المتكبرين ، وإذا مسه الشر من فقر أو مرض كان شديد اليأس قانطا من رحمة اللّه ، إنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون.
قل كل يعمل على شاكلته وطريقته التي جبل عليها فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ، وأقوم طريقا وهو يجازى كلا على قدر عمله وإخلاصه ..
ولقد كانت اليهود تكثر من سؤال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الروح وحقيقتها ، الروح التي بها يحيا الجسم ويتحرك.
والقرآن يرشدهم إلى ما هو خير لهم وأجدى عليهم فليس هو كتاب علم تحدد فيه الحقائق العلمية الدقيقة ، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد يبحث الأشياء بحثا يتفق مع المصلحة الدينية العامة ، على أن حقيقة الضوء والظلام والكهرباء لم تعرف إلى الآن ، وإنما عرفناها بآثارها وشواهدها.(2/392)
ج 2 ، ص : 393
ولذلك يقول اللّه آمرا نبيه قل يا محمد : الروح من أمر ربي وشأنه ، ومما استأثر اللّه بعلمه ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا بالنسبة إلى علوم اللّه.
وقيل المعنى : إن الروح من أمره أى : جزء منه - سبحانه وتعالى - لا يعرف تحديدها إلا هو ألا ترى إلى قوله تعالى : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة الحجر آية 29] وقوله : يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [سورة الفجر الآيتان 27 و28] على أن بحث حقيقة الروح لا يفيدنا في شيء أبدا.
القرآن هو المعجزة الباقية [سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 93]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)(2/393)