بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : التفسير الواضح
المؤلف : الدكتور / محمد محمود حجازى
دار النشر : دار الجيل الجديد
عدد الأجزاء : 3
تنبيه [ الترقيم داخل الصفحات موافق للمطبوع ]
مصدر الكتاب : برنامج جامع التفاسير [ نور الأنوار 2 ](1/2)
ج 1 ، ص : 3
[الجزء الأول ]
الإهداء
إلى الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ، إلى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، إلى إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أهدى هذا وأحتسب أجرى عند اللّه.
محمد محمود حجازي(1/3)
ج 1 ، ص : 4(1/4)
ج 1 ، ص : 5
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد :
فقد سعد كثيرون من القدامى والمحدثين بالتصدى للكشف عما في الكتاب الكريم من معان وأسرار بلغت الذروة في الكمال ونحا كل منهم نحوا يغاير الآخر : فمن باحث عن الوجوه البلاغية إلى مفصل للأحكام الشرعية إلى ذكر بدائع لغوية وتراكيب تأخذ بالألباب ، إلى محدث عن القراءات ووجوهها ، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحيط به الحصر ، أطال هؤلاء الأعلام حتى كان كلامهم مراجع وموسوعات ، كالفخر والشهاب والآلوسي والطبري والقرطبي ، فموسوعاتهم هذه لا تغيث من يرغب أن يعرف ما يريده إن لم يكن ملما بقدر كبير من اللغة والأدب والأحكام والاصطلاحات العلمية ، ومنهم من اتجه ناحية الإيجاز والاختصار فكان كلامه أشبه بالبرقيات حتى أنه قد يترك ربط الآية ومناسبتها وما تمس إليه الحاجة كالشيخين الجليلين المحلى والسيوطي ومن ألف إلفهما.
وهؤلاء الأعلام - رضى اللّه عنهم - أقل ما نقوله فيهم أن اللّه أيدهم بروح من عنده حتى يسهل فهم كلامه ، وغاية ما نصل إليه أن نفهم كلامهم ونقف على إشاراتهم ، وسبحان من اتصف بالكمال.
والشيء الجديد في هذا العصر كثرة التعليم والمتعلمين ، وتشعب أنواع تعليمهم فأدى هذا إلى أمرين :
أولهما : تشعب البحوث من هؤلاء في علاقة الناس بعضهم ببعض حتى كثر الخلاف بين الناس في تفهم القانون الذي وضعوه ، ولا نزال نرى ونسمع أنهم اجتمعوا ليغيروا ويبدلوا ، ثم لا يمر عام أو بعض عام حتى يعيدوا الكرة فيزيدوا وينقصوا والأمر في ذلك الخلاف أشبه شيء بالبديهيات.(1/5)
ج 1 ، ص : 6
والأمر الثاني : أن أكثر الناس اتجهوا إلى القرآن الكريم وكأنهم سئموا هذا التخبط الشائن والاضطراب المعيب ، ورأوا بأنفسهم أن القوانين الوضعية لم تفلح في منع الجرائم وفي الحفاظ على الحقوق ، بل كأنهم شبعوا حتى أتخموا من هذه الحياة المادية الصرفة ، فتلفتوا حيارى إلى منقذ لهم مما هم فيه إلى طريق يكون لهم فيه نور وهدى ، فتذكروا أن القرآن العظيم فيه المخلص ، وهو المنقذ والموصل إلى ما يبتغون من استقرار ، فبه ضمان لحياة نافعة تقوم على أن يؤدى كل واجبه كاملا ويأخذ حقه غير منقوص.
أليس القرآن هو الدستور الذي أنقذ الأمة العربية من جاهلية حمقاء إلى أمة إسلامية لها كيان معترف به ولها عزة وحضارة وعلم.
ولم لا يكون كذلك ؟ وقد كفل القرآن أن يسعد الناس في حاضرهم ومستقبلهم ولم يترك شأنا فيه خير لهم إلا قال فيه وفصل القول بما لا يدع شبهة لمبطل أو ادعاء لمتطاول ، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وبعد : فهذا هو القرآن الكريم ، بل هو الهدى والنور ، كتب شرحه بلغة سهلة واضحة لا تعمق فيها ولا إبعاد ، خالية من الاصطلاحات العلمية الفنية ، تفسر للشعب كل ما فيه من صوغ المعنى الإجمالى للآية ، بلغة العصر ، مع البعد عن الحشو والتطويل والخرافات الإسرائيلية. والاعتدال في الرأى ، فلم يهدم كل قديم ، ولم يرفع كل جديد « وإن يكن لكل فارس كبوة » .
ولا طاقة للناس الآن بالإطالة فيما لا شأن له بأصل الغرض من التفسير ، إذ المهم أن يفهم القرآن أكبر عدد ممكن من المسلمين.
ألم يأن للحق أن يدحض الباطل كما دحضه في صدر الإسلام ؟ وقد يكون ما تراه من الجمعيات الإسلامية والمؤاخاة الدينية جذوة فيها ضوء يسطع ليبصر من أراد أن يسعد عاجلته وآجلته ، وفيها نار تحرق هؤلاء الشياطين الذين لم يستحوا من اللّه ولا من الحق فجعلوا من جاههم ونفوذهم حربا على الإسلام إبقاء على زخرف كاذب وفرارا من حقوق إخوانهم في الدين والإنسانية قبلهم.
وها نحن الآن قد عزمنا - والعون من اللّه وحده - على الكتابة في التفسير على أن يخرج الجزء الأول ثم الذي يليه وهكذا ، فإن كان في العمر بقية ومن اللّه تأييد تم هذا العمل الذي نقصد به وجه اللّه.(1/6)
ج 1 ، ص : 7
ولا أنكر أنه عمل ضخم ليس لمثلي أن يتعرض له ، ولكن :
وأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزرى بالأمل
وسنظل - والحمد للّه - ندفع بأيدينا وبألسنتنا وبأقلامنا عن حمى هذا الدين حتى يظهره اللّه أو نهلك دونه ، ولن يضيعنا اللّه.
وصدق اللّه إذ يقول : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ .. « 1 »
___________
(1) سورة محمد آية رقم 7.(1/7)
ج 1 ، ص : 8
أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم
ومعناه : أستجير بجناب اللّه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني ، أو دنياى ، أو يصدني عما أمرت ، أو يحثني على ما نهيت فإنه لا يكفه إلا أنت يا رب العالمين ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (96 - 98 من سورة المؤمنون).
فأنت ترى أن القرآن جعل دفع السيئة بالحسنة علاجا لشيطان الإنس ، والاستعاذة علاج شيطان الجن.
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98 من سورة النحل).(1/8)
ج 1 ، ص : 9
سورة الفاتحة
مكية وآياتها سبع
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
تسمى سورة الفاتحة. لافتتاح القرآن بها ، وأم الكتاب لاشتمالها على ما فيه من الثناء على اللّه - عز وجل - والتوحيد ، والتعبد بأمره ونهيه ، وبيان وعده ووعيده ، والأخبار والقصص ، وكذا الحكم العملية كسلوك الصراط المستقيم ، وتسمى السبع المثاني لأنها سبع آيات تثنى في الصلاة ، أى : تعاد.
المفردات :
اللَّهِ : علم على الذات العلية الرَّحْمنِ : المتصفة ذاته بالرحمة وهي صفة(1/9)
ج 1 ، ص : 10
خاصة به الرَّحِيمِ : من يرحم غيره بالفعل وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً وهما في الأصل صفتان مأخوذتان من الرحمة ، وهي رقة في القلب تقتضي الإحسان والتفضل بالنعم ، والمراد هنا : الإحسان والتفضل بالنعم. الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد : الثناء بالجميل على الجميل الاختياري. رَبِّ الرب : المالك والسيد ، وفيه معنى الربوبية والتربية والعناية الْعالَمِينَ : جمع عالم ، وهو ما سوى اللّه ، وهو أنواع كعالم الإنسان والحيوان والنباتات ... إلخ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ : المراد أن الأمر في قبضة قدرته يوم القيامة إِيَّاكَ نَعْبُدُ العبادة : الطاعة مع غاية الخضوع الناشئ من استشعار القلب عظمة المعبود ، والمعنى : لا نعبد غيرك. وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الاستعانة : طلب المعونة منه ، أى : نخصك بطلب المعونة. اهْدِنَا : عرفنا ووفقنا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ : الطريق المعتدل ، والمراد طريق الإسلام. الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ : المبعدون عن رحمة اللّه المعاقبون أشد العقاب لأنهم عرفوا الحق وتركوه ، وقيل : هم اليهود الضَّالِّينَ : الذين ضلوا الطريق ، وقيل : هم النصارى.
آمِّينَ : تقبل منا واستجب دعاءنا ، وليست من القرآن ولكن يسن ختم الفاتحة بها.
المعنى :
ابتدأ اللّه - سبحانه - بالبسملة ليرشدنا إلى أن نبدأ كل أمورنا بها متبركين مستعينين باسمه الكريم ، ولا حول ولا قوة إلا به ، ثم قال : الثناء بالجميل للّه - سبحانه - الواجب الوجود المنزه عن كل نقص ، فالحمد ثابت للّه. فاحمدوه دون سواه ، لأنه مالك الملك ورب العالمين قد تولاهم بعنايته ورعايته ، وتفضل على كل موجود بنعمه التي لا تحصى ، لا لنفع يعود عليه بل لأنه الرحمن الرحيم ، مالك الأمر يوم الجزاء والحساب والقضاء. ومن كانت هذه صفاته - جل شأنه - وجب أن تكون العبادة له دون سواه ، ومن تمام عبادته والخضوع له ألا نطلب المعونة من غيره ، بل علينا أن نطرق الأسباب الظاهرة بكل ما أوتينا من حيلة وعلم وتجربة ، ثم بعد هذا لا نستعين إلا به ولا نتوكل إلا عليه ، وفي الحديث : « اللّهمّ أعنّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك »
تقولها دبر كل صلاة.(1/10)
ج 1 ، ص : 11
ثم أرشدنا إلى طلب الهداية والتوفيق منه حتى نسير على الطريق المستقيم : طريق الحق والعدل ، ولما كان الطريق المستقيم : طريقا لا يسلكه إلا القليل وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ « 1 » وفيه من الوحشة ما فيه ، أرشدنا إلى أننا سنكون مع المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء ، فهو طريق الذين أنعم اللّه عليهم بنعمة الإيمان والهداية ، ولا شك أنهم غير من عرفوا الحق وابتعدوا عنه كفرا وعنادا أو جهلا وضلالا ، فهؤلاء هم المغضوب عليهم الضالون عن طريق الهدى والسداد.
اللهم اقبل منا هذا الثناء ، واستجب منا هذا الدعاء ، واجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم.
هذه السورة مكية.
والفرق بين السورة المكية والمدنية يمكن إجماله فيما يلي :
1 - المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها سواء نزل في المدينة أو ضواحيها أو في مكة عام الفتح أو في غزوة من الغزوات.
2 - المكي أكثر إيجازا لأن المخاطبين به أبلغ العرب ومعظمه تنبيهات وزواجر وبيان لأصول الدين بالإجمال ، اقرأ إن شئت : الحاقّة ، والقارعة ، والواقعة ... إلخ.
3 - المدني في أسلوبه شيء من الإسهاب ، وفيه كثير من خطاب أهل الكتاب ، وفيه بيان الأحكام العملية في العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والسياسية والحربية وأصول الحكومة الإسلامية والتشريع فيها ... إلخ.
___________
(1) سورة سبأ آية رقم 13.(1/11)
ج 1 ، ص : 12
سورة البقرة
نزلت بالمدينة إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجة الوداع أول سورة في ترتيب المصحف ، وأطول سورة في القرآن ، إذ عدد آياتها 286 آية ، وفيها أطول آية في القرآن : « آية الدّين » .
وهذه السورة الكريمة اشتملت على منهجين عظيمين :
الأول جاء في صدرها إلى آية 142 وطابعه أنه خطاب عام لجميع الناس فقد بدئت السورة بالكلام على القرآن ، وأثره ، ثم بيان موقف الناس منه ، فمنهم المؤمن المسالم ، والكافر المجاهر ، والمنافق المخادع. ثم اتجهت لخطاب أمة الدعوة - الناس جميعا - حيث دعاهم اللّه إلى الإيمان الصحيح ، مبينا لهم إعجاز القرآن وصدق الرسول. ثم ذكر قصة خلق الإنسان وتكريمه ، وموقف الشيطان منه.
ثم التفت إلى بنى إسرائيل - الطبقة الواعية في المجتمع المدني - فدعاهم إلى ما فيه خيرهم وذكرهم بنعم اللّه عليهم ، وحذرهم من نقمه ، وبين لهم قبائحهم وسيئات آبائهم ، وأطال في ذلك ، وتعرض لأبى الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - وإلى علاقته بالعرب ، وإلى موقفهم منه ، وكل هذا لا يعرفه الرسول إلا عن طريق الوحى.
أما المنهج الثاني فطابعه أنه خطاب للمسلمين - أمة الإجابة - وهو واقع في عجز السورة وقد بدئ بالكلام على أول حادثة دينية تمس المسلمين وأهل الكتاب - تحويل القبلة - ثم عالجت السورة المجتمع الإسلامى فذكرت الكثير من التشريعات والقوانين ، وما يجب أن يكون عليه المجتمع المثالي المسلم.
وكان الأساس الأول الدعوة إلى التوحيد الخالص للّه ، وتعرضت لأحكام القصاص والوصية والقتال والإنفاق في سبيل اللّه ، ولبيان بعض العبادات كالصيام والحج ، وظهرت أحكام الخمر ، ونكاح المشركات والعدة والإيلاء والطلاق والرضاع ، والربا وأحكام التداين والمعاملات وخاصة الرهن ، وفي خلال ذلك قصص وحكم ، ثم ختمت السورة بالدعاء الإسلامى الكامل.(1/12)
ج 1 ، ص : 13
[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
المفردات :
لا رَيْبَ فِيهِ : لا شك في أنه من عند اللّه. هُدىً : هداية وإرشاد.
لِلْمُتَّقِينَ الذين أخذوا لأنفسهم وقاية من النار.
المعنى :
استفتاح عجيب لأول سورة من القرآن الكريم ، وابتداء حيز الأفهام وزلزل العقول على بساطة تركيبه من حروف هجائية.
فقال جماعه بعد البحث وطول الفكر : هذا مما استأثر اللّه بعلمه فهو من المتشابه الذي نؤمن به على أنه من عند اللّه - واللّه أعلم - واعلم أنه أمر مفهوم عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه خوطب به ، وهو أشبه ما يكون (بالشفرة) بين اللّه ورسوله وقال آخرون :
لا بد أن يكون لذكره معنى ، والظاهر أنه إيماء إلى إقامة الحجة على العرب بعد أن تحداهم القرآن على أن يأتوا بمثله.
فكأنه يقول لهم : كيف تعجزون عن الإتيان بمثله ؟ ! مع أنه كلام عربي من حروف هجائية ينطق بها كل أمى ومتعلم ومع هذا فقد عجزتم.
وذلك الذي نزل على محمد هو الكتاب الكامل في كل ما يتعلق به من معنى شريف وقصد نبيل وقصص فيه عبرة وعظة وتشريع صالح لكل زمان ومكان.(1/13)
ج 1 ، ص : 14
كتاب هذا حاله لا ينبغي من العاقل أن يشك في أنه من عند اللّه خصوصا وقد تحدى اللّه به العرب وهم أهل البيان واللسن تحداهم بأسلوب مثير : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فارجعوا إلى الحق وآمنوا به.
وقد وصفه اللّه بعد هذين الوصفين بوصف ثالث أنه مصدر هداية وإرشاد لمن أراد أن يأخذ الوقاية لنفسه من عذاب ربه ، وإنما خصهم بالهداية لأنه لا يهتدى به إلا من تخطى عقله وقلبه حواجز المادة فآمن بالغيب - ما وراء المادة - وبعمل الخير. وآمن بالسفارة بين اللّه والخلق ، وبالحياة الآخرة.
المتقون وجزاؤهم [سورة البقرة (2) : الآيات 3 الى 5]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
المفردات :
الإيمان : هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها ، وسلامة العمل.
بِالْغَيْبِ : ما غاب عنهم من حساب وجزاء وجنة ونار وغير ذلك. يُقِيمُونَ(1/14)
ج 1 ، ص : 15
الصَّلاةَ
إقامتها : الإتيان بها مقومة معتدلة كاملة ، والمقصود استيفاء أركانها وشروطها. يُوقِنُونَ اليقين : هو الاعتقاد الذي لا يقبل الشك.
المعنى :
إن اللّه - سبحانه وتعالى - يكشف عن صفة المتقين الذين ينتفعون بالقرآن وهديه فيقول : هم الذين يؤمنون بالأمور الغيبية متى قام الدليل عليها ، ولا يقفون عند الماديات والمحسوسات ، يؤمنون بما وراء المادة ، وهؤلاء يسهل عليهم فهم القرآن والانتفاع به لأن نور الإيمان شع في قلوبهم فامتلأت طاعة ورحمة ، ولذا كان من صفاتهم إقامة الصلاة إذ هي مظهر الطاعة ، وإقامة الصلاة : الإتيان بها كاملة مقومة بشروطها وآدابها فالصلاة عبادة بدنية وروحية لا عمل بدني فحسب. وإقامتها : عبارة عن استيفاء ناحيتي البدن والروح.
والإنفاق في سبيل اللّه من زكاة وصدقة مظهر من مظاهر الرحمة بالإنسان ، وركن مهم جدّا من أركان الإسلام كالصلاة التي هي عماد الدين ، فالزكاة أساس بناء المجتمع كما أن الصلاة أساس بناء الفرد.
وهم الذين يؤمنون باللّه وما أنزل عليك ، وما أنزل على من قبلك من الأنبياء والمرسلين ، وآمنوا كذلك بالآخرة إيمانا يقينا لا شبهة فيه ولا شك.
ولا غرابة في أن يكون هؤلاء ذوى مكانة عالية عند اللّه يشار إليهم ، متمكنين من هدايته ، وأولئك البعيدون في مرتبة الكمال هم الفائزون في الدارين.
الكافرون وجزاؤهم [سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)(1/15)
ج 1 ، ص : 16
المفردات :
أَأَنْذَرْتَهُمْ الإنذار : الإعلام مع التخويف. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ : طبع عليها بالخاتم ، وإنما يفعل هذا على الأبواب لمنع الدخول إليها ، والمراد أغلقت قلوبهم فلا يدخلها إيمان ولا تصح. غِشاوَةٌ الغشاوة : الغطاء ، والمقصود التعامي عن النظر إلى آيات اللّه.
المناسبة : ابتدأ اللّه هذه السورة بالكلام عن القرآن الكريم وموقف الناس منه ، وذكر أنهم أنواع : فمنهم من آمن به وعمل صالحا وأولئك هم المفلحون ، ومنهم من كفر واستكبر عن الحق قولا وعملا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
المعنى :
إن الذين كفروا باللّه عنادا وجاهروا بتكذيب القرآن فهؤلاء يستوي عندهم الإنذار وعدمه إذ لا ينتفعون به ولا يتجهون إليه فلا نتأثر بهم ولا نأسى عليهم. فقلوبهم مغلقة لا يصل إليها النور الإلهى الممثل في الآيات ، وأسماعهم لا يعرفها صوت الحق لأنها تنبو عنه ، وأبصارهم لا تراه لأن عليها حجابا كثيفا هو حجاب التعامي عن آيات اللّه ، أولئك لهم عذاب من نوع خاص ليس مألوفا : عذاب عظيم.
ولقد بين اللّه - سبحانه وتعالى - بهذه الآيات أنه إذا وجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس لتقصير في هدايته ولا لعيب فيه ، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب ، والختم على قلوبهم وعلى سمعهم بسبب كفرهم بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155 من سورة النساء). ولقد صدق اللّه : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105 من سورة يوسف).(1/16)
ج 1 ، ص : 17
المنافقون وصفاتهم [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 16]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
المفردات :
يُخادِعُونَ اللَّهَ الخداع : صرف الغير عما نقصده بحيلة ، والمراد هنا إظهار الإسلام وإضمار الكفر. مَرَضٌ المرض : العلة ، والمراد هنا : شك ونفاق(1/17)
ج 1 ، ص : 18
السُّفَهاءُ : ضعفاء العقول ، والمقصود هنا الجهلاء وضعفاء النفوس.
شَياطِينِهِمْ المراد : إخوانهم في الكفر. مُسْتَهْزِؤُنَ الاستهزاء : الاستخفاف والسخرية ، وهو من اليهود بهذا المعنى ، ومن اللّه بمعنى أنه لا يعبأ بهم لحقارتهم وسوء إدراكهم ، أو بمعنى أنه سيجازيهم عليه. يَمُدُّهُمْ : يزيدهم. طُغْيانِهِمْ الطغيان : مجاوزة الحد. يَعْمَهُونَ العمه : ضلال البصيرة ، والمراد : التحير والتردد. اشْتَرَوُا : استبدلوا.
المعنى :
الصنف الثالث من الناس هم المنافقون ، وهؤلاء أشد خطرا على الإسلام من الكفار صراحة ولذا تكلم عليهم في ثلاث عشرة آية ، وليس المراد بهم المنافقين المعاصرين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقط بل كل من ينطبق عليه الوصف في كل عصر ووقت.
بعض الناس آمن باللّه واليوم الآخر قولا باللسان فقط ، وقلبه ملئ بالكفر والضلال ، فيرد اللّه عليهم دعواهم وأنهم ليسوا بمؤمنين وإن تظاهروا به ، ولا شك أنهم في إظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر في صورة المخادعين للّه ، ولأن اللّه - سبحانه - يعلم عنهم ذلك وأنهم ليسوا بمؤمنين ، بل أشد ضررا من الكفار ، ومع ذلك يأمر بإجراء أحكام الإسلام الظاهرة عليهم كأنه يخادعهم ، وهكذا المسلمون حيث امتثلوا أمر اللّه فيهم كأنهم مخادعون لهم ، فهذا كله من باب التشبيه والتمثيل.
وإلا فاللّه عالم بهم لا تجوز عليه مخادعتهم وقادر على إيقاف المسلمين على حالهم حتى لا ينخدعوا بهم ، وليس خداعهم وعاقبته إلا وبالا عليهم ، وما يشعرون بذلك لأن قلوبهم قد ملئت غيظا وحسدا وشكّا ونفاقا حتى عموا عن إدراك أبسط الأشياء ، زادهم اللّه من هذه الأمراض ، ولهم عذاب شديد مؤلم في الدنيا والآخرة.
والواقع أن المنافقين في كل زمان ودولة هم الخطر الداهم على أممهم والسهم الذي يصوب في ظهر وطنهم ، وكثيرا ما لاقى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من النفاق والمنافقين.
والنفاق واليهودية شيئان متلازمان لأنه ينشأ عن جبن حقيقى ولؤم طبيعي ، فالمنافق يلتوى مع الناس في أقواله وأفعاله ، وكم للمنافق في المجتمعات من أضرار بالغة ومخادعات هادمة.(1/18)
ج 1 ، ص : 19
لو أن كل إنسان أظهر نفسه على حقيقته ، وأدى واجبه دون أن يخادع أو يخاتل ودون أن يوقع الآخرين لتكون عندنا المجتمع الصالح والدولة العزيزة الجانب.
ومن صفاتهم أيضا أنه إذا قيل لهم : إن إثارتكم الفتن والتجسس لحساب الكفار وتأليب القبائل على المسلمين فساد ، وأى فساد بعد الحرب وما تجره ؟ فكفوا عن الفساد ، قالوا : ليس الأمر كما زعمتم فإنما نحن مصلحون ، لا نتعدى الصلاح إلى غيره أبدا ، فرد اللّه عليهم بعبارة أبلغ في إسناد الفساد لهم وقصره عليهم ، وأنهم كاذبون على أنفسهم في دعوى الإصلاح وأنه لا يتعداهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ولكن المنافقين لا يدركون المحسوس فلا يشعرون بحالهم. وما كان المسلمون يقفون معهم موقف الإنكار فقط ، بل كانوا يدعونهم كذلك إلى الإيمان بشتى الوسائل.
فإذا قالوا لهم : ادخلوا في الإيمان كما دخل فيه غيركم من الناس أجابوا متهكمين منكرين : أنؤمن بالقرآن والنبي ، كما آمن به ضعفاء الناس من العبيد والفقراء وضعفاء العقل من الأميين والجهلاء ؟ ! وجهلوا أن ضعيف العقل من يرى طريق الخير والنور أمامه فلا يسلكه ، فانظروا يا أيها المنافقون من أى نوع أنتم ؟ ألا إنكم أنتم السفهاء وحدكم ليس عندكم إدراك صحيح للإيمان فتعلموا مقداره!! وروى أن أبا بكر وعمر وعليّا - رضى اللّه عنهم أجمعين - توجهوا إلى ابن أبىّ وأصحابه من اليهود فلما رآهم ابن أبى قال لأصحابه : انظروا كيف أراد هؤلاء السفهاء عنكم بمعسول القول ، فلما حضروا أخذ يمدحهم الواحد بعد الآخر في الدين والسبق فيه ثم قال لأصحابه بعد أن انصرف الصحابة : كيف رأيتمونى ؟ فأثنوا عليه خيرا فنزلت الآية.
وليست تكرارا مع ما سبق بل السابق بيان مذهبهم وما استكن في نفوسهم جميعا من النفاق ، وفي هذه الآية بيان موقف بعض المعاصرين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع المؤمنين ومع زعمائهم في اليهودية والفساد ، الذين هم كالشياطين بل أشد ، وإذا خلوا إلى بعضهم قالوا : إنا معكم ، ولكنا نستهزئ بهم ونسخر بدينهم ، فيرد اللّه عليهم زعمهم الباطل :
اللّه - سبحانه وتعالى - هو الذي يعبأ وسيجازيهم على فعلهم أيما جزاء ، ويزيدهم في الطغيان والضلال حتى يصيروا مثلا في الوصول إلى أقصى درجات الحيرة والتخبط.(1/19)
ج 1 ، ص : 20
بعد هذا الوصف السابق أشار لهم بإشارة البعيد فقال : إن أولئك المنافقين بتركهم الطريق المستقيم والأدلة الظاهرة والواضحة على صحة هذا الدين - بتركهم هذا حسدا وبغيا - كأنهم دفعوا الهدى ثمنا للضلالة والخسارة في الدنيا والآخرة ، وما ربحوا في هذا التجارة ، وما أظهر خسارتهم في هذه الصفقة! وهكذا كان شأنهم دائما.
ضرب الأمثال لهم [سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 20]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)
المفردات :
المثل : الصفة والقصة الغريبة ، والمراد أن حالهم تناهت في الظهور والوضوح حتى أضحت كالمثل الذي لا ينكر. الصّيّب : المطر الكثير النازل. رَعْدٌ الرعد : هو صوت احتكاك الهواء. الْبَرْقُ : نور خاطف ينشأ من شرارة كهربائية : الصَّواعِقِ : جمع صاعقة ، وهي : الرعد الشديد ، وقيل : إنها من آثار الكهرباء في الجو ينشأ عنه احتراق بعض الأجسام.(1/20)
ج 1 ، ص : 21
المعنى :
المثل الأول : المنافقون قوم أظهروا الإسلام زمنا قليلا فأمنوا على أنفسهم وأولادهم وأخفوا وراءهم الكفر والفساد ، ولكنهم لم يلبثوا على ذلك حتى أظهر اللّه الحق ، وبدا الصبح لذي عينين فأضحوا بعد أمنهم خائفين وصاروا متخبطين في ظلمة النفاق والفضيحة والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، فحالهم هذه تشبه حال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها ، فلما أوقدت النار وأبصروا ما حولهم زمنا يسيرا أطفأها اللّه وذهب بنورهم من أساسه وتركهم في ظلمة الليل وظلمة السحب المتراكمة وظلمة إطفاء النار فهم لا يبصرون.
ولا شك أن المنافقين صم عن الحق فلا يسمعون ، وبكم فلا يتكلمون ، وعمى عن الهدى فلا يبصرون. إذن فهم لا يرجعون أصلا عن حالهم فلا تأس عليهم ولا تحزن.
أردف اللّه المثل السابق بمثل آخر مستقل واضح ليظهر حالهم فلا تخفى على أبسط الناس فهما وإدراكا.
المعنى :
المثل الثاني : أنزل اللّه القرآن الكريم : وقد اعترى المنافقين شبهة واهية ، وفي هذا القرآن وعد لمن آمن ووعيد لمن كفر ، وفيه حجج بينات واضحات ، وفيه آيات فاضحة لهم وكاشفة أستارهم كانت تنزل عليهم نزول الصاعقة أو أشد ، وهم مع القرآن الكريم إذا نزلت آية فيها مغنم فرحوا وساروا مع المسلمين وإذا نزلت آية تطالبهم بالجهاد أو تكشف حالهم وقفوا وبهتوا.
فحالهم هذه تشبه حال قوم نزل عليهم مطر غزير من كل جانب ، وكان يصاحبه صواعق تصم الآذان حتى أنهم يجعلون أنامل أصابعهم في آذانهم خوفا من الموت.
وأما برقه ونوره فكلما ظهر في الأفق فرحوا وساروا آمنين ، وهم حريصون على ذلك ، وإذا أظلم الأفق وانتهى البرق وقفوا حيارى مبهوتين.
واللّه محيط بهم قادر عليهم ، ولو شاء لأذهب أسماعهم بقوة الرعد وأبصارهم بوميض البرق فهو القادر المختار.(1/21)
ج 1 ، ص : 22
روائع التشبيه : في هذا المثل العظيم عيون البلاغة ، وقوة التعبير الذي يقف عنده كل بليغ وأديب.
فيه تشبيه القرآن بالمطر إذ المطر يحيى موات الأرض. والقرآن يحيى موات النفوس ، ومع القرآن شبهة واهية لا أساس لها كالظلمات العارضة مع المطر.
وفيه وعد ووعيد كالرعد قوة وشدة ، وفيه حجج وآيات كالبرق وضوحا وجلاء ، وفيه آيات كاشفة فاضحة كالصواعق أو أشد خطرا.
والظاهر - واللّه أعلم - أن المثل الأول للمنافقين الخلص ، والثاني للمترددين تارة يظهر لهم وميض الإيمان ونوره وتارة يخبو ، وقيل : هما لصنف واحد.
وحدة الإله. إعجاز القرآن. صدق الرسول [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 24]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)(1/22)
ج 1 ، ص : 23
المفردات :
يا صوت يهتف به المنادى ، ويكون لنداء البعيد أو الساهي أو الغافل لعظم المأمور به بعد النداء ، والظاهر أنها استعملت هنا لهذا اعْبُدُوا رَبَّكُمُ : أطيعوه.
فِراشاً الفراش : ما يفرشه الإنسان ، والمراد أنه مهدها للإقامة عليها. بِناءً :
مبنية محكمة. أَنْداداً : جمع ندّ وهو النظير. شُهَداءَكُمْ : جمع شهيد ، وهو من يحضر معكم من الرؤساء ، أو من يشهد لكم يوم القيامة.
المناسبة :
لما ذكر اللّه - سبحانه - القرآن وصفته ، وبين أن الناس مع القرآن ثلاثة أنواع :
فمنهم المؤمن ، والكافر ، والمنافق ، خاطبهم جميعا بوصف عام يأنسون به ليكون ذلك أدعى للامتثال ولما أثبت الوحدانية للّه. ثنى ببيان إعجاز القرآن وفي ذلك إثبات صدق الرسول.
المعنى :
لقد أمر اللّه الناس بعبادته ، والإقرار له بالربوبية والوحدانية ، ونبذ الأصنام وما كانوا يعبدون ، لأنه الرب الذي خلقهم ، وخلق آباءهم من قبل فلا يليق بهم أن يتخذوا أندادا له.
ففي عبادتهم للّه وحده تتحقق تقواهم التي يحبها اللّه لهم ، إذ هو الذي جعل لهم الأرض ممهدة للإقامة عليها مع تحريكها ودورانها ، وجعل السماء كالقبة تظلهم بالخير والبركة.
وهي كالبناء المحكم مع ما فيها من عوالم الأفلاك والأجرام لا يسقط منها جزء ولا يختل لها نظام ، وأنزل من السماء ماء مباركا طيبا ينبت لنا به الكلأ والزرع.
ألست ترى معى أن اللّه وصف نفسه بما يدل على انفراده بالربوبية ؟ فصفة الخلق والتكوين ، والرزق ، من الصفات المسلّم بأنها له وحده.(1/23)
ج 1 ، ص : 24
وإذا كان هذا شأن الرب - سبحانه - فاعبدوه ، ولا تجعلوا له أندادا في العبادة ، تعبدونهم وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له يخلق شيئا مما ذكر ، وها هي ذي مظاهر قدرته ودلائل وحدانيته تدل عليه.
وإن كنتم في شك من القرآن وأنه أنزل على عبدنا ورسولنا النبي الأمى محمد بن عبد اللّه فها هو ذا القرآن ، فجدوا واجتهدوا واشحذوا عزائمكم ، واجمعوا جموعكم ، واستعينوا برؤسائكم وآلهتكم ، وأتوا بسورة تماثله في البلاغة وسداد التشريع الصالح لكل زمان ومكان ، والإخبار بالمغيبات إن كنتم صادقين في دعواكم أن القرآن من عند محمد وليس القرآن من عند اللّه ، وكيف يعقل هذا ؟ ومحمد بشر منكم أمى مثلكم لم يقرأ ولم يكتب ، وأنتم مجتمعون وفيكم الشاعر والخطيب والبليغ والأديب ، والقرآن كلام عربي من جنس ما تتكلمون به في خطبكم وأشعاركم بل كلامكم العادي ، وقد تحداكم اللّه به وأنتم ومن يحضر معكم من جهابذة القول وأعلام البلاغة وفرسان البيان ، فإن عجزتم - وأنتم لا شك عاجزون - فارجعوا إلى الحق وآمنوا بمحمد وبما أنزل عليه من القرآن ، وفي ذلك وقاية لكم من النار التي وقودها الناس والحجارة التي أعدها اللّه للكافرين.
تحدى اللّه العرب أن يأتوا بسورة تماثله في البيان وقوة الأسلوب ، ودقة التعبير وغير ذلك مما برع العرب فيه ، أما النواحي السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية والقانونية فذلك شأن عال ، ومنزلة رفيعة أثبتت الأيام أن القرآن فيه معجزة للعالم كله.
(بحث لعل) : أصل لعل للترجى ، فإذا قلت لصديقك : لعلك تزورنى ، كان المعنى أرجو وأطمع فيزيارتك ، وهنا لا تصح أن تكون كذلك لأن رجاء تقواهم لا يكون من القادر الذي في قبضته كل شيء وهو العليم الخبير.
ولكن لما خلق اللّه الخلق لعبادته وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ « 1 » وقد أوضح لهم الطريقتين ، وطلب منهم سلوك الطريق المستقيم مرارا كأنه في صورة الذي يرجو تقواهم وكأنها مرجوة له سبحانه ... وهي تفيد كذلك التعليل.
___________
(1) سورة الذاريات 56.(1/24)
ج 1 ، ص : 25
من آمن بالقرآن وجزاؤهم [سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
المفردات :
مُتَشابِهاً : يشبه بعضه بعضا. الجنة : البستان ، والمراد دار الخلود التي أعدت للمؤمنين.
المناسبة :
من عادة القرآن الكريم أنه إذا تعرض للكلام على من كفر وعصى أردف ذلك بالكلام على من آمن واتقى ليظهر الفرق جليا بينهما فيكون ذلك أدعى للامتثال.
المعنى :
بشّر يا محمد ، أو : يا من تتأتى منه البشارة من العلماء والوعاظ ، بشّر العاملين الذين آمنوا وعملوا صالحا أن لهم جنات فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فيها أنهار جارية تحت الأشجار ، فيها الثمار الشهية ، كلما قدمت لهم ثمرة منها قالوا متعجبين : هذه الثمرة كالتي رأيناها في الدنيا ، فإذا تذوقوها وأكلوها رأوا عجبا وأدركوا أنها تشبه ثمار الدنيا في الشكل والجنس فقط ، أما في الذوق والطعم والحجم فهذا ما لم يروه أبدا ، وأتوا به(1/25)
ج 1 ، ص : 26
متشابها ليأنسوا به ويقدموا على أكله لأن النفس للمألوف أميل ، وفي الجنة حور مقصورات في الخيام ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، طاهرات مطهرات من كل دنس ورجس كالحيض والنفاس وشرور النفس والهوى ، وهم في الجنة خالدون ، ولا حرج على فضل اللّه ، فهذا الكريم القادر أعده لعباده الصالحين ، فتبارك اللّه أحسن الخالقين.
واعلم يا أخى أن نعيم الجنة غير محدود ، وما أعد فيها فشيء تقصر العبارة عن وصفه ، وإذا أراد بيان الحقيقة المادية عبر عنها بقوله : فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ.
الأمثال في القرآن وموقف الناس منها [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)
المفردات :
لا يَسْتَحْيِي الاستحياء : تغير وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب عليه فيؤدى إلى ترك الفعل ، والمراد هنا أنه - سبحانه - لا يترك ضرب المثل.(1/26)
ج 1 ، ص : 27
مَثَلًا يطلق على المثل ومنه التمثيل ، وعلى القول السائر ، وعلى النعت والصفة التي بلغت مبلغ المثل في الغرابة والشيوع ، البعوضة : الناموسة (ينقضون) النقض :
الفسخ وفك الترتيب ، وأصل الاستعمال في الحبل ، ثم استعمل في العهد لأنه يشبهه.
ميثاق ميثاق العهد : توكيده ، المراد العهد المؤكد ، وهو ما أوصاهم به في الكتب السابقة من الإيمان بمحمد إذا ظهر.
سبب النزول :
روى أنه لما ضرب اللّه الأمثال بالذباب والعنكبوت ضحكوا وقالوا : ما يشبه هذا كلام اللّه
، وفي رواية أنهم قالوا : ما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالذبابة والعنكبوت ، فنزل قوله - تعالى - : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مشاكلة لقولهم.
المعنى :
أن اللّه - سبحانه - لا يترك ضرب الأمثال بالبعوض أو أخس منه ، فالمثل جعل لكشف المعنى وتوضيحه بما هو معروف مشاهد لا سبيل إلى إنكاره ، فإن كان المضروب له المثل عظيما كالحق والإسلام ضرب مثله بالنور والضياء.
وإن كان ضعيفا حقيرا كالأصنام ضرب مثله بما يشبهه كالذباب والبعوض والعنكبوت ، على أنه لا فرق عند اللّه بين البعوضة والجمل في الخلق والتقدير.
فأما المؤمنون ، ففي قلوبهم نور يهديهم إلى التصديق بأن هذا كلام اللّه ، وأما الكفار الجاحدون فهم في حيرة من أمرهم ، وقصارى قولهم أن يقولوا متعجبين ، ماذا يريد اللّه بهذا المثل ؟ شأن المتخبط الذي لا يدرى. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا ؟ [سورة المدثر آية 31].
فأنت معى أن المثل ضل به كثير من الناس ، واهتدى به كثير من الناس ، ولا يضل به إلا الخارجون عن طاعة اللّه ، الذين ينقضون ما عاهدوا اللّه عليه من الإيمان بمحمد(1/27)
ج 1 ، ص : 28
والتصديق به ، خصوصا بعد ظهور الحجة على صدقة ، وأنه مكتوب عندهم في التوراة ، فهؤلاء يفرقون بين الأنبياء فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، وقد أمر اللّه بوصل الإيمان بجميع الأنبياء ، ولكن هؤلاء همهم الإفساد بين الناس. والتضليل في العقائد إبقاء على رئاسة كذابة وزخرف زائل ، هؤلاء لا شك قد خسروا دنياهم بافتضاحهم وتخبطهم ، وخسروا آخرتهم بغضب اللّه عليهم ، وأى خسران بعد هذا ؟ !!
مظاهرة قدرة اللّه [سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29)
المفردات :
اسْتَوى إِلَى السَّماءِ : استواء يليق بجلاله لا يعلمه إلا هو بلا كيف ولا تمثيل ، وقيل : قصد إلى السماء قصدا مستويا خاصا بها. فَسَوَّاهُنَّ : أتم خلقهن مستويات لا تشقق فيهن ولا عوج.
المعنى :
استتبع الحديث عن الكفار وموقفهم من القرآن وأمثاله أن يتعجب من حالهم التي تناهت في العجب فيقول ما معناه :
أى وجه لكم وأى سند لإنكاركم ربوبية اللّه ؟ ! ولو خلّيتم وفطرتكم الصحيحة لعرفتم فيما بينكم وبين أنفسكم أن وجودكم هذا سببه فطرة اللّه ، وأنه منّ عليكم بنعمة الوجود ووهب لكم عقلا ، وكرمكم ولم يترككم هملا في الدنيا ، بل جعل حدا لآجالكم ، ثم إليه ترجعون ليجزي كلا منكم على ما قدمته يداه ، ويحاسبكم على النعمة(1/28)
ج 1 ، ص : 29
التي أنعم بها عليكم. وعن ابن عباس قال : كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة ثانية ، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ.
وها هي ذي الأرض بما فيها هو الذي خلقها ومكن لكم فيها ، ففهمتم أسرارها ودقائقها حتى استخدمتم الذرة والأثير ، وقد كان هذا كافيا لئلا تكفروا به ، وهناك مظهر آخر من مظاهر القوة والعظمة اختص اللّه بمعرفة سره ودقائقه وهو هذه السموات السبع التي رفعها بقدرته ، وعلم هو كنهها وحقيقتها ، ومن ذا الذي يعلم المخلوق إلا خالقه ؟ ! فمن الخير لنا ألا نفكر في السماء وطبيعتها ، وكيف استوى إليها ، بحثا يضيّع علينا روح الدين ، بل نستشعر عظمة الخالق الذي رفع السماء وبسط الأرض!!
قصة خلق الإنسان وتكريمه بالخلافة وسجود الملائكة له [سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 34]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)(1/29)
ج 1 ، ص : 30
المفردات :
لِلْمَلائِكَةِ الملائكة : خلق اللّه أعلم بهم ، وقيل : هم أجسام نورانية لا يأكلون ولا يشربون ، دأبهم الطاعة ليلا ونهارا. خَلِيفَةً الخليفة : من يخلفك ويقوم مقامك.
يَسْفِكُ الدِّماءَ : يريقها. نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أى : ننزهك عن كل نقص متلبسين بحمدك والثناء عليك. وَنُقَدِّسُ لَكَ : نعظمك. أَنْبِئُونِي : أخبرونى السجود : الخضوع والانقياد. إِبْلِيسَ : واحد من الجن ، وقيل : أبوهم كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف 50] ، وقيل - من الملائكة لظاهر الآية والأحسن أن اللّه أعلم بهؤلاء جميعا أَبى امتنع.
القصة لون من ألوان الأدب العالي ، وهي في القرآن الكريم لمعان سامية لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وهذه القصة فيها مدى تكريم اللّه لآدم وبنيه باختياره خليفة ، وتعلمه ما لا تعلمه الملائكة ، أفيليق منهم أن يقفوا من اللّه ورسله موقف الكفر والعناد ؟ ومن هنا ندرك سر المناسبة بين الآيات ، ولا تنس ما فيها من التسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم حيث يرى موقف الملائكة الأطهار من اللّه - سبحانه وتعالى - .
المعنى :
واذكر يا محمد لقومك قصة خلق أبيهم آدم حيث قال اللّه للملائكة : إنى جاعل في الأرض خليفة يقوم بعمارتها وسكناها ، ويقوم بعضهم بالزعامة والتوجيه وتنفيذ الأحكام حتى يعمر الكون ، فقالت الملائكة : يا رب هذا الخليفة وبنوه تصدر أفعالهم عن إرادتهم واختيارهم ، وهم لا يعلمون المصلحة الحقيقية لأن علمهم محدود ، وقد خلقوا من طين فالمادة جزء منهم ، ومن كان كذلك فهو إلى الخطأ أقرب فهو يفسد في الأرض.
وأنت يا رب تريد عمارتها فيا رب!! كيف تجعل فيها من يفسد فيها ؟ [استفهام من لون التعليم لا الاعتراض ] ونحن أولى لأن أعمالنا تسبيحك وتقديسك.
لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فأجابهم المولى : إنى أعلم ما لا تعلمون ... إنى أعلم كيف تصلح الأرض وكيف تعمر ومن أصلح لعمارتها ؟(1/30)
ج 1 ، ص : 31
فهذا خلق فيه دواعي الخير والشر ، فبالخير والشر تصلح الدنيا وتعمر ، وبهذا تظهر حكمة إرسال الرسل.
وإن أردتم موضع السر فاللّه قد علم آدم أسماء الأشياء المادية التي بها تعمر الدنيا وتصلح إلى الأبد ، ثم عرض هذه الأشياء على الملائكة ، وقال لهم : أخبرونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في دعوى أنكم أحق بالخلافة من غيركم. فوقفوا عاجزين ، قالوا : يا رب لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم بكل شيء الحكيم في كل صنع.
فقال المولى - جل جلاله - : يا آدم أخبرهم بأسمائهم ، فلما أخبرهم بالأسماء أدركوا السر في خلافة آدم وبنيه وأنهم لا يصلحون لعدم استعدادهم للاشتغال بالماديات ، والدنيا لا تقوم إلا بها إذ هم خلقوا من النور وآدم خلق من الطين ، فالمادة جزء منه. وهنا قال اللّه - سبحانه - : ألم أقل إنى أنا العالم بكل ما غاب وما حضر في السموات والأرض ؟
وأعلم ما ظهر ، وما تبدون وما تكتمون.
قصة ثانية تبين لنا مدى تكريم اللّه للإنسان حيث أمر الملائكة بالسجود له ، وفي هذا تعظيم وأى تعظيم! واذكر يا محمد لقومك وقت أن قلنا للملائكة الأطهار : اسجدوا لآدم سجود تعظيم وإجلال لا سجود عبادة وتأليه كما يفعل الكفار مع أصنامهم ، فسجد الملائكة جميعا وامتثلوا أمر اللّه إلا إبليس اللعين فإنه امتنع من السجود واستكبر قائلا : أأسجد له وأنا خير منه ؟ خلقتني من نار وخلقته من طين ، منعه حسده وغروره وتكبره من امتثال أمر ربه ، ولعل هذا الإباء والاستكبار والتعالي والغرور الذي عند إبليس من صفات النار التي خلق منها ، وهكذا قد خرج عن أمر ربه فاستحق اللعنة وكان من الكافرين.
يا ابن آدم! هكذا شرفك اللّه وكرمك وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ « 1 » بأن جعلك خليفة في الأرض ، وعلمك ما لم تكن تعلم وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ، وأمر الملائكة بالسجود لأبيك فسجدوا ، أفيليق بك أن تقف موقفا لا يرضاه ربك ؟ لا بل يجب أن تمتثل أمر ربك وأن تعصى الشيطان عدوك ، وأن تعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
___________
(1) سورة الإسراء آية رقم 70.(1/31)
ج 1 ، ص : 32
طبيعة الإنسان وموقف الشيطان منه [سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 39]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
المفردات :
رَغَداً : واسعا طيبا هنيئا. الشَّجَرَةَ قيل : هي الحنطة. فَأَزَلَّهُمَا :
فأوقعهما في المخالفة من الزلة ، وهي : السقوط. اهْبِطُوا : انزلوا.
مُسْتَقَرٌّ : مكان استقرار. أَصْحابُ النَّارِ : الملازمون لها الذين لا يخرجون منها.
المعنى :
وتلك قصة أخرى لأبينا آدم الذي جعله اللّه خليفة في الأرض ، كانت نهايتها أن أمره اللّه بأن يهبط إلى الأرض هو وزوجه وذريته ، وإبليس ومن معه.
قال اللّه - جل جلاله - لآدم : اسكن أنت وزوجك الجنة ، وتمتّعا بكل ما فيها ، وكلا من ثمارها وزروعها وأشجارها ما تشتهون أكلا هنيئا مريئا ، ولا تقربا هذه الشجرة أبدا! ؟ إنكما إن أكلتما منها كنتما من الظالمين.(1/32)
ج 1 ، ص : 33
ولكن إبليس اللعين لا يمكن أن يتركهما ، بل وسوس لهما وزين السوء قائلا :
ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وأقسم لهما : إنى لكما لمن الناصحين.
وهنا تظهر غريزة الإنسان وضعفه أمام المغريات ، وها هو ذا قد ضعف أمام إغراء الشيطان ، فأزلهما وأوقعهما في المخالفة ، وكان ظاهر الأمر أن قد عصى آدم ربه وغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى.
وهكذا كانت حكمة اللّه وكان أمره لأسرار لا يعلمها إلا هو لتعمر الدنيا ، ولتتحقق الخلافة للّه في الأرض حكم بأن يخرجا من الجنة ، ويهبط الكل بعضهم لبعض عدو ، ولهم جميعا في الأرض مستقر ومتاع إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
فإما يأتينكم منى هدى على لسان أنبيائى ورسلي : فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ولا خوف عليه أبدا ، ومن يعرض عن ذكرى ويعص أمرى فله في الدنيا التعب والنصب وفي الآخرة العذاب والألم.
أما آدم أبو البشر فبعد أن أكل من الشجرة وظهرت غريزته وطبيعته وبدت له سوءته ، وحاول سترها ، وأدرك ما وقع فيه ، وتلقى آدم من ربه كلمات : رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فتاب اللّه عليه وهدى. إنه هو التواب الرحيم.
بنو إسرائيل وما طلب منهم [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)(1/33)
ج 1 ، ص : 34
المفردات :
إِسْرائِيلَ : هو يعقوب - عليه السلام - ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليهم السلام - وبنوه وأولاده وهم اليهود. بِعَهْدِي عهد اللّه : ما عاهدهم عليه في التوراة من الإيمان باللّه وبرسله وخاصة خاتم الأنبياء محمد صلّى اللّه عليه وسلّم الذي يبعث من ولد إسماعيل. بِعَهْدِكُمْ : ما عاهدتكم عليه من الثواب على الإيمان والتمكين من بيت المقدس قديما ، وسعة العيش في الدنيا. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا : البيع والشراء قد يطلق كل منهما مكان الآخر ، والمعنى : لا تبيعوا آياتي بثمن قليل.
تَلْبِسُوا : تخلطوا.
المناسبة :
من أول السورة إلى هنا يدور الكلام حول الكتاب واختلاف الناس فيه وضرب الأمثال للمنافقين ، والأمر بعبادة اللّه ، والدليل على أن القرآن من عنده ، ثم الإنذار والبشارة ، والحجج القائمة على الكافرين ، ومظاهر قدرته ، ثم الكلام على خلق الإنسان وتكريمه ، ثم بعد هذا أخذ يخاطب المقيمين بالمدينة من أهل الكتاب وخاصة اليهود فهم أكثر من غيرهم ولهم في هذا المجتمع مكان ، وكانت لهم مواقف مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والكلام كله يدور حول القرآن وما فيه.
خاطب اليهود من هنا إلى قوله - تعالى - : سَيَقُولُ السُّفَهاءُ تارة بالملاينة وتارة بالشدة وطورا بذكر النعم وآخر بذكر جرائمهم وقبائحهم ... إلخ.
المعنى :
يا بنى العبد الصالح يعقوب ، كونوا مثل أبيكم في اتباع الحق ، واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون ، وظلل عليكم الغمام إلى آخر نعمه التي ستذكر بالتفصيل ، وذكرها : القيام بشكره وامتثال أمره ، وأوفوا بما عاهدتكم عليه من الإيمان باللّه ورسله بلا تفريق ما دامت الحجة قائمة على صدقهم وخاصة محمد بن عبد اللّه أوف أنا بعهدي لكم فأعطيكم الجزاء العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة ، ولا يمنعكم من(1/34)
ج 1 ، ص : 35
هذا شيء ، ولا ترهبوا أحدا سواي ، فأنا أحق بالرهبة والخوف ، وآمنوا إيمانا قلبيا صادقا بالقرآن وأنه من عند اللّه ، فإنه أتى موافقا للتوراة التي معكم في الأصول العامة للدين ، وفي التوراة وصف للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولا تكونوا يا أهل الكتاب أول الناس في الكفر به ، فأنتم أحق بالإيمان لأن عندكم في التوراة دليل صدقه ، ولا تبيعوا آيات اللّه الواضحة الدالة على صدق محمد فيما ادعى ، ولا تبيعوها بثمن دنيوى قليل من رئاسة أو مال أو عادات قديمة ، فإنه ثمن بخس وتجارة غير رابحة ، ولا تخافوا أحدا سوى اللّه ، ولا تخلطوا الحق الموجود في التوراة بالباطل الذي تخترعونه ، ولا تكتموا وصف النبي وبشارته التي هي حق وأنتم تعلمون ، وليس جزاء العالم يوم القيامة كالجاهل ، ومن هنا نفهم أن التوراة التي أنزلت على موسى - عليه السلام - والتي كانت موجودة أيام النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيها حق وباطل ، وأنهم غيروا فيها وبدلوا ، وكانوا يعرفون هذا وذاك ، وقد صدق اللّه أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ.
ثم أمرهم بأهم أركان الدين التي لا يختلف فيها دين عن آخر ، وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والخضوع للّه مع الخاضعين.
علماء اليهود وأحوالهم [سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 48]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)(1/35)
ج 1 ، ص : 36
المفردات :
بِالْبِرِّ : الطاعة والصدق والتوسع في الخير. بِالصَّبْرِ : حبس النفس على ما تكره ، وقيل : هو الصوم. يَظُنُّونَ : يعتقدون. عَدْلٌ العدل : الفداء.
نزلت في علماء اليهود كانوا يأمرون غيرهم بالصدقة والثبات على الإسلام ويتركون أنفسهم.
المعنى :
إن تعجب فعجب من هؤلاء يأمرون غيرهم بالخير وينسون أنفسهم فهم كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه ، كيف يليق بكم يا أهل الكتاب أن تأمروا الناس بالبر ، وهو جماع الخير ، ولا تأتمرون به! والحال أنكم تتلون الكتاب ، وتعلمون ما فيه من عقوبة من يقصر في أمر اللّه!! ولا شك أن من هذا وصفه فهو بغير العقلاء أشبه ، آمنوا واستعينوا على أنفسكم الأمارة بالسوء وشياطينكم بالصبر والصلاة فإنهما جلاء القلوب والأرواح ، وإنما أمرنا بالصبر لأنه احتمال المشاق من تكاليف وابتلاء مع الرضا والتسليم ، ولا شك أن مثلهم في أشد الحاجة إليه ، والصلاة أقرب إلى حصول المرجو منهم لما لها من التأثير في الروح ، ولكنها شاقة على النفس الأمارة بالسوء : وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الذين عمرت قلوبهم بالإيمان فخفت جوارحهم إلى الصلاة بنشاط ، واطمئنان ، ومن هنا ندرك معنى
الحديث : « جعلت قرّة عيني في الصّلاة »
فالخاشعون : هم الذين يعتقدون أن وراءهم يوما يلاقون فيه ربهم فيحاسبون على أعمالهم. وأنهم إلى اللّه وحده راجعون ، فمكافأون عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وهل الصلاة التي أمر بها اليهود هنا هي الصلاة الإسلامية أم هي صلاتهم ؟
الأصح أنها الصلاة الإسلامية بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة ومكلفون بها ، وهذه الصفات التي ذكرت ككونها كبيرة إلا على الخاشعين يؤيد ذلك.
ثم كرر نداء بني إسرائيل ذاكرا لهم ما منّ على آبائهم وعليهم من النعم ، وأنه فضلهم على غيرهم إذ جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وفضلهم على العالمين في زمانهم ، يا بنى إسرائيل : اتقوا يوما لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا ، فليس الأمر كما تفهمون أن هناك شفعاء يشفعون إذ لا تقبل هناك شفاعة من شافع ، ولا يؤخذ من نفس فداء ولا هم ينصرون.(1/36)
ج 1 ، ص : 37
وإذا كان الأمر كذلك فعلى أى أساس تنسون أنفسكم ولا تعملون لهذا اليوم وأنتم أهل كتاب فيه يوم الجزاء ووصفه ؟ !
نعم اللّه على اليهود [سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 60]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)(1/37)
ج 1 ، ص : 38
المفردات :
يَسُومُونَكُمْ سامه العذاب : أذاقه. سُوءَ الْعَذابِ : العذاب السيئ الشديد. يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ : يبقون نساءكم على الحياة فلا يقتلون. بَلاءٌ اختيار فَرَقْنا أى : فلقنا ، والمراد : جعلنا فيه جسرا تعبرون عليه. الْفُرْقانَ :
التوراة الفارقة بين الحق والباطل. فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ : ليقتل البريء منكم المجرم.
جَهْرَةً : عيانا واضحا منكشفا. الصَّاعِقَةُ : الصيحة ، أو نار من السماء.
بَعَثْناكُمْ : أحييناكم وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ أى : جعلنا الغمام يستركم كالمظلة ، والغمام : السحاب الرقيق. الْمَنَّ : شيء حلو كالعسل. السَّلْوى : نوع من الطير. هذِهِ الْقَرْيَةَ : هي بيت المقدس ، أو بلد قريب منه. سُجَّداً :
ساجدين بالانحاء ، والمراد متواضعين متذللين للّه. حِطَّةٌ أى : سؤالنا أن تحط عنا ذنوبنا ، والمراد اسألوا اللّه المغفرة. رِجْزاً : عذابا من السماء. الْحَجَرَ :
حجر اللّه أعلم به ومن أين أتى لموسى. فَانْفَجَرَتْ : انشقت وسالت.
الناس : جماعة منهم وكانوا اثنى عشر سبطا.(1/38)
ج 1 ، ص : 39
المناسبة :
بعد ما ذكّر اليهود بالنعم عليهم جملة في قوله : اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أخذ يقصها عليهم مفصلة وعددها عشر.
المعنى :
اذكروا أيها اليهود المعاصرون النعم التي أنعم اللّه بها على آبائكم ، وهي نعم عليكم أيضا بالتبع ، اذكروها حتى تقوموا بشكرها وتلجأوا لبارئها.
1 - فقد نجى اللّه آباءكم من فرعون وآله فإنه كان يذيقكم العذاب الشديد ، يذبح أبناءكم الذكور ويترك بناتكم يحيون ، فقد ورد أن فرعون رأى نارا أطلقت من بيت المقدس وأحاطت بمصر ، وانزعج من هذه الرؤيا ، وفسرت له بأنه سيخرج ولد من بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه فأخذ يقتل الذكور ويترك النساء ، ومع هذا فقد نجى اللّه بنى إسرائيل من هذا العذاب المبين ، وفي النجاة من الهلاك أو الهلاك اختبار من اللّه حتى يظهر شكر الناجي وصبر الهالك.
2 - واذكروا إذ جعلنا لكم في البحر طريقا يبسا سلكتموه حتى عبرتم سالمين وقد ترك فرعون وجنوده يغرقون وأنتم تنظرون إليهم.
وروى أنهم كانوا بلا كتاب يحتكمون إليه
، وقد وعد اللّه موسى أن ينزل عليه التوراة بعد أربعين يوما (ذو القعدة وعشر من ذي الحجة).
وأمر موسى أن يذهب إلى جبل النور فيصوم الأربعين يوما ، فذهب واستخلف هارون عليهم وأنزلت التوراة في الألواح ، ولكن في هذه المدة اتخذتم العجل الذي صنعه لكم السامري (رجل كان منافقا فيهم) اتخذتموه إلها فعبدتموه ، وظلمتم أنفسكم بهذا العمل الذي لا يليق.
3 - ثم عفا اللّه عنكم وقبل توبتكم كي تشكروا اللّه أيها اليهود المعاصرون ، وشكره باتباع رسله والإيمان بكتبه ما دامت الحجة قائمة على صدقهم وخاصة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
4 - واذكروا وقت أن آتينا موسى الكتاب والتوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام رجاء أن تهتدوا بها وتسيروا عليها.(1/39)
ج 1 ، ص : 40
5 - واذكروا وقت قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل في مدة صومه وغيابه وهي أربعون يوما :
يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها ظلمتم أنفسكم وأى ظلم بعد الإشراك باللّه ؟ فتوبوا إلى اللّه وارجعوا ذلكم خير لكم وأحسن عند بارئكم.
وكانت التوبة في شريعتهم أن يقتل البريء منهم المذنب.
وقد أرسل اللّه - سبحانه - سوداء حتى لا يرى بعضهم بعضا عند القتل فيرحمه وقد قتل منهم سبعون ألفا ، وبعد ذلك تضرع موسى وهارون إلى اللّه فتاب عليكم إذ قبل توبة من قتل ومن لم يقتل ، ولا غرابة في ذلك فاللّه هو التواب الرحيم بعباده.
واذكروا وقت أن قال آباؤكم لموسى : لن نؤمن باللّه وأنك رسوله حتى نرى اللّه عيانا بلا حاجز ، فأخذهم ربكم بعذابه فماتوا ومكثوا يوما وليلة والحي ينظر إلى الميت.
6 - ثم أحييناهم ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم ، كل ذلك لكي تشكروا - أيها اليهود المعاصرون - اللّه على ما أنعم به ، وتعتبروا وتعتقدوا أن اللّه قادر على كل شيء ، وشكر اللّه المطلوب منكم هو الإيمان باللّه وكتبه وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم الذي أخبر عن هذا كله.
7 -
روى أن موسى كلف من اللّه بأن يرحل ببني إسرائيل لقتال قوم جبارين فخرج معهم فلما وصلوا إلى وادي التيه بين الشام ومصر ومكثوا فيه أربعين سنة حيارى تائهين فكان اللّه يظلهم بسحاب رقيق يقيهم حر الشمس.
8 - وكان ينزل عليهم الطعام مكونا من حلوى وطير مطهوّ وكان طعاما يقيهم غائلة الجوع ، ولا علينا بعد ذلك بحث في أنه من أى نوع أو على أى شكل ، ثم قيل لهم :
كلوا من هذه الطيبات ولا تدخروا شيئا منها ، واشكروا اللّه ، فلم يفعلوا شيئا مما أمروا به ، وعصيانهم وكفرهم بهذه النعم لا يضيرنا ، وما ظلمونا به ولكنهم ضروا أنفسهم حيث قطع اللّه عنهم هذه النعم وجزاهم على مخالفتهم ، أنهم كانوا لأنفسهم ظالمين.
9 - واذكروا - أيضا - إذ قلنا لآبائكم : ادخلوا القرية المعلومة لكم فاسكنوا فيها وكلوا واشربوا أكلا واسعا لا حرج فيه وادخلوا الباب خاضعين مبتهلين إلى اللّه وحده وقولوا : يا ربنا دعاؤنا أن تحط عنا ذنوبنا وتغفر لنا سيئاتنا وسنزيد المحسنين منكم أكثر من هذا.(1/40)
ج 1 ، ص : 41
أما الذين بدلوا ما أمرناهم به ، وما امتثلوا أمر اللّه ، بل قالوا حبة في شعرة ، أى :
حنطة في زكائب من شعر ، ودخلوا زاحفين على أستاههم غير خاضعين للّه فإن جزاءهم أن اللّه أنزل عليهم عذابا شديدا من السماء وذلك بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة اللّه (قيل : هلك منهم سبعون ألفا).
10 - واذكروا يا بنى إسرائيل وقت أن طلب موسى - عليه السلام - السقيا لآبائكم وقت أن عطشوا في التيه واحتاجوا للماء فقال اللّه : يا موسى اضرب بعصاك الحجر المعهود فانفجر منه بأمر اللّه العيون ، لكل جماعة منهم عين يشربون منها ، وقيل لهم : كلوا واشربوا من عطاء اللّه ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
بعض قبائح اليهود وما لحقهم [سورة البقرة (2) : الآيات 61 الى 62]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)(1/41)
ج 1 ، ص : 42
المفردات :
البقل : كل ما اخضرت به الأرض من البقول والخضروات. القثّاء :
هو الخيار. فُومِها : حنطتها أو ثومها. أَدْنى أى : أقل مرتبة ، مِصْراً : بلدا عظيما ، والمراد في الآية أى بلد زراعي الذِّلَّةُ أى : الذل.
الْمَسْكَنَةُ : الفقر والحاجة. الَّذِينَ هادُوا : تهودوا ، من هاد : إذا دخل في اليهودية ، وهم اليهود. النَّصارى : أتباع عيسى. الصَّابِئِينَ : من خرج عن دينه مطلقا ، وقيل : قوم عبدوا الملائكة.
المعنى :
خاطب اللّه اليهود المعاصرين مع أن الجناية من آبائهم لأنهم أبناؤهم وهم يعتزون بنسبتهم إليهم ولا ينكرون عليهم أفعالهم ، ولا تنس مبدأ تكافل الأمة الواحدة.
واذكروا - أيها اليهود المعاصرون - إذ قال آباؤكم : يا موسى لا يمكننا أن نستمر على طعام واحد مثل المن والسلوى.
فاطلب لنا من ربك آن يطعمنا مما تنبت الأرض من خضروات وبقول كالحنطة والعدس والبصل والقثاء ، فقال موسى تعجبا واستنكارا : أتستبدلون هذا الطعام بالمن والسلوى وهما خير وأهنأ ؟ وإذا طلبتم الأقل نفعا وخيرا عوضا عما هو خير لكم فاهبطوا أى بلد زراعي فإن لكم فيه ما طلبتم.
وبما جنوا من كفر وقتل للأنبياء بغير حق كما قتلوا زكريا ويحيى وغيرهم لهذا جعلت الذلة والمسكنة محيطة بهم مضروبة عليهم ، كما تضرب الخيمة على من فيها ، ورجعوا بالخسران والبعد من رحمة اللّه وهذا بسبب عصيانهم لأوامر ربهم عصيانا متكررا واعتدائهم على الناس ومنهم الأنبياء ، فقد قتلوهم معتقدين أن قتلهم بغير حق!! ضربت عليهم الذلة والمسكنة : هما الذل والفقر والحاجة ، ولا شك أنهم كذلك وإن كانوا ذوى مال ، فاليهود قد ورثوا صفات الذل وضعف النفس وامتهانها بل وبيع الشرف لأجل المال فهم في فقر دائم وذل مستمر ، ما داموا يعبدون المادة ويتألّهون المال.
المال.
غنى النفس ما استغنيت عنه وفقر النفس ما عمرت شقاء(1/42)
ج 1 ، ص : 43
ولقد فهم بعض العلماء قديما أن هذه الآية تشير إلى أنهم لا تقوم لهم دولة أبدا ، ونحن معهم في هذا إذ قيام دولة كهذه يوما أو يومين لا يهدم رأيهم ، فقديما استولى الصليبيون على بيت المقدس ردحا من الزمن ، ثم علت كلمة اللّه ورفعت راية الإسلام ، وقريبا بأمر اللّه ترفع راية الإسلام.
وقيام دولتهم هذه بمثابة تنبيه شديد من اللّه لنا علّنا نتعظ ونثوب إلى رشدنا وديننا إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ « 1 » فارجعوا إلى رشدكم حتى لا تضرب عليكم الذلة والمسكنة بكل معانيها القريبة والبعيدة.
وبعد أن ذكّرهم بما فعلوا قديما ، وبيّن عاقبة أمرهم بأوضح بيان ليعتبر المعاصرون ويتعظوا ، أتى بقانون عام شامل لا يفرق بين أحد فقال ما معناه :
كل من آمن يا للّه واليوم الآخر إيمانا قلبيا وعمل صالحا فله من اللّه الأجر والمثوبة ، وأنه لا يخاف أبدا ولا يحزن في الدنيا والآخرة ، سواء كان من الذين آمنوا أو من اليهود أو النصارى أو من الذين رجعوا عن دينهم مطلقا قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ « 2 » . وهذا أروع مثل لمبدأ المساواة في الإسلام.
من جنايات اليهود [سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 66]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
___________
(1) سورة الرعد آية رقم 11.
(2) سورة الأنفال آية رقم 38.(1/43)
ج 1 ، ص : 44
المفردات :
مِيثاقَكُمْ الميثاق : العهد المؤكد. الطُّورَ : جبل معروف بطور سينا.
بِقُوَّةٍ : بجد ونشاط. تَوَلَّيْتُمْ : أعرضتم السَّبْتِ : اليوم المعروف.
خاسِئِينَ : بعيدين عن رحمة اللّه. نَكالًا : عبرة تنكل من اعتبر بها ، أى :
تمنعه.
المعنى :
واذكروا وقت أن أخذنا العهد المؤكد على آبائكم بأن يؤمنوا بما في التوراة ولم يقبلوا حتى رفعنا فوقهم الطور إرهابا وتخويفا ، وأمرناهم أن يقبلوا ما آتيناهم ويأخذوه بجد ونشاط لأن فيه الخير لهم ، وليذكروا ما فيه ويعملوا به كي يكونوا من المتقين.
فقبلوه إلى حين ثم أعرضوا من بعد ذلك عنه!! فلولا رحمة اللّه بهم وقبوله توبتهم لكانوا من الخاسرين المعتدين.
وباللّه لقد علمتم شأن الذين اعتدوا من آبائكم بصيد السمك يوم السبت وكان محرما فيه لقصره على العبادة ، وقد ابتلاهم اللّه بأن كانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة قريبة من الساحل ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ، كذلك نبلوهم ، وكان جزاؤهم على ارتكاب خطيئة الصيد يوم السبت وانشغالهم به عن العبادة أن حكم اللّه عليهم أن يكونوا كالقردة مبعدين عن رحمة اللّه والناس لأنهم نزلوا إلى مرتبة الحيوان ، وهكذا كل فاسق خارج عن طاعة اللّه ، وقيل : إن اللّه حكم عليهم بأن يكونوا في صورة القردة بعيدين عن رحمة اللّه ، فجعل اللّه عقوبتهم هذه عبرة لمن لمن شاهدها ولمن يأتى بعدهم إذ نكل بهم تنكيلا يتناسب مع جرمهم ، وجعلها عظة للمتقين لأنهم لا يتعدون حدود اللّه ، فأولى بكم - أيها اليهود المعاصرون - أن تعتبروا وتتعظوا بما حل بأسلافهم.(1/44)
ج 1 ، ص : 45
قصة ذبح البقرة [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 73]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
المفردات :
لا فارِضٌ الفارض : المسنّة. وَلا بِكْرٌ البكر : الصغير. عَوانٌ :
نصف بين الصغيرة والكبيرة. فاقِعٌ لَوْنُها يقال : أصفر فاقع ، أى : شديد(1/45)
ج 1 ، ص : 46
الصفرة. لا ذَلُولٌ : ليست مذللة بالعمل. تُثِيرُ الْأَرْضَ : تنشر الغبار وتهيجه ، والمراد : تحرث الأرض. مُسَلَّمَةٌ : سليمة من العيوب. لا شِيَةَ فِيها : لا لون غير لونها. فَادَّارَأْتُمْ : تدارأتم بمعنى : تخاصمتم وتدافعتم.
سبب النزول :
كان في بنى إسرائيل شيخ موسر وله ابن فقتله أبناء عمه ليرثوا أباه ، ثم جاءوا يطالبون بديته ودمه ، وتخاصموا في ذلك ، فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة. ويضربوا القتيل ببعض أجزائها فيحيا ثم يخبر عن القاتل ، وقد ذبحت البقرة وضربوا القتيل فأحياه اللّه وأخبر عن القتلة وكانوا أبناء عمه. أفرأيتم ما تفعل اليهود قديما وحديثا ؟ !
المعنى :
واذكروا وقت قول موسى لقومه الذين هم أسلافكم : إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة - أى بقرة كانت - فلم يسرعوا إلى الامتثال ، ولكن شدّدوا فشدد اللّه عليهم ، وقالوا : أتهزأ بنا يا موسى ؟ قال : معاذ اللّه أن أكون من الذين يهزئون في موضع الجد ، فلما رأوه جادّا قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما سنها ؟ فقال لهم. إنها بقرة ليست صغيرة ولا كبيرة ، بل وسط بين هذا وذاك فافعلوا ما تؤمرون به ، ولا تشددوا فيشدد اللّه عليكم ، ولكنهم اليهود قالوا : ادع لنا ما لونها : إنها صفراء شديدة الصفرة تجلب السرور لمن يشاهدها ، فلم يكتفوا بذلك ، بل طالبوا بأوصاف تميزها أكثر ، ولكنهم أحسوا بأنهم تشددوا وجاوزوا الحد المعقول فقالوا معتذرين : إن البقر كثير متشابه علينا ، وهذه الأوصاف السابقة تنطبق على كثير ، وإنا إن شاء اللّه لمهتدون إلى المطلوب.
فأجابهم اللّه أن البقرة المطلوبة لم يسبق لها عمل في حرث الأرض ولا سقيها ، سليمة من العيوب ليس فيها لون مخالف ، قالوا : الآن جئت بالبيان الواضح فطلبوها فلم يجدوها إلا عند يتيم صغير بارّ بأمه ، فساوموه ، فاشتط حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا ، وما كان امتثالهم قريب الحصول.
واذكروا إذ قتلتم - والخطاب لليهود المعاصرين ، لأنهم أبناء السابقين ومعتزون بنسبهم وراضون عن فعلهم - واذكروا وقت قتل آبائكم نفسا حرم اللّه قتلها ، ثم تخاصموا وتجادلوا وأنكروا على اللّه فعلهم كما ينكرون اليوم ما عندهم من أوصاف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم واللّه مظهر ما تكتمونه.(1/46)
ج 1 ، ص : 47
فقلنا : اضربوه ببعضها فضربوه فأحياه اللّه وأخبر عن القتلة كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
يوم القيامة فيأخذ كلّ جزاء عمله ، وكذلك يريكم اللّه آياته الواضحة الدالة على صدق القرآن والنبي حيث يخبر بالمغيبات كي تعقلوا فتؤمنوا بالنبي وتصدقوا بالقرآن.
يريد اللّه أن يسجل عليهم ذنبين :
الأول : وقوفهم موقف المستهزئ المعاند المجادل المتشدد المنكر الحق الصريح ، وجزاءه على كل هذا لعلهم يتعظون.
الثاني : قتل النفس البريئة والإنكار ، وإنما أخره لأن الأول ديدنهم وطبيعتهم التي لا يتخلفون عنها.
وفي القصة عبرة للمتشددين وتسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتسجيل على اليهود بعض قبائحهم وخاصة قلبهم للحقائق.
قسوة قلوبهم واستبعاد الإيمان منهم [سورة البقرة (2) : الآيات 74 الى 78]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)(1/47)
ج 1 ، ص : 48
المفردات :
يَتَفَجَّرُ : يخرج بكثرة. يَشَّقَّقُ : ينفتح شقوقا بالطول أو العرض.
خَشْيَةِ اللَّهِ : انقيادا للّه وحده. يُحَرِّفُونَهُ : يغيرونه. عَقَلُوهُ : فهموه وعرفوه. لِيُحَاجُّوكُمْ : ليجادلوكم ويخاصموكم. أُمِّيُّونَ : عوام أَمانِيَّ : أكاذيب لا تستند إلى دليل عقلي أو نقلي.
المعنى :
من بعد ذكر ما يلين القلوب الجامدة من المواعظ والآيات والحجج البينات قست قلوبكم قسوة قاسية ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة منها ، إذ قلوبكم لم تتأثر بالآيات ، فكأنها خرجت عن دائرة الحيوان إلى دائرة الجماد ، بل نزلت عن درجة الجماد أيضا ، فها هي ذي الحجارة تتأثر بالماء تارة فيتفجر منها بكثرة فيتكون النهر ، وتارة تتشقق شقوقا يخرج منها الماء ولو بسيطا ، والحجارة قد تأثرت بالمؤثرات الخارجية فتسقط منقادة للّه وحده ، وقلوبكم لم تتأثر بالمؤثرات والمواعظ فكانت أقسى من الحجارة ، بل أشد قسوة منها ، وما اللّه بغافل أبدا سيجازيكم عليه أوفى جزاء ، وانظر إلى قوله تعالى :
ثُمَّ قَسَتْ فإن لفظ ثم في الأساليب العربية يفيد الترتيب ولكن مع التراخي والتباعد بين ما قبلها وما بعدها فكأن قسوة قلوب هؤلاء مرتبة أوغلت في البعد عن الوضع السليم.
هذا خطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وسط الخطاب الموجه إلى اليهود إذ الكلام كله في بيان سوءاتهم.(1/48)
ج 1 ، ص : 49
أنسيتم أفعالهم وأعمالهم فتطمعون أن يؤمن لكم هؤلاء اليهود ؟ كان منهم جماعة يسمعون كلام اللّه ثم يغيرونه ويبدلونه حسب هواهم ، وهم يعلمون أن هذا العمل يتنافى مع الحقيقة ، فكيف تطمعون إذن في إيمان من له سابقة في الضلال ؟ .
ونقيصة أخرى من نقائصهم وهي أن منافقيهم إذا تقابلوا مع المؤمنين قالوا : نحن مؤمنون باللّه والنبي إذ هو المبشر به عندنا فنحن معكم ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : كيف تحدثون أتباع محمد بما أنزل اللّه عليكم في التوراة ؟ كيف تفعلون هذا وهم يأخذون كلامكم حجة عليكم فيخاصموكم عند ربكم يوم القيامة ؟ أتذيعون أسراركم التي تضركم أفلا تعقلون أن هذا خطأ وضرر ؟ فيرد اللّه عليهم : أيحسبون أن هذا سر لا يطلع عليه أحد ؟ ولا يعلمون أن اللّه - سبحانه وتعالى - يعلم السر وأخفى ، ويعلم الغيب والشهادة ، فسواء قلتم أم لم تقولوا فإنه يعلم ما تضمرون وما تعلنون وسيجازيكم على ذلك كله.
هذا شأن من عرف الكتاب منهم وهو علماؤهم وأحبارهم ، وأما الأميون منهم فإنهم لا يعرفون عن دينهم إلا أكاذيب سمعوها ولم يعقلوها « أنهم شعب اللّه المختار ، وأن الأنبياء منهم فيشفعون لهم ، وأن النار لا تمسهم إلا أياما قليلة » وما هم في كل ذلك إلا واهمون.
والمعنى : لا تطمع يا محمد في إيمانهم ولا تأس على أمثالهم ، فإن من كان كذلك فلا خير فيه ، ولا أسف عليه.
كذب أخبار اليهود وافتراؤهم على اللّه [سورة البقرة (2) : الآيات 79 الى 82]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)(1/49)
ج 1 ، ص : 50
المفردات :
وَيْلٌ الويل : العذاب الشديد والهلاك. سَيِّئَةً السيئة : الكفر والشرك والنفاق أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الخطيئة : الكبيرة من الذنوب ، والمراد بالإحاطة أنه لم يبق فيه جانب من قلب أو لسان أو جارحة إلا اشتملت عليه في تحصيلها.
المعنى :
العذاب الشديد لهؤلاء الذين ينسخون التوراة بأيديهم فيغيرون فيها ما يشاءون أو شاءت لهم أهواؤهم!!
روى أن أوصاف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كانت مكتوبة عندهم في التوراة فغيروها وكتبوا بدلها ، فإذا سئلوا من العوام عن وصفه ذكروا ما كتبوه هم فيكذب العوام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومع هذا تبلغ بهم الجرأة والقحة إلى أن ينسبوا مفترياتهم إلى اللّه - سبحانه - ليأخذوا بهذا الكذب الشائن ثمنا دنيويا تافها من مال أو رئاسة أو جاه فويل لهم مما كسبوه!!
ومن سوءاتهم الشنيعة التي اقترفوها أنهم يدعون أن النار لا تمسهم إلا في أيام قليلة معدودة هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل ، هذه دعوى فما دليلها ؟ ولأى شيء لا تصيبكم النار مهما فعلتم ؟ أأخذتم على اللّه عهدا بذلك ؟ وإن كان هناك عهد فلن يخلف اللّه عهده!! لا : لم تأخذوا عهدا بل تقولون على اللّه ما لا علم لكم به ، والذي دفعكم إلى هذا غروركم ومركب النقص فيكم.
بلى - أيها اليهود - ستخلدون في النار حسب ما جنيتم من المعاصي كالكفر وقتل الأنبياء بغير حق وعصيان اللّه ومخالفة أمره ، وكيف لا يكون ذلك ؟ وقد سن اللّه قانونا عاما شاملا لكل الخلائق من لدن آدم إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها وهو :(1/50)
ج 1 ، ص : 51
من اجترح سيئة أو اقترف خطيئة اقترافا اشترك فيه قلبه ولسانه وجوارحه حتى كأن الخطيئة سور حوله فأولئك البعيدون في الضلال أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون ، ومنهم أنتم بل أنتم أولى من غيركم بالعذاب.
ومن آمن وعمل صالحا من كل جنس ولون فأولئك الذين مس الدين شغاف قلوبهم وهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، وهذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ليظهر الفرق جليا.
ميثاق بنى إسرائيل [سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 86]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)(1/51)
ج 1 ، ص : 52
المفردات :
مِيثاقَ الميثاق : العهد المؤكد الذي أخذ عليهم في التوراة. إِحْساناً :
تحسنون إلى الوالدين إحسانا. ذِي الْقُرْبى : صاحب القربى من جهة الرحم أو العصب. تَوَلَّيْتُمْ : أعرضتم. تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ : تقتلون الأنفس بغير حق. تَظاهَرُونَ : تتعاونون. بِالْإِثْمِ : الذنب. الْعُدْوانِ :
الاعتداء. أُسارى : أسرى خِزْيٌ : ذل وهوان. اشْتَرَوُا :
استبدلوا.
المعنى :
يبين اللّه - سبحانه - مدى مخالفة اليهود للتوراة وأنهم كاذبون كذبا صريحا في ادعائهم أنهم مؤمنون بها ، إذ قد أخذ اللّه عليهم فيها العهود المؤكدة أنهم لا يعبدون إلا اللّه - سبحانه - وأنهم يحسنون إلى الوالدين إحسانا كاملا ، وأمروا بالعطف على الأقارب واليتامى والمساكين كل بما يناسبه ويقدر عليه من غير تعب ولا مشقة ، وأمروا بالقول الحسن الذي لا إثم فيه ولا شر ، وأن يؤدوا صلاتهم مقومة تامة وزكاتهم كاملة ، ولكنهم أعرضوا عن هذا كله مع أن هذه الأوامر تكفل سعادة المجتمع وحياته حياة هادئة هنيئة ، ولكنهم اليهود جبلوا على لؤم الطبع وحب المادة ، فلن نرى منهم إحسانا ولا عطفا ولا خيرا ، اللهم إلا نفر قليل منهم كعبد اللّه بن سلام وأضرابه ، وإذا كان هذا شأنهم مع كتابهم فلا تأس عليهم يا محمد ولا تحزن.
ميثاق آخر لهم بشأن حقوق الغير خاصة الأقارب والمواطنين ، ومن هذا حالهم فهل يكون لهم إلا الخزي والعار ؟ ولا أمل فيهم أصل!!(1/52)
ج 1 ، ص : 53
واذكر يا محمد لهم وقت أن أخذنا عليهم في التوراة العهود المؤكدة بألا يقتل بعضهم بعضا ، ولا يسفك دمه بغير حق شرعي ، ولا يخرج بعضهم بعضا من دياره ووطنه.
وفي تعبير القرآن الكريم بقوله : لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ (الآية) إشارة إلى أن دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر بعينه ، حتى إذا سفكه كان كأنه قتل نفسا أو انتحر بيده مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ (الآية :
32 من سورة المائدة). ثم أقررتم أيها اليهود المعاصرون بالميثاق الذي أخذ على آبائكم واعترفتم به واعتقدتموه بقلوبكم ولم تنكروه بلسانكم فالحجة قائمة عليكم.
ثم بعد أن سجل اللّه عليهم اعترافهم بالميثاق واعتقادهم له استبعد منهم أن يأتوا بما يخالفه بأن يقتل بعضهم بعضا ، ويخرج بعضهم بعضا من ديارهم مع أنهم إخوانهم في الدين واللغة والنسب متعاونين مع الغير بالذنب والعدوان ومعصية الرسول ، وأن أخذوا أسرى حرب تنقذونهم بالمال ، والإخراج والقتل محرم عليكم في التوراة فكيف تفعلونه ؟ وبأى حق تؤمنون ببعض الكتاب وتمتثلون لآية مفاداة الأسرى وتكفرون بالآيات الناطقة بتحريم القتل والإخراج والتعاون بالإثم والاعتداء فتفعلون ذلك.
وإذا حصل منكم أنكم آمنتم ببعض التوراة وكفرتم بالبعض الآخر فليس لكم جزاء على هذا الفعل الشنيع إلا ذل وهوان في الدنيا وعذاب أليم دائم في الآخرة ، وما اللّه بغافل عن أعمالكم أبدا ، بل سيجازيكم عليها حتما.
أولئك اليهود الذين يفعلون هذا آثروا الحياة الدنيا كالرياسة الكاذبة والمال على الآخرة وما فيها من نعيم مقيم للمؤمنين ، فهم باعوا آخرتهم بدنياهم وبئس ما باعوا وهم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون في الدنيا والآخرة.
وهكذا كل أمة لها دين تؤدى بعض أحكامه كالصلاة والصوم والحج ولا تؤدى بعض أحكامه الأخرى كما إذا شاع فيها الربا والزنى والرشوة والسرقة ولم تتعاون على الخير ولم تؤد الزكاة ، وبخل أغنياؤها على فقرائها ... إلخ!! وأخوف ما أخاف أن يطبق علينا هذا الوعيد.
وقد كان يهود المدينة شعبين : بنو قريظة والنضير ، فحالفت قريظة الأوس وحالفت النضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه ، ويخرب ديارهم ويخرجهم منها ، فإذا أسروا فدوهم ، وإذا سئلوا في ذلك يقولون أمرنا بالفداء في التوراة (آمنوا(1/53)
ج 1 ، ص : 54
بهذه الآية) ولم تقتلونهم أليس محرما عليكم هذا ؟ قالوا : نعم ولكنا نستحي أن تذل حلفاؤنا.
مواقفهم من الرسل والكتب [سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 91]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)(1/54)
ج 1 ، ص : 55
المفردات :
وَقَفَّيْنا : أتبعناهم رسولا إثر رسول. الْبَيِّناتِ : المعجزات الواضحة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه. بِرُوحِ الْقُدُسِ : - جبريل عليه السلام - .
غُلْفٌ : مغشاة بأغلفة كالغطاء ، والمراد : لا تعى. لَعَنَهُمُ اللَّهُ : أبعدهم عن رحمته وطردهم. يَسْتَفْتِحُونَ : يطلبون الفتح ويستنصرون به. اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ : باعوها ، وكل من ترك شيئا وأخذ غيره فقد اشتراه. فَباؤُ :
رجعوا. بِغَضَبٍ الغضب : أشد من اللعن.
المعنى :
تلك جناية أخرى سيقت مقسم عليها من اللّه لأهمّيّتها :
واللّه لقد آتينا موسى التوراة وأتبعناه برسل يتبع بعضهم بعضا ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا « 1 » وهم : يوشع وداود وسليمان وعزيز وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى - عليهم السلام - وآتينا عيسى ابن مريم البتول المعجزات الواضحة دليلا على صدقه وقويناه بجبريل ، وقيل بالإنجيل ، وخص عيسى بتأييد روح القدس لكرامته. ولقد آتينا - يا بنى إسرائيل - أنبياءكم ما آتيناهم ، أفكلما جاءكم رسول بما لا تميل إليه نفوسكم إذ هي لا تميل إلى الخير أصلا كفرتم واستكبرتم ؟ ! والخطاب لجميع اليهود لأنهم فعلوا ذلك قديما ورضى عنهم أولادهم ، فالجميع مشتركون ، فهم كذّبوا ببعض الأنبياء وقتلوا البعض الآخر.
ومن سوءاتهم الشنيعة قولهم للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم استهزاء منهم : قلوبنا في غطاء فلا تعى ما تقوله ، ولا تفهم لكلامك معنى ، فيرد اللّه عليهم : لستم كذلك ولكن اللّه طردكم من رحمته ، وأبعدكم عن توفيقه بسبب كفركم وعصيانكم ، فإيمانكم قليل جدا أو أنكم لا تؤمنون أصلا.
وقد كان اليهود وعندهم في التوراة وصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبيان زمانه يمنّون أنفسهم بالنصر على المشركين وكانوا يقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة.
فلما جاءهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي يمينه القرآن مصدقا لما عندهم في التوراة ومؤيدا بوصفه
___________
(1) سورة المؤمنون الآية رقم 44.(1/55)
ج 1 ، ص : 56
المعروف عندهم كفروا واستكبروا ، وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة فلعنة اللّه عليهم أجمعين.
اليهود والمعاصرون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يعرفون حقّا أنه النبي المبشر به في التوراة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ولكنهم لم يؤمنوا حسدا وبغيا ، فقد باعوا حظهم الحقيقي - وهو الإيمان باللّه ورسوله - وأخذوا بدله كفرهم بما أنزل اللّه ، وما دفعهم إلى ذلك إلا الحسد والبغي ، فهم قد رجعوا بغضب من اللّه جديد ، لكفرهم بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه اللّه أنزل عليه الكتاب من فضله ، وكانوا لجهلهم يدعون أنهم أحق ، وباءوا بغضب على غضب سابق لكفرهم بالأنبياء قديما ولهم عذاب مهين.
وإذا قيل لهم : آمنوا بالقرآن قالوا : لا نؤمن به إنما نؤمن بالذي أنزل علينا في التوراة ونكفر بغيره ، فيرد اللّه عليهم : إن القرآن هو الحق من عند اللّه المصدق للتوراة التي معكم لأنهما من عند اللّه فكيف تكفرون ببعض الكتب وتؤمنون ببعضها ؟ والكل من عند اللّه ، على أنكم لم تؤمنوا بالتوراة ففيها القتل محرم ، وقد قتلتم الأنبياء بغير حق فلم قتلتموهم إن كنتم بالتوراة مؤمنين ؟ فالحق أنكم لم تؤمنوا بأى كتاب أنزل فلا طمع في إيمانكم بالقرآن.
كذبهم في ادعائهم الإيمان بالتوراة [سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 93]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
المفردات :
بِالْبَيِّناتِ : المعجزات كالعصا وفلق البحر. أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ :
خالط حب العجل قلوبهم وصب فيها كما يخالط الصبغ الثوب والشراب الجسد.(1/56)
ج 1 ، ص : 57
المعنى :
توبيخ لهم وتبكيت وتفنيد لقولهم : آمنا بالتوراة وكفرنا بغيرها ، فقيل لهم : لم تؤمنوا بها بدليل قتلكم الأنبياء وهو محرم عليكم فيها ، وعبادتكم العجل وجعله إلها مع أن موسى جاءكم بالمعجزات وأنزلت عليه التوراة ، ولقد فعلتم هذه الموبقات بعد هذا ، واذكر يا محمد لهم وقت أن أخذ عليهم الميثاق المؤكد بأن يعملوا بما في التوراة ، ورفعنا فوقهم الطور إذ ذاك إرهابا لهم وقد قال لهم اللّه : خذوا ما آتيناكم بجد ونشاط واسمعوا ما فيها سماع قبول ، فما كان من آبائكم إلا أن قالوا : سمعنا وعصينا ، وقد عبدوا العجل ، وخالط حبه قلوبهم ، وتدخل فيها كما تدخل الكهرباء الجسم ، قل يا محمد : إن كان إيمانكم بالتوراة يدعوكم إلى هذا فبئس شيئا يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ، فإن كان إيمانكم كما وصف القرآن فبئس هذا الإيمان.
ولم تتكرر القصة بل سبق أن ذكرت على أنها من نعم اللّه عليهم حيث عفا عنهم وقبل توبتهم لما تابوا عن عبادة العجل ، وهنا بيان لخيانتهم وتسجيل لسوءاتهم.
اليهود وحرصهم على الحياة [سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
المفردات :
خالِصَةً : خاصة بكم. أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ الحرص : الطلب بشره. بِمُزَحْزِحِهِ : مبعده.(1/57)
ج 1 ، ص : 58
المعنى :
من أمانى اليهود الكاذبة وغرورهم وشعورهم بالنقص الديني اعتقادهم أن الجنة لهم ولا يدخلها إلا اليهود وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً.
فأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول لهم : إن كنتم صادقين في دعواكم أن الجنة خالصة لكم من دون الناس فاطلبوا الموت وتمنوه فإنه يكون حبيبا إلى نفوسكم إذ لا شك أن من يوقن بالحياة الآخرة وأن فيها له نصيبا يتمنى أن يصل إليها ، ولكن لن يتمنى أحد منهم أبدا بسبب ما قدم من الكفر والفسوق والعصيان وقتل الأبرياء خصوصا الأنبياء ، واللّه عليم بهم ومجازيهم على أعمالهم القديمة والحديثة.
تاللّه لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة طويلة ، بل وأحرص من الذين أشركوا باللّه ولم يؤمنوا بالآخرة ، فهؤلاء المشركون كان يجب أن يكونوا أحرص الناس على الحياة إذ هي الأولى والأخير عندهم ، فإذا كان اليهود هم أهل كتاب ورسالة أحرص منهم أفلا يكون هذا من داعي العجب الذي لا ينتهى ؟ ! ولكنهم اليهود الماديون الحريصون على الدنيا ، يود الواحد منهم لو يعمر ألف سنة يجمع ذهب العالم ، وما مكثه في الدنيا وإن طال بمبعده عن أمر اللّه وحكمه عليه بالعذاب الأليم ، وكيف لا يكون هذا واللّه بصير بما يعملون فمجازيهم عليه ؟
يا شباب الإسلام ورجاله : هذه أوصاف اليهود يقولها خالقهم والعالم بهم فهبوا انفضوا الغبار عنكم حتى نراهم في حرب فلسطين أحرص على الحياة ونراكم أحرص الناس على الموت : (احرص على الموت توهب لك الحياة).
موقفهم من الملائكة الأطهار [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)(1/58)
ج 1 ، ص : 59
سبب النزول :
روى أن عبد اللّه بن صوريا من أحبار فدك حاجّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وسأله عمن يهبط عليه بالوحي ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : جبريل ، فقال : ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا به ، وقد عادانا جبريل مرارا ومن عداوته أن اللّه أمره أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا ، وهو صاحب كل خسف وعذاب ، وميكال يجيء بالخصب والسلام
. وفي رواية أن عمر قال لهم بعد ما قالوا له كلاما شبيها بهذا : من كان عدوا لجبريل كان عدوا لميكائيل ومن كان عدوا لهم كان عدوا للّه فنزلت الآية.
المعنى :
قل لهم يا محمد : من كان عدوا لجبريل فهو عدو للّه فإنه نزله بالوحي والقرآن على من قبلك بإذن اللّه وأمره ، فهو إذن رسول اللّه إليك يا محمد ، ومن عادى الرسول فقد عادى المرسل - سبحانه وتعالى - ومن عادى جبريل فلا وجه له لأنه نزل بالقرآن عليك يا محمد بأمر اللّه ، وهو مصدق لما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل على أنه مع ذلك هداية وبشرى للمؤمنين فكيف تجعلون سبب المحبة سببا للبغض ؟ هداكم اللّه إلى الحق.
من كان عدوا للّه وملائكته وكتبه ورسله خصوصا جبريل وميكائيل فإن اللّه عدو له ومجازيه على ذلك لأن تلك العداوة كفر وأى كفر!!(1/59)
ج 1 ، ص : 60
من قبائحهم أيضا [سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 103]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)(1/60)
ج 1 ، ص : 61
المفردات :
عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أى : على عهد ملكه ، أى : في زمان ملكه. فِتْنَةٌ :
اختبار وابتلاء. اشْتَراهُ : استبدل ما تتلو الشياطين. خَلاقٍ : نصيب.
المثوبة : الثواب.
روى ابن عباس أن عبد اللّه بن صوريا قال لرسول اللّه : ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزلت عليك آية فنتبعك لها فنزلت الآية.
المعنى :
واللّه لقد أنزلنا إليك يا محمد آيات واضحات قد دلت على صدق رسالتك ولا يكفر بها إلا الخارجون عن طاعة اللّه والمتمردون على آياته وأحكامه ، وهؤلاء أصحاب النار هم فيها خالدون.
أكفروا باللّه وكلما عاهدوا عهدا بينهم وبين اللّه أو بينهم وبين رسول اللّه الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ « 1 » تركه فريق كبير منهم ، ولم توف به ، فاليهود موسومون بالغدر ونقض العهود ، وكم أخذ اللّه الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوه ، بل أكثر اليهود لا يؤمنون بالتوراة لأن فيها نقض المواثيق ، وخلف العهود ذنب لا يغفر.
ولما جاءهم رسول من عند اللّه - هو محمد عليه السلام - بكتاب مصدق لما معهم إذ هو موافق للتوراة في الأصول الدينية العامة كتوحيد اللّه وإثبات البعث والحياة الآخرة وصدق الرسل ، ترك فريق من اليهود كتاب اللّه وهو التوراة وراء ظهورهم لأنهم لم ينفذوا بعض ما فيه ، ولم يؤمنوا به كأنهم لا يعلمون أن من لم يؤمن بالقرآن الموافق للتوراة لا يكون مؤمنا بالتوراة وبالقرآن.
ومن قبائح اليهود أنهم نبذوا كتاب اللّه واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر والشعوذة في زمن ملك سليمان ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ويضمون إليه أكاذيب ثم يلقنونها الكهنة فيعلمونها الناس ، ويقولون : إن هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملك إلا بهذا.
___________
(1) سورة الأنفال آية رقم 56.(1/61)
ج 1 ، ص : 62
فيرد اللّه عليهم هذه الدعوى : إن سليمان ما فعل شيئا من هذا ، وما كفر باعتقاد السحر والعمل به ، ولكن الشياطين هم الذين كفروا باتباع السحر وتديّنه.
هؤلاء اليهود يعلمون الناس السحر بقصد إغوائهم وإضلالهم ، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببابل ، وهما هاروت وماروت : وهما بشران إلا أنهما كانا صالحين قانتين فأطلق الناس عليهما ملكين من باب الشبه ، وفي قراءة (ملكين) على الشبه أيضا بالملوك في الخلق وسماع الكلمة.
ولكن هذين الملكين ما كان يعلمان أحدا من الناس حتى يقولا له : إنما هذا ابتلاء واختبار من اللّه فلا تتعلم السحر وتعمل به وتعتقد تأثيره ، وإلا كنت كافرا ، أما إذا تعلمته فلتعرف شيئا تجهله ولا تعمل به ما يضر فلا محذور في ذلك ، فتعلم الناس من الملكين ما كانوا يعتقدون أنه يفرق بين المرء وزوجه ، أو ما هو تمويه من حيلة أو نفث في العقد أو تأثير نفس وغير ذلك مما يحدث عنده التفريق غالبا.
والحقيقة أن السحر لا يؤثر بطبعه ، وما هم بضارين به أحدا من الناس إلا بأمر اللّه وإرادته ، فهذا كله إن صح فسبب ظاهرى فقط ، وأما من تعلم السحر وعمل به فإنه تعلم ما يضره ولا ينفعه إذ به استحق غضب اللّه عليه لما ينشأ عنه من إفساد الناس وضررهم ، وتاللّه لقد علم اليهود لمن ترك كتاب اللّه واستبدل به كتب السحر ما له في الآخرة إلا العذاب ، وليس له نصيب من الثواب.
ولبئس ما اشتروا به عذابهم وألمهم لو كانوا يعلمون ، نفى عنهم العلم لأنهم لم يعلموا به فكانوا أسوأ من الجهلة.
ولو أن اليهود آمنوا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن وتركوا كتب السحر والشعوذة وأخذوا الوقاية من عذاب اللّه بامتثال أوامره لاستحقوا الثواب من عند اللّه وهو خير وأعظم أجرا لو كانوا يعلمون ذلك.
ملاحظات :
1 - السحر في اللغة : كل ما لطف مأخذه وخفى ، ومنه قيل : عين ساحرة ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن من البيان لسحرا) « 1 » .
___________
(1) أخرجه البخاري من حديث ابن عمر كتاب الطب باب إن من البيان سحرا حديث رقم 5767.(1/62)
ج 1 ، ص : 63
2 - السحر كما وصفه القرآن : تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس كائنا أنه كائن يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [سورة طه آية 66].
3 - وهو إما حيلة وشعوذة أو صناعة علمية خفية يعرفها الناس ، ممكن أن يكون منه تأثير الأرواح والتنويم المغناطيسى.
4 - حكاية القرآن : يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ليس دليلا على أن السحر يفعل هذا وإنما هي حكاية لما كان مشهورا ومعروفا عندهم.
5 - السحر لا يؤثر بطبعه وإنما هو سبب ما يحدث عنه من أضرار من قبيل ربط المسببات كما نصت الآية.
أدب وتوجيه [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
المفردات :
راعِنا : راقبنا وانتظرنا. انْظُرْنا : من نظره : إذا انتظره.
المعنى :
كان المسلمون يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا ألقى عليهم شيء من العلم : راعنا ، وتأنّ علينا حتى نفهمه ونحفظه ، وكانت الكلمة عند اليهود (راعنا) كلمة سب فكانوا يخاطبون بها النبي ويقصدون معنى السب والشتم فنهى المؤمنون عن هذه الكلمة وأمروا(1/63)
ج 1 ، ص : 64
بكلمة تماثلها في المعنى وتختلف في اللفظ ، واسمعوا أيها المؤمنون القرآن سماع قبول ، وللكافرين واليهود عذاب مؤلم شديد ، وهذا أدب للمؤمنين وتشنيع على اليهود فما زال الكلام معهم ، لا يود الذين كفروا باللّه سواء كانوا من أهل الكتاب أو المشركين أن ينزل اللّه عليكم خيرا أبدا كالقرآن والرسالة ولكن اللّه العليم القادر الحكيم يختص بالنبوة والخير من يشاء من عباده اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية 124] عند من يقوم بها ويؤديها خير قيام.
آيات النسخ [سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 108]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
المفردات :
(ما ننسخ) النسخ : إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره. نُنْسِها :
نجعلها تنسى ، من أنساه الشيء : أذهبه من قبله ، أو ننسئها : نؤجلها.
سبب النزول :
روى أنهم طعنوا في النسخ فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمره ثم ينهاهم عنه ويقول اليوم ما يرجع عنه غدا ؟ فنزلت.
المعنى :
القرآن الكريم نزل منجما تبعا للحوادث والظروف وهو تنزيل من حكيم عليم بالخبايا ، فالحكم المستفاد من الآية يدور مع المصلحة للأمة فمتى وجدت المصلحة في(1/64)
ج 1 ، ص : 65
الحكم بقي وإلا فلا ، فتارة تبقى الآية كما هي لأن المصلحة في ذلك ، وتارة يذهب لفظها ومعناها أو أحدهما وتؤجل إلى أجل أو تنسى من القلوب ، كل ذلك للمصلحة العامة للأمة ، فالنسخ ضروري في الأحكام خصوصا عند الأمة الناشئة بسبب تطورها سريعا ، فما يصلح علاجا اليوم قد لا يصلح غدا ، شأن المربى والطبيب الماهر مع مريضه.
ولم يكن النسخ لجهل الشارع بالحكم الأخير ، ولكن كان الشارع يتدرج ويعالج تبعا للظروف والأحوال ، انظر إليه حيث عالج الخمر وكيف نسخ الحكم فيها ؟ حتى وصل النهاية ، وكذا آيات القتال نجد أن النسخ كان لحكمة عالية من حكيم خبير هو أدرى بخلقه ، حتى استقرت الأحوال واستوت الأمة قائمة لها كيان لم يبق نسخ ، أليس هذا أولى من بقاء الأحكام لا تتغير تبعا للظروف الطارئة فيضطر إلى هجرها وعدم قبولها ؟
فاللّه لم ينسخ آية أو يؤجلها إلا ويأتى بخير منها للعباد أو مثلها على الأقل ، أليس اللّه على كل شيء قديرا ؟ أليس للّه ملك السموات والأرض فهو يملك أموركم ويدبرها على حسب المصلحة وليس لكم ولى سواه يتولى أموركم ولا نصير ينصركم غيره - سبحانه وتعالى - .
هذا رأى بعض العلماء في النسخ والقول به ، وبعضهم يرى أنه لا نسخ أبدا بالمرة وكل آية قيل إن فيها نسخا أوّلوها تأويلا سائغا ببيان أن كل آية في موضوع فلم تنسخ إحداهما الأخرى ، انظر إلى آيات العدة الآتية ، وآيات القتال ، وسنبينها إن شاء الله في موضعها.
بل أتريدون أن تطلبوا من رسولكم كما كانت تطلب آباؤكم اليهود من موسى - عليه السلام - ؟ فقد طلبوا منه أن يريهم اللّه جهرة وغير ذلك مما كانت عاقبته وخيمة عليهم ، ومن يترك الثقة في القرآن ويشك في أحكامه ويطلب غيرها فقد ضل السبيل السوى.(1/65)
ج 1 ، ص : 66
موقفهم من المؤمنين [سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 110]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
المفردات :
(حسدا) الحسد : تمنى زوال نعمة الغير. فَاعْفُوا العفو : ترك العقاب على الذنب. وَاصْفَحُوا الصفح : الإعراض عن ذنب بصفحة الوجه ، فيشمل ترك العقاب وترك اللوم.
المعنى :
كان كثير من اليهود بعد كفرهم بالنبي والكيد له ونقض العهود حسدا له ولقومه يودون ويتمنون أن يرتد المسلمون الذين آمنوا بالنبي وأن يعودوا كفارا بعد ما كانوا مؤمنين ، وهذا التمني وتلك الرغبة بسبب الحسد الكامن والداء الباطن في أنفسهم ، لا ميلا مع الحق ولا رغبة ، بل هذا التمني بعد ما ظهر لهم أن الدين الإسلامى هو الدين الصحيح ، فاعفوا عنهم أيها المسلمون ولا تلوموهم على فعالهم ، واصبروا حتى يأذن اللّه بالقتال ويأتى أمره فيهم وهو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذلالهم ، واللّه على كل شيء قدير.
وأنتم أيها المسلمون أدوا صلاتكم مقومة كاملة ، وأدوا زكاتكم فهي حصن مالكم ، وهما وإن كانا فيهما خير الدنيا وسعادة المجتمع فكذلك في الآخرة إذ ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوا جزاءه عند اللّه كاملا إن اللّه بما تعملون بصير.(1/66)
ج 1 ، ص : 67
موقف كل من اليهود والنصارى بالنسبة للآخر [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
المفردات :
هُوداً : جمع هائد ، وهم اليهود. نَصارى : أتباع المسيح. أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ : جعل وجهه خالصا للّه وانقاد له.
المعنى :
من قبائح أهل الكتاب وغرورهم بدينهم ما بينه القرآن في هذه الآيات حيث يقول ما معناه : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا اليهود فهم شعب اللّه المختار وغيرهم في الضلال ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا النصارى.
تلك أمانيهم الباطلة التي لا تستند على أساس من النقل أو العقل ، وإلا فهاتوا برهانكم أيها اليهود والنصارى إن كنتم صادقين فليست المسألة دعوى.
يرد اللّه عليهم : بل يدخل الجنة من أسلم وجهه للّه وانقاد له فلم يسع لفرية أو كذبة وهو محسن في عبادته وعمله واعتقاده ، وهؤلاء أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.(1/67)
ج 1 ، ص : 68
ولم تقف دعواهم عند هذا بل صرح أحبار اليهود مرارا قائلين : ليست النصارى على شيء يذكر ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء يذكر ، والحال أنهم أصحاب كتاب يدعون أنهم يتلونه ويؤمنون به ، فلو أن اليهود تؤمن بالتوراة والنصارى تؤمن بالإنجيل لما قالوا مثل ذلك لأن كل كتاب نزل من عند اللّه جاء مصدقا لما سبقه ومبشرا لما يأتى بعده.
إذن هم لا يؤمنون بشيء ، وقد قال مثل مقالتهم هذه المشركون الذين لا يعلمون شيئا إذ ليس عندهم كتاب ، فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة في اختلافهم ويجازيهم عليه أشد الجزاء ، وأما الجنة فهي لمن أسلم وجهه للّه وهو محسن.
تخريب المساجد [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 115]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
المفردات :
خَرابِها : تخريبها وهدمها وتعطيلها. خِزْيٌ أى : ذل. فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أى : هناك جهته التي يرضاها.
سبب النزول :
وهذه الآيات نزلت تشير إلى حوادث وقعت بعد النسخ تتعلق ببيت المقدس وتخريبه ، وذهب بعض المفسرين إلى أنها نزلت في مشركي العرب حيث منعوا النبي وأصحابه من دخول مكة ، وقيل : إنه إخبار بما سيقع من إغارة الصليبيين على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين وصدهم عن المسجد الأقصى وتخريبهم كثيرا من المساجد ، والكلام على العموم في أهل الكتاب ومن على شاكلتهم.(1/68)
ج 1 ، ص : 69
المعنى :
ليس هناك ظلم أكبر من تخريب المساجد ومنع الناس من الصلاة فيها ، ولا أحد أظلم ممن منع ذكر اللّه في المساجد بأى طريق من الطرق ، وسعى في تعطيلها عن القيام بوظائفها ، أولئك الذين يفعلون هذا بعيدون جدا عن اللّه وتوفيقه ، ما كان ينبغي لهم إلا أن يدخلوها خائفين من سطوة الإسلام والمسلمين ، فما بالهم يفعلون هذا ؟ وما دام للإسلام والمسلمين السطوة والعزة والتمسك بالقرآن وأحكامه فلا يدخلونها إلا خائفين.
أما إذا فرط المسلمون في دينهم وأقاموا بعض أحكام الدين وأهملوا البعض الآخر حتى أضاعوا كيانهم فللكفار والمشركين أن يدخلوها بل ويخربوها ويتحكموا في أهلها كما هو حاصل الآن.
ولمن منع ذكر اللّه في المسجد ذل في الدنيا وعذاب في الآخرة.
للّه ما في الأرض جميعا مشرقها ومغربها ، ففي أى مكان تصلون فيه وتتوجهون فيه إلى اللّه فإنه معكم ، إن اللّه واسع لا يحده مكان ، فيصح أن يتوجه إليه في كل مكان عليم بمن يتوجه إليه أينما كان.
مفتريات أهل الكتاب والمشركين [سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 118]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)(1/69)
ج 1 ، ص : 70
المفردات :
سُبْحانَهُ : تنزيها له عما يصفون. بَدِيعُ : مبدع. قانِتُونَ :
منقادون.
المعنى :
وقال أهل الكتاب والمشركون من اليهود والنصارى وغيرهم : المسيح ابن اللّه وعزيز ابن اللّه والملائكة بنات اللّه!! سبحانه وتعالى وتنزيها له عما يدّعون ، بل له كل ما في السموات والأرض ومنهم هؤلاء ، الكل قد خلقهم اللّه ، كل له منقادون إن طوعا وإن كرها ، وهو الذي أبدع السموات والأرض وما فيهن ، وإذا أراد أمرا - فلا راد لقضائه - كان وتحقق من غير امتناع.
فمن له كل ما في السموات والأرض خلقا وملكا ، ومن له كل ما في الكون كائنا ومنقادا. ومن أبدع السماء والأرض والوجود كله ، ومن إذا أراد أمرا كان ووجد من غير امتناع أو إباء.
من كان هذا شأنه أيحتاج إلى الولد أو الوالد ؟ ومن كان هذا شأنه يكون له جنس ؟
أم هو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ؟ ! وقال الذين لا يعلمون : هلا يكلمنا اللّه كما يكلم الملائكة وموسى استكبارا منهم وعتوّا ، أو تأتينا آية استخفافا منهم بهذه الآيات البينات. كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم وأرواحهم ، تنزه اللّه عن طلبهم.
وبين الآيات أحسن بيان وأتمه ولكن لا يفهمها إلا المنصفون الموقنون.(1/70)
ج 1 ، ص : 71
تحذير الرسول من اتباع اليهود والنصارى [سورة البقرة (2) : الآيات 119 الى 123]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
المفردات :
الْجَحِيمِ : النار المتأججة ، وهي جهنم. مِلَّتَهُمْ : دينهم.
الْخاسِرُونَ : الهالكون.
المعنى :
أراد اللّه تسلية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله : إنا أرسلناك للناس رسولا تبشر المؤمنين وتنذر الكافرين ، فمهمتك الرسالة ولا عليك شيء بعدها ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ « 1 » فإنك لا تسأل عن أصحاب النار ، فلا تأس عليهم ولا تحزن.
___________
(1) سورة الأنعام آية 52(1/71)
ج 1 ، ص : 72
وهؤلاء اليهود والنصارى الذين قص عليك من أنبائهم ما به عرفتم لن يرضوا عنك مهما فعلت من الخير إلا إذا دخلت في دينهم.
و
روى أنهم قالوا : يا محمد مهما فعلت لإرضائنا فلن نرضى حتى تتبع ملتنا ، قالوا هذا لييأس النبي من هدايتهم ، فرد اللّه عليهم : إن هدى اللّه ودينه الذي هو الإسلام هو الهدى وحده الواجب اتباعه ، أما غيره فمبنى على الهوى والشهوة ولذلك حذر اللّه نبيه وكل فرد من أمته بقوله : ولئن اتبعت دينهم فليس لك من دون اللّه ولى ولا نصير.
ولئلا يحصل اليأس للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم من أهل الكتاب جميعا أخبر بأنهم ليسوا كلهم على هذا المنوال بل منهم من يتلو الكتاب ويفهمه حق الفهم ولا يتعصب تعصب الأعمى ولا يبيع آخرته بدنياه ، أولئك يؤمنون به ومن يؤمن به حقا يؤمن بالقرآن والنبي ، ومن يكفر بكتابه منهم فلا يؤمن بك ، وأولئك هم الخاسرون.
بعد أن ذكر ما ذكر من تعداد النعم والقبائح وما جازاهم بهم على كل هذا أراد أن يجدد ثقتهم ونشاطهم فناداهم بهذا لئلا ينفروا مما سبق ، وهو يذكرهم بالنعم التي أنعمها عليهم وعلى آبائهم وليبنى عليها قوله : وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وليس فيها تكرير يمجه البلغاء.
إبراهيم عليه السلام وبيت اللّه الحرام [سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 129]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)(1/72)
ج 1 ، ص : 73
المفردات :
ابْتَلى إِبْراهِيمَ : اختبره ، والمراد : كلفه بتكاليف ليجازيه ، وذلك شأن المختبر. بِكَلِماتٍ المراد : أوامر ونواه. فَأَتَمَّهُنَّ : أدّاهنّ. مَثابَةً :
مرجعا ومآبا. مُصَلًّى : مكان صلاة. الْعاكِفِينَ : الملازمين.
الْقَواعِدَ : جمع قاعدة ، وهي الأساس. مَناسِكَنا : النسك في الأصل غاية العبادة ، وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة. الْحِكْمَةَ : ما تكمل به النفوس من أحكام الشرع والمعرفة. يُزَكِّيهِمْ : يطهرهم.
شرع اللّه في تحقيق أن هدى اللّه هو ما عليه المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم من التوحيد والإسلام الذي هو ملة إبراهيم - عليه السلام - وبطلان ادعاء أهل الكتاب أنهم يتبعون دين إبراهيم ، وبيان صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إذ هو دعوة إبراهيم الخليل ، فالكلام كله متصل مع أهل الكتاب.(1/73)
ج 1 ، ص : 74
المعنى :
واذكر لهم يا محمد وقت اختبار اللّه لإبراهيم بأن كلفه بتكاليف يؤديها فقام بها خير قيام وأداها أحسن أداء ، ولذا كان جزاؤه من اللّه - جل جلاله - أن قال له : إنى جاعلك إماما للناس تؤمهم في دينهم وتفصل بينهم في دنياهم ، قال إبراهيم : وجاعل بعض ذريتي كذلك ؟ وأجابه المولى : لا ينال عهدي بالإمامة الظالمون الذين ظلموا أنفسهم لأن الإمام مفروض أن يقوم بحراسة الدين وأهله والقيام على شئون الرعية ومنع الظلم ، فإذا كان ظالما لنفسه فكيف يدفع الظلم عن غيره ، وهذا هو حكم القرآن في الإمام وما شرطه فيه!! واذكر لهم إذ جعلنا البيت الحرام (الكعبة) مثابة للناس وملجأ ، وجعلناه آمنا ، من دخله كان آمنا ويتخطف الناس من حوله ، واتخذوا أيها المسلمون من مكان إقامة إبراهيم مصلى ، أى : فضلوه على غيره في الصلاة لشرفه بقيام إبراهيم فيه ، فالأمر للندب لا للوجوب ، وقد أمرنا إبراهيم وإسماعيل بأن يقوما بتطهير البيت من الأوثان ومن كل دنس ورجس يطهرانه للذين يطوفون به ويقومون عنده ، والذين يركعون فيه ويسجدون ، اذكر لهم يا محمد دعوة أبيهم إبراهيم لهذا البلد وأهله :
رب اجعل هذا البلد في أمن وطمأنينة ، وارزق أهله من الثمرات أطيبها ومن خيرات الأرض أحسنها ارزق يا رب المؤمن منهم. وانظر إلى تكريم المؤمنين وبيان خطر الإيمان وشرفه ، وفي هذا ترغيب لقومه في الإيمان وزجر عن الكفر ، وفي حكاية القرآن هذا ترغيب لقريش وترهيب لها ولغيرها من أهل الكتاب ، فأنت ترى أن إبراهيم خص طلب الرزق للمؤمنين. قال الرب - سبحانه وتعالى - ما معناه : والكافر أرزقه وأمتعه زمنا قليلا ثم ألجئه إلى عذاب النار وبئس هذا المصير.
واذكر يا محمد وقت أن رفع إبراهيم أساس البيت للبناء ومعه إسماعيل يعاونه قائلين :
ربنا اقبل منا وتقبل إنك أنت السميع لكل دعاء العليم بكل قصد ونية. ربنا واجعلنا منقادين لك ومخلصين ، ثم أخذتهما الشفقة على أولادهما فدعوا اللّه بأن يجعل من ذريتهما جماعة مخلصة منقادة ، وإنما دعوا للبعض فقط لأنهما يعرفان أن الحكمة الإلهية في وجود الصنفين ولا بد منهما ، وبصرنا يا رب أمور عبادتنا وأسرارها وبخاصة مناسك الحج ، وأقبل توبتنا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا وأرسل في ذريتنا رسولا منهم عرفوا عنه الصدق والأمانة ، ويتلو عليهم آيات(1/74)
ج 1 ، ص : 75
دينك ويعلمهم القرآن وما به تكمل نفوسهم من العلوم والمعارف ، ويطهرهم من دنس الرجس والوثنية إنك يا رب أنت العزيز الذي لا يغلب الحكيم في كل صنع.
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « أنا دعوة أبى إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمّى » « 1 »
فذلك تحقيق دعوة إبراهيم ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم هو الذي يتحقق فيه هذه الدعوة ، وأهل الكتاب يعرفون ذلك ولكنهم أعرضوا حسدا وبغيا وظلما.
ملة إبراهيم مع المخالفين لها والمهتدين بها [سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 132]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
المفردات :
سَفِهَ نَفْسَهُ : أذلها واستخف بها. اصْطَفَيْناهُ : أخذناه واخترناه.
المعنى :
لا تجد أحدا يعرض عن ملة إبراهيم ودينه إلا شخصا أذل نفسه واستخف بها ، وذلك أن من يرغب في شيء لا يرغب فيه عاقل أصلا فقد بالغ في امتهان نفسه وأذلها وكيف لا ، وقد اصطفيناه في الدنيا وجعلناه أبا الأنبياء وإنه في الآخرة لمن المشهود لهم بالصلاح والاستقامة ، إذ قال له ربه : أسلم للّه وكن من المنقادين له - سبحانه - فما كان منه إلا أن أسرع بالانقياد والامتثال شأن المصطفين الأخيار. قال : أسلمت للّه رب العالمين ، ولقد كان إبراهيم متبعا الملة الحنيفية وأرادها لأولاده فوصى بها إبراهيم بنيه
___________
(1) أخرجه أحمد 1/ 128.(1/75)
ج 1 ، ص : 76
وكذلك يعقوب قائلا : يا بنىّ إن اللّه اختار لكم هذا الدين (و هو كدين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في الأصول العامة فاثبتوا على الإسلام ولا تفارقوه) فها هي ذي وصية إبراهيم لبنيه ويعقوب للأسباط فانظروا أيها اليهود هل أنتم تتبعون آباءكم إبراهيم ويعقوب أم لا ؟
لكل ما كسب [سورة البقرة (2) : الآيات 133 الى 137]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
المفردات :
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ : أم هنا بمعنى (بل) أكنتم شهداء ، والهمزة بمعنى النفي ،(1/76)
ج 1 ، ص : 77
أى : ما كنتم شهداء. خَلَتْ : مضت. هُوداً : جمع هائد ، أى تائب ، وهم اليهود. حَنِيفاً : مائلا عن الباطل إلى الحق. الْأَسْباطِ : الأحفاد ، والمراد أبناؤه وذريته.
سبب النزول :
روى أنهم قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى باليهودية يوم مات فنزلت الآية.
المعنى :
ما كنتم أيها اليهود حاضرين وقت أن احتضر يعقوب وقال لبنيه : أى شيء تعبدونه بعد موتى ؟ فأجابوه : نعبد إلهك اللّه الواحد الفرد الصمد وهو إله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إله واحد لا شريك له ، ونحن له مستسلمون ومنقادون لحكمه.
وقد رد اللّه على اليهود ادعاءهم أنهم نسل الأنبياء وحفدتهم فلا يدخلون النار إلا أياما معدودات بقوله : هذه الأمة قد مضت بما لها وما عليها لا ينتفع بعملها أحد ولا يضر وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى « 1 » فكما أن هؤلاء السابقين لا ينفعهم إلا عملهم كذلك أنتم لا ينفعكم إلا أعمالكم.
وقال بعض أهل الكتاب : كونوا مع اليهود في دينهم تصلوا إلى الطريق السوى ، وقال البعض الآخر (النصارى) : كونوا مع النصارى تصلوا إلى الحق ، قل يا محمد ردا عليهم : بل تعالوا إلى ملة أبيكم إبراهيم الذي تدعون أنكم على دينه فهي الملة الحنيفة القائمة على الجادة بلا انحراف ولا نزاع وما كان إبراهيم من المشركين ، ها أنتم هؤلاء بعيدون عن ملة إبراهيم.
قولوا أيها المؤمنون : آمنا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من القرآن والصحف فلا تكن دعوتكم إلى شيء خاص بكم بل ادعوا إلى أصل الدين وروحه الذي لا خلاف فيه ولا نزاع ، وهو التسليم بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الإسلام لرب العالمين ، لا نعبد إلا اللّه ولا نفرق بين أحد من رسله وما أوتى موسى وعيسى من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات ، وما أوتى النبيون جميعا لا نفرق بين أحد منهم ، كما تفعل اليهود والنصارى فالمؤمن حقيقة هو من يؤمن بكل الكتب والأنبياء ولا يؤمن ببعض ويكفر بالبعض الآخر.
___________
(1) سورة الزمر آية رقم 7.(1/77)
ج 1 ، ص : 78
فإن آمن أهل الكتاب كما آمنتم فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم ، وإن تولوا وأعرضوا وفرقوا بين الأنبياء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض فإنما هم في شقاق ونزاع ، وإذا كان هذا فثقوا أن اللّه سيكفيكم شرهم وسيبدد شملهم ، وقد تحقق ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير ، واللّه هو السميع لكل قول ، والعليم بكل فعل.
اللّه ربنا وربكم [سورة البقرة (2) : الآيات 138 الى 141]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
المفردات :
صِبْغَةَ اللَّهِ الصبغة : الحالة التي عليها الصبغ ، والمراد بصبغة اللّه الإيمان لكون الإيمان تطهيرا للمؤمنين من أوساخ الشرك ، وهو حلية تزينهم بآثاره الجميلة ، وقد تدخل في قلوب المؤمنين كما يتداخل الصبغ فترى أن الإيمان يشبه الصبغة في التطهير والحلية والتداخل. أَتُحَاجُّونَنا : أتجادلوننا. مُخْلِصُونَ : لا نبغى بأعمالنا غير وجه اللّه.(1/78)
ج 1 ، ص : 79
المعنى :
قولوا أيها المؤمنون بعد مقالتكم الأولى وهي : إنا نؤمن باللّه وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وكتبه قولوا : صبغنا اللّه بصبغة الإيمان وتطهير النفوس من أدرانها ، وهل هناك صبغة أحسن من صبغة الإسلام ؟ ومن صبغته أحسن من صبغة اللّه الحكيم الخبير ؟ ونحن للّه الذي أولانا هذه النعم الجليلة التي منها نعمة الإسلام والهداية عابدون ومخلصون وقانتون ، ثم بعد هذا أمر اللّه نبيه بأمر خاص به وهو : قل لهم يا محمد :
أتجادلوننا في دين اللّه وتدّعون أن دينه الحق هو اليهودية أو النصرانية ؟ وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما وتقولون تارة : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وتارة تقولون : كونوا هودا أو نصارى تهتدوا أتجادلوننا في دين اللّه وهو ربنا وربكم لا فرق بيننا وبينكم في العبودية للّه فهو مالك أمرنا وأمركم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم الحسنة والسيئة ، ونحن للّه مخلصون في تلك الأعمال لا نقصد بها إلا وجهه وإن أتى منا سوء فبغير قصد ونية فكيف تدعون أن لكم الجنة والهداية دون غيركم ؟ !! قل لهم يا محمد : أى الطريقين تسلكون ؟ إقامة الحجة على ما أنتم عليه وقد ظهر أن لا حجة لكم ؟ أم تسلكون طريق التقليد من غير برهان والكذب على اللّه والأنبياء فتقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط هود ، ويقول الناس :
النصارى كانوا نصارى فنحن مقتدون ، والمراد إنكار الطريقين وتوبيخهم على كلا الأمرين ، قل لهم يا محمد : أأنتم أعلم أم اللّه ؟ ! ولا أحد في الوجود أظلم ممن يكتم شهادة ثابتة عنده من اللّه وهي شهادته - سبحانه وتعالى - لإبراهيم ويعقوب بالحنيفية والبراءة من اليهودية والنصرانية ، فلو كتمناها لكنا أظلم الناس كما أنكم تكتمون شهادة عندكم من اللّه للنبي العربي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وليس اللّه غافلا عن أعمالكم فهو محصيها ومجازيكم عليها ، تلك أمة من الأنبياء والرسل قد مضت لها أعمالها الحسنة والسيئة ونحن لا نسأل عنها وهم لا يسألون عن أعمالنا ، كرر هذه للمبالغة في الزجر عما هم عليه من الافتخار بالآباء والاتكال على الماضي وهذا شأن العاجز الضعيف الذي ينظر إلى الماضي ولا يتجه إلى المستقبل.
فهب أن أباك كان من الأولياء والأصفياء ولم تعمل شيئا تحمد عليه أفينفعك هذا ؟
لا. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى واللّه أعلم.(1/79)
ج 1 ، ص : 80
مقومات تحويل القبلة [سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 143]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)
المفردات :
السُّفَهاءُ السفه : الاضطراب في الرأى والفكر والخلق. والسفهاء : هم ضعفاء العقول ، والمراد بهم هنا : المنكرون تغيير القبلة من اليهود والمشركين والمنافقين.
الْقِبْلَةَ في الأصل : الجهة ، والمراد قبلة المسلمين في الصلاة. وَسَطاً الوسط :
اسم لنقطة تستوي نسبة الجوانب إليها كمركز الدائرة ، ثم استعير للخصال المحمودة إذ كل صفة محمودة كالشجاعة وسط بين طرفين : الإفراط والتفريط ، والمراد : خيار عدول عندهم العلم والعمل. إِيمانَكُمْ : صلاتهم فإنها مسببة عن الإيمان.
عَقِبَيْهِ العقب : مؤخر القدم ، والمراد يرتد عن الإسلام.
المناسبة :
لا يزال القرآن يتعرض في هذه الآيات لما كان عليه اليهود - وإن شاركهم فيه غيرهم من المشركين - من إنكار تحويل القبلة والنسخ وغيرهما.(1/80)
ج 1 ، ص : 81
وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يصلى وهو بمكة متجها إلى الكعبة ، ثم لما هاجر أمر بتحويل القبلة إلى صخرة بيت المقدس تألفا لليهود وقد فرحوا بذلك.
وظل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كذلك بضعة عشر شهرا إلا أنه كان كثيرا ما ينظر إلى السماء ويدعو اللّه أن يتوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم وهي الكعبة ، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق ، وكان أول صلاة صلاها هي العصر كما في الصحيحين.
المعنى :
علم اللّه - سبحانه وتعالى - ما سيكون عند تحويل القبلة من اضطراب بعض الناس اضطرابا قد يودى بإيمانهم ، وعلم ما سيقوله سفهاء الناس فأخذ يمهد تمهيدا دقيقا لتحويل القبلة حتى لا يفاجأ المسلمون بالتحويل واضطراب الناس وإنكارهم ، ولذا لقنهم الحجة ، ووضح لهم الطريق ثم بعد هذا أمرهم بالتحويل.
سيقول ضعفاء العقول والإيمان من اليهود والمنافقين والمشركين : أى شيء صرف المسلمين عن قبلتهم التي كانوا ثابتين عليها ؟ فقد ساء اليهود انتقال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، وأما المشركون فقصدهم الطعن في الدين وبيان أن التوجه في الحالين وقع بغير داع ، وأما المنافقون فهذا شأنهم من الدين وديدنهم.
فيرد اللّه عليهم : قل لهم يا محمد : للّه تعالى ناحيتا المشرق والمغرب ، فالجهات كلها ملكه فلا اختصاص لناحية دون أخرى ، ولا مزية لها ، وإنما الأمر بيده يختار ما يشاء ، فأينما تولوا فثم وجه اللّه لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يهدى من يشاء إلى الصراط المستقيم ، ولقد هدى المؤمنين حقا إلى ذلك حيث أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس ثم رجع إلى الكعبة ، فامتثلوا أمره لأنهم على علم بأن المصلحة فيما أمر والخير فيما وجه.
ومثل هذه الهداية والتوفيق إلى الصراط المستقيم جعلناكم أيتها الأمة المحمدية وسطا عدولا بلا إفراط ولا تفريط في أى شيء من شئون الدين والدنيا ، فالأمة الإسلامية وسط في عقائدها العامة تحافظ على المادة والروح ، وتنمى هذا وذاك وهي وسط في معاملتها للفرد وللجماعة فلا تجعل الفرد يطغى على الجماعة باستبداده ولا تلغى شخصية(1/81)
ج 1 ، ص : 82
الفرد في الجماعة ، ولقد صدق اللّه : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ « 1 » وذلك لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا ، ولتكونوا شهداء على الأمم يوم القيامة ، ويكون الرسول عليكم شهيدا.
روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء - عليهم السلام - لهم ، فيطالبهم اللّه تعالى بالبينة - وهو أعلم بكل شيء - إقامة للحجة على الجاحدين المنكرين ، فتقول الأنبياء : أمة محمد تشهد بذلك ، فيؤتى بأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيشهدون للأنبياء فتقول الأمم لهم : من أين عرفتم ذلك ؟
فيقولون : علمنا ذلك بإخبار اللّه - تعالى - في كتابه الناطق ، على لسان رسوله الصادق ، فيؤتى عند ذلك بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد لهم وذلك قوله تعالى : وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.
وما جعلنا القبلة التي تحبها والجهة التي كنت عليها بمكة (يعنى : وما رددناك إليها) إلا امتحانا وابتلاء ليظهر ما علمناه ، ويتبين في الواقع الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه فيرتد ، حتى يجازى كل على عمله.
وإنما شرعنا لك التوجه إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة ليظهر حال المؤمنين والمنافقين.
وإن كانت هذه الفعلة لشديدة على نفوس الناس إلا على الذين هداهم اللّه ووفقهم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة الآيتان 124 و125].
وروى أنه لما غيرت القبلة أخذ المرجفون يقولون : ما حال المسلمين الذين ماتوا قبل التحويل ؟ وكيف نحكم على صلاتهم وإيمانهم ؟ ولقد سأل بعض المسلمين عن أقاربهم الذين ماتوا ليطمئنوا فأجابهم : وما كان اللّه ليضيع إيمانكم وثباتكم على الإسلام ، وبالتالى لا يضيع صلاتكم وعبادتكم. إن اللّه بالناس لرءوف رحيم.
___________
(1) سورة آل عمران آية رقم 110.(1/82)
ج 1 ، ص : 83
تحويل القبلة [سورة البقرة (2) : الآيات 144 الى 147]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
المفردات :
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ : تردده طلبا للوحى والتجاء إلى اللّه.
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ : فلنوجهنك جهتها. فَوَلِّ وَجْهَكَ : فوجه وجهك. شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ : جهته. الْمُمْتَرِينَ : الشاكّين.
المعنى :
كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يتشوق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه(1/83)
ج 1 ، ص : 84
إبراهيم ، والأمة المسلمة هي الوارثة لإبراهيم وإسماعيل ولعهد اللّه معهما ، فطبيعى أن ترث بيت اللّه في مكة ، وأن تتخذ منه قبلة لأنه بيت اللّه وتراث إبراهيم ، وبناؤه مع إسماعيل ، لأنها أدعى إلى إيمان العرب المعول عليهم في الرسالة ، وتطلعه إلى ما يظنه خيرا ، ويعتقد أن فيه الرضا والرضوان ، ولذلك أجابه اللّه إلى طلبه وقال : فلنوجهنك قبلة ترضاها وتحبها لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا يحب إلا الخير.
وقد قرن اللّه الوعد بالأمر للإشارة إلى أن ما يرجوه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هو ما تتطلبه الحكمة الإلهية فقال : فول وجهك وجهة المسجد الحرام فالواجب استقبال جهة الكعبة حقيقة في القرب وظنا في البعد.
ثم أمر المؤمنين عامة فقال : فحيثما كنتم فولوا وجوهكم جهته ، وكان يكفى الأمر للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أمره أمر لأمته إلا إذا خصص. ولكن أمر المؤمنين أيضا للتأكيد الذي اقتضته الحال في حادثة القبلة ، فإنها حادثة كبرى استتبعت فتنة عظمى كان لها أثر كبير ، ولتشتد قلوبهم ، وتطمئن نفوسهم فيضربون بأقوال المنكرين عرض الحائط.
ثم رجع القرآن لمناقشة أهل الكتاب ممن اشترك في هذه الفتن فقال : وإن اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل ليعلمون علما أكيدا أن هذا التحويل هو الحق الثابت لأنه في كتابهم ، ولكنهم دأبوا على إنكار الحق ، وترويج الباطل ، وما اللّه بغافل عن أعمالهم بل مجازيهم عليها.
ولقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حريصا على إيمان أهل الكتاب لأن كلامهم مصدق عند العوام ، فكان يود لو تزال كل شبهة عندهم حتى يؤمنوا ، ولذا يقول اللّه تهدئة لخاطره وتسلية له : إنهم قوم منكرون معاندون فلا تنفعهم الآيات ، ولا تزيل شبههم الحجج الواضحات ، تاللّه لئن أتيتهم بكل آية رجاء أن تقنعهم باتباع قبلتك ما اقتنعوا ، ولا اتبعوك ، ولست أنت تابعا لقبلتهم ، قطعا لطمعهم في أن يعود النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى بيت المقدس ، فإنهم كانوا يمنون أنفسهم برجوع النبي إليه ، وكيف يرجى منهم اتباع قبلتك ؟ وليست لهم قبلة واحدة فعيسى كانت قبلته مع موسى ولكن بعد موته وتحريف الإنجيل اتخذوا قبلة أخرى.
ثم هدد اللّه نبيه الكريم ورسوله الأمين بهذا التهديد حتى تعرف أمته خطر مخالفة كلام اللّه ، واتباع أهواء الناس وممالأتهم على حساب الدين.(1/84)
ج 1 ، ص : 85
فقال : ولئن اتبعت يا محمد أهواء أهل الكتاب بعد ما ظهر لك الحق واضحا وعرفت الخير والشر إنك إذن لمن الظالمين لأنفسهم المستحقين العقاب في الدنيا والآخرة ، وكيف تتبع هؤلاء ؟ وهم يعرفون الحق كمعرفتهم أبناءهم أو أشد ، وإن فريقا منهم ليكتمونه .. الحق من ربك ، فما أنت عليه هو الحق ، فلا تكن من الممترين.
حول تحويل القبلة [سورة البقرة (2) : الآيات 148 الى 152]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)(1/85)
ج 1 ، ص : 86
المفردات :
سْتَبِقُوا
: تسابقوا. الْحِكْمَةَ : العلم النافع مع العمل.
كل هذا تأييد للدعوى وبطلان لكلام المنكرين.
المعنى :
لكل فريق من الأمم قبلة هو موليها وجهه ، فلليهود قبلة ، وللنصارى قبلة ، وللمسلمين قبلة ، فلم تكن جهة من الجهات قبلة لكل الأمم ، وليست القبلة ركنا من أركان الدين ، وليست مهمة لهذه الدرجة ، وإنما المهم أن تتسابقوا إلى الخيرات حتى تحرزوا قصب السبق ، لا أن تجادلوا وتعترضوا على تحويل القبلة ، واللّه - سبحانه - يستوي عنده كل مكان فأينما تكونوا يأت بكم اللّه جميعا يوم القيامة فيحاسبكم على أعمالكم ، واللّه على كل شيء قدير وفي هذا تهديد للمنكرين.
ثم أعاد اللّه - سبحانه - الأمر للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بتولية وجهه جهة المسجد الحرام مرة ثانية. ثم أعاده مرة ثالثة ، وليس في هذا تكرير ، بل تأكيد للأمر بتحويل القبلة في صور مختلفة ليعلم أن التوجه إلى الكعبة ليس خاصا بوقت دون وقت وبمكان دون مكان في الحضر أو السفر ، ولقد بنى القرآن على كل أمر ما يناسبه. فمع الأول أثبت أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه الحق ، ومع الثاني بين أنه الحق الثابت من عند اللّه ، ومع الأمر الثالث الحكمة في تحويل القبلة.
الحكمة الأولى : لئلا يكون للناس على اللّه حجة ، فأهل الكتاب يعرفون أن النبي المبشّر به عندهم قبلته الكعبة فجعل القبلة إلى بيت المقدس دائما طعن في نبوته ، والمشركون من العرب كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم - عليه السلام - جاء لإحياء ملته لا ينبغي له أن يستقبل غير بيت ربه الذي بناه جده إبراهيم ، فقد جاء التحويل موافقا لما يرونه ، فانتفت حجة الفريقين.
إلا الذين ظلموا أنفسهم فهم لا يهتدون بكتاب ، ولا يؤمنون بحجة ، ولا يعتدّون ببرهان لأنهم السفهاء فلا تخشوهم واخشون ، وتشير الآية إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى وغيره يجب ألا ينظر إليه.
ثم ذكر - سبحانه - الحكمة الثانية في تحويل القبلة : ولأتم نعمتي عليكم إذ لا شك أن محمد بن عبد اللّه نبي عربي من ولد إبراهيم ، والكتاب المنزل عليه عربي ، وقد ظهر(1/86)
ج 1 ، ص : 87
في العرب ، وهم أهله وعشيرته ، وكانوا إذا آمنوا يحبون أن تكون وجهتهم الكعبة ، وأن يحيوا سنة إبراهيم الخليل في تقديس الكعبة لأنها معبدهم وموطن عزهم وفخارهم ، إذن التحويل نعمة تامة من اللّه لهم ، وليتم نعمته عليكم ويهديكم صراطا مستقيما. ومع هذا فقد محص اللّه بها المؤمنين وظهر الثابت على الإيمان من المنافق.
الحكمة الثالثة : وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي : وليعدكم بذلك إلى الاهتداء والثبات على الحق وعدم المعارضة فيه.
أتم نعمته عليكم باستيلائكم على بيته الذي جعله قبلة لكم ، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم يتلو عليكم القرآن بلسان عربي مبين ، ويطهركم من كل دنس ورجس وعبادة صنم ، ويعلمكم ما به تسمو نفوسكم وتزكو من أشرف العلوم وأسناها ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من الإخبار بالمغيبات والقصص الذي لا يخلو من عبر وعظات ، فاذكروني يا أمة الإجابة بالامتثال والعمل الصالح ، والاقتداء بالرسل أجزكم على هذا ، وأذكركم عندي بالثواب والجزاء وأفاخر بكم الملائكة ، واشكروا نعمتي التي أنعمتها عليكم ، ولا تكفروا بها فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون ، وسيجازيكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
الصابرون والمقاتلون في سبيل اللّه [سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)(1/87)
ج 1 ، ص : 88
المفردات :
الصَّلاةِ في اللغة : الدعاء ، وهي من الملائكة الاستغفار ، ومن اللّه الرحمة.
بِالصَّبْرِ الصبر : حبس النفس على ما تكره. لَنَبْلُوَنَّكُمْ : لنمتحننكم ، أى :
نصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم. نقص الْأَنْفُسِ : موتها. نقص الثَّمَراتِ : قلّتها ، وقيل موت الأولاد.
المعنى :
علم اللّه ما سيلاقيه المؤمنون في دعوتهم من الشدائد وما يصادفهم في أمور دينهم من أقوال السفهاء وافتراء أهل الكتاب كما حصل في تحويل القبلة وغيره وسيؤدي هذا إلى القتال حتما ، ولا دواء لكل هذا إلا استعانة بالصبر والصلاة وتربية النفوس على تحمل المكروه في سبيل اللّه ، ولقاء الكبير المتعال في كل صباح ومساء ، أما الاستعانة بالصلاة فلا تحتاج إلى تعليل وبيان لأنها أم العبادات ، وفيها لقاء المؤمن بربه لقاء يقوى روحه ويشد من أزره ، ويضاعف من قوته ، ومن هنا كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حزبه - اشتد به - أمر همّ إلى الصلاة ، وهي عند المؤمنين في المحل الأعلى :
« جعلت قرّة عيني في الصّلاة »
وأما الاستعانة بالصبر فلأن اللّه - سبحانه - أكد بأنه يكون مع الصابرين ، وناهيك بمعيته - سبحانه - إذ المراد منها الولاية والنصرة وإجابة الدعوة وكفاهم فخرا أنهم متبعون في هذا.
يا أيها الذين آمنوا : استعينوا بالصبر ، وثقوا تماما بأن عاقبته خير إذ غايته الاستشهاد في سبيل اللّه ، وما هم أولاء الشهداء ؟ ليسوا كغيرهم أمواتا بل هم أحياء في قبورهم حياة ويرزقون رزقا على كيفية اللّه أعلم بها ، فنحن لا نشعر بذلك لأنها حياة لا تدرك بالمشاعر ولكنها حياة حدثنا عنها الدين فيجب أن نؤمن بها.
وليصيبنكم أيها المؤمنون بشيء قليل من الخوف والجوع والنقص في الأموال بضياعها ، وفي الأنفس بموتها ، وفي الثمرات بقلتها أو بموت الأولاد ، اختبر اللّه بهذا لتهدأ قلوب المؤمنين وتسكن ، مستسلمين إلى اللّه راضين بقضائه وقدره إذا ما أصابهم شيء من ذلك في الدنيا محتسبين الأجر عند اللّه قائلين : إنا ملك للّه وإنا إليه راجعون.
البشرى والنجاح لهذا الصنف من الناس فإنهم الصابرون. وإنما يوفى الصابرون(1/88)
ج 1 ، ص : 89
أجرهم بغير حساب ، أولئك تنزل عليهم المغفرة والرحمة ممن رباهم وتولى أمورهم ، وأولئك هم المهتدون إلى الأفعال النافعة.
والأحاديث في الصبر والاسترجاع عند المصيبة كثيرة ، منها
حديث أم سلمة « لا تصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول : اللهم أجرنى على مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا فعل ذلك به »
وما
يروى عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « قال اللّه : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدى ؟ قبضت قرّة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال :
نعم قال : فما قال ؟ قال : حمداك واسترجع ، قال : ابنوا له بيتا في الجنّة وسمّوه بيت الحمد » .
وما روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حينما مات إبراهيم : « إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون »
فهذا هو نظام الدين إذا أصاب المسلم شيء يستسلم لقضاء ربه ويرضى بحكمه ويسترجع عند المصيبة ، وعلى العموم لا يقول إلا ما يرضى ربه.
بعض شعائر الحج وجزاء من يكتم آيات اللّه [سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 162]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)(1/89)
ج 1 ، ص : 90
المفردات :
الصَّفا وَالْمَرْوَةَ : جبلان بمكة. شَعائِرِ اللَّهِ : جمع شعيرة ، وهي العلامة ، والمراد بشعائر اللّه هنا : مناسك الحج. حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ الحج في اللغة : القصد ، وفي الشرع : قصد مكة للنسك. وَالْعُمْرَةَ : الزيارة ، واعتمر :
زار ، وفي عرف الشارع هي كالحج لكن ليس فيها وقوف بعرفة وليس لها زمان محدود.
فَلا جُناحَ : فلا إثم. تَطَوَّعَ : فعل الطاعة فرضا أو نفلا. يُنْظَرُونَ :
من الإنظار وهو الإمهال.
المناسبة :
قد تكلم القرآن الكريم عن معاندة أهل الكتاب والمشركين في تحويل القبلة وما ترتب على ذلك من ذكر القتال والصبر وجزائه.
ومن الحكمة في تحويل القبلة توجيه أنظار المسلمين إلى مكة قلب الجزيرة ، فناسب هنا ذكر بعض شعائر الحج وهي السعى بين الصفا والمروة : إلهابا لهم وتذكيرا بمكة.
سبب النزول :
روى البخاري عن عاصم بن سليمان : سألت أنسا عن الصفا والمروة ؟ قال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية - لأنه كان عليهما صنمان (أساف ونائلة) وكان الجاهليون يمسحون عليهما - فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فنزل قول اللّه - عز وجل - :
إن الصفا ... إلخ.
المعنى :
إن السعى بين الصفا والمروة من مناسك الحج والعمرة ومن أعمالهما ، فمن قصد البيت للحج أو للعمرة فلا إثم عليه أن يطوف بهما ، أى : يسعى بينهما ، ونفى الإثم والحرج يشمل الواجب والمندوب ، ومن تطوع بعمل خير لم يجب عليه من طواف أو غيره شكره اللّه بالجزاء على فعله إذ هو عليم بكل فعل يصدر من العبد.
ثم رجع إلى اليهود فقال : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وقد نزلت في علماء اليهود وأحبارهم.(1/90)
ج 1 ، ص : 91
إن الذين يخفون ما أنزل اللّه بكتمه على الناس مع شدة الحاجة إليه ، أو وضع شيء مكذوب من عندهم مكانه فجزاؤهم الطرد من رحمة اللّه ، وغضب اللّه عليهم ، فاليهود قد كتموا الآيات الواضحات الدالة على صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والآيات الهاديات إلى حقيقة أمره ووجوب اتباعه والإيمان به ، كل ذلك من بعد ما بينها المولى - جل شأنه - ووضحها في التوراة ماذا يكون جزاؤهم ؟ أليس هو الطرد من رحمة اللّه ؟ ودعاء الملائكة أجمعين عليهم إلا من تاب منهم ورجع عن كتمان كلام اللّه ، وأصلح ما أفسده بأن أزال ما وضعه من عنده ، وكتب الأصل وبلّغ ما أنزل اللّه من غير تحريف ولا تبديل ، فأولئك البعيدون في درجة الكمال بتوبتهم وإيمانهم يتوب اللّه عليهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم لأنه هو التواب الرحيم.
هذا شأن من تاب وأناب ، ومن عاند وظل يغير ويحرف حتى مات!! فأولئك الذين كفروا باللّه ورسله وماتوا على الكفر ، أولئك عليهم لعنة اللّه وحقت عليهم كلمته وعليهم لعنة الملائكة والناس أجمعين خالدين في النار وماكثين مكثا اللّه أعلم به ، لا يخفف عنهم من عذابها ، ولا يمهلون.
ما تشير إليه الآية :
الإجماع منعقد على أن السعى بين الصفا والمروة من أعمال الحج والعمرة ، والخلاف في حكمة فعن أحمد أنه سنة ، وعن أبى حنيفة أنه واجب يجبر بدم ، وعن مالك والشافعى أنه ركن
لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « اسعوا فإنّ اللّه كتب عليكم السّعى » « 1 » .
آية كتمان ما أنزله اللّه نزلت في اليهود ، ولكن العبرة بعموم اللفظ ، فمن كتم حكما شرعيا أو علما نافعا أو رأيا ناضجا خالصا لوجه اللّه والوطن دخل تحت طائلة هذا العقاب.
___________
(1) رواه أحمد 6/ 421 والشافعى وغيرهما وللحديث طريقة أخرى عند ابن خذيمة إذا انضمت إلى الأولى قويت قاله ابن حجر في الفتح 3/ 582. [.....](1/91)
ج 1 ، ص : 92
إثبات وحدانية اللّه ورحمته ونفى الشركاء عنه [سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 167]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
المفردات :
بَثَّ : نشر وفرق ، ويقال : بث الخبر : نشره وأذاعه. دَابَّةٍ الدابة :
ما دب من الحيوان على الأرض ، وغلب على ما يركب ويحمل عليه. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ : توجيهها إلى الجهات المطلوبة. الْمُسَخَّرِ : المذلل. أَنْداداً :(1/92)
ج 1 ، ص : 93
جمع ند ، وهو النظير المخالف. يُحِبُّونَهُمْ : يعظمونهم كما يفعل المحب.
الْأَسْبابُ : الصّلات والعلاقات. كَرَّةً : رجعة. حَسَراتٍ :
ندامات.
المعنى :
بعد ما نعى القرآن على الكفار كفرهم ، وعلى من كتموا الآيات كتمانهم ، وأنهم ملعونون من اللّه والناس ، وأراد أن يعالج الداء الذي يدفعهم إلى استمرار كفرهم ، بإثبات الوحدانية للّه بالدليل ، وأنه رؤوف رحيم ، وأن من الخير الالتجاء إلى اللّه وحده فقال :
وإلهكم - الذي يجب أن يعبد وحده ، ولا يشرك به شيء - إله واحد ، لا معبود بحق في الوجود إلا هو ، الرحمن الرحيم بخلقه ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، وكيف لا ؟ وهو الذي خلق السموات وما فيها من عوالم وأفلاك كل يجرى إلى أجل مسمى في مداره ، ومع هذا نظمت تنظيما دقيقا بقدرته وعظمته : وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ... [سورة يس الآيتان 37 و38].
وهناك الأرض وما بها من عوالم الحيوان والنبات والمعادن والأنهار تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز الحكيم ، أفلا يدل هذا على صانع منفرد بالوحدانية ؟ إذ لو كان له شركاء لاختلّ النظام وتبدل الحال ولاستحالت الحياة ، أما دلالة هذه العوالم على رحمته فأمر ظاهر بيّن.
واختلاف الليل والنهار وطولهما وقصرهما وحرارتهما وبرودتهما واختلاف الفصول بسبب خطوط العرض والطول كل ذلك يدل على الواحد الرحمن الرحيم.
وهذه السفن الشراعية والبخارية التي تجرى على الماء وقد ذلل لها ، لا بد لفهم كون الفلك دليلا على الوحدانية من فهم طبيعة الماء وطبيعة قانون الثقل في الأجسام ، وطبيعة الهواء والبخار والكهرباء ، كل ذلك يجرى بسنن إلهية مطردة تدل على أنها صادرة من قوة واحدة هي قوة الإله الواحد الرحمن الرحيم.(1/93)
ج 1 ، ص : 94
والمطر وما أدراك ؟ ؟ !! الذي يحيى الأرض بعد موتها ، وانظر كيف يخرج من البحار والأنهار بخارا يتكاثف ويتجمع فيكون سحبا تثقل شيئا فشيئا ثم تسيرها الرياح حيث يشاء اللّه ، ثم يسقط مطرا ، أفلا يدل هذا على الواحد الأحد الفرد الصمد الرحمن الرحيم ؟ !! ومن آثار الماء النازل من السماء مطرا أن نشر في الأرض كل دابة : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء آية 21].
وانظر إلى قدرة اللّه ووحدانيته التي تفردت بتصريف الرياح وتدبيرها وتوجيهها على حسب الإرادة ، فمرة من الشمال وأخرى من الجنوب وتارة حارة وأخرى باردة ، فسبحان اللّه الواحد الرحمن الرحيم لا إله إلا هو!! وانظر إلى السحاب المذلل بين السماء والأرض كيف تكوّن وتجمّع ؟ ثم تفرق بنزوله مطرا وتبدّد في الجهات التي أرادها له خالقه.
من الذي خلق هذا وأودع السر في هذه كلها ؟ ؟ إن في ذلك لآيات دالات على الوحدانية والرحمة بالعباد ، ولكنها آيات لقوم يعقلون.
ثم يذكر اللّه - تعالى - حال المشركين به في الدنيا وعاقبتهم في الآخرة ، حيث جعلوا للّه أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه! وهو اللّه لا إله إلا هو ، لا ندّ له ، ولا شريك معه ، والذين آمنوا باللّه ورسله أكثر حبا للّه منهم ، فتمام معرفتهم وحبهم وتعظيمهم له - سبحانه - أنهم لا يشركون به شيئا ، بل يعبدونه وحده ويلجئون إليه في جميع أمورهم : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أما غيرهم فإذا ركبوا في الفلك دعوا اللّه - سبحانه - مخلصين ، وإذا ما نزلوا على الأرض اتجهوا إلى آلهتهم وقالوا :
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى ، فهم في الشدة مع اللّه وفي الرخاء يسوون به غيره ، فإذن هم يحبون آلهتهم كحب اللّه ، والذين آمنوا لا يحبون إلا هو ، فهم أشد حبا للّه.
ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذهم الأنداد وإشراكهم باللّه وقت صب العذاب عليهم صبا لعلموا حينئذ أن القوة للّه وحده ، وله الحكم لا شريك له. وأن الكل تحت قدرته ومن بينها الأصنام والأنداد ، ورأوا أن اللّه شديد العذاب فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ [الفجر : 25 و26] لو علموا هذا لانتهوا عما هم فيه.(1/94)
ج 1 ، ص : 95
ولو يرى الذين ظلموا وقت أن يتبرأ المتبوعون كالملائكة والجن من الذين اتبعوا وعبدوا غير اللّه فيتبرأ كل معبود ممن عبده ، والحال أنهم رأوا العذاب ، وتقطعت بهم الصلات والأنساب بل وقال الذين اتبعوا : نتمنى أن تكون لنا رجعة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا وتركونا في الشدة ، مثل ذلك رأوه رأى العين من العذاب يريهم اللّه جزاء أعمالهم حسرات عليهم وندامات وما هم بخارجين من النار أبدا!!
العلاج الناجع [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 173]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)(1/95)
ج 1 ، ص : 96
المفردات :
طَيِّباً : طاهرا من كل شبهة. خُطُواتِ الشَّيْطانِ يقال : اتبع خطواته :
إذا استن سنته وسار على طريقته. بِالسُّوءِ : السيّئ القبيح. الْفَحْشاءِ ما تجاوز الحد في القبح مما ينكره العقل ويستقبحه الشرع. ما أَلْفَيْنا : ما وجدنا.
يَنْعِقُ : يصوت على غنمه ويدعوها. الْمَيْتَةَ : ما ماتت من غير ذبح شرعي سواء أكانت موقوذة أو متردية أو نطيحة أكلها السبع. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ :
الإهلال : الصراخ ورفع الصوت ، والمراد : ما ذكر عليه اسم غير اسمه تعالى. غَيْرَ باغ ٍ
: غير طالب للمحرم ذاته ، وقيل : هو الخارج على المسلمين. وَلا عادٍ :
غير متجاوز قدر الضرورة ، وقيل : المعتدى على المسلمين بقطع الطريق.
المعنى :
بعد ما سجل عليهم اتخاذ الأنداد والشركاء وأن المتبوع يتبرأ من التابع يوم يرى العذاب ، ناداهم : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا أحله اللّه لكم طيبا لا شبهة فيه ولا إثم ولا يعلق به حق للغير مهما كان ، واصرفوا نظركم عن ذلك المال الذي يأتيكم عن طريق الدين وتأخذونه من الأتباع فهو حرام خبيث لا يحل أكله.
وفي هذا إشارة إلى أن أكثر رجال الدين من أهل الكتاب لم يؤمنوا خوفا على الدنيا وأعراضها الفانية : من الرياسة الكاذبة والمال الزائل الحقير وإلى أن ما للأكل من أثر في توجيه النفس واتباع الشيطان.
وإياكم والشيطان الذي يوسوس لكم ويزين الشر إنه لكم - كما كان لأبيكم آدم - عدو ظاهر العداوة فلا تتبعوه وخالفوه إنه لا يأمر بالخير أصلا ولا يأمر إلا بالقبيح وكل ما ينكره الشرع ويأباه الطبع السليم والعقل الراجح ، فها هي ذي أعمال الشيطان وأماراته فاحذروه ولا تتبعوه.
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محّضاك النصح فاتّهم
والشيطان يأمركم أن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون من أمور الدين.
ولكن حكم القرآن على المشركين وبعض اليهود أنه إذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل اللّه(1/96)
ج 1 ، ص : 97
على نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فهو خير لكم وأجدى قالوا : لا ، إنما نحن نتبع آباءنا وهم أعقل وأدرى بالدين. عجبا أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا من أمور الدين بل يتخبطون تخبط الأعمى ولا يهتدون إلى الصواب.
ومثل داعي الذين كفروا إلى الإسلام كمثل الذي يدعو سوائمه ، فكل من الكفار والبهائم لا يعي شيئا مما يسمع ، وإنما يشعر بجرس اللفظ ورنينه فقط ، لأن الكفار قد ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، فليس عندهم استعداد للخير أبدا. والبهائم لا عقل لها تعى به.
ما يؤخذ من الآية :
1 - لا يحل لمسلم أن يأخذ ما لا يتعلق به حق الغير أو يأخذه بغير وجه شرعي.
2 - يجب على المسلم أن يخالف الشيطان فإنه داع للشر والسوء والفحشاء.
3 - لا يصح للمسلم أن يقلد غيره تقليد الأعمى بل ينظر على قدر طاقته وقوته في أمور دينه.
ما تقدم من أول السورة يتعلق بالقرآن ومؤيديه ومعارضيه ومن هنا إلى أواخر الجزء الثاني في الأحكام الفرعية التي تعنى بتكوين الفرد المسلم والمجتمع الإسلامى.
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان ، كلوا مما رزقناكم أكلا طيبا ما دمتم غير معتدين على أحد ، فكل شيء حلال لكم ، واشكروا اللّه - سبحانه - خالق هذه النعم.
هذا هو نظام الإسلام ، قد جعلنا أمة وسطا تعنى بالجسم ، فنأكل ما نشاء حلالا طيبا بلا إسراف ولا تقتير لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما رزقناكم (الآية : 87 من سورة المائدة). وتعنى بالروح ، فنغذيها بالشكر للّه صاحب تلك النعم ، فقد أباح اللّه لكم ثمرات الأرض وطيباتها إلا ما حرم.
وما حرم عليكم إلا الميتة فإنه بقي فيها دمها وقد يكون ملوثا بالأمراض كما هو الغالب ، وحرم الدم المسفوح فإن النفوس الطيبة تأباه مع تلوثه بالجراثيم ، وكذلك لحم الخنزير فإنه حيوان قذر لا يأكل إلا من القاذورات والنجاسات ، والطب يؤيد خطره على الصحة ، وما ذكر عليه غير اسمه - تعالى - عند الذبح فإنهم يذبحون في الجاهلية(1/97)
ج 1 ، ص : 98
للأصنام ويقولون عند ذبحها : « باسم اللات والعزى » ، ثم يضاف إلى هذا ما حرم في سورة المائدة ، وكله محرم شرعا وذوقا وطبا لمصلحتنا ، إلا من اضطر إلى أكل شيء من ذلك بأن لم يجد ما يبقى به رمقه فله أن يأكل ولا إثم عليه ، بشرط ألا يكون طالبا المحرم لذاته ، ولا باغيا ، ولا متجاوزا الحد في سد جوعه فيأكل بقدر الضرورة فقط وبعض المفسرين على أنه يشترط فيه ألا يكون خارجا على المسلمين ، ولا قاطع طريق لأن هذه رخصة لا تعطى للمعتدين فإذا نظرنا إلى أنه قد يهلك بسبب حرمانه تجاوزنا عن ذلك ، واللّه غفور للزلة رحيم بعباده.
ما يستنبط من الآية :
كل ما في الأرض والبحر والجو من نبات وحيوان وسمك وطير حلال لنا إلا ما ذكر من المحرمات هنا وفي سورة المائدة وما نص عليه في كتب الفقه الإسلامى.
وللمضطر أن يأكل مما حرم قدر الضرورة.
موقف أهل الكتاب من القرآن والنبي [سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)(1/98)
ج 1 ، ص : 99
المفردات :
يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا : يبيعونه بثمن قليل. يُزَكِّيهِمْ : يطهرهم.
شِقاقٍ الشقاق : المخالفة.
هذا موقف آخر لأهل الكتاب وأحبارهم بالنسبة للقرآن والنبي ، وما قبله كان الكلام عليهم وعلى المشركين حيث حرموا بعض الحلال ، وابتدعوا في الدين رهبانية وتقشفا.
المعنى :
إن الذين يكتمون ما أنزل اللّه - الكتاب المنزل عليهم من وصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبيان زمانه وغير ذلك مما يشهد بصدق نبوته وكمال رسالته ، فعلوا هذا حرصا على رئاسة كاذبة وعرض زائل - تراهم باعوا الخير والهدى بثمن بخس قليل لا ينفع ، أولئك البعيدون في الضلال لا يأكلون في بطونهم إلّا ما هو موجب لدخول النار. ومن شدة غضب اللّه عليهم أنه لا يكلمهم يوم القيامة ، ولا يثنى عليهم بالخير كما يفعل مع أهل الجنة ، وللكافرين عذاب شديد مؤلم في الدنيا والآخرة.
ثم أشار إليهم مرة ثانية دليلا على تمكنهم في الضلال فقد استبدلوا الضلالة بالهدى واستحقوا العذاب بدل المغفرة ، فعجبا لهم وأى عجب لصبرهم على تعاطى موجبات دخول النار من غير مبالاة منهم!! ذلك العذاب الشديد الذي لحق بهم لأن اللّه نزل الكتاب بالحق ، وأن الذين اختلفوا في كتب اللّه فقالوا : بعضهم حق وبعضهم باطل لفي خلاف بعيد عن الحق.(1/99)
ج 1 ، ص : 100
حقيقة البر [سورة البقرة (2) : آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
المفردات :
الْبِرَّ : اسم جامع للخير ولكل فعل مرض. الْيَتامى اليتيم : من لا والد له وهو محتاج. الْمَساكِينَ : صنف من الفقراء المحتاجين الذين سكنت نفوسهم للرضا بالقليل ، فالمسكين له مال لا يكفيه ، وأما الفقير فلا مال له فيعطى من باب أولى. ابْنَ السَّبِيلِ : ابن الطريق ، وهو المسافر المحتاج. وَفِي الرِّقابِ :
أنفق المال في فك الرقاب من قيد الرق. الْبَأْساءِ من البؤس : وهو شدة الفقر.
الضَّرَّاءِ : ما يضر الإنسان من مرض أو فقد محبوب. حِينَ الْبَأْسِ : وقت شدة القتال.
المعنى :
كثر الكلام والجدال حول تحويل القبلة من أهل الأديان ، حتى شغل المسلمون بها ، وغلا كل فريق في التمسك بقبلته ، فأراد اللّه - سبحانه وتعالى - أن يبين للناس كافة أن(1/100)
ج 1 ، ص : 101
مجرد تولية الوجه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود ، وإنما البر شيء آخر ليس في تولية الوجه جهة المشرق والمغرب ، إنما هو إيمان باللّه ورسوله إيمانا قلبيا صادقا كاملا مقرونا بالعمل ، إيمان تطمئن به القلوب وتهدأ به النفوس ، إيمان يحول بين النفس ودواعي الشر ومزالق الشيطان ، فإذا وقع في المحرم سارع إلى التوبة الصادقة.
فالبر : الإيمان الكامل باللّه واليوم الآخر على أنه محل للجزاء والثواب ، فيكون هذا أدعى للقرب من الرحمن والبعد عن الشيطان ، والإيمان بالملائكة على أنهم خلق من خلق اللّه سفراء بينه وبين رسله حملة الوحى وسدنة العرش ، دأبهم الطاعة ، لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
والإيمان بالكتاب المنزل سواء كان زبورا أو توراة أو إنجيلا أو قرآنا يؤمن بما فيه كله لا يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض كما يفعل أهل الكتاب.
والإيمان بالنبيين جميعا لا فرق بين نبي ونبي.
هذا أساس الاعتقاد الصحيح والإيمان الكامل ، ثم لا بد معه من عمل يهذب النفس ويقوى الروح ويربط المجتمع برباط الألفة والمحبة والاتحاد والتعاون ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى الأمور العملية فيما يأتى :
إيتاء المال المستحق مع حبه له كما قال ابن مسعود : « أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ، وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت : لفلان كذا » نعم إيتاء المال مع حبه ذوى قرباه عصبا أو رحما لأنهم أحق من غيرهم ما داموا محتاجين : « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول » وآتى اليتامى الذين فقدوا آباءهم ولا عائل لهم إلا اللّه ، وآتى المساكين ، والفقراء من باب أولى ، وأعطى ابن السبيل الذي انقطع به الطريق حتى كأنه لا أب له ولا أم إلا الطريق ، وآتى السائلين الذين يسألون بدون إلحاف مع الحاجة إلى المال : يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أما من يتخذ السؤال حرفة ويجمع بسببه المال فلا يعطى ، بل إن كان صغيرا أو قادرا على العمل ذكرا كان أو أنثى كان على الحكومة أن توجد له عملا ، وبدل أن تعطيه قرشا ويظل فقيرا ساعده على إيجاد عمل له.
ومن البر العملي إنفاق المال في الرقاب الأسيرة بالرق أو الأسيرة بالحرب بأن يعين(1/101)
ج 1 ، ص : 102
من يريد الخلاص : بماله أو جاهه ، فالدين شغوف جدّا بالحرية الكاملة لكل فرد ، ولكل أمة.
ومنه إقامة الصلاة كاملة مقومة تامة الأركان والشروط مع الاستحضار القلبي الذي يبدأ بقولك : اللّه أكبر ، وينتهى بالسلام.
ومنه البر والوفاء بالعهد فإنه من آيات الإيمان ، وضده من آيات النفاق كما ورد :
« آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » .
ونهاية الصفات وأعلى درجات البر والإيمان : الصبر : في البأساء والضراء وحين البأس ، فالصبر نصف الإيمان ، بل الدليل على الإيمان الكامل أن يصبر الإنسان ويحتسب أجره عند اللّه في الفقر وشدته ، والضر وإصابته ، وحين القتال وقوته ، ولا شك أن هذه هي المواقف التي يظهر فيها الإيمان الكامل.
أولئك الموصوفون بما ذكرهم الصادقون في الإيمان ، وأولئك البعيدون في درجة الكمال ، هم المتقون عذاب اللّه الفائزون بثوابه.
حق اللّه في المال
اللّه - سبحانه وتعالى - جمع في هذه الآية صورتين للإنفاق : صورة فيها إعطاء لمال محددا معينا على كيفية مخصوصة ، وهو ما يعبر عنه بالزكاة المقيدة وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ.
وصورة أخرى وهي إعطاء المال من غير تقييد ولا تحديد بل ترك تقييده وتحديده لحال الأمة ، وهو ما عبر عنه : آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ويسمى بالزكاة المطلقة ، وفي هذا إشارة إلى أن المال يتعلق به حق معلوم ، وآخر يترك للظروف وما تستدعيه الحال.
أليس هذا علاجا للأزمات النفسية التي بين الفقراء والأغنياء ، أليس هو الدواء الناجع لبطر الأغنياء وشحهم بالمال ؟ أليس معناه أن هناك حقا في يد الحاكم يفرضه على الأغنياء للفقراء حتى تهدأ نفوسهم وتسكن ؟ أليس الدين بهذا قد حل المشكلة من ثلاثة عشر قرنا : المشكلة بين الرأسمالية والشيوعية!!(1/102)
ج 1 ، ص : 103
ألا يا قوم واللّه لا خير إلا في هذا الدين فإنه دواء من حكيم عليم ، في الرأسمالية عيوب لا تحصى ، وفي الشيوعية عيوب لا تحصى ، ولكن الحال الوسط والرأي المعتدل في الجمع بين الناحيتين بلا إفراط ولا تفريط كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران آية 110].
القصاص وأثره [سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
المفردات :
الْقِصاصُ والقود : هو أن يفعل بالجانى مثل ما يفعل بالمجني عليه. فِي الْقَتْلى : بسبب القتلى. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ : فمن عفى له من أخيه وهو ولى الدم شيء من العفو. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ : فليكن اتباع للجاني بالمعروف من غير شطط. وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ : وتأدية من جهة الجاني إلى المجنى عليه من غير تعب ولا مماطلة.
سبب النزول :
كان بين حيين من العرب نزاع وقتال ، وكان أحدهما يتطاول على الآخر فحلف ليقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، واحتكموا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت الآية.(1/103)
ج 1 ، ص : 104
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم القصاص بسبب القتلى ، يقتص من القاتل بمثل ما فعل مع ملاحظة الأوصاف ، فيقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى وقد بينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى ، أما الحر بالعبد ففيه خلاف : فالشافعي ومالك أن الحر لا يقتل بالعبد أخذا بهذه الآية. ويقولون : إنها مفسرة لما أبهم في آية المائدة : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ « 1 » وعند أبي حنيفة هذه الآية منسوخة بآية المائدة ، القصاص ثابت بين العبد والحر والذكر والأنثى بدليل
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « المسلمون تتكافأ دماؤهم » « 2 »
والجماعة تقتل بالواحد باتفاق « 3 » .
ويشترط في القصاص التوافق في الدين فلا يقتل المسلم بالكافر ، وهذا الحكم عند ما يحتكمون إلى القاضي ، وإلا فلوليّ الدم أن يعفو عن القصاص ويأخذ الدية أو يعفو عنهما معا ، بل إذا عفا الولي عن بعض الدم للقاتل ، أو عفا بعض الورثة عن القصاص سقط ووجبت الدية ، وعندئذ يطالب بها بالمعروف من غير شدة ولا عنف ، وعلى القاتل الأداء بالمعروف من غير مماطلة ولا تسويف.
وجواز القصاص والدية والعفو عن كليهما تخفيف من اللّه لنا ورحمة بنا ، فمن اعتدى بعد ذلك بأن يطالب بالقصاص والدية. أو إذا طولب القاتل بالدية ماطل واعتدى. فلمن فعل هذا نوع من العذاب مؤلم غاية الألم.
ولكم في القصاص حياة عظيمة للجماعة ، تشيع فيها الطمأنينة والهدوء والسكينة فكل شخص يعرف أنه إذا قتل غيره قتل فيه امتنع عن القتل ، فيحيا القاتل والمقتول وهذا القصاص يمنع انتشار الفوضى والظلم في القتل ، وهو سبب في منع الجرائم والحزازات ، وحدّ للشر وسلّ للسخيمة.
وهذه العبارة أبلغ من قول العربي : (القتل أنفى للقتل) وأدل على المقصود وأظهر في الموضوع ، وكل قصاص فيه حياة سامية ، والقتل إذا كان فيه عدل كان أنفى للقتل ، وإن كان فيه ظلم يكون أدعى للقتل.
___________
(1) سورة المائدة آية 45.
(2) أخرجه الترمذي وغيره كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث رقم 2122 وقال حسن صحيح.
(3) أخرجه البخاري كتاب الوصايا باب الوصايا ص 2738.(1/104)
ج 1 ، ص : 105
الوصية [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
المفردات :
الْوَصِيَّةُ : أن يوصى من أوشك على الموت ببعض ماله لأقاربه. بَدَّلَهُ :
غيّره. جَنَفاً : ميلا عن الحق والعدل. خَيْراً : المراد : المال الكثير كما فسرته السيدة عائشة.
المعنى :
فرض اللّه عليكم فيما فرض : إذا أشرف أحدكم على الموت ، وقد ترك مالا كثيرا أن يوصى للوالدين والأقارب وصية عادلة ، فلا يزيد على ثلث ماله.
ولا يفضل غنيا لغناه ، ويعدل في الوصية فلا يميز أصلا إلا لضرورة كعجز عن الكسب أو اشتغال بالعلم ، إذ عدم العدل يسبب البغضاء والنزاع بين الورثة ، فمن غيّر الوصية بعد ما سمعها وشهد عليها فإنما ذنب هذا التغيير عليه ، واللّه سميع لكل قول عليم بكل فعل ، فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه ، فمن علم من موص ميلا عن الحق خطأ أو عمدا. فله أن يصلح بين الموصى والموصى له أو بين الورثة والموصى لهم بأن يجعل الوصية شرعية عادلة لا ظلم فيها ، ولا ذنب عليه في ذلك واللّه غفور رحيم.(1/105)
ج 1 ، ص : 106
ملاحظة :
هذه الآية منسوخة بآية المواريث و
بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث »
بقي الأقارب غير الوارثين يستحب أن يوصى لهم من الثلث استئناسا بهذه الآية ولشمولها وتوكيدها ، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه » .
الصيام وفرضه [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 185]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)(1/106)
ج 1 ، ص : 107
المفردات :
الصِّيامُ في اللغة : الإمساك ، وفي عرف الشرع : إمساك عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس احتسابا لوجه اللّه. يُطِيقُونَهُ لا يقال : هو يطيق حمل نواة أو ريشة وإنما هو يطيق حمل قنطارين من الحديد مثلا إذا كان يحملها بمشقة وشدة ، فالذين يطيقون الصوم هم الذين يتحملونه بمشقة وجهد ، ويؤيد هذا قراءة يطوقونه ، وذلك كالكبير المسن والحامل والمرضع والعامل في العمل الشاق الشديد وهو مضطر إليه. لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ : لتعظموه وتشكروه.
المعنى :
الصيام رياضة روحية ، وعمل سلبي للنفس ، وتهيئة للتقوى بالمراقبة في السر والعلن ، وتربية للإرادة ، وتعويد للصبر وتحمل المشاق ، ولذا قيل : الصوم نصف الصبر ، وهو شاق على النفس حقيقة ، شديد عليها أن تحرم مما في يدها ، ولذا نرى القرآن الكريم يتلطف في الأمر منه.
إذ ناداهم بوصف الإيمان المقتضى للامتثال والمسارعة فيه ، ثم قال : إنه فرض عليكم كما فرض على الذين من قبلكم من الأمم ، فاقبلوه كما قبله غيركم ، ثم هو مطهرة للنفس ومرضاة للرب فرضه عليكم لعلكم به تتقون اللّه ، وهو أيام معدودات قلائل في العام شهر واحد :
« لو علمت أمتى ما في رمضان من الخير لتمنت أن يكون السنة كلها » « 1 » .
وليس واجبا إلا على القادر والمستطيع الصحيح ، وأما المسافر والمريض فلا حرج عليهما في الفطر لأن المرض والسفر مشقة والمشقة تجلب التيسير ، وعليهما القضاء ، ولم يحدد القرآن السفر ولا المرض لأن هذا يختلف باختلاف الأحوال ، ولو علم اللّه خيرا في التحديد لحدد ، ولكنه متروك لضميره ودينه.
وقيل : السفر الذي يصح فيه الفطر وقصر الصلاة قدر بحوالى ثمانين كيلو مترا.
ومن يتحمل الصوم بمشقة شديدة كالشيخ المسن والمريض مرضا مزمنا لهما الفطر وعليهما الفدية ، وهي طعام المسكين يوما من القوت الغالب الشائع في البلد ، والحامل
___________
(1) أخرجه أبو يعلى والطبراني وغيرهما مجمع الزوائد 3/ 141.(1/107)
ج 1 ، ص : 108
والمرضع إن خافتا على أولادهما فقط لهما الفطر ، وعليهما القضاء والفدية ، وإن خافتا على أنفسهما ولو مع أولادهما لهما الفطر ، وعليهما الفدية أو القضاء.
فمن تطوع وأطعم أكثر من مسكين لليوم الواحد فهو خير له وأحسن.
وصيامكم أيها المتحملون للصوم بمشقة خير لكم إن كنتم تعلمون أن الصوم خير وأجدى.
ثم أراد القرآن أن يحببنا في الصوم أكثر فقال : هذه الأيام القليلة هي شهر رمضان ، وهو شهر مبارك ميمون ، فيه ابتدأ اللّه نزول القرآن الذي هو هدى للناس وآيات بينات واضحات لا غموض فيها من جملة ما هدى اللّه به وفرق بين الحق والباطل.
وبعضهم فسر نزول القرآن في شهر رمضان ، وأنه أنزل في ليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر. بأن القرآن نزل إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وليلة القدر في شهر رمضان.
أما وقد ظهر أن الصوم نعمة من اللّه وتكليف لمصلحة العباد ، فمن حضر منكم الشهر وهو سليم معافى لا عذر له من سفر أو مرض فالواجب عليه الصيام ، إذ هو ركن من أركان الدين ، ثم أعاد اللّه الرخصة في الإفطار مرة ثانية خوفا من أن يفهم الناس بعد هذا الواجب الصريح : فَلْيَصُمْهُ أنه لا يجوز الفطر لعذر وخاصة بعد هذه المرغبات الكثيرة.
شرع لكم الرخصة في جواز الإفطار مع العذر الشرعي لأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، وأمركم بالقضاء والفدية لأنه يريد أن تكملوا عدة هذا الشهر ، وإنما أباح الفطر مع الفدية أو القضاء ، وعلمنا كيف نخرج من الحرج مع الوفاء ، لنكبر اللّه ونعظمه ونشكره على تلك النعم ، وفقنا اللّه للخير.(1/108)
ج 1 ، ص : 109
بعض أحكام تتصل بالصيام [سورة البقرة (2) : الآيات 186 الى 187]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
المفردات :
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي : فليلبّوا دعوتي إياهم للإيمان. يَرْشُدُونَ : يهتدون.
الرَّفَثُ : الفحش من الكلام ، أو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، أطلق على الجماع لأنه لا يخلو منه غالبا. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ : الزوجان كل منهما لباس للآخر لأنه يستر صاحبه كما يستر اللباس ويمنعه من الفجور. تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ :
تخونونها.(1/109)
ج 1 ، ص : 110
المعنى :
1 -
روى أن أعرابيا سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أبعيد ربنا فنناديه أم قريب فنناجيه ؟ فنزلت الآية.
ولا تنس الحكمة في وضعها بعد آيات الصوم ..
سبب النزول :
وإذا سألك يا محمد عبادي عنى فإنى قريب منهم أعلم أعمالهم ، وأرقب أحوالهم وهو تمثيل لحالة القرب : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أجيب دعوة من دعاني مخلصا لي قد شفع دعاءه بالعمل الخالص لوجه اللّه.
وإذا كان الأمر كذلك فليلبوا دعوتي لهم بالإيمان بي ، أجيب دعوتهم وأجازيهم على ذلك أحسن الجزاء لعلهم بهذا يهتدون إلى الخير النافع لهم.
2 -
روى أنهم كانوا في بدء الإسلام إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء أو يرقدوا ، فإذا صلوها أو رقدوا حرم عليهم كل هذا ، ثم إن عمر - رضى اللّه عنه - باشر زوجته بعد العشاء ، وندم بعد ذلك ندما كثيرا ، وأخبر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بما حصل واعترف بالذنب ، فنزلت الآية : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ.
أحل اللّه لكم في الليلة التي تصبحون فيها صائمين مباشرة نسائكم والاجتماع بهن ، وقد سمى القرآن الجماع رفثا وخيانة لقبح ما حصل منهم قبل نزول الآية.
والحكمة في الترخيص بهذا أن النساء مخالطون للرجال مخالطة الثوب للجسد بل أشد ، كل يستر صاحبه ويقيه من السوء ، وقد علم اللّه أن صبركم عنهن مع أنهن كاللباس أمر عسير وشاق ، وقد كنتم تخونون أنفسكم بمباشرتهن فتاب عليكم وعفا عنكم ، فالآن جامعوهن ليلا ، وكلوا واشربوا حتى يظهر لكم نور الفجر المعترض في الجو مع ظلام الليل فهو أشبه بالخيط الأبيض مع الخيط الأسود ، ثم أتموا الصيام إلى دخول الليل.
ولا تباشروا نساءكم بالجماع أو اللمس مع الشهوة وأنتم معتكفون في المساجد فإن ذلك يبطل الاعتكاف ، إذ في الاعتكاف لا فرق بين الليل والنهار.
تلك حدود اللّه ومحارمه التي تشبه الحدود الفاصلة فلا تقربوها فضلا عن تخطيها وانتهاك حرمتها.(1/110)
ج 1 ، ص : 111
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « ألا وإن لكل ملك حمى ، وحمى اللّه محارمه ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه » « 1 » .
مثل ذلك البيان الفاصل يبين اللّه آياته للناس لعلهم بهذا يهتدون إلى طريق الخير والرشاد.
الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل [سورة البقرة (2) : آية 188]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
المفردات :
تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ : تلقوا بها إليهم. بِالْإِثْمِ : شهادة الزور واليمين الفاجرة أو ما هو أعم من ذلك.
المعنى :
نهانا اللّه أن نأكل أموال بعضنا بالباطل وبدون وجه حق ، ونهانا أن نلقى بالأموال إلى الحكام مستعينين في ذلك بالدفاع الباطل ، والرشوة التي تعطى لبعض أصحاب النفوس القذرة الحقيرة من الحكام ليصل صاحبها إلى غرضه.
ولا شك أن كثرة التقاضي بالباطل وشيوع الرشوة في الأمة مقبرة لها بل خطرها على الأمة أشد من اليهود.
وكيف يجوز لمسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالإثم والزور والبهتان والرشوة وهو يعلم أنه حرام ولا يأكل في بطنه إلا النار.
واعتبروا أيها الحكام والقضاة والمتخاصمون
بقول الرسول الأمين للمتخاصمين :
___________
(1) أخرجه البخاري كتاب الايمان باب فضل من استبرأ لدينه رقم 52.(1/111)
ج 1 ، ص : 112
« إنما أنا بشر مثلكم ، وأنتم تختصمون الىّ ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من الآخر فأقضى له على نحو ما سمعت فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا فإنما أقضى له قطعة من نار » »
فبكى المتخاصمان وقال كل واحد منهما : حقّى لصاحبي.
اختلاف أشكال القمر [سورة البقرة (2) : آية 189]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
المفردات :
الْأَهِلَّةِ : جمع هلال ، وهو القمر في بعض حالاته. مَواقِيتُ جمع ميقات ، والوقت : هو الزمن المضروب لأمر من الأمور ، كوقت الصلاة والصيام مثلا ،
روى أنهم سألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن العلة في أن القمر يبدو دقيقا كالخيط ثم لا يزال يكبر حتى يصير بدرا ثم يصغر حتى ينمحى
، وهذا سؤال وجه من بعض الصحابة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو لا يليق لأن النبي لم يبعث معلما للرياضة والعلوم الكونية التي منها أسباب أطوار الهلال ، على أن الطاقة العقلية التي كانت موجودة حينئذ تعتبر الكلام في مثل هذا الموضوع ضربا من الجنون ، ولذلك أجيب السائل بما يصح أن يسأل عنه في هذا الموضوع تنبيها له وإرشادا. وليس معنى هذا أن الدين لا يحب البحث ولا العلم ، فاللّه يقول : قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (101 سورة يونس). إلى غير ذلك من الآيات التي توجب النظر والفكر والتعليم. وإنما القرآن له مهمة جاء لها وهي تكوين الفرد المسلم ذاته وتكوين مشاعره وسلوكه وروابطه وبناء شخصيته وضميره ووجوده
___________
(1) أخرجه البخاري وغيره كتاب الأحكام باب عن قضى له بحصر أخيه رقم 7181.(1/112)
ج 1 ، ص : 113
على أسس إسلامية سليمة ، وتكوين المجتمع الإسلامى على دعائم قويمة ، ومتى وجدا طالب المسلم بالنظر والعلم والبحث الدقيق ، إذا فليس من مهمة القرآن الكلام في المسائل العلمية وإن أتى بنظريات علمية فهي عارضة ولا تتعارض مع العلم في شيء.
فمن سأل هذا السؤال كمن يأتى البيوت من ظهورها ولذا كان الجواب على طريقة الأسلوب الحكيم : قل لهم يا محمد : إنها معالم يؤقت بها الناس أعمالهم وتجارتهم ومزارعهم وعبادتهم من صوم وحج وعدة ... إلخ.
والتوقيت بالسنة القمرية سهل في الحساب ومناسب للعرب ، وقد كان أناس من الأنصار إذا أحرموا بالحج لم يدخلوا الدور من الباب فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته وإن كان من أهل الوبر دخل من خلف الخباء ، فقيل لهم : ليس البر هذا ، ولكن البر من اتقى اللّه وخاف عقابه ، ثم أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها ويتقوا اللّه في كل شيء رجاء أن يكونوا من المفلحين.(1/113)
ج 1 ، ص : 114
القتال في سبيل اللّه [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
المفردات :
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ القتال في سبيل اللّه : هو القتال لإعلاء كلمة اللّه ونصرة دينه. ثَقِفْتُمُوهُمْ : وجدتموهم ، وثقفه : أخذه وظفر به. الْفِتْنَةُ : مصدر [فتن الصائغ الذهب والفضة] : إذا أذابهما بالنار ليستخرج الصالح ، ثم استعملت الفتنة في كل اختبار ، وأشده الفتنة في الدين ، والمراد بها : إيذاء الكفار للمسلمين في الحرم وتعذيبهم وإخراجهم من الوطن. التَّهْلُكَةِ : الهلاك.(1/114)
ج 1 ، ص : 115
سبب النزول :
نزلت الآية في صلح الحديبية ، لما صد المشركون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن البيت الحرام ، وصالحوه على أن يرجع في عامه القابل ، ويخلوا مكة له ثلاثة أيام للنسك والطواف.
فلما كان العام القابل تجهز النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا ألا تفي لهم قريش وأن تصدهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم كما فعلوا في العام السابق ، وكره الصحابة قتالهم في الحرم والأشهر الحرم فأنزل اللّه هذه الآية.
المعنى :
أيها المؤمنون : قاتلوا في سبيل اللّه فإنى أذنت لكم في قتال المشركين : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [سورة الحج الآية 39]. فإنهم فتنوكم عن دينكم وأخرجوكم من دياركم ، وقاتلوكم ونكثوا عهودهم ، وقاتلوهم على أنه دفاع في سبيل اللّه للتمكن من عبادته في بيته ، ولتربية هؤلاء المفتونين والمغرورين ، ولا تعتدوا بالقتال فتبدأوهم ، ولا تعتدوا في القتال بأن تقتلوا الصغار والعجزة والشيوخ أو من ألقى إليكم السلاح ، إن اللّه لا يحب الخير للمعتدين فكيف بمن يعتدى في الحرم والأشهر الحرم ؟
اقتلوهم إذا نشب القتال بينكم أينما أدركتموهم على أى حال كما سيأتى في الآية قريبا ، وأخرجوهم من مكة حيث أخرجوكم ، وظاهروا على إخراجكم ، أليست فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب ومصادرة الأموال والإخراج من الوطن أشد قبحا من القتال في الحرم ؟ ! إذ لا بلاء أشد على نفس الحر من الإيذاء والاضطهاد لأجل عقيدة تمكنت في قلبه ، واستحوذت على عقله ورأى السعادة في الدنيا والآخرة موقوفة عليها ، وحقا : الفتنة أشد من القتل.
ثم استثنى القرآن الكريم من وجوب قتال هؤلاء المحاربين في كل زمان ومكان قتالهم في المسجد الحرام لأن من دخله كان آمنا ، فإن قاتلوكم فقاتلوهم ، ولا تستسلموا لهم أبدا فالشر بالشر والبادي أظلم ، وكذلك جزاء الكافرين.
فإن انتهوا عن القتال وكفوا عنه ، أو دخلوا في دين اللّه ، فإن اللّه غفور لهم ، رحيم يمحو من العبد ما سلف إذا هو تاب وأناب.(1/115)
ج 1 ، ص : 116 فاقتلوهم إذا هم بدءوكم واعتدوا عليكم ، واستمروا في قتالهم حتى لا تكون لهم قوة أصلا تمكنهم من أن يفتنوكم عن دينكم أو يفتنوا غيركم ، واستمروا في قتالهم حتى يكون الدين خالصا للّه لا دخل للشيطان فيه ، وحتى يأمن المسلم في الحرم فيظهر دينه فيكون الدين للّه فقط.
وقد كان الكفار بمكة في أمن وطمأنينة يقيمون الباطل ويعبدون الأصنام ، والمسلمون مطرودون منها ومن بقي فهو خائف لا يظهر دينه ولا يجاهر به.
فإن انتهوا بعد هذا فلا اعتداء منكم إلا على من ظلم تأديبا لهم وإصلاحا. وذلك بإقامة الشرع وأحكامه فيهم.
ولقد وضح اللّه الحكمة في أمر المسلمين بالقتال في الأشهر الحرم بهذه الآية ، وذلك أن المشركين قاتلوهم في ذي القعدة عام الحديبية ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهيتهم القتال في الأشهر الحرم : الشهر الحرام بالشهر الحرام ، وهتكه بهتكه ، والقتال فيه كالقتال في السابق ، والحرمات التي يجب المحافظة عليها واجب فيها القصاص والأخذ بالمثل ، فالممنوع الحرب الهجومية والبدء بالقتال ، أما الدفاع والأخذ بالثأر فليس ممنوعا.
فمن اعتدى عليكم بحرب أو غيره فجازوه بمثله ، واعتدوا عليه اعتداء مماثلا ، واتقوا اللّه ولا تظلموا ، ولا تعتدوا ، واعلموا أن اللّه مع المتقين بالمثوبة والتأييد والنصر : إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا (سورة الحج : 38).
والقتال في سبيل اللّه يتوقف - كغيره - على المال ، ولذلك أمرهم اللّه بالإنفاق في سبيله إذ الإنفاق في الحروب وسيلة النصر وطريق الفوز ، واحذروا عدم الإنفاق فإنه مهلكة للأمة مضيعة للجماعة ، ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك بالإمساك وعدم الإنفاق ، وكذلك الدخول في الحرب بغير بصيرة ولا استعداد ، بل أنفقوا المال وأعدوا الرجال ، وحصنوا أنفسكم بالعلم والخلق ، وأبعدوا ضعفاء النفوس الذين يقبلون الرشوة ويبيعون الأمة والجيش لقاء مال زائل وعرض فان ، فهؤلاء أشد خطرا من العدو ، وأحسنوا كل شيء يتعلق بالحرب ، واعلموا أن اللّه يحب المحسنين ويجازيهم أحسن الجزاء.(1/116)
ج 1 ، ص : 117
يؤخذ من الآيات السابقة :
(أ) أن القتال في سبيل اللّه كان لرد العدوان وحماية الدعوة وحرية الدين.
(ب) شرع القتال الدفاعى لا الهجومى مع عدم الاعتداء على غير المقاتلين.
(ج) وظاهر الآيات السابقة وغيرها في القرآن أن القتال لم يكن لإكراه الناس على الدخول في الدين : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (من سورة يونس 99).
الحج وبعض أحكامه [سورة البقرة (2) : الآيات 196 الى 197]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)(1/117)
ج 1 ، ص : 118
المفردات :
رَفَثَ : المراد به الجماع. فُسُوقَ الفسوق : العصيان والخروج عن طاعة اللّه. جِدالَ : مجادلة ومماطلة وخصام.
المعنى :
الحج هو المؤتمر الإسلامى العام الذي يعقد كلّ عام في مكة المكرمة محط أنظار المسلمين وقبلتهم ، يعقد في أشهر معلومة ، ويأتى إليه الناس من كل فج عميق رجالا وركبانا متجردين عن الدنيا ومظاهرها ، حتى لا يعرف أمير من حقير ، فيتذكر الناس الآخرة وموقف الحشر فيها ، وهو بحق من مفاخر الإسلام وقد فرص سنة ست من الهجرة.
وفي هذه الآيات بعض أحكام نسردها والباقي في كتب الفقه والسنة ، وقد أمرنا اللّه بإتمام الحج والعمرة كاملين بشروطهما وآدابهما متغلبين على العقبات التي تصادفنا ، قاصدين عملنا هذا رضا اللّه ورسوله لا للرياء ولا لأغراض الدنيا ، وأما أصل الوجوب ففي قوله - تعالى - في سورة آل عمران : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وهنا بعض أحكامه المأخوذة من الآيات :
1 - لو منع الحاج من إتمام الحج والعمرة فواجب عليه إذا أراد التحلل ما تيسر من الهدى بأن يذبح ناقة أو بقرة أو شاة سليمة ، فإن لم يجد ما يذبح قوّم الحيوان واشترى بقيمته طعاما وتصدق به ، فإن لم يجد صام عن كل مدّ من الطعام يوما.
2 - الدخول في الحج أو العمرة يكون بالإحرام ولبس غير المخيط ، والخروج منهما وما يعبر عنه بالإحلال يكون بحلق الرأس أو التقصير ، فقوله - تعالى - :
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ خطاب للمحصرين الذين يريدون التحلل فنهوا عنه قبل بلوغ الهدى مكان ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعى.(1/118)
ج 1 ، ص : 119
3 - لا يصح في الحج الحلق أو التقصير وقتل الهوام ، فإذا كان الحاج مريضا ينفعه الحلق ، أو به أذى من رأسه من قمل وغيره فله أن يحلق ، وعليه فدية صيام ثلاثة أيام أو صدقة هي إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة ، وهذه الفدية تجب كذلك في تقليم الأظافر والقبلة والطيب والدهن ... إلخ ، ما هو مفصل في كتب الفقه.
4 - فإذا أمنتم العدو والحصار فمن تمتع بسبب فراغه من أعمال العمرة يعنى أنه أتمها وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحرم من مكة فعليه ما تيسر من الهدى لأنه أحرم بالحج من غير الميقات ، فيذبح الهدى ، وأقله شاة سليمة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله بالفعل ، ويصح الصوم إذا شرع في الرجوع ، تلك عشرة كاملة.
ذلك التمتع بإنهاء أعمال العمرة ثم الإحرام بالحج تخفيف ورخصة للذين حضروا من الآفاق البعيدة دون أهل الحرم لأن الغريب يتحمل المشاق في السفر إلى الحج وحده ، ثم السفر إلى العمرة وحدها ، واتقوا اللّه بالمحافظة على أمره ، واعلموا أن اللّه شديد العقاب ، ولك في أداء الحج والعمرة ثلاث صور.
(أ) التمتع : أن يحرم بالحج من مكة.
(ب) الإفراد : أن يحرم بالحج وحده ثم بالعمرة بعد انتهائه.
(ج) القران أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل الحج عليها أو بالعكس ، واللّه أعلم بأفضلها ، والمهم الإخلاص.
5 - هذه الفريضة لها أيام معلومة : شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، فنية الحج لا تصح إلا في هذا الوقت ، وأعماله تنتهي في أيام التشريق الثلاثة.
6 - فمن أوجب على نفسه الحج وجب أن يبتعد عن الجماع ومقدماته ، والكلام فيه فإنه رفث ، ويبتعد عن الفسوق والخروج عن طاعة اللّه بفعل أى شيء محرم كالصيد والطيب والزينة ولبس المخيط ، والتنابز بالألقاب ، والجدال ، والمراء والخصام كل ذلك محرم على الحاج لأن الشرع يريد منه أن يتجرد عن الدنيا ومظاهرها ، وأن يكون إنسانا كاملا خاصة هنا ، وأما الجماع وما حوله فلا يليق به لأنه في طاعة ، ولذا يفسد الحج لو فعل الجماع قبل الوقوف بعرفة. وأما غيره من المحرمات فيجبر بدم.(1/119)
ج 1 ، ص : 120
وما تفعلوا من خير فاللّه يعلمه ويجازى به ، وتزودوا بالأعمال الصالحة التي تنفعكم فإن خير الزاد التقوى ، واتقوا اللّه يا أولى الألباب.
بعض أحكام الحج [سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 203]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)(1/120)
ج 1 ، ص : 121
المفردات :
أَفَضْتُمْ يقال : أفضت الماء : إذا دفعته بكثرة ، ثم استعمل في الإفاضة من المكان ، والمراد الدفع منه بكثرة ، أصله : أفضتم أنفسكم. الْمَشْعَرِ الْحَرامِ :
جبل بالمزدلفة يقف عليه الإمام يسمى قزحا ، وسمى مشعرا لأنه معلم للعبادة ووصف بالحرام لحرمته. قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ : أديتموها ، والمناسك : أعمال الحج.
خَلاقٍ : نصيب. حَسَنَةً : توفيقا وصحة وكفافا في الرزق. أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ : أيام التشريق. تُحْشَرُونَ : تجمعون يوم القيامة للحساب.
المعنى :
بعد أن بيّن اللّه - سبحانه - أن الزاد زاد التقوى ، وأن أولى العقول هم الذين يتزودون ليوم الحساب ويخافون اللّه ، أشار إلى أن الحج لا يمتنع معه البحث عن الرزق والتجارة كما فهم الناس ، فليس عليكم حرج ولا جناح في أن تطلبوا الرزق الحلال من طريق البيع والشراء والكراء.
سئل ابن عمر : إنا نكري (الرواحل للحجاج) فهل لنا من حج ؟ فقال : سئل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مثل هذا السؤال فلم يجب حتى نزلت تلك الآية ، فدعا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم السائل وقال له : « أنتم حجاج »
أى : لا يضر البيع ، والشراء ، وإنما الممنوع الحج للتجارة والانتفاع ، أما إذا كان الحج للّه والتجارة تأتى عرضا فلا مانع.
الوقوف بعرفة أهم ركن في الحج
لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « الحج عرفة » « 1 »
ولأنه وقف في حجة الوداع على عرفات بعد صلاة الظهر إلى أن غربت الشمس وقال ما معناه : « خذوا عنّى مناسككم » « 2 » .
فإذا أفضتم من عرفات مندفعين كالسيل بعد الوقوف بها فاذكروا اللّه بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء عند الجبل الذي يقف عليه الإمام وهو المسمى بالمشعر الحرام ،
فقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : لما صلّى الفجر بالمزدلفة ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى أسفر جدّا
، أى : دخل السفر وهو بياض النهار.
___________
(1) رواه أحمد 4/ 310 وأصحاب السنن وغيرهم.
(2) رواه مسلم كتاب الحج حديث رقم 1297.(1/121)
ج 1 ، ص : 122
واذكروا اللّه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة وعلمكم كيف تذكرونه ، وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين الذين لا يعرفون كيف يذكرونه.
- كانت قريش وبعض القبائل يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف بعرفة مع الناس فأمر اللّه نبيه أن يأتى المسلمون جميعا عرفات ، ثم يقفون بها ويفيضون منها إبطالا لما كانت قريش تفعله. ثم إذا باتوا بالمزدلفة أمرهم أن يفيضوا منها جميعا لا فرق بين قبيلة وقبيلة ، واستغفروا اللّه إن اللّه غفور رحيم.
فإذا أديتم مناسك الحج وقمتم بها فاذكروا اللّه ذكرا حسنا كما كنتم تذكرون آباءكم في الجاهلية ، أو اذكروه أشد من ذكر آبائكم.
ومن الناس من يدعو اللّه لأمر دنيوى فقط ، وهذا لا نصيب له في الآخرة ، ومنهم من يدعو اللّه أن يؤتيه في الدنيا رزقا حلالا وصحة وفي الآخرة ثوابا ، وأن يجنبه الأعمال التي تؤدى إلى النار ، أولئك حزب اللّه لهم نصيب كبير بما كسبوا واللّه سريع الحساب.
واذكروا اللّه في أيام التشريق الثلاثة وهللوا وكبروا عقب الصلاة وعند رمى الجمار ، عن عمر - رضى اللّه عنه - (أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق).
فمن تعجل ورمى في يومين من أيام التشريق الجمرات فلا إثم عليه ومن تأخر ورمى في الأيام الثلاثة فلا إثم عليه وإن كان أفضل.
ذلك التخفيف ونفى الإثم لمن اتقى اللّه ... واتقوا اللّه واعلموا أنكم إليه تحشرون وتحاسبون.(1/122)
ج 1 ، ص : 123
من علامات النفاق أيضا [سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)
المفردات :
يُعْجِبُكَ : يروقك ويعظم في قلبك ، ومنه الشيء العجيب. الْخِصامِ :
الخصومة والعداوة. تَوَلَّى : ذهب. الْحَرْثَ : الزرع. النَّسْلَ :
ما تناسل من الحيوان. أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ : حملته العزة الكاذبة على الإثم.
يَشْرِي نَفْسَهُ : يبيع نفسه ابتغاء مرضاة اللّه.
ذكر اللّه الحج وبين أن فيه من يدعو اللّه للدنيا ومن يدعوه للآخرة ، فهذان صنفان آخران منافق ومؤمن ، قلب مضيء بالإيمان وقلب مظلم بالنفاق.
المعنى :
بعض الناس يروقك قوله ويعجبك طلاقة لسانه وقوة بيانه في الحياة الدنيا مع أنه(1/123)
ج 1 ، ص : 124
لا يتكلم إلا ليحظى بشيء من الدنيا الفانية وأعراضها الزائلة ، وهو يشهد اللّه على ما في قلبه ، فكلما قال قولا شفعه بقوله : يعلم اللّه هذا ، ويشهد أنى صادق.
ويعلم اللّه أنه أشد الناس خصومة ، وأقواهم جدلا ، وأكثرهم عداوة للمسلمين.
سبب النزول :
نزلت في الأخنس بن شريق : كان إذا قابل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مدحه ، وأشاد بالإيمان يقول هذا لينال في الحياة الدنيا ما ينال ، وكان يقسم أنه صادق ، ويشهد اللّه أنه كاذب ، وكان شديد الخصومة للمسلمين ففيه الخصال الثلاث.
وإن ذهب عنك وتولى ظهرت نفسه الحقيقية وأخذ يسعى في الأرض فسادا فيهلك ما ينتجه الحرث ويقضى على النسل ، وقيل : إذا تولى أمرا من الأمور سعى في الأرض بالفساد فيصب اللّه عليه وعلى أمته التي رضيت به إماما عليها أشد العذاب فيمتنع الخير حتى يهلك الحرث ويفنى النسل والحيوان ، وكيف لا ؟ واللّه لا يحب الفساد وصحبه! وإذا قيل له نصحا وإرشادا : اتق اللّه حملته الحمية الجاهلية ، والعزة الشيطانية على ارتكاب الإثم المنهي عنه شرعا ، وجزاؤه هذه اللعنة وحسبه جهنم ولبئس المهاد مهاده.
الصنف الثاني من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة اللّه في الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
سبب النزول :
نزلت في صهيب بن سنان ومن على شاكلته أراده المشركون على الكفر فأبى وأخذ ماله وفر بدينه إلى المدينة ، واللّه رءوف بالعباد حيث كلفهم الجهاد في سبيل اللّه فعرضهم بذلك لثواب الشهداء.(1/124)
ج 1 ، ص : 125
من لا يتبع جميع أحكام الدين وجزاؤه [سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 212]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)
المفردات :
السِّلْمِ : الاستسلام والانقياد والإسلام. كَافَّةً : جميعا. خُطُواتِ الشَّيْطانِ : جمع خطوة ، والمراد : تزيينه ووساوسه. زَلَلْتُمْ : ملتم عن الدخول فيه. ظُلَلٍ : جمع ظلة ، وهي ما أظلك. يَسْخَرُونَ : يهزئون.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب استسلموا للّه - تعالى - وأطيعوه ظاهرا وباطنا ، وادخلوا في الإسلام كله ، ولا تخلطوا به غيره ، فإنه
روى أن عبد اللّه بن سلام استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته في الليل
.(1/125)
ج 1 ، ص : 126
ويجوز أن يكون المعنى : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في حظيرة الإسلام كله على أن يكون المؤمنون مأمورين بجميع فروع وأحكام الإسلام ، أما إذا آمنوا ببعض الأحكام ففعلوها كالصلاة والصيام مثلا ، ولم يعملوا ببعض الأحكام كالزكاة والصدقة والحكم بكتاب اللّه وحدوده ، ومنع الخمر والزنى : وما إلى ذلك مما نراه الآن فتكون هذه الآية من باب الإخبار بالمغيبات بالنسبة للمسلمين في هذه الأيام ، وما دمنا على هذا الحال فنحن الظالمون ، الذين نتبع خطوات الشيطان ونقلده ، مع أنه العدو اللدود الظاهر في العداوة ، واللّه يقول لنا : وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
فإن ملتم عن الحق وابتعدتم عن الإسلام من بعد ما جاءتكم الآيات الواضحات والحجج البينات ، فاعلموا أن اللّه غالب على أمره ولا يعجزه الانتقام منكم ، حكيم لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المذنب. ويقول كثير من المفسرين : هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر ، ومالوا عن الحق بعد ظهوره.
ألسنا أولى منهم بهذه الآيات نطبقها على أنفسنا ؟ ونعتقد أن ما نحن فيه من الاستعباد والضعف جزاء ترك العمل ببعض أحكام الدين المهمة في تكوين الجماعة وتشييد أركانها.
ما ينتظر هؤلاء الخارجون عن أمر اللّه إلا أن يأتيهم عذاب اللّه وأمره من حيث ينتظرون الخير تنكيلا بهم وتشديدا عليهم ، وتأتيهم الملائكة بما قدره اللّه وأراده لهم ، وقضى الأمر وإلى اللّه لا إلى غيره ترجعون يوم القيامة.
سل يا محمد بنى إسرائيل تبكيتا وتقريعا عن المعجزات الدالة على صدقك وعن الآيات التي جاءت على أيدى الرسل الكرام السابقين خاصة موسى وعيسى فإنها كثيرة ، ومن يغير نعمة اللّه التي توصل إلى الهداية والخير. فيستعملها في الكفر والعصيان من بعد ما جاءت إليه ووضحت عنده ، لا جزاء له إلا العقاب الصارم ، فاللّه شديد العقاب.
حسنت الدنيا في أعين الكفار ، وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها ، وفتنوا بها أيما فتنة ، وهم يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون بهم ، مع أن الذين آمنوا واتقوا اللّه فوقهم يوم القيامة ، إذ هم في أعلى عليين والكفار في أسفل سافلين ، هذا هو الجزاء(1/126)
ج 1 ، ص : 127
في الآخرة ، أما الدنيا فليست محل جزاء بل محل ابتلاء واختبار وعمل ، ولو كانت تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء. ولذا فاللّه يبسط الرزق لمن يشاء ولو كان كافرا فاسقا ، ويقتر الرزق على من يشاء ولو كان مؤمنا طائعا ، فهو يرزق من يشاء بغير حساب ولا نظر إلى دينه.
الحاجة إلى الرسل [سورة البقرة (2) : آية 213]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
المفردات :
الأمّة : الجماعة من الناس ، وقد تطلق على الملة. بَغْياً : حسدا.
المعنى :
يقول اللّه - سبحانه - ما معناه - وهو الأعلم بمراده - : كان الناس يعيشون بفطرتهم في هذه الدنيا يحدوهم عقلهم ، وتسوقهم رغباتهم وغرائزهم البشرية ، إلى سكنى الدنيا وعمارتها ، وهذا الحال يقتضى التنازع والتدافع والخروج عن جادة الطريق والاختلاف ، فتسوء حالهم ، فينعم اللّه عليهم بإرسال مبشرين ومنذرين يخرجونهم من الظلمات إلى النور لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد إرسال الرسل ، وأنزل مع كل(1/127)
ج 1 ، ص : 128
واحد منهم ممن له كتابه الخاص به لا مع كل واحد منهم على الإطلاق ، ومن هنا نعلم أن العقل وحده لا يكفى في إدراك الخير والاهتداء إلى الحق ، ولذا أرسلت الرسل.
أنزل اللّه الكتاب على الرسول متلبسا بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من أمور دنياهم ودينهم ، وما اختلف في الحق أو في الكتاب إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الخلاف وإزاحة الشقاق ، فاختلفوا فيه اختلافا آخر أو ازدادوا اختلافا ، كل هذا من بعد ما جاءتهم البيّنات الواضحات ، وما اختلفوا إلا حسدا وبغيا منهم ، أما الذين آمنوا وعملوا صالحا من أنفسهم فيهديهم ربهم للذي اختلفوا فيه من الحق بإذنه وإرادته ، واللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
ما يلاقيه الرسول والمؤمنون في دعوتهم [سورة البقرة (2) : آية 214]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
المفردات :
أَمْ معناها : بل التي تفيد افتتاح كلام جديد. الْبَأْساءُ : الفقر وكل ما يصيب الإنسان في غير ذاته. الضَّرَّاءُ : المرض وكل ما يصيب الإنسان في نفسه. زُلْزِلُوا : أزعجوا بأنواع البلايا.
المعنى :
خوطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين بهذه الآية حثّا على الثبات والمصابرة على مخالفة الكفار ، وتحمل المشاق إثر اختلاف الأمم على الأنبياء - عليهم السلام - مع بيان عاقبة الصبر.(1/128)
ج 1 ، ص : 129
أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين مضوا من قبلكم من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين ؟ - فأنتم لم تبتلوا مثل ابتلائهم ، مستهم الشدة والخوف والفقر والألم والأمراض ، وأزعجوا إزعاجا شديدا حتى اضطرهم الألم الممضّ إلى أن يقول الرسول - وهو أعلم الناس باللّه - تعالى - وأوثقهم بنصره والمؤمنون المقتدون به المقتفون أثره - متى يأتى نصر اللّه ؟ حيث نفد صبرهم من هول ما لاقوا ، فأجيبوا : ألا إن نصر اللّه قريب الحصول!! وهكذا كل قوم لهم دعوة ومنهج لا بد أن يبتلوا ويختبروا ، ويمتحنوا ، وفي هذا كله خير لهم وأى خير ؟ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا « 1 » .
النفقة وأحق الناس بها [سورة البقرة (2) : آية 215]
يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
المفردات :
مِنْ خَيْرٍ : من مال كثير طيب.
المعنى :
سألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن مقدار ما ينفقون وعن بيان الجهة التي ينفقون فيها ، والمراد هنا : نفقة التطوع لا الزكاة الواجبة ، أما الجواب عن الشق الأول من السؤال فهو : أى مقدار تنفقونه كثيرا أو قليلا من المال فهو لكم وثوابه خاص بكم ، وعن الشق الثاني أنه يعطى للوالدين والأولاد لأنهم القرابة القريبة وكذا الأقارب ، ويكون التفضيل في الإعطاء والترتيب للأقرب فالأقرب ، واليتامى والمساكين وابن السبيل يعطون من المال وما تنفقوا من خير مطلقا فإن اللّه سيجازى به لأنه عليم بكل شيء.
___________
(1) سورة آل عمران 141.(1/129)
ج 1 ، ص : 130
حول القتال في الإسلام [سورة البقرة (2) : الآيات 216 الى 218]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
المناسبة :
إن ذكر القتال بعد الإنفاق للمال ظاهر المناسبة فالقتال يحتاج لبذل النفس والنفيس من المال ، وعلى كل مسلم ضريبتان الدم والمال.(1/130)
ج 1 ، ص : 131
المعنى :
فرض عليكم القتال لمن اعتدى عليكم من المشركين ، وهو مكروه لكم لأنكم تخافون إن دارت رحى الحرب بينكم وبينهم أن يفتك القتل بكم ، وأنتم الطائفة القليلة العدد التي تحمل لواء العدل والحق في هذه الجزيرة ، وقيل في تعليل كراهيتهم للقتال :
إن الإسلام أوجد في قلوبهم رأفة ورحمة وروحانية تبغض القتل والقتال الذي دعوا إليه وهم يرجون أن يثوب الكفار إلى رشدهم ، وأن يصل نور الإسلام قلوبهم بالحجة والبرهان.
فيا أيها المؤمنون لا يصح منكم أن تكرهوا الحرب والقتال لهذا السبب أو ذاك فعسى أن تكرهوا شيئا والواقع أنه خير لكم ، إذ في الحرب إعلاء لكلمة الإسلام ودفع الظلم ورفع لمنارة الحق والعدل ، وعسى أن تحبوا شيئا والواقع أنه شر عليكم مستطير.
فالذي فرض عليكم القتال هو العليم بالنفوس التي ختم على قلبها وعلى سمعها وعلى بصرها غشاوة ، فهؤلاء لا ينفع معهم إلا الإبادة والإزالة شأن الدم الفاسد في الجسد لا ينفع معه إلا عملية الإزالة ، وهذا خاص بقتال المشركين الذين فتنوهم عن دينهم وقاتلوهم ، لا في قتال الكفار مطلقا.
واللّه يعلم وحده وأنتم لا تعلمون.
بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سرية على رأسها عبد اللَّه بن جحش بكتاب منه : امض حتى تنزل بطن نخلة فتأتينا من أخبار قريش ما يصل إليك. وكان ذلك في جمادى الثانية وصادف أن مر بهم عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان وغيرهم مع عير تحمل تجارة لقريش ، فائتمر بالعير عبد اللّه بن جحش ومن معه وقتلوا ابن الحضرمي وآخر وأسروا رجلين واستاقوا العير ، وفي الواقع أنهم قتلوا ظنا منهم أنهم في آخر جمادى لا في أول رجب.
فلما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لهم : واللّه ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ،
وأوقف توزيع الغنيمة. وفي هذا حصل هرج ومرج ، واستغل المشركون هذا الحادث في الدعاية ضد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتى نزلت الآية.(1/131)
ج 1 ، ص : 132
إن يسألوك عن القتال في الشهر الحرام هل هو حلال أم حرام ؟ فقل لهم : نعم القتال فيه كبير الإثم والجرم ، ولكن اعلموا أن صد الكفار عن سبيل اللّه وطريقه الموصل إلى الإسلام بما يفتنون المسلمين عن دينهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم ، نعم صدهم عن سبيل اللّه كفرهم به وصدهم عن المسجد الحرام ومنع المسلمين من الحج والعمرة وإخراج أهله منه ، وهم صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه.
كل واحدة من هذه الجرائم التي فعلها المشركون أكبر إثما وأعظم جرما عند اللّه والناس من القتال في الشهر الحرام فكيف بهم وقد فعلوها كلها ؟
ألم تعلموا أن الفتنة أشد من القتل ؟ ! وما حوادث التعذيب والفتنة التي فعلوها مع عمار بن ياسر وأبيه وأخيه وأمه وغيرهم ببعيدة عن الأذهان!! هذا بعض ما كان من المشركين قبل الهجرة وبعدها ، وصاروا يقاتلونهم لأجل الدين ويحرضون القبائل ضدهم وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إن مكن لهم واستطاعوا فهم يريدون ردّتكم وفتنتكم عن الإسلام ، ولكن اعلموا أن من يدخل في الإسلام ثم يخرج مرتدا ويموت فهو كافر باللّه وأشد من المشرك ، وأولئك الموصوفون بالردة البعيدون في الضلال بطلت أعمالهم وصارت هباء منثورا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، هذا جزاء الكافرين المرتدين.
وأما جزاء المجاهدين في سبيل اللّه كعبد اللّه بن جحش وأضرابه فها هو ذا :
إن الذين آمنوا باللّه ورسله وفارقوا الأهل والأوطان لإعلاء كلمة اللّه ، ونصرة دينه ولحقوا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وجاهدوا في اللّه مع ذلك حق جهاده.
أولئك المذكورون البعيدون في درجات الكمال قد فعلوا ذلك رجاء رحمة اللّه ، فاللّه يكافئهم ويجازيهم أحسن الجزاء ، وهو يغفر لهم بعض الزلل ويرحمهم بفضله وإحسانه وهو الغفور الرحيم.(1/132)
ج 1 ، ص : 133
الخمر والميسر وحكمهما [سورة البقرة (2) : آية 219]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
المفردات :
الْخَمْرِ هذا اللفظ منقول من مصدر خمر الشيء : إذا ستره وغطاه ، وخمرت الجارية : ألبستها الخمار ، وهو النّصيف ، أى : غطاء الوجه ، والمناسبة في إطلاق هذا اللفظ على الشراب المخصوص أنه يستر العقل ويغطيه ، وقيل : سميت خمرا لاختمارها وتغير رائحتها ، والخمر : يطلق على عصير العنب والتمر والذرة وكل نبات ينتج ذلك المشروب.
الْمَيْسِرِ : كان للعرب في جاهليتها أقداح وأزلام عشرة ، سبعة لكل منهما نصيب معلوم ، وثلاثة لا نصيب لها ، يجعلون العشرة في كيس يجلجلها عدل منهم ويدخل يده فيخرج منها الأقداح ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ نصيبه ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يشترك معهم ، فهذا هو الميسر عند العرب. الْعَفْوَ : الفضل والزائد عن الحاجة للإنسان ومن يعوله سنة على الأصح.
المعنى :
يجيب اللّه - سبحانه وتعالى - على الأسئلة الواردة من الصحابة سؤالا تلو سؤال تبعا للوقت المناسب للإجابة.(1/133)
ج 1 ، ص : 134
والخمر قد نزلت فيه آيات أربع تدرجت بالعرب حتى وصلت إلى آية التحريم ، وعالج اللّه الحكيم في هذه الآيات داء عضالا ، علاجا يشهد بإعجاز القرآن حقّا ، والمشاهد أن القرآن عند ما يعالج مرضا اعتقاديا أو عمليا ليس فيه للعادة مدخل يعالج كالشرك والزنى مثلا فإن كان للعادة فيه مدخل كالخمر مثلا تدرج فيه. أولى الآيات : وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل 67] ولقد سألني سائل عن سر وضع هذه الآية في تحريم الخمر ، والجواب أنه وصف الرزق بالحسن وترك السكر. وفي ذلك إيهام بأن السكر ليس فيه خير ، وهذا تنبيه للناس بعيد ، ثانيا آياتنا هذه :
فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فشربها قوم وامتنع بعدها آخرون ، ثالثا : لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [سورة النساء آية 43].
فامتنع الصحابة عن شربها وقت الصلاة ، والصلاة أوقاتها الخمسة تشمل أغلب النهار وجزءا من الليل ، ولكن مع هذا حدثت حوادث بسبب شرب الخمر أم الخبائث ، مما دعا عمر أن يقول : اللهم ربنا أنزل لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية الرابعة : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [سورة المائدة الآيتان 90 و91].
وإطلاق اللغويين الخمر على كل ما خامر العقل ، أى : ستره ، وفهم الصحابة مدلول (الخمر) وهم أدرى باللغة والقرآن ، على أنها تطلق على المسكر من عنب وزبيب وتمر وذرة وشعير وغيره ، ولما
ورد في السنة : « كلّ مسكر خمر ، وكلّ خمر حرام »
و« ما أسكر كثيره فقليله وكثيره حرام »
يجعلنا مع القائلين بهذا الإطلاق خلافا لبعض الأحناف الذين يطلقون الخمر على عصير العنب إذا اشتد وقذف بالزبدة ، أما غيره فإذا طبخ حتى ذهب ثلثاه حل شربه ما دون السكر (أى : القليل إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب).
على أن تحريم الخمر كان بالمدينة وكان المشروب نبيذ البر والتمر.
والميسر كما عرفته آنفا.
أما الخمر ففيها إثم كبير : مهلكة للمال ، مذهبة للعقل مضيعة للصحة ، أم الكبائر ، يكفى أنها تسوى بين الإنسان والحيوان الثائر ، وقد أثر الطب ضررها وبعض الدول المسيحية حرمها.(1/134)
ج 1 ، ص : 135
وفي الميسر إثم كبير : غرم مجهد ، وعداوة بلا سبب ، وحقد وكراهية ، وضياع للوقت فيما يضر ، وصرف للعقل عن جادة التفكير ، ومع ذلك فهو داع للكسل والخمول.
وفيهما منافع للناس ففي الخمر ربح وتجارة لمن يتاجر فيها ، وفي الميسر يسار وغنى طارئ من غير تعب ولا مشقة ، وإن يكن لا بركة فيه ، وإثمهما أكبر من نفعهما بكثير جدا بدليل تحريمهما.
وقد أجيبوا عن سؤال النفقة بأنهم ينفقون الزائد عن حاجتهم ، وبعد معرفة ما ينفقه الإنسان عن نفسه ومن يعوله من غير إفراط ولا تفريط ، هذا في النفقة المندوبة والتي يجوز للحاكم الإسلامى العادل أن يفرضها على الأغنياء بشرط أن تنفق على فقراء المسلمين إذا دعت الضرورة بذلك.
مثال ذلك البيان في تحريم الخمر والميسر ووجوب الإنفاق فيما فضل عن الحاجة يبين اللّه الآيات الواضحات في الدستور القرآنى التي تكفل السعادة للمجتمع في الدنيا والآخرة لو تفكر الناس ونظروا بعين البصيرة والفكر السليم.
ما يؤخذ من الآية :
1 - كل مادة مسكرة تذهب العقل وتضيع المال والصحة وتقضى على الشخصية فهي حرام كالخمر ، وذلك كالأفيون والحشيش ، وكل مادة يخترعونها فيها هذا الهلاك.
2 - كل لعب فيه غرم بلا عوض وفيه استيلاء على أموال الناس بغير حق فهو حرام كالميسر ، وعلى ذلك فالقمار ولعب الموائد والسباق على اختلاف أنواعه حرام كالميسر ، وأوراق اليانصيب كذلك لما يترتب عليها من ضياع المال أو كسب من غير طريق شرعي مع ما فيه من الضرر الممنوع شرعا.(1/135)
ج 1 ، ص : 136
الولاية على مال اليتيم [سورة البقرة (2) : آية 220]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
المفردات :
(اليتيم) : من فقد أباه. تُخالِطُوهُمْ : تخلطوا أموالكم بأموالهم.
لَأَعْنَتَكُمْ العنت : المشقة والإحراج.
المعنى :
كان العرب يخلطون أموالهم بأموال اليتامى ، ولما نزل قوله - تعالى - : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ [سورة النساء آية 10].
تحاشى الصحابة عن اختلاط أموالهم بأموال اليتامى وجنبوها وحدها ، وكان في ذلك ضرر لمال اليتيم في بعض الأحوال لذلك سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أيخالطونهم أم يجنبون أموالهم ؟
فقال صلّى اللّه عليه وسلّم مجيبا : إن كان في التجنب إصلاح لأموال اليتامى فذلك خير ، وإن كان في مخالطتهم إصلاح لهم ومنفعة فذلك خير لأنهم إخوانكم في الدين والنسب ، فعليكم أن تراعوا أموالهم بالإحسان ، فاللّه - سبحانه - يعلم المحسن من المسيء وسيجازى كلّا على عمله.
ولو شاء اللّه أن يضيق عليكم ويشدد بأنه يوجب التجنب أو المحافظة لفعل ذلك ولكنه ينظر لمصلحة اليتيم ، ولا يشدد عليكم ، وهو العزيز لا يغالب ، الحكيم في أحكامه وتصرفاته جل شأنه.(1/136)
ج 1 ، ص : 137
زواج المسلم بغير المسلمة [سورة البقرة (2) : آية 221]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
المفردات :
(المشركة) : من ليس لها كتاب.
روى أن مرثد بن مرثد أرسله النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى مكة في مهمة فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة اسمها عناق ، وكانت خليلة له فأتته وقالت ألا تخلو ؟ فقال : ويحك إن الإسلام فرق بيننا ، فقالت : ألا تتزوج ؟ فقال : نعم بعد استئذان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت الآية.
والعلامة السيوطي يقول : إن الصحابة يذكرون أن الآية نزلت في كذا ويريدون توضيح معناها ، أى : إن معناها يتناول أمثال ما ذكر ، وإن ذكروا أسبابا فقد يعنون أنها نزلت عقبها ولذا نراهم يذكرون حادثة أخرى في سبب النزول ، وكل ما ذكر يدور حول الآية الكريمة.
المعنى :
ينهى اللّه - سبحانه وتعالى - المسلم عن أن يتزوج المشركة التي لا كتاب لها حتى تؤمن باللّه ورسوله ، ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وضعف الشخصية خير من امرأة مشركة أعجبتك بمالها وجمالها وحسبها ونسبها ، ولو لم تعجبك فالنهي عنها من باب(1/137)
ج 1 ، ص : 138
أولى ، ولا تزوجوا المؤمنات - سواء كن حرائر أو إماء - المشركين حتى يؤمنوا ويتركوا ما هم عليه من الشرك ، والعبد المؤمن - حرا كان أو رقيقا - خير من مشرك مع ما له من العز والجاه أعجبكم بما له من فضل أو لم يعجبكم.
والسر في التحريم أن أولئك المشركين يدعون إلى الكفر وكل ما هو شر يوصل إلى النار إذ ليس لهم دين يردعهم ، ولا كتاب يهديهم ، مع منافاة الطبيعة بين الاثنين فهذا قلب فيه نور وذاك قلب فيه ظلام وضلال.
واللّه يدعو بوساطة عباده المؤمنين الذين ينهاهم ويرشدهم إلى ما يوصل إلى الجنة ونعيمها ، وإلى المغفرة بإذنه وبإرادته ، وقد بين اللّه - سبحانه - آياته وأحكامه النافعة للمسلمين في دنياهم وأخراهم ، ومن هذه الآيات التي نحن بصددها يبينها للناس لعلهم يتذكرون ويتعظون فلا يخالفون أمره أبدا ولا يجرون وراء الشيطان.
ما يستنبط :
1 - المرأة المشركة لا يصح بحال التزوج منها أما الكتابية كاليهودية والنصرانية فقد أباح الشرع التزوج بها.
2 - فرق الشرع الشريف بين نكاح المسلم للكتابية حيث أجازه وبين نكاح الكتابي للمسلمة حيث منعه.
ولعل السر في ذلك أن الرجال قوامون على النساء ولهم التأثير عليهن ، والمرأة عاطفية ، فلو تزوج الكتابي مسلمة أمكن التأثير عليها فربما تركت دينها ، وغالبا يلحقها ضرر وإيذاء منه لأنه لا يؤمن بكتابها ولا نبيها ، وأما المسلمون فيؤمنون بعيسى على أنه نبي وبكتابه ، على أن أصله من عند اللّه ، وعلى العكس لو تزوج المسلم الكتابية ورأت حسن المعاملة التي يأمر بها الإسلام وسماحة الدين وخالطت الإسلام عن قرب كان ذلك مدعاة لتصورها الإسلام على حقيقته ، والمسلمون مأمورون بالإحسان إلى الزوجات في المعاشرة وأنه لا إكراه في الدين فلا ضرر يلحقها ، ولا تنس أن العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين ، والعزة تأبى علينا أن تكون المسلمة تحت كتابي مهما كان.
وأما الفرق بين المشركة والكتابية فظاهر إذ نحن مع الكتابيين نؤمن باللّه والحياة الأخروية وندين بوجوب عمل الخير والبعد عن الشر.(1/138)
ج 1 ، ص : 139
الحيض وحكمه [سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
المفردات :
الْمَحِيضِ : الحيض ، وهو دم فاسد يخرج من رحم المرأة كل شهر ، أقله يوم وليلة ، وغالبه ستة أو سبعة ، وأكثره خمسة عشر يوما ، وله أحكام في كتب الفقه كثيرة. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ : كناية عن عدم الجماع. مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ :
في المكان المأمور به وهو القبل لا الدبر. حَرْثٌ لَكُمْ : موضع حرثكم.
المعنى :
كان اليهود يتشددون في معاملة الحائض فيعتزلونها في الأكل والشرب والنوم ، وإذا لامسها أحد تنجس ... إلخ. وكانت النصارى لا تفرق بين الحيض وغيره ، فكان هذا داعيا لتساؤل المسلمين عن الرأى الوسط والحل الرشيد ، فأجيبوا من اللّه : أن الحيض أذى يضر الرجل والمرأة على السواء ، والطب يشهد بهذا ، فاحذروا الجماع فقط في الحيض ولا حرج عليكم في غير الجماع ،
عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « اصنعوا كلّ شيء إلّا الجماع »
وسئل الرسول : « ما يحلّ لي من امرأتى وهي حائض ؟ فقال : لك ما فوق الإزار » .(1/139)
ج 1 ، ص : 140
ولا تقربوهن حتى يطهرن من الحيض فإذا تطهرن باغتسال فجامعوهن في المكان الذي أمركم اللّه به ، وهو القبل لأنه محل استيلاد الولد واستبانته ، بعكس الدبر ، إن اللّه يحب التوابين الذين يتوبون عن فعلهم المخالف للشرع لأن عادة إتيان النساء في الدبر وفي الحيض قد تسربت عند البعض ، واللّه يحب المتطهرين الذين يتطهرون من دنس الفواحش وارتكاب المعاصي ، ومن كل دنس مادى كالحيض والنفاس.
نساؤكم الطاهرات من الحيض مواضع حرثكم ، فالنطفة التي تلقى في الرحم أشبه شيء بالبذر الذي يلقى في الأرض المحروثة ، والشارع الحكيم يشير بلفظه الموجز البليغ حَرْثٌ إلى أن المقصود من النكاح هو الاستيلاد لا اللذة البهيمية فوجب العناية به ، ومن هنا وضع قوله - تعالى - : فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إذ في غير القبل لا يمكن الاستيلاد.
وقوله - تعالى - : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ معناه : لا حرج عليكم في إتيان النساء بأى كيفية شئتم ما دام في القبل الذي هو موضع الحرث.
وقدموا لأنفسكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم واتقوا اللّه ، واعلموا أنكم ملاقوه فمجازيكم على عملكم ، وبشر يا محمد المؤمنين الذين يطيعون اللّه ورسوله بالجنة.
الحلف باللّه [سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
المفردات :
عُرْضَةً : هي المانع المعترض دون الشيء ، وعلى هذا فالمراد بقوله :
لِأَيْمانِكُمْ : ما حلفتم عليه من البر والتقوى والإصلاح بيّن. بِاللَّغْوِ : هو(1/140)
ج 1 ، ص : 141
اليمين الذي لا قصد فيه ، كقولك تأكيدا لكلامك : لا واللّه ، وبلى واللّه ، من غير قصد ، وعند أبي حنيفة : أن يحلف على شيء يعتقد أنه حصل خلافه ، فذاك لغو اليمين.
المعنى :
قد يتسرع الإنسان فيحلف أنه لا يفعل كذا من بر أو صدقة أو صلح بين الناس ، أو يفعل شيئا هو شر عليه ، واللّه - سبحانه - يرشدنا إلى ما هو خير لنا وينهانا أن نجعل اسمه الكريم مانعا من الخير أو داعيا إلى الشر إذا حلفنا على فعله ، بل من حلف ألا يفعل خيرا أو يفعل شرا فليحنث في يمينه وليكفر عنه ،
فقد ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا مّنها فليأت الّذي هو خير وليكفّر عن يمينه »
وقوله - تعالى - : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [سورة النور آية 22].
وقيل : المعنى : ولا تجعلوا اللّه معرضا لأيمانكم ، جمع يمين ، تبذلونه بكثرة الحلف وذلك لأن الحلاف مجترئ على اللّه غير معظّم له وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [سورة القلم آية 10] ، وهذه المؤاخذة إنما تتجه إلى المؤكدة المقصودة المنوية بالقلب ، فهذه فيها الحرمة إذا حنث فيها وعلى صاحبها الكفارة وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد بأن كان فقيرا فصيام ثلاثة أيام.
أما اليمين اللغو التي تخرج من اللسان لا من القلب ، تخرج بلا قصد : كبلى واللّه ، ولا واللّه ، فلا حنث فيه ولا كفارة ، وكذا من حلف على شيء يظنه حصل فبان خلافه عليه (عند الأحناف).
الإيلاء وحكمه [سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)(1/141)
ج 1 ، ص : 142
المفردات :
يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ : يحلفون ، والإيلاء : أن يحلف الرجل أنه لا يقرب امرأته أربعة أشهر فأكثر. تَرَبُّصُ : انتظار. فاؤُ : رجعوا.
المعنى :
غالبا ما يكون عند النزاع بين الرجل والمرأة أن يحلف الرجل ألا يقربها مدة ، وفي هذا امتهان للمرأة ، وهضم لحقوقها وجفوة لها ، والحلف على المرأة بهذا الشكل لا يرضاه اللّه ورسوله لما فيه من الضرر اللاحق للزوجة وقطع التراحم بينهما.
ولمن يفعل هذا الفعل انتظار أربعة أشهر فقط لأنها أقصى مدة تستغني فيها المرأة العفيفة عن زوجها.
والحكم : أن الزوج بعد الأربعة الشهور إما أن يفيء إلى زوجته ويحنث في يمينه ويكفر عنها وذلك معنى قوله - تعالى - : فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما ارتكب رَحِيمٌ بخلقه ، وإن لم يفيء طلق ، فإن أبى الطلاق طلق عليه الحاكم ، وهذا معنى قوله : وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يدور من الأحاديث عَلِيمٌ بكل فعل.
براءة الرحم في الطلاق وبعض أحكامه [سورة البقرة (2) : آية 228]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
المفردات :
يَتَرَبَّصْنَ : ينتظرن ويصبرون. قُرُوءٍ : جمع قرء ، وهو الطهر عند الشافعى ، والحيض عند أبى حنيفة. وَبُعُولَتُهُنَّ : جمع بعل ، المراد به : الزوج الذي طلق.(1/142)
ج 1 ، ص : 143
المعنى :
المرأة المطلقة وهي ممن تحيض ، أى : ليست صغيرة ولا كبيرة يائسة من الحيض وهي حرة غير حامل. عدتها ثلاثة أقراء ، أما من لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر ، والحامل عدتها بوضع الحمل ، وسيأتى هذا بنص القرآن ، والأمة عدتها قرءان ، وانظر إلى التعبير القرآنى يتربصن بأنفسهن ، أى : يحملن أنفسهن على الصبر والانتظار حتى تنقضي العدة فإن النساء تواقة إلى سرعة انقضاء العدة.
ولا يحل لهن أن يكتمن شيئا مما في أرحامهن من حمل أو حيض إن كنّ من المؤمنين باللّه واليوم الآخر إيمانا صادقا كاملا ، فالمرأة أمينة على رحمها فإن لم تكن مؤمنة كاملة أضلت غيره وحيرته.
وأزواجهن في الطلاق الرجعى أحق بردهن وإرجاعهن إلى بيت الزوجية ، فالشارع الحكيم حريص على بقاء رباط الزوجية ، وليس أبغض عند اللّه من الطلاق وإن يكن حقّا حلالا للزوج ، والإشارة (بأحق) إلى أن الزوجة لها حق كذلك في الرجعة ، ولكن كلام الزوج هو المعول عليه ، وعليها أن تستجيب إلى طلبه بشرط أن يكون المقصود بالرجعة الإصلاح والخير للزوجين. أما إذا كان المراد الانتقام والتعويق عن الزواج من الغير فليس من الدين أن يعطل الزوج مطلقته ويلحق بها الضرر.
النساء وحقوقهن في الزوجية
قانون عام ودواء ناجع للناس مع وجازته ، وتعبير مرن يصلح لكل زمان ومكان وجماعة ، للنساء حقوق وعليهن واجبات مثل الرجال لهم حقوق وعليهم واجبات إذ كل من الرجال والنساء مخلوق له عقل وشخصية وتفكير ورغبات.
ومناسبة الآية لما قبلها تقتضي تخصيص الحقوق والواجبات بالزوجية والمعاشرة ، وأما قوله - تعالى - : وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فتلك الدرجة هي المفسرة بقوله -(1/143)
ج 1 ، ص : 144
تعالى - : الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ « 1 » فالدرجة هي القوامة عليهن والولاية والنفقة لهن فهو تكليف للرجال أكثر من تكليفهن ، أما تحديد الحقوق والواجبات فمتروك للعرف ما لم يحل حراما ويحرم حلالا ، وانظر إلى تقييد ذلك في القرآن بقوله بالمعروف والإحسان ، وليس المراد المماثلة بالعين والشخص لا ، ولكن على المرأة واجبات تقتضيها طبيعتها ، ولها حقوق كذلك توجبها طبيعتها إذ ليس من العقل أن نقول : إن الرجل يتساوى مع المرأة في الخليقة والطبيعة ، بل هي خلقت للبيت وما يشمل والرجل خلق للكفاح والعمل ، وهذا هو حكم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بين على وفاطمة إذ جعل فاطمة في البيت تديره وترعاه وعليّا خارج البيت عليه الجهاد والكفاح والبحث عن الرزق.
وليس في هذا إهمال لشأن المرأة أو طعن في كفايتها وعقلها وعلمها لا ، لا ، ولكنه تشريف لها وتكريم حيث تصان وتحفظ ، لا على أنها دمية في البيت ، بل عملها كثير وكثير ومهمتها في المنزل شاقة وشاقة. أليس عليها تربية النشء وإعداد الطفل ؟ بناء الأسرة وتكوين الأمة ؟ فالوطن أسرة كبيرة ، وإذا كانت هي سيدة البيت فهل يبقى بعد هذا شي ء ؟ لقد صدق الشاعر حيث يقول :
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
واشتغالها ببعض الأعمال والوظائف إذا اقتضت ضرورة العيش ذلك فلا مانع بشرط مراعاة الدين والخلق وعدم الفتنة للشباب فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (سورة الأحزاب : 32).
___________
(1) سورة النساء آية رقم 34.(1/144)
ج 1 ، ص : 145
بعض أحكام الطلاق [سورة البقرة (2) : الآيات 229 الى 230]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
المفردات :
تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أى : إرسال لهن بدون رجعة. حُدُودَ اللَّهِ : أحكامه وقوانينه. تَعْتَدُوها : تجاوزوها.
المعنى :
كان الرجل قبل نزول هذه الآية يطلق امرأته فإذا قاربت انتهاء العدة راجعها ، وهكذا فلا هو يمسكها بالمعروف ولا هو يطلقها بالمعروف فنزلت هذه الآية قطعا لهذه الفوضى ، وحدّا لحرية الرجعة والطلاق ، وأنت تراها مخصصة لقوله - تعالى - :
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ على معنى عدد الطلاق الذي تصح فيه الرجعة مرتان ، أى : اثنتان ، وبعدها إمساك لها بالمعروف والمعاشرة الحسنة ، أو تسريح لها بإحسان ، بمعنى أن تتركها حتى تتم العدة من الطلقة الثانية ولا تراجعها ، وقيل : المراد من التسريح(1/145)
ج 1 ، ص : 146
الطلقة الثالثة ،
فقد سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « أين الطلقة الثالثة ؟ فقال : أو تسريح بإحسان »
ولأن التسريح من ألفاظ الطلاق ، والإحسان في الآية المقصود منه أن ينفحها بجزء من المال جبرا لخاطرها ، وهو ما يسمى بالمتعة عند بعض الفقهاء.
ومن آداب الطلاق حرصا على مصلحة الزوجة وحدا لطغيان الرجل أن يطلقها في الطهر لا في الحيض ، وأن يكون مرة بعد مرة لا دفعة واحدة ، ولعل هذا هو السر في التعبير بقوله : مرتان لا اثنتان.
وهل الطلاق الثلاث يقع طلقة واحدة أم ثلاثا ؟
الظاهر الذي عليه النظم الكريم من قوله : مرتان ، أن الطلاق الثلاث يقع طلقة واحدة ، ولحديث ابن عباس : « كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وخلافة أبى بكر وصدر من خلافة عمر : الطلاق الثلاث واحدة
. فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضينا عليهم ، فأمضاه عليهم » .
والجمهور على أنه ثلاث كما رأى عمر الفاروق ، وذهب طائفة من العلماء إلى أنه واحدة خلافا للجمهور.
فلقد شدد عمر ومن بعده من جمهور العلماء على الناس لما استباحوا الطلاق ورجع كثير من العلماء إلى الرأى الأول (قبل رأى عمر) أخذا بظاهر الآية وتخفيفا على الناس في مسألة الطلاق وفرارا من المحلل أو الوقوع في المحظور.
ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أعطيتموه للمرأة في الصداق شيئا بحال من الأحوال في نظير الطلاق إلا في حالة ما إذا خفتم ألا تقام حدود اللّه في الحياة الزوجية ، فإن خفتم ألا تقام حدود اللّه وأحكامه فإن كان السبب من الزوج والبغض منه لا تتفق وروح الإسلام ولا تقام حدود اللّه بينها فله أن يسرحها بإحسان وليس له أن يأخذ منها شيئا بل عليه النفقة ، وليعلم أنه ارتكب إثما إذ إن أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق ، ولم يشرع إلا للضرورة القصوى.
وإن كان من قبلها كأن أبغضته لا تستطيع معه الصبر وخافت أن يقع منها نشوز ومخالفة لأمر اللّه وحكمه فلا جناح عليها أن تفتدى نفسها منه بإعطائه شيئا من المال الذي دفعه صداقا ، ولا جناح عليه أن يأخذه لأن السبب منها.(1/146)
ج 1 ، ص : 147
وهذا ما يسمى بالخلع في كتب الفقه الإسلامى.
روى البخاري عن ابن عباس - رضى اللّه عنهما - أن جميلة بنت عبد اللّه بن سلول كانت امرأة ثابت بن قيس بن شماس فأتت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : لا أطيق زوجي بغضا ، وأكره الكفر بعد الإسلام (أى : كفر نعمة العشير وخيانته في فراشه) فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « أتردين عليه حديقته ؟ » (كان أصدقها حديقة) قالت : نعم .. قال للزوج :
اقبل الحديقة وطلقها « 1 » : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
ومن أحكام الخلع أنه لا تصح الرجعة بعده إلا بأمر الزوجة بخلاف الطلاق الرجعى.
أما الطلاق البائن بينونة كبرى وهو المشار إليه بقوله - تعالى - فَإِنْ طَلَّقَها ، أى :
بعد الطلقتين السابقتين واختار تسريحها فلا يحل له أبدا حتى تتزوج من آخر زواجا شرعيا صحيحا غير محدود بزمن ولا مشروط فيه أى شرط يضر العقد ، وحتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها ، فإن طلقها الزوج الثاني ، وانقضت المدة فلا مانع من الرجوع إلى الزوج الأول إن ظنا أنهما يقيمان حدود اللّه وما أمر به من المعاشرة الحسنة ، وانظر إلى إطلاق حدود اللّه على المعاشرة الطيبة الخالية من السوء والنشوز.
وهذه حدود اللّه يظهرها بأجلى بيان وأحسن عرض ولا يعقلها إلا العالمون ، نعم لا يعقل سرها إلا العقلاء الفاهمون فقديما كنا نسمع نقدا شديدا لأحكام الدين في الزواج والطلاق ، فما بال الغربيين رجعوا اليوم وشرعوا الطلاق ورأوه ضرورة لبناء الأسرة وكيان الأمة ؟ ؟
أمن الدين بل من العقل أن تبقى امرأة رأيت سلوكها معوجا ولم يمكنك إقامة الدليل على ذلك ؟ ماذا تفعل لو لم تجد الطلاق مشروعا ؟ ألا أيها القوم تعقلوا فتلك حدود اللّه بينها لقوم يعقلون ، ولا يضر الدين الإسلامى إساءة استعمالنا هذا الحق في الطلاق!!
___________
(1) كتاب الطلاق باب الخلع حديث رقم 5273.(1/147)
ج 1 ، ص : 148
آداب الطلاق ومعاملة المطلقة [سورة البقرة (2) : الآيات 231 الى 232]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)
المفردات :
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ : قاربن انقضاء عدتهن. ضِراراً أى : يقصد الإضرار بها.
الْحِكْمَةِ : السنة الشريفة ، وقيل : هي الإصابة في القول والعمل.
تَعْضُلُوهُنَّ العضل : الحبس والتضيق والمنع.
المعنى :
يقول المولى - جل شأنه - ما معناه : وإذا طلقتم النساء وقاربن انتهاء العدة فالواجب عليكم أحد أمرين : إما إمساك لها بالمعروف ، أى : تراجعها لعصمتك بالمعروف وعدم الإيذاء ، أو فراق بمعروف من غير إلحاق ضرر بالمطلقة ، ولا تراجعوهن لقصد إلحاق(1/148)
ج 1 ، ص : 149
الضرر بهن والإيذاء لهن لتلجئوهن إلى الفدية ودفع المال لكم ، ولا شك أن هذا اعتداء منكم عليهن ، ومن يفعل هذا الفعل المنهي عنه بأى أسلوب وعلى أى شكل فقد ظلم نفسه وعرضها لعذاب اللّه وغضبه.
ولا تتكاسلوا في امتثال أمر اللّه - سبحانه - وجدّوا في العمل بآيات اللّه فإنكم إن تكاسلتم ولم تمتثلوا أمر اللّه كنتم كمن يستهزئ باللّه وأمره ، واذكروا نعم اللّه عليكم التي لا تحصى وأهمها الإسلام وكتابه المحكم الآيات وهدى رسوله خاتم الأنبياء ، فإنهما الدستور الذي يبنى لكم الأسرة على أحسن نظام وأكمله ، والدواء الناجع لكل داء ، واتقوا اللّه واعلموا أن اللّه بكل شيء تفعلونه أو تعزمون عليه عليم فمجازيكم عليه.
لا يليق بكم جميعا أيها الأولياء والحكام والأزواج ، ومن له شأن أن يمنع المرأة المطلقة إذا انتهت عدتها من أن تنكح زوجها السابق أو زوجا آخر إذا حصل التراضي بينهما والتوافق ، وفي قوله : بينهما إشارة إلى أن الرجل يخطب المرأة إلى نفسها ولا يصح منعها من الزواج إذا تراضوا بالمعروف شرعا وعرفا بأن لم يكن هناك محرم ولا محظور شرعا ، وكانت الكفاءة بين الزوجين ومهر المثل. وعندي أن المهر والتغالى فيه لا يصلح سببا للمنع ، ورب فقير كريم الخلق شريف النسب خير من غنىّ سيّئ الخلق كثير المال ، وذلك الذي تقدم من الأحكام والحدود يؤمن به من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ، فهم الذين يتقبلونه قولا حسنا ويمتثلونه. ذلكم أزكى لكم وأطهر من دنس الوقوع في المحرم ، وهو أزكى نظام وأطهره فإن عدم منع النساء من الزواج أزكى وأطهر للأعراض والبيوت وأنمى للشرف والكمال ، واللّه يعلم كل هذا فامتثلوا أمره واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون.(1/149)
ج 1 ، ص : 150
بعض أحكام الرضاع [سورة البقرة (2) : آية 233]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
المفردات :
حَوْلَيْنِ الحول : العام والسنة. وُسْعَها : جهدها وطاقتها.
فِصالًا : فطاما لأنه يفصل الولد عن أمه. وَتَشاوُرٍ : مشاورة.
مناسبة الآيات :
شرع في أحكام الرضاع بعد أحكام الطلاق ، وكلاهما من الأحكام المتعلقة بالبيوت والعائلات.
المعنى :
والوالدات المطلقات - لأن الكلام فيهن - يرضعن أولادهن إرضاعا على سبيل الندب أو الوجوب إن امتنع الطفل عن الرضاع من غيرها أو لم يجد الوالد من يرضع لفقر أو لغيره ، وهن بهذا الوصف أدعى للامتثال ، يرضعن أولادهن عامين كاملين وذلك لمن أراد إتمام الرضاع للطفل.(1/150)
ج 1 ، ص : 151
ويجب على الوالد الذي ينسب إليه الابن وعنده غريزة حب الولد أن يرزقهن ويكسوهن أجرة لهن على الإرضاع. واستئجار الأم غير جائز ما دامت في النكاح أو العدة ويجوز عند الشافعى - رضى اللّه عنه - مطلقا ، وتقدير الأجرة موكول لظروف كل من الوالد والمرضعة حسب اليسار والفقر.
ولا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها.
ولا تضار الوالدة بسبب ولدها بأن تمنع من الرزق والكسوة أو يؤخذ منها ولدها قهرا ، أو تكره على إرضاعه ، ولا يضار والده بأن يطلب منه ما ليس في طاقته من رزق أو كسوة ، أو تستغل الأم عاطفة الأبوة فتفرط في شأن الولد وغير ذلك من المعاكسات ، والمراد : لا يحصل ضرر منها بسبب الولد.
وعلى الوارث الذي يرث الأب مثل ذلك من النفقة والكسوة ، وقيل : تؤخذ النفقة من مال الصبى فهو الوارث لأبيه ، فإذا لم يكن له مال تؤخذ ممن يرث الطفل لو مات ، وعلى كل فاللفظ يحتمل هذا.
مدة الرضاع الكاملة حولان ، فإذا أراد الوالد والمرضعة فطاما له دون الحولين برضاهما وتشاورهما في مصلحة الطفل فلا إثم عليهما في ذلك حيث اقتضت المصلحة العامة هذا.
وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم من المراضع الأجنبيات بسبب حمل أو مرض أمّ أو عدم اتفاق فلا جناح عليكم ولا إثم ، بشرط أن تسلم المرضعة أجرها بالمعروف ، فإن ذلك أدعى للغاية والمحافظة على الولد ، وهذا خطاب للأب والأم على سبيل التغليب للإشارة إلى أنه من الذوق والأدب أن تكون الأم مشتركة مع الأب ومستشارة في الاسترضاع لأنه ولدها ، واتقوا اللّه في كل شيء خصوصا الأحكام المذكورة واعلموا أن اللّه بما تعملون خبير وبصير فمجازيكم على أعمالكم.(1/151)
ج 1 ، ص : 152
عدة المتوفى عنها زوجها [سورة البقرة (2) : آية 234]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
المفردات :
يَذَرُونَ : يتركون. بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ : انقضت عدتهن.
المعنى :
العدة في الشرع الشريف جعلت لبراءة الرحم ، أو للحداد على الزوج ولذلك جعلت عدة المطلقة ثلاثة أقراء ، أما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرا ما لم تكن حاملا فعدتها بوضع الحمل ولو بعد الوفاة بيوم أو ساعة ، والرأى عند الأحناف أن عدة الحامل أبعد الأجلين للحداد على الزوج ، والشرع لم يندب الحداد على غير الزوج من أخ أو قريب أكثر من ثلاثة أيام.
وفي الوفاة لا فرق بين الصغيرة والكبيرة والمدخول بها وغير المدخول بها لأن العدة للحداد وبراءة الرحم تبعا ، فإذا انتهت العدة وانقضت أيامها فلا جناح عليكم أيها الأولياء والمشرفون على النساء فيما فعلن في أنفسهن من الزينة والخروج من البيت والتعرض لخطبة الرجال بالمعروف شرعا ، أى : من غير مخالفة للشرع ، واللّه بما تعلمون خبير وبصير.
ويؤخذ من هذه الآية حيث نفى الحرج عن الأولياء والحكام فيما لو فعلت النساء شيئا بالمعروف الشرعي : أن الحكام والأولياء وكل من له شأن مؤاخذ ومعاقب على خروج النساء وتهتكها وفعلها على المعروف شرعا فإن ذلك مما يقوض الأمة ويفنى الجماعة.(1/152)
ج 1 ، ص : 153
ألا ترى إلى قوله تعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ [الأحزاب 59] حيث أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك ولم يأمر النساء ، وهذا مما يؤيد أننا - نحن الرجال - مؤاخذون بعمل نسائنا.
خطبة المتوفى زوجها وآدابها [سورة البقرة (2) : آية 235]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
المفردات :
عَرَّضْتُمْ التعريض : أن تفهم المخاطب المقصود بلفظ لم يوضع له وهذا المقصود يحتمله الكلام على بعد بقرينة. خِطْبَةِ الخطبة : من الخطاب ، أو الخطب : وهو الشأن العظيم ، وهي طلب الرجل المرأة للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس.
أَكْنَنْتُمْ الإكنان : الإضمار في النفس. سِرًّا : نكاحا. وَلا تَعْزِمُوا العزم : القصد الجازم ، والنهى عن العزم نهى عن الفعل من باب أولى ، والمراد :
لا تقربوا عقد عقدة النكاح.
المعنى :
المرأة المطلقة طلاقا رجعيا لا يصح مطلقا التعريض لها بالخطبة لأنها في عصمة زوجها ما دامت في العدة ، أما المرأة المتوفى عنها زوجها - ويقاس عليها المطلقة طلاقا بائنا -(1/153)
ج 1 ، ص : 154
فقد أباح الشرع الشريف أن يعرّض الرجل لها بأمر الزواج تعريضا لا صراحة فيه ، أو يضمر في نفسه أمر زواجه بها لأن هذا أمر طبيعي في النفس ولذلك قرنه اللّه بما يبين وجه الرخصة حيث قال : عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ في أنفسكم وضمائركم ويشق عليكم أن تتموا مثل هذا فاذكروهن ، ولكن لا تواعدوهن النكاح صراحة ، فهو مما يضر ولا يليق بكم أدبيّا وذوقيّا في حال من الأحوال إلا في حالة أن تقولوا قولا معروفا غير منكر شرعا ، وهو ما يعهد مثله بين الناس المهذبين من القول العف والإشارة الخفية كما فعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع أم سلمة بعد وفاة زوجها حيث ذكر لها منزلته عند اللّه.
ولا تعزموا على عقدة النكاح حتى يبلغ المكتوب أجله ، فقد كتب اللّه وفرض على المرأة العدة لزوجها أربعة أشهر وعشرا ، واعلموا أن اللّه يعلم ما في أنفسكم من السر وأخفى فاحذروه ، واعلموا أن اللّه غفور رحيم لما فرط منكم من الذنب ، حليم لا يعجل بالعقوبة.
ما يؤخذ من الآية :
(أ) لا يصح التصريح بالزواج للمعتدة.
(ب) حرام العقد عليها قبل استيفاء العدة مراعاة لحقوق الزوجية ولطهارة الرحم.(1/154)
ج 1 ، ص : 155
المطلقة قبل الدخول وما يجب لها [سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
المفردات :
الجناح : الإثم ، والمراد : لا شيء عليكم. تَمَسُّوهُنَّ : تجامعوهن.
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أى : فرضا وهو المهر. الْمُوسِعِ : الغنى.
الْمُقْتِرِ : الفقير. قَدَرُهُ : مقداره.
سبب النزول :
روى أنها نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها ، فنزلت هذه الآية ، فقال له النبي : « أمتعها ولو بقلنسوتك » .
المعنى :
أيها الأزواج إن طلقتم النساء قبل الدخول بهن وقبل أن تحددوا لهن صداقا فلا شيء(1/155)
ج 1 ، ص : 156
عليكم من الصداق ومهر المثل ، ولكن يجب عليكم المتعة : وهي عطاء يعطيه الزوج للمطلقة جبرا لخاطرها ، أما مقدارها فيرجع إلى حالة الزوج من غنى وفقر ، والمتعة عند بعض الفقهاء حق واجب للمرأة التي يجب لها شيء من الصداق ، وتستحب لسائر المطلقات بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة ، وهذا الحق على الذين يحسنون المعاملة.
وإذا طلقت المرأة قبل الدخول بها وقد سمى لها صداق فيجب لها نصفه تأخذه في كل حال إلا أن تعفو المطلقات أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الولي ، وعفوكم أقرب للتقوى وقيل المراد : إلا أن يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج ، والمراد بعفوه : أن يتنازل عن نصف الصداق الذي أعطاه للزوجة قبل الدخول بها عند العقد.
ولا تنسوا الفضل بينكم بالإحسان والمعاملة الطيبة ، وأن العفو خير لكم جميعا واللّه بما تعملون بصير فيجازى كلا على حسب نيته وعمله.
المحافظة على الصلاة [سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
المفردات :
حافِظُوا : داوموا عليها بإتقان. الْوُسْطى : المتوسطة ، أو الفضلى ، والمراد بها : صلاة العصر على الأصح. قانِتِينَ : ذاكرين اللّه في القيام مداومين على الضراعة والخشوع.
المعنى :
الصلاة عماد الدين والركن العملي الأول الذي يكرر في اليوم خمس مرات لما لها من الأثر(1/156)
ج 1 ، ص : 157
الفعال في تطهير النفس ، وهي كالبئر يغتسل منه المصلى خمس مرات في اليوم والليلة فهل يبقى عليه من درن ؟
ولهذا كله أمرنا بالمحافظة عليها ، ووضعها بين الأحكام التي تتعلق بالبيوت والأسر إشارة إلى أنه يجب ألا تشغلنا البيوت وما فيها ولا أنفسنا عن الصلاة ، وللإشارة إلى أن الصلاة والاتصال باللّه مما يصفى الروح ويزيل كدرتها التي كثيرا ما تكون سببا في أزمات تقع في الأسرة وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ حافظوا على الصلاة مطلقا تحفظكم من كل هم وغم وتحفظكم من الفحشاء والمنكر خاصة الصلاة الوسطى وهي العصر
لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الأحزاب : « شغلونا عن الصلاة الوسطى : صلاة العصر » .
ووقت صلاة العصر كما يقولون وقت وسط بين وقتى الظهر والمغرب فهي متوسطة بهذا المعنى. وقوموا للّه خاشعين ذاكرين للّه دون سواه.
وللإشارة إلى خطر الصلاة وأنه لا يصح لمسلم أن يتركها لعذر قيل ما معناه :
لا عذر في ترك الصلاة حتى في حال الخوف على النفس أو المال أو العرض ، بل صلوا على أى كيفية راكبين أو ماشين سائرين أو واقفين على أى وضع كان ، فإذا زال الخوف فاذكروا اللّه في الصلاة كما علمكم ما لم تكونوا تعلمونه من فريضة وكيفية الصلاة في حال الأمن والخوف.
حق المتوفى عنها زوجها [سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)(1/157)
ج 1 ، ص : 158
المعنى :
والذين يشرفون منكم على الموت ويتركون أزواجا يجب عليهم أن يوصوا وصية لأزواجهم متاعا مستمرا إلى نهاية الحول ، على معنى أنه يجب على الورثة من باب الأدب والذوق ألا يخرجوا المتوفى عنها زوجها قبل مضى السنة ، وعلى ذلك فلها سنة ينفق عليها من مال زوجها المتوفى ، فإن خرجت بعد مضى العدة من نفسها فلا جناح عليكم يا أيها الورثة فيما تفعله في نفسها من الخروج والزينة ما دام لا يتنافى مع الشرع ، واللّه عزيز لا يغالب ، حكيم في كل أمر.
وللمطلقات مطلقا المتعة ، وهي ما اتفق عليه الزوجان على حسب قدرتهما ، فإن اختلفا قدرها القاضي ، وهذا حكم يشمل المطلقات المدخول بهن وغير المدخول بهن.
وإن اختلف من حيث الوجوب والندب وهذا حق على المتقين للّه ، مثل ذلك البيان السابق يبين اللّه لكم آياته المحكمة التي تدفعنا إلى الخير في الدنيا والآخرة لعلنا نتدبر ونتعقل.
كيف تحيا الأمم [سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)(1/158)
ج 1 ، ص : 159
المفردات :
أَلَمْ تَرَ : استفهام تعجيب وتشويق إذ الاستفهام الحقيقي محال على اللّه.
حَذَرَ الْمَوْتِ : خوفه. يُقْرِضُ اللَّهَ المراد : يتصدق لوجه اللّه. فَيُضاعِفَهُ لَهُ : يضيف له مثله ومثله.
المعنى :
ألم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم وأوطانهم لما لحقهم العدو وحاربهم ؟
خرجوا وهم كثرة تعد بالألوف حذر الموت وهوله ، ما دفعهم إلى هذا إلا الجبن والخور وعدم الإيمان باللّه ورسله ، ولما خرجوا فارين قال لهم : موتوا ، حيث مكن للعدو منهم فأذلهم ، وما كان تمكين العدو فيهم إلا بسبب جبنهم ، ولقد أذاقهم العدو العذاب وأحسوا بخطئهم الفاحش فكان هذا داعيا إلى تكتلهم وإقبالهم على قتال عدوهم متعاونين باذلين النفس والنفيس ، فهم قد ماتوا زمنا ثم أحياهم اللّه ، وهكذا سنة اللّه في الأمم ولن تجد لسنة اللّه تبديلا.
إن اللّه لذو فضل على الناس بابتلائهم بالعدو والشدائد التي تصهرهم وتميز الطيب من الخبيث منهم فحقّا « الحوادث تخلق الرجال » والحوادث تخلق الأمم ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون اللّه على ذلك بل يعدون هذا نقمة عليهم.
وتشير الآية الكريمة إلى أن موت الأمم غالبا له سببان : الجبن وضعف العزيمة.
والثاني : البخل وعدم الإنفاق ، ولذلك قرن اللّه - سبحانه وتعالى - الآية السابقة بقوله : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ولقد رغب اللّه في الإنفاق ، إذ عبر بالقرض عن الإنفاق ، من يقرض اللّه الذي له خزائن السموات والأرض والذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، يضاعف له في ثوابه أضعافا كثيرة لا يعلم عددها إلا اللّه ومن أصدق من اللّه حديثا.
واللّه - سبحانه - يوسع في الرزق لمن يشاء مهما أنفق في سبيل اللّه ، ويضيق في الرزق على من يشاء مهما أمسك عن الإنفاق فأمر المال والدنيا في يده وإليه المرجع والمآب ، فاعملوا أيها المؤمنون فسيرى اللّه عملكم ورسوله وستردون إلى عالم الغيب والشهادة.(1/159)
ج 1 ، ص : 160
قصة طالوت وجالوت [سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 252]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا
أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)(1/160)
ج 1 ، ص : 161
المفردات :
أَلَمْ تَرَ : تركيب فيه استفهام ونفى ، وترجمته : يجب أن ينتهى علمك إلى الملأ. الْمَلَإِ : اسم للجماعة من الناس ، كالقوم والرهط ، سموا بذلك لأنهم(1/161)
ج 1 ، ص : 162
يملؤون العيون رهبة إذا اجتمعوا. اصْطَفاهُ : اختاره. بَسْطَةً : سعة.
التَّابُوتُ : الصندوق المحفوظ فيه التوراة ، ويروى أنه مصنوع من خشب مموه بالذهب
. سَكِينَةٌ : فيه شيء تسكن به قلوبكم وتطمئن له. بَقِيَّةٌ الظاهر أنها قطع الألواح وعصا موسى وعمامة هارون. فَلَمَّا فَصَلَ أى : انفصل بهم عن البلد. مُبْتَلِيكُمْ : ممتحنكم. يَطْعَمْهُ : يذقه.
المعنى :
ألم ينته علمك إلى القوم من بنى إسرائيل ؟ وقد وجدوا بعد موسى - عليه السلام - حين قالوا لنبيهم ، ولم يسمه القرآن ، وقيل : إنه (صمويل) حين قالوا له : اختر لنا قائدا يقود زمامنا ، ولا شك أن طرد العدو من البلاد قتال في سبيل اللّه.
ولكن نبيهم قد عرفهم معرفة المجرب الحكيم ، فقال لهم : يا قوم أتوقع منكم عملا يخالف أقوالكم ، والزمان كفيل بتصديق نظريتى أو تكذيبها ، قالوا ردا عليه : وما لنا ألا نقاتل في سبيل اللّه ؟ أى شيء دهانا واستقر عندنا حتى لا نقاتل في سبيل اللّه ؟ وهذا هو مقتضى القتال حاصل فقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ومنعنا من أبنائنا.
فلما فرض عليهم القتال كما طلبوا لم تكن الحوادث قد عركتهم ولم تكن نفوسهم طاهرة صادقة ، ولم تكن أرواحهم قد ملئت بالنور والإيمان كما فهم فيهم نبيهم ، ولذا تولوا وأعرضوا إلا قليلا منهم ، وانتحلوا المعاذير وعللوا أنفسهم بالتعاليل. وهكذا الأمم الميتة ، واللّه عليم بالظالمين لأنفسهم بتركهم الجهاد في سبيل اللّه دفاعا عن وطنهم وردّا لحقهم المغصوب.
وهذا تفصيل لما وقع بين النبي - عليه السلام - وبين قومه حين طلبوا منه ملكا عليهم.
وقال لهم نبيهم : إن اللّه قد اختار لكم طالوت ملكا وقائدا فانظر إلى الأمم الضعيفة التي لم تشب بعد عن طوق الصبيان في التفكير فهي تشغل نفسها بالعرض عن الجوهر والشكل عن الموضوع أين هذا من الصحابة الأجلاء - رضى اللّه عنهم أجمعين - وقد(1/162)
ج 1 ، ص : 163
أمر عليهم أسامة بن زيد وهو شاب حدث ، وفي الجيش أبو بكر وعمر وعلى وغيرهم!! ألا حيّا اللّه البطولة والرجولة!! وها نحن الآن نشغل أنفسنا برئيس الوزراء شغلا أكثر من شغلنا بأنفسنا ولا علينا بعد هذا شيء أقام الغاصب في بلادنا قرنا أم قرنين!! بما ذا رد هؤلاء القوم على نبيهم ؟ قالوا متعجبين لقصور عقولهم : كيف يكون ملكا علينا ؟ ونحن أحق بالملك والرياسة منه إذ فينا الملك قديما ، وطالوت فقير ليس غنيّا.
كأنهم فهموا أن الملك حق يورث وأن الغنى شرط أساسى فيه ، فقال لهم نبيهم : إن اللّه قد اختاره واصطفاه وما عليكم إلا الامتثال فاللّه لا يختار إلا ما فيه الخير لكم وقد زاده اللّه بسطة في العلم حتى يكون واسع الإدراك نافذ البصيرة ، وبسطة في الجسم حتى يقوى على القيادة وأعمال الحرب وحتى يكون مهابا يملأ العين والنظر ، واللّه - سبحانه - يؤتى ملكه من يشاء فلا اعتراض عليه وهو أعلم بخلقه من يستحق ومن لا يستحق.
لم يقتنع القوم بما ساق لهم نبيهم من الحكمة في اختيار طالوت ملكا عليهم وظلوا معاندين ، فأوحى اللّه إليه أن يسوق دليلا ماديا على صحة ملكه وقيادته ، وآية ملكه أن يأتيكم التابوت - وقد كان له شأن في بنى إسرائيل عظيم ولما فرطوا أخذ منهم زمنا ثم جعل لهم نبيهم عودته في بيت طالوت دليلا من اللّه على صحة الملك - وفيه سر تسكن إليه نفوسكم وتطمئن إليه ضمائركم ، خاصة عند ما تحملونه في القتال وفيه بقية مما ترك موسى وهارون ، وسيأتى محمولا من الملائكة تشريفا وتكريما له ، أفلا يدل كل هذا على أن اللّه اختار طالوت قائدا لكم ولكنهم اليهود قديما وحديثا هكذا يفعلون!! إن في ذلك القصص لعبرة وعظة وأى عبرة وعظة ؟ !! وفيه آية لكم أيها المخاطبون في عصر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حيث يقص عليكم هذا القصص وهو نبي عربي أمى لم يقرأ ولم يكتب فمن أين له هذا ؟ ! وإذا علمت ما تقدم فلما انفصل طالوت بالجنود أراد أن يختبرهم بشيء ليعلم صدق نيتهم في القتال وهكذا القائد الحكيم إذ ظن في جنده ظنّا فاختبرهم ليقف على حالهم.
فقال لهم : إن اللّه مختبركم - وهو الأعلم بكم - بنهر يعترضنا في الطريق ، فمن شرب منه فليس من أتباعى وأشياعى ، ومن لم يتذوقه فإنه من حزبى وأنصارى إلا من(1/163)
ج 1 ، ص : 164
اغترف غرفة بيده ، فكانت نتيجة الاختبار أن شربوا منه جميعا إلا قليلا منهم (إن الكرام قليل). وهكذا من يحكم عقله في هواه ويؤمن باللّه ، فئة قليلة العدد كثيرة الإيمان والخطر ، فأنت ترى أن مراتب الناس ثلاثة : منهم من شرب وعب بفمه ، ومنهم من لم يتذوقه أصلا ، ومنهم من اغترف بيده غرفة.
فلما جاوز النهر هو والذين معه من المؤمنين الصادقين (أما غيرهم فقد استهواهم الماء العذب فأخذوا يشربون ويطربون ثم لحقوا بهم آخر الأمر).
قال بعض الجيش ممن شرب لما رأى جند الأعداء وكثرة عددهم وتفوقهم : لا قدرة لنا اليوم ولا طاقة بمحاربة الأعداء ومناضلتهم فضلا عن التغلب عليهم ، وقال المؤمنون الذين يظنون أنهم ملاقو اللّه فمجازيهم على أعمالهم الذين ينتظرون إحدى الحسنيين : إما شهادة في سبيل اللّه ، وإما نصر على الكافرين ، فإن عاشوا عاشوا آمنين وإن ماتوا ماتوا شهداء مكرمين.
قالوا : لا تغرنكم أيها القوم كثرتهم ، فكثيرا ما غلبت فئة قليلة العدد فئة كثيرة العدد غلبت بقوة إيمانها وإرادة ربها ، وإذنه واللّه مع الصابرين بالتأكيد والمعونة وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ، إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا.
ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لجالوت وجنوده وشاهدوا أمامهم من العدد والعدد وحانت ساعة الالتجاء إلى اللّه حقيقة حيث تتلاشى قوة البشر قالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وهنا تجلت عظمة اللّه وقدرته بأجلى مظهر حتى يعتبر الناس ويتعظوا.
هزمت الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن اللّه وإرادته وقتل داود (و كان فتى في الجيش قويّا جلدا) جالوت ، وآتاه اللّه الملك والحكمة وعلمه مما يشاء من العلوم إنه على كل شيء قدير.
والحرب سنّة طبيعية في الخلق من يوم أن اقتتل ابني آدم وهي على ما فيها من ضرر وخطر لا تخلو من نفع وخير إذ لو لا أن اللّه يدفع الناس بعضهم ببعض ، ويسلط جماعة على جماعة لفسدت الأرض وعمت الفوضى ، وانتشر الظلم وهدّمت أماكن العبادة التي يذكر فيها اسم اللّه ، ولكن اللّه ذو فضل على الناس جميعا حيث يسلط على الظالم من يبيده ويهلكه ، فإذا نبت ظالم آخر أرسل له من يفتك به ، وهكذا ينصر اللّه رسله بالغيب.
تلك آيات اللّه نتلوها عليك يا محمد دالة على صدقك وأنك رسول اللّه وخاتم الأنبياء والمرسلين ، واللّه أعلم.(1/164)
ج 1 ، ص : 165
درجات الأنبياء وطبيعة الناس في اتباعهم [سورة البقرة (2) : آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)
المفردات :
الْبَيِّناتِ : الآيات الواضحات الدالات على رسالته. وَأَيَّدْناهُ : قويناه.
بِرُوحِ الْقُدُسِ : هو جبريل - عليه السلام - وقيل : المراد روحه ، على معنى :
وأيدناه بالروح المقدسة ، أى : الطاهرة.
ضرب اللّه الأمثال وقص بعض القصص وختم ذلك بقوله - تعالى - : تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
ثم استأنف كلاما جديدا يظهر به فضل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على الأنبياء مع تسليته ببيان طبائع الناس في اتباع الأنبياء قديما وحديثا.
المعنى :
أشار القرآن الكريم إلى من تقدم الكلام عليهم من الرسل الكرام بإشارة البعيد لعلو مكانتهم وسمو درجتهم ، وقد فضل بعضهم على بعض بتخصيصه بمفخرة ليست لغيره.(1/165)
ج 1 ، ص : 166
منهم من شرفه بالكلام مشافهة كموسى - عليه السلام - : وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [سورة النساء آية 164]. وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [سورة الأعراف آية 143].
ورفع بعض الأنبياء على من عداه درجات في الفضل والشرف - اللّه أعلم بها - وآتى اللّه عيسى ابن مريم الآيات الواضحات : كتكليمه في المهد وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وأيده بروح القدس جبريل مع روحه الطاهرة ونفسه الصافية.
وإنما خص عيسى - عليه السلام - بهذه الأوصاف لاختلاف اليهود والنصارى فيه ، فاليهود حطت من شأنه واتهمته واتهمت أمه ، والنصارى رفعته إلى درجة الألوهية ، فقيل ردا عليهم ولبيان أنهم فرّطوا وأفرطوا : عيسى ابن مريم مرّ بأدوار الطفولة والحمل وغيره يأكل ويشرب ، أفيليق أن يكون إلها ؟ ، ولكنه مؤيد من عند اللّه بالآيات الواضحات وروح القدس ولذا تكلّم في المهد إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [سورة المائدة آية 110] فهو نبىّ مرسل كريم على اللّه فلا يليق بكم أيها اليهود أن تنالوا منه وتحطوا من شأنه.
أما من رفعه إلى درجات الفضل فالظاهر أنه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لعموم رسالته وأنه أرسل رحمة للعالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين وأن معجزته القرآن ، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم « بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجدا ، وتربتها طهورا ، ونصرت بالرعب من مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، وأعطيت الشفاعة » .
والذي يؤيد هذا أن القرآن خاطب أمم الأنبياء ولم يكن هناك إلا أمة اليهود والنصارى والمسلمين فهذا موسى نبي اليهود ، وهذا عيسى ، وبقي الفرد العلم الذي لا يحتاج إلى ما يعيّنه والذي رفعه اللّه درجات ودرجات ولا حرج على فضل اللّه.
ولو شاء اللّه عدم قتال الذين جاءوا من بعد الرسل من بعد ما جاءتهم البينات والمعجزات ما اقتتلوا ، ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنه خلق الإنسان وكرّمه بالعقل والإدراك ، وكل إنسان يختلف عن الآخر ، ولم يجعل قبول الدين ومبادئه بالطبيعة والفطرة من غير تفكير ونظر ، وإلا لكان الناس أمة واحدة كلهم مؤمنون أو كلهم كافرون ، ولهذا اختلفوا اختلافا بينا في قبول الدين ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر.(1/166)
ج 1 ، ص : 167
فاقتضت الحكمة الإلهية مشيئة اقتتالهم فاقتتلوا بما ركب فيهم من دواعي الاختلاف والشقاق.
ولو شاء عدم قتالهم بعد اختلاف ميولهم ونزعاتهم ما اقتتلوا ، ولكن اللّه يفعل ما يريد ويحكم بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، وهو على كل شيء قدير وهو العزيز الحكيم.
وقد اختلف اليهود واقتتلوا ، وكذلك النصارى ، وها هم المسلمون بعد أن كانوا يدا واحدة أصبحوا فرقا متنازعين متقاتلين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [سورة النساء آية 59].
في الحث على الإنفاق [سورة البقرة (2) : آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
المفردات :
(بيع) البيع المراد به : الكسب بأى نوع من أنواع المبادلة والمعاوضة. خُلَّةٌ الخلة : الصداقة والمحبة ، والمراد لازمها من الكسب كالصلة والهدية والوصية.
شَفاعَةٌ الشفاعة : المراد لازمها من الكسب.
المعنى :
سبق أن تعرض القرآن الكريم للإنفاق بأسلوب فيه لطف كثير وبلاغة لقوم يؤثر فيهم(1/167)
ج 1 ، ص : 168
أمثال هذا الكلام مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً « 1 » وهناك من يفعل الخير خوفا من عقابه وطلبا لثوابه ، فهؤلاء خوطبوا بتلك الآية وأمثالها.
يا أيها الذين آمنوا واتصفوا بهذا الوصف العالي وهو الإيمان : بادروا إلى الإنفاق في سبيل اللّه مما تناله أيديكم ابتغاء مرضاة اللّه وطلبا لرضوانه ، وأنتم الآن في فسحة من العمل وغدا سيأتى يوم لا تتمكنون فيه من الإنفاق أصلا مع أنه مطلوب إذ لا بيع في ذلك اليوم ولا شراء ولا كسب بأى نوع من أنواع المبادلة ، ولا يوجد ما يناله الإنسان من الصداقة والخلة والشفاعة ، فهذا هو يوم الجزاء والثواب والعقاب يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، يوم يظهر فيه فقر العباد إلى الواحد القهار والكافرون نعمة اللّه الجاحدون حقوق المال المشروعة هم الظالمون لأنفسهم فقط ، هم الذين يمهدون للأفكار السامّة والمذاهب الهدامة حتى تغزو الشرق المسلم ، ألم يقل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم
« حصنوا أموالكم بالزكاة » « 2 »
ولا حصن لها أقوى من أن يعرف الفقير أن له حقّا معلوما في مال الغنى.
والمراد الإنفاق الواجب بدليل الوعيد الشديد ، والدين يطالب بإنفاق القليل مما جعلكم مستخلفين فيه ، فإنه ما آل إليكم إلا بعد أن خرج من يد غيركم أساءوا التصرف فيه ولم يحصنوه ، فكانوا كافرين بنعمة اللّه ظالمين لأنفسهم.
أمن الحكمة أن يرى الأغنياء الأمة وقد تكاتفت عليها الأعداء الثلاثة من فقر وجهل ومرض ، ثم هم يبذّرون المال ذات اليمين وذات اليسار في الخارج وعلى موائد القمار وفي الليالى الحمراء ويعرف الجميع هذا ؟ ثم يقول الناس : إنهم يحاربون الأفكار الهدامة كالشيوعية وغيرها.
لا يا قوم إن أسلحة الحرب لهؤلاء الأعداء هي القوانين الإسلامية والحدود الشرعية ، والإنفاق في سبيل اللّه أمضى سلاحا وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ « 3 » .
___________
(1) سورة البقرة آية 245.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 382.
(3) سورة البقرة آية 272. [.....](1/168)
ج 1 ، ص : 169
آية الكرسي [سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
المفردات :
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ : لا معبود بحق في الوجود إلا هو. الْحَيُّ : ذو الحياة وهي مبدأ الشعور والإدراك والنمو والحركة ، والمراد هنا بالحياة مبدأ العلم والإرادة والقدرة. الْقَيُّومُ : دائم القيام بتدبير خلقه وحفظهم ورعايتهم. سِنَةٌ السنة :
ما يتقدم النوم من الفتور. نَوْمٌ النوم : حالة تعرض للحيوان تمنع من الحس والشعور. كُرْسِيُّهُ الكرسي : ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد.
يَؤُدُهُ : يثقله ويشق عليه.
المعنى :
اللّه لا إله يعبد بحق في الوجود إلا هو ، إذ الإله الحق هو الذي يعبد بحق وهو واحد ، والآلهة التي تعبد بغير حق كثيرة جدّا ، فاللّه منفرد بالألوهية موصوف بالحياة الأبدية ، واجب الوجود ، الحىّ الذي لا يموت ، القائم بذاته على تدبير خلقه ، المخالف لهم في كل صفاتهم مما يعترى الحوادث ، لا تغلبه ولا تستولى عليه سنة ولا نوم ، مالك الملك(1/169)
ج 1 ، ص : 170
والملكوت ذو العرش والجبروت ، له ما في السموات والأرض ، ذو البطش الشديد ، فعال لما يريد ، يوم يأتى لا تكلم نفس إلا بإذنه ، من ذا الذي يشفع عنده إلا بأمره ، فعال لما يريد ، يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ، من ذا الذي يشفع عنده إلا بأمره ، والمناعة ؟ العالم وحده بالخفيات يعلم الكليات والجزئيات ، ولا يطلع على علمه أحدا إلا من شاء ، ولا يحيط بعلمه أحد إلا بما شاء ، و
لقد صدق الخضر - عليه السلام - فيما روى عنه إذ قال لموسى - عليه السلام - حيث نقر العصفور في البحر : « ما نقص علمي وعلمك من علم اللّه إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر » .
واسع الملك والقدرة ، والأرض جميعا في قبضته والسموات مطويات بيمينه ، فلا الكرسي ولا القبضة ولا اليمين وإنما هو تصوير وتمثيل لعظمته ، وقدرته ، وتمام ملكه وسعة علمه ، سبحانه وتعالى!! لا يشغله شأن عن شأن ولا يشق عليه أمر دون أمر ، متعال عن الأوهام والظنون القاهر لا يغلب ، العظيم لا تحيط به الأفهام والعقول ، جل شأنه لا يعرف كنهه إلا هو - سبحانه وتعالى - وهذه آية الكرسي وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة ،
روى عن على بن أبى طالب : سمعت نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم على أعواد المنبر وهو يقول : من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه اللّه على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله.
الدخول في الدين والولاية على الناس [سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)(1/170)
ج 1 ، ص : 171
المفردات :
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ : لا جبر ولا إلجاء على الدخول في الدين. الرُّشْدُ :
رشد يرشد رشدا إذا بلغ ما يجب ، والرّشد : الهدى ، ومثله الرشاد مستعمل في الخير ، وضده الغىّ ، يقال : غوى يغوى : إذا ضل في معتقد أو رأى. بِالطَّاغُوتِ من الطغيان : مجاوزة الحد في الشيء ، ويطلق على الشيطان ، وعلى كل ما يعبد من دون اللّه لأنه أساس الطغيان ومجاوزة الحد. بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى العروة من الدلو والكوز : المقبض ، ومن الشجر : الملتف ، والوثقى : مؤنث الأوثق ، وهو ما يعول الناس عليه عند المحل والأقرب أن يراد بالعروة الوثقى الشجر الملتف فهي التي لا ينقطع مددها عند القحط والجدب. لَا انْفِصامَ لَها : لا انقطاع لها. وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا : يتولى أمورهم بالرعاية والعناية.
سبب النزول :
روى أن أبا الحصين من بنى سالم بن عوف كان له ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قدما إلى المدينة فلزمهما أبوهما وقال : لا أدعكما حتى تسلما ، فاختصما إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقال أبوهما : أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ؟ فنزلت الآية ، فخلّى سبيلهما.
المعنى :
بعد ذكر هذه الصفات الجليلة التي لا تكون إلا للّه الواحد الأحد والنعوت الموجبة للإيمان به وحده ، لا يصح أن يكون هناك إلجاء وقسر على الدخول في الدين أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99 من سورة يونس) ، الآن حصحص الحق وظهر ، وتبين الرشد من الغي ووضح ، فلا إكراه ولا إلجاء لأن الإيمان اعتقاد قلبي ولا سبيل لأحد على قلوب الناس وقد وضحت الآيات الدالات على صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيما يدعيه عن ربه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فقولهم : إن الإسلام قام بالسيف دعوى باطلة إذ المسلمون قبل الهجرة كانوا يخفون صلاتهم ولا يقدرون على مجاهرة الكفار ، وقد نزلت هذه الآية بعد الهجرة بثلاث سنين تقريبا وهي تثبت أنه لا إكراه في الدين.(1/171)
ج 1 ، ص : 172
وما حصل من الحرب فهو من النوع الدفاعى حتى يكف المشركون عن فتنة المسلمين ويتركوا الناس أحرارا ، ولذلك رضى المسلمون بإظهار الإسلام أو دفع الجزية وفتح مصر وبعض البلاد بالسيف كان لإيصال حجة الإسلام إلى الشعب بدون إكراه بدليل قبول الجزية أو الدخول في الإسلام فمن يكفر بالأصنام وكل ما يعبد من دون اللّه ويؤمن باللّه الواجب الوجود فقد بالغ في التمسك بالعروة الوثقى المأمون انقطاعها ، فكأنه يقول : إن المبالغ في التمسك بهذا الحق والرشد كمن يأوى بإبله إلى ذلك الشجر الملتف الكثير الذي لا ينقطع مدده ولا يفنى غذاؤه والإيمان باللّه مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب ، ولذا كان تذييل الآية : سميع بالأقوال ، عليم بالمعتقدات والأفعال.
اللّه ولى الذين آمنوا يتولى أمورهم ويهديهم طريقهم ، ولا ولى لهم ولا سلطان لأحد على اعتقادهم إلا المولى - جل شأنه - فهو يرشدهم إلى الصراط المستقيم ويخرجهم من ظلمات الشك والشبهة إلى نور العلم والمعرفة واليقين والذين كفروا باللّه ورسوله أولياؤهم الطاغوت ، فإن مس قلوبهم شيء من نور اليقين والتوفيق أسرع الشيطان وما يعبدونه - إن كان حيا أو سدنته وخدمه إن كان صنما - أسرعوا جميعا إلى إزالة النور والحق وإخراج الكفار من النور إلى ظلمات الكفر والنفاق والشك والضلال ، أولئك الذين بعدوا جدا في الضلال وأولئك أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون.
من غرور الكافرين باللّه أو قصة نمرود [سورة البقرة (2) : آية 258]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)(1/172)
ج 1 ، ص : 173
المفردات :
أَلَمْ تَرَ : تركيب فيه استفهام ونفى ، والمعنى : يجب أن ينتهى علمك إلى الذي حاج فإن أمره من الظهور بحيث لا يخفى على أحد من المخاطبين. فَبُهِتَ : تحير ودهش.
المعنى :
اللّه ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، وهاك بعض القصص التي تثبت ذلك بوضوح.
ألم ينته علمك أيها المخاطب إلى الذي أعطاه اللّه الملك فلم يحسن الشكر بل أبطرته النعمة وجعلته يطغى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ « 1 » فما كان سببا في الطاعة جعل سببا في المعصية ، هذا نمرود اتخذ الطاغوت وليّا وحاج إبراهيم - عليه السلام - في ربه حيث قال له : من ربك الذي تدعو إليه ؟ قال إبراهيم : ربي الذي يفيض على الخلق نعمة الحياة والموت فهو الذي يحيى ويميت ، أى : ينشئ الحياة والموت ، فما كان منه إلا أن قال : أنا أحيى بعض الخلق بالعفو عنهم وأميت البعض الآخر بالقتل وأحضر رجلين عفا عن أحدهما وقتل الآخر ، وهذا كلام لا يعبأ به ولا يلتفت إليه ، إذ المراد إنشاء الحياة وتكوينها لا التسبب فيها ، لذا مثل له بمثال أوضح وأظهر فقال : ربي أبدع الكون ونظمه وجعل الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب فأت بها أنت أيها المغرور المدعى من المغرب إن كنت قادرا على ذلك ؟ فغلبه إبراهيم وأسكته حتى بهت واللّه لا يهدى الظالمين لأنفسهم إلى طريق الخير أبدا لأنهم لم يتخذوا اللّه وليّا ، وهذه من الآيات على وجود اللّه.
___________
(1) سورة الواقعة آية 82.(1/173)
ج 1 ، ص : 174
قصة العزير وحماره [سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259)
المفردات :
قَرْيَةٍ القرية : الضيعة ، وفيها معنى الاجتماع. خاوِيَةٌ : خالية ، أو ساقطة. والعروش : السقوف. أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها : استبعاد منه للإحياء بعد الموت ، والمراد بالإحياء : عمارتها بالبناء والسكان ، وبموتها خرابها. لَمْ يَتَسَنَّهْ : لم يتغير. نُنْشِزُها : نرفع بعضها إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد.
المعنى :
قصة أخرى تثبت كيف يتولى اللّه بعض الخلق فيهديه إلى الطريق المستقيم.
أو رأيت إلى الذي مر على قرية وهي خالية من السكان قد سقطت حيطانها على عروشها ولم يبق بها أثر لحياة.(1/174)
ج 1 ، ص : 175
قال : مستبعدا عمارتها بعد خرابها مستعظما قدرة اللّه متشوقا لعمارتها : أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها ولما دخل القرية وهي خالية من سكانها وقال ما قال وكانت أشجارها قد أثمرت تينا وعنبا ربط حماره وأكل من ثمرها ونام.
لما حصل منه هذا أماته اللّه مائة عام ثم رد له الحياة وبعثه على سبيل السرعة والسهولة حتى كأنه كان نائما ثم استيقظ ، قيل له : كم وقتا لبثته ؟ وإنما سئل هذا السؤال ليظهر عجزه عن إحاطته بشئونه تعالى.
قال : لبثت يوما أو بعض يوم بناء على التقريب وتقليل المدة ، فقيل له : ما لبثت هذا القدر بل لبثت مائة عام ، فانظر لترى دلائل قدرتنا : انظر إلى طعامك وشرابك الذي بقي مائة عام لم يتغير ولم يفسد مع سرعة فساد أمثاله ، وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتقطعت أوصاله لترى كيف تطاول الزمن عليك وعليه وأنت نائم ، فعلنا ما فعلناه لتعاين ما استبعدته من الإحياء ، ولنجعلك آية دالة على تمام قدرتنا على البعث يوم القيامة : ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. « 1 »
وانظر إلى عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء في غيرك ، فها هي العظام نرفع بعضها إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد فنركبها تركيبا وثيقا محكما ، ثم نكسوها لحما طريا يسترها كما يستر الثوب الجسد ، فلما تبين له أن اللّه على كل شيء قدير قال : أعلم أن اللّه على كل شيء قدير.
وهذا المثال من آيات اللّه الدالة على البعث [سورة البقرة (2) : آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
___________
(1) سورة الروم آية رقم 28.(1/175)
ج 1 ، ص : 176
المفردات :
بَلى : حرف يجاب به فَصُرْهُنَّ : أملهنّ إليك واضممهن.
المعنى :
مثال ثان لولاية اللّه للمؤمنين ولهدايتهم إلى الطريق المستقيم ، وهو من الآيات الدالات على البعث ، وإنما ذكر في القرآن مثالان للبعث ومثال لوجود اللّه لأن منكري البعث أكثر من منكري وجود اللّه.
واذكر وقت قول إبراهيم : رب أرنى كيف تحيى الموتى وقد تأدب مع مولاه أدبا يليق به حيث بدأ سؤاله برب الذي يشعر بالعناية والتربية لخلقه ، قال - تعالى - له وهو أعلم به : ألم يوح إليك ولم تؤمن بذلك ؟ قال إبراهيم مجيبا : يا ربي قد أوحيت إلىّ وآمنت بذلك ولكن تاقت نفسي وتطلعت لأن تقف على كيفية الإحياء للموتى ليطمئن قلبي بمشاهدة العيان مع الوثوق والإيمان ، ولا غرابة في ذلك فكلنا يؤمن بالأثير وعمله في نقل الأخبار والصور ، وكثير منا لا يعرف كيفية ذلك وتتوق نفسه للمعرفة.
وفي رد اللّه عليه بقوله : أو لم تؤمن ؟ إشارة إلى أن الإنسان لا يكلف بأكثر من الإيمان بأخبار الغيب الصادرة عن المولى - جل شأنه - في ذاته وصفاته ويوم القيامة وغيره.
قال تعالى : فخذ يا إبراهيم أربعة من الطير فأملهن إليك وضمهن وقطعهن قطعا ثم اجعل عل كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك ساعيات كما كانت ، وهكذا يحيى اللّه الموتى ، واعلم أن اللّه عزيز حكيم. هذا رأى الجمهور في الآية ، وقد رأى بعضهم رأيا رجحه تفسير المنار ، والظاهر - واللّه أعلم - أنه المناسب بطلب إبراهيم ، وها هو الرأى :
خذ أربعة من الطير فأملهن إليك (و الطير شديد النفور من الإنسان) حتى يأنسن بك ويمتثلن أمرك ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، أى : واحدا من الطير ثم ادعهن يأتينك ساعيات ممتثلات بمجرد الدعوة ، وهكذا يحيى اللّه الموتى فيقول : كونوا أحياء فيكونوا. فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت 11] إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس آية 82].(1/176)
ج 1 ، ص : 177
الإنفاق في سبيل اللّه وآدابه وشروطه [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 264]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)
المفردات :
بِالْمَنِّ : هو أن يعتدى على من أحسن إليه ويريه أنه أوجب بإحسانه حقّا عليه. الْأَذى : أن يتطاول عليه بسبب إنعامه. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ : رد جميل تقبله القلوب ولا تنكره. رِئاءَ النَّاسِ : رياء لهم ، يفعل الفعل لأجل أن يروه فيحمدوه. صَفْوانٍ : حجر أملس. وابِلٌ : مطر شديد. صَلْداً :
أملس ليس عليه تراب.(1/177)
ج 1 ، ص : 178
الإنفاق في سبيل اللّه ركن أساسى من أسس الدين ودعامة من دعائم الدولة ، فما بخلت أمة بمالها إلا حاق بها الذل والاستعباد ، وسلط اللّه عليها الأعداء من كل جانب يتكاثرون عليها كما تتكاثر الأكلة الجياع على المائدة.
والإنفاق في سبيل اللّه واجبا كان أو مندوبا. ما دام في وجوه الخير ومحاربة الجهل والفقر والمرض ونشر الدين وخدمة العلم ، فهو مما يطلبه الدين ويحث عليه الشرع ، ولذا ترى القرآن الكريم قد تكلم عنه في عدة مواضع وحث عليه بأساليب شتى وضرب الأمثال ورغّب ورهّب وبيّن ووضّح.
المعنى :
مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه ولإعلاء كلمته وإسعاد الوطن وأهله كمثل حبة أنبتت سبع سيقان في كل ساق سنبلة في كل سنبلة مائة حبة ، وذلك يكون في أخصب أرض وأجود تربة وأحسن بذر ، ولا غرابة في ذلك ، فهذا القمح والأرز تنبت الحبة فيه هذا القدر.
وهذا تصوير وتمثيل للأضعاف والإضافة في الزيادة والأجر يضاعف هذه المضاعفة أو أكثر منها لمن يشاء إذ هو الواسع الفضل الغنى الكريم العليم بكل شيء.
الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه وهذا جزاؤهم في الدنيا والآخرة إنما يستحقون ذلك بشرط ألا يتبعوا ما أنفقوا منّا على الفقير بأن يعتدّ عليه بما فعل به وألا يتبعوا ما أنفقوا بالأذى والضرر فلا يتطاول عليه المنفق ويطلب جزاء عمله.
وعدم المن والأذى مطلوب منك أيها المنفق وقت الصدقة وبعدها وإذا حرم عليك بعد الصدقة فوقتها من باب أولى ، وهذا هو السر في التعبير بثم.
هؤلاء المنفقون في سبيل اللّه الذين لم يمتنّوا ولم يؤذوا أحدا لهم أجرهم الكامل عند ربهم ولا هم يحزنون وقت أن يحزن البخيل ويندم على إمساكه رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة المنافقون آية 10].
كلام جميل تهدأ به نفس السائل وتردّ به ، ومغفرة لإساءته في الإلحاف ، خير للسائل والمسئول من صدقة يتبعها أذى وضرر إذ الصدقة شرعت لتقريب الناس بعضهم من بعض(1/178)
ج 1 ، ص : 179
وتخفيف حدة الحسد والحقد بين الطبقات ، والمن والأذى يخرجها عن وضعها الصحيح ، واللّه واسع الفضل غنى لا يحتاج إلى عطاء الغنى ، بل أوجبها تأكيدا للصلة وجلبا للمحبة والتعاطف ، حليم لا يعاجل بالعقوبة لمن يستحقها.
والمن والأذى طبيعة في النفوس وغريزة في بنى الإنسان ولذا حرمهما اللّه بأن شرط في النفقة الشرعية خلوّها من المن والأذى وبيّن أن العدول عن الصدقة التي يتبعها أذى إلى قول معروف خير من تلك الصدقة.
ثم بعد هذا كله خاطب المؤمنين بوصف الإيمان ليكون ذلك أدعى للقبول والامتثال ، وحرم عليهم المن والرياء صراحة فقال : يا أيها الذين آمنوا لا تحبطوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى.
أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ليس الكريم إذا أسدى بمنّان
فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم كمن ينفق ماله للرياء والسمعة ، والمرائى يظهر للناس أنه يريد وجه اللّه ، وفي الواقع هو يريد وجه الناس ليقال عنه : إنه كريم وجواد وغير ذلك من أغراض الدنيا ، ولذا وصفه اللّه بقوله : لا يؤمن باللّه واليوم الآخر.
فمثل الذي يمن ويؤذى والذي يرائى كمثل حجر أصم عليه تراب وقد نزل عليه مطر شديد فذهب التراب وبقي الحجر أملس ، وهكذا الذي يمن أو يرائى يلبس ثوبا غير ثوبه ثم لا يلبث أن ينكشف أمره ويتهتك ستره فيكون ما تلبس به كالتراب على الصفوان يذهب به الوابل فلا يبقى من أثره شيء.
ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اكتسيت به فإنك عار
فالذي يمن أو يرائى مذموم في الدنيا من الناس أجمعين. وأما في الآخرة فلا ثواب إلا للمخلصين الذين ينفقون ابتغاء مرضاة اللّه ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا رياء ، واللّه لا يهدى القوم الكافرين.(1/179)
ج 1 ، ص : 180
مثل من ينفق للرحمن والذي ينفق للشيطان [سورة البقرة (2) : الآيات 265 الى 266]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
المفردات :
وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى : تثبيت أنفسهم وتمكينهم ، وقيل : تصديقا مبتدأ من عند أنفسهم. جَنَّةٍ الجنة : البستان ، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها ففيها معنى الاستتار. وابِلٌ : مطر كثير غزير. ضِعْفَيْنِ الضعف :
المثل. فَطَلٌّ الطل : المطر الخفيف. أَيَوَدُّ الهمزة فيه للإنكار ، ويود بمعنى يحب ويتمنى. وَأَعْنابٍ الأعناب : ثمر شجر الكرم. إِعْصارٌ : ريح عاصفة تستدير في الأرض بشدة ثم ترتفع إلى السماء حاملة الغبار. نارٌ المراد : ريح فيها برد شديد وسموم يحرق الشجر.
المعنى :
ما تقدم في الذي ينفق مع المن والإيذاء أو السمعة والرياء ، وما هنا أمثلة للذي ينفق في سبيل اللّه أو سبيل الشيطان.(1/180)
ج 1 ، ص : 181
مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء رضا اللّه وطلبا لمغفرته وتثبيتا لأنفسهم وتمكينا لها على فعل الخير ، فإن المال شقيق الروح ، وإنفاقه شاق وعسير على النفس ، فإذا أنفقت بعض المال للّه عودت نفسك على فعل الخير وثبّتّ بعضها ، أما البعض الآخر فيثبت بالجهاد بالنفس في سبيل اللّه كما قال - تعالى - في سورة الحجرات : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحجرات آية 15].
مثلهم كبستان ذي أشجار ملتفة قد كست الأرض ، وهو بمكان مرتفع متمتع بالشمس والهواء ينزل عليه المطر الغزير فيثمر ضعفين من ثمر أمثاله ، وإذا نزل عليه مطر بسيط أثمر وذلك لجودة تربته ونقاء منبته.
والمعنى في هذا التمثيل : أن المنفق للّه وفي سبيله ويقصد تثبيت نفسه على الخير كالجنة الجيدة التربة العظيمة الخصب ، فهو يجود بقدر سعته وما في يده فإن أصابه خير كثير أنفق كثيرا وإن أصابه قليل أنفق على قدر سعته ، فخيره دائم وبره لا ينقطع كالبستان يثمر مطلقا إذا نزل عليه مطر كثير أو قليل.
أما المثل الثاني : فهو لمن ينفق على عكس الأول وينفق في سبيل الشيطان ومرضاة لنفسه وهواه.
أيها المنفق لغير اللّه : أتود أن يكون لك جنة فيها النخيل والأعناب والزرع ومن كل صنف ولون تجرى من تحت جذورها الأنهار ، لك فيها من كل الثمرات التي تشتهيها وأنت رجل كبير مسن قد أدركتك الشيخوخة وأصابك ضعف الكبر ولك ذرية من ذكور وإناث ضعفاء وصغار لا يقدرون على الكسب وتصريف أمورهم ، وليس لك ولهم غير تلك الجنة ، فأصابها بأمر اللّه ريح شديد وسموم كالنار أو أشد ، أحرق الشجر وأباد الثمر وأنت في أشد الحاجة إلى نتيجة عملك وجدك في شبابك ؟ ؟ ! فمن يرضى بهذا المصير الذي ينتظر كل من ينفق للرياء أو يتبع ما أنفقه بالمن والأذى.
إن من ينفق في سبيل الشيطان يظن أنه سينتفع بنفقته ، كلا إنه كهذا المسن صاحب تلك الجنة ، يأتى يوم القيامة فلا يجد لعمله إلا الحسرة والندامة.(1/181)
ج 1 ، ص : 182
مثل ذلك البيان الواضح يبين اللّه لكم الآيات لعلكم تتفكرون وتتعظون بهذه الأمثال والمواعظ.
نوع ما ينفق منه ووصفه [سورة البقرة (2) : آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
المفردات :
طَيِّباتِ الطيب : المراد هنا الجيد الحسن. تَيَمَّمُوا : تقصدوا.
الْخَبِيثَ : الرديء.
تُغْمِضُوا : تتساهلوا ، من أغمض عينه عن الشيء حتى لا يرى عيبه.
المعنى :
يبين اللّه - سبحانه وتعالى - وصف ما ينفق منه وبيان نوعه فيفتتح الكلام بهذا النداء الذي يهز القلوب ويلفت الأنظار : يا من اتصفتم بالإيمان أنفقوا الطيب الجيد ولا تقصدوا إلى الخبيث الرديء فإن اللّه طيب لا يقبل إلا طيبا ، ولا تجعلوا للّه ما تكرهون.
وقد ورد في سبب نزول الآية ما يؤيد هذا المعنى : روى أن بعضهم كان يقصد إلى الحشف من التمر فيتصدق به فنزلت الآية ، والمعنى : أنفقوا من جياد أموالكم ولا تقصدوا الخبيث فتجعلوا صدقتكم منه خاصة دون الجيّد ، فهو نهى عن تعمد الصدقة من الخبيث دون الطيب لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران آية 92].(1/182)
ج 1 ، ص : 183
وأما نوع ما ينفق منه فهو بعض ما يجنيه المرء من عمله وجده كالتجارة والصناعة والكسب الحلال بأى نوع كان ، وبعض ما يخرج من الأرض من غلات الحبوب والزروع والمعادن والركاز (و هو دفين الجاهلين) والإنفاق هنا الظاهر أنه عام يشمل الزكاة والصدقة.
الشيطان والإنفاق [سورة البقرة (2) : الآيات 268 الى 269]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)
المفردات :
بِالْفَحْشاءِ : البخل ، والعرب تسمى البخيل فاحشا. وَفَضْلًا : رزقا وجاها في الدنيا. الْحِكْمَةَ : العلم النافع الصحيح. الْأَلْبابِ : العقول الراجحة الموفقة.
المعنى :
الشيطان عدونا من قديم أخرج أبانا آدم من الجنة وأقسم قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فالشيطان بما يوسوس للناس ويزين لهم أن الصدقة والإنفاق في سبيل اللّه يورث الفقر والحاجة (الجود يفقر والإقدام قتّال) يعدنا بالفقر ويأمرنا بالبخل ، واللّه - سبحانه وتعالى - بما أودع في بعض الناس من الميل إلى التخلق بالخلق الكامل والإنفاق على الناس وبما يأمرنا به من النفقة في الكتب المنزلة يعدنا مغفرة بسبب الإنفاق فقد جعله كفارة لكثير من الذنوب ، ويعدنا به فضلا لأن صاحبه يفضل غيره ويأسر قلبه ويشترى حبه له ، والفضل : المال والخير ، ولا شك أن المال المنفق يخلفه اللّه على صاحبه وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة سبأ آية 39].(1/183)
ج 1 ، ص : 184
وفي الصحيحين : « ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان ، يقول أحدهما :
اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا »
ولا غرابة فاللّه واسع الفضل بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء.
عن عبد اللّه بن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « للشيطان لمّة (خطرة تقع في القلب) وللملك لمّة ، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من اللّه ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان » « 1 » ، ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ
يؤتى اللّه الحكمة والعلم الصحيح النافع - وعلى الأخص فهم القرآن والدين - من يشاء من عباده الذين يحبهم ويتولاهم بعنايته ورعايته ، ومن يؤت الحكمة بهذا المعنى فقد أوتى خيرا كثيرا ، وأى خير في الدنيا والآخرة بعد توفيق اللّه وهدايته في فهم الأمور على حقيقتها وإدراك الأشياء على وضعها الصحيح ؟ وإنما يتذكر هذا أولو الألباب.
بعض أحكام الإنفاق [سورة البقرة (2) : الآيات 270 الى 271]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
المفردات :
مِنْ نَذْرٍ النذر : التزام الطاعة قربة للّه تعالى. فَنِعِمَّا هِيَ الأصل : فنعم ما هي ، بمعنى فنعم شيئا إبداؤها.
___________
(1) أخرجه البخاري كتاب الزكاة باب قول الله [فأما من أعطى واقضى ] حديث رقم 1442.(1/184)
ج 1 ، ص : 185
المعنى :
وما أنفقتم من نفقة سواء كانت للّه أو للرياء والسمعة أو أتبعت بمنّ وأذى أو لم تتبع ، أو نذرتم من نذر قربة للّه أو نذر لجاج وغضب ، فالأول : هو التزام الطاعة قربة للّه ، كقولك : للّه علىّ أن أصوم أو أتصدق مثلا بشرط أو بغير شرط ، والثاني :
كقولك : إن كلمت فلانا فعلى كذا أو كذا ، والأول يجب الوفاء به ، وفي الثاني خلاف ، قيل : يكفّر عنه كفارة يمين أو يفعل ما التزمه.
كل هذا اللّه عالم به مجاز عليه إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ، وما للظالمين من أنصار ينصرونهم يوم القيامة ، والمراد بهم هنا الذين بخلوا بالمال ولم يتصدقوا.
إن تظهروا الصدقات ويعلم بها الناس فنعم ما فعلتم ، وإن تخفوها وتكتموها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم.
والخلاصة هنا : أن إبداء الصدقة الواجبة خير بلا شك من إخفائها خصوصا في هذا الزمان فإن الناس يحتاجون إلى مرشدين عمليين يتقدمون الصفوف ويفعلون الخير قدوة للناس ، وأما المندوبة فإخفاؤها وإعطاؤها الفقراء بهذا القيد خير لأن ذلك أدعى لعدم الرياء وأحفظ لكرامة الفقير ، فإن كان لجهة عامة أو لمشروع خيرى فلا بأس من إعلانها ليكون ذلك أدعى للتسابق في الخير.
واللّه بما تعملون خبير وبصير فهو يعرف السّر وأخفى فحاذروه واخشوا عقابه ، وذلك لأن أمراض الرياء والنفقة لغير اللّه أمور قلبية لا يطلع عليها إلّا اللّه.(1/185)
ج 1 ، ص : 186
لمن تعطى الصدقة وبعض أحكامها [سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 274]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
المفردات :
هُداهُمْ : هدايتهم إلى الإسلام. أُحْصِرُوا أى : حبسوا أنفسهم للجهاد في سبيل اللّه. ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أى : سيرا فيها. التَّعَفُّفِ أى : العفة.
بِسِيماهُمْ السيما : العلامة. إِلْحافاً : بالإلحاح.(1/186)
ج 1 ، ص : 187
المعنى :
قد أطلق اللّه في الآية السابقة إيتاء الصدقة للفقراء مسلمين وغير مسلمين ، وقد أرشدنا اللّه في هذه الآية إلى عدم التحرج في إعطاء غير المسلمين بحجة عدم الاهتداء إلى الدين فإن الهداية من اللّه ، والشفقة تقتضي إعطاء الإنسان المحتاج مطلقا بقطع النظر عن دينه.
وقد ذكروا في أسباب النزول روايات كثيرة كلها تدور حول هذا ،
فعن ابن عباس - رضى اللّه عنهما - أن النبي صلّى
وإذاكان اللّه يخاطب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله : ليس عليك هدايتهم ولكن اللّه يهدى من يشاء إلى دينه فالمسلمون من باب أولى.
ولا يصح أن يكون الباعث على الإنفاق الرغبة في دخول الناس في الإسلام وإنما الباعث عليه هو أن الإنفاق لنا وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ نعم هو لنا في الدنيا إذ لا ينكر أحد ما للإنفاق من الأثر البين في جذب القلوب وسلّم السخائم والأحقاد ونشر الأمن والطمأنينة ومنع السرقة وقطع الأفكار السامة والمبادئ الهدامة ، وأما في الآخرة فجزاؤه يوفى إلينا ، ولا يصح أن يكون الإنفاق إلا في الخير ابتغاء وجه اللّه لا وجه الدنيا والشيطان ، وعلى ذلك فلا منّ ولا إيذاء لأنك ما فعلت لأحد شيئا وإنما قدمت لنفسك ما ينفعها ولا رياء ولا سمعة حيث تقصد وجه اللّه.
وما تنفقوا من مال قل أو كثر يوف إليكم أجره في الآخرة وأنتم لا تظلمون شيئا فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [سورة الأنبياء آية 47].
علم مما مر أن الإنفاق يكون للفقراء عامة ولا حرج على من ينفق على غير المسلم ، ثم بين هنا أحق الناس بالصدقة وهم الفقراء بأوصافهم.
الصفة الأولى :
الذين أحصروا في سبيل اللّه ، أى : منعوا أنفسهم من الكسب وحبسوها على الجهاد في سبيل اللّه. نزلت هذه الآية في أهل الصفة وهم فقراء المهاجرين الذين هاجروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتركوا مالهم وكان عددهم حوالى أربعمائة رجل.(1/187)
ج 1 ، ص : 188
ولم يكن لهم مأوى فكانوا يأكلون عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعند غيره ثم يبيتون في المسجد تحت جزء مسقوف يقال له الصّفّة ، وقد كان عملهم الجهاد وحفظ القرآن الكريم والخروج مع السرايا التي يرسلها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهكذا من يشاكلهم ممن حبس نفسه على الجهاد في سبيل اللّه ، فالجنود وطلبة العلم بشرط أن لا يمكنهم الكسب ممن يدخل تحت هذا.
الصفة الثانية :
لا يستطيعون سفرا ولا سيرا في الأرض للتجارة والكسب وذلك بأن يكونوا ممنوعين لعجز أو كبر أو ضرورة.
الصفة الثالثة :
يحسبهم الذي يجهل حالهم أغنياء من عفتهم وصبرهم وقناعتهم فعندهم عزة المؤمنين وتوكل المتوكلين.
الصفة الرابعة :
تعرفهم بسيماهم وعلامتهم ، فعلامتهم الضمور والنحول والضعف ورثاثة الثياب ، وفي الواقع هذا متروك لفراسة المؤمن ، فرب فقير له مظهر وغنّى رث الثياب لحوف في السؤال.
الصفة الخامسة :
لا يسألون الناس أصلا ، أو لا يسألون الناس ملحين وملحفين ، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفف ، اقرءوا إن شئتم قوله - تعالى - : لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً والسؤال في الإسلام محرم إلا لضرورة ،
عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « المسألة لا تحل إلا لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع » « 1 » .
وما تنفقوا من خير قل أو كثر فإن اللّه به عليم ومجاز عليه.
ويشير القرآن الكريم في آخر آية في الإنفاق إلى عموم الأحوال والأزمنة في الصدقة فبين أن الذين يتصدقون بأموالهم ليلا أو نهارا ، سرّا أو علانية هؤلاء لهم الأجر الكامل عند ربهم الذي ربّاهم وتعهدهم في بطون الأرحام ، ولا خوف عليهم أصلا في الدنيا ولا في الآخرة ولا هم يحزنون أبدا ، وهكذا كل من سار بسيرة القرآن واهتدى بهديه أولئك هم المفلحون.
___________
(1) أخرجه البخاري كتاب التفسير باب [لا يسألون الناس إلحافا] حديث رقم 4539.(1/188)
ج 1 ، ص : 189
الرّبا وخطره على صاحبه وعلى الأمة [سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)(1/189)
ج 1 ، ص : 190
المفردات :
يَأْكُلُونَ : يأخذون ، وعبر بالأكل عن الأخذ لأنه الغرض الأساسى منه ، واللباس والانتفاع والنفقة داخلة فيه ، وللإشارة إلى أن ما يأخذ لا يرجع أصلا.
الرِّبا في اللغة : الزيادة ، وفي عرف الشرع يطلق على مال يؤخذ بلا عوض ولا وجه شرعي. يَتَخَبَّطُهُ الخبط : السير على غير هدى وبصيرة ، ومنه قيل :
خبط عشواء. الْمَسِّ : الجنون والصرع. مَوْعِظَةٌ أى : وعظ. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا : ينقصه ويذهب ببركته. وَيُرْبِي : يزيد ويبارك. أَثِيمٍ : مصرّ على الإثم ومبالغ فيه. ذَرُوا : اتركوا. فَأْذَنُوا : فاعلموا ، من أذن بالشيء :
علم به. فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ : فانتظار إلى يسر ورخاء.
المناسبة :
ما تقدم كان في ذكر النفقة والمنفقين بالليل والنهار وفي السر والعلن ينفقون لوجه اللّه ولتثبيت أنفسهم على الإيمان فهم ينفقون المال بغير عوض ولا منفعة دنيوية.
وفي الآية هنا الكلام على المرابين الذين يستحلون مال الغير بغير حق ولا عوض ، فالمناسبة بينهما التضاد ، ولا غرابة فالضد أقرب خطورا بالبال.
المعنى :
الذين يأخذون الربا ويستحلونه من غير وجه شرعي ويأكلون أموال الناس بالباطل قد أذلتهم الدنيا وسخرهم حب المال وركبهم الشيطان والهوى ، فتراهم في حركاتهم وسكناتهم وقيامهم وقعودهم يتخبطون خبط عشواء كالصرعى الذين مسهم الجن ، وإنما خص القيام لأنه أبرز مظاهر النشاط في العمل ولقد جاء التعبير القرآنى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ موافقا لاعتقادهم وأنهم كانوا يؤمنون بالجن وتأثيره على الإنسان.
والعرب قديما ينسبون كل ما استعصى عليهم فهمه وإدراك سره إلى الجن ، فلا غرابة(1/190)
ج 1 ، ص : 191
في أن يأتى القرآن موافقا لفهمهم ، لأن المقصود تصوير آكل الربا بأبشع صورة وأقبح منظر.
ولقد درج جمهور المفسرين على أن المراد أن آكل الربا يقوم يوم القيامة يتخبط كالذي مسه الجن استنادا إلى روايات كثيرة وردت في وصف قيامه يوم القيامة ، ولعل آكل الربا يبعث يوم القيامة على الحالة التي كان عليها في الدنيا فنجمع بين الرأيين.
وذلك الذي كان يفعله المشركون في الجاهلية من أكل الربا بسبب أنهم يستحلونه ويجعلونه كالبيع والشراء ، فكما يجوز لك أن تبيع الشيء الذي قيمته قرش بقرشين! فلم لا يجوز أن تأخذ درهما في وقت العسرة والشدة وتدفع في وقت الرخاء درهمين ؟
ولقد بالغوا في هذا حتى جعلوا البيع كالربا.
وقد أحل اللّه البيع إذ فيه معاوضة وسلعة قد يرتفع ثمنها في المستقبل وما زيد في الثمن إنما هو في مقابلة شيء ستنتفع به في الأكل أو اللبس أو غيرهما.
وحرم الربا إذ لا معاوضة فيه ، والزيادة ليست في مقابلة شيء ، بل كانوا إذا حل الدين فإن دفع المدين وإلا أجل الدائن في نظير زيادة الدين ، فأخذ هذه الزيادة ظلم وأى ظلم واستحلالها كفر وإثم.
فمن جاءه وعظ من ربه يتضمن تحريم الربا لمصلحة الأمة والجماعة فانتهى عما كان يفعله ، فله ما سلف أخذه في الجاهلية وأمره يوم القيامة إلى اللّه ، واللّه يحاسبه على ما أخذه بعد التحريم أما قبله فقد عفا عنه.
ومن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه ووقف على ضرره فأولئك البعيدون في الضلال والظلم أصحاب النار الملازمون لها هم فيها ماكثون مكثا اللّه أعلم به.
وكيف تقعون في الربا وخطره وتبتعدون عن الصدقة وبرها ، والربا يمحقه اللّه فلا بركة فيه ولا زيادة ، فالمال وإن زاد بسببه ونما في الظاهر فهو إلى قل وضياع ، والواقع الذي نشاهده شاهد على ذلك ، أليس المرابى مبغوضا من اللّه والناس أجمعين ؟ ! فلا أحد يعاونه ولا إنسان يعطف عليه بل الكل حاسد شامت يتربص به الدوائر ، وهذا كله مما يساعد على ضياع المال ونقصانه.(1/191)
ج 1 ، ص : 192
وأما الصدقة فاللّه ينميها ويبارك فيها ، وما نقصت زكاة من مال قط ، والمتصدق محبوب عند اللّه والناس أجمعين ، فلا حسد ولا بغضاء ولا سرقة ولا إكراه ولا إيذاء ، وهذا كله مما يساعد على الزيادة والنمو في المال يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ واللّه لا يرضى عن المستحل للربا والمقيم على الإثم المبالغ فيه.
شأن القرآن إذا ذكر بعض المعاندين الظالمين الذين يفعلون فعل الكفار الآثمين ، أن يعقب بذكر المؤمنين العاملين حتى يظهر الفرق واضحا فيكون ذلك أدعى للامتثال وأقرب للقبول ولذا يقول اللّه إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة ... الآية والمعنى.
« إن الذين آمنوا باللّه ورسوله وعملوا صالحا يقيهم من عذاب النار ، خصوصا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فإن الأعمال الصالحة مطهرة للنفس ومرضاة للرب ومجلبة لمحبة العبد في الدنيا ، هؤلاء لهم أجرهم الكامل عند من رباهم وتعهدهم وأنشأهم من العدم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون أبدا » .
ثم بعد هذا التمهيد القيم الذي أظهر اللّه فيه آكل الربا بتلك الصورة الفظيعة وجزاءه في الدنيا والآخرة وما استتبع ذلك من ذكر المؤمنين الصالحين وجزائهم ناسب أن يأمر أمرا صريحا بترك الربا فيقول : يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان الذي يتنافى مع الربا والتعامل به.
فالإيمان والإسلام سلام ورحمة وعطف وصلة ، أما الربا فجشع واستغلال ونصب واحتيال ومعاملة دنيئة تتنافى مع أخوة الإنسانية مطلقا.
يا أيها الذين آمنوا خذوا لأنفسكم الوقاية من عذاب اللّه وذروا ما بقي لكم من الربا حالا ، أى : اقطعوا المعاملة به فورا ، فضلا عن إنشاء المعاملة من جديد إن كنتم مؤمنين ، وإلا فلستم مؤمنين كاملين لأنه لا إيمان مع المعاصي خصوصا الربا فإن لم تفعلوا ما أمرتم به فاعلموا واستيقنوا بحرب من اللّه ورسوله ، أما حرب اللّه فغضبه وانتقامه ، وما الآفات الزراعية والاضرار التي تصيبنا في هذه الأيام إلا من أكل الربا واستحلاله ، وأما حرب رسوله والمؤمنين فمناصبتهم العداء واعتبارهم خارجين على الشرع وأحكامه.
روى أن هذه الآية نزلت في ثقيف كان لها ربا على قوم من قريش فطالبوهم به فأبوا واختصموا إلى والى مكة عتّاب بن أسيد ، فنزلت الآية وكتب بها الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إليهم ، فلما علمت ثقيف بذلك قالت : لا طاقة لنا بحرب اللّه ورسوله.(1/192)
ج 1 ، ص : 193
وإن أقلعتم عن التعامل بالربا ورجعتم إلى اللّه فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون أحدا بأخذ الربا ولا تظلمون بنقص أموالكم .. وإن تعاملتم مع فقير معسر فانتظار منكم إلى يسر ورخاء عسى اللّه أن يفرج عليكم جميعا
« فمن نفّس عن مؤمن كربة نفّس اللّه عنه كربة من كرب يوم القيامة » « 1 » حديث شريف
، وأن تتصدقوا بالتأجيل أو بترك الدّين أو بعضه فهو خير لكم وأحسن.
واتقوا يوما تتركون فيه الدنيا وزخارفها ومشاغلها وترجعون إلى اللّه فيشغل بالكم وتفكيركم ، في هذا اليوم العصيب توفى كل نفس ما كسبت من خير أو شر وتوضع الموازين فلا تظلم نفس شيئا.
الربا نوعان :
ربا النسيئة : أى التأخير في أجل الدفع والزيادة في الدين كما كان يحصل في الجاهلية إذا حل الدين فإما أن تدفع وإما أن تؤجل ويزيد الدين.
وربا الفضل : هو الزيادة المشروطة للدائن بغير مقابل كما إذا أقرض محمد عليا مائة جنيه على أن يدفع على له في العام القادم مائة وعشرين ، ومثل النقدين في ذلك المطعومات من قمح وشعير وذرة ودخن وتمر وملح ،
عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطى فيه سواء » « 2 »
وفي حديث عبادة بن الصامت : « فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد » « 3 » .
الحكمة في تحريم الربا :
الدين الإسلامى دين تعاطف وتراحم وبر وخير وعون ومساعدة وأخوة صادقة في اللّه ، يحافظ على الصلات بين الناس ، وأن تحل المروءات محل القوانين لهذا أوجب الصدقة والتعاطف من القوى على الضعيف والرحمة من الغنى على الفقير والمعاملة بالحسنى ، وحرم الربا والإيذاء بأى نوع من أنواعه كما حرم انتهاز الفرصة واستغلال الحاجة.
___________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر حديث رقم 2699.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة حديث رقم 1587.
(3) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة حديث رقم 1587.(1/193)
ج 1 ، ص : 194
وقد جعل اللّه النقدين أو ما يقوم مقامها كأوراق البنكنوت لتقويم السلع ، ولم يخلقهما للاستغلال عن طريق الحاجة فإن هذا يؤدى إلى تكديس الثروة بسبب الربا في أيدى جماعة من الأمة ، وفي هذا خسران الأمة والمجتمع ، ومثل النقدين في ذلك المطعومات الأساسية التي ذكرناها ، والتعامل بالربا يقطع الصلة بين الناس ويوجد الحقد والحسد ويولد البغضاء في النفوس وغير ذلك مما يجعل الناس تتعامل مع بعضها كالذئاب الجائعة كلّ ينتهز الفرصة ويتربّص بأخيه الدائرة وفي هذا هلاك الأمة بلا شك ... وكيف تجيز لنفسك أن تستولى على مال الغير بغير حقّ شرعي وهذا هو عين الظلم لنفسك وما شاع الربا في قوم إلا عمّهم الفقر ونزلت عليهم الآفات وحبسوا القطر ومنعوا من الخير وقانا اللّه شره فهو صفة اليهود وعملهم.
أليس كل من تعامل بالربا ذهبت ماليته وضاعت فهو عاجز عن سداد الدين فكيف يسدده هو والربح.
أيليق بنا كأمة إسلامة أن نبيح الربا وروسيا تحرمه ؟ ؟(1/194)
ج 1 ، ص : 195
آية الدّين والسر في طولها ووضوحها [سورة البقرة (2) : آية 282]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282)
المفردات :
تَدايَنْتُمْ : داين بعضكم بعضا ، أى : تعاملتم بدين مؤجل. بِدَيْنٍ الدين : هو المال الذي يكون في الذمة. أَجَلٍ : هو الوقت المضروب لانتهاء شيء.
(مسمّى) والمسمى : المعلوم بيوم أو شهر أو سنة ويدخل في الدين المؤجل القرض والسلم وبيع الأعيان إلى أجل. بِالْعَدْلِ : بالحق في كتابته لا يزيد في المال والأجل ولا ينقص. وَلا يَأْبَ : يمتنع : وَلْيُمْلِلِ الإملال والإملاء واحد.
لا يَبْخَسْ : لا ينقص. سَفِيهاً : ناقص العقل مبذرا. ضَعِيفاً : صبيا أو شيخا مسنّا. وَلا تَسْئَمُوا : لا تملوا وتضجروا. أَقْسَطُ : أعدل.
وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ : أثبت لها وأعون على إقامتها. وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا : أقرب إلى انتفاء ريبكم في الدّين وأجله. فُسُوقٌ بِكُمْ : خروج عن الطاعة.
المناسبة :
لما ذكر الإنفاق وجزاءه والربا وخطره ناسب أن يذكر التعامل بالدّين المؤجل(1/195)
ج 1 ، ص : 196
وحفظه بالكتابة والشهود ، ففي الصدقة والإنفاق منتهى الرحمة ، وفي الربا كامل القسوة والغلظة. وفي أحكام الدين والتجارة نهاية العدل والحكمة ، والدين قد أمرنا ببذل المال حيث ينبغي البذل ، وبترك الزيادة في المال إذا كان فيه ربا ، ثم أمرنا هنا بحفظ المال وتوثيقه في البيع والشراء والقرض والتجارة ، ومن هنا نعلم أن الإسلام دين ودولة ، وحكم وحكمة فبينا هو يهدينا إلى الإنفاق يحرم علينا الربا ، ثم يرشدنا في البيع والشراء حتى لا يضيع مال ولا يحصل شقاق ونزاع ولا غرابة إنه صراط اللّه العزيز الحكيم.
وليس ديننا دين رهبنة وفقر ، وقناعة وذل ، بل هو دين علم وعمل وجد واجتهاد ، وغنى وعزة حتى يتحقق قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً « 1 » .
فقانون الإسلام أن تجمع المال وتنميه ، ولكن من طريق الحلال ، وتحافظ عليه وتستوثق له بالكتابة والشهود ، ولعل ذلك هو السر في طول الآية ووضوحها وتكرار أحكامها حتى يفهم أحكامها العامة والخاصة.
وهاك أحكامها :
1 - يا من اتصفتم بالإيمان ودخلتم في الإسلام : إذا تعاملتم بالدّين المؤجل في الذمة بيعا أو سلما أو قرضا فاكتبوه وقيدوه فذلك خير لكم وأجدى ، والأمر هنا للإرشاد والندب.
2 - وليكن فيكم كاتب للديون عادل في كتابته ، لا يميل ولا يحيد عن الحق فهو القاضي بين الدائن والمدين ولتحقق عدالته يشترط أن يكون عالما بشروط الكتابة ملما بأصولها.
3 - لا يصح أن يمتنع كاتب عن الكتابة ما دام يمكنه ذلك وليكتب كتابة كما علمه اللّه فلا يزيد ولا ينقص ولا يضر أحدا ، والكتابة نعمة من اللّه عليه فمن الشكر عليها أن لا يمتنع عنها ما دام قد أخذ أجره بالعدل والرحمة.
4 - والذي يملى الكاتب من عليه الحق ، أى : المدين ليكون إملاؤه حجة عليه ، وليتّق اللّه ربه في الإملاء ، وقد جمع بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة في التحذير ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا عند الإملاء ، وأنت ترى أن الكاتب أمر
___________
(1) سورة البقرة آية رقم 143.(1/196)
ج 1 ، ص : 197
بالعدل فلا يزيد ولا ينقص ، ومن عليه الحق نهى عن النقص فقط لأن هذا هو الذي ينتظر منه.
5 - فإن كان الذي عليه الحق سفيها لا يحسن التصرف في ماله لنقص عقله أو تبذيره أو كان ضعيفا لصغر سنه أو شيخوخته أو لا يستطيع الإملاء لجهله أو لكنة في لسانه فالذي يملى على الكاتب هو وليه الذي يلي أموره من قيّم أو وكيل أو مترجم يملى بالعدل والإنصاف.
6 - واستشهدوا شهيدين من رجالكم ممن حضروا ذلك بشرط البلوغ والعقل والإسلام والحرية.
7 - فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون شهادتهم لدينهم وعدالتهم وإنما جعل الشرع المرأتين بمنزلة رجل واحد خوف أن تخطئ إحداهما فتذكرها الثانية لقلة ضبط النساء للأمور المالية وقلة عنايتهن بمثل ذلك لأن المرأة جبلت على الاشتغال بالمنزل والبيئة المنزلية وتربية الأولاد فكان تذكرها للمعاملات قليلا وهذا حكم غالبى والأحكام الشرعية تنظر للمجموع.
8 - ولا يأب الشهود إذا ما دعوا للشهادة فإن كتمانها معصية وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه ُ
إذ بالشهادة العادلة تتضح الحقوق ويمنع الظلم والجور ، والأحسن أن يكون النهى شاملا لأدائها وتحملها.
9 - والدّين مهما كان صغيرا أو كبيرا لا تملوا من كتابته حتى يقطع النزاع والشقاق.
10 - ذلك البيان السابق الشامل لجميع الأحكام أعدل في الحكم وأحرى بإقامة العدل بين المتعاملين ، وأقوم للشهادة وأعون على إقامتها على وجهها وأقرب لانتفاء الريبة والشك.
11 - ما تقدم في المبايعات المؤجلة وفي الديون والسلم ، أما في التجارة الحاضرة التي يأخذ المشترى ما اشترى والبائع الثمن فلا ضرورة للكتابة وليس عليكم جناح ألا تكتبوها إذ لا شك ولا نسيان يخاف منه ، وفي نفى الجناح إشارة إلى استحباب ضبط(1/197)
ج 1 ، ص : 198
الإنسان لماله وإحصائه للداخل والخارج ، انظر : أرقى النظم التجارية يأتى بها القرآن من أربعة عشر قرنا.
12 - وأشهدوا إذا تبايعتم في التجارة الحاضرة والشهود تكفى في مثل ذلك.
13 - لا ينبغي لكاتب أو شاهد أن يضر أحدا من المتعاملين بزيادة أو نقص ولا يليق بكم أيها المتعاملون أن تضروا كاتبا أو شهيدا بأى نوع من أنواع الضرر ، إذ الدّين الإسلامى دين سلام وأمن ورحمة وعدل.
وإن تفعلوا ما نهيتم عنه فإنه خروج بكم عن الطاعة وحدود الإيمان.
14 - واتقوا اللّه في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه ، واللّه يعلمكم ما به تحفظون أنفسكم وأموالكم وتقوون رابطتكم ، فشرعه شرع الحكيم الخبير العليم البصير.
جواز الرهن [سورة البقرة (2) : آية 283]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
المفردات :
فَرِهانٌ جمع رهن. وهو احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها عند تعذر أخذه من الغريم.
هذا تقييد للأمر بالكتابة السابق.(1/198)
ج 1 ، ص : 199
المعنى :
وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب ، أو لم تجدوا أدوات الكتابة فرهان مقبوضة للدائن يستوثق بها حتى يصل إليه حقه ، هذا الرهن يقوم مقام الكتابة وكونهم في السفر لجواز عدم الكتابة ، وفي الحضر ثابت بالسنة فقد رهن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم درعه عند يهودي ومات عنها.
فإن اتفق أن أحدكم ائتمن آخر على شيء فعلى المؤتمن أن يؤدى الأمانة كاملة في ميعادها ، وليتق اللّه ربه فلا يخون في الأمانة فاللّه هو الشاهد الرقيب عليه وكفى به شاهدا.
ولا تكتموا الشهادة فإن كتمان الشهادة وشهادة الزور من الكبائر ، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ، وخص القلب بالذكر لأنه أمير الجسد متى صلح صلح الجسد كله.
وكل ما تقدم من أعمال إيجابية كتأدية الأمانة والوفاء بالعهد ، أو سلبية ككتم الشهادة ، فاللّه به عليم وبصير يجازى عليه.
إحاطة علمه وتمام ملكه وقدرته [سورة البقرة (2) : آية 284]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284)
المناسبة :
تقدم الكثير من الأحكام خصوصا الأحكام القريبة المتعلقة بالدين والشهادة وختمت الآية السابقة بقوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فناسب أن يذكر شواهد علمه والأدلة عليه إذ مالك الشيء وخالقه لا بد أن يعلمه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ.(1/199)
ج 1 ، ص : 200
المعنى :
للّه ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعلما ، فهو العليم بكل شيء ، وإن تظهروا ما استقر في نفوسكم وثبت من الخلق الكامن والداء الباطن أو تكتموه وتخفوه فاللّه محاسبكم عليه ومجازيكم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وهو يغفر لمن يشاء ذنبه بتوفيقه إلى التوبة والعمل الصالح الذي يمحو السيئة.
ويعذب من يشاء لأنه لم يعمل خيرا يكفر عنه سيئاته ولم يتب إلى اللّه ، واللّه على كل شيء أراده قدير.
روي أن هذه الآية حين نزلت اشتد ذلك على الصحابة - رضى اللّه عنهم - فأتوا النبي وقالوا : يا رسول اللّه : كلفنا من الأعمال ما نطيق كالصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل اللّه هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « أتريدون أن تقولوا : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » ونزلت الآية التي بعدها. « 1 »
من هذه الرواية فهم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها حيث فهم أن ما في نفوسكم هو الوساوس والخواطر التي لا يتأتى للإنسان دفعها.
والظاهر من النظم الكريم أن ما في نفوسكم أى : ما استقر في نفوسكم من الخلق الراسخ الثابت كالحب والبغض وكتمان الشهادة وقصد الخير والسوء .. إلخ.
أما الهواتف والخواطر فإن استرسلت فيها حسبت عليك وكانت من أعمالك وإن شغلت نفسك بغيرها وطردتها لم تحسب عليك ، وهي في أولها مما لا يمكن دفعه ولا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها ، والآية الآتية ليست ناسخة ولكنها موضحة ، أما قول الصحابة - رضى اللّه عنهم - فتأويله أنهم الأطهار الأبرار الذين يريدون أن يتطهروا من الإثم ومقدماته بل كل شيء يتعلق به ، ولذا قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فرضي اللّه عنهم أجمعين.
___________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الايمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس 2/ 144.(1/200)
ج 1 ، ص : 201
[سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
المفردات :
وُسْعَها الوسع : ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر.
إِصْراً : حملا ثقيلا يشق علينا. الطاقة : مالا يدخل في مكنة الإنسان وطوقه ، وما يطاق هو ما يمكن أن يأتيه ولو بمشقة.
الربط :
بدأ اللّه السورة بالكلام على القرآن والمؤمنين وأراد - سبحانه وتعالى - أن يختمها بالكلام عليهم ويبين حالهم ودعاءهم.
المعنى :
صدّق الرسول والمؤمنون بالذي أنزل إليهم من ربهم خصوصا ما في هذه السورة الكريمة من الآيات والأحكام. وما ذكر عن الرسل الكرام.(1/201)
ج 1 ، ص : 202
كل آمن باللّه الواحد الأحد الفرد الصمد وملائكته الكرام على أنهم السفرة البررة بين اللّه وبين رسله ، قاموا بتبليغ ما أنزل على الأنبياء من كتبه - جل شأنه - وآمن الكل بالرسل الكرام ، لا نفرق نحن المؤمنين بين رسله ، إذ كل الأنبياء المرسلين سواء في الرسالة والتشريع لا يختلف واحد عن واحد باعتبار تقدمه في الزمن أو تأخره أو كثرة أتباعه أو قلتهم مع إيمانهم بأن اللّه فضل بعض الرسل على بعض (في غير الرسالة والتشريع) كما سبق في قوله تعالى : تِلْكَ الرُّسُلُ وهذه مزية أتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يؤمنون بكل الأنبياء لا يفرقون بين الأنبياء.
آمنوا بما ذكر وقالوا : سمعنا وأطعنا ، أى : بلّغنا فسمعنا القول سماع وعى وقبول وأطعنا ما أمرنا به طاعة إذعان وانقياد معتقدين أن كل أمر ونهى إنما هو لخيرى الدنيا والآخرة.
ويسألون اللّه - تعالى - أن يغفر لهم ما عساهم يقعون فيه فيعوقهم عن الرقى في مدارج الكمال ومعارج الإيمان فهم يقولون : غفرانك ربنا وإليك المصير.
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل : « إن اللّه قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه » فسأل إلى آخر السورة. « 1 »
لا يكلف اللّه أحدا فوق طاقته بل أقل من طاقته ، وهذا من لطف اللّه بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم. وهذه الآية هي الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة - رضى اللّه عنهم - والموضحة لقوله تعالى : وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ « 2 » أى : هو وإن حاسب وسأل ولكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه وما في وسعه.
لكل نفس ما كسبت من خير ، وما اكتسبت من شر فعليها وزرها ، ويظهر لي - واللّه أعلم - أن السر في التعبير في جانب الخير (كسبت) وفي جانب الشر (اكتسبت) أن الخير لا يحتاج إلى عمل وجهد كثير ولا كذلك الشر فإنه يحتاج إلى تعمل ومخالفة للطبيعة.
علمنا اللّه هذا الدعاء لندعو به :
___________
(1) أخرجه ابن جرير.
(2) سورة البقرة آية 284.(1/202)
ج 1 ، ص : 203
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، فتركنا ما ينبغي فعله أو فعلنا ما ينبغي تركه ، والنسيان ينشأ من عدم العناية بالشيء والاهتمام به ، والخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط.
واللّه علمنا أن ندعوه ألا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ ، وهذا يذكرنا بما ينبغي من العناية والاحتياط والتفكير والتذكر لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان ، وإن وقع بعد ذلك منا شيء غفره لنا ،
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » . « 1 »
كانت الأمم السابقة لعنادهم وعتوهم تكاليفهم شاقة ، فتوبتهم بقتل التائب ، وإزالة النجاسة بقطع موضعها وهكذا.
فعلمنا اللّه أن ندعوه بألا يكلفنا بالأعمال الشاقة والأعباء الثقيلة وإن أطقناها كما فعل مع الأمم السابقة فنبينا نبي الرحمة وشرعه السهل السمح وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. « 2 »
ربنا ولا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه من العقوبة والفتن ، واعف عنا فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا ، واغفر لنا فيما بيننا وبين عبادك فلا تطلعهم على عيوبنا وأعمالنا القبيحة ، وارحمنا بأن توفقنا حتى لا نقع في ذنب آخر ،
روى مسلم عن أبى هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : قال اللّه : نعم « 3 » .
وعن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : قال اللّه : قد فعلت « 4 » .
أنت يا رب متولى أمورنا وناصرنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا ولا حول ولا قوة إلا بك ، فانصرنا على القوم الكافرين آمين يا رب.
___________
(1) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي 2045.
(2) سورة الحج آية 78.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس 2/ 144. [.....]
(4) أخرجه مسلم في كتاب الايمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس 2/ 145.(1/203)
ج 1 ، ص : 204
سورة آل عمران
مدنية
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
المفردات :
الم في معناها ما قيل في أول سورة البقرة ، وتقرأ : ألف. لام. ميم كما تقول : واحد. اثنان :
الْكِتابَ : القرآن. التَّوْراةَ : كلمة عبرانية معناها الشريعة ، وتطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار : سفر التكوين ، وسفر الخروج ، وسفر الأخبار ، سفر العدد ، سفر التثنية. أما في عرف القرآن فهي : ما أنزل اللّه - تعالى - من الوحى على موسى - عليه السلام - ليبلغه قومه وفيها البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
الْإِنْجِيلَ : لفظ يوناني ، ومعناه البشارة ، ويطلق عند النصارى على أربعة كتب تعرف بالأناجيل ، وعلى ما يسمونه العهد الجديد ، والإنجيل الأربعة : كتب وجيزة في سيرة المسيح وشيء من تاريخه وتعليمه وليس لها سند متصل عند أهلها بل هم مختلفون في تاريخ كتابتها كثيرا ، وأما الإنجيل في عرف القرآن : فهو ما أوحاه اللّه إلى رسوله عيسى ابن مريم وفيه البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم.(1/204)
ج 1 ، ص : 205
الْفُرْقانَ : ما يفرق بين الحق والباطل كالدلائل والبراهين ، وقيل : العقل ، وقيل : القرآن. الْأَرْحامِ : جمع رحم ، وهو مستودع الجنين من المرأة.
نزلت هذه الآيات في وقد نصارى نجران ، كانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم وعلى رأسهم أميرهم ووزيرهم وحبرهم ، ولما قدموا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعليهم الحبرات ، تكلم منهم ثلاثة ، فمرة قالوا : عيسى ابن مريم إله لأنه يحيى الموتى ، وتارة هو ابن اللّه إذ لم يكن له أب ، وتارة هو ثالث ثلاثة لقوله - تعالى - قلنا وفعلنا ولو كان واحدا لقال : قلت وفعلت ، وحاجهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بما يدحض حجتهم ويزيل شبهتهم ، ولكنهم عاندوا حتى طالبهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالمباهلة فامتنعوا ، فأنزل اللّه من أول السورة إلى نيف وثمانين آية منها تقريرا لما احتج به النبي وبيانا لعنادهم وجحودهم.
المعنى :
بدأ اللّه السورة بإثبات التوحيد الذي هو أساس الدين ولرد اعتقادهم من أول الأمر ، اللّه لا معبود بحق في الوجود إلا هو إذ ليس في الوجود صاحب سلطة حقيقية على النفوس يبعثها على تعظيمه والخضوع له قهرا منها معتقدة أن بيده منح الخير ورفع الضر إلا اللّه وحده دون سواه ، الحي الدائم الحياة التي لا أول لها ، القيوم على خلقه بالتدبير والتصريف قامت به السموات والأرض قبل خلق عيسى ، فكيف تقوم قبل وجوده ؟
إذا ليس إلها نزل عليك يا محمد القرآن بالحق لا شك فيه ، ولا ريب أنه من عند اللّه أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ، وكفى باللّه شهيدا ، مصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت وهو يصدقها لأنه جاء مطابقا لما أخبرت وبشرت.
وأنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل هداية للناس وإرشادا ، فأنتم ترون أن اللّه أنزل الوحى وشرع الشرائع قبل وجود عيسى وبعده فلم يكن عيسى هو المنزل للكتب على الأنبياء ، وإنما كان نبيّا مثلهم فكيف يكون إلها ؟
وأنزل اللّه الفرقان ووهب العقل والوجدان ليفرق الإنسان بين الحق والباطل ، وعيسى لم يكن واهب العقول والأفهام.(1/205)
ج 1 ، ص : 206
فكيف يكون إلها وليس فيه صفة مما تقدم ؟ وأما أنتم أيها المجادلون بغير حق فتعقلوا وتدبروا فقد جاوزتم حدود العقل والمنطق.
إن الذين كفروا بآيات اللّه الواضحة التي تدل على كمال وصفه وسمو نعته بكل صفات الجمال والجلال والألوهية والربوبية لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب بما كانوا يظلمون ومنهم أنتم أيها المجادلون.
وكانوا يقولون عيسى إله لإخباره عن بعض المغيبات فيرد القرآن عليهم! إن الإله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وعيسى لم يكن كذلك.
وقالوا : عيسى ليس كغيره ولد من غير أب فهو إله ... فرد اللّه عليهم : ليست الولادة من غير أب دليلا على الألوهية إذ المخلوق عبد كيفما خلق ، وإنما الإله هو الخالق الذي يصوّر في الأرحام كيف يشاء وعيسى لم يصور أحدا بل صوّر هو في رحم أمه كما يصور جميع الخلق ، أفيعقل أن يكون الذي صور في الرحم وخرج منه إلها .. ؟ لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الوالد والولد ، العزيز الحكيم.
المحكم والمتشابه في القرآن [سورة آل عمران (3) : الآيات 7 الى 9]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)(1/206)
ج 1 ، ص : 207
المفردات :
مُحْكَماتٌ : ظاهرات الدلالة لا خلاف في معناها. مُتَشابِهاتٌ يقال :
اشتبه الأمر عليه : التبس ، فالمتشابهات التي لم يظهر معناها ويتضح بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد ، وقيل : ما استأثر اللّه بعلمه. زَيْغٌ : ميل عن الحق. تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ : معرفة حقيقية وبيان ما يؤول إليه في الواقع. الرَّاسِخُونَ : الثابتون في العلم المتأكدون منه.
المعنى :
كان النصارى يستدلون ببعض آيات القرآن التي يفيد ظاهرها تميّز عيسى على غيره من البشر كقوله في شأن عيسى : إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية 171] ، على أنه ثالث ثلاثة أو هو الإله أو ابنه ... إلخ فيرد اللّه عليهم : إن القرآن الذي أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بعض آياته محكمات واضحات ظاهرات لا خلاف بين ظاهر اللفظ والمعنى المراد منها كقوله - تعالى - مثلا : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [سورة الإسراء آية 23]. وكقوله في شأن عيسى : إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [سورة الزخرف الآية 59] وكآيات الأحكام مثل : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام آية 151] ، وهكذا المحكم كل ما لا يحتمل من التأويل المعتد به إلا وجها واحدا.
وهنّ - أى : المحكمات - أمّ الكتاب وعماده ومعظمه وأصله الذي دعى الناس إليه ويمكنهم فهمه ، وعنها يتفرع غيرها ويحمل عليها ، وهي أكثر ما في القرآن. فإن اشتبه علينا من الآيات آية ردت إلى المحكم وحملت عليه ، مثلا قوله تعالى : وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء 171] ترد وتحمل على قوله : إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزخرف 59] وقوله : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران 59] بمعنى أننا نؤمن بأن الكل من عند اللّه وأنه لا ينافي الأصل المحكم.
وأما الآيات المتشابهات كقوله - تعالى - في عيسى : وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء 171]. وكقوله : مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] في شأن عيسى.
وكقوله - تعالى : الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه 5] يَدُ اللَّهِ فَوْقَ(1/207)
ج 1 ، ص : 208
أَيْدِيهِمْ
[الفتح 10] إلخ. فهذه آيات متشابهات تحتمل عدة معان ، ويخالف ظاهر اللفظ فيها المعنى المراد فهي مما استأثر اللّه بعلمه.
فليس لكم أيها النصارى أن تحتجوا بأمثال هذه الآيات فإنها من المتشابه الذي يحتمل عدة معان واللّه أعلم بها ، وكيف لا تدينون بقوله - تعالى : نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[سورة النساء آية 172]. وتتمسكون بآيات استأثر اللّه بعلمها هو.
فأما الذين في قلوبهم زيغ وميل عن الحق إلى الباطل فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم ابتغاء فتنة الناس وإضلالهم ، ولكن يؤولون القرآن تأويلا غير سائغ في العقل ولكنه موافق لأوهامهم وضلالهم .. وما يعلم تأويله وحقيقته إلا اللّه.
بعض القراء يقفون على (اللّه) والراسخون في العلم كلام مستأنف ، وحجتهم في ذلك أنه وصفهم بالتسليم المطلق ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض.
على أن المتشابه ما استأثر اللّه بعلمه من أحوال الآخرة أو ما خالف ظاهر اللفظ فيه المراد منه ، فهذا لا يعلم حقيقته إلا اللّه والراسخون في العلم كغيرهم وإنما خصوا بالذكر لأنهم يقفون عند ما يدركون بالحس والعقل ، ولا يتطاولون إلى معرفة حقيقة المغيبات وإنما سبيلهم التسليم قائلين ، آمنا به كل من عند ربنا.
وبعضهم لا يقف على لفظ الجلالة ، والراسخون معطوف عليه على معنى لا يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم وذلك أن اللّه ذم الذين يبتغون التأويل لذهابهم إلى ما يخالف المحكم يبتغون الفتنة وإضلال الناس ، والراسخون ليسوا كذلك فهم أهل اليقين الثابت يفيض اللّه عليهم فيفهمون المتشابه بما يتفق مع المحكم جاعلين المحكم أساسا ويؤمنون بأن الكل من عند اللّه ، وهذا ابن عباس - رضى اللّه عنه -
يقول فيه المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » « 1 »
وإنما خص الراسخون في العلم بالذكر لئلا يقلدهم غيرهم في هذا الفهم.
بقي سؤال : لم نزل في القرآن المتشابه وقد نزل هاديا للناس جميعا والمتشابه يحول دون الهداية ؟
___________
(1) أخرجه أحمد 1/ 266 وأصله في البخاري.(1/208)
ج 1 ، ص : 209
والجواب : قد أنزل اللّه المتشابه ليميز الصادق الإيمان من ضعيفه ، على أن يكون هذا حافزا لعقل المؤمن على أن ينظر ويبحث حتى يصل إلى حد العلم ولا تنس أن الرسالة عامة وفي الناس خواص وعوام ، فكلّ خوطب بما يقدر على فهمه ، ولذلك يقول تعالى : الراسخون في العلم لا في الدين ، وما يتذكر بهذا إلا أولو العقول الصافية ، الذين يقولون : ربنا لا تمل قلوبنا بعد هدايتك لنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ترحمنا وتوفيقا يوفقنا إلى الخير والسداد إنك أنت الوهاب.
ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة يوم لا شك فيه ، فاغفر لنا ووفقنا واهدنا إنك لا تخلف الميعاد.
عاقبة الغرور بالمال والولد والأمثال على ذلك [سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)(1/209)
ج 1 ، ص : 210
المفردات :
وَقُودُ النَّارِ ما توقد به النار من حطب أو فحم. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ :
الدأب : مصدر دأب يدأب ، أى : كدح ، ثم استعمل فيما عليه الإنسان من شأنه وحاله. الْمِهادُ : الفراش الممهّد.
المناسبة :
بعد بيان الحق والصفات الواجبة للّه وما نزله من الكتب خصوصا القرآن ، وبيان فهم الناس لا سيما الراسخون من العلماء : شرع في بيان حال الكفرة بالقرآن المغرورين بالمال والولد.
والموصول في الآية يشمل وقد نجران واليهود أو كل كافر باللّه.
المعنى :
يبين اللّه - سبحانه - حال الكفرة من النصارى واليهود والمشركين وسبب عنادهم وغرورهم الزائف في أموالهم وأولادهم : وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سورة سبأ آية 35] فيرد اللّه عليهم في غير موضع في القرآن.
إن الذين كفروا بآياتنا وكذبوا رسلنا واجترءوا على كلامنا لن تكون أموالهم ولا أولادهم بدلا لهم من اللّه ورسوله تغنيهم عنه ، فإنهم إن تمادوا في غيهم وساروا في ضلالهم فأولئك البعيدون في درجات العتو والفساد هم وقود النار وأصحابها.
وذلك لأن حالهم كحال آل فرعون ومن قبله من المؤتفكات كقبائل عاد وثمود كان حالهم أنهم كذبوا بآياتنا فأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر ، واللّه سريع طلبه شديد عقابه ، قوى عذابه.
سبب النزول :
روى عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس - رضى اللّه عنهم - أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع وحذرهم أن(1/210)
ج 1 ، ص : 211
ينزل بهم ما نزل بقريش ، فقالوا : لا يغرنك أنك لاقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس ، فنزلت الآية.
قل لهم يا محمد : ستغلبون أيها اليهود عن قريب في الدنيا ولا يغرنكم مالكم وأولادكم فالأمر ليس بكثرتهم وإنما هو بيد اللّه - سبحانه وتعالى - وقد تحقق هذا ، بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم ، وهذا من أوضح الشواهد على صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ورسالته.
وستحشرون في الآخرة إلى جهنم وبئس المهاد ما مهدتم لأنفسكم.
وتاللّه لقد كان لكم آية عظيمة دالة على صدق ما يقوله القرآن لكم : من أنكم ستغلبون آية في جماعتين التقتا كانت إحداهما معتزة بكثرتها مغرورة بمالها وعددها كافرة باللّه وتقاتل في سبيل الشيطان.
والأخرى فئة قليلة العدد صابرة مؤمنة باللّه تقاتل في سبيل اللّه.
وقد كان الأمر كذلك في موقعة بدر فقد كان المسلمون ثلاثمائة رجل تقريبا والكافرون حوالى الألف.
ومع هذا فقد رأى المؤمنون الكافرين مثلهم فقط لأن اللّه قللهم في أعينهم حتى يقاتل الرجل المسلم رجلين فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [سورة الأنفال آية 66].
ويصح أن يكون المراد أن المؤمنين يرون أنفسهم مثلي ما هم عليه من العدد حتى يطمئنوا وتقوى روحهم ، وجملة القول أن الآية ترشدنا إلى الاعتبار بمثل الواقعة المشار إليها فقد غلبت فئة قليلة فئة كثيرة بإذن اللّه ، واللّه مع الصابرين ، ولذلك قال : إن في ذلك لعبرة لأصحاب الأبصار الصحيحة التي تنظر فتفكر فتعتبر.
الإنسان وشهواته في الدنيا [سورة آل عمران (3) : آية 14]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)(1/211)
ج 1 ، ص : 212
المفردات :
زُيِّنَ لِلنَّاسِ : حبب لهم. الشَّهَواتِ : جمع شهوة ، وهي انفعال النفس بسبب الشعور بالحاجة إلى ما تستلذه. الْمُسَوَّمَةِ : المعلمة ، وقيل : السائمة التي ترعى في المروج والمرعى. الْقَناطِيرِ : جمع قنطار ، وهو المال الكثير.
المعنى :
أن وفد نصارى نجران وغيرهم من صناديد الكفر عرف في خلال كلامهم أنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ، وما يمنعهم من إظهاره إلا خوفهم على ما عندهم من رئاسة كاذبة أو مال زائل ، وذلك أنهم يحبون الدنيا حبا أعمى ، فبين اللّه حب الإنسان للدنيا ومظاهرها ثم بين ما هو خير من ذلك كله.
وهذه الأصناف المذكورة قد زين اللّه حبها للناس وغرسه في قلوبهم حتى صار غريزة عندهم ، ومن أحب شيئا ولم يزين له يوشك أن ينفر منه ، ومن أحبه وزين له فلا يكاد يرجع عنه ولا يقبل فيه كلاما ولا يرى فيه عوجا ... ولقد عبر القرآن عن هذه الأشياء بالشهوة مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها وإيذانا بشدة تعلق الناس بها ، وللإشارة إلى أن حبها من طبيعة الإنسان الحيوانية ، فإن الشهوة من صفات البهائم حتى يعتدل الإنسان في حبه لها.
إن الإسلام دين ودولة ، وعمل واعتقاد ، واعتدال وتوسط قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 32] فليس ديننا دين رهبنة وتقشف وزهد يفهم بعض الناس ... فليس ممنوعا حب هذه الأصناف ولكن الممنوع المبالغة والإسراف فيها حتى تطغى على الناحية الدينية ومظاهرها.
والنساء والبنون زهرة الحياة ومتعة النفس ولكن إلى حد « الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة [إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن غاب حفظته في نفسها وماله » ].
وأما البنون فهم فلذة أكبادنا وقرة أعيننا.(1/212)
ج 1 ، ص : 213
والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والمراد بها المال الكثير وحبه غريزة في الإنسان ، ولقد صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب » .
والمال يكون مذموما إذا جعل صاحبه يطغى ويختال ويتكبر ويمنع حقوق اللّه والناس وأما إذا أعطى به الحقوق وقام بالواجبات الدينية والوطنية فنعم المال هو عدة وصلة وقربى إلى اللّه.
والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك كله متاع الحياة الدنيا وزينتها ، وهذه الأصناف تذم إن كانت سببا في الشر والبعد عن اللّه وهذا هو المشاهد في الكثير الآن وعند ذلك تكون خطرا على صاحبها فإن كانت سببا في الخير ولم تمنع صاحبها من القيام بالواجب بل ساعدته كانت خيرا له.
ما هو خير من الدنيا وما فيها [سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 17]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)
المفردات :
مُطَهَّرَةٌ : طاهرات من دنس الفواحش والحيض والنفاس. الْقانِتِينَ :(1/213)
ج 1 ، ص : 214
الملازمين للطاعة مع الخضوع. بِالْأَسْحارِ : جمع سحر ، هو الوقت الذي يختلط فيه ظلام آخر الليل بضياء النهار.
المعنى :
قل لهم يا محمد : أأخبركم بما هو خير مما سبق من زينة الدنيا ومتاعها ؟ وفي التعبير (بخير) إشارة إلى أن ما مضى من النساء والبنين ... إلخ فيه خير بلا شك بشرط أن يستعمل في حقه وألا يطغى حبه على غيره وعلى العمل لوجه اللّه.
وهو تفصيل لقوله تعالى : وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ وإبهام الخبر أولا تفخيما لشأنه وتشويقا إليه ، ثم تفصيله وتوضيحه بقوله - تعالى : لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ ... الآية ، أتم للبيان وأثبت للجنان.
للذين أخذوا لأنفسهم وقاية من عذاب اللّه لهم عند ربهم الذي رباهم وتعهدهم والإضافة إلى ضميرهم فيها مزيد لطف وعناية بهم ، لهؤلاء جنات تجرى من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا ، لا يبغون عنها حولا ولهم فيها أزواج مطهرة من دنس الحيض والنفاس طاهرات من دنس الفواحش والشوائب.
وقد جعل اللّه للمتقين نوعين من الجزاء : نوع مادى وهو الجنة ، ونوع روحي وهو رضوان اللّه وهو أكبر وأعظم من كل نعمة وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [سورة التوبة آية 72].
والتقوى أمر لا يعلمه إلا الخبير البصير بعباده ، ولذا
يقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « التقوى هاهنا »
(و يشير إلى صدره) ويختم اللّه الآية بقوله : وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.
ومن هم المتقون اللّه حقيقة ؟ ؟ هم الذين يقولون : ربنا إننا آمنا بك وبرسلك وكتبك بقلوبنا إيمانا حقيقيا ، ومن كان هكذا استحق المغفرة والوقاية من عذاب اللّه ولذا قالوا : فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ومن صفاتهم أنهم الصابرون الذين حبسوا أنفسهم عن كل مكروه ومحرم وصبروا على تقوى اللّه وعلى قضاء اللّه ، ولا شك أن الصبر هو الذي يثبّت النفس عند زوابع الشهوات ولذا قرن التواصي بالصبر مع(1/214)
ج 1 ، ص : 215
التواصي بالحق وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر 3] : وهم الصادقون في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ « 1 » .
والقنوت : المداومة على الخشوع والضراعة ، وهم المنفقون أموالهم في سبيل اللّه نفقة واجبة ومندوبة ، وهم المستغفرون بالأسحار ، وخص وقت السحر لأن العمل فيه شاق والنفس فيه صافية والدعاء مستجاب ، وأفضل صيغة للاستغفار ما
رواه البخاري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علىّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » « 2 » .
الشهادة بالوحدانية والعدل وأن الدين الإسلام [سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
___________
(1) سورة الزمر آية 33.
(2) أخرجه البخاري 11/ 82 ، 83 في الدعوات باب أفضل الاستغفار.(1/215)
ج 1 ، ص : 216
المفردات :
شَهِدَ اللَّهُ الشهادة : عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم والإظهار والبيان.
الدِّينَ المراد به الملة والشرع. بَغْياً : حسدا أو ظلما.
المعنى :
أخبر اللّه - تعالى - ملائكته ورسله بأنه الواحد الأحد لا إله إلا هو ، أخبرهم على علم وبين ذلك لهم أتم بيان ، والملائكة أخبروا الرسل بتوحيد اللّه وبينوه لهم ، وأولو العلم أخبروا بذلك وبينوه عالمين به ولا يزالون كذلك ... شهد اللّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم شهد هذه الشهادة قائما بالعدل في الدين والشريعة والكون والطبيعة وفي العبادات والآداب والمعاملات ، فاللّه قد أتقن نظام الكون وأحكمه وعدل بين القوى الروحيّة والمادية ، وكانت الأحكام الشرعية مبنية على أساس التوازن الصحيح بين الفرد والأمة وبين الفرد والخالق وبينه وبين نفسه وبينه وبين أخيه وبين الغنى والفقير وهكذا ... إن الدين الذي ارتضاه اللّه وأحبه لعباده من يوم أن خلق الخلق إلى يوم الدين هو الإسلام ، ولا شك أن جميع الأنبياء والمرسلين لا يختلفون في جوهر الدين وهو الإسلام والتوحيد والعدل في كل شيء وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران 85] وما اختلف الذين أوتوه من أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم اليقيني بأن محمدا هو خاتم الأنبياء وهو المبشر به عندهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [سورة البقرة آية 146].
اختلفوا في شأنه حسدا من عند أنفسهم وبغيا بينهم وحرصا على الدنيا وما فيها.
ومن يكفر بآيات اللّه الدالة على صدق الأنبياء بعد هذا فإن اللّه سريع الحساب وشديد العقاب.
فإن حاجوك بعد هذا وجادلوك بعد أن جئتهم بالحق البين فقل لهم : إنى ومن معى من المؤمنين قد أسلمت وجهى للّه وانقدت له وأقبلت عليه بعبادتي مخلصا للّه وحده معرضا عما سواه ، فإن كنتم مسلمين للّه مخلصين له فما يمنعكم من اتباعى ؟(1/216)
ج 1 ، ص : 217
وقل لليهود والنصارى والمشركين الأميين فإنهم هم الحاضرون والمعاصرون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقط.
قل لهم : أأسلمتم ؟ ؟ فإن أسلموا لك فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم ، وإن تولوا وأعرضوا فقل لهم : إنما علىّ البلاغ فقط ، واللّه - سبحانه - البصير بخلقه العليم بحالهم فيحاسبهم ويجازيهم.
جزاء قتل الأنبياء ومن يأمر بالمعروف [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
المفردات :
فَبَشِّرْهُمْ : من البشارة والبشرى ، وهي : الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه ، وإطلاق هذا على الخبر الذي سيلقى للكفار من باب التهكم لأن وجوههم ستنقبض له.
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ : بطلت.
المعنى :
إن الذين يكفرون بآيات اللّه بعد معرفتها ويقتلون النبيين لأنهم قالوا : ربنا اللّه ، يقتلونهم معتقدين أن قتلهم بغير حق ولا ذنب اللهم إلا قول الحق وتبليغ الرسالة ، وهؤلاء هم اليهود ، نسب إلى اليهود فعل آبائهم لأنهم راضون عنه ، على أنهم هموا بقتل(1/217)
ج 1 ، ص : 218
النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إمعانا في الفساد والضلال ، ويقتلون كذلك الذين يأمرون بالعدل والقسط ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كالعلماء وكل من نصب نفسه للدفاع عن الدين والحق للّه ورسوله.
وقتل هؤلاء جريمة كبرى وخسارة عظمى لأممهم ، أما من قتل واستشهد في سبيل اللّه فقد وقع أجره على اللّه ، وفي هذا العصر يسجل التاريخ أن هناك من قتل في سبيل الدعوة إلى اللّه والوطن وقتلهم جريمة في (حق الوطن) والدين وتسجيل على هؤلاء السفاكين القتلة جرمهم وذنبهم ، وهؤلاء القتلة بشرهم بعذاب أليم وقعه شديد خطره ، أولئك البعيدون في الضلال بطلت أعمالهم دنيا وأخرى وما لهم في الآخرة من ناصرين يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ « 1 » .
الإعراض عن حكم اللّه مع الغرور [سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 25]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)
المفردات :
نَصِيباً : جزءا من التوراة. كِتابِ اللَّهِ قيل : هو التوراة ، أو القرآن يَفْتَرُونَ : يختلقون ويكذبون.
___________
(1) سورة الشعراء آية 88.(1/218)
ج 1 ، ص : 219
سبب النزول :
روى أنهم سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أى دين أنت ؟ فقال : على ملة إبراهيم - عليه السلام - قالوا : إن إبراهيم كان يهوديا ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها ، فأبوا ،
وقيل : نزلت في حكم الزنى ، وقد اختلفوا لما زنى بعض أشرافهم واحتكموا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فحكّم التوراة فأبوا ، وقيل اختلف أحبارهم لما أسلم البعض وظل البعض على دينه واحتكموا إلى التوراة ثم أعرض من لم يسلم منهم ، والوقائع تؤيد ذلك كله.
المعنى :
انظر يا محمد واعجب من هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من التوراة والباقي قد حرف وغيّر وضاع ، وقد بقي الجزء الذي فيه بشارة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وتعجب من عدم إيمانهم بك مع وضوح الدلالة وإعراضهم عن الكتاب الذي يؤمنون به ، أو يعرضون عن القرآن ، فهم إذا اختلفوا وحكموا التوراة في الخلاف وعلموا أن الحكم فيها على خلاف أهوائهم أعرضوا وتولوا بعد تردد.
وفي التعبير ب ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ إشارة إلى أنهم كانوا يترددون في قبول الحكم ثم يعرضون ، وإلى بعد ما بين دعوتهم إلى كتاب اللّه وإعراضهم عنه وقوله تعالى : وَهُمْ مُعْرِضُونَ إشارة إلى دوام إعراضهم ، وأنه ديدن لهم وطبيعة فيهم ، وفي قوله : فَرِيقٌ مِنْهُمْ إشارة إلى أن منهم أمة يهدون بالحق وبه يهتدون كعبد اللّه بن سلام وغيره ، وما شجعهم على هذا العناد والجحود إلا اعتقادهم الباطل أنهم لا تصيبهم النار إلا أياما قليلة ، فاليهودى يعتقد أنه مهما فعل لا يدخل النار إلا أياما وبعدها يدخل الجنة ، وغرهم ما كانوا يختلقونه في الدين كقولهم : إن الأنبياء ستشفع لنا ونحن أولاد الأنبياء وشعب اللّه المختار ، ولقد رد اللّه عليهم فريتهم في غير موضع من القرآن.
فكيف بهم وعلى أى شكل يكونون إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ؟ يوم تنقطع فيه الأنساب ولا ينفع فيه مال ولا بنون ، يوم توضع فيه الموازين القسط فلا تظلم نفس شيئا وتوفى كل نفس ما كسبت من خير أو شر وهم لا يظلمون.(1/219)
ج 1 ، ص : 220
من مظاهر قدرة اللّه وعظمته [سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
المفردات :
اللَّهُمَّ : يا اللّه. الْمُلْكِ : السلطة والتصرف في الأمور المادية والروحية.
تَنْزِعُ : تقلع وتخلع. تُولِجُ : تدخل.
كان المشركون ينكرون النبوة لشخص يأكل الطعام ويمشى في الأسواق ، وأهل الكتاب ينكرون النبوة في غير بنى إسرائيل.
والقرآن ملئ بما يسلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويذكره بأن الأمر كله بيد اللّه ما شاء فعله.
سبب النزول :
وفي رواية أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بشر قومه بملك كسرى والروم وقصور صنعاء ، فقال المنافقون : ألا تعجبون ؟ يمنيكم ويعدكم الباطل. فنزلت الآية.
المعنى :
إذا تولوا عنك وأعرضوا فعليك أن تلجأ إلى اللّه مالك الملك وصاحب الأمر.
ولا عليك بأس في عناد وفد نجران ، بل توجه إلى اللّه وقل :
يا اللّه يا مالك الملك ، أنت المعطى والمانع ، ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ، تؤتى الملك والنبوة من تشاء من عبادك ، وأممك اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية 124] وتنزع(1/220)
ج 1 ، ص : 221
الملك ممن تشاء من الأمم والأفراد كما نزعت من بنى إسرائيل النبوة ببعثة النبىّ العربي.
واللّه يعطى من يشاء من عباده الملك إما مع النبوة كما حصل لآل إبراهيم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ والنبوة وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [سورة النساء آية 54] او ملكا فقط كما هو عند الملوك المعاصرين ، وتنزع الملك ممن تشاء من الأفراد والأمم بسبب ظلمهم وفساد حكمهم وسوء سياستهم كما نزعت الملك والنبوة من بني إسرائيل لما خرجوا على الدين وأساءوا الحكم واستعملوا الرشوة والظلم سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. [سورة الأحزاب آية 62].
وتعز من تشاء وتذل من تشاء ، والعزة والذلة لا تتوقفان على الملك أو المال فكم من ملك ذليل ، وفقير عزيز الجانب مهاب الطلعة.
بيدك وحدك الخير ، فكل ما كان أو يكون لا يخلو من خير ونعمة لصاحبه أو للمجموعة ، إنك يا رب على ما تشاء قدير.
ومن مظاهر القدرة وتمام الملك والعظمة أن اللّه يدخل الليل في النهار فيزيد ، ويدخل النهار في الليل فيزيد ، بيده الأمر والكون في قبضته والسموات والأرض مطويات بيمينه.
ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وهل المراد الحياة والموت المعنويان ؟
وعلى ذلك فالمثال يخرج العالم من الجاهل والجاهل من العالم والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وإن أردنا حياة مادية فمثالها إخراج البيضة من الفرخة والفرخة من البيضة وإن قال الأطباء : إن في النطفة والبيضة حياة أجيب عن ذلك بأنها حياة بالعرف الخاص وأما العرف العام السائد فيفهم أن البيضة ليس فيها حياة.
ولعل المثال الذي يتفق عليه الكل خروج النبات من الحبة اليابسة والعكس ، وما المانع أن يقال : إن الحيوان يخرج من الغذاء بمعنى أنه يتكون منه ، ولا شك أنه ليس فيه حياة ، وإذا كان هذا شأن المولى - جل شأنه - فلا مانع أن يخرج من العرب الجاهلين محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ويخرج من الأنبياء الإسرائيليين هؤلاء المفسدين.
ويرزق اللّه من يشاء بغير حساب يطلب منه ولا رقيب ، وبغير تعب ولا مشقة فله خزائن السموات والأرض - سبحانه وتعالى -(1/221)
ج 1 ، ص : 222
موالاة المؤمنين للكافرين والتحذير من يوم القيامة [سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 30]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
المفردات :
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا : إلا أن تخافوا. تُقاةً اتقاء ، أو شيئا يجب اتقاؤه.
مُحْضَراً أى : حاضرا. أَمَداً الأمد : المسافة ، وقيل : مدة من الزمان قد تنحصر إذا قلت : أمد كذا.
سبب النزول :
روى أن بعض المؤمنين كانوا يغترون بقوة الكفار ويعتزون بهم ، وقد وقعت حوادث لبعض المؤمنين كانوا يوالون فيها اليهود أو المشركين لقرابات وصلات.(1/222)
ج 1 ، ص : 223
أما المناسبة :
فبعد ما أثبت القرآن أن الأمر بيد اللّه وأنه المعطى والمانع ، وأنه على كل شيء قدير.
فيجب الالتجاء إليه وحده ، وإذا كانت العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين فمن الخطأ الالتجاء إلى غير أوليائه.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء تلقون إليهم بالمودة وتسرون إليهم بأسراركم مؤثرين مصلحة الكفار على مصلحة المؤمنين ، وإن كان في ذلك مصلحة جزئية فمصلحة المسلمين العامة أولى وأحق لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ [المجادلة 22] ومن يفعل ذلك ويوالى الكافرين من دون المؤمنين فيعمل ضد مصلحتهم من حيث كونهم مؤمنين ، أى : يكون جاسوسا مخلصا للكفار ، فليس من ولاية اللّه في شيء ، أى : يكون بينه وبين اللّه غاية البعد مطرودا من رحمته ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم.
إذن موالاة الكافرين أمر ينفر منه الشرع ولا يقره الدين في حال من الأحوال إلا في حال أن تخافوا منهم أمرا يجب اتقاؤه كالقتل مثلا ، وهذا إذا كنت في دارهم فدارهم باللسان فقط إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [سورة النحل آية 106].
ويحذركم اللّه عقابه ، وفي ذكر (نفسه) إشارة إلى أن الوعيد صادر من ذاته ونفسه وهو القادر على كل شيء وإلى اللّه المصير والمرجع.
قل لهم يا محمد : إن تخفوا ما في صدوركم وتكتموه أو تبدوه وتظهروه فاللّه يعلمه ويجازى عليه وهو يعلم ما في السموات لأنه يعلم بذات الصدور ومنها الميل إلى الكفار أو البعد عنهم ، واللّه على كل شيء قدير.
واحذروا يوم تجد كل نفس ما عملت في الدنيا من خير مهما قل أو كثر وما عملت من شر مهما صغر أو كبر حاضرا أمامها تأخذ جزاءه وفائدته أو يحلق بها ضرره وخطره فإن كان العمل خيرا سرت له وتلقته باليمين ، وإن كان شرا ودت لو يكون بينها وبين عملها بعد ما بين المشرقين ، ولكن أين لها هذا ؟(1/223)
ج 1 ، ص : 224
ويحذركم اللّه نفسه وعقابه واللّه بهذا التحذير الشديد وذكر العقاب الصارم رءوف بعباده فإنهم حينما يعرفون جزاءهم ومصيرهم لا شك يرجعون عن غيهم ، أليس هذا من باب الرحمة ؟
يؤخذ من الآية الشريفة وما لا لابسها من أسباب النزول :
1 - أن اللّه حرم إفشاء الأسرار للكفار التي تضر الجماعة الإسلامية من حيث هي جماعة (الجاسوسية).
2 - معاملة الكفار غير الحربيين لا مانع أن تكون حسنة ما داموا لم يظاهروا علينا أحدا أو يضرونا بضرر.
3 - الكفار الذين آذونا أو ظاهروا على إخراجنا أو إخراج المسلمين من بلادهم كفلسطين مثلا فلا تحل موالاتهم بل تجب معاداتهم إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
والذى ينطبق عليهم هذا هم اليهود والإنجليز والفرنسيون والأمريكان وكل من يقف في سبيل استقلالنا.
محبة اللّه باتباع رسوله وطاعته [سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
نزلت هذه الآية خطابا لوفد نجران فإنهم كانوا يدّعون أنهم أبناء اللّه وأحباؤه ، والخطاب فيها عام ، وقيل : نزلت ردا على جماعة ادعوا أمام الرسول - عليه السلام - أنهم يحبون ربهم.(1/224)
ج 1 ، ص : 225
المعنى :
قل لهم يا محمد : إن كنتم تحبون اللّه حقيقة فاتبعوني فإن ما جئت به من عنده مبين لصفاته وأوامره ونواهيه ، والمحب الصادق حريص على معرفة المحبوب ومعرفة أمره ونهيه ليتقرب إليه بامتثال أمره واجتناب نهيه ، فإن اتبعتمونى يحببكم اللّه ويوفقكم ويهديكم إلى سواء السبيل ويغفر لكم ذنوبكم واللّه غفور رحيم. قل لهم ، أطيعوا اللّه باتباع كلامه ، والرسول باتباع سنته والاهتداء بهديه واقتفاء أثره ، فإن تولوا وأعرضوا ولم يجيبوك لدعوتك غرورا منهم بدعواهم محبون للّه وأنهم أبناؤه فاعلم أن اللّه لا يحب الكافرين الذين لا ينظرون في آيات اللّه ويهتدون إلى الدين الحنيف.
اصطفاء الأنبياء وسلالتهم [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 37]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)(1/225)
ج 1 ، ص : 226
المفردات :
اصْطَفى : اختار. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ الذرية : تطلق على الأولاد ، والمراد ذرية شبه بعضها بعضا. مُحَرَّراً : معتقا خالصا للعبادة وخدمة المسجد.
أُعِيذُها العوذ : الالتجاء إلى الغير ، ومعنى الاستعاذة باللّه : الالتجاء إليه ، وتكون بالدعاء والرجاء.
المناسبة :
لما بين اللّه أن محبته متوقفة على اتباع الرسول وأن طاعة اللّه مقرونة بطاعة الرسول ، ناسب أن يبين الرسل ومن اصطفاهم من الخلق.
المعنى :
إن اللّه اختار آدم أبا البشر : خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له وأسكنه الجنة وهبط منها لحكمة ، اللّه يعلمها ، واصطفى نوحا وجعله أول رسول بعث إلى الناس لما عبدوا الأوثان. وانتقم له بإغراقهم ونجاته هو ومن اتبعه ، واصطفى آل إبراهيم ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء ، واصطفى من ذرية إبراهيم آل عمران ، وعمران هذا هو أبو مريم وجد عيسى - عليه السلام - .
فاللّه اختار هؤلاء وجعلهم صفوة الخلق وخيارهم وجعل النبوة والرسالة فيهم.
ذرية بعضها يشبه بعضا في الفضل والمزية فهم خيار من خيار من خيار.
واذكر وقت أن قالت امرأة عمران - قيل : كان اسمها حنة وكانت عاقرا لا تلد - رب إنى نذرت لك ما في بطني خالصا لوجهك ولعبادتك لا يشتغل بشيء آخر سوى خدمة بيتك ، ودعت اللّه أن يتقبل منها هذا النذر ، إنك يا رب أنت السميع لكل قول ودعاء العليم بنية صاحبه ، وقد كان اللّه سميعا لقول امرأة عمران عليما بنيتها. ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكر أم أنثى ، فلما وضعتها قالت متحسرة حزينة : إنى وضعتها أنثى وذلك أنه ما كان يؤخذ لخدمة البيت إلا الذكور لأن الأنثى تحيض وتلد فلا تصلح(1/226)
ج 1 ، ص : 227
لهذا واللّه أعلم بما وضعت وبمكانتها وأنها خير من كثير من الذكور ، وقد بين ذلك بقوله - تعالى - : وَلَيْسَ الذَّكَرُ الذي طلبت كالأنثى التي وضعت ، بل هذه الأنثى خير مما كنت ترغبينه من الذكور.
قالت امرأة عمران : إنى سميتها مريم خادمة الرب آمل أن تكون بأمرك من العابدات وإنى أستعيذ باللّه وأدعوه أن يقيها هي وذريتها (عيسى) من الشيطان وسلطانه عليهما فاستجاب اللّه دعاءها ،
عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما من مولود إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من مسه إلا مريم وابنها » « 1 »
والمعنى في الحديث أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يؤثر فيه إلا مريم وابنها ، فالحديث من باب التمثيل لا الحقيقة ، وهذا لا يمنع أن إبليس كان يوسوس لعيسى - عليه السلام - كما ثبت في إنجيل مرقص ، ومع هذا ما كان يطيعه ، فقبل اللّه مريم من أمها بأبلغ قبول حسن ، ورضى أن تكون محررة خالصة للعبادة وخدمة البيت ورباها تربية عالية تشمل الجسد والروح وكفاها فخرا بهذا.
وجعل زكريا (و كان رجلا معروفا بالخلق والتقوى وكان زوج خالتها) كافلا لها وراعيا حتى شبت وترعرعت وكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها خيرا كثيرا وفضلا من الرزق فيقول لها : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند اللّه رازق الناس بتسخير بعضهم لبعض ، إن اللّه يرزق من يشاء من عباده بغير حساب.
العبرة من القصة :
المشركون وأهل الكتاب كانوا ينكرون على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نبوته لأنه بشر مثلهم وليس من بنى إسرائيل فيرد اللّه عليهم : إن اللّه اصطفى آدم أبا البشر ونوحا الأب الثاني واصطفى من ذريتهما آل إبراهيم ومن آل ابراهيم آل عمران.
والمشركون يعترفون باصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم لأنهم من سلالته ، وبنو إسرائيل يعترفون بهذا ، واصطفاء آل عمران لأنهم من سلالة بنى إسرائيل حفيد إبراهيم ، وإذا كان اللّه اصطفى هؤلاء على غيرهم من غير مزية سبقت فما المانع له من اصطفاء محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى بنى إسرائيل على غيرهم.
___________
(1) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء حديث رقم 3431.(1/227)
ج 1 ، ص : 228
ومن هذه الأدلة قصة مريم فكما ولدت من أم عاقر على خلاف المعهود وقبلت أنثى في خدمة البيت كذلك فلم لا يجوز أن يرسل نبي عربي على خلاف المعهود اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ « 1 » .
قصة زكريا ويحيى [سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)
المفردات :
سَيِّداً السيد : الذي يسود قومه ويفضلهم في الشرف والعلم والخلق.
وَحَصُوراً الحصر : المنع ، والمراد : منوعا نفسه من ارتكاب ما يعاب عليه.
آيَةً : علامة. رَمْزاً : إشارة. بِالْعَشِيِّ : الوقت من الزوال إلى الليل.
وَالْإِبْكارِ : من طلوع الشمس إلى الضحى.
___________
(1) سورة الأنعام آية 124.(1/228)
ج 1 ، ص : 229
المعنى :
عند ما رأى زكريا حال مريم وما هي عليه من التوفيق والهداية ، وما يتفضل اللّه به عليها من الخير والكرم.
هنالك دعا زكريا ربه وتوجه إليه أن يرزقه ولدا صالحا طيبا طاهرا من نسل يعقوب - عليه السلام - إنك يا رب سميع لكل قول ودعاء.
فنادته الملائكة وهو قائم يدعو اللّه ويصلى في المحراب وقالت له : إن اللّه يبشرك بغلام اسمه يحيى موصوفا بأنه يصدق بعيسى ابن مريم - عليه السلام - وسمّى كلمة اللّه لأنه نشأ بكلمة اللّه كن لا على السنة الطبيعية من الولادة بين أب وأم.
وهذا - ولا شك - دليل على أنه مهدى موفق حيث إنه أول السابقين المصدقين بعيسى وهكذا السابقون إلى تصديق الرسل - عليهم السلام - .
وسيكون يحيى سيدا في قومه يفضلهم في الشرف والخلق والأدب ، وسيكون منوعا لنفسه من كل ما يشينها ويحط من شأنها ، ولا غرابة فهو في الدنيا نبي وإنه في الآخرة لمن الصالحين.
قال : رب أنى يكون لي غلام ؟
قال الشيخ محمد عبده ما معناه : إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم اللّه على مريم وتوفيقه لها في الإجابة عن سؤاله. غاب عن حسه وهام في ملكوت اللّه ، واستغرق قلبه في ملاحظة اللّه وحكمته ونطق بهذا الدعاء وهو على تلك الحال.
ولما آب من سفره وعاد من مشاهداته العليا إلى عالم الأسباب والمسببات سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة وهي على غير السنن الكونية إذ هو شيخ مسن وامرأته عاقر.
قال تعالى : مثل ذلك الخلق على غير السنة الطبيعية مع امرأة عمران يفعل اللّه ما يشاء في الكون ، ومنه إيجاد ولد لك وامرأتك عاقر.
وهكذا يا أهل الكتاب لا تعجبوا من نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فاللّه يفعل ما يشاء ولا تخلو أفعاله من حكم عالية قد تخفى على الناس.(1/229)
ج 1 ، ص : 230
قال زكريا : رب اجعل لي علامة تتقدم هذه المكرمة وتؤذن بها ، أى : اجعل لي عبادة أتعجل بها شكرك ويكون إتمامها علامة على حصول المقصود ، فأمره ألا يكلم الناس ثلاثة أيام بل يشغل نفسه بالعبادة والتسبيح طول الوقت خصوصا في الصباح والمساء والعشىّ والإبكار.
مريم وفضل اللّه عليها [سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 44]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
المفردات :
اقْنُتِي : الزمى الطاعة مع الخضوع. أَقْلامَهُمْ : قداحهم التي يستهمون بها ويقترعون.
المعنى :
عدّ اللّه مريم من أصحاب النفوس الطيبة الطاهرة التي إذا أكرمت بالغت في الطاعة ، وإذا مدحت استماتت في العمل والاجتهاد.
فقالت الملائكة : يا مريم إن اللّه اختارك خالصة لخدمة البيت وسدانته ، وقبلك وما كان يصلح لهذا إلا الرجال ولكنه طهّرك من كل دنس ورجس وعيب يمنع من(1/230)
ج 1 ، ص : 231
المكث في المسجد ، واصطفاك على نساء العالمين بولادة عيسى ابن مريم وخطاب الملائكة وكمال الهداية والتوفيق وتقوى اللّه يا مريم الزمى الطاعة وتجملى بالالتجاء إليه وحده واسجدي للّه مع الخشوع والخضوع ، واركعى مع الراكعين ولا تصلى وحدك.
ذلك القصص المنزل عليك يا محمد وفيه أخبار مريم وزكريا من أنباء الغيب وأسرار الخلق التي لم تطلع عليها أنت ولا أحد من قومك وإنما توحى إليك بالروح الأمين جبريل ، وما كنت معهم حينما جاءت امرأة عمران وألقت مريم في بيت المقدس ، وتنافس الأحبار في رعايتها وخدمتها فهي بنت سيدهم وكبيرهم. واستهموا في ذلك فنال شرف رعايتها زكريا ، وما كنت يا محمد لديهم إذ يختصمون.
ولقد نفى اللّه حضور النبي صلّى اللّه عليه وسلّم تلك المشاهد على سبيل التهكم بهم فلم يبق إلا الوحى من اللّه - تعالى - وأما تعليم البشر كما قالوا فرد اللّه عليهم بقوله : لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ « 1 » وهو النبي الأمى لم يقرأ ولم يكتب فلم تبق إلا المشاهدة وقد نفيت عنه صلّى اللّه عليه وسلّم.
قصة عيسى عليه السلام [سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 51]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
___________
(1) سورة النحل آية 103.(1/231)
ج 1 ، ص : 232
المفردات :
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ المراد بها : عيسى ابن مريم - عليه السلام - . وَجِيهاً : ذا وجاهة وكرامة في الدارين. كَهْلًا : الرجل التام السوىّ. قَضى : أراد شيئا. الْحِكْمَةَ : العلم النافع. الْأَكْمَهَ : من ولد أعمى.
هذا شروع في قصة عيسى بعد قصة أمه وقصة زكريا ويحيى أقاربه.
المعنى :
واذكر يا محمد لقومك وقت أن قالت الملائكة (و المراد بهم جبريل) : إن اللّه يبشرك يا مريم بعيسى ، وعبر عنه (بكلمة منه) إيذانا بأنه خلق خلقا غير عادى استحقّ أن يوصف وحده بقوله : (كلمة منه) وإن كان في الواقع أن جميع الكائنات بكلمة اللّه إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.(1/232)
ج 1 ، ص : 233
اسمه المسيح الذي جاء فرفع الظلم وأنار لقومه الطريق وحملهم على الأخوة الصادقة وكانت مملكته روحانية لا جسدية ، والمسيح لقب لعيسى ابن مريم من ألقاب المدح وإنما وصف عيسى بابن مريم مع أن الخطاب معها تسجيلا لوصفه بهذا في كل وقت وزمان وردّا على من ألّهه من أول الأمر ، ولبيان أنه ولو كان من غير أب فهو منسوب لها تكريما وبيانا لمكانتها وهو ذو وجاهة في الدنيا عند أتباعه والمؤمنين به ، وفي الآخرة عند اللّه من النبيين أولى العزم والرسل المقربين.
ومن أوصافه أنه يكلم الناس في المهد رضيعا حتى يدافع عن أمه وعند تمام رجولته وكلامه تام موزون موفق في كل حال وهو من الصالحين الذين أنعم اللّه عليهم وأصلح حالهم.
ولما بشر اللّه مريم بعيسى الفذ في تكوينه وخلقته الموصوف بما ذكر قالت مريم مستفهمة : أيكون هذا عن طريق الزواج أم لا ؟ ويجوز أنها تكون سألت متعجبة مستعظمة قدرة اللّه القادر على كل شيء كيف يكون لي ولد وأنا لم أتزوج ؟
قال تعالى : مثل ذلك الخلق البديع يخلق اللّه ما يشاء وقد خلق الخلق كما ترى وخلق السماء والأرض وخلق أبانا آدم من تراب بلا أب ولا أم ثم قال له كن فيكون.
وانظر إلى بلاغة القرآن حيث عبر في جانب زكريا كذلك يفعل اللّه ما يشاء ، وهنا كذلك يخلق اللّه ما يشاء للإشارة إلى أن إيجاد ولد من شيخين عجوزين ليس كإيجاد ولد من أم فقط بلا أب فكان الخلق والإبداع أنسب بعيسى من يحيى.
ولذلك عقبه ببيان كيفية الخلق فقال : وإذا أراد أمرا من الأمور قال له كن فيكون والمراد بالأمر هنا الأمر التكويني لا الأمر التكليفي كما في قوله - تعالى - أقيموا الصلاة ، مثلا.
وهذا تمثيل لعظمة اللّه ونفاذ أمره وسرعة إنجازه ما يريد حيث شبه حدوث ما يريد عند تعلق إرادته به حالا بطاعة المأمور القادر على الفعل للأمر المطاع ، ومما يشبه هذا قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أى : أراد أن يكون فكانتا.(1/233)
ج 1 ، ص : 234
وما لنا ننكر أن يكون عيسى من غير أب وقد خلق اللّه آدم من غير أب وأم ؟ ! إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وقد خلق اللّه السماء والأرض بل وجميع المخلوقات في الأصل ابتداء من غير تلقيح فالأسباب الظاهرة ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا ، ونحن نرى كل يوم خوارق للعادات وفلتات للطبيعة فنحار في تعليلها.
وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئا ويعده مستحيلا عادة ويذهب في تأويله المذاهب.
ومن أوصاف عيسى أن اللّه يعلمه الكتابة بالخط والعلم النافع والتوراة وقد كان عيسى عالما بها واقفا على أسرارها ويقيم الحجج على قومه بنصوصها ، وقد علمه اللّه وأنزل عليه الإنجيل.
وكذلك يرسله رسولا إلى بنى إسرائيل كافة ناطقا ومحتجا على صدق رسالته بأنى أخلق - بمعنى أقدر وأصور لا أنشئ وأخترع - من الطين هيئة كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه وأمره لا بإذنى وأمرى فأنا مخلوق لا أقدر على هذا ، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن اللّه ، وقد أنكروا عليه ذلك فقال لهم : وأخبركم بما تأكلون في بيوتكم وما تدخرون وتحفظون وهكذا مما لا سبيل إلى إنكاره.
إن في ذلك لآية لكم على صدقى وصدق رسالتي إن كنتم مؤمنين باللّه مصدقين بقدرته الكاملة على كل شيء.
وقد أرسل عيسى ابن مريم مصدقا لما تقدمه من التوراة ولم يأت ناسخا لها بل متفقا معها في الأصول العامة في الدين كالتوحيد والبعث ... إلخ.
وإن يكن أرسل ليحل لكم بعض ما حرم عليكم بسبب ظلمكم وعنادكم يا بنى إسرائيل فقد حرم عليهم بعض الطيبات كالسمك والشحم فأحلها عيسى - عليه السلام - وجئتكم بآية من ربكم.
فاتقوا اللّه وخافوه وأطيعونى إن اللّه ربي وربكم فاعبدوه.
ترى أنه أمرهم بالتقوى والطاعة فيما جاء به عن ربه وختم ذلك بالتوحيد والاعتراف(1/234)
ج 1 ، ص : 235
منه بالعبودية له - تعالى - والربوبية ، وقال : هذا هو الصراط المستقيم والقول الحق في مريم وابنها فمن تعدى ذلك فهو في ضلال مبين.
قصة عيسى مع قومه [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 58]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)(1/235)
ج 1 ، ص : 236
المفردات :
أَحَسَّ يقال : أحسّ الشيء : أدركه بإحدى الحواس الخمس ، وإدراك الأمور المعنوية بها مجاز. الْحَوارِيُّونَ : هم أصحاب عيسى وأنصاره ، والحور : البياض وصفوا به لبياض قلوبهم وصفاء سريرتهم. مَكَرُوا المكر : التدبير الخفى المفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسب. مُتَوَفِّيكَ التوفي : أخذ الشيء تماما.
شروع في قصة عيسى مع قومه حيث دعاهم للإيمان به فآمن به البعض وكفر به البعض ، ولم يتعرض القرآن الكريم هنا إلى ولادته ونشأته إيجاز واختصارا ، وإنما ذكر هنا ما يفيد تسلية الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وبيان أن الآيات الكونية مهما عظمت لا يتوقف عليها الإيمان وإنما الإيمان يتوقف على هداية اللّه وتوفيقه.
المعنى :
فلما تحقق كفرهم عنده تحقّق ما يدرك بالحواس ، وعلم علما أكيدا بأن منهم الجاحدين والمنكرين توجه إلى البحث عن المستعدين لقبول الدعوة ومن في قلوبهم نور الإيمان فقال : من ينصرني ملتجئا إلى اللّه ؟ ومن الذين يضيفون أنفسهم إلى اللّه في نصرتي ويكونون حزبى وجماعتي ؟ قال الحواريون : نحن أنصار اللّه ومن ينصر الرسول فقد نصر اللّه مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء 80] نحن أنصار اللّه آمنا به إيمانا صادقا واتبعنا رسله واشهد بأنا مسلمون إذ الإسلام في جوهره لا يختلف فيه دين عن دين.
ربنا آمنا وصدقنا بما أنزلت في كتابك واتبعنا الرسول عيسى ابن مريم ، فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك بالصدق.
ومكر كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر وهموا بقتله وجمعوا جموعهم للفتك به وأبطل اللّه مكرهم فلم ينجحوا فيما دبروا وعبر عن ذلك بقوله : ومكر اللّه للمشاكلة ، والمكر سيّئ وحسن ، ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله واللّه خير الماكرين.
مكر اللّه بهم إذ قال اللّه يا عيسى : إنى موافيك أجلك كاملا ولن يعتدى عليك معتد أبدا ، فهذه بشارة له بنجاته من مكرهم وتدبيرهم ، ورافعك في مكان علىّ. فالرفع رفع مكانة لا مكان ، كما قال تعالى في شأن إدريس - عليه السلام - : وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم آية 57] وكقوله في المؤمنين : فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(1/236)
ج 1 ، ص : 237
المعنى - واللّه أعلم به - أن عيسى رفع إلى السماء وأنه سينزل إلى آخر الدنيا ويستوفى أجله ثم يموت.
ومن إكرام اللّه لعيسى - عليه السلام - أنه قد جعل الذين اتبعوه في الدين وآمنوا به فوق الذين كفروا ، والمراد أنهم أعلى منهم روحا وأحسن خلقا وأكمل آدابا ، وقيل :
فوقهم في الحكم والسيادة وإن يكن هذا غير مطرد بالنسبة لليهود والنصارى.
والمعروف الذي يحدثنا به التاريخ أن كل جماعة تتمسك بدينها وآدابه وأخلاقه لا بد أن تكون فوق الجميع هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة فالمرجع للّه وحده ، فأما الذين كفروا فيعذبون العذاب الشديد الملائم لما اقترفوا من ذنب في الدنيا وما لهم في الآخرة من ناصر ومعين.
وأما الذين آمنوا وعملوا صالحا فأولئك يوفيهم اللّه حقهم ويعطيهم أجرهم واللّه لا يحب الظالمين ولا يهديهم إلى الخير أبدا.
ذلك الذي تقدم من خبر عيسى نتلوه عليك يا محمد وهو من الآيات الواضحات الدالة على صدق نبوتك وهو من الذكر الحكيم.
الرد على ألوهية عيسى وقصة المباهلة [سورة آل عمران (3) : الآيات 59 الى 63]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)(1/237)
ج 1 ، ص : 238
المفردات :
حَاجَّكَ : جادلك. نَبْتَهِلْ ابتهل الرجل : دعا وتضرع ، وابتهل القوم :
تلاعنوا ، والبهلة : اللعنة.
سبب النزول :
روى أن وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما لك تشتم صاحبنا ؟ قال : ما أقول ؟
قالوا : تقول : إنه عبد اللّه. قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أجل هو عبد اللّه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول ، فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب ؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله ، فنزلت هذه الآية : إن مثل عيسى عند اللّه
: وحقا صدق اللّه إذ يقول : وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سورة الفرقان آية 33].
المعنى :
إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم كلاهما خلق خلقا غريبا غير عادى فآدم خلق من غير أب ولا أم خلقه من تراب وقدره جسدا من طين ثم قال له كن فكان وعيسى خلق من غير أب فقط.
فقد شبه الغريب بالأغرب منه.
البيان الحق والقول الصدق من ربك بلا مراء ولا شك فلا تكن يا محمد أنت وأمتك من الممترين الشاكين وهذا الأسلوب يثير في النبي الكريم وأمته معاني اليقين والاطمئنان إلى الأخبار السماوية.
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما حاجوه بعد هذا طلب منهم المباهلة وخرج هو والحسن والحسين وفاطمة وعلى فلما طلب منهم المباهلة قالوا : أنظرنا.
ثم تشاوروا وقالوا : ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا ، فلما كان الغد صالحوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على الجزية وهي ألفان من الثياب ألف في صفر وألف في رجب ومعها دراهم.
وقد روى غير ذلك إلا أن الكل قد أجمع على أنهم طولبوا بالمباهلة فأبوا وقد خرج محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وآل بيته الكرام لمباهلتهم.(1/238)
ج 1 ، ص : 239
وهذا من الأدلة على صدق النبي محمد وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ألا لعنة اللّه على الظالمين.
فمن حاجك في شأن عيسى بعد هذا فقل لهم : تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نتباهل وندعو اللّه أن يلعن الكاذب ويطرده من رحمته.
فما أمكنهم أن يقدموا على المباهلة كما روى سابقا إن هذا لهو القصص الحق لا مرية فيه ولا جدال وليس هناك إله إلا اللّه العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم في كل شيء.
فإن تولوا بعد هذا فإن اللّه عليم بالمفسدين الذين هم منهم وسيجازيهم على ذلك.
كلمة التوحيد وملة إبراهيم [سورة آل عمران (3) : الآيات 64 الى 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)(1/239)
ج 1 ، ص : 240
المفردات :
سَواءٍ السواء : العدل والوسط. أَرْباباً : جمع رب ، وهو السيد المربى المطاع فيما يأمر. تُحَاجُّونَ : تخاصمون وتجادلون. حَنِيفاً : مائلا عن الباطل. مُسْلِماً منقادا للّه وحده.
المعنى :
بين اللّه القصص الحق والخبر الصدق في عيسى وأن أهل الكتاب قد أفرط البعض فجعله إلها وفرط البعض الآخر فنعته بما لا يصح ، وانتهى أمرهم إلى المباهلة فغلبهم الرسول فيها بالعاطفة بعد الحجة والبرهان.
ثم أراد القرآن أن يسلك بهم سبيلا آخر حيث دعاهم إلى شيء لا يمكن أن يفلتوا منه ويتملصوا وهو : تعالوا إلى العدل والوسط والكلمة السواء : ألا نعبد إلا اللّه وألا نشرك وشيئا وألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من غير اللّه فكل دين لا يختلف عن الآخر في إثبات الوحدانية والربوبية للّه تعالى.
وإذا كان الأمر كذلك فهيا بنا جميعا إلى الأمر الوسط المسلّم من الجميع.
وإن اعترضنا شيء وجب أن نرده إلى أصل التوحيد وكلمته فلا نقول إذن : عزير ابن اللّه ، والمسيح ابن اللّه فإن تولى اليهود والنصارى بعد هذا وأعرضوا فقولوا لهم :
اشهدوا بأنا مسلمون حقا منقادون للّه نعبده وحده مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، أما أنتم فلا!!!
المحاجة في إبراهيم :
روى أن اليهود قالوا : إن إبراهيم كان يهوديا ، وقال النصارى : إنه كان نصرانيا وتحاكموا إلى رسول اللّه فنزلت الآية
: يا أهل الكتاب لم تتخاصمون في شأن إبراهيم وشريعته وقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعده فكيف تدعون أنه كان يهوديا أو نصرانيا أعميتم عن إدراك أبسط الأشياء فلا تعقلون.(1/240)
ج 1 ، ص : 241
ها أنتم هؤلاء تحاجون فيما لكم به نوع من العلم والمعرفة وهو عيسى - عليه السلام - فعلى أى أساس تحاجون في شأن إبراهيم - عليه السلام - وليس لكم به علم يصلح أساسا للمحاجة والمخاصمة ، واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون.
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مائلا عن الشرك باللّه والوثنية.
فلم يقل : عزير ابن اللّه ، ولا المسيح ابن اللّه بل كان مسلما منقادا للّه - سبحانه وتعالى - وما كان من المشركين كأهل الكتاب والمشركين من العرب وما لكم ولإبراهيم ؟ ؟
إن أولى الناس وأحقهم بإبراهيم من اتبعوه من المؤمنين به خصوصا هذا النبي محمد والذين معه من المؤمنين ، إذ الكل متفق معه في الوحدانية والألوهية للّه تعالى ، واللّه ولى المؤمنين.
من مواقف أهل الكتاب [سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 74]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)(1/241)
ج 1 ، ص : 242
المفردات :
يُضِلُّونَكُمْ : يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الإسلام والمخالفة له ، والضلال : نوع من الهلاك. تَلْبِسُونَ : تخلطون. وَجْهَ النَّهارِ : أول النهار.
المعنى :
روى أن معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر دعاهم اليهود إلى دينهم فنزلت هذه الآية
، ودت جماعة من أهل الكتاب لو يصدونكم عن دينكم ويخرجونكم من شرعكم بشتى الأساليب وكل الطرق ، أحبوا ذلك حبا عميقا من قلوبهم وبذلوا لردتكم عن دينكم كل مرتخص وغال ، وفي الواقع ما يضلون إلا أنفسهم إذ قد شغلوها بما لا يجدي بل بما يضر ويلهى عن النظر فيما ينفع وما يشعرون بذلك لأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، وأما جزاؤهم على ذلك فاللّه أعلم به.
يا أهل الكتاب قد أرسلت لكم رسل ومعهم كتب فيها ما فيها من العقائد والأعمال والبشارة بالنبي المبعوث من ولد إسماعيل وهو عربي أمى ، فلم تكفرون بآيات اللّه التي نزلت في التوراة والإنجيل ؟ لأنكم لم تعملوا بمقتضاها ، والآيات التي في القرآن لأنكم لم تؤمنوا بها ، والعجب العجاب أنكم تقرون وتشهدون بصدق رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصدق بشارته التي في كتبكم.
يا أهل الكتاب لم تخلطون الحق بالباطل وتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وتخلطون كلام اللّه المنزل بكلامكم المخترع الباطل وتكتمون الحق الصريح الواضح وهو ما يتعلق بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ومن الغريب أنكم تعلمون خطأكم وخطر هذا العمل.(1/242)
ج 1 ، ص : 243
روى أن جماعة من أهل الكتاب قالوا لسفلتهم : آمنوا بمحمد أول النهار واكفروا آخره ، فإن سئلتم في ذلك قولوا : آمنا حتى إذا رجعنا إلى التوراة والإنجيل عرفنا أنه ليس النبي المبشر به في التوراة فلعل ذلك يكون مدعاة لرجوع من آمن بمحمد.
ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الرسالة والنبوة إلا لمن تبع دينكم ،
أى : لا تعترفوا أمام العرب مثلا بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبي من غير بنى إسرائيل وهذا مبنى على أنهم ينكرون جواز بعثة نبي من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا اعتقادا ، وأنهم كانوا لا يصرحون باعتقادهم المستكن في أنفسهم إلا لمن آمنوا له من قومهم وهذا مكرهم وخداعهم لئلا يزداد المسلمون ثباتا على الدين ، والمشركون دخولا فيه ، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم لأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم يوم القيامة ويغالبونكم عند اللّه بالحجة ، وقوله تعالى : قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراض على معنى : ليس إظهاركم أو إخفاؤكم له دخل في الهداية بل الهداية من اللّه والتوفيق ، والفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم.
الأمانة والوفاء بالعهد عند اليهود [سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 77]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)(1/243)
ج 1 ، ص : 244
المفردات :
(قنطار) القنطار : العقدة الكبيرة من المال ، أى : المقدار الكبير منه ، وقيل : هو اسم للمعيار الذي يوزن به كالرطل والأوقية. الْأُمِّيِّينَ : العرب. سَبِيلٌ :
ذنب وتبعة. بِعَهْدِهِ العهد : ما تلتزم الوفاء به لغيرك. وَأَيْمانِهِمْ : جمع يمين ، وهو في الأصل يطلق على اليد المقابلة للشمال ، ثم أطلق على الحلف باللّه لأن المتعاهد يضع يمينه على يمين صاحبه ويحلف على العهد.
المعنى :
تقدمت صفة ثابتة لبعض أهل الكتاب خصوصا اليهود وهي حبهم العميق لفتنة المسلمين وإضلالهم.
ومنهم من يتصف بالخيانة وعدم الوفاء واستحلال أكل أموال غير اليهود.
ولقد أنصفهم القرآن حيث قال : وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بقطع النظر عن دينك ، كالسموءل بن عاديا اليهودي.
وكل جماعة فيهم الصالح والطالح ، وإن تكن الجماعة اليهودية أغلبها طالح فاسد.
وانظر إلى تعبير القرآن الكريم يقول : ومن أهل الكتاب بدل ومنهم للإشارة إلى أن هذه الصفات يعتمدون فيها على الكتب المنزلة عليهم فهم يستحلون أكل مال غير اليهود باسم التوراة التي حرفوها ، فهم قد زعموا أن التوراة لم تنههم إلا عن خيانة إخوانهم الإسرائيليين وأما الأميون فليس عليهم ذنب في أكل أموالهم إذ هم شعب اللّه المختار ومن سواهم لا حرمة له عند اللّه ، فهو مبغوض ولا حق له ولا حرمة وعند ذلك يحل أكل ماله ومثل الأميين غيرهم مما عدا اليهود.
وهم يقولون على اللّه الكذب ويفترونه إذ كل الشعوب والأمم سواء لا فضل لعربي على عجميّ إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات آية 13].
والذي سول لهم هذا الزعم وأباح لهم هذا الكذب شياطينهم وأحبارهم فهم الذين حرفوا التوراة وبدلوها.(1/244)
ج 1 ، ص : 245
بلى : ردّ عليهم في زعمهم وبيان من اللّه لكذبهم الصريح وأن القانون الإلهى أن من أوفى بعهده واتقى اللّه فأولئك الذين يحبهم اللّه ويعاملهم بالرحمة والعطف ويجازيهم على عملهم أحسن الجزاء والعهد يشمل كل عهد في بيع أو شراء وكل معاملة.
وإذا كان هذا جزاء الذين يوفون بعهدهم في المعاملات الدنيوية أفلا يكون الجزاء أوفى لمن يوفى بعهد اللّه في الدين والمعاملة بينه وبين ربه.
ثم بيّن اللّه - تعالى - جزاء أهل الغدر والحلف مع بيان السبب الذي يحملهم على ذلك فقال : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا ... الآية ، روى أنها نزلت في اليهود كتموا ما أنزل اللّه وبدلوا وحلفوا على ذلك أنه من عند اللّه ، وقد أضاف العهد هنا إلى اللّه لأنه عهد إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء فيما يتعاهدون ويتعاقدون ، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها كما عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا فعهد اللّه يشمل كل هذا.
ولما كان الناكث للعهد لا بد أن يأخذ شيئا في مقابل نكثه العهد ، عبر عن ذلك بالشراء الذي هو معاوضة ومبادلة في الجملة وسمى ذلك العوض قليلا لأنه مهما كان كثيرا فهو في الواقع قليل بالنسبة لجرمه وذنبه.
أولئك الناقضون العهد لا نصيب لهم في الآخرة أصلا ولا يكلمهم اللّه يوم القيامة غضبا عليهم ، ولا ينظر إليهم نظرة عطف ورحمة ولا يزكيهم بالثناء عليهم أصلا ولهم عذاب أليم.
من كذبهم وافترائهم على اللّه أيضا [سورة آل عمران (3) : آية 78]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)(1/245)
ج 1 ، ص : 246
المفردات :
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ من اللّىّ : وهو اللف ، أى : يفتلون ألسنتهم ليميلوها عن الآيات المنزلة إلى العبارات المحرفة.
المعنى :
وإن منهم لجماعة من أحبارهم وعلمائهم يفتلون ألسنتهم ويميلونها عن الآيات المنزلة بأن يزيدوا في كلام اللّه أو ينقصوا أو يحرفوا الكلم عن مواضعه ، ويقرءون كلامهم بنغم وترتيل فيوهمون الناس بأنه من التوراة وأن الكتاب جاء بذلك لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ والواقع أنه ليس منه ، ويقولون على اللّه الكذب ويفترونه وهم يعلمون أنه ليس من عند اللّه ولكن من عند الشيطان والهوى.
فهم لا يعرّضون ولكن يصرحون بذلك لقسوة قلوبهم وفرط جرأتهم وغرورهم.
الرد على أهل الكتاب في إشراكهم باللّه [سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
المفردات :
رَبَّانِيِّينَ : نسبة إلى الرب ، وهو المتشدد في الدين الملتزم طاعة اللّه.
أَرْباباً جمع رب.(1/246)
ج 1 ، ص : 247
سبب النزول :
قيل : إن رافع القرظي من اليهود ورئيس وقد نجران من النصارى قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : معاذ اللّه أن نعبد غير اللّه أو أن نأمر بغير عبادة اللّه فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرنى فنزلت هذه الآية
. المعنى :
لا يصح لبشر يمن اللّه عليه بالكتاب ويهديه إلى الحكمة والصواب في فهم ما أنزل عليه ، ويؤتيه النبوة والرسالة ثم بعد هذا يقول للناس : كونوا عبادا لي من دون اللّه ، أى : اعبدوني وحدي أو اعبدوني مع اللّه ، فهذا هو الشرك بعينه ، ولكن يقول :
كونوا - أيها الناس - ربانيين متمسكين بالدين مطيعين للّه أتم طاعة بسبب كونكم تعلّمون الكتاب لغيركم وبسبب كونكم تدرسونه وتتعلمونه ، ولا يعقل أن يأمركم باتخاذ الملائكة والأنبياء آلهة تعبد من دون اللّه كما فعلت اليهود مع عزير والنصارى مع المسيح ، أيأمركم هذا النبي بالكفر والفسوق والعصيان بعد أن أرسل هاديا لكم وكنتم مسلمين منقادين للّه بالطبيعة والفطرة التي فطر الناس عليها.
ويؤخذ من هذه الآية أن التعليم الديني والدراسة للإسلام إن لم تكن مصحوبة بالعمل والطاعة كانت وبالا على صاحبها ، بل كان السراج يضيء للناس ويحرق نفسه.
الميثاق المأخوذ على أهل الكتاب [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 83]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)(1/247)
ج 1 ، ص : 248
المفردات :
أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ : قبله ، الميثاق : العهد المؤكد. أَقْرَرْنا الإقرار قر الشيء :
إذا ثبت ولزم قرارة مكانه ، وأقر بالشيء إذا نطق بما يدل على ثبوته. إِصْرِي الإصر : العهد المؤكد الذي يمنعه من التهاون.
هذه السورة الكريمة من أولها إلى هنا يدور معناها على إثبات رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم الذي يجب أن يؤمن به الكل. وأن دينه هو الحق وهو الإسلام ، وكل من تقدمه من الأنبياء والأمم قد أخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا به إذا أدركوه فما بال أهل الكتاب اليوم قد نقضوا العهد والميثاق وأعرضوا عن هذا الدين.
المعنى :
واذكر يا محمد وقت أن قبل اللّه الميثاق المأخوذ على الأنبياء وتدخل أممهم معهم تبعا لهم مهما آتيناكم أيها المخاطبون من كتاب وحكم ونبوة ثم جاءكم رسول هو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد اللّه مصدقا لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه.
قال اللّه - تعالى - لمن أخذ عليهم الميثاق : أأقررتم وقبلتم ذلك الذي ذكر من الإيمان بالرسول المصدق لما معكم ونصرته أقبلتم عهدي وميثاقي المؤكد ؟
قالوا : أقررنا ، ونطقوا بما يدل على ثبوته قال تعالى : فليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم جميعا لا يغيب عن علمي شيء.
فمن تولى بعد هذا الميثاق المأخوذ قديما ولم يؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان المصدق لمن تقدمه ولم ينصره كما حصل من أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأولئك هم الفاسقون الخارجون من ميثاق اللّه الناقضون عهده.(1/248)
ج 1 ، ص : 249
وإذا كان الدين واحدا ، والرسل متفقون في الأصول العامة للأديان فما بال أهل الكتاب المعاصرين ؟
أيتولون بعد هذا البيان فيبغون غير دين اللّه الذي هو الإسلام ؟ ! وللّه استسلم من في السموات والأرض وخضعوا له وانقادوا لتصرفه بالتكوين والإيجاد هنا إذ هو المتصرف فيهم وهم الخاضعون له ، فكل ما يحل بالناس إن كان عن رضا فهم طائعون وإن كان عن غير رضا فهم كارهون ، وإلى اللّه المرجع والمآب.
إيمان المؤمنين بكل الأنبياء [سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)
المعنى :
قل يا محمد أنت وأمتك : آمنّا باللّه الواحد الأحد وما أنزل علينا نحن الأمة المحمدية ، وقدم الإيمان باللّه على الإيمان بالمنزل لأنه الأصل والأساس ، وقدم المنزل علينا على المنزل على الأنبياء السابقين لأنه هو الأصل فهو مصدر المعرفة وما سواه قد غير وبدل فلا يصلح أساسا للمعرفة ، والمنزل علينا هو القرآن الكريم ، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وأولاده وما أوتى موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل والنبيون كداود وسليمان وغيرهم مما لا يعلمهم إلا اللّه - سبحانه وتعالى - .
أمرنا بشيئين : الإيمان باللّه والنبيين إيمانا لا نفرق فيه بين أحد منهم بل نؤمن بالكل على أنه نبي مرسل من قبل المولى - جل شأنه - لأمته يهديها إلى سواء السبيل ،(1/249)
ج 1 ، ص : 250
ولا نفعل كما فعل أهل الكتاب يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، ونحن له مسلمون ومنقادون.
ومن يبتغ غير الإسلام الذي هو دين الأنبياء والدين الذي ارتضاه اللّه لعباده ومن يبتغ غيره دينا فلن يقبل منه قطعا وهو في الآخرة من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ولم يزكوها بالإسلام.
حكم الكفر بعد الإيمان [سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
المفردات :
ما في هذه الآيات تقدم شرحه.
المعنى :
ورد في سبب النزول أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في كتابهم وأقروا بذلك وشهدوا أنه حق ولذا كانوا يستفتحون به على المشركين ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب وأنكروه وكفروا به بعد إيمان ، وروى في أسباب النزول عدة روايات أخرى في الذين ارتدوا بعد إسلامهم.(1/250)
ج 1 ، ص : 251
كيف يهدى اللّه قوما كهؤلاء اليهود والنصارى كفروا بعد إيمانهم وشهادتهم أن الرسول حق وجاءتهم الآيات الواضحات على صدقه وصدق رسالته ؟ !! واللّه لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم فهم قد عرفوا الحق وتنكبوا عنه ، فلا أحد أظلم لنفسه منهم وأولئك جزاؤهم أنهم مطردون من رحمة اللّه وعليهم لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين ، فالملائكة يدعون عليهم بالطرد من رحمته وكذلك الناس كلهم.
خالدين في النار لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يمهلون بل سيأخذون أخذ عزيز مقتدر.
هذا جزاؤهم إلا من تاب منهم بعد ذلك ورجع إلى اللّه وأصلح عمله وقلبه فإن اللّه غفور لما سبق ، رحيم بعباده حيث يقبل توبة التائب.
أصناف الكفار [سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 91]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
المفردات :
ما فيها من المفردات قد تقدم.
المعنى :
هؤلاء الكفار ثلاثة أصناف : صنف كفر بعد إيمان ثم تاب توبة صادقة من بعد ذلك فأولئك يقبل اللّه توبتهم إنه هو الغفور الرحيم.(1/251)
ج 1 ، ص : 252
وصنف كفر باللّه ثم تاب ورجع ثم عاد إلى الكفر فلن تقبل توبته ، وقيل : هم الكافرون يتوبون عن بعض الذنوب مع بقائهم على الكفر. وهذا هو معنى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ.
وصنف كفروا باللّه وماتوا وهم كفار ، فلن يقبل من هؤلاء فدية مهما كثرت ولو كانت ملء الأرض ذهبا ، أولئك لهم عذاب أليم وما لهم في الآخرة من ناصر ولا شفيع.
الإنفاق أيضا [سورة آل عمران (3) : آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
بعد أن حاج اللّه أهل الكتاب وأبان أنهم يلبسون الحقّ بالباطل وأنهم لم يؤمنوا باللّه حقا ، بل يكتمون الحق وهم يعلمون أن محمدا رسول اللّه قد بشر به في التوراة والإنجيل.
بعد هذا أراد أن يدلل على عدم إيمانهم بشح نفوسهم وبخلهم بالإنفاق في الخير ، والإنفاق لعمري أكبر دليل على صدق الإيمان.
وإنهم لن يصلوا إلى البر ولن يكونوا بارين باللّه إلا إذا أنفقوا ما يحبون من كريم ما يملكون ، أما وقد شحت نفوسهم برديء المال فضلا عن كريمه فهم بعيدون عن الصدق في دعواهم الإيمان والطاعة لمولاهم ، وما تنفقون من شيء سواء كان كريما أو رديئا فإن اللّه به عليم ولا يخفى عليه إخلاصكم ورياؤكم.(1/252)
ج 1 ، ص : 253
فرية اليهود في تحريم بعض المطعومات [سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
المفردات :
الطَّعامِ المراد به : المطعومات كلها ، وكثر استعماله في الخبز والبرّ.
حِلًّا : حلالا. إِسْرائِيلَ : لقب يعقوب بن إبراهيم ، ومعناه الأمير المجاهد مع اللّه ، ثم شاع إطلاقه على جميع ذريته ، وهو المراد هنا. افْتَرى
: اختلق وكذب. حَنِيفاً : مائلا عن الباطل إلى الحق.
المناسبة :
ما تقدم من أول السورة إلى هنا في إثبات التوحيد ونبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وما استتبع ذلك من محاجة أهل الكتاب وبطلان شبههم.
وهنا رد عليهم في شبهتين ، الأولى : في قولهم : كيف تدعى يا محمد أنك على ملة إبراهيم والنبيين من بعده وأنت تستحل ما كان محرما عندهم من الطعام كلحم الإبل وغيره ؟ فنزلت الآية : (كل الطعام) ردا عليهم في دعواهم أن تحريم بعض المطعومات كان من اللّه على لسان إبراهيم ويعقوب. والثانية تتعلق بمكة وتعظيمها.(1/253)
ج 1 ، ص : 254
المعنى :
كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل ولإبراهيم من قبله إلا ما استثنى (و هو ما حرم إسرائيل على نفسه) إذ كل الطعام كان حلالا من قبل أن تنزل التوراة ثم حرم اللّه عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم على أفعالهم « 1 » ، قال - تعالى - : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [النساء 160] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ [سورة الأنعام آية 146].
وفي هذا رد على اليهود في دعواهم البراءة مما نسبه إليهم القرآن من الظلم والصد عن سبيل اللّه كثيرا ، وبيان أن تحريم ما حرم على إسرائيل لم يكن إلا تأديبا على جرائم ارتكبوها وسيئات اجترحوها ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأمته لم يرتكبوا هذا السيئات ، فكيف تحرم عليهم هذه الطيبات ؟ وبيان أن إبراهيم لم يكن محرما عليه شيء من هذا إذا التحريم حصل بعد نزول التوراة وكل الطعام كان حلالا قبلها.
وهنا سؤال : ما المراد بإسرائيل ؟ وما الذي حرمه على نفسه ؟
وفي الإجابة على هذا خاض كثير من المفسرين ، ونقل بعضهم روايات اللّه يعلم أنها إسرائيليات مدسوسة ، كلها تدور على أن إسرائيل هو يعقوب وقد حرم لحوم الإبل على نفسه ، وقيل : شحومها ، وقيل : العرق الذي على الفخد.
ولكن يرد هذا أن يعقوب بينه وبين نزول التوراة زمن كثير فأى فائدة في التقييد بقوله من قبل أن تنزل التوراة ؟
والظاهر أن المراد من إسرائيل بنو إسرائيل ، أى : الشعب نفسه وقد حرم على نفسه بعض الأشياء وذلك بسبب أعماله كما مر ، وكما وصفهم القرآن بقوله : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ [سورة النساء آية 160].
___________
(1) هذا المعنى يستقيم إذا أريد بإسرائيل شعب إسرائيل لا يعقوب نفسه ، ولأن التحريم كان بسبب أفعالهم نسب إليهم إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ.(1/254)
ج 1 ، ص : 255
فما حرمته التوراة فبسبب أعمالهم ، ومن قبل نزول التوراة لم يحرم اللّه عليهم شيئا.
ومن باب أولى لم يكن عند إبراهيم محرم.
قل يا محمد : فأتوا بالتوراة كتابكم فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم لا تخافون تكذيبها لكم.
روى أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرا
،
وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه يعلم ما في التوراة وأنها مؤيدة لما في القرآن ، وأن النبي أولى بإبراهيم ، وملته لا تختلف عن ملته إذ كل منهما مائل عن الباطل إلى الحق وما كان حلالا عند إبراهيم فهو حلال عند المسلمين.
فمن افترى على اللّه الكذب ، وادعى ما لم ينزل اللّه في كتاب ، فأولئك هم الظالمون بتحويل الحق ، والكذب على اللّه.
قل يا محمد : صدق اللّه فيما أنبأنى به من أنى على دين إبراهيم وأنا أولى الناس به ، وإنه لم يحرم اللّه شيئا على إسرائيل قبل التوراة وقامت الحجة عليكم بذلك ، وإذا كان الأمر كذلك فاتبعوا ملة إبراهيم التي أدعوكم إليها فهي الطريق الوسط لا إفراط فيه ولا تفريط ، وما كان إبراهيم من المشركين مع اللّه غيره.
شرف بيت اللّه الحرام ، والحج [سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
المفردات :
بِبَكَّةَ أى : مكة ، والعرب كثيرا ما تبدل الباء ميما وبالعكس.(1/255)
ج 1 ، ص : 256
مُبارَكاً : كثير الخيرات والبركة. مَقامُ إِبْراهِيمَ موضع قيامه وعبادته حِجُّ الحج : القصد ، وفي الشرع : قصد بيت اللّه الحرام للنسك.
وهذه هي الشبهة الثانية التي أثارها أهل الكتاب تكذيبا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في دعوى أنه على ملة إبراهيم. كيف تدعى أنك على ملة إبراهيم وأنك أولى الناس به ، وإبراهيم وإسحاق والأنبياء بعدهم كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه ، فلو كنت على ما كانوا لعظمته ، ولما تحولت إلى الكعبة فخالفت الجميع ؟ والآية الكريمة تزيل الشبهة بأوضح بيان.
المعنى :
إن البيت الحرام الذي هو قبلة المسلمين في الصلاة والدعاء ، وإليه تتجه أنظارهم وتهفو قلوبهم ، أول بيت وضع معبدا للناس وأسس لذكر اللّه فيه ، بناه إبراهيم وإسماعيل وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ثم بنى المسجد الأقصى بعد ذلك بقرون ، بناه سليمان بن داود.
فصح بهذا أن يكون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على ملة إبراهيم وإسماعيل ويتوجه كما يتوجهون.
فالبيت الحرام أول بيت وضع ليعبد الناس فيه ربهم ، وهذه الأولية في الزمان يلزمها الأولية في الشرف والمكانة. ولهذا البيت مزايا :
فهو مبارك كثير الخيرات. إذ هو بصحراء وتجبى إليه ثمرات كل شيء ، ففيه الفواكه وفيه من خيرات اللّه الشيء الكثير ، ولا مانع أن يكون كثير البركة في الثواب والأجر وهو هداية للناس. ويتوجهون إليه في صلاتهم وتهواه أفئدتهم ، على أنه مصدر لهداية النفوس التي تحجه وتعتمر فيه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [سورة ابراهيم آية 37] ، وفيه آيات واضحات لا تخفى على أحد. منها مقام إبراهيم للصلاة والعبادة ، تعرف ذلك العرب جميعا بالتواتر.
ومن دخل حرمه كان آمنا على نفسه مطمئنا على ماله حتى ولو كان مطلوبا للثأر ، يعرف ذلك العرب في الجاهلية ، وقد أقرهم الإسلام على ذلك.(1/256)
ج 1 ، ص : 257
وما حصل لمكة أثناء الفتح الإسلامى فليس مما نحن فيه ، إذ كان المنادى ينادى من قبل الرسول : من دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ.
وما حصل في أيام الحجاج فهو من أفاعيل السياسة ، وما كان أحد في الجيش يعتقد حل ذلك.
ومن مزاياه العالية وجوب الحج إليه على المستطيع من المسلمين.
فواجب اللّه على الناس أن يحج المستطيع منهم ، فهو ركن من أركان الدين ، وفريضة من فرائض الإسلام ، وقد مضت بعض أحكامه في الجزء الثاني واستطاعة الحج أمر موكول للإنسان وضميره ودينه ، أما تفسيرها بوجود الزاد والراحلة وأمن الطريق والقدرة على السفر فهذا كله يرجع إلى الدين ، ومن جحد ما تقدم وكفر ولم يمتثل أمر اللّه في الحج وغيره فإن اللّه لم يوجبه لحاجته إذ هو الغنى عن العالمين جميعا.
أهل الكتاب وعنادهم وما يضمرونه للإسلام [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
المفردات :
شَهِيدٌ الشهيد : العالم بالشيء المطلع عليه. تَصُدُّونَ : تصرفون.
تَبْغُونَها : تطلبونها. عِوَجاً العوج : الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين مثلا ، والمراد هنا : الزيغ والتحريف.(1/257)
ج 1 ، ص : 258
المعنى :
بعد أن ذكر اللّه - سبحانه وتعالى - الأدلة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم واعتراضهم على ذلك ومناقشتهم حتى أفحموا ، وبخهم اللّه على ذلك وعلى كفرهم فقال قُلْ لهم يا محمد : يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ التي دلتكم على صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ؟ وعلى أى أساس تسيرون ؟ قل : هاتوا برهانكم إن كان عندكم برهان ، وإذا لم يكن عندكم دليل ولا برهان فاعلموا أن اللّه شهيد عليكم وسيجازيكم على ما تعملون.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بمحمد ؟ قاصدين بصدكم أن تكون سبيل اللّه معوجة في نظر من يؤمن لكم ويصدق كلامكم ، فأنتم تطلبون لدين اللّه اعوجاجا وميلا عن القصد - وهي أقوم طريقا وأهدى سبيلا - بتغييركم صفة محمد وكذبكم على اللّه والحال أنكم تشهدون بصدقه في أعماق نفوسكم ، وأنتم الشهود العدول عند قومكم الذين يستأمرونكم ويهتدون بهديكم ، ولكن قاتل اللّه الحسد الكامن والداء الباطن الذي تغلغل في نفوس زعماء وعلماء اليهود والنصارى ، وما اللّه بغافل عن خباياكم وسيجازيكم عليها.
توجيهات وعظات [سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 109]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)(1/258)
ج 1 ، ص : 259
المفردات :
يَعْتَصِمْ اعتصم بالشيء : تمسك به فمنع نفسه من الوقوع في الهلاك. حَقَّ تُقاتِهِ : تقاته وتقواه بمعنى واحد ، والحق ، أى : الواجب الثابت ، وأصل الكلام :
اتقاء حقا ، والمراد : اتقوه التقوى الواجبة. بِحَبْلِ اللَّهِ : هو العهد أو القرآن.
شَفا حُفْرَةٍ : طرفها ، وأشفى على الشيء : أشرف عليه. أُمَّةٌ : جماعة متحدة مؤتلفة. إِلَى الْخَيْرِ أى : المنافع في الدنيا والآخرة. تَبْيَضُّ : تشرق وتسر. وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ : تكتئب وتحزن. ظُلْماً الظلم : وضع الشيء في غير موضعه.(1/259)
ج 1 ، ص : 260
سبب النزول :
روى أنه مر شاس بن قيس اليهودي - وكان شديد الكفر كثير الحسد على المسلمين - مر بنفر من الأنصار يتحدثون فغاظه ذلك حيث اتحد الأوس والخزرج ، واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية ، وقال اللعين : ما لنا معهم إذا تجمعوا من قرار ، فأمر شابا من اليهود كان معه : أن اذهب إليهم وذكرهم بيوم بعاث - كان بين الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس - وما قيل فيه من الأشعار فتنازع القوم وتصايحوا : السيوف السيوف.
وجمع كل فريق منهم جموعه ، فبلغ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هذا فخرج إليهم ومعه المهاجرون والأنصار وقال : أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم اللّه بالإسلام وألف بين قلوبكم ؟ فعرف القوم أنها نزعة الشيطان وكيد العدو فألقوا السلاح وبكوا وتعانقوا ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
قال ابن جرير : نزل قوله تعالى : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ الآية في شأن شاس اليهودي.
ونزلت الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا ... في الأنصار [آل عمران 149].
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب فيما يكيدون لكم ويوقعون بينكم من العداوة والبغضاء ، يردوكم بعد أن منّ اللّه عليكم بالإيمان والمحبة والصفاء كافرين باللّه والدين والخلق الكريم وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [سورة البقرة آية 109].
وكيف تكفرون باللّه ؟ وكيف تطيعونهم فيما يأمرون به ويشيرون ؟ والحال أنكم تتلى عليكم آيات اللّه. وهي روح الهداية وجماع الخير وحفاظ الإيمان تتلى غضة ندية.
وبين أظهركم رسول اللّه إمام المرسلين ورسول المحبة والخير والألفة والرشاد ، فهل يليق بمن أوتوا هذا أن يتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ؟(1/260)
ج 1 ، ص : 261
ومن يعتصم باللّه وبكتابه ورسوله فقد تحققت هدايته ، لا يضل أبدا ولا يخشى عليه من المهالك أصلا.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه اتقاء حقا وأدوا واجب التقوى الذي يطلب منكم فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة التغابن آية 16] على معنى : بالغوا في التقوى وأدوها كاملة حتى لا تتركوا من المستطاع شيئا.
ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة للّه ، أى : لا تكوننّ على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت.
وتمسكوا بكتاب اللّه وعهده واعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا عنه أبدا فإن الداء العضال داء الفرقة والانحلال.
وفي الآية تمثيل الاستيثاق بالعهد أو القرآن والوثوق بحمايته ، باستمساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل متين وثيق يأمن انقطاعه.
وحبل اللّه هو الإيمان والطاعة ، أو القرآن
لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « القرآن حبل اللّه المتين ، لا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد ، من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به فقد هدى إلى صراط مستقيم » .
وقد كان العرب الجاهليون في حروب مستعرة وعداوات وإحن خاصة الأوس والخزرج ، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه أفواجا ، سل من قلوبهم سخائم الحقد وطهر أرواحهم من نكد العداوة ، وأصبحوا بنعمة اللّه إخوانا متحابين متعاطفين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة يدينون بمبدأ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات آية 10] وبالحديث : « مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » .
وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها نعم كان العرب على حافة حفرة من النار بسبب شركهم ووثنيتهم لا يفصلهم عن النار إلا الموت فأنقذهم اللّه بالإسلام والتوحيد : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم آية 34].
مثل هذا البيان القيم والتوجيه السديد يبين اللّه آياته لكم ، وهو في هذا البيان كالذي يرجو منكم الهداية والسداد لعلكم تهتدون.(1/261)
ج 1 ، ص : 262
ما يستفاد من الآيات : (100 - 103)
1 - يجب علينا ألا نؤمن لغير من اتبع ديننا خاصة إذا أشار علينا بالفرقة والخلاف.
2 - إذا دهانا أمر أو حل بنا خطر نلجأ إلى القرآن والحديث نستهديهما ، ونستلهم رأيهما ففيهما الخير والرشاد في الدنيا والآخرة.
3 - الاتحاد وعدم الخلاف والشقاق مع الاعتصام بالعهد والقرآن.
أمرنا اللّه بالاعتصام بحبله والتمسك بدينه ونهانا عن التفرق والاختلاف فقد أنعم علينا بالإسلام وألف بين قلوبنا بالقرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لكنه يعلم أن هناك نفوسا يصدأ قلبها سريعا ولا يجلوها إلا الوعظ والإرشاد والتذكير باللّه واليوم الآخر ، فأرشدنا إلى ذلك حيث قال : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ (الآية) ، فهذه وما بعدها متممة لقوله - تعالى - : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً.
خاطب اللّه - سبحانه وتعالى - الأمة الإسلامية بأسلوب الأمر الصريح فقال :
ولتكن منكم أيها المسلمون أمة لها كيان ونظام. أمة مؤتلفة الأعضاء موحدة الجهات لا ترهب أحدا ولا تخاف شيئا ، دينها قول الحق ورفع الظلم ولو كان عند سلطان جائر.
لا تخشى في اللّه لومة لائم ، لها رئاسة وقانون. كل ذلك قد أشارت إليه كلمة واحدة وهي (أمة) إذ هناك فرق بين قولك : جماعة وأمة.
فعلى المسلمين جميعا واجب هو تكوين تلك الأمة. لتكون بهذا الوضع. وعلى الأمة المكونة واجب أن تقوم بمهمة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والذب عن حياض الدين ورفع منارة الحق والعدل ، فالمسلمون جميعا مكلفون بتكوين جماعة خاصة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فهذه الجماعة المكونة بهذا الوضع السابق لها حق الإشراف والتكوين والتوجيه والحساب والعمل على خدمة المسلمين ، وهذا أشبه بمجلس الأمة! وعلى الأمة جميعا اختيار طائفة خاصة تقوم بتلك المهمة على سبيل الوجوب.
وفي سبيل قيامها بواجبها يجب أن تتوافر فيها شروط العلم الديني والعلوم التي يحتاج(1/262)
ج 1 ، ص : 263
إليها من يخاطب الناس ويؤثر فيهم مع التقوى والتخلق بأخلاق الأنبياء ، وأن يكون الداعية مثلا أعلى في الخلق الكامل ، ولنا في رسول اللّه أسوة حسنة.
فإذا توافرت هذه الشروط فأولئك البعيدون في درجات الكمال هم المفلحون في الدنيا والآخرة ، وأمة هداتها وقادتها بهذا الوضع لا بد أن تكون العزة والكرامة لها.
ولا تكونوا - أيها المسلمون - كالذين تفرقوا واختلفوا اختلافا كثيرا كما حصل لليهود والنصارى من بعد ما جاءتهم البينات الواضحات التي تهديهم إلى السبيل لو اتبعوها ، وما ذلك إلا لأنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ولم تكن فيهم أمة تهديهم إلى الخير وترشدهم إلى الطريق لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (الآيتان 78 ، 79 من سورة المائدة).
والاختلاف المنهي عنه هو الاختلاف في الأصول العامة للدين وتحكم الهوى وإدخال السياسة المذهبية ، والبعد عن مناهل الشريعة والأخذ بالمتشابه.
أما الخلاف في الوسائل وكيفية الأداء كاختلاف المذاهب عندنا في كيفية الوضوء لتعدد فعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولأن القرآن يسمح بكل صورة قال بها إمام من الأئمة ، فلا شيء فيه إذ كلهم من رسول اللّه ملتمس.
والمسلمون قد اختلفوا شيعا وأحزابا لما تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتركوا روح الدين واشتغلوا بالأمور الشكلية.
والأمة التي فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فأولئك جميعا هم المفلحون ، وأولئك المختلفون والمتفرقون التاركون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لهم عذاب عظيم. لا يعرف له حد ولا يدرى له كنه.
يوم تبيض وجوه المؤمنين وتشرق ويسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، وتسود وجوه المختلفين الذين لم يتواصوا بالحق والصبر من أهل الكتاب والمنافقين ، وتظلم وتكتئب حينما يرون ما أعد لهم من العذاب المقيم ، فأما الذين اسودت وجوههم فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا : أكفرتم بالرسول محمد بعد إيمانكم به ؟ فقد كنتم على علم ببعثته وعندكم أوصافه والبشارة به ، ولكن كفرتم به حسدا وحقدا ، وكانوا قبل البعثة(1/263)
ج 1 ، ص : 264
يستفتحون به على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين.
وهذا جزاؤكم أن تذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون.
وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة اللّه وجنته ورضوانه هم خالدون.
تلك آيات اللّه نتلوها عليك بالحق الثابت فلا عذر بعد هذا لو اختلفت أمتك وأهملت الاعتصام بحبل اللّه وتفرقت شيعا وأحزابا ، ولم تتواص بالحق والصبر ، وما اللّه يريد بهذه التوجيهات والأحكام ظلما للعباد ، حاشا للّه أن يضع شيئا في غير موضعه ، بل كل هذا لمصلحتهم في الدنيا والآخرة ، وكيف لا يكون ذلك ؟ وللّه في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وحكما ، وإلى اللّه وحده ترجع الأمور.
فضل الأمة الإسلامية على غيرها [سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)(1/264)
ج 1 ، ص : 265
المفردات :
(كان) فعل يدل على الوجود والحصول في الماضي بقطع النظر عن الدوام أو الانقطاع ، وقد يستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى : وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
الْأَذى : الضرر البسيط. يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ : كناية عن الانهزام ، فالمنهزم يحول ظهره إلى عدوه. ضُرِبَتْ : ألصقت بهم وأثرت فيهم. الذِّلَّةُ : الذل.
ثُقِفُوا : وجدوا. بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ الحبل : العهد. وَباؤُ : رجعوا ، والمراد كانوا أحقّاء بغضب اللّه ، مأخوذ هذا من البواء ، أى : المساواة ، يقال : باء فلان بدم فلان : إذا كان حقيقا أن يقتل به لمساواته له ، والمراد حلوا في العذاب ، من المباءة ، وهو : المكان. يَعْتَدُونَ : يتجاوزون الحد.
هذا كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاعتصام باللّه والاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير على أنه تحريض وإلهاب للهمم.
المعنى :
أنتم خير أمة في الوجود الآن ، وذلك لأن جميع الأمم قد غلب عليها الفساد وعمتها الفوضى ، فلا يعرف فيها معروف ولا ينكر فيها منكر ، فأنتم خير أمة أخرجت للناس ، وذلك لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه إيمانا كاملا صادقا « والإيمان باللّه على هذا النحو لا يكون إلا إذا استوعب صاحبه جميع ما يجب الإيمان به ، فلو أخلّ بشيء لم يكن مؤمنا باللّه - تعالى - إيمانا كاملا ، وإنما قدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان باللّه لأنهما أظهر في بيان فضل المسلمين على غيرهم ، على أن الإيمان يدعيه أهل الكتاب وإن تكن دعوى باطلة » .
ولو أن أهل الكتاب آمنوا إيمانا حقيقيا لكان خيرا لهم إذ هم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، أو يؤمنون ببعض الرسل كموسى وعيسى ، ويكفرون بمحمد ، على أنهم كيف يدعون الإيمان وفي صلب كتبهم البشارة بمحمد وصفته فأنكروا كل ذلك ولم يؤمنوا به ؟(1/265)
ج 1 ، ص : 266
وقد استطرد القرآن فقال : من أهل الكتاب قوم مؤمنون حقيقة كعبد اللّه بن سلام وأحزابه وكثير منهم فاسقون وخارجون عن حدود دينهم وكتبهم.
ولو سئل أحبار اليهود عن أنفسهم لما قالوا أكثر من ذلك.
هؤلاء اليهود موصوفون بما يأتى :
لن يضروكم أبدا إلا ضررا بسيطا كالهجاء والخوض في النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي عرضه والتنفير من الدين الإسلامى.
وإن يقاتلوكم ينهزموا أمامكم ويولوكم الأدبار ، وهذا ليس بالجديد على أمثالهم ثم بعد هذا لا ينصرون أبدا.
وصفهم القرآن بثلاث : عدم الضرر. والفرار في الحرب. وعدم النصر ولكن هذا مع من ؟ مع قوم نصروا اللّه فنصرهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ فما دمنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن باللّه إيمانا صحيحا فلا بد أن نكون أقويا أعزاء ، وما داموا هم فاسقين خارجين عن حدود اللّه والطاعة والإيمان يكون هذا الحكم لنا ولهم ، وإذا لم نكن كذلك فحالنا وحالهم كما نرى الآن.
وقد وصفوا كذلك بأن الذل قد ألصق بهم حتى أثر فيهم كما يؤثر الضرب في النقد فلا خلاص لهم من الذل أبدا إلا بسبب عهد لهم من اللّه وهو ما قررته الشريعة لهم من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء ، وعهد من الناس وهو ما تقتضيه المشاركة في الوطن والحاجة والانتفاع في الصناعة والتجارة. أو المراد عهد من الناس يحميهم.
وصاروا مستحقين لغضب اللّه مستوجبين سخطه قد أحاطت بهم المسكنة إحاطة المكان بمن فيه ، فهم في الذل والحاجة أبدا.
ولا شك أنهم كذلك إلى الأبد وإن كانوا مياسير وأغنياء لأنهم ورثوا صفات الذل وضعف النفس وامتهانها بل بيع الشرف لأجل المال فهم في فقر دائم وذل مستمر ومتألهين المال ، وفي الجزء الأول توضيح المقام فارجع إليه ص (31).(1/266)
ج 1 ، ص : 267
ذلك الذي ذكر من هذه الصفات بسبب أنهم يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء معتقدين أنهم على غير حق فيما يفعلون ، إذ يقتلون رجالا يقولون ربنا اللّه ، وفي هذا تشنيع عليهم وأى تشنيع ؟ ! وما جرأهم على ذلك إلا فعل المعاصي واستمرارهم عليها ، فإنه يجعل الرّان على قلوبهم ويفضى بهم إلى الوقوع في الكبائر كالكفر وقتل الأنبياء.
ونسبة القتل إلى المعاصرين من اليهود كما قلنا لأنهم منتسبون إلى من فعل هذا الفعل وراضون عنه ، بل معتزون بهذا النسب ، على أنهم حاولوا قتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مرارا.
المؤمنون من أهل الكتاب [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
المفردات :
قائِمَةٌ : مستقيمة عادلة ، مأخوذ من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى استقام. آناءَ اللَّيْلِ : جمع آن ، والمراد : ساعات الليل. يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ : يبادرون إلى فعل الخيرات. يُكْفَرُوهُ : يمنعوه ثوابه.(1/267)
ج 1 ، ص : 268
المناسبة :
لما وصف أهل الكتاب بأن منهم المؤمنين ، ومنهم الفاسقين ثم بين حالهم ومآلهم خاصة اليهود ، كان من العدل أن يبين حال المؤمنين منهم وإن كانوا قلة.
المعنى :
ليس أهل الكتاب متساوين في أصل الاتصاف بالقبائح ، بل منهم من تقدمت صفته. ومنهم أمة مستقيمة على طاعة اللّه ، ثابتة على أمره ، من صفاتهم أنهم يتلون آيات اللّه ويقرءون القرآن خاصة في ساعات الليل وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78 الإسراء).
ففي صلاة الليل والتهجد يكثرون من قراءة القرآن وحدهم ، حيث ينام الكون كله وحارسه لا ينام - سبحانه وتعالى - وهم يؤمنون باللّه واليوم الآخر إيمانا صادقا خالصا لا شبهة فيه ولا نفاق معه ، إيمانا بكل ما يجب الإيمان به.
فهم قد كملوا أنفسهم بالقرآن وتلاوته ، والإيمان وحلاوته ، ثم أرادوا لسمو أنفسهم وطهارة ضميرهم أن يكملوا غيرهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ويبادروا إلى فعل الخيرات بسرعة وبلا إمهال ، وهكذا شأن المؤمنين أمثال عبد اللّه بن سلام ومن على شاكلته ، أولئك عند اللّه من الصالحين الذين صلح حالهم وعلت درجاتهم.
وفي هذا رد على اليهود حيث زعموا أن من آمن منهم هم شرارهم لا خيارهم ، إذ لو كان فيهم خير لما آمنوا.
وما يفعلون من الطاعات فلن يحرموا ثوابه ، ولن يمنعوا جزاءه. واللّه شكور عليم بالمتقين ، فلن ينسى ولا يهمل ، وليس ممن يجهل الجزاء ، وهو القادر على كل شيء ، البصير بكل عمل.(1/268)
ج 1 ، ص : 269
الكافرون وأعمالهم يوم القيامة [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
المفردات :
لَنْ تُغْنِيَ : لن تجزى عنهم.رٌّ
: برد شديد.رْثَ
الحرث :
إثارة الأرض للزرع ، والمراد النبات المزروع.
المعنى :
كثيرا ما افتخر الكفار وقالوا : نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، ولفظ الكفار هنا يشمل اليهود والمنافقين جميعا.
فهم لن تجزى عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب اللّه شيئا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ أولئك هم الملازمون للنار لا ينفكون عنها ، هم فيها ماكثون مكثا اللّه أعلم به. ثم ضرب اللّه مثلا من أروع الأمثلة التي وردت في القرآن لأموالهم التي ينفقونها في أغراض الدنيا للرياء والسمعة والمفاخرة وكسب الثناء لا يبغون بذلك وجه اللّه بل كان منهم من ينفق ماله ليصد عن سبيل اللّه.
مثل المال الذي ينفقونه هكذا كمثل ريح فيها برد شديد أتت على الزرع فأهلكته.
فأنت معى في أن المال الذي ينفق في لذاتهم وتأييد كلمة الباطل والصد عن سبيل اللّه(1/269)
ج 1 ، ص : 270
يمنعهم من التخلق بالحق بل يمنعهم من النظر في دين اللّه بعين العدل والعقل السليم والروح المجردة من الشر.
أليس هذا المال كالريح المرسلة بالهلاك والبرد الشديد فتأتى على الزرع المرجو ثمرته ونفعه فتبيده وتهلكه ؟ ! فهم إذا أنفقوا المال للشيطان ورجوا منه الثواب والنفع ثم قدموا الآخرة فلم يروا إلا الحسرة والندامة كانوا كمن يزرع زرعا وتوقع منه خيرا ونفعا فأصابته ريح فأحرقته فوقف مبهوتا حائرا وحقّا إن اللّه يتقبل من المتقين ويثيب المخلصين.
وما ظلمهم اللّه بل جازاهم وكافأهم وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ولكن هم الظالمون لأنفسهم.
صداقة المؤمنين للكافرين وخطرها [سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)(1/270)
ج 1 ، ص : 271
المفردات :
بِطانَةً بطانة الرجل : خاصته وأهل مشورته ومستودع سره ، قد أشبهوا بطانة الثوب. مِنْ دُونِكُمْ : من غيركم. لا يَأْلُونَكُمْ : ألى في الأمر : قصر فيه ، ثم استعمل بمعنى منع ، فقيل : لا آلوك نصحا ، والمعنى هنا : لا يقصرون أبدا في إيصال الخبال لكم. الخبال : الفساد ، وقد يكون في الأفعال والأبدان والعقول.
الْعَنَتَ : هو المشقة. الْأَنامِلَ : أطراف الأصابع. عَضُّوا عض الأنامل : يراد به شدة الغيظ أحيانا ، وأحيانا الندم. الكيد : الاحتيال للإيقاع في المكروه.
هذه الآيات وأشباهها كثير ، نزلت في قوم كانوا يتخذون مع الأعداء والكفار صلات وصداقات تبيح لهم إخبارهم بالأسرار والتحدث إليهم في شئون المؤمنين ، وفي هذا خطر كل الخطر على كيان الأمة الإسلامية بلا شك ، فنهوا عن هذا في غير موضع من القرآن.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله ، لا يليق بكم مع هذا الوصف الكريم ، والنعت الجليل وهو الإيمان باللّه ورسوله ، لا يليق أن تتخذوا من غير المسلمين أخصاء وأصدقاء تؤثرونهم بالمودة وتطلعونهم على دخائلكم وأسراركم وكيف يكون منكم مودة لهم وهم كما وصف القرآن ونطق الواقع لا يقصرون في إيصال الفساد والخبال بكم وينفقون جهدهم كله في توفير الضرر لكم ؟
وهم يتمنون لكم كل عنت ومشقة فإن لم يستطيعوا حربكم وإيذاءكم فهم يريدون من صميم قلوبهم كل فساد وألم لكم.
ألم تظهر البغضاء لكم والحسد عليكم من فلتات ألسنتهم وبين ثنايا حديثهم ؟ وما في صدورهم من الحسد الكامن والداء الباطن كثير وكثير.
أيها المؤمنون قد بينا لكم الآيات والعبر التي ترشدكم إلى الخير وتهديكم إلى سواء السبيل ، إن كنتم تعقلون فاتبعوها.(1/271)
ج 1 ، ص : 272
ها أنتم أولاء مخطئون في حبهم إذ هم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بالكتب كلها ومنها كتابهم وتصدقون بكل الرسل ومنهم رسولهم ، ومع هذا فهم لا يحبونكم. عجبا كيف يتمسكون بباطلهم إلى هذا الحد ؟ وأنتم تتهاونون في حقكم وهم إذا قابلوكم قالوا نفاقا : آمنا باللّه وصدقنا برسالة محمد ، وإذا خلوا إلى أنفسهم وشياطينهم - من شدة الغيظ والحقد وعدم القدرة على إيصال الشر لكم بأى صورة - عضّوا على أناملهم ، فإن عض الأنامل فعل المغيظ المحنق الذي فاته ما لا يقدر على جلبه أو نزل به ما لا يقدر على دفعه!! أخبرهم يا محمد أن أهل الكتاب - خاصة اليهود - لا يدركون ما يؤملون ، فإن الموت دون ذلك ، وهذا تقريع لهم أو دعاء بأن يديم اللّه غيظهم إلى الموت.
ولا غرابة في هذا فعداوتهم لكم شديدة وحسدهم لكم من عند أنفسهم ، فإن مستكم حسنة استاءوا بها وإن أصابتكم سيئة فرحوا لها ثم انظر إلى تعبير القرآن بإساءتهم عند مس الحسنة وبفرحهم عند إصابة السيئة فهم لا يفرحون حتى تتمكن الإصابة ويستاءون عند أدنى مس للحسنة ، ألا قاتلهم اللّه ولعنهم! وأما العلاج والمخلص الوحيد فهو دواء القرآن لكل هذا : الصبر والتقوى. فإن تصبروا في كل حال وتتقوا اللّه وتأخذوا الوقاية لكم من كيد عدوكم فإن اللّه ضمن لكم أنهم لن يضروكم شيئا من الضرر ، إن اللّه بما يعملون محيط ، وعليم خبير بكل خفاياهم وكيدهم فسيرده في نحورهم ويجازيهم على كل ذلك بشرط أن تصبروا وتتقوا.
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ الآيات من هنا إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا سيما غزوة أحد ، لهذا رأينا أن نذكر شيئا من أخبار غزوة بدر وغزوة أحد حتى تستبين لنا الآيات وندرك حكمها وأحكامها.
غزوة بدر
كانت في السنة الثانية للهجرة ، وبدر اسم لبئر بين مكة والمدينة سميت باسم صاحبها ، وكانت هذه الواقعة نصرا مؤزرا للمسلمين وكارثة على المشركين زلزلت مكانتهم عند العرب بقدر ما مكنت للمسلمين في نفوس أهل الجزيرة.(1/272)
ج 1 ، ص : 273
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أى : قلة وما ذاك إلا أن جيوش المسلمين قلتها متمسكة بدينها مطيعة لرسولها وقائدها لم يكن لهم اعتماد إلا على اللّه وحده وما أمرهم به من الثبات عند لقاء العدو إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لم يتعد واحد حدوده ، قد ملأ الإيمان قلوبهم وخلا النفاق منها ، وعلى العموم كانوا يدا واحدة صبها اللّه على عدوهم ، ودعا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيها دعاءه المشهور :
«
اللهم أنجز ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض » .
قال راوي الحديث : فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده ثم التزمه من ورائه إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ (الآية).
غزوة أحد
كانت في السنة الثالثة للهجرة بعد غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون وهم قلة ، وذلك أن قريشا حينما عادت إلى مكة بعد غزوة بدر أجمعوا أمرهم ، وأنفقوا الكثير من أموالهم ليصدوا عن سبيل اللّه وجهزوا جيشا عدته ثلاثة آلاف مقاتل يقصدون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في المدينة.
ولما وصل خبرهم إلى المدينة استشار محمد صلّى اللّه عليه وسلّم القائد والسياسى الموفق أصحابه ، فأما الشيوخ ومعهم عبد اللّه بن أبىّ زعيم المنافقين ورأس اليهود في المدينة ، فقالوا : نبقى في المدينة ونحصنها ونقاتلهم في الأزقة والدروب ، وترمى النساء والولدان من على الآكام والبيوت.
وأما الشباب ومن لم يكن له شرف القتال في بدر ، فأشاروا بالحرب وقالوا : هذه فرصة ، وكان عمرو بن عبد المطلب يرى هذا الرأى أما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فكان يميل إلى رأى الشيوخ ، وقد رأى في المنام أنه في درع حصينة وأن سيفه ذا العقال انكسرت ظبته (حده) وأنه رأى بقرة تذبح وأن معه كبشا ، وقد أول الرؤيا : الحصن : المدينة ، كسر السيف ، موت عزيز لديه من أهل بيته ، ذبح البقرة : قتل بعض أصحابه ، الكبش : للفتك بزعيم من زعماء الشرك ، ولكن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم رجع لرأى الأغلبية القائلين بالحرب والساعين إليه فلبس وتجهز ، وما قبل الرجوع بعد هذا وقال : « ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يرجع حتى يقاتل » .(1/273)
ج 1 ، ص : 274
كان هذا عصر الجمعة لست مضت من شوال وبات ليلتها ، وفي سحر السبت خرج مع الجيش ، وفي الطريق رجع عبد اللّه بن أبىّ متعللا بقوله : أيعصيني ويطيع الولدان لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ ومعه ثلاثمائة من أصحابه.
وهم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار وكادوا ألا يخرجوا إلى أحد ، ثم وفقهم اللّه فخرجوا ، وذلك قوله تعالى : إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا (الآية).
فلم يبق بعد رجوع المنافقين مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلا سبعمائة رجل.
وذكر له قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى.
وصفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أصحابه فجعل الرماة خمسين رجلا عليهم عبد اللّه بن جبير ، وعلى أحد الجناحين الزبير بن العوام وعلى الآخر المنذر بن عمر. وجعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وكان اللواء مع مصعب بن عمير فتقدم به بين يدي رسول اللّه.
وأما المشركون فجعلوا على المينة خالد بن الوليد القائد المشهور وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل ومعهم مائتا فارس على رأسهم صفوان بن أمية ، وعلى رماتهم وكانوا مائة عبد اللّه بن أبى ربيعة ، ولواؤهم مع طلحة بن أبى طلحة من بنى عبد الدار.
وكان مع المشركين نساء بزعامة هند بنت عتبة ، يضربن بالدفوف ويمشين وراء الصفوف وأمامها قائلات :
نحن بنات طارق نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق فراق غير وامق
وتقدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الرماة
فقال لهم : احموا ظهورنا فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا ، وإياكم أن تبرحوا مكانكم سواء قتلناهم أو قتلونا فلا تعينونا ولا تدافعوا عنا ، اللهم فاشهد.
وقد خطب المسلمين خطبة طويلة حثهم فيها على الصبر والتقوى!! وقامت الحرب وما لبث أن دارت دائرة الحرب وانهزم المشركون وسقط لواؤهم من يد طلحة بعد قتله فحمله ابنه ثم أخوه وهكذا أخذ المسلمون يفتكون بالمشركين!!(1/274)
ج 1 ، ص : 275
وكاد النصر يتم للمسلمين نهائيا لولا أن الرماة الحارسين لظهور المسلمين خالفوا أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وآثروا الفانية على الباقية وانحدروا يجمعون الغنائم والأسلاب وتنازعوا في ذلك ولم يبق منهم إلا قليل.
فتنبه خالد بن الوليد ومن معه وانقضوا على المسلمين كالصاعقة وأشرعوا سيوفهم ورماحهم ، ودارت الدائرة على المسلمين وانفرط عقدهم وسمع مناد ينادى : إن محمدا قد قتل ، فأسرع المشركون واهتبلوا تلك الفرصة واختلط الأمر على المسلمين حتى صار يضرب بعضهم بعضا وولوا هاربين في الجبل ، والرسول يدعوهم في أخراهم ويقول : « إلىّ عباد اللّه إلىّ عباد اللّه أنا رسول اللّه » .
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ وصار أبو سفيان يقول : يا معشر قريش أيكم قتل محمدا ؟ فقال عمر بن قميئة : أنا قتلته.
وقد نجى اللّه رسوله ، وكان النبل يأتيه من كل جانب ، ولكن اللّه يعصمه من الناس ، وكان أول من بشر بنجاته كعب بن مالك.
وقد أصيب رسول اللّه يوم أحد فكسرت رباعيته وشج وجهه حتى غاب حلق المغفر في وجنتيه وأصيبت ركبتاه.
وكان سالم مولى أبى حذيفة - رضى اللّه عنه - يغسل الدم عن وجه الرسول وهو يقول صلّى اللّه عليه وسلّم : « كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم ؟ وهو يدعوهم إلى اللّه - عز وجل - ؟ » فنزل : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ.
ورأى صلّى اللّه عليه وسلّم سيف علىّ مختضبا فقال : إن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم ابن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وسيف أبى دجانة غير مذموم : ولا تنس الحباب بن المنذر وشماس بن عثمان وغيرهم ممن أبلوا بلاء حسنا.
ولم يقتل صلّى اللّه عليه وسلّم في حياته سوى أبىّ بن خلف أحد الذين تعاقدوا على قتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وفيه نزلت آية : وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى . [سورة الأنفال آية 17].
وفيها قتل من المسلمين سبعون منهم حمزة سيد الشهداء وحبيب رسول اللّه ، وقد بكى عليه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مرارا.(1/275)
ج 1 ، ص : 276
ولعل السبب في هزيمة المسلمين بأحد ما يلى : كان بعضهم على مقربة من الفتنة ولذلك همت طائفتان أن تفشلا ، خروج الرماة عن أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وطمعهم في الغنيمة ، وقد فشلوا وتنازعوا فضعفت أرواحهم عن تلقّى تأييد الملائكة لهم.
وأما الحكمة في الهزيمة فليمحص اللّه الذين آمنوا ويعلمهم أن الأسباب والمسببات لا بد منها في تحصيل النصر ، وأن قتل الرسول أو موته ليس سببا في ترك الدين والانقلاب على الأعقاب ، وما أصابهم فمن أنفسهم.
ما نزل من القرآن في غزوتى بدر وأحد [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)(1/276)
ج 1 ، ص : 277
المفردات :
غَدَوْتَ : خرجت في الغداة ، وهي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
تُبَوِّئُ : تهيء وتعد. مَقاعِدَ : أماكن وأنظمة للقتال. هَمَّتْ الهمّ :
حديث النفس واتجاهها إلى الشيء.
أَنْ تَفْشَلا : تجبنا وتضعفا. أَذِلَّةٌ : قلة في العدد والعدد. يَكْفِيَكُمْ الكفاية : مرتبة دون الغنى وهي سد الحاجة.
يُمِدَّكُمْ الإمداد : إعطاء الشيء حالا بعد حال. بَلى : كلمة جواب كنعم إلا أنها لا تقع إلا بعد نفى ، وتفيد إثبات ما بعدها. فوركم الفور : الحال السريعة. مُسَوِّمِينَ : معلمين. يَكْبِتَهُمْ من الكبت : وهو شدة الغيظ.
المعنى :
واذكر يا محمد وقت أن خرجت غدوة السبت لسبع خلون من شوال تبوئ المؤمنين وتنزلهم أماكن خاصة للقتال : فهؤلاء في موضع الرماة ، وهؤلاء في الميمنة ، وهؤلاء في الميسرة ، وهكذا.
واللّه سميع لكل قول عليم بكل نية وفعل فهو العليم بما دار حينما شاورت الناس وهل كان رأى البعض عن إخلاص ونفاق أو لا ؟
واذكر إذ همت طائفتان من الأنصار هم بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج لما رأوا انخذال عبد اللّه بن أبى بن سلول حدثتهم أنفسهم بالفرار ولكن اللّه عصمهم من الذلة ومنعهم من الجبن والفشل ، وكيف لا واللّه وليهم ومتولى أمورهم ؟ ... وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون وليعتمدوا عليه لا على حولهم وقوتهم ، وليس هذا يمنع من الأخذ(1/277)
ج 1 ، ص : 278
بالأسباب وإعداد العدة وتجهيز الجيوش بالسلاح والعدد الملائمة لكل عصر ، ومع التوكل على اللّه.
ولذلك ذكرهم اللّه بغزوة بدر حيث نصرهم على عدوهم لما كانوا متوكلين عليه ممتثلين أمره وأمر رسوله ، ولقد نصركم اللّه ببدر وأنتم قلة إذ كنتم ثلاثمائة ، والكفار ألف مقاتل ، فلا عدد معكم ولا عدد ، وهذا معنى الذلة.
فاتقوا اللّه بالثبات مع رسوله والصبر والوقوف عند أمره ، فإن هذا عدة الشكر والشكر سبب النعم والنصر.
واذكر يا محمد وقت قولك للمؤمنين يوم أحد - وقد رأوا العدو يفوقهم وانخذل عنهم عبد اللّه بن أبىّ وأصحابه - : ألن يكفيكم إمداد اللّه لكم بثلاثة آلاف من الملائكة ؟ ؟ بلى يكفيكم الإمداد بهذا ، ومع ذلك إن تصبروا على الغنائم وشدة الجهاد ونزال العدو وتتقوا اللّه وتطيعوا أمر نبيكم ولا تتنازعوا ولا تختلفوا على الغنائم ويأتيكم المشركون من ساعتهم هذه بسرعة ، نعم إن حصل هذا وهو الصبر والتقوى بمعانيهما ، وإتيان العدو بسرعة يعجل اللّه نصركم وييسر أمركم ويمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مرسلين فاتكين بالعدو وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً.
الظاهر - واللّه أعلم - أن اللّه أمد المؤمنين يوم بدر بالملائكة لقوله - تعالى : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال الآية 9].
وأما في غزوة أحد فقد وعد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المؤمنين أن اللّه سيمدهم بثلاثة آلاف بل بخمسة آلاف إن صبروا واتقوا ... ولم يتحقق الشرط وخالفوا النبي ، ولو أمدهم لهزموا الكفار من فورهم.
والإمداد بالملائكة يجوز أن يكون من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم ، أى :
إمداد مادى ، وفي هذا روايات كثيرة ، ويجوز أن يكون من قبيل الإمداد المعنوي وهذا هو الظاهر - واللّه أعلم - فيكون عمل الملائكة بالجيش عملا روحيا معنويا كتثبيت القلوب وتقوية النفوس وإذاعة روح الطمأنينة فيقاتل الجيش عن عقيدة ، وفي جانب العدو يشيعون روح الهزيمة والانخذال ويكثرون سواد المسلمين في نظرهم.(1/278)
ج 1 ، ص : 279
وها هو ذا اليوم في أحدث الحروب تنفق الملايين على الدعاية وتقوية الروح المعنوية إذ لها خطرها وأثرها.
وما جعل قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للمؤمنين : أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الآية إلا بشرى لكم يبشركم بها كي تطمئن قلوبكم ويهدأ روعكم بوعده بالنصر لكم.
وما النصر على الأعداء إلا من عند اللّه وحده بقطع النظر عن العدو وعدده وعدده مهما كانت فاللّه هو العزيز الذي لا يغالب الحكيم في كل شيء يفعله.
وليس معنى هذا ترك الأخذ بالأسباب بل الواجب أن تأخذ بها معتقدا أن اللّه فوق هذه الأسباب وأنه خالقها وليست مؤثرة بطبعها ، فالاعتماد على اللّه والتوكل عليه بعد الأخذ بها ، ولعل انهزام المسلمين في أحد لعدم أخذهم بالأسباب كمخالفتهم للقائد ونزاعهم وخلافهم وغزوهم بأنفسهم.
فعل اللّه ما فعل من نصركم يوم بدر وإمدادكم بالملائكة ليقطع ويهلك طائفة من رءوس الكفر والشرك بالقتل والأسر أو يكبتهم ويغيظهم ويخزيهم فينقلبوا خائبين غير ظافرين وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً »
أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا إلى اللّه ، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر والشقاق فإنهم ظالمون لأنفسهم.
وأما أنت يا محمد فليس لك من الأمر شيء « 2 » إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب فلا تبتئس ولا تتألم منهم وتدعو عليهم بقولك « كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا » ! لا تفعل هذا فربما يتوب اللّه على بعضهم ، وقد تاب على أبى سفيان والحارث بن هشام وسهل بن عمر وصفوان بن أمية.
ثم أكد اللّه - سبحانه وتعالى - أن الأمر بيده بقوله : وللّه ملك السموات والأرض وما فيهما يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بحكمته وعدله ، وهو الغفور الذي يستر الذنوب إن أحب ، الرحيم بالخلق حيث يترك العقاب بالحكمة التامة والسنن المحكمة.
___________
(1) سورة الأحزاب آية 25.
(2) وعلى هذا فقوله تعالى : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ معترض ، وما بعده معطوف على ما قبله.(1/279)
ج 1 ، ص : 280
إرشادات المؤمنين وجزاؤهم [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
المفردات :
أَضْعافاً ضعف الشيء : مثله ، فإذا ضاعفت الشيء ضممت إليه مثله.
سارِعُوا : أسرعوا ، والمراد : اعملوا ما به تحصلون على مغفرة من اللّه وجنة.
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ : هما حالتا السرور والضرر ، أى : الرخاء والشدة(1/280)
ج 1 ، ص : 281
الْكاظِمِينَ : الحابسين الغيظ ، والكاتمين له مع القدرة. الْغَيْظَ : أشد أنواع الغضب ، وهو فورة في الدم عند وقوف الإنسان على ما يؤلمه في ماله أو ولده أو عرضه. فاحِشَةً ذنب كبير ، وظلم النفس ذنب صغير.
المناسبة :
لما نهى اللّه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين لأنهم خطر عليهم وبين أنهم إن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا ، ثم ضرب اللّه المثل لبيان أثر التقوى والصبر في غزوتى بدر وأحد وما فعله الكفار وخاصة اليهود والمنافقين ، بين بعد هذا وذاك فحش صفة لازمة لليهود وحذر منها المسلمين وهي الربا واستتبع هذا ذكر لون من ألوان الترغيب والترهيب.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا لا يليق بكم وقد خالط قلوبكم نور الإسلام وبرد اليقين أن تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة كما كنتم تفعلون في الجاهلية - وهذه ثانى آية في الربا.
فقد كانوا يعطون المائة حتى إذا حل أجلها فإما أن يدفع المدين وإما أن يزيد في الدين وهكذا حتى يصبح المال المقروض أضعافا مضاعفة ، وهذا ما يسمى ربا النسيئة أو الربح المركب وهو ما ورد فيه نص القرآن كما قال ابن عباس - رضى اللّه عنه - .
وضابطه :
كل قرض جر نفعا للمقرض في مقابل النسيئة ، أى : التأخير والأجل سواء كانت المنفعة نقدا أو عينا كثيرة أو قليلة وعلى ذلك فالتعامل مع المصارف بفائدة 3 در صد أو 4 در صد مثلا هو ربا ونسيئة بدليل قوله - تعالى - : وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ « 1 » أى : بدون زيادة أصلا ، أما ربا الفضل فهو بيع ربوى بمثله مع زيادة في أحد المثلين ، كبيع إردب قمح جيد بإردب وكيلتين من القمح مع رضا الطرفين وهو يكون في المطعومات كالبر والذرة والشعير وكل ما تجب فيه الزكاة من الحبوب وكذا النقدان.
___________
(1) سورة البقرة آية 279.(1/281)
ج 1 ، ص : 282
وربا الفضل - كما تقدم عند شرح آية البقرة - ثابت تحريمه بالحديث الشريف فقد
روى ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا سواء بسواء ... إنى أخشى عليكم الرماء ، أى : الربا » « 1 »
.
وكذا حديث أبى سعيد الخدري المتقدم.
والجمهور من العلماء على أن الربا بنوعيه خطر على الأمة والفرد كما بينا ذلك في آية البقرة لا فرق بين ربا النسيئة وربا الفضل سواء كانت الزيادة قليلة أم كثيرة ، والتقيد بالأضعاف المضاعفة في الآية هنا لبيان الواقع الذي كان يحصل عندهم في الجاهلية فلا مفهوم له ، وقد تكون هذه الآية هي المرحلة الوسطى بين الإشارة التي في سورة الروم آية 29 وبين التحريم الكلى القاطع في سورة البقرة كما تقدم.
وبعض العلماء يرى أن ربا النسيئة ثابت بنص القرآن وخطره ظاهر جسيم إذ هو الربح المركب الذي يتضاعف فيه مال المرابى إلى أضعاف كثيرة وهو الذي لعن اللّه آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده وآذن صاحبه بالحرب إن لم يكف وهو صفة اليهود وديدنهم.
وأما ربا الفضل فثابت بالحديث ، وخطره قليل وتحريمه ليس لذاته بل أمر عارض ، فإنه قد يجر إلى ربا النسيئة فتحريمه من باب سد الذرائع فهو يباح عند الضرورة والحاجة.
وأنت كمسلم تقدر ضرورتك.
والرأى عندي أن الواجب على الحكومة أو الأغنياء أن ينشئوا مصرفا للتسليف بلا فائدة كمؤسسة القرض الحسن ومصاريف الموظفين والعمال واستهلاك المبانى والمصارف إن لم تكن على حساب الحكومة فلا مانع من أن تؤخذ من المدين.
واتقوا اللّه في كل ما تأتون وتذرون خاصة الربا ، ولا تكن قلوبكم كقلوب اليهود.
فإنكم إن اتقيتم اللّه حق تقواه كنتم كمن يرجو الفلاح في الدنيا والآخرة.
واتقوا النار التي أعدت للذين يبتعدون عن اللّه ولا يمتثلون أمره ، لا سيما هذا الداء الوبيل فإنه من أكبر الكبائر حتى كأن صاحبه في عداد الكافرين.
وانظر يا أخى كيف نفّر القرآن من الربا وأكد ذلك بأربعة تأكيدات : اتقوا اللّه ، اتقوا النار ، أطيعوا اللّه ، وأطيعوا الرسول ، وفي هذا كله فلاح وبعد عن النار ورحمة وأى رحمة ؟
___________
(1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب البيوع رقم 34 ج 2 ص 634.(1/282)
ج 1 ، ص : 283
ثم ثنى بالوعد والترغيب بعد الوعيد والترهيب فقال :
وبادر بعمل الطاعات كالبر والصدقة والبعد عن الآثام كالربا وغيره ، وبادروا إلى مغفرة من ربكم وإلى جنة أعدت للعاملين جنة واسعة فسيحة عرضها كعرض السماء والأرض معا وهذا بيان لأقصى ما يتصوره الخيال وتمثيل لعظمتها وكبرها وخص العرض لأنه أقل من الطول.
هذه الجنة أعدت للمتقين ، الذين أخذوا الوقاية لأنفسهم من عذاب اللّه بالعمل الصالح وها هي ذي أوصافهم :
1 - المنفقون في السراء والضراء في الشدة والرخاء في كل حال وعلى كل وضع ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة 286] وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطلاق 7].
فانظر إلى المؤمنين كيف يبذلون للّه ويعطون الفقراء من غير عوض ؟ والمرابين الذين يستنزفون دماء المحتاجين ويخربون بيوت المدينين ويأكلون مال الغير بغير حق بل وبمنتهى الظلم والقسوة.
2 - وهم الذين يكتمون غيظهم ويملكون أنفسهم عند الغضب فلا يعتدون على الغير خاصة إذا كانوا في قوة ومنعة.
3 - وهم الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس فلا حقد ولا ألم في نفوسهم بل يعفون عن طيب خاطر وطواعية.
4 - وهناك صفة أعلى إذ هم مع كظم الغيظ والعفو عن الناس يحسنون إليهم ولذلك أحبهم اللّه ووصفهم بالإحسان واللّه يحب المحسنين.
روى أن جارية لعلى بن الحسين - رضى اللّه عنهما - جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة : فسقط الإبريق من يدها ، فشجه ، فرفع رأسه فقالت : إن اللّه يقول :
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ فقال : قد كظمت غيظي. فقالت : وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال : قد عفوت عنك. قالت : وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال : اذهبي فأنت حرة لوجه اللّه.
5 - وهم الذين إذا فعلوا ذنبا كبيرا يتعدى ضرره إلى الغير كالزنا والربا والسرقة(1/283)
ج 1 ، ص : 284(1/284)
ج 1 ، ص : 284
والغيبة مثلا ، أو فعلوا ذنبا صغيرا لا يتعداهم إلى غيرهم ذكروا عقاب اللّه وما أعده للطائعين والعاصين فيرجعون ويتوبون إليه ، أو ذكروا اللّه وجلاله وجماله ونعمه وفضله فاحتقروا أنفسهم إذ فعلوا ما يغضب اللّه ، وهؤلاء لا يلبثون أن يتوبوا سريعا ويقلعوا عن ذنبهم إلى غير رجعة - ومن يغفر الذنوب الكبيرة والصغيرة إلا اللّه ؟ الذي وسعت رحمته كل شيء وكتب على نفسه الرحمة لمن يرجع إليه - وهؤلاء هم الذين إذا ذكروا اللّه استغفروا لذنوبهم وتابوا عن جرمهم وانصرف عنهم طائف الشيطان ، ووجدوا نفس الرحمن ، ومن كان كذلك لا يصر على الذنب فيفعله مرة ثانية ، أولئك الموصوفون بما ذكر البعيدون في درجات الكمال الروحي والتوفيق الإلهى ، جزاؤهم مغفرة من اللّه ورضوان من ربهم ، وجنات تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها نعيم مقيم وهم فيها خالدون ، ونعم أجر العاملين الذين يعملون لأنفسهم ولغيرهم.
سنة اللّه في الخلق والعاقبة للمتقين [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 141]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)(1/285)
ج 1 ، ص : 285
المناسبة :
كان الكلام في وقعة بدر وأحد وما حصل للمؤمنين فيهما وموقف الكفار وصفتهم مع بيان صفة المؤمنين وجزائهم.
ثم بعد هذا ذكر القرآن سنة اللّه في الخلق وأن ما حصل كان موافقا للسنة مع بيان الحكمة فيما وقع.
المعنى :
انظروا أيها المسلمون فأنتم أولى بالنظر والاعتبار ، انظروا إلى من تقدمكم من الأمم ، سيروا في الأرض حتى تقفوا على أخبار الماضين فستجدون أن للّه طريقا واحدا لا يختلف : سُنَّةَ اللَّهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا « 1 » فإن أنتم أيها المسلمون سرتم سير الطائعين الموفقين ، وصلتم إلى ما وصلوا إليه حتما ، وإن سرتم سير العصاة المكذبين كانت عاقبتكم خسرا ، وفي هذا تنبيه لمن خالف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم أحد.
فكأنهم انتصروا يوم بدر لسلوكهم سبيل الطائعين المتوكلين على اللّه وهزموا يوم أحد لأنهم تنازعوا ففشلوا وخالفوا أمر الرسول ولم يصبروا ولم يتقوا كما أمروا ، ففي الآية الكريمة سبيل الأمن والخوف ، وفي طيها الوعد والوعيد ، والقرآن الكريم يشير في جملته إلى أن مشيئة اللّه تسير على نظم ثابتة قد ربطت فيها الأسباب بالمسببات وإن يكن اللّه قادرا على كل شيء ، ففي الحرب أو الزرع أو التجارة مثلا إذا سار فيها صاحبها على الطرق المألوفة والنظم المحكمة نجح وإن كان شريرا مجوسيا. وإن جانب المألوف وركب رأسه واتبع غير المعقول كان من الخاسرين ولو كان شريفا علويّا ، وأحق الناس بالسير على المعقول والاستفادة بهدى القرآن هم المؤمنون في كل ما يأتون ويذرون والسير في الأرض ومشاهدة الآثار أثبت في معرفة الأخبار من التاريخ ورواية الأخبار « فما راء كمن سمعا » .
كل إنسان له عقل يفكر به يعرف أن للّه سنة في الكون لا تختلف عند جميع الناس في كل العصور مؤمنهم وكافرهم ، وبرهم وفاجرهم واللّه يهدى من يحب إلى صراط مستقيم.
___________
(1) سورة الأحزاب آية 62. [.....](1/286)
ج 1 ، ص : 286
فبيان سنن الكون للناس جميعا ، وإن كون ما ذكر هداية وعظة فهو خاص بالمتقين لأنهم المنتفعون بهدى القرآن ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ « 1 » ولذا قال اللّه : هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.
وإذا كان المؤمنون هم المنتفعين بما ذكر يجب ألا يضعفوا لما أصابهم من مس السلاح عند القتال وما يلزمه من التدبير ، ولا يحزنوا على من قتل منهم في أحد فهو شهيد مكرم عند اللّه يوم القيامة ، وما وقع ليس نصرا للمشركين ولكنه درس شديد للمسلمين ، ولذا
ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « لو خيرت بين الهزيمة والنصر يوم أحد لاخترت الهزيمة »
لما في تلك الغزوة من التربية لكم على تحمل المشاق وبيان أن خروجكم على نبيكم ومخالفة أمره خروج على سنة اللّه في أسباب الظفر فلا تعودوا لمثله أبدا!! وكيف تهنون وتحزنون والحال أنكم الأعلون بمقتضى سنة اللّه في جعل العاقبة للمتقين ؟ ألا تعلمون أن قتلاهم في النار وقتلاكم في الجنة ؟ ! والمراد بالنهى عن الوهن والحزن النهى عن الاستسلام إلى ذلك ، بمعنى التأهب والاستعداد مع العزيمة الصادقة والتوكل على اللّه والوثوق بالنصر ، فإن اللّه وعد بذلك إن كنتم مؤمنين فاعملوا بهذا.
وكيف تضعفون ولا تعلمون حقيقة ما أصابكم من الألم ، فأنتم إن أصابكم ألم في أحد فقد أصاب الكفار ألم أكثر منه في بدر ، وإن هزمتم في أحد فقد انتصرتم في بدر.
فيوم لنا ويوم علينا ويوما نساء ويوما نسرّ
والأيام دول ، والحرب سجال ، وتلك الأيام نداولها بين الناس فنجعل للباطل دولة في يوم ، وللحق دولة في أيام ، والعاقبة والنصر في النهاية للمتقين الصابرين كل ذلك ليستقر العدل ويعم النظام ويعلم الناس أن الدنيا إن سلك طريق النجاح والفوز .. فعل اللّه ما فعل مع المؤمنين لحكم يعلمها وليتحقق إيمان المؤمنين ويظهر واضحا ، ولذا
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد موقعة أحد : « لا يذهب معنا في القتال (غزوة حمراء الأسد) إلا من قاتل »
فذهب المؤمنون وهم في أشد التعب والنصب.
لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا هذه العبارة وأمثالها تفيد تحقيق الإيمان وحصوله في الخارج حتى يحصل علم اللّه به ، فإذا علم اللّه إيمان فلان كان لا بد أن يكون إيمانه
___________
(1) سورة البقرة الآية 2.(1/287)
ج 1 ، ص : 287
حاصلا في الواقع ، إذ علم اللّه لا بد أن يكون مطابقا للواقع ، وعلى ذلك فالمعنى : فعل اللّه بكم ذلك لحكم هو يعلمها وليتحقق إيمان المؤمنين ويظهر.
وليكرم اللّه أناسا منكم بالشهادة والقتل في سبيل اللّه والاستشهاد درجة عظيمة سيأتى بيانها فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ (سورة النساء 69) وهذه الشهادة لا يعطيها اللّه إلا لمن أحبه واصطفاه واللّه لا يحب الظالمين أبدا.
وليمحص اللّه الذين آمنوا ، فهذه الحوادث العنيفة التي ترج المجتمع تمحص الإيمان الخالص من الإيمان المشوب بالضعف والاستكانة حتى تصفو النفوس فلا يبقى فيها درن.
وكثير من الناس مصابون بداء الغرور الديني فهم يفهمون في أنفسهم أنهم كاملوا الإيمان حتى إذا ما محصوا بالابتلاء قلّ الديانون وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ففي غزوة أحد تخلف البعض وفر البعض.
وصعدوا في الجبل لا يلوون على أحد ، وثبت البعض حول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتى قتل ، واتخذ البعض نفسه ترسا واقيا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم رضى اللّه عن الجميع ووفقنا حتى نقتدي بهم.
ومن الحكم العالية محق الكافرين فإنهم إذا ظفروا مرة طغوا وبغوا فيكون هلاكهم مرة واحدة ، وإذا هزموا كما في بدر ، تقلمت أظفارهم وأصابهم الضعف والهلاك شيئا فشيئا حتى يبادروا ، والعاقبة للمتقين.
دروس لمن شهد غزوة أحد [سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 151]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)(1/288)
ج 1 ، ص : 289
المفردات :
وَلَمَّا بمعنى (لم) إلا أن مدخولها متوقع الحصول ، فالمراد نفى الجهاد في الماضي وتوقعه في المستقبل. الجهاد : احتمال المشقة ومكافحة الشدائد. تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ المراد : تمنى الشهادة في سبيل اللّه. تَلْقَوْهُ : تشاهدوا هوله وتروا خطره. انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ انقلب على عقبيه ونكص على عقبيه : رجع وراءه ، والمراد : رجعتم كفارا بعد إيمانكم.
مُؤَجَّلًا : ذا أجل ، وهو المدة المضروبة للشيء.
كَأَيِّنْ : كلمة تفيد الكثرة. رِبِّيُّونَ : جماعات كثيرة واحدهم ربّىّ وهو الجماعة. اسْتَكانُوا الاستكانة : الاستسلام والخضوع لأن صاحبها يستكين للخصم. إِسْرافَنا :
مجاوزة الحد في كل شيء.
الرُّعْبَ : شدة الخوف. سُلْطاناً : برهانا وحجة ، ولما فيهما من القوة على دفع الباطل سمى سلطانا. مَثْوَى المثوى : المكان الذي يكون مقر الإنسان ومأواه.
يبين اللّه في هذه الآيات أن الثواب في الآخرة منوط بالجهاد والصبر ، كما أن الفوز في الدنيا منوط بإقامة العدل وسلوك الطرق المألوفة ، فسنة اللّه لا تختلف ، وقد ذكر مع هذا عتابا لبعض من شهد أحدا.
المعنى :
لا ينبغي لكم أن تظنوا باللّه الظنون وتصابوا بداء الغرور فتفهموا أن دخول الجنة لا يكون من غير جهاد في اللّه وصبر على البأساء والضراء وحين البأس « لا » ... إن دخول الجنة لا يكون إلا بالجهاد الكامل لإعلاء كلمة اللّه ورفع راية الوطن ، وإنما يكون بجهاد العدو وجهاد النفس خاصة في الشباب ، وجهاد حب المال عند البذل في الأعمال العامة النافعة وغير ذلك.
وتمكن الصبر في أنفسكم تمام التمكن على أداء التكاليف وعلى الطاعة وعلى البلاء والحوادث.(1/289)
ج 1 ، ص : 290
ونفى العلم من اللّه دليل على عدم وقوع الجهاد والصبر منكم فهو أبلغ من نفى الجهاد والصبر ، إذ هو كالدعوى ودليلها ، شبيه بهذا قوله تعالى : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا.
روى عن الحسن أنه قال : بلغني أن رجالا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا يقولون : لئن لقينا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لنفعلن ولنفعلن فابتلوا بذلك ، فلا واللّه ما كلهم صادق ، فأنزل اللّه : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ.
نعم لقد كان كثير منكم يتمنى لو يستشهد في سبيل اللّه تمنيا من نفسه استحق أن يعبر عنه المولى بهذا التأكيد : وَلَقَدْ كُنْتُمْ حتى إذا جد الجد وقامت الحرب وشاهدتم بأعينكم مشاهدة كاملة وأنتم تنظرون نظرة فاحصة ليست عاجلة ، توانيتم وانحزتم إلى الجبل وأصعدتم فيه لا تلوون على أحد والرسول يدعوكم فلا يجيبه أحد.
وهذا عتاب وأى عتاب ؟ نعم كان مع النبي من بايعه على الموت ودافع عنه دفاعا مجيدا حتى قتل البعض ونجا البعض كما تقدم في سرد حوادث الغزوة ، ومع هذا كان الخطاب عاما ليكون الإرشاد عاما فيتهم المؤمنون الصادقون أنفسهم ليزدادوا إيمانا وليرعوى المقصرون فلا يعودوا لمثلها أبدا.
في هذه الغزوة - كما قلنا سابقا - أشيع قتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكانت الإشاعة سببا في شيوع قالة السوء ، حتى قال بعض المنافقين : لو كان نبيا ما قتل!! من لنا برسول إلى عبد اللّه بن أبىّ ليأخذ لنا الأمان عند أبى سفيان ؟ وهكذا مما جعل أنس بن النضر يبرأ إلى اللّه من مثل هذا الكلام ويقاتل حتى يقتل دفاعا عن الدين.
وكانت هذه الإشاعة سببا في انفضاض بعض الناس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فعاتبهم اللّه بقوله. وما محمد إلا رسول كمن سبقه من الرسل فهم قد خلوا وانتهت حياتهم بموت كموسى وعيسى ، أو قتل كزكريا ويحيى ، ومع هذا ظلت ديانتهم كما هي وأتباعهم متمسكون بها ، فالمعقول أن تظلوا كما كنتم ولو مات أو قتل فإن الرسول بشر كسائر الأنبياء له في الدنيا مهمة تنتهي بانتهاء أجله ، ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه باق ، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات.
أفتنقلبون على أعقابكم فترتدون عن دينكم أو يطير صوابكم لو مات أو قتل مع أنه(1/290)
ج 1 ، ص : 291
رسول كسائر الرسل لم يدّع أنه إله ، ولم يطلب لنفسه العبادة حتى إذا مات أو قتل تركتم دينه ورجعتم كفارا.
ومن ينقلب على عقبيه ويعود إلى الكفر فلن يضر اللّه بشيء من الضرر ، وإنما يضر نفسه وأما من ثبت على دينه وجاز هذا الامتحان الدقيق فهو من المجاهدين الصابرين الشاكرين الذين سيجزيهم اللّه خير الجزاء ، وقد كانت هذه الآية تمهيدا لموت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد أداء رسالته وقولا فصلا لأمثال عمر بن الخطاب - رضى اللّه عنه - .
ثم بعد ما لام القرآن المؤمنين على ما بدر منهم حينما بلغهم قتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر لهم :
بأنه رسول كبقية الرسل ، لم يطلب لنفسه العبادة ، حتى إذا مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم كافرين ، وإنما كان يأمركم بعبادة اللّه ، واللّه حي لم يمت ، ومهمته البلاغ فقط ، فإذا ليس لوجوده دخل في استمرار عبادة اللّه.
وهنا يلومهم أيضا على أن النبي لو قتل - كما أشيع - ما كان لكم أن تفعلوا ما فعلتم.
ليس من شأن النفوس ، ولا من سنة اللّه فيها ، أن تموت بغير إذنه أو مشيئته ، التي يجرى بها النظام العام في الكون ، وارتباط الأسباب بالمسببات ، فاللّه وحده هو المتصرف في كل شيء ، وله الأمر فيأذن للملك يقبض الروح في الموت العادي وغيره ، في الإنس والجن حتى في نفسه ، الموكل بقبض الأرواح.
كتب هذا كتابا محكما مؤقتا بوقت لا يتعداه ، ولن يؤخر اللّه نفسا إذا جاء أجلها فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة النحل آية 61] وإذا كان العمر للّه ، وانقضاؤه بإذنه وإرادته. فكيف يصح الجبن والوهن والضعف والانخذال ؟ ؟
ومن يرد ثواب الدنيا بجهده وعمله ، وأعطاه اللّه شيئا من ثوابها. ومن يرد ثواب الآخرة وجزاءها أعطاه اللّه شيئا من ثوابها ، على حسب إرادته ومشيئته في كلا الحالين ، وأما أنتم يا من ضعفتم وفشلتم وتنازعتم وخالفتم أمر نبيكم وقائدكم لأجل الغنيمة ، ما الذي تريدون بعملكم ؟ إن كنتم تريدون الدنيا فاللّه لا يمنعكم من ذلك ، ولكن ليس هذا طريقها ، إن العمل الذي يدعوكم إليه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم هو للدنيا والآخرة.
ولا تنس أن التعبير بقوله : يُرِدْ دليل على أن الإرادة للشخص هي التي تكيف العمل فتارة يكون خيرا وتارة يكون شرا
« إنما الأعمال بالنيات »
أما اللّه - سبحانه وتعالى - فسيجزى الشاكرين نعمه. الواقفين عند حدوده ، الثابتين مع نبيه.(1/291)
ج 1 ، ص : 292
وكثير من الأنبياء السابقين قاتل معهم في سبيل اللّه ولإعلاء كلمته ، جماعات في أحرج الأوقات وأشدها ، فما وهنوا ولا ضعفوا ولا خضعوا للدنيا ومتاعها ، بل ظلوا كما هم لم تزعزعهم الأعاصير ثابتين ، واللّه يحب الصابرين الذين صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا اللّه فهو يهديهم ويرشدهم ، ولا شك أن هؤلاء مبالغون في التعلق باللّه - سبحانه - هذا عملهم ، أما قولهم فهو : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، واستر ما ألممنا به مما نعلمه ولا نعلمه واغفر لنا إسرافنا ومجاوزتنا أمرك ، فهم مهما فعلوا من الخير يرون أنفسهم مقصرين ، أو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ... وثبت أقدامنا على صراطك المستقيم وأمام عدوك المبين ، وانصرنا على القوم الكافرين.
فآتاهم اللّه ثواب الدنيا والسعادة فيها بالرضا والقناعة والعزة وحسن التوكل على اللّه ، وثواب الآخرة وهو الجزاء الأوفى ، أولئك رضى اللّه عنهم ورضوا عنه وذلك هو الفوز العظيم.
وأنتم يا أصحاب الرسول محمد وخاتم الأنبياء والمرسلين أولى بهذا.
روى أن بعض المنافقين حينما أذيع خبر مقتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال :
من لنا برسول إلى ابن أبىّ يأخذ أمانا لنا عند أبى سفيان ؟ وقال بعضهم : لو كان نبيا ما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم ، وهذا أبو سفيان ينادى : العزى لنا ولا عزى لكم ، فنزلت هذه الآيات.
وبعد ما رغب المؤمنين في الاقتداء بأنصار الأنبياء السابقين وبين جزاء هذا وحذرهم من متابعة الكفار فإن في ذلك خسارة لهم.
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا كأبى سفيان وعبد اللّه بن أبى والداعين إليهما ، إن تطيعوهم يردوكم كافرين كما كنتم ، خاسرين في الدنيا بالذلة بعد العزة وتحكم العدو فيكم ، وحرمانكم من السعادة والملك الذي وعده اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً. « 1 » وأما خسران الآخرة فعذاب شديد يوم القيامة.
بل اللّه مولاكم ولا مولى لهم ، فلا يليق أن تفكروا في ولاية أبى سفيان أو غيره ولا
___________
(1) سورة النور آية 55.(1/292)
ج 1 ، ص : 293
تأبهوا لكلام المنافقين الجبناء ، فاللّه نعم المولى وهو خير الناصرين ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون آية 28] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [سورة محمد آية 11].
سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب بسبب شركهم باللّه أصناما وحجارة ، ليس لهم في هذا حجة ولا برهان ، بل هم إذا خلوا إلى أنفسهم وجدوها تعبد معبودات كل حجتهم في عبادتها أنهم وجدوا آباءهم لها عابدين إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وعبادتهم الأصنام تورث في عقولهم خبالا وفي نفوسهم ضعفا وأى ضعف ؟ وإذا رأوكم متمسكين بدينكم كان ذلك أدعى إلى إلقاء الرعب في قلوبهم وشكهم في أنفسهم ، وهذا ما حصل ويحصل.
هذا حالهم في الدنيا ، وفي الآخرة مأواهم النار وبئس القرار فإنهم الظالمون المشركون.
أما إذا رأيت المؤمنين مع الكافرين وقد انعكست الآية ، وقد ألقى الرعب في قلوب المؤمنين فاعلم أنهم ليسوا مؤمنين حقا ولكنهم مسلمون بالوراثة والاسم فقط.
ما أصاب المسلمين في أحد ، وسببه [سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 155]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)(1/293)
ج 1 ، ص : 294
المفردات :
تَحُسُّونَهُمْ : تقتلونهم ، من حسه ، أى : أذهب حسه بالقتل. بِإِذْنِهِ :
بأمره ودعوته. فَشِلْتُمْ : جبنتم وضعفتم. صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ : كفّكم عنهم وحوّلكم. لِيَبْتَلِيَكُمْ : ليختبركم ، والمراد : ليعاملكم معاملة من يختبر وإلا فاللّه عالم لا يحتاج إلى اختبار. تُصْعِدُونَ من أصعد بمعنى أبعد في الذهاب وأمعن فيه.(1/294)
ج 1 ، ص : 295
وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ : ولا تلتفتون لأحد فجازاكم. أَمَنَةً : الأمنة والأمن سواء. الْغَمِّ : ألم وضيق في الصدر من الأمر الذي لا يدرى الخلاص منه.
لَبَرَزَ : لخرج. مَضاجِعِهِمْ : مصارعهم التي يصرعون فيها.
اسْتَزَلَّهُمُ : أوقعهم في الزلل والخطأ.
سبب النزول :
روى الواحدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد قال الناس : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا اللّه تعالى النصر ؟
فأنزل اللّه : وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ (الآية). وتلاها ذكر الحوادث وأسبابها.
المعنى :
وتاللّه لقد وفّى لكم ربكم وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده وهزم المشركين وقت أن أخذتم تقتلونهم قتلا وتفتكون بهم فتكا ، كل ذلك بتيسير اللّه ومعونته ، وإذنه وإرادته.
نعم صدقكم اللّه وعده ، حتى ضعفتم في الرأى وجبنتم في الحرب ، وفشلتم وتنازعتم واختلفتم فقال قائل : فيم وقوفنا وقد انهزم المشركون ؟ وقال بعضهم : لا نخالف أمر الرسول أبدا ، وما ثبت مكانه إلا عبد اللّه بن جبير في نفر قليل من أصحابه ، وكان ما كان من أمر انهزامكم مما ذكر في (غزوة أحد).
منكم من يريد الدنيا وهم الذين تركوا أماكنهم طلبا للغنيمة ، ومنكم من يريد الآخرة وهم الذين ثبتوا في مكانهم ولم يخالفوا أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
ثم كفّكم عنهم حتى تحولت الحرب ودالت الدولة. فعل هذا بكم ليمتحن إيمانكم ويتبين أمركم ، فيظهر الصادقون من المنافقين ، ولقد عفا اللّه عنكم بذلك الابتلاء الذي محا أثر الذنب من نفوسكم وتاب عليكم لما ندمتم على ما فرط منكم ، إنه هو التواب الرحيم وهو ذو الفضل العظيم على المؤمنين وكم نقمة في طيها نعم.(1/295)
ج 1 ، ص : 296
صرفكم اللّه عنهم فجازاكم غما وغما حين ابتلاكم بالهزيمة بسبب غم منهزمين لا تلتفتون وراءكم ، والحال
أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدعوكم قائلا : « إلىّ عباد اللّه ، إلىّ عباد اللّه ، أنا رسول اللّه ، من يكرّ فله الجنة »
يدعوكم في الجماعة المتأخرة الذين ثبتوا مكانهم ولم تنخلع قلوبهم وظلوا يدافعون عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
صرفكم عنهم وقت أن كنتم تصعدون في الجبل وتبعدون في السير ألحقتموه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعصيانكم أمره ، ومخالفة رأيه ، ويصح أن يفهم (أصابكم غما بعد غم) هزيمة المشركين وإشاعة قتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقتل الأحبة وفوات النصر والغنيمة.
وما فعل بكم كله إلا ليمرنكم على الشدائد فإنها هي التي تخلق الرجال والأمم ولئلا تحزنوا على شيء فات ، ولا ما أصابكم من عدوكم ، واللّه خبير بأعمالكم فمجازيكم عليها.
روى الزبير - رضى اللّه عنه - أنه قال : لقد رأيتنى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين اشتد علينا الخوف فأرسل اللّه علينا النوم واللّه إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني : لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا.
ثم أنزل اللّه الأمن على القلوب والطمأنينة على النفوس بالنعاس حتى كان يسقط السيف من أحدهم فيأخذه ، والنعاس في هذه الحالة نعمة من نعم اللّه وحدّ فاصل بين حالتي الأمن والخوف ، فإنه لا ينام الخائف أبدا.
هذا النعاس غشى طائفة من الناس هم المؤمنون الصادقون الملتفون حول رسول اللّه.
وهناك طائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم ، وملأ الخوف قلوبهم ما بهم إلا همّ أنفسهم لا همّ الدين ولا همّ الرسول والمسلمين ، وذلك لأنهم لا يثقون بنصر اللّه ولا يؤمنون بالرسول ، فقلوبهم هواء ، وهؤلاء هم المنافقون كمعتب بن قشير ومن لف لفه من أتباع ابن أبىّ ، يظنون باللّه غير الحق ظن الجاهلية الأولى.
يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : هل لنا من الأمر والنصر نصيب ؟ يسألون كالمؤمنين في الظاهر والواقع أنهم ينكرون أن لهم شيئا من النصر والغلب.(1/296)
ج 1 ، ص : 297
قل لهم يا محمد : إن الأمر والنصر كله للّه ، ولا يكون من غيره كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي « 1 » . إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
. « 2 »
هم يضمرون في أنفسهم العداوة والحقد لكم ويظهرون غير ذلك ولا غرابة فهم المنافقون والمخادعون.
يقولون : لو كان لنا من النصر والفوز نصيب ما قتلنا ها هنا ، فهزيمتنا دليل واضح على أن النصر لن يأتى لنا وأن محمدا ليس نبيا إذ لو كان نبيا ما هزم ، فهم يربطون بين النبوة والنصر. وما علموا أن النصر من عند اللّه وتوفيقه وأن الهزيمة من أعمالهم ومخالفتهم ، ومع ذلك فالعاقبة للمتقين.
وهؤلاء ختم اللّه على قلوبهم ، فغفلوا عن أن الأعمار بيد اللّه وأن النصر من عنده وأن الذين كتب عليهم القتل ، لا بد من حصوله ولو كانوا في بروج مشيدة.
قل لهم : لو كنتم في بيوتكم وقد كتب عليكم القتل ، لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى حيث يصرعون ويقتلون ، فالحذر لا ينجى من القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير والأمر كله بيد اللّه والعاقبة للمتقين.
وقد فعل اللّه ما فعل ، ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص والتقوى ، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان حتى تصل إلى الغاية القصوى في اليقين ، واللّه عليم بصاحبات الصدور التي لا تنفك عنها من الأسرار والضمائر فهو لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وهو الغنى عن الابتلاء والاختبار ولكن يفعل هذا لينكشف حال الناس بعضهم لبعض فلا ينخدع إنسان بظاهر أخيه.
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان من المشركين والمسلمين وتركوا أماكنهم أو تولوا منهزمين ، إنما أوقعهم الشيطان في هذا الخطأ بسبب بعض أفعالهم السابقة فإن الذنب الذي يفعله الإنسان يترك نكتة سوداء في القلب يرتكز عليها الشيطان فينفذ منها إلى الإنسان ويوحى إليه بالسوء.
ولقد عفا اللّه عنهم لما تابوا وأنابوا وكانت عقوباتهم في الدنيا جوابر لهم ، إن اللّه غفور للذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة.
___________
(1) سورة المجادلة آية 21.
(2) سورة الصافات آية 173.(1/297)
ج 1 ، ص : 298
بث روح التضحية والجهاد في نفوس المؤمنين [سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
المفردات :
ضَرَبُوا : سافروا في الأرض للتجارة والكسب. لِإِخْوانِهِمْ : لأجل إخوانهم ، أى : في شأنهم والمراد بالأخوة ما هو أعم من أخوة النسب والدين والمودة :
غُزًّى : جمع غاز ، وهو المقاتل. حَسْرَةً : ندامة في قلوبهم.
لما بين اللّه فيما مضى سبب الهزيمة وأن الشيطان قد استزلهم ببعض ما كسبوا.
بين هنا ما يوسوس به الشيطان للناس فيعتقدون هذا الخطأ الفاسد.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله لا تكونوا كأولئك المنافقين الذين طمس اللّه على قلوبهم وجعل على أبصارهم غشاوة ، فأصبحوا لا يهتدون إلى صواب في رأى ، فهم يقولون في شأن إخوانهم في الدين والرأى! حينما يسافرون للتجارة والكسب أو(1/298)
ج 1 ، ص : 299
يجاهدون في سبيل اللّه ، فيحصل لهم موت أو قتل : لو كانوا عندنا لم يبرحوا مكانهم ، ما ماتوا وما قتلوا.
عجبا لهؤلاء البله أهم يظنون أن المنايا ترسل بلا حساب ، وأن الهلاك لا يكون إلا بالسفر أو الحرب ؟ ! وللّه در خالد بن الوليد الذي يقول : ما في شبر من جسدي إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح وها أنا ذا أموت على الفراش كالبعير ، فلا نامت أعين الجبناء!! ألم يسمعوا قوله تعالى : وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا « 1 » .
وإذا لم يكن من الموت بدّ فمن العجز أن تموت جبانا
فيا أيها المؤمنون لا تكونوا مثلهم ، بل خالفوهم وثقوا باللّه وأن كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ « 2 » فإنهم إن رأوكم هكذا لا تبالون بالموت.
ولست أبالى حين أقتل مسلما على أى جنب كان في اللّه مصرعي
جعل اللّه ذلك حسرة في قلوبهم وندامة.
فأنتم المؤمنون المعتقدون أن اللّه يحيى ويميت وأنه هو المؤثر وحده وأنه يقول : أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ « 3 » واللّه بما تعملون بصير ، فلا تخفى عليه خافية من خفايا نفوسكم ومعتقداتكم ، وفي هذا ترغيب للمؤمنين وتهديد للكافرين ، وتاللّه - أيها المسلمون - لئن قتلتم في سبيل اللّه أو متم فهناك مغفرة اللّه ورضوانه خير بكثير جدا مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية.
ألا ترى معى أن القرآن يربى فينا روح التضحية والكفاح من أجل العقيدة ورفع لواء الإسلام ويعدنا بأن من يقتل في سبيل اللّه فهو حي يرزق عند ربه وعند الناس حي بالذكر الطيب والثناء الجميل.
وانظر إلى تقديم القتل في الجهاد والموت في غيره اعتبارا بالكثير الغالب.
___________
(1) سورة آل عمران آية 145.
(2) سورة آل عمران آية 185.
(3) سورة النساء آية 78.(1/299)
ج 1 ، ص : 300
بعض أخلاقه صلّى اللّه عليه وسلّم [سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 164]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
المفردات :
لِنْتَ لَهُمْ اللين : الرفق والسهولة في المعاملة. فَظًّا الفظ : السيئ الخلق الشرس. غَلِيظَ الْقَلْبِ : قاسيه الذي لا يتأثر بشيء.
لَانْفَضُّوا مِنْ(1/300)
ج 1 ، ص : 301
حَوْلِكَ
: لتفرقوا من حولك. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ التوكل : الاعتماد عليه.
يَغُلَّ الغل : الأخذ خفية كالسرقة ، ثم شاع في الأخذ من الغنيمة قبل التقسيم.
السّخط : الغضب العظيم. مَأْواهُ : مصيره من : تفضل وأنعم.
أَنْفُسِهِمْ : جنسهم. يُزَكِّيهِمْ : يطهرهم من أدران الوثنية وزائف العقائد.
المناسبة :
نعمة تتلوا نعمة ، وفضل يتلو فضلا من اللّه ورحمة ، فقد عفا عنهم وتاب عليهم ووفقهم لما فيه خير الدنيا والآخرة ، وبرحمته وفضله كانت أخلاق المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم وحسن معاملته للناس وإرشادهم إلى الخير والفلاح.
المعنى :
خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إثر خطاب المؤمنين ، فبرحمته - تعالى - وهدايته كنت سهلا في معاملتهم ، لينا في إرشادهم وهدايتهم وقبول عذرهم ، فيما فرط منهم.
وهكذا كان الرسول مثلا أعلى للرئيس الحكيم والزعيم الموفق.
ولو كنت (لا قدر اللّه) سيّئ الخلق ، ضيق العقل ، فظا جافى القلب ، غليظ الكبد ما اجتمعوا حولك ، وما تعلقت قلوبهم بك وكيف هذا ؟ وقد أرسلت رحمة للعالمين وشهد لك القرآن وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سورة القلم آية 42 وإذا كنت - يا رسول اللّه - بهذا الوصف فاعف عنهم ، وتجاوز عما يبدر منهم واطلب لهم المغفرة من اللّه إنه هو الغفور الرحيم ، وشاورهم في أمور الدولة ونظام الجماعة في الحرب والسياسة والاقتصاد والاجتماع أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ.
أما أمور الدين فالقرآن هو الحكم وقد شهد لك بأنك لا تنطق عن الهوى ، ولذا كانوا جميعا يقفون عند رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والوحى في الدين وأحكامه ، والمراد : ذم على ما أنت عليه كما فعلت في بدر وأحد من مشاورة أصحابك ، وإن حصل خطأ في بعض(1/301)
ج 1 ، ص : 302
الآراء فهو قليل إذ رأيان خير من رأى ، والاستشارة من كمال العقل وبعد النظر وحسن السياسة.
ولذا كان رسول اللّه دائم الاستشارة في الأمور كلها.
فالحكومة الإسلامية حكومة شورية عادلة دستورها القرآن وهاديها المصطفى وسنته ، وليست الحكومات العباسية والأموية وغيرها دليلا عليها بل هي ملك عضوض وحكومات مادية استبدادية لم تحكّم القرآن في كل مشكلاتها.
فإذا محص الرأى وظهر فانزل على حكم الأغلبية واعزم وسر على بركة اللّه واعتمد عليه وحده ، فإن الإنسان مهما بعد نظره وحصف رأيه لا يرى من حجاب الغيب شيئا ، وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون فإنه هاديهم إلى الصراط المستقيم.
والتوكل على اللّه يكون بعد البحث والنظر واستقصاء الجزئيات التي مرت ، فأنت مكلف بطرق الأسباب الظاهرة والطرق المنتجة غالبا وبعد هذا لا تعتقد أن هذه الأسباب مؤثرة بطبعها وأنك واصل قطعا إلى ما تحب ، لا ، اعتقد أن هناك قوة فوق القوى وإرادة فوق كل إرادة هي إرادة اللّه - سبحانه وتعالى - فتوكل عليه واطلب منه التوفيق والسداد.
فاللّه إن ينصركم فلا غالب لكم أبدا : إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ « 1 » .
وإن يخذلكم اللّه فمن ذا الذي ينصركم من بعده ؟ لا أحد ، وعلى اللّه وحده فليتوكل المؤمنون لأنه لا ناصر لهم سواه.
روى الكلبي ومقاتل : أنه قيل للرماة الذين تركوا أماكنهم يوم أحد : لم تركتم أماكنكم ؟ فقالوا : نخشى أن يقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من أخذ شيئا من مغنم فهو له وألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر ، فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى ؟ فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا ، فقال لهم : بلى ظننتم أننا نغل ولا نقسم.
إن اللّه قد عصم أنبياءه ورفع درجاتهم عن سفساف الأمور التي يترفع عنها متوسطو الناس ، فما يصح ولا يليق بمكانة النبوة التي رفعها اللّه أن يأخذ نبي شيئا من الغنائم
___________
(1) سورة محمد آية 7.(1/302)
ج 1 ، ص : 303
وكيف يكون ذلك ؟ وهم المثل العليا في الخلق الكامل والأدب العالي ، وهم يعرفون أن من يأخذ شيئا في الدنيا بغير حق يأثم يوم القيامة وقد تمثل له كأنه حاضر أمامه وشاهد عليه وعلى عمله يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [سورة لقمان آية 16].
ومعنى الإتيان : أن اللّه يعلمها حق العلم ضرورة أن من يأتى بالشيء يعرفه.
وبعض المفسرين يرى أن معنى الإتيان أن الذي غل يأتى يوم القيامة وقد حمل المسروق في عنقه واستدلوا على ذلك بعدة روايات يمكن تأويلها.
ثم توفى كل نفس يوم القيامة ما كسبت من خير أو شر وهم لا يظلمون وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سورة الكهف آية 49].
وإذا كانت كل نفس توفى أجرها كاملا من خير وشر فهل يعقل أن يسوى بين المحسن والمسي ء ؟ أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ « 1 » ؟ أفمن اتبع رضوان اللّه وعمل عملا صالحا وابتعد عن الغل والفحش والمنكر حتى كأن رضوان اللّه أمامه.
وقائده فلا يرى إلا حيث يرضى اللّه ، ولا يكون حيث يغضب اللّه ، أهذا يكون كمن رجع بغضب من اللّه يوازيه ويساوى ذنبه وجرمه ، واتخذ غضب اللّه مكانا يبوء إليه ولا يتركه ؟ ؟
أظن لا يسوى اللّه بين هذا وذاك!! إن كلا ممن اتبع رضوان اللّه من المؤمنين ومن باء بغضب اللّه الشديد لهم درجات ومنازل عند ربهم يوم القيامة فأعلى الدرجات : الرّفيق الأعلى درجة النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلّى اللّه عليه وسلّم وأسفلها الدرك الأسفل : درك أولئك المنافقين والمشركين والكافرين ، ولا غرابة فاللّه بصير بما يعملون.
وكيف تظنون بنبيكم المصطفى هذه الظنون ؟
ولقد منّ اللّه وتفضل به على الناس أجمع إذ أرسله رسولا ورحمة للعالمين ومنّ عليكم أنتم إذ أرسله من أنفسكم وجنسكم فهو عربي من ولد إسماعيل ، وإذا كان كذلك كنتم أدرى الناس به وبخلقه وصدقه وطبعه ولسانه ، وعلى هذا كنتم السابقين إلى الإسلام
___________
(1) سورة السجدة آية 18.(1/303)
ج 1 ، ص : 304
والتصديق به صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا هو وجه المنة عليهم ، وفي قراءة : من أنفسهم ، أى : من أشرفهم.
وهو يتلوا عليكم آياته الدالة على قدرته ووحدانيته وعلمه وكمال نعمته إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران آية 190].
وهو يزكيكم ويطهركم من كل دنس ورجس ، فقد أخرج من العرب الجاهليين أمة لها نظام وحكم وسياسة وإدارة حكمت أقوى الأمم من الفرس والروم.
ويعلمكم الكتاب والقرآن والكتابة والحكمة ، حتى كان منكم الكتاب والعلماء والحكماء والقادة في جميع العلوم والمعارف وقد كانوا من قبل بعثته لفي ضلال مبين.
بعض قبائح المنافقين وأعمالهم [سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)(1/304)
ج 1 ، ص : 305
المفردات :
مُصِيبَةٌ : ما أصابهم يوم أحد من الهزيمة وقتل سبعين من المسلمين. أَنَّى هذا أى : من أين لنا هذا ؟ وهو تركيب يفيد التعجب الْجَمْعانِ : جمع المسلمين وجمع المشركين. فَادْرَؤُا : فادفعوا عن أنفسكم ...
لما حكى اللّه قولهم واتهامهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المعصوم من كل عيب وخطأ أردف هذا ببيان خطئهم فيما قالوا وفعلوا يوم أحد!
المعنى :
يقول - سبحانه وتعالى - منكرا لقولهم هذا رادّا لفعلهم وأنه لا يليق : أفعلتم ما فعلتم وفشلتم وتنازعتم وعصيتم أمر رسولكم ، ولما أصابتكم مصيبة في أحد قد أصابهم ضعفاها يوم بدر - وذلك أنهم قتل منهم في أحد سبعون ، وقد قتلوا يوم بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين - قلتم أيها المنافقون حين هزمتم في أحد : من أين لنا هذا ؟ !! تعجبا ، أى : من أين جاءت لنا هذه المصائب كأنهم فهموا أن النصر دائما في جانب المسلمين مهما خالفوا وعصوا أوامر الدين.
وللأسف توجد فئة من المسلمين يفهمون مثل هذا الفهم ويعتقدون أن اللّه ناصر المسلمين وإن خالفوه وعصوا رسوله فاللّه - سبحانه - ينكر عليهم تعجبهم قائلا : إن كنتم هزمتم في أحد فقد هزمتم المشركين في بدر على أن هزيمتكم في أحد أنتم سببها قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ واعلموا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلم يكن هناك شيء خارج عن قدرته ولكنه - سبحانه - لحكم هو يعلمها - وقد صرح القرآن ببعضها - أراد لكم هذا المصير في غزوة أحد ، وما أصابكم يوم التقى الجمعان في أحد ، فبإذن اللّه وإرادته وتقديره لأن كل شيء في الوجود خاضع لإرادته وحكمته.
وقد حصل هذا ، ليعلم اللّه المؤمنين ، ويتميزوا عن غيرهم فيعرفوا أنفسهم ، والمراد : تحقيق إيمان الذين آمنوا وظهوره في الخارج.
وكذا يتحقق نفاق الذين نافقوا منكم فقد كانوا حينما خرجوا من المدينة إلى أحد ألف مقاتل ثم رجع عبد اللّه بن أبىّ ومن معه من المنافقين في الطريق وكانوا ثلاثمائة(1/305)
ج 1 ، ص : 306
رجل ، فبهذا عرفوا وعرف حقيقتهم في الإيمان ولا تنس من ترك مكانه من الرماة وخالف الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ولو لا غزوة أحد ما ظهر هذا كله.
إن هؤلاء الذين نافقوا قيل لهم : تعالوا قاتلوا في سبيل اللّه وجاهدوا للدفاع عن الدين والحق والعدل ابتغاء مرضاة اللّه لا ابتغاء مكسب أو عرض دنيوى ، أو : تعالوا قاتلوا على أنه دفاع عن النفس والأهل والوطن فإن هزيمة المسلمين هزيمة لسكان المدينة وضياع لكرامتها ، فما كان من هؤلاء المنافقين إلا أنهم زاغوا وقعدوا وتكاسلوا قائلين : لو نعلم أنكم تلقون قتالا في غزوتكم هذه لاتبعناكم وسرنا معكم ولكننا نعلم أنكم لا تقاتلون.
وقيل في معنى كلامهم : لو نعلم أنكم ذاهبون لقتال لذهبنا معكم ولكنكم ذاهبون لهلاك محقق فنحن لا نذهب معكم هؤلاء الناس يوم أن قالوا هذه المقالة وتخلفوا عن جيش المسلمين هم يومئذ للكفر أقرب منهم للإيمان ، فقد ظهرت حقيقتهم ، فبعد أن كانوا مستورين يطلق عليهم لفظ الإيمان أصبحوا لا ينطبق عليهم الوصف وصاروا أقرب إلى الكفر فإن من يقعد عن الجهاد في سبيل اللّه والدفاع عن الأوطان لا يصح أن ينطبق عليه وصف المؤمنين : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحجرات آية 15].
هؤلاء يقولون : نحن مؤمنون - بأفواههم فقط - وهذا ديدن المنافقين يقولون ما ليس في قلوبهم ، وهل يخلو نفاق من كذب وبهتان ؟ واللّه أعلم بما يكتمون من الكفر والعداوة للمسلمين وتمنى هزيمتهم وزوالهم.
هذه مقالتهم عن القتال لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ ولهم مقالة أخرى بعد الموقعة أشد خطرا وضررا.
إنهم قالوا لأجل إخوانهم ومن على شاكلتهم في الجنس والدين والجوار وقعدوا عن القتال وتخلفوا عن شرف الجهاد ، قالوا في شأن إخوانهم : لو أطاعونا ولم يسيروا مع المسلمين ما قتلوا كأنهم حصروا أسباب الموت والهلاك في ذهابهم إلى ساحة القتال! تبّا لهؤلاء الجبناء الرعاديد!! ألم يعلموا أن كثيرا ممن يذهب إلى القتال ينجو ومن يتخلف يموت وهل سبب الموت القتال فقط ؟ !(1/306)
ج 1 ، ص : 307
إن كانوا صادقين في هذا الزعم الفاسد فليدفعوا عن أنفسهم الموت وهم أينما يكونوا يدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة ؟ !
المستشهدون والمجاهدون في سبيل اللّه وجزاؤهم [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
المفردات :
يَسْتَبْشِرُونَ الاستبشار : السرور الحاصل بالبشارة. لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ(1/307)
ج 1 ، ص : 308
خَلْفِهِمْ
المراد بهم : المقاتلون في سبيل اللّه ولم يستشهدوا. الْقَرْحُ : الألم الشديد ، والمراد به : ما حصل يوم أحد. أَحْسَنُوا الإحسان : إتقان العمل على أكمل وجه. وَاتَّقَوْا أى : أخذوا الوقاية من عذاب اللّه وخافوا الإساءة والتقصير في العمل. حَسْبُنَا اللَّهُ : كافينا. الْوَكِيلُ : الذي توكل إليه الأمور.
فَانْقَلَبُوا : فرجعوا بسرعة. الشَّيْطانُ هل هو إبليس ؟ أو هو نعيم بن مسعود ؟
سبب النزول :
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن منقلبهم ، قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه لنا ؟ » فقال اللّه تعالى : « أنا أبلغهم عنكم » فنزلت هذه الآية.
والآيات مرتبطة بما قبلها إذ بعد أن ذكر اللّه مقالة المنافقين في القتال وقولهم لإخوانهم : لو قعدتم معنا ما قتلتم. أردف هذا بما يلاقيه المقاتلون في سبيل اللّه خاصة المستشهدين حتى لا يلقوا بالا لأقوال المنافقين وليكون ذلك حثّا للمؤمنين على الجهاد وتربية لهم على نصرة الإسلام وإعلاء كلمة اللّه.
المعنى :
ولا تحسبن أن الذين جاهدوا في سبيل اللّه وقاتلوا وقتلوا أمواتا لا يبعثون ولا يجازون على ما قدموا ، لا : بل هم أحياء بعد استشهادهم مكرمون عند ربهم مختصون بتلك المكانة العليا التي استأثروا بها (فالعندية هنا) عندية مكانة وتشريف لا عندية مكان وحدود. هم أحياء عند ربهم حياة مؤكدة ثابتة بدليل قوله : يُرْزَقُونَ والحياة التي عناها القرآن وأكدها حياة غيبية اللّه أعلم بها ، وليس من الخير البحث في أنها حياة مادية أو روحية بل نؤمن بما جاء به القرآن تاركين التفصيل والجدل فيما لا يجدي.(1/308)
ج 1 ، ص : 309
هؤلاء الشهداء فرحون ومغتبطون بما رأوه من نعيم مقيم وفضل كبير وإكرام جليل من اللّه لهم ، وهم مسرورون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يحظوا بعد بشرف الاستشهاد حينما رأوا ما أعد من الجزاء الأوفى لهم ، وهو حياة أبدية ونعيم دائم لا يكدره خوف من وقوع مكروه ولا حزن على فوات محبوب.
وهم يستبشرون ويفرحون بما يتجدد لهم من نعمة الحياة عند ربهم ورزقه لهم ويفرحون بما آتاهم اللّه من فضله.
الخلاصة : أن اللّه - سبحانه وتعالى - ذكر الشهداء وأنهم أحياء عنده يرزقون ، وأنهم فرحون بما حباهم اللّه من فضل وكرامة ، وهذا الفضل مجمل ، تفصيله ما بعده ، أى : فضل يعود على إخوانهم في الحرب وفضل يعود عليهم أنفسهم وهو الخاص بهم في دار الكرامة وقد كرر للتأكيد ، وفرحون بمن يجاهد في سبيل اللّه ولم يستشهد بعد ، وهم من خلّفوهم في الحرب هؤلاء المجاهدون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ليذهب الخيال في تصورهما كل مذهب ثم ختم الآية بالكلام على إخوانهم في الجهاد ، بقوله : وأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين ، فالمراد بهم : المجاهدون الذين لم يستشهدوا بعد ، وقد وصفهم بقوله :
الذين استجابوا للّه وللرسول من بعد ما أصابهم من الجراح والألم الشديد في غزوة أحد ولبوا نداء الرسول حينما طلبهم للقاء أبى سفيان في غزوة حمراء الأسد « 1 » الذين أحسنوا منهم العمل وأتقنوه واتقوا عاقبة تقصيرهم في العمل ، وخافوا اللّه زيادة على ما هم عليه من الألم ، أجر عظيم يتناسب مع عملهم وجهودهم ، الذين قال لهم الناس - وهم نعيم بن مسعود كما ورد في بعض الروايات - : إن الناس - وهم قريش - قد
___________
(1) غزوة حمراء الأسد : وهي متصلة بأحد ،
روى أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فبلغوا الروحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا على تركهم بقايا المسلمين ، وهموا بالرجوع ليستأصلوا ما بقي من المؤمنين بعد أحد فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فندب أصحابه للخروج في أثر أبى سفيان وقال : لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس (القتال في أحد) فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في جماعة من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد - موضع على ثمانية أميال من المدينة - (و كان بأصحابه القرح والألم) فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر ، وألقى اللّه الرعب في قلوب المشركين فذهبوا إلى مكة مسرعين ، فنزلت الآية
.(1/309)
ج 1 ، ص : 310
جمعوا لكم جموعهم فاخشوهم ولا تخرجوا إليهم ، وكان ذلك في غزوة بدر الصغرى (بدر الموعد) فَزادَهُمْ إِيماناً أى : فزادهم قول الناس لهم إيمانا وثقة به ويقينا في دينه ، من حيث خافوه ولم يخافوا الناس واعتمدوا على نصره وعونه وإن قل عددهم فإنه هو العزيز القوى وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً [سورة الأحزاب آية 22].
وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ : كافينا اللّه ونعم الوكيل ، فهو على كل شيء قدير ونعم المولى ونعم النصير. وفي الحديث : « إذا وقفتم في الأمر العظيم فقولوا :
حسبنا اللّه ونعم الوكيل »
وفي رواية : للبخاري عن ابن عباس : قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار ، وقالها محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم.
لما فوضوا أمورهم إليه ، واعتمدوا بقلوبهم عليه أعطاهم من الجزاء أربعة : النعمة ، والفضل ، وصرف السوء ، واتباع الرضا ، فرضّاهم عنه ورضى عنهم وذلك هو الفوز العظيم ، وفي هذا إشارة إلى الخسارة الفادحة التي لحقت بالقاعدين المتخلفين المنافقين وذلك معنى قوله تعالى : فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ (الآية).
إنما ذلك الشيطان - وهو نعيم بن مسعود - المثبط للمسلمين يخوف أولياءه الذين قعدوا عن رسول اللّه ، وقيل : المعنى إنما ذلك قول إبليس الملعون يخوفكم أولياءه من صناديد الكفار كأبى سفيان ، فلا تخافوهم وخافوني فاتبعوا أمرى وجاهدوا مع رسولي ، سارعوا إلى ما يأمركم به إن كنتم مؤمنين حقا.
ما يؤخذ من الآية :
1 - أن المؤمن القوى لا يكون جبانا ، بل الجبن لا يجتمع مع الإسلام الكامل.
2 - مكانة الاستشهاد في سبيل اللّه وجزاؤه عند اللّه.
3 - أن الخوف يجب أن يكون من اللّه فقط لا من الأعداء مهما كانوا.
4 - على المؤمن أن يعالج أسباب الخوف فلا يسترسل فيها حتى على تلك العادة الرذيلة.(1/310)
ج 1 ، ص : 311
تسلية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبيان بعض الحكم [سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 179]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
المفردات :
وَلا يَحْزُنْكَ حزن يحزن ، وأحزن يحزن : بمعنى يكدرك ويؤلمك.
حَظًّا : نصيبا. اشْتَرَوُا الْكُفْرَ : أخذوا الكفر بدلا من الإيمان بفعل المشترى يعطى شيئا ويأخذ بدله. نُمْلِي : نمهل ، والإملاء : الإمهال والتملية بين الإنسان وشأنه يفعل ما يشاء ، مأخوذ هذا من قولهم : أملى لفرسه : إذا أرخى لها الحبل لترعى ما تشاء .. لِيَذَرَ : ليترك. يَمِيزَ أى : من مازه بمعنى ميّزه. الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ المراد بهما : المؤمن والمنافق. يَجْتَبِي : يختار.
لما أظهر الكافرون والمنافقون ما كانوا يضمرونه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم من أمثال قولهم : لو كان(1/311)
ج 1 ، ص : 312
محمد نبيا ما قتل ولا هزم وأسرعوا في نصرة الكفار وتثبيط المؤمنين عن القتال ، كل هذا كان يؤلم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويحزنه ، فنزلت هذه الآيات تسلية وتثبيتا لقلبه.
المعنى :
ولا يحزنك يا محمد الذين يسارعون في نصرة الكفر والسعى في إعلاء كلمته ويبذلون المال والرجال في خدمته كأبى سفيان وغيره من صناديد الكفار واليهود والمنافقين.
ولا يحزنك هؤلاء لأنهم يحاربونك فيضرونك إنما يحاربون اللّه القوى القدير ، فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم والعاقبة عليهم. وقيل : المعنى إنهم لن يضروا حزب اللّه من المؤمنين لأن اللّه ناصرهم فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم ، وقد بين اللّه ذلك بقوله :
يريد اللّه ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة من الثواب لأن طبيعتهم قد فسدت ، وميلهم دائما إلى الشر والضرر ، وهكذا سنة اللّه وإرادته مع أمثالهم ، ولهم عذاب في الدنيا والآخرة سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ « 1 » عذابا عظيما هائلا يستحقونه لمساعدتهم في نصرة الكفر وتأييده ، وهل هذا الجزاء للمسارعين في نصرة الكفر فقط ؟ لا. بل كل من اختار الكفر وآثره على الإيمان ظنا منه أنه ربح في هذا الاستبدال لن يضر اللّه شيئا من الضرر ، بل الضرر عليهم ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ولهم عذاب أليم مؤلم للغاية في الدنيا والآخرة.
وإذا كان هذا حال الكفار فكيف ترى أن اللّه يمد لهم في الدنيا ويملى لهم في أعمالهم ؟
ولذا أجاب اللّه بقوله : (و لا يحسبن الذين كفروا) أن إملاءنا لهم خير فإن الإملاء يكون خيرا إذا كان صاحبه يستغله في عمل الخير له ، وهؤلاء يملى لهم اللّه فتكون عاقبتهم أنهم يزدادون إثما على إثم ويبالغون في الباطل والبهتان ، فلهم عذاب مهين ، وإنما نملي لهم ليتوبوا ، ويقلعوا عما هم فيه فيكون الإملاء خيرا ، ولكن جرى في علم اللّه أن بعضهم لن يعود إلى الخير ويؤوب إلى الرشد فهؤلاء لهم عذاب مهين ، وأى إهانة أشد من هذا ؟ ؟
وما كان اللّه ليترك المؤمنين على حالهم فلا يميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب ، فإن هذا يضر جماعة المسلمين ، فإنه لا بد للجماعة من أن تعرف قوتها الحقيقية فتسير
___________
(1) سورة التوبة آية 101.(1/312)
ج 1 ، ص : 313
عليها ، ولا تغتر ، على أن الفرد قد يغتر بنفسه ، فإذا ما امتحن عرف إيمان نفسه ، وما سبيل التمييز بين هذا وذاك إلا بالاختبار بالشدائد والامتحان بالمصائب وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [سورة محمد آية 31] وقد اختبر اللّه الناس بغزوة أحد كما مضى ، وما كان اللّه ليعلمكم حقيقة أنفسكم بطريق الغيب ، فإنه خلق الإنسان وقدر له أن يصل إلى ما يريد بالعمل الكسبي الذي ترشده له الفطرة وهدى الدين.
ولذلك جرت سنة اللّه أن يميز بالابتلاء سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [سورة الأحزاب 62] ولكن اللّه يختار من يشاء من رسله لأن مرتبة الاطلاع على الغيب مرتبة عليا عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [سورة الجن آية 26 و27] فالرسول يطلعه اللّه على بعض الغيب فيخبر ببعضه عباده فيكون منهم الذين يؤمنون بالغيب ، ولذا ختم الآية بقوله : فآمنوا باللّه وما يخبر به رسوله. وإن تؤمنوا بذلك وتتقوا اللّه فلكم أجر عظيم وثواب جزيل. وفقنا اللّه لأن نكون من هؤلاء.
البخل شر يوم القيامة [سورة آل عمران (3) : الآيات 180 الى 184]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)(1/313)
ج 1 ، ص : 314
المفردات :
سَيُطَوَّقُونَ : إما من الطاقة ، فالمعنى : سيكلفون ذلك يوم القيامة.
وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ « 1 » أو : من الطوق ، فالمعنى سيلزمون إثمه في الآخرة كما يلزم الطوق الرقبة فلا يجدون عنه مصرفا. مِيراثُ : ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. سَنَكْتُبُ ما قالُوا : سنسجل ما قالوه ، والمراد : إننا سنعاقبهم عليه. ذُوقُوا : أصل الذوق : إدراك المطعومات بالفم ، ثم أريد به هنا إدراك المحسوسات مطلقا. الْحَرِيقِ : المحرق والمؤلم ، والمراد : عذاب هو المحرق والمؤلم.
عَهِدَ إِلَيْنا : أمرنا به في التوراة. القربان : ما يتقرب به إلى اللّه.
الزُّبُرِ : جمع زبور ، وهو الكتاب. الْمُنِيرِ الذي ينير الطريق ، والمراد الإنجيل.
كان ما مضى من التحريض على بذل النفس في الحرب وجزاء الاستشهاد ، وهنا علاج لمرض من أخطر الأمراض وهو البخل ، إذ حياة الأمم متوقفة على بذل النفس والمال. وإلى هنا انتهى الكلام عن غزوة أحد وما يتعلق بها.
المعنى :
ولا يظن أحد أن بخل الذين يبخلون بما حباهم اللّه من فضله خير لهم كما يتوهمون أن كنز المال ينفع في الملمات وأن الجود يفقر ، والإقدام قتّال ، لا : بل هو شر مستطير
___________
(1) سورة القلم آية 42.(1/314)
ج 1 ، ص : 315
وخطر جسيم على الأمة والفرد ، والظاهر أن المراد بالبخل البخل بالقدر من الزكاة المحددة والصدقة المطلقة إذ لم يأمرنا الدين بالإنفاق لكل ما نملك.
أما خطره في الدنيا فظاهر في الحملات الشعواء على الأغنياء الجشعين وشيوع الأفكار الهدامة للنظم الاجتماعية العامة ، وأما شره في الآخرة فما عبر القرآن الكريم بأنهم سيلزمون عاقبة بخلهم إلزام الطوق في العنق فلا يجدون عنه صرفا ولا محيلا.
وفي بعض الروايات عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في مانع الزكاة.
يطوق بشجاع أقرع ، وروى بشجاع أسود ، وقيل : يجعل ما بخل به حية يطوقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول : أنا مالك أنا كنزك.
وكيف تبخلون بالمال أو الجاه أو العلم ؟ لأن هذا كله مما آتاه اللّه ، والآية مطابقة يدخل فيها كل ذلك وإن كان دخول المال فيها دخولا أوليا ؟
وكيف تبخلون بالمال وتكنزونه للولد والوارث ؟ وللّه - سبحانه - ما في السموات والأرض مما يتوارثه أهلوها من مال وغيره فما لهم يبخلون بملكه وقد طلبه منهم ؟ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد 7] وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة 3] وفي الآية إيماء إلى أن كل ما منحه اللّه للإنسان من مال أو جاه أو قوة أو علم هو عرض زائل وعارية مستردة ، وصاحبه فان غير باق ، وللّه تصريف الأمور ، فربما جمعت المال ليرثه ابنك حتى يكون غنيا واللّه لم يقدر له ذلك فيضيع ما جمعت ، وللّه ميراث السموات والأرض واللّه بما تعملون خبير لا تخفى عليه منكم خافية.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أنزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة 245 الحديد 11] فقالوا : يا محمد ؟ أفقير ربك ؟ يسأل عباده القرض ونحن أغنياء ؟ فأنزل اللّه : لقد سمع اللّه ... الآية
، وفي رواية وقع نقاش بين أبى بكر - رضى اللّه عنه - وفنحاص اليهودي في هذا الموضوع فلطمه أبو بكر فشكا إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فقال لأبى بكر : لم فعلت ؟
قال : يا رسول اللّه ، إن عدو اللّه قال : إن اللّه فقير ونحن أغنياء فأنكر فنحاص ذلك فنزلت الآية
تأييدا لكلام أبى بكر وتسجيلا على فنحاص ، والمعنى : سنحفظ عليهم مقالتهم ونحصيها عليهم فيعاقبون على ما قالوا أشد العقوبة.
ولا غرابة في ذلك فهم اليهود الذين مرنوا على النفاق ومردوا على السوءات فهم الذين قتلوا الأنبياء قديما بغير حق ولا ذنب إلا أنهم يقولون : ربنا اللّه ، ونسبة القتل(1/315)
ج 1 ، ص : 316
لليهود الأحياء مع أنهم لم يباشروه لأنهم راضون عنهم وهم سلفهم ومن أمتهم ، والأمة تؤخذ بذنب أفرادها لأنهم بين فاعل القبح وتارك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيكون مشتركا بالقوة لا بالفعل.
وهؤلاء اليهود حاولوا مرارا قتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم (و ما حادثة أكلة خيبر ببعيدة).
وجزاء هؤلاء أن اللّه سينتقم منهم أشد الانتقام ويقول لهم إهانة وتنكيلا بهم وتعذيبا :
ذوقوا عذابا هو الحريق المؤلم فإنكم أهل له كما أذقتم المؤمنين سابقا عذاب الدنيا وألمها.
هذا العذاب الأليم لهم بما قدمته أيديهم وجنته جوارحهم ، وذكر الأيدى للتغليب وللتأكيد بأنهم فعلوا ما فعلوا بأنفسهم.
ولأن اللّه هو الحكم العدل وليس بذي ظلم للعبيد أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
« 1 » ! أفنجعل المسلمين كالمجرمين ؟ ما لكم كيف تحكمون!! ؟ فما ترك عقاب المسيء مساواة بينه وبين المحسن ، ولا شك أن هذا وضع للشيء في غير موضعه ، سبحانه وتعالى عما يشركون!! هؤلاء اليهود لهم السوءات الكبيرة فهم البخلاء بالمال ، المانعون للزكاة ، القاتلون للأنبياء ، الظالمون في كل عمل ، القائلون كذبا : إن اللّه عهد إلينا ألّا نؤمن برسول أيا كان حتى يأتينا بقربان نتقرب به إلى اللّه فتأكله النار ، وكانوا يفترون على اللّه الكذب ويذيعون أن اللّه أوحى إليهم في التوراة هذه المقالة.
فرد اللّه عليهم أن هذه معجزة ، والمعجزة سيقت لتأكيد الرسالة وإثبات صدق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المبعوث ، وقد أرسلت لكم المعجزات وأتتكم الرسل بالبينات الواضحات الدالات على صدقهم فلم كذبتموهم ولم تصدقوهم ؟ ولم قتلتموهم إن كنتم صادقين ؟
فإن كذبوك يا محمد بعد هذا كله فقد كذبت رسل قبلك كثيرة جاءوا بالبينات المعجزات وأيدوا بالكتب خاصة الكتاب المنير وهو الإنجيل ، وهذه تسلية للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم.
___________
(1) سورة الجاثية آية 21.(1/316)
ج 1 ، ص : 317
نهاية كل حي والابتلاء في الدنيا [سورة آل عمران (3) : الآيات 185 الى 186]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
المفردات :
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ : تعطونها وافية غير منقوصة. زُحْزِحَ : نحّى عنها وأبعد. مَتاعُ : ما يتمتع وينتفع به. الْغُرُورِ : مصدر غره ، أى : خدعه.
لَتُبْلَوُنَّ البلاء : الاختبار ، والمراد : لتعاملن معاملة المختبرين حتى تظهر حالكم على حقيقتها. أَذىً كَثِيراً كالطعن في الدين والكذب على اللّه ورسوله.
والصبر : حبس النفس على ما تكره ، ومقاومة الجزع بالتقوى والرضا. مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ : من معزومات الأمور ، أى : مما يجب العزم عليه من الأمور ، أو مما عزمه اللّه أن يكون بمعنى مما حتم أن يكون.
المعنى :
ما مضى كان في تسلية الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ببيان حال الناس مع الأنبياء قديما وحديثا ..
وهنا تسلية عامة للنبي وأصحابه.(1/317)
ج 1 ، ص : 318
كل حي إلى ممات وكل نفس إلى فوات ، وكل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ، وكلكم تموتون ، فمن كان منكم مسيئا كالكفار فإساءته محدودة موقوته فلا تضجروا منها ولا تألموا فسيجازون عليها الجزاء الأوفى.
وأنتم لا تيأسوا ولا تحزنوا من ضر أصابكم أو ألم حاق بكم فكل نفس ذائقة الموت ، وإنما تأخذون حقكم وجزاءكم وافيا كاملا غير منقوص يوم القيامة ، يوم الجزاء والوفاء ، يوم القسطاس والميزان ، يوم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
فمن نحّى عن النار وأبعد عنها وأدخل الجنة فقد فاز فوزا عظيما ، وهذا التعبير فيه إشارة إلى أن أعمال الناس في مجموعها تدعو أصحابها إلى النار لأن الإنسان فيه معاني الحيوانية والشهوة أكثر بكثير من معاني الخير ، فكأن كل شخص مشرف عليها ، وأن مجرد الزحزحة عنها فوز وأى فوز ؟ ! فالمزحزحون عن النار : من غلبت صفاتهم الروحانية على صفاتهم الحيوانية فأخلصوا أو اتجهوا للّه - سبحانه وتعالى - .
وما الحياة الدنيا - والمراد منها حياتنا هذه ومعيشتنا الحاضرة التي نشغلها باللذات الجسمانية كالأكل والشرب أو المعنوية كالجاه والمنصب والسيادة - هذه الحياة متاع الغرور لأن صاحبها دائما مغرور بها مخدوع.
شبه الدنيا بصفقة خاسرة اشتراها صاحبها من النفس والشيطان والهوى وقد غشه فيها البائع وغره ودلس عليه ، فلما انتهى الأمر تبين فسادها ورداءتها.
فالواجب على العاقل ألا يغتر بها وألا يسرف في حبها ويترامى في أحضان مظاهرها وإلا أصابه شررها ، والويل له عند فراقها.
وبعد هذا سلّى اللّه نبيه المصطفى بتسلية عامة في الحرب والسلم : وهي كما لقى من الكفار يوم أحد ما لقى!! سيلقى أذى كثيرا في النفس والمال.
والمقصود من هذا توطين النفس وتربيتها على تحمل الأذى والشدائد.
والابتلاء من اللّه في الأموال يكون بطلب البذل في جميع وجوه الخير والبر وفيما يعرض من الحوائج والآفات ، والابتلاء في النفس يكون بطلب الدفاع والجهاد في سبيل اللّه والقتل في الحرب والموت العادي في الأهل والأولاد.(1/318)
ج 1 ، ص : 319
لتسمعن أيها المسلمون من المشركين واليهود والنصارى أذى كثيرا وطعنا في الدين والقرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
ولكن العلاج الوحيد والدواء الرباني لكل ما مضى هو الصبر والتقوى ونعم هذا الدواء لكل داء.
إن تصبروا وتتقوا يؤتكم أجرين من رحمته وذلك هو الفوز العظيم.
بعض قبائح أهل الكتاب [سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 189]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189)
المفردات :
مِيثاقَ : هو العهد المؤكد الذي أخذ على أهل الكتاب بوساطة الأنبياء.
لَتُبَيِّنُنَّهُ : لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار حتى يعرفه الناس على وجهه الصحيح. فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ : هذه العبارة مثل في ترك الأمر ، ويقتضيها وضع الأمر نصب أعينهم. أَتَوْا : فعلوا. بِمَفازَةٍ : فوز من العذاب.
المناسبة :
إيذاء أهل الكتاب للنبي كثير ، والعجيب أن يطعنوا في الدين وهم قد أمروا بأن(1/319)
ج 1 ، ص : 320
يشرحوا للناس ويبينوا حقيقة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته التي في كتبهم ، ولكنهم - اليهود والنصارى - فرحوا بما أوتوا وكتموا ما أنزل عليهم.
المعنى :
واذكر يا محمد وقت أن أخذ اللّه العهد المؤكد بوساطة الأنبياء على أهل الكتاب ، وأقسم عليهم ليبينن الكتاب للناس ويظهرونه ولا يحرفونه عن موضعه حتى يفهمه الناس ولا يضطربون فيه.
وقد نبذ أهل الكتاب التوراة والإنجيل وراءهم ظهريا.
فكان منهم أمة يحملون الكتاب كما يحمل الحمار الأسفار فلا يعرفون منه شيئا ، ومنهم الذين يحرفون الكلم عن موضعه ويغيرون ويبدلون ويشترون به ثمنا قليلا ، ومنهم الذين لا يعلمون منه إلا أمانى يتمنونها ومشتهيات يشتهونها.
واشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا الفانية كالرياسة الكاذبة والمال الزائل ، فكانوا مغبونين في هذا البيع والشراء الذي فيه العرض الفاني بدل النعيم الباقي فبئس ما يشترون.
روى الشيخان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سأل اليهود عن شيء في كتبهم فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا ، فأطلع اللّه رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيده لهم
، وروى الشيخان من حديث أبى سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت هذه الآية
وهي تحتمل المعنيين ... والقرآن الكريم بين فيها حالا أخرى لأهل الكتاب حتى لا نكون مثلهم وهي أنهم كانوا يفرحون بما أوتوا من التأويل والتحريف للكتاب ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم قادة وأئمة يهتدى بهم ، وهذا فرح باطل وغرور كاذب ، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب وعلماؤه وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك وإنما فعلوا نقيضه ، وهؤلاء قد اشتبه أمرهم على الناس فهم يحسبون أنهم أولياء اللّه وأنصار دينه ، وهم الذين حرفوه وغيروه فلا تحسبنهم بمفازة ومنجاة من العذاب بل لهم عذاب أليم غاية الألم في الدنيا والآخرة.(1/320)
ج 1 ، ص : 321
فيا أيها المسلمون : إياكم وهذا العمل الشنيع الذي يقوم به أهل الكتاب ، ولا تحزنوا ولا تضعفوا واصبروا واتقوا اللّه ، وبينوا الكتاب ولا تشتروا به ثمنا قليلا وعرضا زائلا ولا تفرحوا بما تفعلون ، ولا تحبوا أن تحمدوا بما لم تفعلوا فإن اللّه - تعالى - يكفيكم ما أهمّكم وينصركم على أعدائكم ، ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها ، فللّه ملك السموات والأرض وما فيهن يعطى ويمنع وهو على كل شيء قدير لا يعز عليه نصركم وهلاك من يؤذيكم من أهل الكتاب والمشركين ، وإلى اللّه ترجع الأمور.
وفي هذا تسلية ووعد بالنصر للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه.
ما تشير إليه الآية :
إن الواجب على العلماء وعلى كل من يفهم كتاب اللّه أن يبينه ويوضحه ويظهر ما فيه من عظة وأسرار في الأحكام العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والأحكام الدينية وعلاقتها بصالح الأمة - وها نحن نأمل أن يوقظ اللّه العلماء فيثابروا ويتعاونوا ويستهينوا بالصعاب حتى يخرجوا للناس كنوز الدين بما يلائم المجتمع الحاضر. فإن الواجب ينحصر في شيئين :
(أ) تبيين الدين وحقيقته لغير المؤمنين حتى يهتدوا به ويدخلوا فيه.
(ب) تبينه للمسلمين حتى يهتدوا به ويفهموه على حقيقته ويعرفوا مخلصين أنه الطريق الوحيد للخلاص من كل ما يضرنا ويؤذينا من خلق فاسد وداء كامن ومستعمر جاثم ، فو اللّه! أيها الناس : لا خلاص لنا إلا بالدين ولا خير إلا في القرآن ، فتعلموه وافهموه وادرسوه تكونوا من الناجين في الآخرة.
وقد روى عن على - كرم اللّه وجهه - أنه قال : ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا
.(1/321)
ج 1 ، ص : 322
ذكر اللّه والتفكر في خلقه وأثرهما [سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 195]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)(1/322)
ج 1 ، ص : 323
المفردات :
خَلْقِ الخلق : التقدير والترتيب الدال على النظام والإحكام. السَّماواتِ السماء : ما علاك. وَالْأَرْضِ : ما نعيش عليها. لَآياتٍ : لأدلة على وجود اللّه وقدرته ووحدانيته وعلمه. الْأَلْبابِ : العقول. باطِلًا : عبثا لا نتيجة له. سُبْحانَكَ : تنزيها للّه عما لا يليق به. الذَّنْبِ : هو الكبيرة ، وقيل :
ما كان بينك وبين ربك. السيئة : هي الصغيرة ، وقيل : ما كان بينك وبين الخلق.
المناسبة :
قال الإمام الرازي : اعلم أن المقصود من الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق ، فلما طال الكلام في تقرير الكلام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والألوهية والكبرياء ، والجلال للّه - سبحانه وتعالى - فذكر هذه الآية.
المعنى :
ما هذا الكون البديع الصنع ؟ وما هذا العالم المحكم الترتيب ، وما هذه السماء وأعاجيبها ، وما بال نجومها وأفلاكها ، وما هذه الشمس وضحاها ، والقمر إذا تلاها ، والنهار إذا جلاها ، والليل إذا يغشاها ، والسماء وما بناها ؟ ! وما هذه الأرض وما طحاها ، أخرج منها ماءها ومرعاها ، وأنبت فيها كل نبت وأرساها ، وشق فيها أنهارها وحلاها ، وما هذا الليل والنهار ، وهذا الفلك الدوار ، ليل يزحف بجحافله ، ونهار يختفى بمعالمه ، ثم لا يلبث أن تعاد الكرة بنظام ومسرة ، أليس يدل هذا على الخبير البصير ؟ المحكم التدبير ، الواحد القدير ؟ إن في ذلك لآيات لأولى الأبصار!!
عن عائشة - رضى اللّه عنها - أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : هل لك يا عائشة أن تأذنى لي الليلة في عبادة ربي ؟ فقلت : يا رسول اللّه إنى لأحب قربك وأحب هواك (ما تهوى(1/323)
ج 1 ، ص : 324
وتريد) وقد أذنت لك ، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلى فقرأ من القرآن ، وجعل يبكى حتى بلت الدموع حقويه ، ثم جلس فحمد اللّه وأثنى عليه ، وجعل يبكى ، ثم رفع يديه فجعل يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض ، فأتاه بلال ليؤذن بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له : يا رسول اللّه : أتبكي وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ! ثم قال : وما لي لا أبكى ؟ وقد أنزل اللّه علىّ في هذه الليلة : إن في خلق السموات والأرض. ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.
وأولوا العقول والأرواح الطيبة هم الذين ينظرون إلى السماء والأرض وما فيهما فيذكرون اللّه ويذكرون نعمه وفضله على العالم في كل حال من قيام وقعود واجتماع ذكر بالقلب حتى يطمئن أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعد آية 28] ثم يتبعون ذكر اللّه بالتفكير في بديع صنعه وأسرار خلقه وما في هذه العوالم من منافع وحكم وأسرار تدل على كمال العلم وتمام القدرة والوحدانية التامة في الذات والصفات والأفعال.
والمراد التفكر في خلق اللّه لا في ذات ، اللّه ، فقد ورد « تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق » ومع التفكر اذكروا اللّه ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا ، وما حال هؤلاء الذين يجمعون بين التذكر والتفكير ؟ يقولون باللسان وقلبهم بين الخوف والرجاء : ربنا ما خلقت هذا الكون باطلا وما خلقت هذا الخلق عبثا أو كمّا مهملا! بل لا بد لهذا الخلق من نهاية يأخذ المطيع والعاصي جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وإذا كان كذلك فقنا يا ربنا واصرف عنا عذاب النار بعنايتك وتوفيقك لنا. واجعلنا مع الأبرار بهدايتك ورحمتك يا أرحم الراحمين ، ثم إنهم بعد أن يصلوا بالفكر والذكر إلى حقيقة هذا العالم ومآله وقد دعوا ربهم أن يقيهم عذاب جهنم في الحياة الثانية يقولون متضرعين : ربنا إنك من تدخله النار فقد أهنته وأخزيته لأن من يعصيك فأنت قاهره ومذلّه ، وكيف لا وقد سخرت هذا العالم وأخضعته لكمال قدرتك وعظيم إرادتك ، فمن عاداك فلا ملجأ منك إلا إليك ، وليس له شفيع أو نصير ، وما للظالمين من أنصار!! وقد وصف من يدخل النار بأنه يستحق هذا لظلمه وتجاوزه الحد المعقول ، هذا ما نتجه الفكر والنظر الصحيح في الكون وما فيه.
وأما السمع فحينما سمعوا نداء الرسل الكرام قالوا : ربنا إننا سمعنا رسولا ينادى(1/324)
ج 1 ، ص : 325
للإيمان : أن آمنوا بربكم وصدقوا برسالتي ، فلم يتلكئوا ولم يبطئوا بل أسرعوا فآمنوا بالمنادي ورسالته وكتابه المنزل عليه ، ومن آثار الإيمان القلبي المبنى على اليقين الكامل أن قالوا : ربنا فاغفر لنا ذنوبنا التي ارتكبناها من مخالفة أمرك وهكذا حينما يمتلئ القلب من الإيمان الصحيح يشعر صاحبه بالخوف من ذنوبه وهفواته ، فيطلب من اللّه المغفرة والستر (حسنات الأبرار سيئات المقربين) وقيل : المراد بالذنوب : الكبائر ، والسيئات : الصغائر ، وقال بعضهم : الذنوب : التقصير في عبادة اللّه ، والسيئات :
التقصير في حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم لبعض ، ربنا وأمتنا مع الأبرار الأطهار من عبادك المخلصين ، ربنا وأعطنا ما وعدتنا (و أنت الصادق الوعد) من حسن الجزاء والنصر في الدنيا والنعيم السابغ في الآخرة جزاء على تصديق رسلك واتباعهم ، ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة يوم تكشف السرائر وتهتك الحجب والستائر.
إنك يا رب لا تخلف الميعاد وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ « 1 » .
فاستجاب لهم ربهم بأن أعطى كل عامل جزاء عمله كاملا غير منقوص سواء كان ذكرا أو أنثى. لا فرق عنده ، بل العدل يقتضى المساواة التامة في الجزاء ، وقد أشير إلى أن هذا الجزاء إنما هو باعتبار العمل لا باعتبار شيء آخر :
« يا فاطمة لا أغنى عنك من اللّه شيئا » « 2 » حديث شريف.
وإنه لا فرق بين الذكر والأنثى بعضكم من بعض ، فالرجل مولود من الأنثى والأنثى مولودة من الرجل ، إذ كلهم لآدم وآدم من تراب.
وقد أتبع هذا الحكم ببيان سببه ، فلا غرابة في هذا فالذين هاجروا من ديارهم وتركوا أموالهم وأولادهم وديارهم إرضاء للّه ورسوله ، أو أخرجوا منها عنوة وأوذوا في سبيلي وابتغاء مرضاتي وقاتلوا وقتلوا. لأكفرن عن هؤلاء جميعا سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أثابهم اللّه ثوابا من عنده وذلك هو الفوز العظيم. واللّه عنده حسن الثواب ، وحيث ربط القرآن الكريم هذا الجزاء العظيم بالهجرة والقتال والإيذاء في سبيل اللّه يمكننا أن نؤكد ما قلناه أولا من أن السبب في الجزاء هو العمل وأنه لا فرق بين ذكر وأنثى ، وإنما الفرق بين عمل وعمل ، وإخلاص وعدمه.
___________
(1) سورة التوبة آية 72. [.....]
(2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير حديث رقم 4771.(1/325)
ج 1 ، ص : 326
الخلاصة :
أن اللّه وعد من فعل ذلك بأمور ثلاثة :
1 - محو السيئات وغفران الذنوب جوابا لقولهم : فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.
2 - هذا الثواب مقرون بالتبجيل والإجلال جوابا لطلبهم : وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ.
3 - إعطاء الثواب العظيم وهو قوله : لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهذا ما طلبوه بقولهم : وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ.
يستفاد من الآية :
(أ) أن الجزاء منوط بالعمل لا بشيء آخر.
(ب) أن الإسلام يمحو الفوارق بين الذكر والأنثى في العمل والثواب ، وهو أول دين كرم المرأة وعرف لها حقوقها ، وليس أخذها نصف الرجل في الميراث هضمها لحقها ، بل هي مكرمة عند زوجها أو أخيها ، والرجل مكلف بزوجة أخرى والولاية لحفظها وصونها وقصرها على ما هو أهم من ذلك.
المؤمنون والكافرون وجزاء كل [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)(1/326)
ج 1 ، ص : 327
المفردات :
لا يَغُرَّنَّكَ الغرة : غفلة في اليقظة ، يقال : غرّنى ظاهره ، أى : قبلته في غفلة عن امتحانه. تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا : تصرفهم في التجارة والمكاسب. مَتاعٌ المتاع : ما يتمتع به صاحبه ، ووصف بالقلة لأنه قصير الأمد زائل وكل زائل قليل.
جَهَنَّمُ : اسم للدار التي يجازى فيها الكافرون في الآخرة. الْمِهادُ : المكان الممهد الموطأ كالفراش ، والمراد به جهنم وسميت بذلك تهكما. نُزُلًا النزل : ما أعد للضيف من الزاد وغيره. الأبرار : جمع بار ، وهو : التقى المبالغ في التقوى. خاشِعِينَ الخشوع : الخضوع. اصْبِرُوا : احبسوا أنفسكم على امتثال الدين وتكاليفه وعن الجزع مما ينالكم. وَصابِرُوا : أسبقوا الكفار في الصبر على الشدائد في الحرب. وَرابِطُوا أقيموا في الثغور وحصنوها. تُفْلِحُونَ الفلاح : الفوز.
المناسبة :
قال الإمام الرازي : « اعلم أنه - تعالى - لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة ، والكفار كانوا في النعيم ذكر اللّه - تعالى - في هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدائد ، وذلك ببيان جزاء كل في الآخرة ، وأما الدنيا(1/327)
ج 1 ، ص : 328
فنعيمها فان وزائل. ولا تنس أن السورة كلها تدور حول غريزة حب المال وأثرها في القديم مع أمم الأنبياء ، ومع المؤمنين في غزوة بدر وأحد.
المعنى :
لا يغرنك ما ترى من هؤلاء الكفار وتقلبهم في الدنيا وتجارتهم ومكاسبهم فإنه متاع زائل وعرض فإن ، وكل زائل قليل ، ومثله لا يعتد به ولا ينظر إليه فإن مأواهم ونهايتهم جهنم وبئس ما مهدوا لأنفسهم وأعدوا لها بما جنته أيديهم ، فاستحقوا غضب اللّه عليهم غضبا سرمديا لا نهاية له ولا أمد حيث شاء اللّه.
روى أن بعض المؤمنين قال : إن بعض أعداء اللّه فيما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فنزلت هذه الآية.
ثم بعد أن بين اللّه حال الكفار ومآل أمرهم في الآخرة أردف ذلك ببيان حال المؤمنين في الدنيا والآخرة ليظهر الفرق جليا وليعرف المسلمون أنهم ليسوا مغبونين في شيء لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات واجتناب المنهيات لهم جنات المأوى تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها ، تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار.
وما عند اللّه بعد هذا خير للأبرار الذين فعلوا البر وأخلصوا فيه وأى خير بجانب ما أعد لهم ؟ !! فالخيرية ليست على بابها ، أى : ما أعد للمؤمنين المتقين هو خير ، وما سواه مما أعد للكفار شر.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف 107] الآية الكريمة حيث قال اللّه : نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أشار إلى أن المؤمن في الآخرة ضيف على كريم يداه مبسوطتان بالخير ، قوى قادر على كل شيء ، ملك الملوك ، وانظر إلى الكرامة التي خصوا بها من النزل من عند اللّه.
وقد عرفت حال الكفار الذين ماتوا على كفرهم وظلموا معاندين ، أما من أسلم منهم كعبد اللّه بن سلام أو من أسلم من نصارى نجران أو النجاشيّ عظيم الحبشة فالآية تحتمل كل هذا ، وإن من أهل الكتاب الذين آمنوا باللّه إيمانا حقيقيا خالصا لا نفاق فيه(1/328)
ج 1 ، ص : 329
ولا شبهة ، لهم الأجر الكامل عند ربهم ، وقد وصفهم اللّه بأوصاف هي :
1 - الإيمان باللّه إيمانا صادقا خالصا.
2 - الإيمان بالقرآن المنزل عليكم ولا شك أنه الأساس لما أتى بعده ، وهو الحق الذي لا شبهة فيه ولا تحريف.
3 - الإيمان بما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل وإن يكن فيه تحريف ، أى : أنهم كانوا مؤمنين به فأرواحهم طاهرة نقية ، ولا شك أن من يؤمن بالكتب السماوية إيمانا حقيقيا ويترك العناد والحسد والبغضاء والكذب على اللّه لا بد وأن يؤمن بالقرآن والنبي.
4 - الخشوع للّه والخضوع له ، وهو ثمرة الإيمان الصحيح ومتى كان القلب خاشعا ممتلئا بخوف اللّه خضعت له جميع الجوارح « ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، ألا وهي القلب » « 1 » .
وإذا حلّت الهداية قلبا نشطت في العبادة الأعضاء
5 - ومتى جمعوا تلك الصفات استحال عليهم أن يشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا من أعراض الدنيا الفانية ، هؤلاء الموصوفون بما ذكر البعيدون في درجة الكمال لهم أجرهم الكامل عند من ؟ عند ربهم الذي تولاهم وهداهم ووفقهم ، يؤتيهم أجرهم مرتين ، ويعطيهم من رحمته كفلين.
إن اللّه سريع الحساب يحاسب الكل ويجازى الكل في أقل من لمح البصر ، وقد ختم اللّه السورة بهذه النصيحة الغالية للمؤمنين التي تنفعهم في الدنيا والآخرة بقوله :
يا أيها الذين آمنوا : اصبروا على تكاليف الدين وعلى ما يلمّ بكم من المصائب والشدائد ، وصابروا الكفار واغلبوهم في الصبر فتكونوا أكثر تحملا لشدائد الحروب وضرائها ، وخص المصابرة بالذكر لأهمّيّتها وخطرها ، ورابطوا عند الثغور وخاصة بالخيل وما يلائم قوة الكفار في كل عصر وزمن.
واتقوا اللّه وخافوه واحذروه وراقبوه في السر والعلن لعلكم تفلحون. ولا شك أن من يبذل هذه التضحية ويبالغ فيها كأنه يرجو فلاحا ، والصبر والمصابرة ومغالبة الأعداء
___________
(1) أخرجه البخاري باب الايمان باب فضل من استبرأ لدينه رقم 52.(1/329)
ج 1 ، ص : 330
فلاح في الدنيا والآخرة ويكون بقصد إقامة الحق والعدل ، وإعلاء كلمة اللّه ، وفقنا اللّه جميعا للخير والفلاح.
هذه سورة آل عمران!! أرأيت فيها غير تكوين العقيدة الإسلامية الصحيحة بمناقشته أهل الكتاب - وخاصة المسيحيين - في عقائدهم ؟ ! أرأيت فيها غير تكوين الفرد المسلم والمجتمع المسلم في السلم والحرب ؟ لم يكن فيها - علم اللّه - غير هذا!!(1/330)
ج 1 ، ص : 331
سورة النساء
وآياتها مائة وست وسبعون مدنية فقد روى البخاري عن عائشة - رضى اللّه عنها - أنها قالت :
ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد بنى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعائشة في المدينة في شوال من السنة الأولى للهجرة.
اجتماع الناس في أصل واحد [سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
المفردات :
النَّاسُ : هم الجنس البشرى ، وهو الحيوان الناطق المنتصب القامة الذي يطلق عليه الإنسان. وَبَثَّ : نشر. تَسائَلُونَ بِهِ : يسأل بعضكم بعضا بأن يقول :
سألتك باللّه أن تفعل كذا. وَالْأَرْحامَ : جمع رحم ، وهي القرابة من جهة الأب أو الأم. رَقِيباً : مشرفا ، والمراد : محافظا.
افتتح اللّه هذه السورة الكريمة بتذكير الناس بأنهم من أصل واحد كلهم لآدم وآدم من تراب ، وذكر الرحم والقرابة ليكون هذا كبراعة استهلال لما في السورة من أحكام(1/331)
ج 1 ، ص : 332
المحافظة على أموال الضعاف وأحكام النكاح والإرث ، وكأن هذه الأحكام لازمة للناس من حيث كونهم ناسا ولذا بدأها بقوله : يا أيها الناس ، وإن تكن السورة مدنية.
المعنى :
يا أيها الناس خذوا لأنفسكم الوقاية ، واتقوا اللّه الذي رباكم بنعمه ، وتفضل عليكم بإحسانه ومننه ، فهو الذي خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة هي آدم - عليه السلام - وإذا كنا جميعا أبناء لأب واحد ، فلا يصح أن نتعدى حدود اللّه خاصة حدود القربى والرحم الإنسانية.
وقيل : هذه النفس لم تبدأ بآدم بل بأوادم قبله ، فليس آدم أبا البشر جميعا ... واللّه أعلم بهذا كله ، والخطب يسير ، والقرآن أبهم النفس ولم يعرفها فهي تحتمل هذه المعاني وأكثر منها.
فإذا ثبت علميا أن آدم أبو البشر أو ليس آدم أبا البشر لم يتعارض ذلك مع القرآن كما تتعارض التوراة وغيرها.
على أن الرأى الأول هو الأحسن والذي يتلاءم مع كثير من الأحاديث الصحيحة ، والمعنى المراد أنه خلقكم من نفس واحدة أنشأها من تراب وخلق منها زوجها ، قيل :
من ضلع لآدم كما
في الحديث « إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها » .
وعند بعض العلماء أن المراد أنه خلق من جنسها زوجها فهما من جنس واحد وطبيعة واحدة واستدل على ذلك بقوله - تعالى - : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها [الروم 21] وقال في سورة أخرى : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا من أنفسهم [الجمعة 2] فالمراد في الآيات من النفس واحد وهو الجنس ونشر وفرق من آدم وحواء نوعي البشر : الذكور والإناث ، فقد خلق آدم من تراب ، وخلقت حواء منه ، ومنها خلقت الذكور والإناث التي تفرع منهما الإنسان الذي سكن الأرض ، وهذا تفصيل لما أجمل في قوله - تعالى - : خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [سورة الزمر آية 6].(1/332)
ج 1 ، ص : 333
واتقوا اللّه الذي تساءلونه به فيقول الواحد منكم لأخيه : أسألك باللّه أن تفعل كذا ، والمعنى : أسألك بإيمانك به وتعظيمك له.
واتقوا الرحم ، أى : وصلوا الأرحام بالمودة والإحسان ولا تقطعوها ، وكرر الأمر بالتقوى للمبالغة والتأكيد ، وفي الأولى ذكر لفظ (الرب) الذي هو علم العطف والتربية في حالة الضعف والحاجة ، وفي الثانية لفظ (اللّه) إذ هو علم المهابة والجلالة ليكون أدعى للإجابة وقبول الأمر ، ثم ختم الآية بقوله : إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً مشيرا إلى أنه لا يشرع لنا إلا ما به حفظنا ومصلحتنا ، وهو الخبير بنا البصير بأحوالنا.
ما هي النفس والروح ؟ : مما لا شك فيه أن في الإنسان ناحية مادية وناحية مبهمة محجوبة بها العقل والحفظ والتذكر ، وهذه الأمور آثارها محسوسة بلا شك ، وليست من صفات الجسد ، فما منشئوها ؟ قال الأقدمون عنها : إنها النفس والروح ، وهل هي جسم نوراني علوي منفصل عن الجسم متصل به في حال الحياة ؟ أو هي حالة تعرض للجسم ما دام حيا وليست جسما ؟ ! رأيان.
اليتامى ومعاملتهم في أموالهم [سورة النساء (4) : آية 2]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
الالمفردات :
الْيَتامى : جمع يتيم : وهو من فقد أباه ، وخص الفقهاء اليتم بما دون البلوغ.
وَلا تَتَبَدَّلُوا : تأخذوه بدله ، فالباء داخلة على المتروك. الْخَبِيثَ : الرديء ، مأخوذ من خبث الحديد ، والمراد منه : الحرام بِالطَّيِّبِ : الحسن ، والمراد :
الحلال. حُوباً : إثما وذنبا كبيرا.(1/333)
ج 1 ، ص : 334
شروع في بيان نواحي التقوى وجهتها ، وأولها المحافظة على مال الضعاف من اليتامى والنساء والسفهاء ، حيث ذكرنا اللّه بالرحم والقربى.
المعنى :
يا أيها الأوصياء في مال اليتامى : أنفقوا عليه من ماله ، واجعلوا ماله خاصا به لا تأكلوا منه شيئا حتى تسلموه إليه بعد البلوغ كاملا غير منقوص ، ولا تتمتعوا بمال اليتيم في موضع يجب أن تتمتعوا فيه بمالكم فإنكم إن أخذتم من ماله وتركتم مالكم تكونوا قد استبدلتم الخبيث بدل الطيب ، والحرام بدل الحلال ، وهذا منهى عنه شرعا.
روى أنهم كانوا يضعون الشاة الهزيلة ويأخذون بدلها شاة سمينة ، فجاء النهى عن ذلك ، ولا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف.
ومن كان غنيا فليكن عفيفا عن مال اليتيم ، إن أكل مال اليتيم بغير حق ذنب كبير وإثم عظيم ، فأقلعوا عنه أيها الناس ، واتقوا اللّه الذي خلقكم من نفس واحدة.
تعدد الزوجات والعدل معهن [سورة النساء (4) : الآيات 3 الى 4]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
المفردات :
تُقْسِطُوا : من أقسط بمعنى عدل ولم يظلم ، بخلاف قسط بمعنى ظلم وجار.
ما طابَ لَكُمْ : ما مال إليه القلب وعده طيبا من النساء. مَثْنى وَثُلاثَ(1/334)
ج 1 ، ص : 335
وَرُباعَ
: هذه ألفاظ معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. تَعُولُوا العول : الجور. صَدُقاتِهِنَّ : مهورهن. نِحْلَةً عطية وهبة. هَنِيئاً مَرِيئاً : طعام هنيء إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ولا ألم ، وقيل : الهنيء : ما يستلذه الآكل ، والمريء : ما تحسن عاقبته وهضمه وتغذيته.
سبب النزول :
في الصحيحين عن عروة بن الزبير أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين - رضى اللّه عنها - عن هذه الآية فقالت : يا ابن أختى هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها ، فلا يعطيها مثل ما يعطى أترابها من الصداق ، فنهوا عن ذلك وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع.
وفي رواية أنها نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشاركه في ماله فيرغب عنها ويكره أن يتزوجها غيره فيشاركه في مالها فيعضلها ، فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره.
وفي رواية أخرى عن عائشة قالت : أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينكحها لمالها ، فيضربها ويسيء صحبتها ، فنزلت الآية على معنى : خذ ما طابت بها نفسك ودع هذه لا تضر بها.
وقد كانوا في الجاهلية يتزوجون أكثر من أربعة ، بل قد يجمع الرجل ما شاء فيضطر إلى أخذ مال اليتيم ، فنهوا عن ذلك كله.
المعنى :
بعد أن نهاهم اللّه عن أكل مال اليتامى والجور فيه ، ووقع هذا النهى هذا الموقع فتحرجوا من الإثم ، قال ما معناه :
وإن خفتم عدم العدل في أموال اليتامى وتحرجتم من أكلها بالباطل ، وأحسستم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة وهضم حقوقها في الصداق ، فعليكم ألا تتزوجوا(1/335)
ج 1 ، ص : 336
بها وألا تمنعوها من الزواج ، فإن اللّه جعل لكم مندوحة ، وشرع لكم الزواج بمن تحبون من النساء الرشيدات من واحدة إلى أربع.
وإذا قلت لجماعة : اقتسموا هذا المال بينكم مثنى وثلاث ورباع كان المطلوب أن يأخذ كل واحد منهم ما شاء من اثنين أو ثلاثة أو أربعة لا يجمع بين الأعداد كلها فيأخذ الواحد تسعة مثلا ، هذا استعمال العرب وعادتهم ، والقرآن عربي مبين.
ولكن إذا خفتم ألا تعدلوا مع اثنتين أو ثلاث أو أربع ، فتزوجوا واحدة فقط ومعها ما شئتم من الموالي ، فإنه لا يخشى معهن الجور وعدم العدل ، والخوف من عدم العدل يشمل تحقيق الظلم أو ظنه بل الشك فيه ، أما التوهم فالرأى التسامح فيه.
فالمعنى :
للرجل المسلم أن يتزوج من واحدة إلى أربع ما دام يثق في أنه يعدل ولا يجوز ، وإن خاف عدم العدل فلا يتزوج إلا واحدة ومعها ما شاء من الجواري - وهن الإماء الأرقاء المملوكات ملكا شرعيا - والعدل المطلوب بين النساء يكون في القسم بينهن في المبيت والتسوية في المأكل والمشرب والمسكن والأمور المادية ، أما الأمور القلبية كالميل والحب فهذا ما ليس في وسعه ، ولذا
كان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك »
وقد كان يحب عائشة أكثر من غيرها ومع هذا ما كان يخصها بشيء إلا بعد أن يستأذن أخواتها.
تعدد الزوجات
طبيعة الحياة الزوجية تقتضي - بالفطرة - أن يختص الزوج بالزوجة والزوجة بالزوج ، فكما أن الزوج يغار جدا على زوجته كذلك الزوجة.
ونحن نرى أن البيت الذي فيه ضرّتان فيه خلاف ونزاع وشقاق قد يؤدى إلى الموت والهلاك والعداوات المستحكمة.
لهذا يرى البعض أن في إباحة الإسلام التعدد في الزوجات شيئا يتنافى مع الطبيعة ويتنافى مع العقل فمن الخير المنع ، فإن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة!!(1/336)
ج 1 ، ص : 337
ولكن الإسلام حينما أباح التعدد أباحه للضرورة وقيده بقيود تكاد تكون بعيدة المنال ، فالقرآن يقول : لا تظلموا اليتيمة في مالها ونفسها ، وأمامكم النساء غيرها كثيرات. تزوجوا باثنين أو بثلاث أو بأربع ولكن هذا مقيد بقيد العدل وعدم الظلم ، لا فرق بين قديمة وحديثة وجميلة وقبيحة!! والقرآن قال في موضع آخر : وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ « 1 » والعدل المقصود منه هنا : الميل القلبي ، فإن تحقق العدل الكامل بعيد جدا ، والميل واقع حتما ، فلم يبح التعدد بلا قيد ولا شرط ، بل بشرط بعيد الحصول والتعدد أو الطلاق كحق للزوج لا غبار عليهما أبدا ، بل لعلهما بعض الضرورات اللازمة للطبيعة البشرية ، ولكن الخطأ الأكبر يجيء من سوء الاستعمال ، أما القول بمنعهما ففيه مخالفة لصريح القرآن ومخالفة لمصلحة الرجل والمرأة على السواء.
ماذا نفعل في رجل تزوج بامرأة لا تلد ، وهو غنى يريد الولد وعنده القدرة على كفاية اثنتين من النساء ؟
ورجل عنده نهم على النساء ، ومن تحته امرأة عزوف عن الرجال أو بها مانع أو مرض فهل يزنى ؟ فيضيع الدين والمال والصحة والشرف!! أم يتزوج بامرأة بشرط عدم الظلم في معاملة الاثنتين.
وماذا نعمل في الأمة عقب الحروب التي تبيد أكثر رجالها فتبقى النساء كثيرات مع قلة الرجال ، أمن الخير أن يتمتع بعض النساء وتبقى الأغلبية محرومة من عطف الرجل والعائل ؟ وقد تضطرها الظروف إلى ارتكاب الإثم والفحش!! إذا الخير في علاج المسألة بعلاج الدين ، فنحافظ على المرأة محافظة تامة ونعنى بها عناية كاملة في الحرب والسلم.
ولا يضر الدين إساءة المسلمين له في تنفيذ بعض رخصه ، فإنا نراهم لا يعدلون بين الأزواج ويتزوجون لمجرد الشهوة والانتقام لا لغرض شريف ، ويكفى الإسلام فخرا أن قال بالطلاق ونادى بتعدد الزوجات كثير من فلاسفة الغرب.
فالواجب على أولى الأمر أن يعالجوا الداء بما يحسمه مع تنفيذ روح الدين.
___________
(1) سورة النساء آية 129.(1/337)
ج 1 ، ص : 338
وآتوا النساء مهورهن اللاتي يستحقنها تشريفا لهن وتكريما وعلامة على المحبة وتوثيقا لعرى الصداقة والمودة بلا مبالغة ولا إسراف فإن طبن لكم عن شيء من أموالهن وتنازلن عنه فخذوه هنيئا مريئا.
متى نعطى أموال اليتامى لهم ؟ [سورة النساء (4) : الآيات 5 الى 6]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
المفردات :
السُّفَهاءَ : جمع سفيه ، والسفه : الاضطراب في العقل والفكر والخلق ، والمراد به هنا : من لا يحسن التصرف في المال ، ويشمل ذلك اليتامى. قِياماً : ما به تقومون وتعيشون. آنَسْتُمْ : أبصرتم وتبينتم. رُشْداً : المراد به : صلاحا للعقل وحفاظا للمال. إِسْرافاً : مجاوزة للحد في كل عمل ، وغلب في الأموال.
بِداراً : مبادرة ومسارعة. فَلْيَسْتَعْفِفْ : فليطلب العفة وليحمل نفسه عليها ، والعفة : ملكة في النفس تقتضي ترك ما لا ينبغي من الشهوات. حَسِيباً :
رقيبا ..
أمر اللّه - سبحانه وتعالى - فيما سبق بإيتاء أموال اليتامى لهم وإعطاء النساء أموالهن(1/338)
ج 1 ، ص : 339
ومهورهن ، وهنا شرط ذلك بشرطين : الخلو من السفه ، والاختبار حتى لا يضيعوا أموالهم.
المعنى :
نهى اللّه - سبحانه وتعالى - الأمة نهيا عاما ، يدخل فيه أولياء اليتامى والسفهاء دخولا من باب أولى .. نهاهم عن إعطاء السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم ، نهاهم عن إعطاء أموالهم لهم ، فإنهم يبددونها ، والدين حريص على حفظها لهم.
وإنما أضاف الأموال للأولياء وقال : (أموالكم) مع أنها أموال اليتامى والسفهاء للإشارة إلى أن الولي يجب عليه أن يحافظ على المال ، إذ لو ضاع لوجبت نفقة اليتيم عليه ، فكأن مال اليتيم ماله ، ولا يخفى عليك مبدأ التكافل في الأمة الواحدة ، وانظر إلى القرآن وقد وصف الأموال بأنها جعلت قوامكم في الحياة ، فبالمال تبنى الأمم صروح العمران وتقام دعائم الدنيا ، وفي هذا إشارة إلى أن المال والاقتصاد مما يرغب فيه الدين.
فعليكم - أيها الأولياء - أن تعطوا الأموال لأربابها بشرط ألا يكون سفيها لا يحسن التصرف ، وإلا بقي المال في أيديكم حتى يتم تمرينه على المحافظة على الأموال التي جعلها اللّه قوامكم في الحياة.
وارزقوهم منها ومن ثمرتها وكسبها لا من أصلها وذاتها ، والرزق يشمل وجوه الإنفاق جميعها من أكل وكسوة وتعليم وتمريض ، وخصت الكسوة بالذكر لأنها مظهر خارجى قد يتساهل فيه ، وقولوا لهم قولا لينا ليست فيه خشونة ، بل عاملوهم معاملة الأولاد بالعطف واللين ، وأشعروهم بالعزة والكرامة وأن ما ينفق عليهم من مالهم ، وسيأخذونه بعد البلوغ ، ويجب عليكم أن تختبروهم لتعرفوا مدى عقلهم وحسن تصريفهم للمال ، وقد أطلق القرآن الكريم الابتلاء حتى تتبينوا رشدهم وكمال تصريفهم ، لأن لكل زمن وبيئة نظاما ، فاختبار المتعلم غير اختبار العامي وهكذا.
وهذا الاختبار يكون عند البلوغ ، أى : بلوغ سن الزواج والاكتمال العقلي ، فإن تبينتم رشدهم فآتوهم أموالهم.(1/339)
ج 1 ، ص : 340
ولا تأخذوها وتأكلوها عن طريق الإسراف والتبذير ، فإن طبيعة النفس التبذير في مال الغير ، ولا تأكلوها مسرعين قبل أن يصل اليتيم إلى مرحلة البلوغ والإدراك السليم.
أما الأكل من غير إسراف ولا تبذير وبلا إسراع ومبادرة فحكمه أن من كان غنيا فليطلب العفة ويحمل نفسه عليها حتى يتعود ذلك ، وفي هذا إشارة إلى أن طبيعة النفوس ميالة إلى الاعتداء على حق الغير وإن كان صغيرا ضعيفا.
ومن كان فقيرا محتاجا فليأكل بالمعروف شرعا وعرفا بلا إسراف وتبذير حتى قال بعضهم : إن الولي ليس له أن يأكل إلا قرضا أو بأجر المثل.
والحكمة في ذلك أن اليتيم الصغير من الخير له أن يخالط الولي ويأكل مع أولاده حتى يتسنى للولي أن يشرف عليه إشرافا فعليا ، فإن كان الولي غنيا كانت المخالطة لمصلحة اليتيم ، وإن كان فقيرا فالواجب عليه أن يأكل بالمعروف من كسب المال وثمرته ، وليس له أن يجمع من مال اليتيم شيئا خاصا به.
فإذا اختبرتم اليتيم أو السفيه وتبينتم صلاحيته لإدارة المال فادفعوه إليه بحضور الشهود قطعا للنزاع ، واللّه شهيد عليكم ورقيب فراقبوه فإنه لا تخفى عليه خافية في الأرض والسماء.
تشريع حقوق اليتامى والنساء [سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)(1/340)
ج 1 ، ص : 341
المفردات :
مَفْرُوضاً : محتوما لا بد من أخذه. وَلْيَخْشَ الخشية : الخوف مع تعظيم المخفو والأمل فيه. سَدِيداً : محكما صائبا ، والمراد : موافقا للدين.
ظُلْماً : بغير حق. سَيَصْلَوْنَ : سيحرقون ، من أصلاه إصلاء : أراد إحراقه ، ومنه : صلى اللحم : شواه ، واصطلى : استدفأ. سَعِيراً : النار المستعرة.
سبب النزول :
روى أن أوس بن الصامت الأنصارى توفى وترك امرأته أم كحلة وبنات له فمنع ابنا عمه سويد وعرفطة ميراث أوس عن زوجته وبناته ، فشكت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فدعاهما رسول اللّه ، فقالا : يا رسول اللّه ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلّا ولا ينكى عدوا ، نكسب عليها ولا تكسب ، فنزلت الآية
فأثبتت لهن الميراث ، ثم نزلت آية المواريث فجعلت لكل حقه.
المعنى :
إذا توفى رجل وورثه ذكور وإناث - صغارا كانوا أو كبارا - فاللّه قد أوجب لكل وارث نصيبا مفروضا وقدرا محتوما في المال الموروث من الوالدين أو الأقربين يستوي في ذلك القليل والكثير ، وستأتى آية المواريث وتوضح هذا المجمل وتبينه.
ولقد عالج القرآن الكريم بمناسبة تقسيم المال في التركات مرضا في نفوسنا وهو تألم البعض من حضور الأقارب ساعة التقسيم ، وحسد الأقارب الذين لا يرثون ، فقال :
إذا حضر مجلس القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فعالجوا شح النفس عندكم واقطعوا ألسنة بعض ضعاف النفوس بأن تعطوهم شيئا من المال ولو قليلا ، وقولوا لهم قولا حسنا واعتذارا جميلا يسل السخائم ويهدئ النفوس ، والمأمور بهذا هو الولي أو اليتيم عند البلوغ واستلام المال كل هذا تحتمله الآية ، والمهم أن هذا أدب قرآنى وعلاج حكيم ، ولعل أحدث الدول رجعت تقول بضريبة التركات بل بالغت في درجتها.(1/341)
ج 1 ، ص : 342
ألا ما أحسن كلامك يا خالق الخلق!! وما أحكم دستورك يا إله السماء والأرض ، ارجعوا إلى القرآن واعملوا بما فيه فهو الخير ومنه الشفاء وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ « 1 » .
وعلاج لمرض آخر وهو أن النفس الإنسانية كثيرا ما تتحامل على اليتيم وتقسو عليه فذكّرنا بشيء يهز القلب ويحرك المشاعر. تذكروا أنكم مفارقون أولادكم واخشوا ترك ذرية ضعفاء كزغب القطا لا حول لها ولا قوة ، فاتقوا اللّه وقولوا قولا سديدا يوافق الدين وتذكّروا أنه
كما تدين تدان
، ثم ختم الكلام بهذا التهديد الشديد ، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ويأخذونها بأى طريق إنما يأكلون في بطونهم ما به يدخلون النار وسيحرقون بنار مسعرة وقودها الناس والحجارة ، وقانا اللّه منها.
آيات المواريث [سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
___________
(1) سورة الإسراء آية 82.(1/342)
ج 1 ، ص : 343
المفردات :
يُوصِيكُمُ الوصية : ما تعهد به إلى غيرك من العمل في المستقبل ، تقول : سافر(1/343)
ج 1 ، ص : 344
فلان إلى بلد كذا وأوصيته بأن يحضر لي شيئا. حَظِّ : نصيب. كَلالَةً الكلالة : مصدر كلّ يكل كلالا ، وهو من الإعياء ، ثم استعمل في القرابة البعيدة غير قرابة الأصول والفروع ، رجل ذو كلالة ليس له والد ولا ولد ، وعلى هذا أكثر الصحابة.
حُدُودُ اللَّهِ : جمع حدّ وهو المنع ، وأحكام اللّه مانعة من الوقوع في المعصية.
مُهِينٌ : ذو إهانة وذل.
سبب النزول :
جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : يا رسول اللّه : هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا ، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ، ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال : يقضى اللّه في ذلك ، فنزلت آية المواريث ، فأرسل رسول اللّه إلى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثّمن وما بقي فهو لكم « 1 »
، وهذه أول تركة قسمت في الإسلام.
وهذا نظام المواريث في الحكم الإسلامى الذي يفتخر به المسلمون ، وقد أصبح قاعدة عامة للمواريث في العالم - إن لم يكن هو المصدر الأول لأحدث الدساتير - ولو لا العصبية الممقوتة عند غير المسلمين لأخذوه كله فإنه نظام من حكيم عليم ، والآيات تتضمن حقوق الأولاد ذكورا وإناثا (الفروع) ، وحقوق الأصول كالأب والأم ، وحقوق الزوجية وحقوق الإخوة لأم. أما الإخوة لأب فحكمهم سيأتى في آخر السورة.
ولأن الأولاد أحق بالعطف والمعونة ولأن الأصول قد يكون لهم حق واجب على غير المتوفى ، أو لهم قدرة على الكسب ، ولقلة ما بقي من عمرهما بدأ بالفروع وكان لهم نصيب كبير.
يوصيكم اللّه وصية لمصلحتكم - أيها المخاطبون والمكلفون - من المسلمين لأنهم هم الذين يقسمون التركات ، ولمبدأ تكافل الأمة وأنها كالجسد الواحد ، يوصيكم اللّه في شأن أولادكم أن يأخذوا من تركة أبيهم ، وإذا كانوا إناثا وذكورا ، فللذكر مثل نصيب
___________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الفرائض رقم 2891 وأخرجه الترمذى وابن ماجة.(1/344)
ج 1 ، ص : 345
الأنثيين ولا غرابة في هذا ، فالرجل محتاج إلى النفقة على نفسه وزوجته ، وأخته وأخته تكفل نفسها ، فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها.
وإن كان للميت ذكر واحد لا أخت له أخذ التركة بعد أخذ أصحاب الفروض كالزوجة والأم والأخ لأم كما سيأتى.
وإن كان للميت بنتان فأكثر أخذتا الثلثين فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وقد دخلت البنتان في عموم الآية ، لأن البنت مع أخيها تأخذ الثلث وهو يأخذ الثلثين ، والذكر له حظ الأنثيين ، فإذن البنتان تأخذان الثلثين ، ولأن اللّه صرح في آية أخرى بحق الأختين وأنهما يأخذان الثلثين ، وقد ساق القرآن هنا حكم البنتين فأكثر مع بقاء التفريع على ما تقدم ، وهذا ما فهمه جمهور الصحابة خلافا لابن عباس الذي يرى أن للبنتين النصف ، وإن كانت واحدة فلها نصف ما ترك أبوها والباقي يورث على حسب المواريث الشرعية.
حقوق الوالدين :
ولأبوى الميت السدس لكل واحد منهما ، لا فرق في ذلك بين الأب والأم لأن علاقتهما ومحبتهما بالنسبة له سواء ، هذا إن كان له ولد ، فإن لم يكن له ولد ولا ولد ابن (الولد يطلق على الذكر والأنثى) وقد ورثه أبواه فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث فيهما ، فإن كان للميت إخوة من ذكور أو إناث رجعت الأم من الثلث إلى السدس سواء كانت الإخوة لأبوين أو لأحدهما وليس كذلك كالأخ الواحد وقد قضى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والخلفاء الراشدون من بعده بأن الأخوين والأختين يردون الأم من الثلث إلى السدس ، هذا حكم الوالدين مع ولد للميت وعدمه ومع الإخوة للميت ، وبقي حكم الوالدين مع أحد الزوجين.
والحكم أن الزوجين يأخذان حظهما ، والأم ثلث الباقي والأب الباقي من التركة ، هذا رأى جمهور الصحابة ما عدا ابن عباس - رضى اللّه عنهم أجمعين - .
يوصيكم اللّه أن تعملوا بهذه القوانين فإنها خير لكم وأنفع من بعد وصية يوصى بها الميت أو دين يتركه عليه ، ولعل تقديم الوصية في الذكر على الدّين لأنها أخذ شيء من(1/345)
ج 1 ، ص : 346
غير عوض ، قد تكون ثقيلة على الورثة فقدمها للاعتناء بها ، وإن كان الدّين مقدما عليها في الأداء وكان العطف للإيذان بأنهما متساويان في الوجوب متقدمان على القسمة مجموعين أو منفردين. ولا تتبعوا ما كنتم عليه في الجاهلية من حرمان الأنثى والصغير ، فلستم تعرفون النافع من الضار فاتبعوا ما أمركم اللّه به فهو أعلم منكم ، بما هو أقرب في النفع لكم ، وقد فرض ما ذكر من الأحكام فريضة محكمة لا هوادة في وجوب العمل بها فريضة من اللّه ، إنه كان عليما بكم حكيما يضع الأمور في نصابها.
حقوق الأزواج :
إن كان الميت أنثى فللزوج النصف ، هذا إن لم يكن للزوجة ولد ولا ولد ابن سواء كان من الزوج أو من غيره ويستوي في ذلك الزوجة المدخول بها والمعقود عليها ، فإن كان لها ولد أو ولد ابن من أى زوج فلكم أيها الأزواج الربع مما تركن والباقي للأقارب حسب الميراث الشرعي وذلك من بعد وصية توصى بها أو دين ثبت عليها.
وإن كان الميت ذكرا فلزوجته الربع من تركته إن لم يكن له ولد ولا ولد ابن ، أى :
فرع وارث وإن يكن من غيرها ، فإن كان له ولد أو ولد ابن فلها الثمن والباقي للورثة حسب المواريث الشرعية ، وذلك من بعد وصية يوصى بها أو دين.
وإن كان هناك رجل موروث كلالة بأن لم يكن له فرع وارث من ابن أو ابن ابن ، وليس له أصل وارث كالأب والجد ، وكان له أخ من الأم أو أخت فللأخ من الأم السدس ذكرا كان أو أنثى ، فإن كانوا أكثر من ذلك فلهم الثلث كالأم.
كل هذا : من بعد وصية يوصى بها أو دين حالة كونه غير مضار في الوصية بأن تكون أكثر من الثلث ، وفي الدّين بأن يقر بدين لم يقبضه أو يستغرق المال كله ، وشرط عدم الضرر في صاحب الكلالة فقط لأن بعض الناس قد يكره ميراث الكلالة فنهاهم اللّه عن الضرر في ذلك ، واللّه عليم بالأحوال حليم بنا لا يعاجل بالعقوبة من يستحقها.
وبعد أن بين اللّه الأحكام المتعلقة بالضعفاء من الأيتام والنساء وأحكام المواريث ، أشار إلى أنها حدود اللّه ومحارمه التي لا يصح لمسلم أن يتخطاها ويتجاوزها ، ومن حام حولها يوشك أن يقع فيها.(1/346)
ج 1 ، ص : 347
ومن يطع اللّه باتباع ما أنزله على رسوله وبلغه إلى خلقه ومن يطع الرسول فيما بلغ عن ربه من أحكام وآيات ، يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار. وصفها الحقيقي اللّه أعلم به ، وعلينا أن نسلم به وأنه جزاء المحسنين ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟
وهم فيها خالدون ، وذلك هو الفوز العظيم.
وأما من يتعدّ حدود اللّه وينتهك حرمات اللّه ويعص اللّه ورسوله يدخله نارا وقودها الناس والحجارة خالدين فيها إلى ما شاء اللّه وله عذاب مهين ومذل له فهو عذاب مادى وروحي.
الفاحشة وجزاؤها [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
المفردات :
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ : يفعلنها ، والفاحشة : ما فحش ذنبه وقبح جرمه كالزنا.
يَتَوَفَّاهُنَّ يقال : توفيت مالي على فلان واستوفيته : قبضته ، والمراد : توفى أرواحهن ملك الموت.
المعنى :
واللاتي يأتين الفعلة الممقوتة وهي الزنا ، ولا شك أنها أكبر الفواحش وأحقرها ،(1/347)
ج 1 ، ص : 348
ومن يفعلها من النساء فاطلبوا أربعة من الرجال يشهدون عليهن ، والخطاب للأمة كلها لأن هذا مرض عام يفت في عضد الأمة ، فإن شهدوا عليهن فأمسكوهن في البيوت فإنهن جرثومة الفساد ، وداء إذا تفشى أهلك الأمم والأفراد حتى يتوفى أرواحهن ملك الموت ويقبضها ، أو يجعل اللّه لهن سبيلا بأن يتزوجن ويقلعن ، وقيل : هو الحد عن هذا الداء الحقير ولا يكون ذلك إلا من اللّه وتوفيقه.
واللذان يأتيان الفاحشة من الزاني والزانية غير المحصنين فآذوهما بالتأديب والتوبيخ ، فإن تابا وأصلحا حالهما وأعرضا عن هذا العمل المشين فأعرضوا عنهما وكفوا الأذى ، إن اللّه كان توابا يقبل التوبة من عباده ويعفوا عن السيئات رحيما بعباده.
وفي هاتين الآيتين رأيان : رأى الجمهور القائل : إن الفاحشة هي الزنا خاصة ، فالآيات الأولى في المحصنات من النساء ، أى المتزوجات ، والآية الثانية في الأبكار ، ولذا كان عقابهن خفيفا .. والآيتان منسوختان بالحد المفروض في سورة النور من الرجم والجلد وهو المراد بالسبيل الذي جعله اللّه للنساء المحبوسات في البيوت.
وعن أبى مسلم أن الآية الأولى في المساحقات التي تحصل بين النساء ، والثانية في اللواط ، وعلى هذا فلا نسخ ، وقد قال بذلك مجاهد ، واللّه أعلم.
متى يقبل اللّه التوبة [سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)(1/348)
ج 1 ، ص : 349
المفردات :
السُّوءَ : العمل القبيح الذي يسوء فاعله ، فيشمل الصغائر والكبائر.
بِجَهالَةٍ المراد بها : الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل ، لا عدم العلم ، وذلك يكون عند ثورة الشهوة أو الغضب ، وكل من عصى اللّه فهو جاهل.
أَعْتَدْنا : هيأنا وأعددنا.
المعنى :
إنما قبول التوبة والغفران واجب على اللّه لسابق وعده الكريم فقد كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام آية 54].
قبول التوبة متحقق للذين يعملون المعصية ويلمون بها ولم يصروا عليها لأنهم فعلوها بدافع الهوى والشيطان ، حتى إذا ما ثابوا لأنفسهم ورجعوا لعقولهم أدركوا خطأهم وأنبوا أنفسهم وتابوا إلى اللّه توبة نصوحا هؤلاء هم الذين يعملون السوء ، أى : المعصية الواحدة التي لم تكرر حتى تصير سيئات - كما في الصنف الثاني - في ثورة الجهل والسفه ، والغضب ، حتى إذا زالت تلك الحال تابوا من قريب ، أى : بعد وقوعها بسرعة ، فأولئك يتوب اللّه عليهم.
واللّه الذي أوجب قبول التوبة على نفسه عليم بخلقه إذ إن النفس الإنسانية قد تشذ ويغويها الشيطان فتقع في المعصية ، فلولا باب التوبة ليئس الناس وظلوا على حالهم ، وهو الحكيم في صنعه - سبحانه وتعالى - .
وليست توبة الذين يعملون السوء بعد السوء حتى تصير لهم سيئات وسيئات مقبولة عند اللّه ، وذلك أن المعصية تجعل في القلب نكتة سوداء. بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من المعاصي ، هؤلاء لا تقبل توبتهم ، وكيف تقبل وهم يظلون على عملهم سادرين في غيهم ؟ حتى إذا أدركهم الموت وساعته تابوا عند العجز عن المعصية والخوف من العقاب.(1/349)
ج 1 ، ص : 350
وأما
حديث أن التوبة تقبل ما لم يغرغر
فمحمول على من تاب توبة خالصة للّه ، يدرك فيها المذنب قبح فعله السابق ويندم ندما حقيقيّا وقلما يحصل مثل هذا.
ولا يقبل اللّه توبة الذين يموتون وهم كفار. وقد سوى اللّه بين من يموت كافرا وبين من يؤجل التوبة حتى تحضره الوفاة إذ هي لا تكون إلا عند التكليف والاختيار.
أولئك هيأنا لهم عذابا مؤلما ومذلا لهذين الفريقين اللذين استعبدهما الشيطان إلى الموت.
كيف نعامل نساءنا ؟ [سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)(1/350)
ج 1 ، ص : 351
المفردات :
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ العضل : داء عضال ، أى : شديد ، وعضلت المرأة بولدها :
إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه ، فالعضل : الشدة والتضييق والحبس.
الفاحشة : الفعلة الشنيعة القبيحة. مُبَيِّنَةٍ : واضحة ظاهرة.
بِالْمَعْرُوفِ : ما لا ينكره الشرع والعرف والطبع. والبهتان : الكذب.
أَفْضى : وصل إليها وصولا خاصا وهو ما يكون بين الزوجين. مِيثاقاً غَلِيظاً : عهدا مؤكدا ربط برباط قوى محكم.
كانت المرأة في الجاهلية تعد من قبيل المتاع حتى كان أقارب الزوج المتوفى يستولون عليها كرها. روى البخاري : أنه كان إذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت الآية.
وقيل : كان الرجل يمسك المرأة وهو لها كاره حتى تموت فيرثها!! وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن تكفى حاجته حبسها مع سوء العشرة لتفتدى نفسها بمالها وتختلع ، فقيل : ولا تعضلوهن ... الآية.
وكان من عادتهم في الجاهلية أيضا إذا أرادوا فراق امرأة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشترى نفسها بالمهر الذي دفعه إليها.
والآية الكريمة فيها دواء لهذه الأدواء وعلاج كريم ورفع المرأة إلى مكانتها اللائقة بها كشريكة في الحياة وكإنسان حي له كرامة وشخصية. وهكذا الإسلام والقرآن من أربعة عشر قرنا يعالج ولكن بحكمة لا إفراط ولا تفريط. لأنه تنزيل من حكيم عليم.
فيا من اتصفتم بالإيمان باللّه ورسوله لا يليق أن تعاملوا المرأة كالمتاع فتستولون عليها وترثونها وهي كارهة لهذا ، لا يحل لكم أبدا أن تفعلوا فعل الجاهلية إن شاء أحد الأقارب تزوجها وإن شاء أمسكها ومنعها إلى أن تموت ، تاللّه إن هذا عمل لا يليق بكم أبدا.
ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن ، وتضاروهن حتى يضطروا إلى الافتداء بالمال والصداق ،
فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان في أيديكم ، أخذتموهن بأمانة اللّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه » .(1/351)
ج 1 ، ص : 352
وهل يليق بمن اتصف بالإيمان وخالط قلبه بشاشته أن يفعل الإيذاء خاصة مع من أفضى إليها وعاشرها معاشرة الأزواج لأجل المال أو العتاد ؟ تاللّه إن هذا لا يليق أبدا.
ما دامت المرأة في طاعته وتحفظ فراشه وتقوم بخدمته ، فإذا نشزن عن طاعتك وساءت عشرتهن ولم ينفع معها النصح أو التأديب أو ظهر - والعياذ باللّه - أنها ارتكبت فاحشة كالزنا أو السرقة أو نحوها من الأمور الممقوتة شرعا وعرفا فلكم حينئذ أن تعاكسوهن وتعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أعطيتموه لهن من المال والصداق ، وإنما شرط في الفاحشة أن تكون ظاهرة فاضحة لئلا يستغل هذا بعض ضعاف النفوس من الرجال فيرمى المرأة العفيفة بشيء لمجرد الظن فقط ، وإنما أبيح للرجل التضييق على المرأة التي تأتى بالفاحشة خشية أن يستغل بعض النساء هذا فيفحشن في القول والفعل حتى يطلقها زوجها فتتاجر بالمال والصداق مع كل رجل.
ويا أيها المؤمنون عاشروا نساءكم بالمعروف وخالطوهن بما تألفه الطباع السليمة ولا ينكره الشرع ولا العرف من غير تضييق في النفقة ولا إسراف ، وفي كلمة المعاشرة معنى المشاركة والمساواة ، أى : كلّ يعاشر صديقه من جانبه بالمعروف معرضا عن الهفوات جالبا للسرور معينا على الشدائد حافظا للود وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً « 1 » فإن كرهتموهن لعيب خلقي أو دمامة في خلقتهن أو تقصير أو مرض أو لهوى في نفوسكم فاصبروا ولا تتعجلوا ، فعسى أن تكرهوا شيئا وفيه الخير الكثير لكم ، ومن يدرى ؟ إن هذه الدميمة تكون أم الأولاد النجباء وربة البيت الأمينة المحافظة المقتصدة الصبور المعينة لك في السراء والضراء ، والحوادث تثبت أكثر من هذا ، فالصبر الصبر أيها المؤمنون ، وحسن المعاشرة وإن أردتم استبدال زوج جديد مكان زوج سابقة كرهتموها وهي لم تأت بفاحشة ظاهرة وقد كنتم آتيتموها المال الكثير قبل ذلك ، فلا تأخذوا من هذا المال شيئا لأنها لم ترتكب ذنبا تستحق أن يؤخذ منها المال وإرادة الاستبدال ليست شرطا في عدم حلّ الأخذ بل هو الكثير الغالب.
وكيف تأخذونه وتستسيغون ذلك بعد أن تأكدت بينكم رابطة الزوجية بأقوى رباط حيوي وباشر كل منكم الآخر ولابسه ملابسة يتكون منها الولد ، واطلع على ما لم يطلع عليه أب أو أخ ؟ ! إن هذا الشيء عجيب ، أتأخذونه بالبهتان آثمين وقد أفضى
___________
(1) سورة الروم آية 21.(1/352)
ج 1 ، ص : 353
بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقا غليظا هو حق الصحبة والمضاجعة ، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمته ، وقيل : الميثاق : « إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » .
والشريعة لم تحدد مقدار الصداق بل تركته للظروف والأحوال ، وإن التغالى فيه لمعوق للزواج الذي هو مطلوب الشرع.
من يحرم التزوج بهن [سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)
المفردات :
سَلَفَ مضى. مَقْتاً : ممقوتا ومبغوضا. ساءَ سَبِيلًا أى : بئس ذلك طريقا.(1/353)
ج 1 ، ص : 354
المعنى :
ذكر اللّه في هاتين الآيتين ما يحرم على الرجال نكاحهن وقد كانوا في الجاهلية إذا توفى الرجل عن امرأته كان ابنه أحق بها ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه ، أو ينكحها من شاء!! والمراد بالنكاح : العقد كما قال ابن عباس.
روى ابن جرير : كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي حرام ، والمراد بالآباء ما يشمل الأجداد ، والمراد أنكم تستحقون العقاب لنكاحكم ما نكح آباؤكم إلا ما مضى فهو معفو عنه ، إن هذا النكاح كان فاحشة يأباها العقل وممقوتا في الشرع وساء سبيلا ، وبئس ذلك الطريق في العرف ، ولذا كانوا يسمونه نكاح المقت وبعد هذا بين اللّه أنواع المحرمات وهي أنواع.
نكاح الأصول :
فقد حرم اللّه نكاح الأمهات وكذا الجدات.
ونكاح الفروع :
فقد حرم اللّه نكاح البنات وهن يشملن بنات الصلب وبنات الأبناء.
نكاح الحواشي القريبة والبعيدة :
فقد حرم نكاح الأخت سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم.
ونكاح العمات والخالات القريبة والبعيدة كعمة الأب وخالة الأم.
وقد حرم بنات الأخ وبنات الأخت من جهة الأبوين أو لأب أو لأم.
ما حرم من جهة الرضاع :
يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب.(1/354)
ج 1 ، ص : 355
فإذا رضع طفل من امرأة فهي أمه تحرم عليه ، وزوجها أبوه وأولادها أخواته ، وهكذا للرضاع أحكام كثيرة مذكورة في كتب الفقه ، ويجب على المسلمين العناية به.
ما يحرم بسبب المصاهرة :
فقد حرم أم الزوجة التي دخلت بها أو عقدت عليها ، وكالأم الجدة.
وابنة الزوجة التي من غيرك - وهي الربيبة - بشرط الدخول بأمها ، وكذا أولاد أولادها ، فإن لم يدخل بها لا يحرم عليها بناتها ، وزوجة الابن وابن الابن تحرم على الأب والجد.
ما يحرم بسبب عارض :
الجمع بين الأختين أو بين المرأة وقريباتها ، وضابط ذلك كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لحرم عليه نكاح الأخرى كالمرأة وعمتها وخالتها ... إلخ.
إلا ما قد سلف فلا يؤاخذ عليه ... وعن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما حرم اللّه إلا نكاح امرأة الأب والجمع بين الأختين. إن اللّه كان غفورا رحيما.
واللّه أعلم.(1/355)
ج 1 ، ص : 356(1/356)
ج 1 ، ص : 357
من أحكام الزواج [سورة النساء (4) : آية 24]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
المفردات :
وَالْمُحْصَناتُ الإحصان في القرآن جاء بأربع معان : الزواج كما في قوله تعالى وَالْمُحْصَناتُ أى : المتزوجات لأنهن دخلن حصن الزواج وحمايته. العفة :
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. الحرية : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الإسلام : فَإِذا أُحْصِنَّ أى : أسلمن عند بعض العلماء. ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ المراد بهن : ما سبين في حروب دينية وأزواجهن كفار في دار الحرب. أُجُورَهُنَّ المراد بها هنا : المهور. فَرِيضَةً : مفروضة ومقدرة.
لا جُناحَ : لا إثم ولا حرج.
المعنى :
ذكر اللّه - سبحانه - في الآية السابقة المحرمات من النساء بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة أو بسبب عارض كأخت الزوجة وعمتها ... إلخ. وفي الآية هنا ذكر أن(1/357)
ج 1 ، ص : 358
المحصنات من النساء بمعنى المتزوجات كذلك يحرمن ما دمن في عصمة رجل ... إلااللاتي سبين في حرب دينية بيننا وبين الكفار ، أى : ليست حرب استعمار واستغلال ،
فقد روى عن أبى سعيد الخدري أنه قال : « أصبنا سبيا يوم (أوطاس) ، ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ، فسألنا النبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت الآية فاستحللناهن »
فقد أحل اللّه للمسلم نكاح المسبية بعد براءة رحمها من زوجها الأول ، وشرط الأحناف أنه لا بد من اختلاف الدار بينها وبين زوجها ، فلو سبيت هي وزوجها لم تحل لغيره.
ولعل سائلا يقول : الرق وصمة عار فكيف يبيح الإسلام هذه المعاملة ؟
نعم هو وصمة عار والإسلام لم يفرضه ولم يحرمه ، بل لم ترد آية واحدة في القرآن تبيح الرق ، وقد ترك لإمام المسلمين الحرية فيما يراه صالحا وموافقا لمصلحة الدولة من ناحية الأسرى فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [سورة محمد آية 4]. وفي هذا الحكم خاصة نظر القرآن إلى مصلحة المرأة نفسها ، إذ غالبا زوجها قتل في الحرب وفرق بينه وبينها ، فلن يعود إليها. فبدل أن تكون جرثومة فساد ، أو عالة على المجتمع ، ندب لها كافلا أو زوجا يكفيها مئونة العيش ولم يتركها. بل أمره بالعدل معها والرحمة ، وحثه على العتق ورغبه فيه ، وشرطه في كثير من الكفارات.
وبالجملة فقد حرم اللّه علينا المحصنات من النساء إلا ما سبيناهن في حروب دينية.
وعلى هذا الأساس فليس هناك رق في العالم يقره الإسلام ويرضاه إلا لضرورة.
كتب اللّه علينا هذه المحرمات كلها ، وأحل لكم ما وراء ذلك المذكور من المحرمات في قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ... إلى هنا ، وكذا المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره ، والمشركة حتى تسلم ، فعل ذلك لأجل أن تبتغوا النكاح الحلال وتطلبوه بأموالكم متى تدفعونها للزوجة أو ثمنا للأمة بشرط قصد الإحصان والإعفاف. لا بقصد سفح الماء والزنا محصنين أنفسكم وزوجاتكم غير مسافحين ولا زانين.
فالقصد الصحيح الشرعي من الزواج هو الإعفاف ، وحفظ الماء ، والنسل الطاهر ، فيختص كل رجل بأنثى وكل أنثى برجل ، وهذا هو معنى الإحصان وعدم سفح الماء ، فإن الزاني لا يريد باتصاله بالمرأة إلا سفح الماء فقط استجابة لداعي الطبيعة الحيوانية فيه.(1/358)
ج 1 ، ص : 359
فما استمتعتم به من النساء فآتوهن مهورهن التي اتفقتم عليها وفرضتموها على أنفسكم ، فريضة من اللّه العليم الحكيم.
والمهر ليس في مقابلة المتعة للرجل ، وحق الإشراف على البيت والقيامة على المرأة ، وإنما هو لتحقيق العدل والمساواة ودليل المحبة والإخلاص ، ولذا سماه اللّه نحلة وعطية ، ولا جناح عليكم فيما لو تراضيتم واتفقتم بعد العقد ، فزدتم في المهر أو نقصتم فيه أو تنازلت الزوجة عن شيء لمصلحة الحياة الزوجية وعلامة على الإخلاص والتعاون إن اللّه كان عليما بكل نية وقصد ، حكيما في كل قانون يسنه لعباده.
والمهر يجب بالعقد أو الدخول ، وفي بعض المذاهب بالخلوة الصحيحة.
متى تنكح الأمة وما جزاؤها على الفاحشة [سورة النساء (4) : آية 25]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
المفردات :
يَسْتَطِعْ الاستطاعة : كون الشيء في طوعك. لا يتعاصى عليك.
طَوْلًا : زيادة وفضلا في المال أو الحال. الْمُحْصَناتِ والمراد هنا : الحرائر.(1/359)
ج 1 ، ص : 360
مُسافِحاتٍ : زانيات. أَخْدانٍ جمع خدن : وهو الصاحب أو الرفيق الذي يزنى سرّا. بِفاحِشَةٍ : بفعلة قبيحة وهي الزنا. الْعَنَتَ أصله : كسر العظم بعد الجبر ، ثم استعير لكل مشقة وضرر.
المعنى :
ومن لم يستطع منكم من جهة الطول والقدرة في المال ، أو الحال لسبب من الأسباب. أن ينكح الحرائر اللاتي أحصنتهن الحرية ، ومنعتهن عن الوقوع في المفاسد خاصة المؤمنات ، فلينكح ما ملكته يمينه من المسبيات في الحرب الدينية من فتياتكم ، والمؤمنات منهن أفضل ، وانظر إلى قوله تعالى : مِنْ فَتَياتِكُمُ بدل إمائكم ، للإشارة إلى أنهن أخواتكن فليعاملن معاملة كريمة عزيزة.
ثم رغب القرآن في نكاحهن بقوله : وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فأنتم أيها المؤمنون أولى ببعض فلا ينبغي أن يعد نكاح الإماء عيبا ، إذ المهم هو الإيمان واللّه أعلم به ، فرب أمة خير من ألف حرة إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ « 1 » .
فانكحوهن أيها الراغبون بإذن أهلهم ، وهم الموالي المالكون ، وقيل : من له ولاية عليهن كالأب والجد أو القاضي والموصى. أدوا إليهن مهورهن كاملة بالمعروف شرعا وعادة بلا نقص أو تهاون ، حالة كونهن متزوجات منكم ، محصنات بكم ، لا مسافحات ولا زانيات ، بمعنى ادفعوا المهر بقصد الزواج والإحصان لا بقصد الزنا والسفاح ، بشرط ألا يكن متخذات أخدان وأصحاب يزنين بهن سرّا.
والفاحشة كانت في الجاهلية على نوعين : سرّا وكان يأنف منها الأشراف ، وجهرا وكان يقوم بها الإماء فقط ، وينصبون علامة حمراء لهن في الجبل بل كان بعضهم يشترى الإماء لهذا ، ولذا نرى اللّه يقول : وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ « 2 » وقيد هنا بقوله : غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ في جانب الإماء لأنهن أقرب إلى الوقوع في الفاحشة من الحرائر ، وعند الكلام على الحرائر قال : مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ لأن الرجال أكثر منهن انقيادا لدواعى الفاحشة وهم الذين يطلبونها من النساء غالبا.
___________
(1) سورة الحجرات آية 13.
(2) سورة الأنعام آية 151.(1/360)
ج 1 ، ص : 361
فإذا أحصن بالزواج ، وقيل : بالإسلام ، فإن أتين بفاحشة الزنا ، فجزاؤهن خمسون جلدة على النصف من الحرة ، وقال العلماء : المتزوجة من الإماء حدّت بالقرآن ، والبكر منهن حدت بالسنة. لما
ورد في الصحيحين من أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ قال : « اجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير » « 1 » .
وإنما كانت الأمة على النصف لأنها ضعيفة المقاومة ، والحرة أبعد عن داعية الفاحشة فلذا رحم اللّه ضعف الأمة!! ذلك أن جواز نكاح الإماء لمن خاف العنت والمشقة في ارتكاب الإثم والفاحشة حيث لم يستطع نكاح الحرة لسبب من الأسباب. وصبركم عن نكاح الإماء خير لكم ، وإن رخص الشارع في نكاحهن للضرورة ، إذ فيه يعرض الولد للرق ، وحق الولي فيها أقوى فلا تخلص للزوج كالحرة فهو يقدر على استخدامها كيفما يريد في سفر أو حضر وعلى بيعها ، وهي ممتهنة خرّاجة ولّاجة واللّه غفور لمن يصبر ، ستار على العيوب والذنوب ، رحيم بكم حيث رخص لكم في نكاحهن للضرورة.
نكاح المتعة : هو نكاح المرأة إلى أجل معين ، وقد أباحه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أولا ثم حرمه تحريما مؤكدا ، وليس في الآية دليل على جوازه خلافا لبعضهم.
تقدير المهر : المهر في الشرع ليس له حد في القلة أو الكثرة إذ
قد ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « التمس ولو خاتما من حديد » « 2 »
وفي القرآن : وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً « 3 » ولكن المغالاة فيه ليست من المصلحة في شيء بل قد تعوق الزوج.
___________
(1) أخرجه البخاري في كتاب البيع باب بيع العبد الزاني رقم 2153.
(2) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب التزويج على القرآن وبغير صداق 5149.
(3) سورة النساء آية 20.(1/361)
ج 1 ، ص : 362
حكم عامة للأحكام السابقة [سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
المفردات :
سُنَنَ : جمع سنة ، وهي الطريقة والشريعة. ضَعِيفاً : غير قادر على مخالفة نفسه وهواه.
المعنى :
بعد ما ذكر اللّه الأحكام السابقة المتعلقة بالبيوت والنكاح - حلاله وحرامه - كأن سائلا سأل : ما هي الحكمة في ذلك ؟ وهل الأنبياء والأمم السابقة كانت مكلفة بمثل هذا ؟ وهل هذه الأحكام مقصود بها التخفيف علينا أم التشديد ؟ فأجاب اللّه بهذه الآيات مبينا الحكم العالية في آياته وأحكامه وأنه ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ « 1 » ..
يريد اللّه أن يبين لكم ما هو خفى عنكم ، ويرشدكم إلى ما فيه مصلحتكم ، ويهديكم إلى مناهج من قبلكم من الأنبياء والصالحين وطرقهم التي سلكوها في دينهم ودنياهم وأن دينهم الذي ارتضاه لهم سابقا لا يبعد عما اختاره لكم.
يريد اللّه أن يرشدكم إلى طاعات وأعمال إن قمتم بها وأديتموها على وجهها كانت
___________
(1) سورة الحج آية 78.(1/362)
ج 1 ، ص : 363
كفارات لكم ولسيئاتكم ، فيتوب عليكم ، ويكفر عنكم إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ « 1 » واللّه عليهم بكل قصد ، حكيم في كل عمل وقانون يسنه لعباده.
واللّه يريد أن يتوب عليكم بما كلفكم به من الأعمال التي تطهركم وتزكى نفوسكم فيتوب عليكم بعد هذا ، ويريد الذين يتبعون الشهوات ويجرون وراءها - فكأنها أمرتهم باتباعها فامتثلوا أمرها - أن تميلوا معهم حيث مالوا ميلا عظيما ، فإن مرتكب الإثم يهمه جدا أن يشاركه غيره فيه إرضاء لنفسه واطمئنانا لها.
يريد اللّه بهذه الأحكام التخفيف عليكم ، حيث أحل لكم نكاح الأمة للضرورة ، وحرم عليكم نكاح هذه المحرمات السابقة ، وخلق الإنسان ضعيفا عن مقاومة الشهوات والوقوف أمام تيارات النساء فإنهن حبائل الشيطان. ولهذا نهانا عن الجلوس مع غير المحارم والحديث معهن لغير ضرورة ، ونهى النساء عن كشف عوراتهن وتبرجهن وعن إبداء زينتهن.
أخرج البيهقي عن ابن عباس - رضى اللّه عنهما - ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، وعد هذه الآيات الثلاث (26 و27 و28) والرابعة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ. والخامسة إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. والسادسة وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
. والسابعة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ.
والثامنة وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ « 2 » .
حدود ومعالم [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 33]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33)
___________
(1) سورة هود آية 114.
(2) وهي على التوالي الآيات : 31 ، 40 ، 110 ، 116 ، 152. [.....](1/363)
ج 1 ، ص : 364
المفردات :
لا تَأْكُلُوا المراد : لا تأخذوا ، وإنما عبر بذلك عن الأخذ لأن الأكل هو المقصود المهم. بِالْباطِلِ الباطل : ما قابل الحق. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ :
لا يقتل بعضكم بعضا. عُدْواناً العدوان : قصد التعدي على الغير.
وَظُلْماً : هو تجاوز الحق بالفعل. نُصْلِيهِ ناراً : ندخله ونحرقه بالنار.
تَجْتَنِبُوا : تتركوا الشيء جانبا. كَبائِرَ : جمع كبيرة ، وهي المعصية التي قرن بها وعيد شديد أو حد في كتاب اللّه أو سنة رسوله كما في بعض الأقوال.
نُكَفِّرْ : نغفر ونمنح. مُدْخَلًا كَرِيماً : مكانا طيبا وهو الجنة.
وَلا تَتَمَنَّوْا التمني : طلب حصول الأمر المرغوب فيه. فَضْلِهِ : إحسانه(1/364)
ج 1 ، ص : 365
ونعمه الكثيرة. مَوالِيَ : جمع مولى ، والظاهر أن المراد به من يحق له الاستيلاء على التركة ، وقيل غير ذلك. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قيل : إن المراد بهم الأحلاف ، فقد كان من عادة العرب أن يتحالف الرجل مع رجل آخر على تبادل النجدة والمعونة ، وكان الحليف يرث السدس. وقيل وهو الظاهر : إن المراد بهم الأزواج.
ونحن في بيوتنا وأسرنا ومجتمعنا الصغير والكبير أحوج ما نكون إلى معرفة حكم اللّه في الاعتداء على المال أو النفس ، ولذا وضعت هذه الآية هنا.
المعنى :
المال شقيق الروح ، والاعتداء عليه يورث العداوة بل قد يجر إلى الجرائم والاعتداء على النفس أقسى اعتداء وأشده ، قد تنجم عنه حروب وثارات ، واجتناب الكبائر وإعطاء الحقوق لأربابها من دعائم المجتمع السليم لذا عالج القرآن هذا بأحسن علاج.
يا أيها المؤمنون : لا تكونوا من ذوى الأطماع في حقوق الغير ، الذين يأكلون أموال الناس بغير حق ، فلا يأكل بعضكم مال أخيه الذي بينه وبينه ويتخاصم لأجله بالباطل ، ولكن كلوه عن طريق التجارة ما دامت عن تراض منكم ليس فيها كذب ولا خداع ولا غش ولا تدليس.
والتجارة مشروعة ، ومتى كانت بالتراضي مع الذكاء وحسن العرض وجذب قلوب الناس بحسن الكلام والوسائل المغرية غالبا يأتى معها الربح الكثير ، وإنما أضاف الأموال إلى الجميع (أموالكم) للإشارة إلى أن مال الفرد مال الأمة ، والاعتداء على مال الفرد اعتداء على مال الأمة جمعاء ، فنحن خلفاء اللّه في هذا المال. والمال للكل ، فالفقير والمحتاج له منه نصيب فلا تمنعوه ... وهذه هي الاشتراكية الإسلامية ، احترام الملكية وإيجاد حق معلوم للسائل والمحروم بالزكاة المقيدة والمطلقة ، وحث على العمل ومنع الاعتداء على حق الغير إلا بحق الإسلام.
واستثناء التجارة من الأكل بالباطل فيه إشارة إلى أن معظم أنواع التجارة يدخل فيها أكل مال الغير ، وإنما أبيحت للترغيب فيها « تسعة أعشار الرزق في التجارة » فهي عماد الحياة ودعامة العمران. متى خلت من الغش والكذب.(1/365)
ج 1 ، ص : 366
ولا يقتل بعضكم بعضا ، وفي تعبير القرآن وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إشارة إلى أن من قتل غيره فكأنما قتل نفسه (بالقصاص) بل من قتل غيره فقد اعتدى على الأمة كلها وهو فرد منها مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً « 1 » فدم المسلم على المسلم حرام إلا من ارتد أو زنى وهو محصن أو قتل عمدا.
وإذا كان قتل الغير على هذا الوضع. كان قتل النفس (الانتحار) أشد جرما وأفظع ذنبا لا يصح أن يصدر من مؤمن ، ولذا لم ينهنا عنه القرآن صراحة.
إن اللّه كان بكم رحيما ، حيث حرم الاعتداء على الغير في المال والنفس إلا بحق الإسلام ، من يفعل ذلك الاعتداء بقصد الجور والظلم فقد استحق من اللّه عقوبة صارمة وهي إصلاؤه النار وإدخاله فيها وبئس المصير وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء 93] وكان ذلك على اللّه يسيرا وسهلا تحقيقه فهو القادر على كل شيء ، مالك الملك والملكوت فلا يغرنك حال الكافرين والعصاة فاللّه يمهل ولا يهمل ، سنة اللّه ولن تجد لسنة اللّه تبديلا.
نهى اللّه عن أكل أموال الناس بالباطل ، وعن القتل بغير حق ، وتوعد من ارتكب ذلك بأقسى العقوبة ، ثم ذكر في هذه الآية نهيا عامّا لكل كبيرة ووعد من يمتثل بمحو السيئة ودخول الجنة.
اختلف العلماء في المعصية وتحديدها وهل فيها كبيرة وصغيرة ؟ أم كلها كبائر ؟
وأحسن الآراء أن لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار ، فالمعصية إن صاحبها استخفاف بالدين ، واستهانة به مع الإصرار فهي كبيرة من الكبائر.
وإذا نظرت إلى الزنى وقبلة المرأة أو النظر إليها رأيت أن الزنى كبيرة بلا شك بالنسبة إلى النظر أو القبلة. وعلى هذا الأساس جاء حد الكبائر في الأحاديث الشريفة ،
فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « اجتنبوا السبع الموبقات : - أى : المهلكات - قالوا : وما هي يا رسول اللّه ؟ قال : الشرك باللّه ، وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ، والسحر ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي
___________
(1) سورة المائدة آية 32.(1/366)
ج 1 ، ص : 367
يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات »
وقد رويت عدة روايات ثابتة ، فيها غير هذه الكبائر كشهادة الزور مثلا ... إلخ.
وخرج علماء الحديث ذلك على أن الرسول كان يذكر في كل مقام ما يناسبه ، فلم يكن ذلك على سبيل الحصر ، على أن الشارع نظر إلى عدم تحديد الكبيرة والصغيرة رجاء أن تجتنب المعاصي كلها ، كما أخفى الصلاة الوسطى ، وليلة القدر ، وساعة الإجابة لنحافظ على الكل.
واجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن تدعوه امرأة ذات حسن وجمال إلى نفسها ، فيأبى ذلك خوفا من اللّه لا لشيء آخر ، فهؤلاء الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم البسيط من السيئات ، والمعاصي التي تحصل لظرف طارئ كثورة أو غضب ثم يعقبها تأنيب وندم ، هؤلاء يكفر اللّه عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات النعيم ، نزلا من عند اللّه مباركا طيبا إنه واسع المغفرة.
بعد أن نهى اللّه - سبحانه وتعالى - عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل النفس بغير حق ، نهى عن كل الكبائر ، توعد على ذلك وأوعد ، نهى في الآية عن سبب كل هذا وهو تمنى ما عند الغير ، وحثنا على العمل والكسب حتى لا نطمع فيما في أيدى الناس.
وقد ذكروا في أسباب نزول الآية عدة روايات ، كلها تدور حول تمنى الرجال.
مضاعفة الثواب كما ضوعف حظهم في الميراث ، وتمنى النساء الجهاد مثل الرجال وغير ذلك.
ينهانا اللّه - سبحانه وتعالى - عن أن يتمنى كل مكلف منا - ذكرا كان أو أنثى - ما فضل اللّه به غيره ، بل الواجب على كل منا أن يعمل ويكتسب ويجد ويجتهد ، فله في كل عمل أتقنه وأخلص فيه نصيبه من الحسنات ، وعلينا أن نوجه أفكارنا إلى الخير وإلى ما يغذى العقل ويزكى النفس ، واسألوا اللّه أن يهبكم من فضله ويمن عليكم من نعمه ، فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ « 1 » ولذا ختم اللّه الآية بقوله إن اللّه كان بكل شيء عليما.
واللّه - سبحانه وتعالى - خص كلا من الرجال والنساء بأعمال تتفق وطبيعة كل ،
___________
(1) سورة الشورى آية 27(1/367)
ج 1 ، ص : 368
وحثهم جميعا على العمل بالإشارة في قوله اكْتَسَبُوا الذي يفيد المبالغة والتكلف في العمل والكسب.
وانظر إلى قوله تعالى : بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ إذ فيه إيجاز بديع ، فالآية تشمل كل تفضيل واقع بين الرجال والنساء وبين النساء والرجال ، أفرادا وجماعات.
وهذا التفضيل يشمل الخلقي ، ويشمل التفاضل فيما يدخل فيه العمل والاجتهاد كالعلم وتحصيل المال أو الجاه مثلا ، وهذا هو المقصود بالنهى في الآية. ومن السخف أن يتمنى الإنسان أن يكون قوى البنية أو صحيح الجسم أو ذكرا أو أنثى.
والخلاصة : إننا نهينا عن التمني مع الكسل والخمول ولا يتمنى هذا إلا ضعيف الهمة وضعيف الإيمان ، ولا شك أن هذا يجر إلى التعدي على الغير والحسد والحقد ... إلخ. وينبهنا اللّه بقوله : لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا إلى الكسب والعمل. وفقنا اللّه إلى ما فيه الخير والسداد.
بعد أن نهى اللّه - سبحانه وتعالى - عن أكل أموال الناس بالباطل وعن تمنى ما للغير من مال أو جاه ، والمال هو المقصود ويأتى عن طريق الكسب وعن الإرث ، قال اللّه - تعالى - قطعا للأطماع ووضعا للأمور في نصابها : (و لكل) من الرجال والنساء (جعلنا موالي مما ترك) يحق لهم الاستيلاء على التركة وأخذها.
والمولى : هم (الوالدان والأقربون) والأزواج ، فآتوهم نصيبهم كاملا من غير نقصان ، واعلموا أن اللّه كان ولا يزال على كل شيء تفعلونه شهيدا فيجازيكم عليه يوم القيامة ، فلا يحملنكم الطمع وحسد بعضكم لبعض من جراء زيادة نصيبه في الميراث على أن يأكل من حق غيره سواء كان ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا.(1/368)
ج 1 ، ص : 369
تنظيم الحياة الزوجية [سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
المفردات :
قَوَّامُونَ : يقومون بأمرهن ويحافظون عليهن بعناية ورعاية تامة. قانِتاتٌ القنوت : السكون والطاعة. لِلْغَيْبِ : ما غاب واستتر من أمور الزوجية. نُشُوزَهُنَّ النشوز : ارتفاع الأرض عما حولها ، والمراد : عصيان المرأة وترفعها على زوجها. شِقاقَ : نزاع وخصام ، كأن كلا منهما في شق وجانب.
حَكَماً الحكم : من له حق الفصل بين الخصمين.
المناسبة :
لما نهى اللّه - سبحانه وتعالى - عن تمنى الرجال والنساء ما فضل اللّه به بعضهم على بعض ، وأمرهم بالعمل والجد ، وإعطاء كل وارث نصيبه في الميراث وفيه تفضيل الرجال على النساء. ذكر هنا معالم لتدعيم الرابطة الأسرية.(1/369)
ج 1 ، ص : 370
المعنى :
من حكم اللّه العالية أن جعل الرجال من شأنهم وطبيعتهم أن يقوموا بأمر النساء والإرعاء عليهن خير قيام ، وتبع ذلك فرض الجهاد ، وحماية الذمار ، والإنفاق على النساء من أموالهم ، ولذا جعل اللّه حظهم في الميراث ضعف النساء.
وذلك بما فضل اللّه به بعض الرجال على بعض النساء ، فالرجل كامل الخلقة قوى الإدراك ، معتدل العاطفة ، سليم البنية ، كما فضلهم بوجوب الإنفاق على الزوجة والقريبة ووجوب المهر على أنه تعويض أدبى للمرأة ومكافأة على الدخول في حماية الرجل وحصن الزوجية ، وفيما عدا ذلك فالرجل والمرأة متساويان في كل الحقوق والواجبات ، ذلك من مفاخر الدين الإسلامى وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وهي رئاسة البيت والقيام عليه ، ومعناها تصرف المرأة بكامل حريتها في حدود الشرع وحدود ما يرضاه الزوج ويحبه ، فتحفظ منزله وتدبره بالحكمة وترعى أولاده. وتحفظ نفسها وعرضها ، وتنفق على حسب طاقة الزوج ، وفي ظل كفالة الرجل وحمايته يمكنها أن تقوم بوظائفها الطبيعية كالحمل والولادة والإرضاع ... إلخ ، وليست القوامة على النساء سلطة وتحكما ، ولكنها إرعاء وتفهم.
هؤلاء النساء لهن في الحياة المنزلية حالتان :
فالصالحات منهن قانتات مطيعات لأزواجهن ، حافظات لما غاب واستتر من أمور الزوجية التي لا يصح أن يطلع عليها أحد مهما كان ، كالأعراض وما يحصل في الخلوات ، وذلك بما وعدهن اللّه من الثواب العظيم على حفظ الغيب ، وبما أوعدهن من العقاب الشديد على إفشائه ،
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « خير النساء : التي إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها »
وهؤلاء ليس لكم عليهن إلا المعاشرة بالمعروف ، والمخالطة بالحسنى والآداب الإسلامية.
الحالة الثانية تظهر في هذا الصنف :
واللاتي تخافون أن يرتفعن عن حدود الزوجية وواجباتها فعلى الزوج أن يتبع التعليمات الآتية :(1/370)
ج 1 ، ص : 371
(أ) أن يعظها بما يناسبها من تخويف باللّه ، وأن هذه معصية ستعاقبين عليها يوم القيامة وأن يهددها ويحذرها سواء العاقبة ، وأنه سيحرمها بعض الهدايا والتحف ، واللبيب أدرى بحالة امرأته.
(ب) الهجر والإعراض عنها فلا يضاجعها حتى تتبصر في أمرها وتفكر في فعلها فربما رجعت عن نشوزها.
(ج) الضرب غير المبرح ، أى : المؤذى إيذاء شديدا.
وليس معنى هذا أن الضرب دواء يعطى لكل امرأة ، لا : بل قد تكون هناك نساء شواذ لا يصلح لهن إلا الضرب ومع هذا فديننا يأمرنا بالإحسان في المعاملة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ « 1 » وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم » ؟ ؟ « 2 »
فالضرب علاج مرّ قد يستغنى عنه الكريم الحر.
فإن أطعنكم وعولج حالهن بواحد من هذا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ « 3 » ولا تبغوا في الاعتداء عليهن سبيلا ، إن اللّه كان عليّا كبيرا ، ومع هذا فهو يقبل التوبة ويعفوا عن السيئة ، وللّه المثل الأعلى ، فعاملوا من هو أضعف منكم بالحسنى والمغفرة.
قد لا ينتهى الحال عند هذا وقد تكون المرأة مظلومة فيتسع النزاع.
والعلاج أن يبعث الأهل أو الجيران وكل من يهمهم الأمر رجلا حكما من جانب الزوج وحكما من جانب الزوجة بشرط العدالة فيهما والقرابة والخبرة في شئون العائلات ونظام البيوت مع توفر حسن النية ، وهما إن يريدا إصلاحا وتوفيقا بين الزوجين قاصدين وجه اللّه فاللّه سيوفق ويهدى إلى الخير ، وإلا فقد يكون من الخير لهما الطلاق.
إن اللّه كان عليما بنا وبأحوالنا ، خبيرا بأمورنا ، وأفضل علاج يرتضيه هو العلاج الحاسم والدواء الناجع وليس علينا إلا اتباعه ، واللّه الموفق.
___________
(1) سورة البقرة آية 228.
(2) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب ما يكره من ضرب النساء 5204.
(3) سورة الأحزاب آية 25.(1/371)
ج 1 ، ص : 372
وعظ وإرشاد [سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 39]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)
المفردات :
وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى : صاحب القرابة ، أى القريب. وَالْجارِ الْجُنُبِ :
البعيد منك. وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قيل : المراد به الرفيق في السفر ، أو من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا. وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ : تقدم تفسيرها في آية « ليس البر » ج 2. مُخْتالًا : ذا الخيلاء والكبر الذي يظهر تكبره في أفعاله(1/372)
ج 1 ، ص : 373
وأعماله. فَخُوراً : هو المتكبر الذي يعدد محاسنه وأعماله تعاظما وتعاليا.
وَأَعْتَدْنا : هيأنا وأعددنا. مُهِيناً ذا إهانة وذلة. رِئاءَ النَّاسِ : للرياء والسمعة. قَرِيناً : صاحبا وخليلا.
المناسبة :
الكلام من أول السورة إلى هنا في ربط أواصر الصلات وتنظيم حال البيوت والأسر مع العناية بالقرابة والمصاهرة ، ثم ناسب هنا ذكر بعض الحقائق التي تنظم المجتمع ، وتبنى الأسرة على أساس من التعاون وحسن المعاملة ، وقد صدّر هذا الإرشاد بالأمر بعبادة اللّه تعالى لأنها الأساس الأول ومصدر الخير والهداية.
المعنى :
عبادة اللّه - سبحانه وتعالى - هي الخضوع له غاية الخضوع ، مع إشعار القلب بتعظيم اللّه وإجلاله ، في السر والعلن ، والخشية منه وحده ، واعبدوا اللّه وحده مخلصين له الدين ، ولا تشركوا به شيئا من الإشراك حتى يكون العمل للّه وحده.
وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، فلا تقصروا في حقوقهما ، وقوموا بخدمتهما كما يجب من غير تأفف أو تألم فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء 23 - 24].
ولأن حب الوالد لولده غريزة وطبيعة لم يأمرنا اللّه العطف على الأولاد.
وأحسنوا لذوي القربى كالأخ والأخت والعم والخال وأبنائهما ، فإن الإنسان إذا أحسن للوالدين والأقارب تكونت أسرة قوية متعاونة متساندة. وهي نواة المجتمع ومنها تتكون الدولة ، لا سيما إذا كان هذا العمل بعد الإيمان باللّه والإخلاص له.
وأحسنوا لليتامى فقد فقدوا آباءهم ولا عائل لهم ، والمساكين فقد فقدوا أموالهم لضعف أو عجز أو آفة لا لكسل أو خمول أو إسراف في الشر ، وأحسنوا للجار القريب إذ له عليكم حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام ، والجار البعيد عنكم في النسب(1/373)
ج 1 ، ص : 374
أو الدار ، وقيل : المراد به الجار ولو كان كافرا ،
فقد روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يعطف على جار له يهودي ويزور ابنه
، و
قد قال الرسول : « ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه » . « ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره » .
والصاحب بالجنب كالرفيق في السفر ، ومن عرفته ولو مدة قصيرة ، وابن السبيل :
المنقطع في سفره عن أهله وماله واللقيط من باب أولى. كل هؤلاء الإحسان إليهم من إرشادات الدين ودعائمه ، وأما عبيدكم وإماؤكم فأحسنوا إليهم بالعتق أو بالمساعدة عليه بالمال ، وإذا كلفتموهم فأعينوهم على أعمالهم ، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون ، وليأكلوا مما تأكلون وليشربوا مما تشربون فهم إخوانكم ، وهكذا تكون الاشتراكية الحقيقية للعمال ، وهكذا الدين الإسلامى يعامل الأرقاء بهذا فما بال الأحرار! ثم بعد هذا كله ذكر القرآن العلة في الامتثال وأن من يخالف هذه الوصايا ينطبق عليه الوصف الآتي المفهوم من قوله إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ « 1 » .
المختال : من تمكنت من نفسه صفة الكبر حتى ظهرت على حركاته وأعماله ، والفخور : المعتد بنفسه المتحدث بعمله كبرا وانتقاصا لحقوق الغير ، والمختال الفخور مبغوض من عند اللّه والناس أجمعين ، إذ لا يعقل أنهما يمتثلان أمر اللّه في الوصايا ، إذ العبادة خضوع وخشوع وقلبهما بعيد عن هذا ، وهما لا يقومان بحق الغير لأنهما لا يشعران بحق للغير عليهما كبرا وبطرا ، ولقد صدق رسول اللّه حيث قال ما معناه :
« الكبر بطر الحق وغمط الناس »
وبطر الحق : رده استخفافا وترفعا ، وغمط الناس :
استحقارهم والازدراء بهم ، وقد فسر القرآن الكريم المختالين الفخورين بأنهم الذين يبخلون فلا يعطون ، ويأمرون غيرهم بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم اللّه من فضله كالعلم والمال.
وقد روى عن ابن عباس : كان جماعة من اليهود يأتون رجالا من الأنصار ينصحون لهم فيقولون : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر ، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون ، ويشمل البخل في الآية البخل بالمال وبالإحسان في الكلام وبالنصيحة.
هؤلاء هيأ اللّه لهم وأعد لهم بسبب كبرهم وبخلهم ، وكتمانهم الحق ، وعدم شكرهم
___________
(1) سورة لقمان آية 18.(1/374)
ج 1 ، ص : 375
عذابا يهينهم ويذلهم ، وقد سماهم اللّه كفارا للإشارة إلى أن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة اللّه ، ومن كان كافرا بنعمة اللّه فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.
والذين ينفقون أموالهم للرياء والسمعة ، لا شكرا للّه على النعمة ، ولا اعترافا لعباده بحق والمرائى أقل خطرا من البخيل ولذا أخر في الذكر. وهم لا يؤمنون باللّه حقا - لأن المؤمن الكامل لا ينفق رياء بل للّه - ولا يؤمنون باليوم الآخر. إذ هم لو كانوا كذلك ما راءوا أحدا بل يعملون لهذا اليوم وهؤلاء هم قرناء الشيطان يوحى إليهم ويعدهم بالفقر لو أنفقوا ، ويأمرهم بالفحشاء والمنكر ، ومن يكن الشيطان له قرينا فبئس هذا القرين.
أى ضرر كان يلحقهم لو آمنوا حقيقة باللّه وعملوا لليوم الآخر الذي فيه الجزاء وآمنوا به ، وأنفقوا مما رزقهم اللّه ابتغاء رضوانه وامتثالا لأمره ؟ وهذا الأسلوب للتعجب من حالهم إذ هم لو أخلصوا العمل لما فاتهم ما يطلبون من منافع الدنيا والآخرة ، فحالهم حقيقة جدير بالعجاب.
وكان اللّه بهم عليما وخبيرا وسيجازيهم على أعمالهم ، فعلى المؤمن أن يعتقد أن اللّه يراه ويحاسبه على عمله فإنه إن لم يكن يرى اللّه فاللّه يراه.
ترغيب وتحذير [سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)(1/375)
ج 1 ، ص : 376
المفردات :
لا يَظْلِمُ الظلم : النقص وتجاوز الحد. مِثْقالَ أصله : المقدار الذي له ثقل ، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب. ذَرَّةٍ : أصغر ما يدرك من الأجسام ، وقيل : الجزء الذي لا يتجزأ ، وقيل : هي ما يرى في نور الشمس إذا دخلت من نافذة ، والذرة الآن لها اصطلاح علمي آخر.
المناسبة :
بعد الإرشادات السابقة من الأوامر والنواهي ، رغب - سبحانه - في الامتثال وحذر من المخالفة والعصيان بهذه الآيات.
المعنى :
اللّه - سبحانه وتعالى - متصف بكل كمال ، ومنزه عن كل نقص ، ومن النقص الظلم ، ومن الظلم أن ينقص أحدا من أجر عمله شيئا ولو بسيطا جدّا أو يعاقب أحدا مهما كان بغير ما يستحق وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً « 1 » . فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ « 2 » .
واللّه خلق الخلق ولهم عقول ومشاعر تدرك بعض الخير والشر ، وأرسل لهم رسلا وأنزل معهم كتبا لتمام هدايتهم مع المبالغة في التحذير والإنذار ، فمن اجترح سيئة بعد ذلك ، ووقع فيما يضره ويؤذيه كان هو الظالم لنفسه وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ « 3 » .
ومن فضله وإحسانه أنه يضاعف الحسنة إلى عشرة ، ويجزى السيئة بمثلها فقط مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها « 4 » واللّه يضاعف بعد هذا لمن يشاء ، ويؤتى من لدنه أجرا عظيما فهو واسع الفضل كثير الخير.
وإذا كان هذا هو النظام العام في الثواب والعقاب ، فكيف حال هؤلاء الكفرة ؟ إذا جاء يوم القيامة وشهد عليهم أنبياؤهم وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ « 5 » وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا « 6 » .
___________
(1) سورة الأنبياء آية 47.
(2) سورة الزلزلة الآيتان 7 و8.
(3) سورة فصلت آية 46.
(4) سورة الأنعام آية 160.
(5) سورة فاطر آية 24.
(6) سورة الإسراء آية 65.(1/376)
ج 1 ، ص : 377
وقيل : معنى الشهادة أن أعمالهم تقاس بأعمال أنبيائهم ، وتعرض عليهم يوم القيامة. وأما الرسول الأعظم خاتم الأنبياء والمرسلين فهو شهيد على الأنبياء جميعا صلّى اللّه عليه وسلّم
روى البخاري والنسائي من حديث ابن مسعود أنه قال : قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : اقرأ علىّ ، قلت : يا رسول اللّه : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : نعم أحب أن أسمعه من غيرى ، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : حسبك الآن. فإذا عيناه تذرفان.
فانظر كيف بكى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لهذا اليوم ؟ ! يومئذ يلاقون ما يلاقون ، يومئذ يود الذين كفروا باللّه وعصوا رسول اللّه أن يدفنوا في الأرض كالبهائم ويسوى بهم فيكونون سواءا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
«
1 » وأنهم يودون لو يكونون ترابا فتسوى بهم الأرض ، والحال أنهم لا يكتمون اللّه حديثا ولا يكذبون في قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ « 2 » لأنهم حينما يقولون ذلك تنطق عليهم أيديهم وأرجلهم بأعمالهم والشهادة عليهم بالشرك ، فلشدة الأمر عليهم يتمنون لو تسوى بهم الأرض.
بعض شروط الصلاة مع بيان رخصة التيمم [سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
___________
(1) سورة النبأ آية 40.
(2) سورة الأنعام آية 23. [.....](1/377)
ج 1 ، ص : 378
المفردات :
سُكارى : جمع سكران وهو من الخمر. جُنُباً : من أصابته الجنابة كإنزال المنى أو الجماع. الْغائِطِ : المكان المطمئن من الأرض كان بقصد قديما لقضاء الحاجة فجعل كناية عنها أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ : كناية عن الجماع ، وحقيقته : اللمس المشترك من الجانبين ، فَتَيَمَّمُوا أى : اقصدوا. صَعِيداً :
وجها طاهرا للأرض عَفُوًّا : ذو العفو ، وهو محو السيئة من أساسها.
غَفُوراً : ذا المغفرة ، وهي ستر الذنب وقد يبقى أثره.
سبب النزول :
روى أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا ودعا نفرا من الصحابة حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا ، فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم للصلاة فقرأ : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فنزلت الآية
فحرموا الخمر وقت الصلاة ، وكانوا يشربونها ليلا حتى نزلت آية التحريم الكبرى.
وروى أن السيدة عائشة كانت في سفر ففقدت عقدها فنزل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يلتمسه والناس حوله وليسوا على ماء. فنزلت الآية وصلوا بالتيمم
. وقد جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة وجعل يقول : ما أكثر بركتكم يا آل أبى بكر. ما نزل بك يا عائشة أمر تكرهينه إلا جعل اللّه تعالى فيه للمسلمين فرجا ، والظاهر أن صدر الآية نزل لحادثة الخمر وعجزها في حادثة السفر.
المعنى :
لما نهى اللّه - سبحانه - فيما مضى عن الشرك وارتكاب الكبائر نهى هنا عما يؤدى إليه وهو السكر. يا أيها الذين آمنوا : احذروا أن يكون السكر وصفا لكم عند حضور الصلاة والقيام لها ، فتصلوا وأنتم سكارى ، وامتثال النهى يكون بترك السكر وقت الصلاة وفيما يقرب منها ، والخطاب في الآية موجه للمؤمنين قبل السكر ليجتنبوه.(1/378)
ج 1 ، ص : 379
حتى تعلموا ما تقولون وتدعون به ربكم : إذ السكر يتنافى مع الصلاة التي تحتاج إلى خشوع وخضوع واتجاه للّه بالقلب ودعائه باللسان.
ولا تقربوا الصلاة حالة كونكم جنبا إلا في حالة عبور السبيل واجتياز الطريق ، وهل المراد بالصلاة حقيقتها ؟ أو مكانها ؟ الأصح أن يراد بها هذا وذاك ، لا تقربوها مع الجنابة أصلا حتى تغتسلوا ، والغسل : أن يعم الماء جميع الجسد إذ عند الجنابة توجد حالة عصبية عامة في الجسد يتبعها انحلال عام فيه ، وهذا الانحلال يذهب بالغسل.
الصلاة هي الركن الأول العملي في الدين ، وهي الصلة بين العبد والرب تتكرر خمس مرات في اليوم ، وهي مطلوبة طلبا لا هوادة فيه ، إلا أن الطهارة لها قد تتعذر على المسلم لمرض أو عذر ، فرخص الشارع الرحيم في التيمم لها حتى لا يعذر في تركها إنسان.
وكان التيمم بالتراب إذ لا يعقل أن يفقده الإنسان بحال من الأحوال بخلاف الماء ، على أنا خلقنا من التراب وكانت صورته كما ستعرف لإشعار الشخص بإجراء عملية تشبه الوضوء في أهم أركانه.
وإن كنتم مرضى مرضا يتعذر معه الوضوء أو الغسل ، أو في سفر من الأسفار وتعذر استعمال الماء لفقده أو لمشقة السفر ، أو أحدثتم حدثا أصغر يوجب الوضوء كخروج شيء من أحد السبيلين ... إلخ ، ما هو معروف في كتب الفقه الإسلامى. أو أحدثتم حدثا أكبر يوجب الغسل - كالجماع مثلا ولم تجدوا الماء لتعذر وجوده واستعماله لسبب من الأسباب.
فاقصدوا وجها للأرض طاهرا لا نجاسة فيه ، له غبار عند بعض العلماء والبعض لا يشترط فيكفى حجر صلب ... وتيمموا.
والخلاصة : أن التيمم رخصة تغنى عن الوضوء والغسل عند تعذر استعمال الماء لسبب من الأسباب التي ذكرت بالتفصيل في كتب الفقه.
وكيفية التيمم : نية وضربتان على تراب ولو كان غبارا من حشية (مرتبة) الأولى للوجه ، والثانية لليدين ، ثم لك بعد هذا أن تصلى وتقرأ القرآن ... إلخ ، كأنك متوضئ أو مغتسل ، وللتيمم أحكام كثيرة في كتب الفقه.(1/379)
ج 1 ، ص : 380
إن اللّه كان غفورا حيث سهل الصلاة للمعذور بدون وضوء وغسل ، ونحن يا أمة النيل لكثرة نعم اللّه علينا ولجريان النيل تحت أقدامنا ، قد لا نشعر بفقد الماء وبالحاجة للتيمم ، ولكن الدين الإسلامى دين عالمي للصحراء وللوديان ، وقد عفا عمن صلى في حالة السكر قبل هذا ، واللّه عفو عن الذنب ، ومن كان عفوّا غفورا آثر التسهيل ولم يشدد علينا. سبحانه من رءوف رحيم ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 78].
اليهود وأعمالهم [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
المفردات :
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أى : جزءا من التوراة. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ : يميلونه ويزيلونه عن مواضعه. غَيْرَ مُسْمَعٍ : يحتمل غير سامع مكروها ، أو غير مقبول منك ولا مسموع دعاؤك. وَراعِنا يحتمل انظرنا وأمهلنا ، أو بمعنى الرعونة والطيش ، أو هي كلمة عبرية كانوا يتسابون بها وهي راعينا. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ : فتلا بها وتحريفا. طَعْناً فِي الدِّينِ قدحا فيه وذمّا.(1/380)
ج 1 ، ص : 381
المناسبة :
بعد ذكر هذه الأحكام العامة المتعلقة بالفرد والجماعة ، أراد القرآن الكريم أن يرشدنا إلى خطر تركها أو العمل ببعضها ، بالكلام على الأمم السابقة الذين أوتوا الكتاب فنسوا حظا منه وعملوا ببعض ما فيه فكان الخطر عليهم إذ اللّه بهم وبنا محيط.
المعنى :
ألم ينته علمك أيها المخاطب إلى الذين أوتوا جزءا من التوراة ، وأما بقية الكتاب فلإهمالهم أمر التدوين والحفظ ضاع شيء منه. وبتلبيس رجال الدين وإنقاصهم منه تبعا لأهوائهم وتحريفهم ضاع جزء آخر ، ولذا وصفهم القرآن بأنهم أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ وبقوله : فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وأما قوله في موضع آخر :
أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فلتسجيل تقصيرهم ، وقيل : المراد جنس الكتاب.
ألم تر إلى الذين أوتوا جزءا من الكتاب ، يستبدلون الضلالة بالهدى ويأخذون الكفر بدل الإيمان ، ويريدون منكم أن تضلوا معهم الطريق المستقيم ، واللّه أعلم بأعدائكم أيها المؤمنون ، فامتثلوا أمره ، واحذروا أعداءكم من أهل الكتاب وكفى باللّه وليّا يتولى أمركم ، وكفى به نصيرا ينصركم إن نصرتموه كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
.
ثم بين اللّه الذين أوتوا نصيبا من الكتاب وهم أعداؤنا فقال : من الذين هادوا نعم منهم قوم يحرفون الكلم الذي أنزله اللّه عليهم في التوراة عن مواضعه الأصلية بأن يزيلوه عن مواضعه أصلا أو يضعوه في غير مكانه ، وقيل : المراد يحرفونه عن معناه ، فيفسرونه بغير المراد تضليلا للناس وتلبيسا عليهم ، وقد فعل اليهود كل ذلك ، فغيروا وصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والبشارة به وفسروا الكلام بغير معناه كما في آية الرجم.
وهم يقولون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : سمعنا وعصينا ، بدل قولهم : سمعنا وأطعنا.
وكانوا يقولون حسدا وحقدا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم واسمع غير مسموع لك دعاؤك أو غير مقبول منك ، ويحتمل واسمع غير سامع مكروها كما يقال : واسمع لا سمعت مكروها ، كانوا يخاطبون به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم استهزاء مظهرين إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأول.(1/381)
ج 1 ، ص : 382
وكانوا يقولون : راعنا ، وهو كلام أيضا كالذي قبله يحتمل : انظرنا وتمهل علينا ، ويحتمل أنه من الرعونة والحمق ، أو هي كالكلمة العبرانية (راعنا) وهي كلمة سب عندهم.
فهذه جرائم ثلاث كانوا يقولونها للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم تارة في مجلسه وتارة بعيدا عنه يفعلون هذا ليّا بألسنتهم وفتلا بها وصرفا للكلام عن إرادة الخير إلى إرادة الشر والسب وطعنا في الدين وقدحا فيه بالاستهزاء والسخرية.
وهذا منتهى الجرأة في الباطل والعدوان على الحق ، ولو أنهم قالوا عند ما سمعوا أمرا أو نهيا : سمعنا وأطعنا ، بدل : سمعنا وعصينا ، ولو أنهم قالوا : اسمع وانظرنا عند خطاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بدل : اسمع غير مسمع ، وراعنا لو ثبت هذا لكان خيرا لهم ، وأهدى سبيلا ، ولكن لم يقولوا ذلك فخذلهم اللّه ولعنهم وطردهم من رحمته فهم لا يوفقون أبدا لخير ، ولذا فإنهم لا يؤمنون أبدا إلا إيمانا قليلا لا إخلاص فيه أو إلا قليلا منهم كعبد اللّه ابن سلام وأضرابه.
تهديد ووعيد لأهل الكتاب [سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 48]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
المفردات :
الطمس : الإزالة ، ومنه طمس الدار ، أزال معالمها. وُجُوهاً الوجه :
تارة يراد به الوجه المعروف ، وتارة يراد به وجه النفس ، وهو ما تتوجه إليه من(1/382)
ج 1 ، ص : 383
المقاصد ، قال تعالى : وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ. أَدْبارِها : جمع دبر وهو الخلف والقفا. والارتداد : الرجوع إلى الوراء في المحسوسات وفي المعاني. قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ. أَوْ نَلْعَنَهُمْ أو نهلكهم ، وقيل : نمسخهم. افْتَرى :
اختلق.
المعنى :
يا أيها الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى : آمنوا بالقرآن المنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم المصدق لما معكم من التوراة والإنجيل ، وقد وصفهم القرآن بأنهم أوتوا الكتاب مع أنهم ضيعوا جزءا منه وحرفوا جزءا آخر تسجيلا عليهم بالتقصير واستحقاق العقاب.
والأديان السماوية متفقة في الأصول العامة كالتوحيد ونفى الشرك وإثبات البعث والدعوة إلى كريم الأخلاق والقرآن الكريم مصدق لموسى وعيسى بهذا المعنى ، ومعترف بهما وبغيرهما من الأنبياء والرسل ، فكيف لا يؤمن أهل الكتاب بالقرآن وبمحمد ؟ مع أنه جاء مصدقا لما معهم وموافقا لملة إبراهيم - عليه السلام - بل تراهم غيروا وصفه صلّى اللّه عليه وسلّم وبدلوا وأنكروا فقيل لهم : يا أهل الكتاب آمنوا بما أنزلنا من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها ، في كيدكم للإسلام وأهله ، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء ، وذلك بإظهار الإسلام وإعلاء كلمته وافتضاح أمركم وكشف ستركم ، فالطمس والوجه والرد على الأدبار كلها أمور معنوية وقد تحققت ، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ، وقد ورد أن اللّه أهلكهم ، وقد تم ذلك وتحقق الوعيد في كل المعاصرين بإذلال بنى النضير وإجلائهم ، وإهلاك بنى قريظة ، وبعضهم فسر الطمس والوجه والارتداد على الأدبار على أنها أمور حسية ، وتأول في تحقيق ذلك واللّه أعلم بكلامه ، وأنتم تعلمون أن وعيده في الأمم السابقة قد تحقق وحصل فاحذروا وعيده وخافوا عقابه إن وعد اللّه كان مفعولا.
بعد أن وعد اللّه أهل الكتاب وهددهم إن لم يؤمنوا ، وكان وعده مفعولا لا محالة ، ساق هذه الآية لتأكيد ما مضى وتقريره ببيان استحالة المغفرة بدون الإيمان فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون ، ويقولون : سَيُغْفَرُ لَنا على أن المراد بالشرك في الآية مطلق(1/383)
ج 1 ، ص : 384
الكفر الشامل لكفر اليهود وغيرهم ، وهو يظهر في اعتقاد المرء أن لغير اللّه تصريفا في الكون ، ودفعا للضر ، وجلبا للخير ، وفي أخذ الحلال والحرام في الدين عن غير اللّه وكتابه المنزل كما فعلت النصارى اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة التوبة آية 31].
الشرك : هو الغطاء الكثيف الذي يمنع نور الإيمان من الوصول إلى القلب وهو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر ، ومنه تتولد سائر الرذائل التي تهدم الأفراد والجماعات ولا غرابة في ذلك فالمشرك باللّه يفهم في حجر أو بشر مثله أو جماد لا حياة فيه : له تأثيرا في الكون ، ويعبده ليقربه إلى اللّه زلفى ، وبالتوحيد والإيمان : الخلاص من كل ذلك والسمو بالنفس إلى عبادة الرب والاعتماد عليه وحده والتوكل عليه والإخلاص له وفي هذا نور القلب ، وصفاء الروح ، ونور البصيرة ، والعزة الكاملة ، والنص المحقق لهذا كله لا يغفر اللّه الشرك أبدا تغليظا لذنبه ، وامتيازا له عن سائر المعاصي ، ويغفر ما دون ذلك ، لأن نور الإيمان يسترها ، وإنما مغفرة المعاصي لمن يشاء من عباده الموفقين للتوبة والعمل الصالح إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [سورة هود آية 114].
وأما من يشرك باللّه فقد اجترح إثما عظيما ، وأى إثم يقاس بجانب الشرك باللّه ؟
أهل الكتاب وجزاؤهم على أعمالهم [سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 55]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)(1/384)
ج 1 ، ص : 385
المفردات :
يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ : يمدحونها. يُظْلَمُونَ الظلم : النقص وتجاوز الحد.
فَتِيلًا : هو ما تكون في شق نواة التمر مثل الخيط. بِالْجِبْتِ المراد : الأصنام ، وأصله الرديء الذي لا خير فيه. الطَّاغُوتِ : مصدر بمعنى الطغيان والجبروت ، ويطلق على كل ما يعبد من دون اللّه ، وعلى الشيطان. نَقِيراً : هو النقرة التي تكون في ظهر النواة : ويضرب بها المثل في القلة والحقارة. يَحْسُدُونَ الحسد :
تمنى زوال نعمة للغير.
المعنى :
ألم ينته علمك إلى هؤلاء الذين يزكون أنفسهم ، ويدّعون ما ليس فيهم. وأنهم أبناء اللّه وأحباؤه ، لا تمسهم النار مهما فعلوا لكرامتهم على اللّه : وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ « 1 » وما علموا أن تزكية النفس تكون بالعمل الذي يجعلها زكية طاهرة ، وهذه التزكية محمودة عند اللّه والناس ، أما التزكية بالقول والادعاء والاعتماد على ما كان للآباء فهي مستهجنة عند اللّه والناس مبعثها الغرور الكاذب ، والجهل الفاضح ، ولذا يقول اللّه : (بل اللّه يزكى من يشاء) من عباده بتوفيقه للعمل الصالح ، ولا تنقصون شيئا من جزاء أعمالكم مهما كان بسيطا هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى « 2 » فلا عبرة بتزكيتكم أنفسكم يا أهل الكتاب.
___________
(1) سورة البقرة آية 111.
(2) سورة النجم آية 32.(1/385)
ج 1 ، ص : 386
وعلينا نحن المسلمين ألا ندع لهذا الداء طريقا إلى قلوبنا أبدا وألا نغتر بأننا أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وكتابنا خير كتاب ، ونبينا خاتم الأنبياء وأننا الأمة الوسط ، لا : اعملوا فسيرى اللّه أعمالكم :
« اعملي يا فاطمة فلن أغنى عنك من اللّه شيئا » .
انظروا أيها المسلمون كيف يختلقون على اللّه الكذب في دعواهم وتزكيتهم أنفسهم ، وكفى بهذا الافتراء على اللّه إثما مبينا واضحا.
روى عن عكرمة : أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين في مكة يؤلبهم على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يأمرهم أن يغزوه قائلا : إنا معكم نقاتله فقالوا : إنكم أهل كتاب مثله ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم ، فإن أردت أن تخرج معنا فاسجد لهذين الصنمين فسجد. ثم قالوا : نحن أهدى أم محمد ؟ فنحن ننحر الكوماء (الناقة الضخمة) ونسقى الحاج ، ونقرى الضيف ، ومحمد قطع رحمه ، وخرج من بلده ؟ فقال : بل أنتم أهدى سبيلا ، فنزلت تلك الآيات.
ألم ينته علمك إلى أولئك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ومع هذا يؤمنون بالأصنام والطاغوت ويقولون في شأن الذين آمنوا للذين كفروا أى من أجل مخالفتهم : هؤلاء الكفار الجاهليون أهدى من الذين آمنوا سبيلا وأقوم طريقا ، يا عجبا كل العجب :
يقول أصحاب الكتاب والرسل لمن لهم كتاب ورسول مصدق لما معهم مؤيد بكتبهم مبشر به عندهم مثل هذا القول.
أولئك الذين قضى عليهم اللّه بالطرد من الرحمة بسبب كفرهم وعصيانهم ومن يلعن اللّه فلن تجد له نصيرا أبدا.
بل ليس لهم نصيب من الملك ولو كان لهم نصيب منه فرضا ، فهم لا يؤتون غيرهم من الناس أحقر شيء وأبسطه ، وصدق اللّه فهم كذلك في حكمهم الزائل بفلسطين ، وما ذلك إلا لأنهم أنانيون مطبوعون على الأثرة وحب المادة والغرور الكاذب بأنه ليس أحد غيرهم يستحق شيئا.
بل هم يحسدون الناس كمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم على ما آتاه اللّه من فضله كالنبوة والكتاب والحكمة ، ولا غرابة في هذا فقد آتى اللّه آل إبراهيم الكتاب والحكمة والنبوة وآتيناهم ملكا عظيما ، والعرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم ، واليهود من ولد إسحاق بن إبراهيم.(1/386)
ج 1 ، ص : 387
فمن أسلافهم من آمن بما أعطى إبراهيم ، ومنهم من كفر ، وكذا شأن الناس دائما مع الأنبياء قديما وحديثا فلا تأس يا محمد.
والخلاصة : أن حال اليهود لا تخلوا من غرور كاذب أو خطأ فاضح لسجودهم للأصنام ، وشهادتهم أن الجاهليين خير من المؤمنين أو اعتقاد خاطئ في أنهم أصحاب الملك والنبوة فلا يعطى أحد مثلهم ، أو من حسد كامن للعرب على ما أعطاهم اللّه من الكتاب والحكمة والنبوة والملك الذي ظهرت آثاره على يد محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
وكفى بجهنم نارا مسعرة لهم وبئس المصير.
جزاء الكفر وثواب الإيمان [سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
المفردات :
نُصْلِيهِمْ ناراً : نشويهم بالنار. نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ : احترقت وتلاشت.
ظِلًّا ظَلِيلًا : وارفا دائما لا تنسخه شمس. ولا يصيب صاحبه حر ولا برد ، وقد يراد بالظل النعمة والعزة.
المعنى :
تقدم أن منهم من آمن ، ومنهم من كفر وكان جزاؤهم جهنم ، وهذا تفصيل لما تقدم.(1/387)
ج 1 ، ص : 388
إن الذين كفروا بآياتنا الدالة علينا المنزلة على أنبيائنا وخاصة القرآن لأنه أظهر الآيات وأكملها ، هؤلاء سوف نصليهم ونحرقهم بالنار التي وقودها الناس والحجارة كلما احترقت جلودهم حتى لم تعد صالحة لإيصال الألم إلى مراكز الشعور والإدراك بدلناهم جلودا جديدة غيرها ، أو هذا تمثيل لدوام شعورهم بالعذاب شعورا كاملا ، ولا غرابة إن اللّه عزيز لا يغلبه غالب ، حكيم في كل صنعه ، ومن حكمته وعدله تعذيب العاصي بهذا وأمثاله ، وإثابة المؤمن بما يناسب عمله ، ومن ثم قرن ثواب المؤمن بجزاء الكافر حتى يظهر الفرق جليا فيكون ذلك أدعى للإيمان.
والذين آمنوا باللّه إيمانا صحيحا ، وعملوا الصالحات من الأعمال سيدخلهم ربهم الجنة التي عرضها السموات والأرض ، والتي تجرى من تحتها الأنهار فلا تعب فيها ولا مشقة ، وهم فيها ماكثون وخالدون ، ولهم فيها أزواج مطهرة طهارة حسية ومعنوية من دنس الحيض والنفاس ، وكذا العيوب النفسية ، كأنهن الياقوت والمرجان ويدخلهم ربهم ظلا دائما لا حر فيه ولا برد ، ولا تنسخه شمس ، ولهم فيها العزة الدائمة والهناءة المستمرة ، ولا حرج على فضل اللّه ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان : اللهم ارزقنا التوفيق والسداد حتى نكون منهم يا رب الأرباب.
السياسة العامة للحكمة الإسلامية [سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)(1/388)
ج 1 ، ص : 389
المفردات :
الْأَماناتِ : جمع أمانة ، وهي : ما يؤتمن عليها الشخص وتعم جميع الحقوق المتعلقة بذمته من حقوق للّه أو للناس أو لنفسه. بِالْعَدْلِ : التساوي في الشيء والمراد به إيصال الحقوق إلى أربابها من أقرب الطرق. تَأْوِيلًا التأويل : بيان المآل والعاقبة.
سبب النزول :
روى أنها نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار ، وكان سادان الكعبة وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة الكعبة وصعد إلى السطح ، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال : لو علمت أنك رسول اللّه لم أمنعه ، فأخذه علي بن أبى طالب بالقوة ، وفتح الباب ودخل رسول اللّه وصلّى ركعتين ، فلما خرج سأله عمه العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت ، فأمر النبي عليًّا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه
... هذا ما روى في سبب النزول : ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وعلى ذلك فهو أمر عام لكل مسلم في كل أمانة في ذمته أو تحت يده ، سواء كانت عامة للأمة أو خاصة للفرد.
وهذا رد على اليهود - الذين قالوا للكفار : أنتم أهدى من المؤمنين سبيلا - ببيان أسس الحكومة الإسلامية الصحيحة الموافقة للقرآن الكريم.
المعنى :
الأمانة كلمة عامة جامعة تشمل أمانة العبد مع ربه ، بمعنى أن اللّه عاهده على الامتثال للأوامر واجتناب النواهي. وأمانته مع الناس بأن يرد ودائعهم ويحفظ حقوقهم ، وغيبتهم ، وسرهم ، ولا يغشهم ، ويطيع اللّه فيهم ، وإن كان حاكما فالشعب أمانة في عنقه واجب عليه أن يحكم فيهم بما أنزل اللّه ، وأن يتقى اللّه فيهم بامتثال أمره والاهتداء بسنة المصطفى فلا يسند أمرا لغير أهله ولا يضيع حقا ، ولا يغش مسلما ، ولا يقبل رشوة ، ولا يأكل أموال الناس بالباطل ، ولا يدخر وسعا في السهر على المصلحة ، والإرعاء على الخلق ، وأن يعامل غيره بما يجب أن يعامله به لو كان محكوما.(1/389)
ج 1 ، ص : 390
وإن كان عالما فالواجب عليه أن يرشد الناس إلى الخير ، ويهديهم إلى طريق الحق ويوقفهم على أسرار الشرع حتى يتمسكوا بأهداف الدين وإلا اعتبر مقصرا في واجبه إن لم يكن خائنا للأمانة. وأمانته مع نفسه بأداء ما طلب منه.
ألست معى أن الأساس الأول للحكومة الإسلامية هو (الأمانة) بل هي الدعامة لإقامة مجتمع طاهر ونظيف وأمة رشيدة ؟
الأساس الثاني (العدل) نعم العدل أساس الملك وأصل من أصول الدين الإسلامى لأنه شريعة ودولة ودين ودنيا ، فالعدل واجب على الحكام والولاة حتى تصل الحقوق لأربابها كاملة غير منقوصة ، ولذا أمر اللّه به في كثير من الآيات اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى . [سورة المائدة آية 8] كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [سورة النساء آية 135].
وإذا كان هذا إرشاد اللّه ووعظه فنعم شيئا يعظكم به أيها المسلمون ، إن اللّه كان سميعا لكل مظلوم وصاحب حق وأمانة ، وبصيرا بكل خائن أو مقصر في واجبه أو متسبب في ضياع الحق بأى شكل ولون.
وعلى الشعب بالنسبة للحكام والقادة السمع والطاعة ما داموا قد أدوا الأمانة على خير وجه وحكموا بالعدل بين الناس ، يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه بتنفيذ أحكامه والعمل بكتابه ودستوره. وأطيعوا الرسول فهو الذي بين لنا دستور السماء وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ « 1 » وأطيعوا أولى الأمر وهم أهل الحل والعقد في الأمة ، أى : السلطة التشريعية في البلد ، وهي تتكون من الحكام والولاة والنواب والشيوخ والعلماء والزعماء ، أطيعوهم متى أجمعوا على أمر من الأمور بشرط أن يكونوا أدوا الأمانة وأقاموا العدالة وأطاعوا اللّه ورسوله بتنفيذ دستور القرآن عند ذلك تجب طاعتهم على الناس وهذا هو المسمى بالإجماع في علم الأصول.
فإن تنازعوا في شيء فالواجب رده إلى نظيره ومثله في القرآن والسنة ، والذي يفهم هذا هم العلماء الأعلام العاملون المخلصون للّه ولرسوله ، إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر فاعملوا بهذه الوصايا وامتثلوا أمر اللّه فذلك خير لكم في الدنيا والآخرة ، وأحسن تأويلا ، ويؤخذ من الآية الكريمة أن أصول التشريع في الدين أربعة :
___________
(1) سورة النحل آية 44.(1/390)
ج 1 ، ص : 391
1 - الكتاب : وهو القرآن الكريم فقد قال اللّه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ.
2 - السنة : وهي ما أتت عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قولا أو فعلا أو تقريرا فقد قال اللّه :
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
3 - الإجماع : وهو إجماع أهل الحل والعقد من الأمة إذا اتبعوا اللّه ورسوله.
4 - القياس : وهو عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد العامة في الكتاب والسنة وذلك قوله : فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.
هؤلاء هم المنافقون وهذه أعمالهم [سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)(1/391)
ج 1 ، ص : 392
المفردات :
يَزْعُمُونَ الزعم في الأصل : القول حقا كان أو باطلا ، ثم كثر استعماله في الكذب. صُدُوداً : إعراضا عن قبول الحكم.
سبب النزول :
روى أن بشرا المنافق خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ودعا المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم إنهما احتكما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق بهذا الحكم ... إلخ ، ما جاء في رواية الزمخشري.
المعنى :
ألم ينته علمك إلى الذين يزعمون كذبا وبهتانا ، أنهم آمنوا بما أنزل إليك من القرآن ، وما أنزل من قبلك من الكتب. هؤلاء المنافقون من اليهود والنصارى يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ، قيل : هو كعب بن الأشرف سمى طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والبعد عن الحق ، وقد أمروا في القرآن أن يكفروا بالطاغوت ويجتنبوه وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ « 1 » فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى « 2 » . هؤلاء الذين تدّعى ألسنتهم الإيمان باللّه وما أنزله على رسوله ، وتدل أفعالهم على الكفر بهما والإيمان بالطاغوت وإيثار حكمه على حكم الشرع الشريف ، ويريد الشيطان - وما توسوس به نفوسهم ، وداعي الشر فيهم - أن يضلهم ضلالا بعيدا جدا عن الحق والصواب. وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول فهو الصراط المستقيم : رأيت هؤلاء المنافقين يصدون عنك يا محمد وعن دعوتك صدودا مؤكدا بكل ما أوتوا من قوة وحجة ، والحامل لهم على ذلك هو اتباع شهواتهم ، فكيف يكون حال هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم مصيبة افتضاحهم وظهور حالهم ، وانكشاف سترهم بما قدمته أيديهم ، كيف يكون حالهم ؟
___________
(1) سورة النحل آية 36.
(2) سورة البقرة آية 256.(1/392)
ج 1 ، ص : 393
ففي الآية نذير وقوع الخطر بهم حتما ، ثم جاءوك بعد ظهور حالهم ، يحلفون باللّه - وهم الكاذبون - قائلين : ما أردنا بأعمالنا هذه إلا إحسانا في المعاملة وتوفيقا بين الخصوم بالصلح أو الجمع بين منفعة الخصمين.
أولئك الذين لعنهم اللّه وعلم ما في قلوبهم من الكيد والحقد والحسد ، جزاؤهم الإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالبشاشة والترحاب لعل هذا يجعلهم يفكرون في أمر أنفسهم ، ويقبلون نصحك ووعظك فأعرض عنهم ، وعظهم ، وقل لهم قولا بليغا يصل إلى شغاف قلوبهم ويؤثر في نفوسهم ، وهذه شهادة من اللّه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأنه صاحب القول البليغ والكلام المؤثر الدقيق
« أوتيت جوامع الكلم »
« أدبنى ربي فأحسن تأديبي »
حديث شريف. وأما جزاؤهم في الآخرة فمعروف لا يجهلونه.
إرشادات وآداب للسلم والحرب [سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 70]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)(1/393)
ج 1 ، ص : 394
المفردات :
شَجَرَ بَيْنَهُمْ : فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط. حَرَجاً : ضيقا.
كَتَبْنا : فرضنا عليهم. تَثْبِيتاً : تقوية ، والتثبيت : جعل الشيء ثابتا راسخا.
الصِّدِّيقِينَ : جمع صديق ، وهو الصادق في قوله واعتقاده المبالغ فيه كأبى بكر الصديق وأمثاله من الصحابة - رضى اللّه عنهم - . وَالشُّهَداءِ : جمع شهيد ، وهو من يشهد بصحة الدين بالحجة والبرهان ويقاتل في سبيله بالسيف والسنان حتى يقتل. وَالصَّالِحِينَ : من صلحت نفوسهم وغلبت حسناتهم سيئاتهم.
المعنى :
وما أرسلنا من رسول إلا وطاعته واجبة ، بإذن اللّه وأمره ، فالطاعة للّه ، ولمن يأمر بطاعته ، ومن يطع الرسول فقد أطاع اللّه ، ومن يعص الرسول فقد عصى اللّه. ثم ترشد العصاة والمذنبين - إذا وقع منهم ذنب - أن يبادروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيستغفروا اللّه عنده ويبالغوا في التوبة وطلب المغفرة حتى يستغفر لهم الرسول فإنهم إن فعلوا ذلك تاب اللّه عليهم إنه هو التواب الرحيم ، وهكذا كل من يعصى اللّه ورسوله ثم يبادر بالتوبة يجد اللّه توابا رحيما.
روى أن الزبير بن العوام خاصم رجلا من الأنصار في شأن ماء ، فاختصما إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصارى وقال : لأن كان(1/394)
ج 1 ، ص : 395
ابن عمتك : فتغير وجه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك.
كان قد أشار على الزبير أولا برأى فيه سعة له ولخصمه فلما أحفظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استوعب للزبير حقه في صريح الحكم الأخير ... إلخ ، ما جاء في أبى السعود فنزلت آية فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وفيها يقسم اللّه - سبحانه وتعالى - بنفسه الكريمة المقدسة أنهم لا يؤمنون إيمانا كاملا حتى يحكموك في كل أمورهم وما يختلط عليهم من المشاكل ، فما حكمت به فهو الحق لا شك فيه ، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا ولا ضيقا من قضائك ويسلمون به تسليما.
وهكذا نحن - وربك - لا نؤمن باللّه إيمانا كاملا حتى نحكّم اللّه ورسوله في كل أمورنا ومشاكلنا ، ثم نجد في أنفسنا ضيقا من حكم القرآن والسنة ، ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون الفاسقون الظالمون.
لو أن اللّه - سبحانه - فرض على الناس أن يقتلوا أنفسهم كما أمر بنى إسرائيل قديما تكفيرا لهم عن خطيئتهم في عبادة العجل ، أو فرضنا أن كتب عليهم أن اخرجوا من أوطانكم في سبيل اللّه ما امتثل المأمور به إلا نفر قليل منهم ، ... ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الأوامر والنواهي التي تظهر معها الحكم وتقرن بالوعد والوعيد ، لكان خيرا لهم وأحسن وأشد تثبيتا في الدين وأرسخ ، وإذا لآتاهم اللّه من عنده أجرا عظيما لا يعرف كنهه إلا هو ، ولهداهم صراطا مستقيما.
روى عن عائشة - رضى اللّه عنها - : جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :
يا رسول اللّه إنك لأحب إلى من نفسي وإنك لأحب إلى من ولدي ، وإنى لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر أن آتى فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإنى إذا دخلت الجنة حسبت ألا أراك ، فلم يرد عليه المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم حتى نزل جبريل بهذه الآية
، وروى : من أحب قوما حشر معهم.
كيف لا ترضون بحكم اللّه ورسوله ؟ ومن يطع اللّه فيما أمر ونهى والنبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم فيما بشر وأنذر ، وبلغ عن ربه ، فأولئك يحشرون يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وكفاهم فخرا شهادة اللّه لهم أنهم من شدة المحبة وتمام الألفة وعدم الفرقة رفقاء ، وذلك الفضل من اللّه يؤتيه من يشاء ، وهو أعلم بمن اتقى!!(1/395)
ج 1 ، ص : 396
إذا فليحذر المنافقون المراءون لعلهم يتذكرون فيثوبون إلى رشدهم وليثبت المؤمنون على حالهم ويطمئنوا على مصيرهم لعلهم ينشطون ويبالغون في الطاعة والبعد عن المعصية.
السياسة الحربية في الإسلام [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 76]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)(1/396)
ج 1 ، ص : 397
المفردات :
حِذْرَكُمْ الحذر والحذر بمعنى واحد ، وهو : التيقظ والاستعداد ، والمراد :
احترسوا واستعدوا. فَانْفِرُوا النفر : الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء ، والمراد :
اخرجوا إلى الجهاد. ثُباتٍ : جمع ثبة ، وهي الجماعة ، أى : اخرجوا جماعة تلو جماعة. لَيُبَطِّئَنَّ : ليثبطن غيره عن القتال ، أو ليبطئن هو ، أى : يتباطأ.
يَشْرُونَ الْحَياةَ أى : يبيعونها ويأخذون بدلها نعيم الآخرة وثوابها. الطَّاغُوتِ تقدم تفسيره وقريبا. كَيْدَ الكيد : السعى في الإفساد على جهة الاحتيال.
المعنى :
بعد أن بين اللّه لنا السياسة الدينية والاجتماعية التي بينت لنا حدود التعامل مع الناس خاصة الأقارب واليتامى والمساكين وغيرهم ، وأحوالنا الشخصية من نكاح وإرث وزواج ... إلخ ، وأيد ذلك بضرب الأمثال بمن سبقنا من الأمم أخذ يذكر السياسة الحربية التي بها نحمى ذمارنا ونرد أعداءنا حتى تستوي دعوتنا قائمة وحتى يكون الدين كله للّه ، وهذه السياسة تتلخص في وجوب الاستعداد للحرب ، وفي تنظيف الجبهة الداخلية ، وفي الحث على الجهاد ببيان جزائه ، وبذكر أحوال الضعفاء المستعبدين إخواننا في الدين! وأن الواجب أن تكون الحرب لغرض شريف فقال ما معناه :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ واحترسوا من عدوكم واستعدوا دائما لملاقاته ، فالاستعداد له قد يمنع الحرب ، ويكون بتنظيم الجيوش وإعداد العدة المناسبة في كل عصر وحين وبث العيون (المخابرات والجواسيس) ودراسة حاله وبلده وطرقه ... إلخ ما هو معروف في الأصول الحربية ، وإذا أخذتم حذركم فاخرجوا إليه جماعات إن اقتضى الحال ذلك ، وإلا فأعلنوا التعبئة العامة واخرجوا إليه مجتمعين وفي هذا إشارة إلى تنظيم الأمة عسكريا وتعليم شبابها الفنون العسكرية حتى إذا دعا داعي الوطن وجدنا الكل يحمل السلاح ، أما الجبهة الداخلية فلا تخلو أمة من الأمم من الجبناء الرعاديد والمنافقين الذين يثبطون الهمم ، ويعوقون عن القتال ويقعدون عنه لفرط حبهم للدنيا وانخلاع قلوبهم من الحرب لضعف إيمانهم وخور عزيمتهم ، فاعرفوهم وعالجوا ضعفهم ، ولذا يقول القرآن : وإن منكم لجماعة يثبطون الهمم ويقعدون عن الحرب فإن أصابتكم مصيبة في(1/397)
ج 1 ، ص : 398
الحرب كالهزيمة أو القتل مثلا قالوا : قد أنعم اللّه علينا وتفضل حيث لم نكن معكم ، ولئن أصابكم فضل من اللّه وانتصار على العدو قالوا : يا ليتنا كنا معكم فأخذنا نصيبنا من الغنيمة ، كأنه لم تكن بينكم وبينهم مودة وصلة إذ الصلة والمودة التي يظهرونها تقتضي أن يكونوا معكم في السراء والضراء ، واللّه أعلم بقلوبهم وما عندهم من الحسد والحقد ، ولكنه سمى مودة تهكما بهم وبحالهم.
وإذا كان هذا واجبكم نحو العدو والاستعداد له وقد عرفتم أن فيكم المنافقين الجبناء الذين لا يخلو منهم زمان أبدا. فليقاتل في سبيل اللّه ولإعلاء كلمته ونصرة دينه - دين الحق والعدل والكرامة والقوة والمدينة - أولئك المسلمون المخلصون الذين باعوا دنياهم الفانية بالآخرة الباقية ونعيمها الدائم حتى تكون كلمة اللّه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى واللّه عزيز ذو انتقام ، والمقاتلون في سبيل اللّه ينتظرون إحدى الحسنيين إما الاستشهاد في سبيل اللّه وإما النصرة والغلبة على الأعداء ، وفي كلا الحالين سوف يؤتيهم اللّه أجرا حسنا ، وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه وفي سبيل هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ؟ وقد كان المسلمون الذين هم في مكة قبل الفتح ولم يتمكنوا من الهجرة في عذاب أليم وتعب مقيم فكانوا يلاقون من عنت الكفار الجبابرة الشيء الكثير ، وما قصص بلال وصهيب وعمار عنكم ببعيد!!.
وهؤلاء يقولون من شدة الألم : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك وليا يلي أمورنا ويحمى ذمارنا ، واجعل لنا من لدنك نصيرا ينصرنا فقد عز الناصر وقل المدافع وسدت الأبواب إلا بابك يا كريم يا قوى يا حكيم.
والقتال الذي يضع القرآن سياسته ليس قتال ظلم وتعد وتوسع في الملكية واستعباد للشعوب كما نرى الآن ، وإنما هو قتال في سبيل اللّه ولإعلاء كلمة الحق والإنصاف :
إنصاف الشعوب والأمم ، ولذا كانت الحركة الإسلامية تزحف على الشعوب وتجرف الأمم كالسيل المنهمر ، وظل الحال كذلك حتى ابتعد المسلمون عن الدين. فابتعدوا عن المثل العليا وضعف فيهم الوازع الديني فطمع فيهم كل طامع وغلبهم كل مغلب.
ولذا يحدد القرآن الغاية من القتال في الإسلام بقوله : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل اللّه ، وأما الذين كفروا فإنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت الذي هو الظلم والجبروت والطغيان والتعدي على حقوق الأمم والأفراد ، فقاتلوا أيها المسلمون أولياء الشيطان(1/398)
ج 1 ، ص : 399
ولا تغرنكم قوتهم وهم عدد ، فهي على غير أساس لأن وليهم الشيطان ووليكم الرحمن ، وهو ناصركم ما نصرتموه ، وكيد الشيطان للمؤمنين في جنب كيد اللّه للكافرين أضعف شيء وأوهنه ، ألا إن حزب اللّه هم الغالبون.
بعض ضعاف النفوس [سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 79]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)
المفردات :
كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ : امنعوها عن العادات الجاهلية والحروب القديمة التي كانت بين القبائل. فَتِيلًا : شعرة بسيطة بين فكى النواة ، وهي مثل في البساطة والقلة.
بُرُوجٍ : جمع برج ، وهو القصر أو الحامية التي يحتمي فيها الجند من العدو.
مُشَيَّدَةٍ : عالية ، وقيل : مطلية بالجبس والجير. يَفْقَهُونَ : يفهمون.(1/399)
ج 1 ، ص : 400
المعنى :
ألم ينته علمك إلى الذين قيل لهم لما دخلوا في الإسلام : كفوا أيديكم وامنعوا أنفسكم عن الحرب الجاهلية والإحن القبلية التي كانت تثار لأتفه الأسباب ، وأدوا الصلاة مقومة الأركان تامة بالخشوع والخضوع للّه ، وأدوا الزكاة وغير ذلك من حدود الإسلام وتعاليمه التي ترفع صاحبها إلى مستوى المثل العليا.
من المسلمين الذين أمروا بالكف عن المنكرات والإتيان بالحسنات فريق كان يتمنى القتال لإرضاء شهوته في الاعتداء ، فلما فرض عليهم قتال المشركين بعد الهجرة إذا فريق منهم يخشون المشركين كخشيتهم للّه أو أشد ، ويفرون من الحرب كأنهم مساقون إلى الموت ويقولون : ربنا لم فرضت علينا القتال ؟ لولا تركتنا نموت حتف أنوفنا ولو بعد أجل قريب. أليس هذا عجبا ؟ وأى عجب ؟
قل لهم يا محمد : ما لكم تقعدون عن القتال حبا في الدنيا ، ومتاعها قليل فان والآخرة متاعها باق دائم لا كدر فيه ولا تعب ؟ وهي لمن خاف اللّه وامتثل أمره وأخذ لنفسه الوقاية من عذابها فأنتم محاسبون على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ولا تظلمون فتيلا. وإن كان مثقال حبة من خردل لأى إنسان أتينا بها وكفى بنا حاسبين. ما لكم تخافون الحرب ؟ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في قصور عالية وبروج مشيدة فملك الموت لا تحجزه الحواجز ولا تعوقه العوائق ، وكم من محارب نجا ، وقاعد عن الحرب مات حتف أنفه ، فلا نامت أعين الجبناء.
وأعجب العجب مقالة أولئك المنافقين إذا أصابتهم حسنة من غنيمة أو خصب أو رزق قالوا : هذه من عند اللّه ومن فضله وإحسانه ليس لأحد دخل فيها ، وإن أصابتهم سيئة من هزيمة أو جدب قالوا - لعنهم اللّه - : هذه من شؤم محمد ، كما حكى القرآن عن قوم موسى وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [سورة الأعراف آية 131].
قل لهم : كل من الحسنات والسيئات والسراء والضراء من عند اللّه فإنه موجد وخالق للكل ، فما لهؤلاء القوم لا يقربون من فهم حديث من الأحاديث ؟ ما الذي دهاهم في عقولهم حتى وصلوا إلى هذا الفهم السقيم ؟ فقد ربطت الأسباب بمسبباتها(1/400)
ج 1 ، ص : 401
وإن كان اللّه خالقا لكل شيء فما أصابك أيها المخاطب من حسنة فمن فضل اللّه ونعمه وتوفيقه لك حتى تسلك سبل النجاة والخير ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك حيث لم تسلك سبيل العقل والحكمة ، حتى قالوا : إن المرض بسببك بل الأمراض الوراثية بسبب الإنسان وسلوكه الطرق التي تتنافى مع الصحة!! وأما أنت يا محمد فرسول وما عليك إلا البلاغ ، والخير والشر كله من عند اللّه خلقا وإيجادا ، وعلى اللّه الحساب وكفى باللّه شهيدا.
الطاعة للّه ولرسوله [سورة النساء (4) : الآيات 80 الى 81]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)
المفردات :
تَوَلَّى : أعرض. بَرَزُوا أى : خرجوا من عندك ، وأصل البراز :
الأرض الفضاء. بَيَّتَ : دبّر جماعة منهم ليلا رأيا غير الذي قالوه لك.
و
روى مقاتل أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول : من أحبنى فقد أحب اللّه ومن أطاعنى فقد أطاع اللّه. فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك ؟ قد نهى أن نعبد غير اللّه ويريد أن نتخذه ربّا كما اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل اللّه هذه الآية.
المعنى :
محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نبي كريم ورسول رب العالمين وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا(1/401)
ج 1 ، ص : 402
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً
« 1 » وهو بهذا المعنى يخبر عن المولى - عز وجل - ويبلغ ما أوحى إليه ، فالآمر والناهي هو اللّه ، والرسول مبلغ فليست الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه وهو اللّه - عز وجل - فمن يطع الرسول فقد أطاع اللّه ... والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في أوامر الشريعة وفيما يتعلق بالقرآن وأحكام الدين وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [سورة النجم الآيات 3 - 5].
أما أمور الدنيا وما يقوله باجتهاده ورأيه في غير الشرع فقد كان الصحابة يسألون النبي عنه : أوحى يا رسول اللّه أم رأى ؟ فإن كان وحيا أطاعوا بلا تردد ولا نظر وإن كان رأيا أشاروا ، وقد يرجع الرسول إلى رأيهم كما حصل في غزوة بدر وأحد.
ومن تولى وأعرض عن طاعتك فلا تحزن عليهم إن عليك إلا البلاغ ولست عليهم بمسيطر ، وهؤلاء الذين يخشون الناس كخشية اللّه أو أشد يقولون إذا أمرهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأمر : أمرك طاعة ، أى : مطاع نفاقا وانقيادا للنبي ظاهرا فقط.
فإذا خرجوا من المكان الذي يكونون معك فيه منصرفين إلى بيوتهم دبر جماعة منهم في الليل رأيا غير الذي قالوه لك ، واللّه يكتب ما يبيتونه ويطلعك عليه في كتابه المنزل فلا يهمنك أمرهم فإنا مجازوهم ، وأعرض عنهم ، وتوكل على اللّه فإن اللّه كافيك شرهم ومنتقم منهم ، وكفى باللّه وكيلا.
القرآن من عند اللّه [سورة النساء (4) : آية 82]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)
المفردات :
يَتَدَبَّرُونَ التدبر : التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ، وتدبر القرآن : النظر والتفكير في غاياته ومقاصده التي يرمى إليها.
___________
(1) سورة النساء آية 79.(1/402)
ج 1 ، ص : 403
المعنى :
أعمى هؤلاء عن حقيقة الرسالة وكنه الهداية فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟ ولو تدبروه لعلموا أنه الحق من ربهم إذ هو في صدق في إخباره عما تكنّه ضمائرهم وما تخفيه سرائرهم ، ولكن ختم اللّه على قلوبهم وأضل أعمالهم!! ولو كان هذا القرآن الذي هو عماد الدعوة المحمدية من عند غير اللّه بأن كان من عند محمد بن عبد اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا في نظمه من جهة البلاغة فيكون بعضه عاليا بلغ حد الإعجاز وبعضه قاصرا عنه ، وبعضه صحيح المعنى وبعضه سقيمه ، وجزء وافق في إخباره بالغيب وجزء خالف!!! وكان بعضه موفقا صادقا في تصوير الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمم ، فكان مثلا أعلى ، وبعضه غير موافق.
وناهيك بوضع الآيات وترتيبها مع أنها نزلت منجمة غير مرتبة ، وسبحان اللّه وتعالى عما يصفون ، وكيف لا يكون القرآن من عند اللّه وفيه تصوير الحقائق تصويرا تامّا كاملا بلا اختلاف ولا تفاوت في أى جزئية.
وفيه الإخبار عن الماضي الذي لم يشاهده محمد بن عبد اللّه ولم يتيسر له أن يقف على تاريخه ، وعن الحاضر والمستقبل ، بل على مكنونات الأنفس ومخبئات الضمائر ، وأما الأصول والقواعد في التشريع والسياسة العامة والخاصة للفرد والأمة فيكفى شهادة الأعداء له ، والحديث فيه عن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الإنسان مع ضرب الأمثال والقصص الذي يسحر القلوب ويخطف الأبصار فأمر لا ينكره إلا مكابر ، وأما البلاغة والجزالة فهو الذي أعجز فحول البلاغة من العرب وتحداهم فقهرهم وأذلهم على كره منهم.
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (الزمر 23).
ولو تدبر المسلمون القرآن الكريم وفهموه فهما صحيحا سليما ووقفوا على أسراره لما وصلوا إلى ما وصلوا.(1/403)
ج 1 ، ص : 404
الرقابة على الأخبار [سورة النساء (4) : آية 83]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
المفردات :
أَذاعُوا بِهِ يقال : أذاع السر وبالسر : نشره وأشاعه بين الناس. رَدُّوهُ :
أرجعوه. يَسْتَنْبِطُونَهُ استنبط الماء : استخرجه من البئر ، ثم استعمل فيما يستخرجه الرجل بفضل عقله من المعاني والحلول للمشكلات.
المعنى :
سبحانك يا رب أنت الحكيم العليم. ما تركت لنا شيئا إلا ونبهتنا إليه. حتى إذاعة الأخبار ، إذ في كل أمة من الأمم جماعة يذيعون الأخبار بشغف خصوصا ما يتعلق بالحروب بقصد سيّئ كالمنافقين ، أو بقصد حسن كما يحصل من عامة الشعب ، فيرشدنا اللّه إلى أن الأمور التي تتعلق بالأمن أو الخوف يجب أن يترك الحديث فيها إلى القائد العام وهو الرسول - عليه السلام - ولأهل الرأى والحل والعقد في الأمة فهم أدرى الناس بها وبالكلام فيها ، أما أن نتحدث ونهرف بما نعرف وما لا نعرف بقصد وبغير قصد فهذا ضرر وأى ضرر على الدولة!! ولذا تنبهت الأمم الحديثة إلى الرقابة على الصحف والإذاعة وغيرها حتى لا تستغل عقول الجماهير خصوصا في الحرب رقابة تكفل الحرية ، وتمنع الخطأ ، أما الرقابة بمعنى كمّ الأفواه والقضاء على الحرية فشيء لا يقره الدين.
ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته بكم إذ هداكم ووفقكم لطاعة اللّه ورسوله ولنور(1/404)
ج 1 ، ص : 405
القرآن لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعه الذين يبيتون ما لا يرضى من القول ويكون لهم ظاهر وباطن ، ولما آمن منكم الإيمان الخالص إلا قليل ، أو لآمنتم إيمانا ضعيفا.
الحث على الجهاد أيضا [سورة النساء (4) : آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
المفردات :
وَحَرِّضِ التحريض : الحث على الشيء بتزيينه والترغيب فيه. بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا : قوتهم وشدتهم. تَنْكِيلًا التنكيل : معاقبة المجرم عقابا يمنع غيره من أن يفعل مثله.
المعنى :
إذا كان الأمر كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم وتقصير الآخرين فقاتل أنت وحدك في سبيل اللّه وامتثل أمره إن أردت الظفر بالأعداء إذ لا تكلف إلا فعل نفسك فقط ، أما غيرك من الذين يقولون : لم كتبت علينا القتال ؟ ويخشون الناس أكثر من خشيتهم اللّه فدعهم ، واللّه مجازيهم على أفعالهم وما عليك إلا أن تحرض المؤمنين على القتال وتحثهم عليه ببيان آثاره في الدنيا ونتائجه في الآخرة.
وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حينما حل موعد بدر الصغرى في السنة التالية لغزوة أحد صمم على الخروج فخرج ومعه ألف وخمسمائة مقاتل وعشرة أفراس ، وأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان كما وعدهم وكان النصر لهم ، أما أبو سفيان فرجع من الطريق وصرفه اللّه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عسى أن يكف بأسهم ويزيل قوتهم ، فاللّه ناصرك على الأعداء سواء(1/405)
ج 1 ، ص : 406
كنت وحدك أو معك الألوف ، فهو أشد بأسا وأشد قوة وسيعاقبهم العقاب الصارم الذي يمنع أمثالهم من الجرأة على الحق وينكل بهم.
من آداب القرآن [سورة النساء (4) : الآيات 85 الى 87]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
المفردات :
يَشْفَعْ الشفاعة : ضم صوتك إلى صوت رجل آخر لنصرته في طلبه.
نَصِيبٌ أى : حظ منصوب ومعلوم. كِفْلٌ : نصيب مكفول ومضمون.
مُقِيتاً أى : حافظا ومقتدرا. بِتَحِيَّةٍ التحية : مصدر حياه إذا قال له : حياك اللّه ، وهي في الأصل : الدعاء له بالحياة ، ثم صارت اسما لكل دعاء وثناء عند المقابلة ، والتحية الإسلامية : السلام عليكم ، للإشارة إلى أن الدين الإسلامى دين محبة وسلام وأمن. حَسِيباً : محاسبا على العمل ومكافئا له.
المعنى :
الشفاعة : ضم صوتك إلى أخيك لنصرته وتوصيل الحق له ، وعلى هذا الأساس يدخل فيها تحريض المؤمنين على القتال وتحبيبهم فيه فإن هذا خير لهم وأى خير ؟ ومن(1/406)
ج 1 ، ص : 407
هنا كانت المناسبة ظاهرة على أن بعض المنافقين كانوا يستأذنون النبي في القعود عن القتال لهم ولغيرهم ، وإذا توسعنا فيها شملت شفاعة الناس بعضهم لبعض ، والتحية نوع من الشفاعة ، وعلى كل فهي نوعان : شفاعة حسنة ، وشفاعة سيئة والضابط العام أن الحسنة ما كانت فيما استحسنه الشرع ورضيه ، والسيئة فيما كرهه الشرع أو حرمه.
ويجب ألا ننسى أن العبرة في القرآن الكريم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والشفاعة الحسنة هي التي يراعى فيها حق المسلم فيدفع بها شرا أو يجلب إليه خيرا ، وابتغى صاحبها وجه اللّه ، ولم تؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود اللّه ولا في ضياع حق من الحقوق ، والسيئة ما كانت بخلاف ذلك ، وقد شاعت عندنا الوساطات والشفاعات السيئة الملوثة بالمادة لتضييع الحقوق وهضمها والاستيلاء على مال الغير ، وهذا داء حقير يتنافى مع مبدأ الدين وأصوله ، ولكل من الشفعاء نصيب إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وكان اللّه على كل شيء مقيتا ومقتدرا على إيصال الجزاء لكل شافع.
بعد أن علم اللّه الناس طريق الشفاعة الحسنة وجزاءها وطريق الشفاعة السيئة ومآلها ، علم الناس سنة التحية وآدابها ، فكلاهما من أسبابها التواصل بين الناس ، ولذا عدت التحية من الشفاعة ، وإذا حييتم بتحية فالواجب ردها على أن تكون مثل الأولى أو أحسن منها ، وحسن الرد يكون بزيادة الألفاظ فإذا قال لك : السلام عليكم ، تقول :
وعليكم السلام ورحمة اللّه. ويكون بزيادة معنوية كالبشاشة وحسن الاستقبال ... إلخ ، ما هو معروف.
وأحكام السلام موضحة في كتب الحديث ، ومنها أن بدأه سنة ورده واجب ، ويجوز بدء السلام ورده على غير المسلمين عند بعض الأئمة ، وأن يسلم القادم على الجالس ، والراكب على الماشي ، والقليل على الكثير ، والصغير على الكبير ، ولا يسلم الرجل على المرأة الأجنبية ويسلم على زوجته.
إن اللّه كان على كل شيء تعملونه حسيبا ومكافئا.
ثم ختم الآيات بالأساس العام للدين ، وهو إثبات التوحيد والبعث ولا شك أن ذلك يدفع المسلم إلى العمل والامتثال لأمر اللّه ، لا إله إلا هو ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة(1/407)
ج 1 ، ص : 408
ليأخذ كلّ جزاءه فلينظر الإنسان ما قدم ، وليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، ومن أصدق من اللّه حديثا ، فكلامه - سبحانه - كلام عالم الغيب والشهادة الذي لا يضل ولا ينسى ، وهو القوى القادر فكيف لا يكون صادقا في وعده ؟ !
المنافقون وكيف تعاملهم [سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)(1/408)
ج 1 ، ص : 409
المفردات :
فِئَتَيْنِ الفئة : الجماعة. أَرْكَسَهُمْ الركس : رد الشيء مقلوبا ، والمراد ردهم إلى الكفر والقتال. يَصِلُونَ : يتصلون. مِيثاقٌ : عهد. حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ : ضاقت عن قتالكم وقتال قومهم. السَّلَمَ : الاستسلام والسلام.
الْفِتْنَةِ : الشرك والضلال واضطراب الأحوال. ثَقِفْتُمُوهُمْ : وجدتموهم وصادفتموهم. سُلْطاناً مُبِيناً : حجة واضحة.
سبب النزول :
روى أن قوما من المنافقين استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الخروج إلى البدو معتلين بجو المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين حتى وصلوا مكة قلب الشرك ،
وقيل : هم قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة يظاهرون المشركين ، وقد رويت عدة روايات في سبب النزول كثيرة ، ولكن المعقول منها الموافق لروح الآية الروايات التي يشم منها أنها في جماعة خارج المدينة. ويظهر أن النفاق نوعان : نفاق في الإسلام وادعائه ، وهؤلاء هم الذين كانوا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في المدينة ونزل في شأنهم آيات النفاق في سورة البقرة وسورة المنافقون بدليل أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يقتلهم أينما وجدوا ، فهذا زعيمهم عبد اللّه بن أبىّ يسرح ويمرح على الملأ ، وبدليل عدم اتخاذ الأولياء منهم حتى يهاجروا ، فدل كل ذلك على أن هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية نوع آخر لم يكونوا في المدينة وإنما كانوا خارجها ، نافقوا في الولاء للإسلام وادعوا أنهم مع المسلمين ، والواقع أنهم عليهم ، وهذا ما ظهر واللّه أعلم.
المعنى :
خاطب اللّه - جل شأنه - المؤمنين خطابا يتعلق بما قبله ، ولذا أتى بالفاء : فما لكم اختلفتم في شأن المنافقين فئتين ؟ جماعة يشهدون لهم بالخير ، وأخرى تشهد لهم بالكفر والشرك ، وكيف هذا ؟ والحال أن اللّه صرفهم عن الحق وأركسهم في الضلال وردهم إلى الشرك على أقبح صورة ، بما كسبوا من أعمال الضلال ، والبعد عن حظيرة الإسلام(1/409)
ج 1 ، ص : 410
وعدم الهجرة مع رسول اللّه ، أتريدون أن تبدلوا سنة اللّه في الخلق ؟ وأن تجعلوا الضال مهتديا والكافر مسلما ، لا يعقل هذا!! إنهم ينظرون إليكم نظرة الأعداء ويودون أن تكفروا مثلهم ، فتكونوا سواء ، ومن كان هذا حاله فلا يصح أن تختلفوا في شأنه ، بل أجمعوا على أنه منافق خارج عن حدود الإسلام. ولا تتخذوا منهم أولياء تعتمدون عليهم ، وتركنون إليهم ، حتى يهاجروا في سبيل اللّه هجرة خالصة لوجه اللّه ورسوله فإن تولى هؤلاء الموصوفون بما ذكر ، وأعرضوا عن الهجرة في سبيل اللّه ولزموا مواضعهم وأساليبهم السابقة وكانوا حربا عليكم فخذوهم إن قدرتم عليهم في أى مكان أو زمان واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحل أو الحرم ، ولا تتخذوا منهم وليّا ولا نصيرا. وقد استثنى اللّه منهم طائفتين :
(أ) الذين يتصلون بقوم معاهدين بينكم وبينهم ميثاق وعهد بعدم الاعتداء فيلحقون بهم ، ويدخلون معهم في عهدهم.
(ب) الذين جاءوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم وقتال قومهم المشركين وأعلنوا الحياد ، فهؤلاء اتبعوا فيهم أيضا قوله تعالى : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة آية 190] فهاتان الطائفتان لا يصح قتالهم.
واعلموا أن اللّه لو شاء لسلط هؤلاء وأولئك عليكم فانضموا إلى معسكر المشركين الذين يجاهرونكم بالعداوة والحروب ، لكنه ألقى في قلوبهم الرعب والخوف منكم ، فإن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم بأى نوع من أنواع القتال وألقى المذكورون إليكم الاستسلام وزمام أمورهم فاعلموا أن اللّه لم يجعل لكم عليهم سبيلا تسلكونها للاعتداء عليهم.
وقال الرازي : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عامر السلمى على ألا يعينه ولا يعين عليه ، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله جواره.
ستجدون آخرين ، أى : فئة أخرى غير السابقة ، مردوا على النفاق ومرنوا عليه يريدون أن يأمنوا على أنفسهم وأموالهم.
حكى ابن جرير أنها نزلت في قوم هم بنو أسد وغطفان وقيل غيرهم ، كانوا يأتون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة ، فيسلمون رياء ونفاقا ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان(1/410)
ج 1 ، ص : 411
ويرتدون إلى الشرك ، يبتغون أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا أنفسهم.
هؤلاء كلما ردوا إلى الفتنة والشرك ودعوا إليها أركسوا فيها على أسوأ حالة ، وبالغوا في الضلال ، فهؤلاء إن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم زمام السلام فاقتلوهم إن تمكنتم منهم ، وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا واضحا ظاهرا وحجة قوية في قتالهم.
قتل المؤمن وجزاؤه [سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
المفردات :
خَطَأً : بغير قصد للقتل. فَتَحْرِيرُ : فعتق. رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ : نفس مؤمنة. وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ : مال يدفع لأهل القتيل جبرا لخاطرهم وعوضا(1/411)
ج 1 ، ص : 412
عنه. أَنْ يَصَّدَّقُوا : أن يعفوا عنها. مِيثاقٌ : عهد ، أو ذمة ، أو أمان.
مُتَتابِعَيْنِ : المراد شهرين قمريين لا يتخللهما فطر إلا لعذر شرعي. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ : تطهيرا لأنفسكم ولأما لجرحكم.
سبب النزول :
روى أن الحارث بن يزيد من بنى عامر بن لؤي كان يعذب عياش بن أبى ربيعة ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يعرف إسلامه بعد ، فلقيه عياش بالحرة (ضاحية من ضواحي المدينة) فعلاه بالسيف وهو يظن أنه لا يزال كافرا ، ثم جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره الخبر ، فنزلت الآية ثم قال له : قم يا عياش فحرر ، أى : أعتق رقبة مؤمنة.
المعنى :
الإيمان باللّه ورسوله إذا وصل إلى القلب منع صاحبه من ارتكاب الفواحش خاصة التعدي على النفس بغير حق ، والمؤمن يشعر بحقوق اللّه عليه وحقوق إخوانه المؤمنين.
ويؤمن بقوله تعالى : ومَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً « 1 » وروى في الصحيحين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأنى رسول اللّه إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة »
والأحاديث التي تقرن القتل بالشرك كثيرة ، ولذا يقول اللّه وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً « 2 » أى : ليس من شأن الإيمان وطبعه أن يقتل المؤمن مؤمنا ، وأن يقترف هذا الجرم الفظيع عمدا وبقصد!! ولكنه قد يقع منه ذلك خطأ وبغير قصد.
ومن قتل مؤمنا خطأ فعليه عقاب إذ الخطأ ينشأ من التهاون وعدم الاهتمام والاعتناء.
والقتل الخطأ : كأن يقصد طيرا فيصيب إنسانا ، أو يظن شخصا كافرا حربيا فيظهر أنه مسلم ، كما حصل لعياش - رضى اللّه عنه - أو يقصد إنسانا بما لا يقتل غالبا كالعصا البسيطة واليد فيقتله.
___________
(1) سورة المائدة آية 32.
(2) سورة النساء آية 92.(1/412)
ج 1 ، ص : 413
وعقابه في شيئين : كفارة للقتل ، وهي : عتق رقبة مؤمنة ، لأنه أعدم نفسا مؤمنة.
فيحيى بالعتق نفسا مثلها.
ودية مسلّمة إلى ورثة القتيل عوضا عن دمه ، وإزالة للعداء ، وقطعا للإحن والبغضاء. وقد بينتها السنة ، وهي مائة من الإبل مختلفة الأسنان ، أو قيمتها ، وتجب على أسرة القاتل ، فإن عجزت أخذت من بيت المال (وزارة المال) ، وهي واجبة كما قلنا إلا إذا عفا أهل القتيل وتصدقوا بها ، ولها أحكام كثيرة في كتب الفقه.
فإذا كان القتيل مؤمنا وهو من قوم أعداء لكم فالواجب تحرير رقبة مؤمنة فقط ، بلا دية إذ لا يعطى لهم مال يحاربوننا به.
وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق أو عهد أو ذمة كالذي بين الدول الآن ، فالواجب دية مسلّمة إلى أهله احتراما للعهود والدماء ، وعتق رقبة مؤمنة ، واختلف العلماء في دية غير المسلم فقيل : دية كاملة ، وقيل : على النصف ، والظاهر أن القرآن نكّر الدية للإشارة إلى أنها مال يتفق عليه ويحكم به الحاكم حسب ما يمليه عليه دينه وضميره ، ويوافق العصر الذي هو فيه وتزال آثار القتل به ، فمن لم يجد رقبة يعتقها فعليه صيام شهرين متتابعين ، تطهيرا لنفسه وتكفيرا عن فعلته ، ومعنى التتابع أنه إذا أفطر لغير عذر شرعي في أثناء الصوم لم يحسب له ما مضى.
وكان اللّه عليما بكم حكيما في حكمه.
ومن يقتل مؤمنا عامدا قاصدا قتله بما يقتل غالبا كالرصاص أو الآلة الحادة كالسيف مثلا ، فجزاؤه جهنم ، خالدا فيها ، وغضب اللّه عليه ، وطرده من رحمته وأعد له عذابا عظيما لا يدرى كنهه إلا المنتقم الجبار!! لأنه هدم ما بناه اللّه بغير حق.
هذا غير القصاص في القتل كما ثبت في آية البقرة وآية المائدة.
وهذا التهديد الشديد والوعيد الكثير المفهوم من الآية جعل بعض الأئمة كابن عباس يقول : ليس للقاتل توبة ، وفيه أحاديث صحيحة تثبت ذلك. وقال بعضهم : هذا من التغليظ ، وقوله تعالى : إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً « 1 » يشمل القاتل وقيل : إن هذا الجزاء لمن استحل قتل المؤمن. واللّه أعلم.
___________
(1) سورة الفرقان آية 70.(1/413)
ج 1 ، ص : 414
التسرع في الحكم [سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
المفردات :
ضَرَبْتُمْ : سرتم في الأرض للتجارة أو الحرب. فَتَبَيَّنُوا قرئ : فتثبتوا ، والمراد : اطلبوا بيان الأمر وحقيقته ولا تتسرعوا. السَّلامَ : الاستسلام والانقياد ، أو التحية. عَرَضَ الْحَياةِ : متاعها الفاني. مَغانِمُ كَثِيرَةٌ المراد :
أرزاق ونعم كثيرة.
سبب النزول :
رويت روايات كثيرة كلها تدور حول قتل مسلم أظهر إسلامه ساعة القتال وهو في أرض المشركين ، عن ابن عباس - رضى اللّه عنهما - : مر رجل من بنى سليم بنفر من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا : ما سلّم علينا إلا ليتعوذ منا. فعمدوا إليه فقتلوه واستاقوا غنمه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فنزلت الآية.
المعنى :
بعد بيان حكم قتل المسلم خطأ وعمدا ، شرع في بيان نوع من قتل الخطأ الناشئ عن التسرع في الحكم على الرجل بعدم الإسلام.(1/414)
ج 1 ، ص : 415
يا أيها الذين آمنوا باللّه وصدقوا رسوله : إذا سافرتم في سبيل اللّه ، ولإعلاء كلمته فالواجب عليكم أن تتمهلوا في الحكم على من يقابلكم ، وتتبينوا جلية الأمر. هل هو مؤمن يظهر عليه علامة الإيمان من التهليل والتكبير وإلقاء تحية الإسلام ؟ فمتى ظهر عليه شيء من ذلك ، فلا تتعرضوا له أصلا فأنتم مأمورون بالحكم بالظاهر ، واللّه يتولى السرائر ، وليس لكم أن تقولوا : قال هذا تعوذا منا ليفر بنفسه وليس مؤمنا فاللّه أعلم به ، تبتغون بذلك عرض الدنيا الفاني وحطامها الزائل من الغنيمة التي معه ، فعند اللّه أرزاق ونعم كثيرة لا تحصى ، وله خزائن السموات والأرض ، فلا يصح منكم ولا يليق بكم أن تفعلوا هذا الفعل وتتسرعوا في الحكم ، على أنكم كنتم هكذا من قبل ، آمنتم سرا ثم أظهرتم الإسلام علنا فقبلتم في عداد المؤمنين وصرتم آمنين مطمئنين ، إن اللّه كان بما تعملون خبيرا وبصيرا سيجازيكم على نواياكم فاحذروه وخافوا عقابه.
الجهاد في سبيل اللّه وفضله [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
المفردات :
الضَّرَرِ : المرض والعلة كالعمى والعرج. الْحُسْنى : هي الجنة.
المعنى :
لا يستوي القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها ، وحرصا عليها ، وضنّا بها عن(1/415)
ج 1 ، ص : 416
الإنفاق في سبيل اللّه ، والقاعدون بأنفسهم حرصا على الراحة والنعيم ، نعم لا يستوي هؤلاء مع المجاهدين في سبيل اللّه.
ولكن القعود عن الجهاد يكون مذموما حيث لا عذر يمنع منه ، فإن كان هناك عذر شرعي فلا لوم ولا عتاب ، بل
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عند دخوله المدينة بعد غزوة تبوك :
« إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه. قالوا :
يا رسول اللّه : وهم بالمدينة ؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر » .
فضل اللّه المجاهدين في سبيل اللّه بالنفس والنفيس على القاعدين بعذر درجة وفضلا واللّه أعلم به ، وإن كان قد وعد كلا الجنة والمثوبة الحسنى.
أما القاعدون بغير عذر. فقد فضل اللّه عليهم المجاهدين أجرا عظيما ، ودرجات كثيرة ومغفرة من اللّه كبيرة ، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة ، أى :
جوع في سبيل اللّه ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ، ورحمة من اللّه ورضوان فوق هذا وذاك ، ولا غرابة فاللّه غفور لمن يستحق المغفرة رحيم بمن يتعرض لنفحات الرحمة.
المهاجرون في سبيل اللّه والمتخلفون عنها [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)(1/416)
ج 1 ، ص : 417
المفردات :
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ توفى الشيء : أخذه وافيا تامّا ، وتوفى الملائكة الناس : قبض أرواحهم حين الموت. سَبِيلًا طريقا يوصلهم. مُراغَماً الرغم : الذل والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام ، أى : التراب ، والمراد : مكانا للهجرة ومأوى يصيب فيه الخير فيرغم بذلك أنوفهم. وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أى : وجب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : وَجَبَتْ جُنُوبُها أى : وقعت جنوبها على الأرض.
نزلت في قوم أسلموا بمكة ، وتركوا الهجرة ثم ماتوا. وقيل : ماتوا في غزوة بدر وكانوا يحاربون في صفوف الكفار على كره منهم فقتلوا.
المعنى :
لما اشتد إيذاء الكفار للمسلمين في أول الأمر وهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم هاجر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة ، وولدت الدولة الإسلامية. في هذا الوقت كانت الهجرة واجبة وكان بعض المسلمين قد هاجر مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يدخر وسعا في ذلك. وبعضهم قعد عنها حبّا في وطنه وإيثارا للدنيا وعرضها ، ومنهم من كان ضعيفا لا يقدر عليها لمرض أو كبر أو جهل بالطريق ، ومنهم من هاجر ومات في الطريق.
إن الذين قبضت أرواحهم الملائكة وهم في دار الشرك حالة كونهم ظالمي أنفسهم برضاهم الإقامة في دار الشرك وإيثارهم الدنيا وعرضها على نصرة الحق ، والهجرة مع رسول اللّه ، وبقبولهم الظلم والتضييق عليهم في عدم إقامتهم الشعائر الدينية. هؤلاء قالت لهم الملائكة توبيخا لهم وتأنيبا : في أى شيء كنتم من أمور دينكم ؟ فإنهم تركوا الهجرة التي كانت طريق نصرة الإسلام في مهده وهم قادرون عليها قالوا معتذرين بغير(1/417)
ج 1 ، ص : 418
العذر الحقيقي : كنا مستضعفين ومستذلين في مكة ، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته ، وهذه حجة واهية ، ولذا قالت لهم الملائكة : ألم تكن أرض اللّه التي يمكنكم فيها القيام بواجبات الدين والهجرة مع الرسول بدون تعرض لكم ، ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها ؟ ؟ نعم هي واسعة ولكنكم رضيتم بالذل ، وآثرتم الدنيا على نصرة الحق. فأولئك جزاؤهم جهنم وبئس المصير مصيرهم.
وفي هذا إشارة إلى أنه يجب على المسلم أن يفر بدينه إلى حيث يمكنه أن يقيم حدوده وواجباته حسبما أمر اللّه ، وقد استثنى اللّه من هؤلاء صنفا وهم المستضعفون حقيقة الذين لهم عذر مقبول كالشيوخ الضعفاء ، والعجزة من النساء والولدان الذين لا يستطيعون الهجرة ، وقد ضاقت بهم الحيل ، وعميت عليهم الطرق فلا يهتدون إلى سبيل منها ، مثل عياش بن ربيعة. ومسلمة بن هشام ، وأم عبد اللّه بن عباس ، وعبد اللّه بن عباس ، وغيرهم ، على أن المراد بالولدان المراهقون لا الصبيان ، فأولئك عسى اللّه أن يعفو عنهم ، ولا يؤاخذهم بالإقامة في دار الشرك وترك الهجرة ، وفي هذا إشارة إلى أن ترك الهجرة ذنب كبير ، وكان اللّه كثير العفو عن الذنوب غفورا لأصحابها.
وأما المهاجرون في سبيل اللّه وإن كان بهم ضعف فمن يهاجر منهم يجد في الأرض مكانا للهجرة ، ومأوى يسلكه ، فيه الخير والسعة والرزق والعزة ، وهذا ترغيب في الهجرة ، ووعد صريح لمن يخشى ترك المال والأهل ومشقة السفر والبعد عن الديار بأنه سيجد ما يغنيه ويرغم به أعداءه متى كانت هجرته خالصة لوجه اللّه!! ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى اللّه ورسوله ثم يدركه الموت قبل الوصول إلى المدينة ، فقد ثبت أجره على اللّه ، واللّه هو الذي أوجب هذا تفضلا وإحسانا
« إنما الأعمال بالنيات » .
روى أنها نزلت في جندب بن ضمرة وكان قد بلغه قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ (الآية) ، فقال لأولاده : احملوني إلى المدينة فلن أبيت بمكة الليلة ، فحملوه ومات بالطريق فنزلت هذه الآية.
وما أعظم الفرق بين هذا الوعد المؤكد الذي لا يعلم كنهه إلا هو وبين الوعد بالمغفرة لمن ترك الهجرة لضعفه.(1/418)
ج 1 ، ص : 419
والهجرة قبل الفتح كانت واجبة ليعز المسلم دينه ويقيم حدوده وأركانه ، ويتعلم الفقه ويأخذه من معينه الأول ولتقوية شوكة المسلمين ونصرة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتى إذا فتحت مكة ودخل الناس في دين اللّه أفواجا ، وانتشر الصحابة يعلمون الناس ويفقهونهم في دينهم ، وقويت شوكة الإسلام لم تعد الهجرة واجبة
« لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا » (رواه الشيخان).
كيفية الصلاة في السفر والحرب [سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 103]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)(1/419)
ج 1 ، ص : 420
المفردات :
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ : سافرتم فيها لأن المسافر يضرب الأرض برجليه أو بعصاه أو بقوائم راحلته. تَقْصُرُوا أى : تتركوا شيئا منها. يَفْتِنَكُمُ : يؤذونكم بالقتل أو غيره. كِتاباً : فرضا ثابتا ثبوت الكتابة في اللوح. مَوْقُوتاً :
منجما في أوقات معلومة.
لا زال الكلام في الجهاد والهجرة وما يتصل بهما ، وفيهما سفر وخوف فمن الحكمة بيان الصلاة فيهما.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا إذا سرتم في الأرض وسافرتم فيها لقصد الهجرة أو للحرب أو التجارة فليس عليكم جناح ولا إثم في قصر الصلاة الرباعية ، وهذه صلاة السفر المسماة في كتب الفقه بصلاة القصر ، وذلك أن السفر شدة ومشقة رخص الشارع فيها قصر الصلاة ، وقد ثبتت كيفيتها بالسنة المتواترة ، أما صلاة الخوف الآتية في الآية فثبتت كيفيتها بنص القرآن. والثابت عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعن أبى بكر وعمر وكبار الصحابة وصدر من خلافة عثمان أنهم كانوا يصلون في السفر الظهر ، والعصر ، والعشاء ركعتين ، ولذا قال الأحناف : إن قصر الصلاة في السفر عزيمة ، أى : واجب ، والشافعى يقول : إنها رخصة ، أى : جائز لك أن تتم وأن تقصر ، والظاهر أن الحق مع الأحناف.
وعثمان - رضى اللّه عنه - قيل : إنه أتم وهو بمنى صلاته ، وقد تأولوا ذلك بأنه كان متزوجا ونوى الإقامة ... ومسافة السفر التي تبيح قصر الصلاة وتبيح الفطر في رمضان(1/420)
ج 1 ، ص : 421
حددوها بمسيرة ثلاثة أيام بلياليها على القدم أو على البعير وحددت الآن بالكيلومتر حوالى 81 كيلو متر ، وبعضهم يرى القصر مع أى سفر كان.
إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بمعنى أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيره فليس عليكم جناح ، قال العلامة أبو السعود في تفسيره : « وهذا شرط معتبر في شرعية ما يذكر بعده من صلاة الخوف المؤداة بالجماعة ، وأما في حق مطلق القصر فلا اعتبار له اتفاقا لتظاهر السنن على مشروعيته » و
قد روى عن عمر - رضى اللّه عنه - أنه سئل عن قوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وعن أمن الناس فقال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : « صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته » .
فالظاهر - واللّه أعلم - أن السفر مطلقا يقتضى القصر ، وقوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ كقوله تعالى : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً « 1 » حيث إن الإكراه حرام مطلقا أردن التحصن أم لم يردن.
إن الكافرين كانوا لكم عدوّا مبينا ظاهرا فاحذروهم في السفر والإقامة ... ولقد ذكر القرآن الكريم كيفية صلاة الخوف بعد ذكرها مجملة ، وأنه لا إثم فيها لأنها تزيد على صلاة القصر بكثرة التغير عن الهيئة العامة مع القصر.
وإذا كنت يا محمد فيهم - وكذلك كل إمام قائم مقامك - فأقمت لهم الصلاة وناديتهم لها بالأذان والإقامة. فالواجب أن يقسم الجيش طائفتين ، فلتقم طائفة منهم معك في الصلاة وليأخذوا أسلحتهم معهم حتى لا يحتاجوا إلى مجهود عقب الصلاة ، وربما باغتهم العدو فيكونون على استعداد ، فإذا سجدوا فليكن الذين يحرسون من ورائكم في اتجاه العدو مستعدين لرده إن حدثته نفسه بالاعتداء ، والظاهر أن المراد بالسجود هنا إتمام الصلاة ، فإذا أتمت الطائفة الأولى صلاتها وأنت واقف في أول الركعة الثانية فلتأت الطائفة الثانية التي كانت حارسة ، وتقتدى بك وتأخذ حذرها وأسلحتها ، ولعل الحكمة في الأمر بأخذ الحذر لها أن العدو قد يكون تنبه في صلاة الطائفة الأولى فمن الحكمة أن تحذر الثانية وتتنبه ثم تصلى بها الركعة الثانية لك وتنتظرها في جلوس التشهد الأخير حتى تقوم هي وتصلى الركعة الثانية لها ثم تسلم بها ، وعلى هذا تحظى الطائفة الأولى بالتكبير مع الإمام والثانية بالتسليم معه.
___________
(1) سورة النور آية 33.(1/421)
ج 1 ، ص : 422
ولصلاة الخوف أحكام كثيرة في كتب الفقه وصفات الصلاة كلها تدور حول الآية وتختلف باختلاف ما إذا كان العدو في جهة القبلة أو غيرها.
والحكمة العامة في الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة ، أن الكفار يودون من صميم قلوبهم أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم ولو بانشغالكم في الصلاة ، فينقضون عليكم ويميلون عليكم ميلة واحدة بالقتل والنهب ولكن اللّه يريد لكم النصر والغلبة ، فيأمركم بالاستعداد والحذر.
ولا جناح عليكم إذا كان بكم أذى كمطر أو مرض أو عذر أن تضعوا أسلحتكم مع أخذ الحذر والاستعداد للعدو ، ولتعلموا أن النصر لكم ما نصرتموه. وأن اللّه يدافع عنكم إذا دافعتم عن قرآنه ودينه ، وأنه أعد للكافرين عذابا شديد الإهانة في الدنيا والآخرة.
وقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم ذات الرقاع ما معناه أنه صلّى بطائفة ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم الركعة الثانية وسلموا وانصرفوا تجاه العدو ، وجاءت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية التي بقيت لهم ثم أتموا فسلم بهم.
وقال بهذه الصلاة أكابر الصحابة ومالك والشافعى رضى اللّه عنهم جميعا.
فإذا أديتم الصلاة - أى : صلاة الخوف - فاذكروا اللّه في أنفسكم بتذكر نعمه ، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء في أى حال تكونون من قيام وقعود واضطجاع.
وإذا كنا مأمورين بالذكر في الحرب على كل حال ولا عذر في تركه!! فما بالنا في السلم ، فإذا اطمأننتم بانتهاء الحرب أو الحلول في دار الإقامة بعد السفر فأقيموا الصلاة كالمعتاد تامة الأركان والشروط ، إن الصلاة عماد الدين قد فرضها اللّه فرضا ثابتا كالكتابة في اللوح ، موقوتا بأوقات معلومة ، فلا يصح أن يترك وقتها أبدا حتى في الحرب وساعة الخوف فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية 239].
وإتمام صلاة الخوف بالجماعة يدل على أن الجماعة مطلوبة في أشد الأحوال.(1/422)
ج 1 ، ص : 423
في الحث على القتال أيضا [سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
المفردات :
وَلا تَهِنُوا : لا تضعفوا. فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ : في طلب القوم ورد عدوانهم.
المعنى :
يرشدنا اللّه إلى أننا لا نضعف ولا نهن في طلب القوم الذين ناصبونا العداء.
وجاهرونا بالبغضاء ، إن كنتم تتألمون من الحرب وشدتها فإنهم كذلك يتألمون مثلكم ولكنكم تنتظرون إحدى الحسنيين وترجون من اللّه نصرة دينه ، وفوز حزبه والثواب الجزيل على حرب الأعداء ، وكان اللّه عليما حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
وهذا من باب تقوية الروح المعنوية ، وشحذ العزائم بالنسبة لمن يتربص بالإسلام الدوائر ، ويناصبونه العداء بل ويعتدى علينا بالفعل.
أما من لم يقاتلنا في الدين ولم يخرجنا من ديارنا فلا جناح علينا أن نبرهم ونقسط إليهم ، ونعاملهم معاملة حسنة ، وصدق اللّه : لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة آية 8)(1/423)
ج 1 ، ص : 424
حفظ الحقوق وعدم المحاباة في الأحكام [سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)(1/424)
ج 1 ، ص : 425
المفردات :
لِلْخائِنِينَ : الذين يخونون أنفسهم بارتكاب المعاصي. وَلا تُجادِلْ
المجادلة : أشد أنواع المخاصمة. خَوَّاناً أَثِيماً
: مبالغا في الخيانة وركوب الآثام.
يَسْتَخْفُونَ
: يستترون من الناس حياء وخوفا. يُبَيِّتُونَ
: يدبرون ، والأكثر أن يكون هذا ليلا. وَكِيلًا
: حفيظا يوكل إليه الأمر في الحفظ والحماية.
خَطِيئَةً
: ذنبا بلا قصد ، والإثم : الذنب المقصود. يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
: يقذفه به ويسنده إليه. بُهْتاناً
: كذبا يبهت الغير ويجعله يتحير عند سماعه.
سبب النزول :
روى أن طعمة بن أبيرق أحد بنى ظفر من الأنصار سرق درعا - من جار له - في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه ، وخبأها عند زيد بن السمين من اليهود ، فالتمسوا الدرع عند طعمة فلم يجدوها وحلف باللّه ما أخذها ، فساروا في أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوها ، فقال : دفعها إلىّ طعمة ، وشهد له ناس من اليهود بذلك ولكن طعمة أنكر ذلك ، فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول اللّه ، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا : إن لم تفعل هلك وافتضح وبرىء اليهودي فهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي ، فنزلت.
وروى أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ، وقد سقط عليه حائط في سرقة فمات.
المعنى :
أراد اللّه - سبحانه وتعالى - أن يأمر رسوله بإقامة العدل والحكم بما أنزل اللّه ، والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في المكان الذي نعرفه ، فما بال الناس والحكام غيره ؟ ! إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن هاديا إلى صراط اللّه العزيز الحكيم ، وهو الحق من عنده ، والحق في خيره وطلبه وحكمه ، أنزله لتحكم بين الناس بما علمك اللّه وأرشدك إليه ، فاحكم بين الناس به ، ولا تكن لمن خان نفسه وغيّر ضميره مخاصما ومدافعا تدافع عنه وترد من طالبه بالحق.(1/425)
ج 1 ، ص : 426
فعلى الحكام أن يبحثوا في القضية ، ويدققوا النظر في شكلها وموضوعها ، ولا تغرنهم بلاغة الخصم ولحنه في القول ، ولا تأخذهم العاطفة الدينية أو الجنسية فيميلوا لبنى جنسهم أو دينهم ، ولعل السر فيما دار في خلد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن طعمة المسلم يغلب عليه الصدق ، وذاك اليهودي يغلب عليه الكذب والخداع.
والثابت أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول القرآن ولم يعمل بغير ما يعتقد لكنه أحسن الظن في المسلم ، فبين له علام الغيوب حقيقة الأمر.
واستغفر - يا محمد - اللّه مما يعرض لك من شئون البشر وميلك إلى من هو ألحن بحجة أو إلى من هو مسلم لإسلامه فهذا وإن لم يكن ذنبا إلا أنه في صورة الذنب. إن اللّه كان غفورا لذنوب عباده ، ستارا رحيما بهم.
ولا تجادل - يا محمد - عن الذين يخونون أنفسهم بتعديهم على حقوق الغير ، إن اللّه لا يحب بل يبغض من كان كثير الخيانة دائبا على ارتكاب الإثم ، واجتراح السيئة!! والخيانة مطلقا تقتضي عدم المحبة من اللّه لصاحبها ، ولكن الوصف المبالغ فيه في الآية لبيان ما كان عليه من طعمة وأقاربه ، هؤلاء وأمثالهم الذين يأخذون المال خفية يستخفون من الناس ، ويستترون منهم حياء وخوفا ، ويا للعجب العجاب!! يستخفون من اللّه عالم الغيب والشهادة الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وبالضرورة يعلمهم ويشاهدهم وقت أن يدبروا ليلا ما لا يرضى اللّه ورسوله ، تبرئة لأنفسهم ولصاحبهم ولرمي غيرهم بالجريمة وهم يعلمون أنه برىء ، وما ذاك إلا لضعف دينهم ولصدأ قلوبهم ، وكان اللّه بما يعملون محيطا وحافظا لهم ، فكيف ينجون من عقابه ؟
أيها الأقارب لطعمة : ها أنتم أولاء جادلتم عن صاحبكم ومن وقف معه تبرئة له ، زورا وبهتانا ، جادلتم في الدنيا ، فمن يجادل عنهم يوم القيامة ؟ يوم تكشف السرائر ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ للّه ؟ بل من يكون عليهم وكيلا ومدافعا عنهم ؟ لا أحد إلا أعمالهم تنطق عليهم ، فلينظر كل إلى عمله.
ومن يعمل سوءا يتعدى جرمه إلى غيره أو يظلم نفسه بفعل معصية خاصة ، ثم هو يرجع إلى اللّه ويتوب نادما على فعله فإنه يجد اللّه غفورا رحيما يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، لأنه كتب على نفسه الرحمة ، فلا تيأسوا من رحمته ، ومن يفعل(1/426)
ج 1 ، ص : 427
إثما ويرتكب جرما ظنّا منه أنه كسب لنفسه شيئا فإنما مكسبه وبال وضرر عليه لا يتعداه إلى غيره ، فليبق على نفسه من كسب السوء ، وليعلم أن اللّه عليم به ، وحكيم في وضعه العقاب الصارم للمذنب.
ومن يكسب ذنبا خطأ بلا قصد أو ذنبا آثما فيه وقاصدا له ثم يجنى جناية أخرى بأن يرمى به شخصا بريئا لا ذنب له مهما كان دينه وجنسه ولونه ، فقد احتمل بشدة وألم بهتانا حيث كذب على اللّه في ادعائه البراءة واتهامه البريء الذي يبهت ويتحير عند سماعه هذا الاتهام ، وقد احتمل إثما في ارتكاب الذنب.
فانظر يا أخى كيف ينشد الإسلام العدالة حيثما كانت ويطبقها على المسلم وغيره!! ولو لا فضل اللّه عليك يا محمد أنت وأمتك ورحمته بك وأنه عصمك من الوقوع في الخطأ العملي والقولى ، ويمنع عنك أذى الأشرار الذين يحاولون إضلالك وتلبيس الحق بالباطل وإخفائه عليك ، لهمت طائفة منهم أن يضلوك ، فإن الإنسان مهما كان إذا أحيط بجماعة كهؤلاء يحتاج إلى بحث وفكر حتى يميز حقهم من باطلهم ، ويكشف حيلهم ويرد كيدهم ، ومن ثم تفضل اللّه بزحزحة الأشرار عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصرف كيدهم عنه حتى يسير على طريق اللّه وهدى القرآن والنور الذي أنزل عليه كاشفا له الحقائق ليكون حكمه سليما عادلا.
والواقع أنهم بهذا لا يضلون إلا أنفسهم ، إذ الوزر عليهم فقط ، وما يضرونك أبدا وقد عصمك اللّه من كل مكروه وأنزل عليك القرآن ، والحكمة - وهي فقه مقاصد الدين وأسراره - وعلمك ما لم تكن تعلم قبل ذلك ، ولا غرابة ففضل اللّه عليك عظيم إذ أرسلك للناس كافة وجعلك خاتم الأنبياء ، وشهيدا عليهم يوم القيامة ، وعصمك من الناس ، وجعل أمتك وسطا ، وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها.(1/427)
ج 1 ، ص : 428
إرشادات [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
المفردات :
نَجْواهُمْ : مسارتهم بالحديث. أَوْ مَعْرُوفٍ : ما يعرفه الشرع ويقره العقل. يُشاقِقِ المشاقة : المعاداة والمخالفة ، وذلك أن كل واحد من المتعادين يكون في شق.
سبب النزول :
نزلت في تناجى أهل طعمة ليلا بالفساد وتعاونهم على الشر وروى أن طعمة ارتد ومات مشركا فنزلت آية وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ في حقه.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ولكن تناجوا بالبر والتقوى وفعل الخير والمعروف ، وذلك أن التناجي وحديث السر مظنة لارتكاب الإثم : إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ « 1 » إذ
« الإثم ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه غيرك »
___________
(1) سورة المجادلة آية 10.(1/428)
ج 1 ، ص : 429
(حديث شريف)
،
ولما كان التناجي قد يكون في الأمور العادية كالزراعة والتجارة مثلا ، وفيما يضر شرعا قال اللّه : لا خير في كثير من تناجى الناس إلا نجوى من أمر بصدقة أو بما تعارف عليه الشرع من كل خير عام ، أو بإصلاح بين الناس في الخصومة والنزاع ، والخيرية في هذه الأشياء الثلاثة إنما يكون في السر دون الجهر : إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ « 1 » وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا ما كان في السر كان أجدى لمن يسدى له النصيحة ، والإصلاح بين الناس قد يكون في السر أدعى لإزالة الخصومة وسل السخيمة وتقريب الشقة.
ومن يفعل ذلك بقصد طلب الرضا من اللّه بأن يكون الدافع له على هذا العمل في السر الرغبة في رضوان اللّه فسوف يؤتيه أجرا عظيما واللّه أعلم به.
ومن يشاقق الرسول بارتداده عن الإسلام وإظهاره عداوته له من بعد ما ظهرت له الهداية على لسان رسوله ، ويعادى سنته ويتبع غير سبيل المؤمنين ويخالف إجماعهم وما اتفقوا عليه فجزاؤه أن اللّه يوليه ما تولى ويتركه يتخبط في دياجير الظلام والضلال :
فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف آية 5] وجعل النار مصيرهم وساءت مصيرا ، ويمكن أن نفهم من هذه الآية أن الوجهة التي يتوجه إليها الإنسان ويرضاها لنفسه يوليه اللّه إياها ويسيره في طريقها ، وعلى ذلك فاستحقاقه العقاب أمر طبيعي لاختياره طريق الشر وبعده عن الصراط المستقيم.
الشرك وخطره ، والشيطان وأثره [سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
___________
(1) سورة البقرة آية 271.(1/429)
ج 1 ، ص : 430
المفردات :
يَدْعُونَ : يتوجهون ويطلبون المعونة ، وهذا نوع من العبادة. شَيْطاناً قيل : إنه الخبيث من الجن والإنس. مَرِيداً : متمرنا على الخبث والخبائث.
لَعَنَهُ : طرده من الرحمة مع السخط والإهانة. مَفْرُوضاً : معينا ثابتا.
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ : لأدفعنهم إلى الضلال والفساد. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ : أزين لهم الأمانى الباطلة المبنية على غير أساس. فَلَيُبَتِّكُنَّ البتك : القطع ، والمراد قطع آذان الأنعام لأجل تمييزها للآلهة. مَحِيصاً : مهربا ومخلصا.
المناسبة :
بين اللّه جزاء العصيان والخروج عن الشرع ومشاقة الرسول والمؤمنين ، وهنا بين أن اللّه لا يغفر الشرك به أصلا ويغفر غيره لمن يشاء ، وهذا تحذير وإطماع.
المعنى :
الشرك باللّه لا يصدر عن قلب فيه مثقال ذرة من إيمان ، ولذلك لا يغفر اللّه الشرك أصلا ، ولكنه يغفر ما دون ذلك - لأن القلب فيه بقية من نور الإيمان - لمن يشاء من(1/430)
ج 1 ، ص : 431
عباده الذين تابوا إلى اللّه وأنابوا إليه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها « 1 » والقرآن الكريم ساق مثل هذه الآية قريبا تسجيلا لفظاعة جرم الشرك باللّه بالنسبة لغيره من المعاصي ، وليس هناك تكرير للآية وإنما هو مبدأ قرآنى وقاعدة مهمة في الدين تذكر عند ما يناسبها كرأى السياسى أو مذهبه الذي يذكره ويكرره في كل خطبة مع ما يناسبه من قول محكم ومعنى دقيق ، ومن يشرك باللّه شيئا من الإشراك في القول أو الفعل أو الاتجاه أو التقديس فقد ضل ضلالا بعيدا عن الخير والرشد ، ما يعبدون بدعائهم غير اللّه إلا أمواتا لا ينفعون ولا يضرون بل إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ « 2 » وقيل : سماها إناثا لأنها اللات والعزى ومناة ، وما يدعون بذلك إلا شيطانا متمرنا على الإيذاء والخبائث لعنه اللّه وطرده من رحمته مع الذل والهوان ، فإنه داعية الشر والفساد ، ولذا يقسم : لأتخذن من عبادك جزءا من الناس معينا لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ « 3 » وقيل : ما من إنسان إلا وفيه استعداد للخير وللشر ووسوسة الشيطان وهذا معنى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ « 4 » ولأضلنهم وأصرفنهم عن العقائد الصحيحة والطرق المستقيمة مغريا لهم بالأمانى الباطلة ، كما إذا وسوس لإنسان بارتكاب المعاصي وغره بالمغفرة أو الشفاعة ... إلخ ، من الأمانى الكاذبة ، وهذا ديدن الشيطان وطبعه إضلال العباد وملء عقولهم بالأمانى الباطلة ، ولآمرنهم بكل سوء وضار فليقطعن آذان الأنعام للآلهة كما كانوا يفعلون في البحيرة من شق الآذان أو قطعها.
ولآمرنهم فليغيرن خلق اللّه وفطرته التي فطر الناس عليها وهي الاهتداء إلى الحق والدين الصحيح فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها « 5 » إذ
«
كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه » (حديث شريف).
وقيل : المراد بتغيير خلق اللّه الأمور الحسية كالخصاء وغيره ، وقد روى المعنيان عن السلف الصالح ، ومن يتخذ الشيطان وليّا وإماما من دون اللّه فقد باء بالخسران المبين ، وهل هناك خسران أكثر من ترك هدى القرآن واتباع أساليب الشيطان ؟
___________
(1) سورة الشمس الآيتان 9 و10.
(2) سورة الحج آية 73. [.....]
(3) سورة ص الآيتان 82 و83.
(4) سورة البلد آية 10.
(5) سورة الروم آية 30.(1/431)
ج 1 ، ص : 432
وهو يعدهم الباطل ويمنيهم بالكاذب ، يعدهم بالفقر والمرض والتأخر والبعد عن الحضارة ويمنيهم الأمانى الواسعة الكاذبة ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وباطلا ، أولئك المتبعون للشيطان التاركون للقرآن مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ولا مهربا وبئس المصير مصيرهم.
والذين آمنوا باللّه ورسوله وعملوا الصالحات ولم يقترفوا المنكرات وخالفوا أنفسهم وشياطينهم وكانوا من عباد اللّه المخلصين الذين قوى اللّه إيمانهم وأنار بصيرتهم أولئك سيدخلهم ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ولهم فيها ما يدّعون نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ « 1 » وعد اللّه ومن أصدق من اللّه حديثا ؟ فانظر يا أخى - رعاك اللّه ووفقك - أين أنت من هؤلاء وأولئك! ؟ وهل أنت من حزب الرحمن ؟ !!
الأمانى وعاقبتها ، والعمل وجزاؤه [سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً (126)
___________
(1) سورة فصلت آية 32.(1/432)
ج 1 ، ص : 433
المفردات :
بِأَمانِيِّكُمْ الأمانى : مفردها أمنية ، وهي تمنى الشيء المحبوب. وَلِيًّا :
يتولى أمره ويدافع عنه. نَقِيراً : هو النقرة في النواة ، ويضرب بها المثل في القلة.
حَنِيفاً : مائلا عن الزيغ والضلال. خَلِيلًا الخليل : المحب الذي يدفع الخلة ، أى : الحاجة عن صاحبه وقد تخللت محبته قلبه.
المناسبة :
مر أن الشيطان يعد أصحابه ويمنيهم الأمانى الكاذبة وقد كان لهذا أثر في نفوس أهل الكتاب وبعض ضعاف الإيمان من المسلمين فناسب بيان حقيقة الأمانى وأثرها والعمل وجزائه.
المعنى :
ليس الثواب يوم القيامة يحصل بالأمانى منكم أيها المسلمون أنتم وأهل الكتاب ، ولكن الثواب المعد في الآخرة إنما هو منوط بالعمل ، فمن يعمل مثقال ذرة من سوء يجز به الجزاء المساوى لعمله حسبما وعد اللّه ، ولا يجد له من غير اللّه وليا يتولى أمره أو يدافع عنه ولا نصيرا ينصره يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم ، ومن يعمل مثقال ذرة من الصالحات سواء كان ذكرا أو أنثى عربيا أو عجميًّا وقد جمع مع ذلك الإيمان الخالص باللّه ورسوله فأولئك يدخلون الجنة التي وصف لهم بعض ما فيها في القرآن وصفا قريبا من المشاهد المحسوسة حتى تتصوره عقول البشر ، ولا يظلم أحد نقيرا ، والنقير مثل في القلة ، واللّه أرحم الراحمين لا يظلم أحدا من العالمين ، ولا يزيد في عقاب المقصرين وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ « 1 » وبعد أن بيّن - سبحانه - أن الجزاء منوط بالعمل لا بالأمانى ولا الغرور الكاذب أردف ذلك بذكر درجات الكمال فقال :
لا أحد أحسن دينا من دينمن أسلم وجهه للّه وجعل قلبه خالصا له ، وفوض أمره إليه لا يعرف رباّ سواه وبالطبع لا أحد يساويه ، وقد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه
___________
(1) سورة الزلزلة آية 8.(1/433)
ج 1 ، ص : 434
لأن الوجه هو المرآة لما في القلب ، ومع هذا الإيمان الكامل هو محسن للعمل ، والإحسان : أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، واتبع ملة إبراهيم وطريقته حالة كونه حنيفا ومائلا عن الشرك ، فهو الذي تبرأ من الوثنية وأهلها وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ « 1 » .
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا جملة اعتراضية تفيد مبلغ تفانى إبراهيم الخليل في الذات العلية وإخلاصه في إيمانه إخلاصا جعله خليل الرحمن عدو الشيطان ، وقد اختصه اللّه بكرامات ومنزلة يشبه بها الخليل لدى خليله ، ومن كان كذلك كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته.
واعلموا أن للّه ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعبيدا فهو القادر على جزاء العاملين خيرا أو شرا. إذ الكل ملكه فلم يخرج أحد من ملكوته ، وهو المستحق للطاعة والعبادة وحده إذ هو المالك ومن عداه مملوك ، ولم يتخذ إبراهيم خليلا لحاجة إذ له ملك السموات والأرض وما فيهن ، وإبراهيم عبد خاضع ، والمولى سيد قاهر جل شأنه ، وكان اللّه بكل شيء محيطا بعلمه وقدرته وتدبيره وخلقه.
حقوق الضعفاء وعلاج المشاكل الزوجية [سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
___________
(1) سورة الزخرف آية 26 - 28.(1/434)
ج 1 ، ص : 435
المفردات :
يَسْتَفْتُونَكَ : يطلبون منك الفتيا. يُفْتِيكُمْ : يبين لكم ما أشكل من أمورهن. ما كُتِبَ لَهُنَّ أى : فرض لهن من ميراث وصداق. وَأَنْ تَقُومُوا : وأن تعنوا عناية خاصة بهن. بِالْقِسْطِ : العدل. خافَتْ مِنْ بَعْلِها : توقعت من زوجها. نُشُوزاً : تكبرا وتعاليا. إِعْراضاً : ميلا.
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ : جعلت مطبوعة عليه وحاضرة له لا تنفك عنه أبدا.
كَالْمُعَلَّقَةِ : التي ليست مطلقة ولا ذات بعل. سَعَتِهِ السعة : الغنى.
المناسبة :
كان الكلام أول السورة في الأحكام المتعلقة باليتامى والنساء والقرابة والإرث والمصاهرة ، ومن قوله تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً في أسس الدين وما يتعلق بذلك من ذكر أهل الكتاب ، والقتال ، وقد كثر السؤال بشأن حقوق النساء(1/435)
ج 1 ، ص : 436
واليتامى والعدل بينهن وهل يحل أن يمنع اليتيمة ما كتب لها من الإرث حين يرغب في نكاحها ؟ وبما ذا يصالح امرأته ؟ كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته والسؤال عنه ، ولذا سئل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك كثيرا فما بين حكمه فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك الكتاب ، أى : هذه السورة وما لم يبين حكمه بعد بين هنا.
المعنى :
ويستفتونك يا محمد في حقوق النساء على الإطلاق الشاملة للميراث وحقوق الزوجية والمعاشرة ، قل : اللّه يفتيكم فيهن ويبين لكم ما أشكل من أمرهن وكذلك يوضح لكم هذا ما أنزله اللّه من الآيات السابقة في أول السورة التي تتلى عليكم كأحكام معاملة النساء اليتامى في المواريث فقد جرت عادتكم ألا تعطوهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان في أيديكم ، وما يتلى عليكم في هذا قوله : وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ولا تأكلوها (الآية). وترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن. وقيل :
المعنى : وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن فلا تنكحوهن ، وما يتلى عليكم قوله :
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا (الآية). وقد كان الرجل منهم يضم اليتيمة ومالها إلى نفسه فإن كانت جميلة تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيدفنها.
وما يتلى عليكم كذلك في شأن المستضعفين من الأولاد لا تعطونهم حقهم في الميراث وذلك قوله تعالى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (الآية).
واللّه يذكرهم بالآيات السابقة ليتدبروا معناها فإن النفس كثيرا ما تتغافل عن دقائق الأحكام خصوصا إذا كانت الآيات تخالف طبائعهم وما ألفوه من الظلم والجور ، واللّه يرشدكم إلى أن تقوموا لليتامى من هؤلاء النساء والولدان الضعفاء بالعدل وأن تعنوا بهم عناية خاصة.
وما تفعلوا من خير - قل أو كثر - فإن اللّه عليم فسيجازيكم عليه أحسن الجزاء ، وما تفعلوا من شر - قل أو كثر - فإن اللّه به عليم ومجازيكم عليه.
وإن كانت امرأة تتوقع من زوجها استكبارا وعلوّا عليها بأن يمنعها نفسه ويغلظ لها(1/436)
ج 1 ، ص : 437
القول أو يعاملها معاملة قاسية لا تتناسب مع رابطة الزوجية التي عبر عنها القرآن بقوله :
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم آية 21].
وعلى المرأة الانتظار والتريث فربما يكون الزوج مضطرّا إلى هذا العمل لظروف خاصة له فإذا أحست منه ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها ، فلا إثم عليها ولا حرج في أن يصلحا بينهما بأن تعرض على زوجها التنازل عن بعض حقوقها ونفقاتها لتبقى في عصمته إن كان ذلك خيرا لهما أو تتنازل عن نفقة العدة أو عن بعض الصداق ومتعة الطلاق ليطلقها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ « 1 » إن كان في هذا خير لها.
وقد روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد فقالت :
لا تطلقني ودعني أقم بتربية ولدي وتقسم لي في كل شهرين فقال : إن كان هذا يصلح فهو أحب لي ، والصلح خير من الطلاق والشقاق والخلاف الذي يهدم كيان الأسر ويقطع رابطة من أقدس الروابط ، وناهيك أن الطلاق أبغض الحلال إلى اللّه فالصلح هو الخير حتى لا يمنى المجتمع بداء التفرق فإن فيه القضاء على الأولاد الصغار وضياعهم ماديا وأدبيا ، ويشير القرآن إلى أن الشح طبع في النفوس فقد جعلت حاضرة له ومطبوعة عليه فتجد المرأة تشح نفسها ولا تسمح بحقوقها التي قبل الرجل وترى الرجل شحيحا لا يجود بحسن المعاشرة وطيب المعاملة ، هكذا جبلت النفوس. وعلى هذا طبعت ، وأحضرت الأنفس الشح وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ « 2 »
فالقرآن يحث كلا من الزوجين على التنازل عن بعض الحقوق وعلى معالجة شح النفس ، ويقول لهم أيضا : وأن تحسنوا المعاملة وتتقوا النشوز والإعراض والمعاكسة وتصبروا على ما يبدو من أحد الزوجين مراعاة لحقوق الزوجية وهناءتها ، أن تفعلوا ذلك فإن اللّه بما تعملون خبير وبصير.
ولن تستطيعوا العدل بين النساء ولو كنتم حريصين على ذلك ففي المعاملة أمور مادية وأخرى غير مادية ، وأما المادية فتستطيعون فعلها والعدل فيها كالمبيت والنفقة والكسوة ... إلخ ، أما الأمور القلبية كالميل والحب وغير ذلك مما يكون الباعث عليه
___________
(1) سورة البقرة آية 229.
(2) سورة الحشر الآية 9 والتغابن 16.(1/437)
ج 1 ، ص : 438
الوجدان والشعور النفسي ، فهذا مما لا تملكونه ، ولهذا خفف اللّه عنكم ورفع الحرج فيه.
ولكن لا تميلوا كل الميل بحيث تترك المرأة الثانية كالمعلقة لا هي مطلقة ولا هي متزوجة بل عليكم إرضاؤها وحسن عشرتها ومحاربة الميول الجارفة لضرتها حتى لا تتألم.
وإن لم ينفع العلاج واستفحل الداء حتى صار البيت كالمرجل المغلق المليء بالبخار المعرض للانفجار في أى وقت وانفجاره قد يودى بشرف الأسرة كلها وهتك حجابها فإن الكريم العليم الخبير بطبائع النفوس قد فتح بابا للتخلص من هذا حتى تهدأ النفوس وتسكن ، ألا وهو باب الطلاق ، وإن يتفرقا يغن اللّه كلا منهما من سعته وقدرته ، وربما بعد الانفصال يعودان على أحسن حال وقلوب العباد بين أصابع الرحمن يقلبها كيفما شاء.
وكان اللّه واسع الفضل والتدبير حكيما فيما شرعه لعباده.
كمال القدرة [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)(1/438)
ج 1 ، ص : 439
المعنى :
واعلموا أن للّه ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وإيجادا وتصريفا له الحكم وإليه ترجعون. ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب كالتوراة والإنجيل والزبور من قبلكم وهم اليهود والنصارى ، ووصيناكم أنتم يا أمة محمد كذلك بأن اتقوا اللّه جميعا ، وفي هذا إشارة إلى أن الأديان جميعها متفقة على مبدأ التوحيد وتقوى اللّه ومختلفة في الفروع تبعا للزمان والمكان ، وإن تكفروا باللّه فاعلموا أن له ما في السموات وما في الأرض وكان اللّه غنيا عن عبادتكم ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ « 1 » وللّه ما في السموات وما في الأرض وكفى باللّه وكيلا. ثم هدد تهديدا عاما صريحا إن يشأ اللّه يذهبكم أيها الناس ويستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ، وكان اللّه على ذلك قديرا.
أيها الناس : من كان يريد بعمله ثواب الدنيا فقد أخطأ فعند اللّه ثواب الدنيا والآخرة فليرجوا ثوابهما معا رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ « 2 » فبدل أن يبغى بالجهاد الدنيا فقط كالغنيمة فليرج بعمله ثواب الدنيا والآخرة وكان اللّه سميعا لكل قول ، بصيرا بكل قصد وعمل.
وفي هذه الآية إشارة صريحة إلى أن الدين الإسلامى كفل لأتباعه وكل من سار على هديه سعادة الدنيا والآخرة ، وقد تحقق هذا في صدر الإسلام بما لم يتفق لأمة في المعمورة إلى الآن ، ولو استقام المسلمون على سنة كتابهم وهدى دستورهم ورجعوا إلى الدين لاستردوا مكانتهم التي بهرت العالم قرونا طويلة.
___________
(1) سورة الذاريات آية 57.
(2) سورة البقرة آية 201.(1/439)
ج 1 ، ص : 440
العدل والشهادة للّه والإيمان به وبكتبه [سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
المفردات :
قَوَّامِينَ : جمع قوّام ، وهو المبالغ في القيام بالشيء حتى يأتى على خير وجه.
انظر إلى قوله تعالى : أَقِيمُوا الصَّلاةَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ. تَلْوُوا أى : ألسنتكم بالشهادة ، والمراد تحرفونها ولا تأتون بها على وجهها. فإن اللّيّ هو التحريف وتعمد الكذب. تُعْرِضُوا : لا تؤدوها.
المعنى :
يأمر اللّه - سبحانه وتعالى - عباده بأن يكونوا قوامين بالعدل ومبالغين في الإتيان به على خير وجه ، لا تأخذهم في اللّه لومة لائم ، لا يصرفهم عنه صارف مع التعاون والتساند والتناصر ، وأن يؤدوا الشهادة للّه ابتغاء رضوانه وحينئذ تكون شهادة عامة خالية من التحريف والتبديل والكتمان ولو كانت على أنفسكم فاشهدوا الحق ولو عاد(1/440)
ج 1 ، ص : 441
ضرره عليكم أو على الوالدين والأقربين فإن بر الوالدين وصلة الأقارب لا تكون بالشهادة لغير اللّه ، ولا تراعوا غنيا لغناه أو ترحموا فقيرا لفقره بل اتركوا الأمر للّه ، فاللّه يتولى أمرهما وهو أعلم بما فيه صلاحهما فلا تحملنكم العصبية وهوى النفس وبغضكم الناس على ترك العدل فيما بينكم وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى « 1 » ومن هذا ما
روى أن عبد اللّه بن رواحة لما بعثه صلّى اللّه عليه وسلّم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال : واللّه لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلىّ ، ولأنتم أبغض إلىّ من أعدائكم من القرود والخنازير ، وما يحملني حبى إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم.
فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض.
وأن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرفوها أو تعرضوا عن إقامة الشهادة وتكتموها فاعلموا أن اللّه بما تعملون خبير وسيجازيكم بذلك.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ : المعنى : اثبتوا على ذلك وداوموا عليه وازدادوا يقينا ، وآمنوا بالكتاب الذي أنزله اللّه على رسوله وهو القرآن وجنس الكتاب الذي أنزله على رسله كالتوراة والإنجيل ، ومعنى الإيمان بالقرآن التصديق بأنه أنزل من عند اللّه على خاتم الأنبياء والمرسلين وهو الناسخ لما قبله ليس بعده شيء ، والإيمان بالكتب السابقة على أنها من عند اللّه نزلت على موسى وعيسى.
وقيل : هو خطاب لمؤمنى أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وأضرابه أتوا رسول اللّه قالوا : نؤمن بك وبكتابك والتوراة وبموسى ونكفر بما عدا ذلك ، فقال - عليه السلام - : بل آمنوا باللّه ورسوله والقرآن وبكل كتاب قبله. فقالوا : لا نفعل ، فنزلت ، فآمنوا كلهم ، ثم توعد من لم يؤمن بما ذكر بقوله : ومن يكفر باللّه وملائكته الذين هم رسل اللّه إلى أنبيائه وبرسله إلى خلقه واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا عن طريق الحق ونور الهدى ، فاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض إيمانهم لا يعتد به إذ الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل ، لأنه لو آمن إيمانا صحيحا بنبيه وكتابه لما كفر بمحمد المبشر به عندهم.
___________
(1) سورة المائدة آية 8.(1/441)
ج 1 ، ص : 442
المنافقون وصفاتهم [سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 143]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)(1/442)
ج 1 ، ص : 443
المفردات :
بَشِّرِ : المراد أنذر ، وإنما قال : بشر تهكما بهم. الْعِزَّةَ : القوة والمنعة. يَخُوضُوا : يدخلوا. يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ : ينتظرون وقوع أمر بكم.
نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ الاستحواذ : هو الاستيلاء ، والمراد : ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم.
المعنى :
من الناس من ران على قلبه ظلمات الغي والضلال فختم اللّه عليه وحجب بصره كثرة الفسوق والعصيان حتى لم يعد عقله يرى نور الإيمان ، ولا قلبه يهتدى بهدى القرآن ، أولئك هم الذين تذبذبوا واضطربوا ، فمرة هم مؤمنون في الظاهر وإذا خلوا إلى شياطينهم فهم كافرون ، وإذا عادوا مع المؤمنين آمنوا ثم ارتدوا كافرين بل أشد كفرا وعنادا مما جاهر بالكفر وثبت عليه ، أولئك هم المنافقون الذين كانوا حربا على الإسلام وخطرا داهما على الدولة ، وهؤلاء بطبيعتهم التي وصفها القرآن يستحيل عليهم الهداية فإن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد ، وقلوب هؤلاء تراكم عليها الصدأ حتى أكلها وأفناها ، فإن اللّه لن يغفر لهم ولن يهديهم سبيلا إلى الخير لأنهم لم يحاولوا الهداية ولم يفتحوا عيونهم للنور أبدا.
أنذر هؤلاء المنافقين بأن لهم عذابا أليما إذ هم في الدرك الأسفل من النار ، هؤلاء هم الذين يتخذون الكافرين أولياء متجاوزين المؤمنين اعتقادا منهم أن الدولة للكافرين ولم يعلموا أن العاقبة للمتقين لأن اللّه معهم.
وكذبوا وافتروا : أيبتغون العزة عند هؤلاء ؟ كيف يطلبون من هؤلاء القوة والمنفعة وهم أعداء اللّه وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين وأوليائه.
وقد نزل عليكم في الكتاب حيث قال : وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.
والخطاب موجه إلى المؤمنين مطلقا الصادقين والمنافقين ، أى : إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها الكافرون ويستهزئون بها فلا تستمعوا لهؤلاء ولا تجالسوهم حتى يتكلموا في(1/443)
ج 1 ، ص : 444
حديث آخر غير حديث الكفر والإلحاد إنكم إن قعدتم معهم وهم يتكلمون بالباطل في الدين ويستهزئون بالقرآن تكونوا مثلهم ، وقد كان المنافقون يجالسون اليهود ويستعمون إليهم وهم يجعلون القرآن موضع الهزء والسخرية ، إن اللّه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ، فإنهم بين مرتكب للإثم وراض عنه غير منكر بل مشجع على ارتكابه.
هؤلاء المنافقون الذين يتربصون بكم وقوع الأمر المؤلم وأن تدور الدائرة عليكم وينتظرون ما يحدث لكم من خير وشر ، فإن كان لكم نصر من اللّه وفتح قالوا : نحن معكم نستحق في الغنيمة ، وإن كان للكافرين نصيب في النصر كما حصل يوم أحد قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم ونحن نمنعكم من المؤمنين بتخذيلهم وإذاعة الأخبار التي تثبط قلوبهم وتلقى الرعب فيها ، وإذا كنا نهينا عن مجالسة هؤلاء فكيف بنا إذا اتخذناهم أولياء ؟ فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة فيجازى كلا على عمله ، ففريق في الجنة وفريق في السعير ، ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا يغلبونكم به على أمركم ، وحيث وصف المؤمنين بهذا الوصف وهو الإيمان فإن تحقق الإيمان تحقق وعد اللّه بالنصر وغلبة المؤمنين على الكافرين ، وقريب من هذا قوله تعالى :
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا « 1 » كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
« 2 » وأين هم المؤمنون الصادقون في الإيمان ؟
المنافقون لجهلهم ، وقلة علمهم ، وسوء تقديرهم ، يفعلون ما يفعل المخادع ، حيث يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، واللّه - سبحانه - فاعل بهم ما يفعله المخادع حيث أجرى عليهم الأحكام العامة التي عصموا بها دماءهم وأموالهم وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار ، وفي الحقيقة اللّه لا يخادع فإنه العالم بالسر وأخفى ، فقيل : إن المراد يخادعون رسول اللّه والمؤمنين ، وإنما آثر القرآن هذا التعبير ليسجل عليهم عظم جرمهم وليشير إلى أن من يخادع اللّه كما في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ « 3 » وهكذا يكون مركز الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه وسلّم.
___________
(1) سورة الحج آية 38.
(2) سورة الروم آية 47.
(3) سورة الفتح آية 10. [.....](1/444)
ج 1 ، ص : 445
وقال بعضهم : إنهم يخادعون اللّه يوم القيامة حيث يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة وسائرين على الطريق يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ واللّه خادعهم حيث يستدرجهم في طغيانهم ويبعدهم عن الحق والنور يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [سورة الحديد آية 13].
ولا غرابة في ذلك فها هم أولاء المنافقون مع أشرف الأعمال وأفضلها وهي الصلاة إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها لأنه لا نية لهم فيها ، ولا إيمان لهم بها ولا خشية ولا هم يعقلون معناها! وأما قلوبهم ففاسدة ، ونواياهم سيئة يفعلون بلا إخلاص ، ولا يعاملون اللّه ولكن يعاملون الناس ، ألا تراهم يراءون في كل عمل ، ويستخفون من الناس واللّه معهم.
وإذا قاموا إلى الصلاة خشية من الناس بالطبع لا يذكرون اللّه إلا قليلا بل كما
يقول الحديث : « تلك صلاة المنافق. كررها ثلاثا. يجلس يرقب الشمس إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعة لا يذكر اللّه فيها إلا قليلا » .
وهم - لعنهم اللّه - مضطربون دائما بين الإيمان والكفر كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا « 1 » وتراهم مرة مع المؤمنين في الظاهر وأخرى مع الكفار في الباطن ، فهم لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، وحقيقة من يضله اللّه ولا يوفقه ، فلن تجد له سبيلا إلى الخير والسداد.
موالاة الكافرين .. وجزاء المنافقين [سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
___________
(1) سورة البقرة آية 20.(1/445)
ج 1 ، ص : 446
المفردات :
سُلْطاناً : حجة قوية ظاهرة. الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ : الطبقة التي في قعر جهنم.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله لا تتخذوا الكافرين أولياء متجاوزين المؤمنين تبغون بذلك العزة عندهم ، وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين ، وكيف يصدر منكم هذا وهو دأب المنافقين وصفتهم أتريدون بهذا أن تجعلوا للّه عليكم حجة قوية ظاهرة في استحقاق العذاب ، وإذا اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين فإن هذا لا يصدر إلا من منافق ، مع أن المنافقين لسوء أعمالهم وفساد أرواحهم يوم القيامة يكونون في الدرك الأسفل من النار ، والنار ذات دركات والجنة درجات ، فالمنافقون في أسفل الدرك من النار ، ولا شك أنهم يستحقون ، فهم خالطوا الإسلام وعرفوه ثم أنكروه اتباعا للشيطان وإيثارا للهوى وزخرف الدنيا ، أما الكفار فقد يغلبهم الجهل ويعميهم التقليد لذلك كانوا في درك أقل من المنافقين في النار ولن تجد لهم نصيرا أبدا يمنعهم من العذاب أو يخفف عنهم ما هم فيه ، هذا جزاؤهم ، أما من تاب منهم عن النفاق وتوفرت فيه شروط التوبة الصحيحة وأتبعوها بثلاثة :(1/446)
ج 1 ، ص : 447
(أ) الاجتهاد في صالح الأعمال التي تستر ما مضى من سيئ النفاق.
(ب) الاعتصام باللّه والتمسك بكتابه والاهتداء بهدى الرسول المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم كل ذلك طلبا لرضا اللّه.
(ج) الإخلاص للّه بأن يدعوه وحده ويتجهوا إليه اتجاها خالصا إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة الآيتان 5 و6].
فأولئك الموصوفون بما ذكر مع المؤمنين ، وسوف يؤت اللّه المؤمنين الأجر العظيم الذي لا يدرى كنهه إلا اللّه فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة السجدة آية 17].
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ماذا يريد اللّه بعذابكم أيها الناس أيعذبكم انتقاما ؟ ! لا ... أيعذبكم لدفع ضرر وجلب خير ؟ ! لا .. إنه هو القوى الغنى ، ولكن اللّه عادل حكيم لا يسوى بين الصالح والطالح ، فالكافرون والمنافقون والعاصون لم يؤدوا حق الشكر للّه وواجبه ، ولم يصرفوا ما أعطى لهم من نعم في الخير ولكن في غير ما خلقت لأجله ، ولو شكروا اللّه وآمنوا به حقا لاستحقوا الثواب المعد لأمثالهم فاللّه شاكر يجازى من شكر عليم بخلقه لا تخفى عليه خافية لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ « 1 » فهو الكريم يعطى ، ويجازى بل ويضاعف الحسنة بعشر إلى أضعاف .. ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، واجعلنا يا رب من عبادك المخلصين الأبرار ، إنك سميع الدعاء.
___________
(1) سورة إبراهيم الآية 7.(1/447)
ج 1 ، ص : 448(1/448)
ج 1 ، ص : 449
الجهر بالسوء وخطره [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
المفردات :
الْجَهْرَ : الإعلان ، يقال جهر برأيه : أعلنه.
المناسبة :
كان الكلام إلى هنا في المنافقين والكفار من أهل الكتاب ، وبعد هذه الآيات رجع القرآن إلى الكلام عليهما ، وكل ذلك بذكر عيوبهم والتعرض لسوءاتهم ، حتى يقف المسلمون عليها فيبعدوا عنها وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ « 1 » وقد جاءت هاتان الآيتان في الوسط ، لإرشاد المسلمين إلى أن الجهر بالسوء لا بأس به. وخاصة بعد أن تعرض القرآن الكريم لإذاعة السوء عن الكفار ، وسنعرف أن الجهر بالسوء فيه خطر على الأمة والفرد.
المعنى :
لا يحب اللّه الجهر بالسوء حالة كونه من القول لأنه يؤجج نيران العدوان ، ويولد البغضاء والكراهية ، ولا تنس أنه يؤثر في نفوس السامعين تأثيرا سيئا من ناحية تقليد صاحبه في إذاعة السوء ، وتقليد نفس السوء الذي يحكى للناس وهذا أمر مسلّم به ومعروف.
لا يحب اللّه الجهر بالسوء من القول إلا إذا كان صادرا من مظلوم ، إذ له بالطبع أن يشكو ظلمه للناس ، ويشرحه للقضاء لعله ينصفه ، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين اللّه حجاب ، ويقول اللّه : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
___________
(1) سورة الحديد آية 16.(1/449)
ج 1 ، ص : 450
والظالم لنفسه هو الذي يحب الجهر بالسوء وإذاعة الفاحشة بين الناس ، والسوء من القول يشمل إذاعة الفاحشة والغيبة والنميمة والسعاية والكذب والبهتان ... إلخ. واللّه سميع لكل قول من ظالم أو مظلوم ، عليم بكل فعل ونية ، وسيجازى كلا على عمله.
وإن تبدوا خيرا من قول أو فعل أو تخفوه فلا تظهروه ، أو تعفوا عن سوء منكم وضرر ألمّ بكم ، فاعلموا أن اللّه عفو عن السيئات ، يحب العافين عن الناس مع القدرة ، قدير على أن يجزل الثواب للطائعين. وفي هذا ترغيب لفعل الخير ، والعفو عند القدرة.
أما إبداء الخير فحسن لمن يأنس من نفسه عدم الرياء وكان قلبه عامرا بالإخلاص والإيمان ، وهو قدوة لغيره ، والإخفاء حسن إن خاف شيئا من الرياء والنفاق وكان فيه حفظ للكرامة وستر على الفقراء والمحتاجين.
الكفر والإيمان وعاقبة كل [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
المفردات :
سَبِيلًا : طريقا. وَأَعْتَدْنا : هيأنا وأعددنا. مُهِيناً : ذا إهانة.(1/450)
ج 1 ، ص : 451
المعنى :
الكفر والإيمان ضدان لا يجتمعان في قلب أبدا ، وهل تستوي الظلمات والنور ... ؟
ومن الناس من يكفرون باللّه ورسله جميعا في الواقع ونفس الأمر وإن لم يصرحوا بذلك ، ويريدون أن يفرقوا بين اللّه ورسله ، فيؤمنوا باللّه ويكفروا بالرسل وكتبهم ، وهؤلاء هم أكثر سكان العالم.
ومن الناس من يؤمن باللّه وببعض الرسل كاليهود والنصارى. يؤمنون بموسى أو عيسى ويكفرون بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبكتابه المنزل عليه.
ويريدون بهذا أن يتخذوا سبيلا وسطا بين الإيمان والكفر ، أولئك المذكورون هم الكافرون الكاملون في الكفر ، والراسخون في الضلال حقا. وأى حق يكون أثبت وأصح مما يجعله اللّه تعالى حقا ؟ ؟ وأعتدنا وهيأنا للكافرين منهم ومن غيرهم عذابا ذا إهانة في الدنيا والآخرة.
ولا غرابة في هذا الحكم الشديد ، لمن يؤمن باللّه ويكفر برسله ، أو يؤمن ببعض الرسل ويكفر بالبعض الآخر ، إذ الإيمان باللّه حقيقة يقتضى عبادته على وجه يرتضيه ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالإيمان بالرسل واتباع تعاليمهم فهم السفراء بين اللّه وخلقه ، فكيف يتصور إيمان باللّه وكفر برسله ؟
وأما الإيمان برسله كموسى أو عيسى كما فعلت اليهود أو النصارى. والكفر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والأنبياء فليس بشيء.
إذ لو آمن اليهود بموسى حقيقة لآمنوا بمحمد كذلك ، ولو آمن النصارى بعيسى حقيقة لآمنوا كذلك بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فهو مذكور في كتبهم ومبشر به عندهم ومصدق لما معهم ، على أن دلائل الرسالة عند محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أوضح من غيرها فهو الأمى العربي الذي نشأ في الجاهلية ثم أنزل عليه القرآن الكامل في كل شيء ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية 2].
ألست ترى أن الرسل وكتبهم كأمراء الأقاليم ، والقوانين التي تصدر إليهم من الرئيس الأعلى ، والشعب ملزم بطاعة الرئيس وقانونه ، حتى إذا انتهت مدته وجاء رئيس آخر(1/451)
ج 1 ، ص : 452
بقانون آخر وجب أن يترك السابق ويؤمن بالجديد وهكذا فاللّه وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى « 1 » أرسل رسله قديما بالهدى ودين الحق حتى ختم الرسالة بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقران دستوره الباقي ما بقيت الأرض والسماء لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً « 2 » فالواجب اتباعه والإيمان به.
والمسلمون هم الذين يؤمنون باللّه ورسله ولا يفرقون بين أحد من رسله إيمانا خالصا للّه ، أولئك سوف يؤتيهم ربهم أجورهم كاملة يوم القيامة ، وكان اللّه غفورا لمن يأتى بهفوة مع الإيمان الصحيح ، رحيما بعباده جميعا ، حيث أرسل لهم الرسل لهدايتهم الطريق المستقيم.
من قبائح اليهود وأفعالهم [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 159]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
___________
(1) سورة الروم الآية 27.
(2) سورة المائدة الآية 48.(1/452)
ج 1 ، ص : 453
المفردات :
جَهْرَةً المراد : رؤية جهرة. الصَّاعِقَةُ : نار تنزل من السماء ، والظاهر أنها الشرارة الكهربائية التي تظهر في السماء. الْبَيِّناتُ : الدلائل الواضحة على نبوة موسى : كفلق البحر ، واليد البيضاء ، والعصا. الطُّورَ : اسم الجبل الذي كانوا مقيمين أسفله. سُجَّداً المراد : خاضعين متذللين. لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ : لا تتجاوزوا ما أبيح لكم ، أو لا تظلموا أنفسكم بالصيد فيه.
غُلْفٌ : جمع غلاف ، وهو الظرف ، والمراد : أوعية العلم فليست في حاجة إلى ما نقول ، ويصح أن يكون جمع أغلف ، والمراد : مغطاة بأغطية خلقية لا يصل إليها شيء مما نقول. طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها : ختم عليها بالخاتم.
وقيل صارت كالنقود المسكوكة فلا تقبل غير النقش الذي عليها. بُهْتاناً :
كذبا يبهت صاحبه عند سماعه ويتعجب منه.
المعنى :
يسألك أهل الكتاب من اليهود أن تنزل عليهم كتابا مكتوبا بخط سماوي يشهد أنك رسول اللّه إليهم ، وقيل : ينزل باسم جماعتهم أو أسماء الأحبار منهم ، وهذا الطلب دليل على عدم فهمهم حقيقة الرسالة وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ(1/453)
ج 1 ، ص : 454
لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
«
1 » يسألك هؤلاء اليهود على سبيل التعنت والتعجيز ، ولا تعجب أيها الرسول من سؤالهم ولا تستكثره عليهم فقد سألوا موسى قديما أكبر من هذا ، وقالوا : أرنا اللّه رؤية جهرة عيانا بلا حاجز ولا حجاب ، وقد مر كثيرا أن فعل آبائهم ينسب إلى المعاصرين منهم ، لأنهم وارثوهم ومقلدوهم ومعتزون بهم ، ولا تنس مبدأ تكافل الأمة الواحدة ، وقيل : إن أهل الكتاب جنس عام يدخل فيه المعاصرون وآباؤهم ... وسؤالهم رؤية اللّه عيانا يدل على جهلهم باللّه وما يجب له من صفات الكمال ، إذ كيف تحيط به الأبصار والعيون ؟ لذا كان أكبر جرما من سؤالهم كتابا من السماء ، وقد عوقبوا على هذا الطلب بنزول الصاعقة وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة 55].
ثم هم بعد أن ماتوا بالصاعقة أحياهم اللّه فاتخذوا العجل إلها من بعد ما جاءتهم الآيات البينات الواضحات ، كالعصا وفلق البحر وغيرها من الحجج القوية التي تثبت الألوهية والوحدانية للّه - سبحانه وتعالى - فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا منه تلك التوبة النصوح ، وآتينا موسى سلطانا مبينا وحجة قوية حيث طلب منهم القتل فقتلوا أنفسهم وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة آية 54].
ومن عجائب أحوالهم أن اللّه أخذ عليهم الميثاق. وكلفهم بالشريعة ورفع فوقهم الطور بسبب هذا الميثاق ليأخذوه بقوة ونشاط. وقد كان رفع الطور فوقهم من الآيات الكونية ، حتى يؤمنوا ، ولكنهم اليهود وكفى!! وقلنا لهم : ادخلوا باب القرية (و اللّه أعلم بها) خاضعين للّه متذللين له ذلة وانكسارا لعظمته وجبروته ، وقلنا لهم ، لا تتجاوزوا الحدود المرسومة لكم ، ولا تصطادوا يوم السبت - وقد كانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم شرعا - ابتلاء لهم واختبارا ، فظلموا أنفسهم واصطادوا فيه وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة 65]. وأخذنا منهم ميثاقا شديدا ليأخذنّ التوراة بقوة وجد ،
___________
(1) سورة الأنعام الآية 7.(1/454)
ج 1 ، ص : 455
وليعملن بها ، ولا يكتمون بشارة عيسى ابن مريم ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم
روى أنهم بعد ما قبلوا ما كلفوا به من الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه فاللّه يعذبهم بأى نوع من العذاب وهذا هو الميثاق المؤكد.
ثم انظر بعد هذا الميثاق المؤكد والعقود الموثقة ماذا هم فاعلون ؟ ؟
لقد سجل القرآن عليهم هنا أقبح المخالفات وأشد العناد فقال ما معناه : فبسبب نقضهم الميثاق الذي واثقهم اللّه عليه ، فقد أحلوا حرامه وحرموا حلاله ، وبكفرهم بآيات اللّه التي أراهم منها ما لم ير سواهم ، وبسبب قتلهم الأنبياء بغير ذنب إلا أنهم قالوا : ربنا اللّه ، قتلوهم بغير حق كزكريا ويحيى - عليهما السلام - وبسبب قولهم :
قلوبنا في غلاف فلا يصل إليها شيء مما تدعون إليه ، أو هي أوعية مليئة بالعلم فليست في حاجة إلى شي ء!! لا بل طبع اللّه على قلوبهم بكفرهم وختم عليها فلا يصل إليها نور الهدى فهي كالنقود المضروبة لا تقبل نقشا آخر ، ولذلك فهم لا يؤمنون إلا قليلا منهم كعبد اللّه بن سلام وأضرابه.
وبكفرهم بعيسى والإنجيل ورميهم بالفاحشة مريم البتول رموها بيوسف النجار وكان صالحا فيهم ، ولا شك أن هذا بهتان يبهت من يقال فيه ويدهش عند سماعه لبعده عن الحق وغرابته ، وبادعائهم أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه ووصفهم له بالرسالة تهكما به ووصف القرآن له بأن ابن مريم رسول اللّه للرد على من يزعم من النصارى أنه الإله أو ابنه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وما قتلوه ، وما صلبوه : كما زعموا وادعوا وشاع بينهم ولكن وقع لهم الشبه فظنوا أنهم صلبوه والواقع أنهم صلبوا شخصا غيره .. وكيف يقتل عيسى واللّه قد عصم أولى العزم من الرسل جميعا فنجى نوحا من الغرق ، وإبراهيم من النار ، وموسى من فرعون ، وعيسى من اليهود ، ومحمدا من المشركين.
وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب لفي شك منه وحيرة ، ما لهم به من علم قاطع بقتله ، لكنهم يتبعون الظن والشك في أمره ، ويرجحون هذا على ذلك بالظنون والشبه لا بالعلم القاطع.
وفي الأناجيل المعتمدة عند النصارى ، أنه قال لتلاميذه والمقربين إليه ، وفي الليلة التي طلب فيها للقتل « كلكم تشكون في هذه الليلة » .(1/455)
ج 1 ، ص : 456
وقيل : اختلافهم قولهم : إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟ وإن كان المقتول عيسى فأين صاحبنا ؟
وما قتلوه قتلا يقينا ، لأن الجند الذين قاموا بقتله من الثابت أنهم كانوا يعرفون شخص المسيح ، وقد مات في شبه ثورة.
وفي الأناجيل الموجودة الآن ، أن الذي سلمه هو يهوذا الأسخريوطى ، وفي بعض الأناجيل أن الجند أخذوا يهوذا نفسه ظنا منهم أنه المسيح ، فالذي لا خلاف فيه أن الجند ما كانوا يعرفون عيسى وأنهم قتلوا شخصا هل هو المسيح أو شخص يشبه إلى أبعد حد. وقيل : المعنى ما قتلوا العلم يقينا من جهة البحث والنظر في أمر قتله وصلبه.
رفع عيسى - عليه السلام - :
المسلمون يعتقدون كما أخبر القرآن أن عيسى لم يقتل ولم يصلب وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وأنه نجاه من الذين مكروا به وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ « 1 » وهذا هو معنى (متوفيك) عند بعض العلماء ، أى : موفيك أجلك كاملا وعاصمك من الناس كغيرك من الأنبياء ، وهل هو بعد النجاة رفع إلى السماء بروحه وجسده أو رفع بروحه فقط ، وأما جسده فانتهت حياته كغيره من الناس ؟ أو لم يحصل له رفع لا بالروح ولا بالجسد ؟ ويتبع ذلك تفسير قوله تعالى : إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ « 2 » أما جمهور المفسرين : فيرون أن اللّه رفع عيسى بروحه وجسده إلى السماء وسينزل آخر الزمان يحكم بالقرآن ويقتل الخنزير ويكسر الصليب بدليل الآية الآتية { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } وكما هو ثابت في حديث البخاري. وهناك آراء أخرى في رفع عيسى إلى السماء ، والقرآن الكريم لا يثبت الرفع ولا ينفيه (و اللّه أعلم بكلامه) وكان اللّه عزيزا لا يغالب أبدا ، فهو الذي أنقذ عيسى من كيد اليهود وعصم محمدا من الناس جميعا ، حكيما في كل فعل وعمل.
وما من أحد من أهل الكتاب سواء كان يهوديا أو نصرانيا إلا ليؤمنن بعيسى إيمانا صحيحا قبل موته ، أى : عند خروج روحه بلا إفراط ولا تفريط ، فاليهودى يؤمن أنه
___________
(1) سورة آل عمران الآية 54.
(2) سورة آل عمران الآية 55.(1/456)
ج 1 ، ص : 457
رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والنصراني يؤمن بأنه رسول اللّه وعبده وكلمته فليس إلها ولا ابن الإله.
وإذا كان حالهم هكذا قبل الموت ولا ينفعهم الإقرار حينئذ فما بالهم لا يسرعون في الإيمان بعيسى إيمانا صحيحا ؟
وقيل : وما من أهل الكتاب أحد من المعاصرين لنزول عيسى آخر الزمان إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته ، أى : موت عيسى أو موت ذلك الكتابي ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ، يشهد بإيمانهم به وبكفرهم فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء آية 41].
ودعاة المسيحية : يقولون بصلب المسيح - عليه السلام - وينسجون لهذا قصة الخطيئة الخاصة بأبينا آدم وأن العدل والرحمة تقاتلا حتى انتهى الأمر إلى صلب المسيح كفارة لخطايا شعبه أو للعالم ... إلخ ، ما هو مدون في كتبهم ، ونحن إذ ننكر هذه العقيدة لا نقول باستحالتها على عيسى كبشر وإنما لأن القرآن نفاها نفيا باتا وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ.
على أن مسألة القتل ، لا مجال للعقل فيها ، بل لا بد أن نستقيها من مصدر صحيح ، يكون موضع الثقة ، ونحن المسلمين نقلنا نفى القتل والصلب عن القرآن.
وهو الكتاب الوحيد الذي نقل بالتواتر نقلا سليما لا شبهة فيه لأى منصف بدليل أنه لا يختلف في أى بلد من بلاد العالم في كلمة وأما الكتب الأخرى التي فيها الصلب فهي كتابة أفراد لم تنقل بالتواتر وليس مصدرها واحدا ولذا نراها مختلفة جدا في الشكل والموضوع اقرءوا إن شئتم إنجيل برنابا وبعض الأناجيل الأخرى وهل من كتب من أتباع المسيح بالصلب شاهده أو هو خبر يحتمل الصدق والكذب ؟ ؟ ! وكيف يتصور عاقل أن قوما يؤمنون بأن عيسى إله أو ابنه أو واحد من ثلاثة ثم يؤمنون مع هذا بأنه صلب على خشبة مع اعترافهم بأن المسيح تألم وبكى من هذا القتل وتضرع إلى اللّه أن يكشف عنه هذا السوء فقد ورد في الإنجيل : (يا أبتاه إن أمكنك فلتعبر عنى هذه الكأس إن لم يمكن أن تعبر عنى هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك).(1/457)
ج 1 ، ص : 458
ثم كيف يتصور عاقل قصة الخطيئة وصلب عيسى كفارة ؟ - وفيها :
(أ) طول تفكير الإله من وقت خطيئة آدم إلى قبيل ظهور عيسى ، بل كيف نتصور العراك والنزاع بين العدل والرحمة!! ما شاء اللّه ما شاء اللّه!!! (ب) وكيف نحكم على أمثال أبينا إبراهيم الخليل وقد مات قبل ظهور المسيح وصلبه أمات عاصيا لم تكفر ذنوبه! (ج) وكيف يبيح شرع لأتباعه أن يرتكبوا كل شيء لأن نبيهم عيسى صلب تكفيرا لخطاياهم ، إن هذا لشيء عجيب!! وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية 146] وأعجب من هذا إيمان كثير من المسيحيين بتلك الخرافات.
بعض قبائحهم وجزاؤهم عليها [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
المفردات :
هادُوا : تابوا ورجعوا بعد عبادة العجل. بِصَدِّهِمْ : منعهم.
الرَّاسِخُونَ : الثابتون في العلم المتقنون له.(1/458)
ج 1 ، ص : 459
المعنى :
كان اليهود قديما كلما ارتكبوا ذنبا خاصة بعد ما تابوا من عبادة العجل ، حرم اللّه عليهم نوعا من الطيبات التي كانت حلالا لهم ولأسلافهم من قبل ، فبسبب هذا الظلم الذي لا يعرف كنهه إلا اللّه حرم عليهم ما حرم ، ومع هذا كانوا يفترون على اللّه الكذب ويقولون : هذه المحرمات كانت جراما علينا وعلى نوح وإبراهيم ومن بعدهما ، ولذا كذبهم اللّه تعالى في كثير من الآيات : كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ [آل عمران 93]. وقوله : وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما [سورة الأنعام آية 146] .. ثم شرع القرآن في بيان مجمل الظلم الصادر منهم فقال : وبسبب صدهم عن سبيل اللّه كثيرا من الناس لقد منعوا أنفسهم وغيرهم من الإيمان باللّه بسبب عصيانهم موسى وعنادهم مرارا ، وبالقدوة السيئة لغيرهم في الكفر ، وأمرهم بالمنكر ، ونهيهم عن المعروف ، وكتمانهم البشارة ووصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبسبب أخذهم الربا من غيرهم وأكله معتقدين حله ، وقد كتب في التوراة المحرفة : إن الربا حلال مع غير اليهود حرام مع اليهود ، وبسبب أكلهم أموال الناس بالباطل من طريق الرشوة والنصب والاحتيال والغش سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ « 1 » وجزاء هؤلاء الظلمة لأنفسهم ولغيرهم أن اللّه هيأ للكافرين منهم عذابا ذا إهانة وذل لهم في الدنيا والآخرة ، وقد ذكر أن تحريم الطيبات كان عاما ، أما العذاب فكان للمصرين منهم على الكفر ، وبعد أن بيّن اللّه قبائحهم وجزاءهم عليها! وأنه شامل للكل استدرك على ذلك بقوله :
لكن الراسخون في العلم الثابتون فيه ، الذين لا يشترون الضلالة بالهدى ، وهم المنتفعون به المؤمنون إيمانا صادقا باللّه وبما أنزل عليك ، وبما أنزل على من قبلك من الرسل ، وهم لا يفرقون بين أحد منهم ، وأخصّ المقيمين الصلاة المؤدين لها تامة الأركان ، مستوفية الشروط بالجوارح والقلب ، والمؤتون الزكاة لمن يستحقها ، والمؤمنون باللّه واليوم الآخر إيمانا حقيقيا فلا يقولون : عزير ابن اللّه ولا المسيح ابن اللّه ، ولا يقولون : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة أولئك البعيدون في درجات الكمال سيؤتيهم ربهم أجرا لا يعلم قدره إلا هو ، أجرا عظيما من عنده.
___________
(1) سورة المائدة الآية 42.(1/459)
ج 1 ، ص : 460
وحدة الوحى وحكمة إرسال الرسل [سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
المفردات :
أَوْحَيْنا الإيحاء يأتى في اللغة على معان ، منها : الإشارة كقوله تعالى :
فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا والإلهام : وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وعلى ما يكون غريزة : وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وعلى الإعلام في خفاء : شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً والمراد بالإيحاء في الآية ما يلقى إلى الأنبياء من عند اللّه.
الْأَسْباطِ جمع سبط ، وهو : ولد الولد ، والمراد : أبناء يعقوب لصلبه أو أولاد أولاده. زَبُوراً : مكتوبا ، وكل كتاب زبور ، والمراد به : الكتاب المنزل على داود عليه السلام.(1/460)
ج 1 ، ص : 461
المناسبة :
نعى اللّه على أهل الكتاب عموما أنهم يفرقون بين الأنبياء فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. ثم تعرض القرآن لليهود خاصة وأنهم سألوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم - عنادا واستكبارا - أن ينزل كتابا من السماء آية لهم ولم يكن هذا العناد جديدا على اليهود فقد سألوا موسى قديما أكبر من هذا ، وفعلوا القبائح ، وكفروا بعيسى ، وبهتوا أمه وحاولوا قتله وصلبه ... إلخ ، ما ذكر.
ولو فعلت هذا لآمنوا بك وصدقوك ، فأنت أوضح دليلا وأقوم قيلا ، على أن الإيحاء من اللّه إليك كان كالأنبياء السابقين ، فما لهم يفرقون بين نبي ونبي ؟ ؟ وما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟ !!
المعنى :
إنا بما لنا من العظمة والقدرة قد أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن إيحاء كإيحائنا إلى الأنبياء قبلك ، فلست بدعا من الرسل ، وهم قد آمنوا بهم ، فكيف يطلبون منك أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، على أنهم لو آمنوا حقيقة بالرسل لآمنوا بك فالوحى جنس واحد لم يتغير ، وفي كتبهم البشارة بك ووصفك.
وحقيقة الإيحاء كما قال المرحوم الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد : (عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل اللّه بواسطة أو بغير واسطة) .. إنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى المشهورين من الأنبياء قبلك كنوح ، وخص بالذكر أولا لأنه أقدم نبي مرسل ، على أن قومه كذبوه فعذبوا. وهو الأب الثاني للبشر ، وأوحى إلى النبيين من بعده لا سيما إبراهيم - عليه السلام - أبو الأنبياء ، والذي يدين له العرب وأهل الكتاب ، وإسماعيل ابنه الأكبر وأبو العرب وجد المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم وإسحاق ابن إبراهيم أبو يعقوب المسمى بإسرائيل وإليه تنسب اليهود ، والأسباط وهم حفدة يعقوب ، وقيل : أولاده لصلبه وعددهم عشرة أولاد يوسف واثنان فكان المجموع اثنى عشر ، وهم في نسل إسحاق كالقبائل في نسل إسماعيل ، وعيسى ابن مريم وقدم على غيره(1/461)
ج 1 ، ص : 462
لأنه محل طعن اليهود ، وأيوب ويونس وهارون وسليمان بن داود ، وخص هؤلاء جميعا بالذكر مع اندراجهم في لفظ النبيين لشرفهم وكرامتهم على اللّه.
وآتينا داود كتابا زبورا ، قال القرطبي : كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هي حكم ومواعظ وتمجيد وثناء على اللّه تعالى ... وأرسلناك كما أرسلنا رسلا غير هؤلاء قد قصصناهم عليك من قبل في سورة الأنعام وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [سورة الأنعام آية 84] الآيات وأجمع السور لقصصهم سورة هود والشعراء.
وهنا أرسلنا رسلا لم نقصصهم عليك لأن أممهم مجهولة غير معروفة وليس في ذكرهم كبير فائدة وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود 120].
وكلم اللّه موسى تكليما ، وخص موسى بهذه الكرامة على سبيل التأكيد لأن قومه هم المقصودون بالحديث ، وقد كلم اللّه موسى تكليما خاصا ممتازا عن غيره ، أما كيف كان ؟ وهل كان مشافهة أم لا. فاللّه أعلم بذلك كله ، على أن وقوفنا على أسرار الأثير واستخدامه ، ونقل الحديث بالراديو والتليفزيون جعل الاعتراضات القديمة شيئا بسيطا لا يعبأ به ، فاللّه الذي أقدر بعض المخلوقات على الوصول إلى هذا قادر جدا على خلق أشياء ليس لها مقياس معروف ولا حد مألوف.
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [سورة الشورى آية 51] والظاهر أن تكليم موسى - عليه السلام - كان من النوع الثاني.
والخلاصة : أنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى فلان وفلان من الأنبياء وآتيناك كتابا كما آتينا بعضهم كتابا ، وأرسلناك للناس كافة رسولا كما أرسلنا لهم رسلا ، فما لهؤلاء القوم يفرقون بين نبي ونبي ؟ ! ويؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
أرسلنا أولئك الرسل الذين قصصنا عليك بعضا منهم ، مبشرين من يؤمن باللّه ورسله واليوم الآخر بالثواب الأبدى : جنة المأوى خالدين فيها أبدا ، ومنذرين من يكفر باللّه ورسله واليوم الآخر بالعقاب الصارم نارا وقودها الناس والحجارة ، أرسلنا رسلنا لئلا يكون للناس على اللّه حجة وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [سورة طه آية 134].(1/462)
ج 1 ، ص : 463
وحجتهم أنهم يقولون : لولا أرسلت إلينا رسلا تبين لنا الشريعة وتعلمنا ما لم نكن نعلم! إذ القوة البشرية مهما تكن تعجز عن إدراك كل جزئيات الخير والشر ، على أن عامة الناس لا يفرقون بين الضار والنافع مع احتياج الكل إلى قادة يقودونهم إلى الصراط المستقيم صراط اللّه العزيز الحميد : ومن الذي كان يأتى بأخبار الغيب من حساب وجزاء ، وثواب وعقاب ؟ ؟ ... وما أتى به الرسل موافق لسنن الفطر السليمة ، ملائم للطبائع الزكية ، ومع ذلك يترتب عليه ثواب عظيم وعقاب أليم.
وكان اللّه عزيزا لا يغلبه متعنت ولا مكابر ، حكيما في كل صنع صنعه وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء آية 15].
وهؤلاء اليهود قد أنكروا نبوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يشهدوا برسالته وهي أوضح من الشمس فسألوه كتابا من السماء.
إنهم لا يشهدون بذلك ولكن اللّه يشهد بالقرآن وكفى به شاهدا ، فاللّه أنزله عليك بعلمه الخاص لا يعلمه سواه ، ولقد صدق اللّه في وصفه ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ « 1 » تحدى به الكل فعجزوا قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً « 2 » وهو القرآن الكامل في كل شيء المشتمل على قوانين وشرائع تكفل لمن يتبعها حياة سعيدة وعزة ورخاء!! وانظر إلى قوله : أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ تجد القرآن لا يمكن أن يصدر عن علم بشر ، وخاصة إذا كان يعيش في البيئة العربية قبل الإسلام ، ولعل هذا هو محط الشهادة.
فكأن القرآن بهذا يشهد للنبي بصدقه ، ولسان حاله : صدق محمد في كل ما يبلغه عن ربه ، والملائكة ومنهم جبريل يشهدون لك بالرسالة فثبتت شهادة اللّه تعالى بما أنزله عليك من القرآن إذ لا يستطيع أحد أن يأتى بمثله ولو اجتمع الإنس والجن ، ولا يعقل أن يكون من وضعك فأنت النبي الذي نشأ في بيئة جاهلة.
قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ « 3 » .
___________
(1) سورة البقرة الآية 2.
(2) سورة الإسراء الآية 88.
(3) سورة الأنعام الآية 19.(1/463)
ج 1 ، ص : 464
جزاء الكافرين [سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 170]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
المعنى :
بعد أن دلت الآيات على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه لا حجة للكفار المعاندين ، وأن اللّه شهيد له بما أنزله عليه بعلمه من آيات القرآن ، أخذ ينذر الكفار ويهددهم بالعذاب الشديد ، وينذرهم سوء العاقبة وبئس المصير ، إن الذين كفروا باللّه ورسوله وصدوا عن سبيل اللّه بأعمالهم التي يقلدهم فيها غيرهم. قد ضلوا وأضلوا ضلالا بعيدا عن الصواب جدا. إن الذين كفروا وظلموا أنفسهم وغيرهم باتباعهم الشيطان وبعدهم عن هدى الرحمن ، لم يكن من شأن اللّه وصفته أن يغفر لهم ، فاللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولم يكن ليهديهم ويوفقهم إلى طريق أبدا إلا طريق جهنم وبئس المصير ، فهم قد ملأوا النفس والقلب من ظلام الكفر والضلال حتى لم يعد فيه متسع للنور والهداية ، هؤلاء لهم جهنم خالدين فيها خلودا أبديا اللّه أعلم به يتناسب مع ما قدموا من أعمال ، وما جبلوا عليه من خصال ، وكان ذلك على اللّه سهلا ويسيرا.
يا أيها الناس : وقد جاءكم الرسول الكامل والمعهود عند أهل الكتاب ، جاءكم(1/464)
ج 1 ، ص : 465
بالقرآن والحق والخير والهدى والعلاج ، فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ، آمنوا واقصدوا خيرا لكم وإن تكفروا فاعلموا أن اللّه معذبكم ومجازيكم على كفركم فليس هناك عذر لمعتذر وليس وراء الموت إلا الجنة أو النار ، وليس يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ، ولا يجهل شيئا فيهما ، وهو الغنى عن عبادتكم ، وما ذلك كله إلا أن للّه ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا وحكما ، سبحانه وتعالى العليم بخلقه الحكيم في صنعه.
المسيح ابن مريم في نظر القرآن [سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)(1/465)
ج 1 ، ص : 466
المفردات :
لا تَغْلُوا الغلو : مجاوزة الحد من جهة التفريط أو الإفراط. وَكَلِمَتُهُ المراد أنه حدث بكلمة (كن) التكوينية لا بمادة أخرى كغيره من الناس. وَرُوحٌ وجد بنفخ من روح اللّه وهو جبريل.سْتَنْكِفَ
الاستنكاف : الامتناع عن الشيء أنفة وكبرا. الاستكبار : أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة غرورا منه وإعجابا بها.
المناسبة :
بعد أن حاج اليهود وألزمهم كلمة التقوى والطريقة المثلى ، أردف ذلك بمحاجة النصارى ، وألزمهم جميعا الرأى الوسط في عيسى ابن مريم.
المعنى :
يا أهل الكتاب لا تكونوا مغالين في الدين ومجاوزين الحدود فيه ، فلا تكفروا بعيسى وتبهتوا أمه ، وتحقروه وتهينوه كما فعلت اليهود ، ولا تعظموه وتقدسوه حتى تجعلوه إلها أو ابن الإله كما فعلت النصارى ، ولا تقولوا على اللّه إلا القول الحق الثابت بالنقل المتواتر ، الذي يستحيل معه الكذب ، أو المؤيد بالحجج الدامغة ، أما القول بالحلول واتخاذ الصاحبة والولد فكذب وبهتان وخرافة ووثنية وموسى وعيسى والأنبياء جميعا برآء منها.
إنما المسيح عيسى ابن مريم البتول الطاهرة الصديقة النقية التي أنبتها اللّه نباتا حسنا ، وكفلها زكريا الرجل الصالح والتي برأها القرآن الكريم.
إنما المسيح عيسى رسول اللّه إلى بنى إسرائيل ، أمرهم بالمعروف ، ونهاهم عن المنكر ، وأمرهم بعبادة اللّه وحده ، ونهاهم عن الكفر به والشرك والتثليث وزهدهم في الدنيا ، وحثهم على التقوى ، وبشرهم بخاتم النبيين والمرسلين وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... [سورة الصف آية 6].(1/466)
ج 1 ، ص : 467
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وهو مكون بكلمة (كن) التكوينية إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 47] نعم كل مولود له سبب ظاهر وهو اتصال الجنسين ، وله سبب حقيقى وهو إرادة اللّه المعبر عنها بكلمة (كن) فلما انتفى مع عيسى السبب الأول بالبرهان ثبت أن عيسى خلق بالسبب الثاني وهو كلمة (كن) أوصلها اللّه مريم بواسطة جبريل إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [سورة آل عمران آية 45].
وهو مؤيد بروح كائنة منه - سبحانه وتعالى - لا بعضا منه كما فهم المسيحيون ، وإلا لكان كل شيء بعضا من اللّه بدليل قوله : وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية 13] وكونه مؤيدا بروح منه يؤيده قوله : وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة 87 و253] وقيل : المعنى : أن عيسى خلق بنفخ من اللّه وهو جبريل ، ويوضحه قوله تعالى : وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء 91] فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[سورة مريم آية 17].
وقال بعضهم : المعنى : أن المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم ورحمة منه ويقويه قوله تعالى : وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [سورة مريم آية 21] ، وما لنا نعجب من خلق عيسى بلا أب ؟ حتى تنكب المسيحيون طريق الحق وانغمسوا في الشرك والتثليث هذا!! فهذا آدم خلق بلا أب وأم إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [سورة آل عمران آية 59] وهذه حواء خلقت من آدم فقط!! وبما ذا نرد أصول الحيوانات جميعا!! وكما يقولون : هل البيضة أصل أم الفرخة ؟ أيا كان فمن الذي أوجد الأصل الأول من الفرخة أو البيضة ؟ هو اللّه : بلا تناسل وبدون تزاوج معروف.
ومن الغريب أن بعض النصارى يفهمون قوله تعالى : رُوحٌ مِنْهُ أن عيسى ابن اللّه أو جزء الإله أو ثالث ثلاثة ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، والذي أوقع المسيحيين في هذا هو التشابه في التوراة والإنجيل ، وما وصل إليهم عن طريق الوثنيين من اليونان والرومان والمصريين القدامى والبراهمة.(1/467)
ج 1 ، ص : 468
فالديانة المسيحية الصحيحة مبنية على أساس التوحيد البريء للّه سبحانه ذاتا وصفة وفعلا ، ولكن الكنيسة أدخلت هذه الوثنيات والعقائد الزائفة في عقول أبنائها لأمر في نفوس القوم ، ولما رأوا القرآن يعارضهم في ذلك كذبوه وأنكروا ، وهو الذي برأ مريم من قول اليهود!! ووضع عيسى الموضع اللائق ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [سورة مريم آية 34] وفي أقوال الأحرار من المسيحيين ما يؤيد هذا وهي موجودة في كتاب الشيخ رشيد رضا (تفسير الشيخ محمد عبده) الجزء السادس من تفسير هذه الآية. وفي كتاب (إظهار الحق).
وإذا كان الأمر كذلك فآمنوا باللّه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، لم يلد ، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ... وآمنوا برسله جميعا لا فرق بين نبي ونبي ، ولا تقولوا الآلهة ثلاثة (الأب والابن وروح القدس) أو اللّه ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر وكل منها إله كامل ومجموعها إله واحد.
فإن هذا إشراك باللّه وترك للتوحيد الذي هو ملة أبيكم إبراهيم وهذا كلام ينافي العقل الراجح والفكر السليم إذ كيف يكون واحدا وثلاثة وكيف يحل الإله في بعض خلقه ؟ وكيف يتحدد ، وهل طبيعة الإله كطبيعة البشر ؟ أظن لا!! بل طبيعة البشر تتنافى مع طبيعة الملك فهذا لا يأكل ولا يشرب ، وعيسى وأمه يأكلان ويشربان! وما ميزة عيسى على غيره من الأنبياء ؟ أرسل مؤيدا بالمعجزات وكانت كغيرها لم تجر على سنن الطبيعة بل بقدرة اللّه وقوته كما نص القرآن الكريم ، وموسى الكليم ، ومحمد كذلك. فكيف تقولون : عيسى إله ؟ - انتهوا خيرا لكم ، وقولوا قولا حسنا يكن خيرا لكم ، وأجدى من هذا العبث والوثنية والعصبية الحمقاء.
إنما اللّه إله واحد ، لا إله إلا هو ، سبحانه وتعالى عما يشركون! سبحان أن يكون له ولد فليس المسيح ابنه إذ الولد يقتضى اتصالا جنسيا بالأم ، وحاجة إليه ، وإلى أمه ، حتى يبرز إلى الوجود أفيليق هذا! لا : يا قوم! اللّه له ما في السموات وما في الأرض ، ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [سورة مريم آية 93 - 95].(1/468)
ج 1 ، ص : 469
لا فرق في ذلك بين الملائكة والنبيين والناس أجمعين! وهل الإله في حاجة للولد ؟
ليقيم اسمه ، ويحفظ ذكره ، ويرثه بعد موته ، وهل هو في حاجة إلى الولد ليعينه ؟ كلا فاللّه قوى قادر ، مالك الملكوت ، حي دائم باق بعد فناء خلقه ، صاحب الأمر والتصريف ، وكفى باللّه وكيلا! ؟
وهذا عيسى نفسه يقول في إنجيل يوحنا : (و هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته) فهذا نص صريح في أن المسيح رسول اللّه فقط ، وفي الإنجيل أيضا : (من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل اللّه الذي أرسلنى لن يتكبر المسيح أن يكون عبدا للّه ولا الملائكة الذين هم أعظم من المسيح خلقا وقوة ، فهم أعلم بذات اللّه ومكانته).
ومن يستنكف عن عبادة اللّه وحده ويتكبر ويدعى الإشراك أو التثليث فسيحشرهم إليه جميعا ويجازيهم على كل ذلك.
فأما المؤمنون باللّه وحده والعاملون الصالحات فيوفيهم أجورهم كاملة ، ويزيدهم من فضله فهو واسع الفضل كثير الخير.
وأما الذين استنكفوا وتكبروا فهم المعذبون عذابا أليما في الدنيا والآخرة ولا يجدون لهم من دون اللّه وليّا ولا نصيرا يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
الدعوة العامة [سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)(1/469)
ج 1 ، ص : 470
المناسبة :
بعد أن حاج القرآن النصارى فأفحمهم. ومن قبل حاج اليهود فألزمهم ، وناقش المنافقين وكشف سترهم ، وظهرت نبوءة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ظهور الشمس في رابعة النهار ، نادى الناس جميعا ودعاهم إلى اتباعه.
المعنى :
أيها الناس : قد جاءكم برهان واضح ، ونور ساطع ، يبين لكم حقيقة الإيمان باللّه ، وهو رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم ، ذلك البرهان هو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم النبي العربي الأمى ، الذي نشأ في الجاهلية. لم يجلس إلى معلم ، ولم يؤدبه مؤدب ، ولم يتعلم في جامعة ولم يتخرج في معهد. ولم يعد إعدادا لتحمل أكبر رسالة في الوجود من إنسان!! كان في شبابه الأمين الصادق ، وعند رجولته الكاملة كان الداعية إلى اللّه بأقوى أسلوب ، وأوضح بيان ، وقد كان المثل الأعلى في عمله ، وعلمه ، ورسالته ، وسياسته وقيادته ، وزعامته ، فحقا أدبه ربه فأحسن تأديبه ، نعم كان برهانا على صدق رسالته اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية 124].
وأنزل اللّه إليكم مع هذا البرهان ، نورا مبينا هو القرآن الكريم ، ظهر في الوجود ، بعد ما عميت القلوب ، وغشيت الأبصار من الوثنية المشركة ، واليهودية الكاذبة ، والمسيحية الضالة ، ظهر في الكون فأنار الوجود ، وأضاء القلوب ، وأحيا النفوس.
وأوضح الطريق لعبادة اللّه حق العبادة ، وكان محكم التنزيل ، كاملا في السياسة والاقتصاد ، والاجتماع والعمران والعلوم الكونية والإلهية والسياسة الحربية للأمم ، فحقا هو حبل اللّه المتين وهو النور المبين وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سورة الشعراء آية 192 - 195] .. فمن تأمل هذا البرهان القوى ، وذلك النور السماوي ، ظهر له أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم برهان من اللّه وحجة على أحقية هذا الدين ، وأن كتابه القرآن أنزله اللّه بعلمه وشهد له بصدقه.(1/470)
ج 1 ، ص : 471
فأما الذين آمنوا به واتبعوا نوره واعتصموا بحبله فسيدخلهم ربهم في رحمته وفضله في الدنيا والآخرة ويهديهم إلى صراطه المستقيم ، فمن يعمل بالقرآن وحكمه كانت له العزة في الدنيا والكرامة ، وفي الآخرة الجنة والرضوان والسلامة.
حق الإخوة في الميراث [سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176)
المفردات :
الْكَلالَةِ تقدم تفسيرها. هَلَكَ : مات.
سبب النزول :
روى أحمد والشيخان عن جابر بن عبد اللّه قال : دخل علىّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا مريض لا أعقل ، فتوضأ ثم صب فعقلت فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فنزلت آية المواريث
، يريد هذه الآية.
وقال الخطابي : أنزل اللّه في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول السورة وفيها إجمال ، ثم أنزل الأخرى في الصيف وفيها كمال البيان وقيل : إنها من آخر الآيات نزولا.(1/471)
ج 1 ، ص : 472
المعنى :
يطلبون منك الفتيا أيها الرسول فيمن يورث كلالة جابر بن عبد اللّه الذي ليس له ولد وارث ولا والد ، وله إخوة من أب وأم. وإن هؤلاء لم يفرض لهم شيء.
وإن الذي تقدم أول السورة في الأخ لأم ونصيبه السدس ، فإن زاد فالثلث فقط كنصيب أمه.
إن امرؤ مات ، وليس له ولد ولا والد وله أخت لأب أو شقيقة (لأب وأم) فلها نصف ما ترك.
وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ذكر أو أنثى على الصحيح.
فإن كان يرث بالأخوة أختين فلهما الثلثان مما ترك أخوهما ، وكذا إن كن أكثر من اثنتين كأخوات جابر فقد كن تسعا ، وفي رواية : سبعا ، فلهن الثلثان والباقي لمن يوجد من العصبة على ما هو مفصل في أبواب الميراث.
وإن كان الإخوة رجالا ونساء فللذكر مثل الأنثيين في حظهما وهو الثلثان.
يبين اللّه لكم هذه الأحكام لتعرفوها وتعملوها بها فلا تضلوا أبدا ، واللّه بكل شيء عليم ، فعليكم التمسك بهذه الأحكام إذ هي مصدر الخير والبركة لكم ..(1/472)
ج 1 ، ص : 473
سورة المائدة
مدنية إلا قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (الآية) ، فقد روى في الصحيحين عن عمر أن هذه الآية نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع ، وآياتها مائة وعشرون آية.
وهي كسورة النساء كلاهما مشتمل على عدة عهود وأحكام ، وفيهما ذكر لأهل الكتاب والمنافقين ، وقد مهدت سورة النساء لتحريم الخمر ثم جاء تحريمها قاطعا في المائدة ، وروى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال : « يا أيها الناس إن سورة المائدة آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها » .
الوفاء بالعهود [سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)(1/473)
ج 1 ، ص : 474
المفردات :
أَوْفُوا الوفاء : الإتيان بالشيء وافيا كاملا لا نقص فيه. بِالْعُقُودِ : بالعهود المؤكدة الموثقة ، وهي تشمل عقود الشرع فيما أحل وحرم وفرض ، وعقود الناس بعضهم مع بعض في البيع والشراء والمناكحة وغير ذلك. بَهِيمَةُ : وهي ما لا عقل لها ، سميت بذلك لإبهام أمرها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها ، وخصها العرف بذوات الأربع من حيوان البر والبحر. الْأَنْعامِ : هي الإبل ، والبقر ، الشامل للعراب الجواميس ، والضأن الشامل للخراف والمعز ، وألحق بها الظباء وبقر الوحش وحمره. شَعائِرَ : جمع شعيرة ، مأخوذ من الشعور والإعلام ، والمراد معالم دينه ، وخصت بمناسك الحج. الْهَدْيَ : ما يهدى إلى الحرم ويذبح فيه للفقراء. الْقَلائِدَ : جمع قلادة ، وهو ما يعلق في العنق. آمِّينَ :
قاصدين. لا يَجْرِمَنَّكُمْ : لا يحملنكم ولا يكسبنكم. شَنَآنُ : بغضهم بغضا شديدا. الْبِرِّ : ما اطمأن إليه القلب. الْإِثْمِ : كل ذنب ومعصية ، وهو ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه الغير.
المعنى :
هذا بيان للناس من اللّه ورسوله ، فيا من اتصفتم بالإيمان وتطهرت قلوبكم من دنس الشيطان أوفوا بالعقود التي عقدتموها بينكم وبين اللّه أو بينكم وبين أنفسكم ، أو بينكم وبين الناس. ومن كل ما أمر به الشرع ونهى ، أو تعاقدتم عليها كالبيع والشراء والنكاح ... إلخ ،
فالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « المسلمون عند شروطهم »
وقال : « كل شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل »
وقال : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد »
فإذا يجب الوفاء بالعقود والعهود ، بشرط أن توافق الشرع الشريف.
ولقد أخذ القرآن الكريم يفصل تلك العهود المأخوذة علينا من قبله ، مع أن فيها بيانا لنعمه التي تحملنا على الوفاء بالعهود.
أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم من المحرمات العشر الآتية ، والأنعام(1/474)
ج 1 ، ص : 475
لا تشمل ذوات الحافر من الخيل والبغال والحمير ، وكذلك السباع وكل ما له ناب يعتمد عليه في الاعتداء على غيره.
حالة كونكم غير محلى الصيد في الإحرام ، فالذي يجلس في الحرم ولو لم يحرم أو من أحرم بالحج والعمرة ولو لم يكن في الحرم. يحرم عليه الاصطياد والأكل منه.
إن اللّه يحكم بما يريده من الخير لكم أيها المؤمنون ، فانظروا مواقع أحكامه تجدوها عين الخير والصواب.
وانظر - رعاك اللّه ووفقك - تجد الآية اشتملت على أمر بالوفاء بالعهد ونهى عن نقض الوعد ، وإحلال الأنعام ، واستثناء بعد استثناء ، وإخبارا عن قدرته وحكمته ، كل ذلك في سطرين ، وتبارك اللّه أحسن الخالقين.
يا أيها الذين آمنوا : لا تحلوا شعائر اللّه ولا تتهاونوا في معالم الدين مطلقا خصوصا مناسك الحج ومشاعره ، على معنى : لا تتعدوا حدود اللّه ، ومكنوا المسلمين جميعا من أداء مناسك الحج.
ولا تتهاونوا في حرمة الشهر الحرام وهو جنس يشمل الأربعة الحرم (ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب) تلك الأشهر الحرم لا تقاتلوا فيها المشركين كما روى عن ابن عباس وقتادة ، ولا تبدلوها بغيرها ولا تعترضوا الهدى الذي أهدى للحرم بالأخذ أو التعرض له حتى لا يصل إلى الكعبة ، ولا ذوات القلائد من الأنعام ، وخصت بالذكر مع اندراجها في الهدى تشريفا لها واعتناء ، وقيل : المراد أصحاب القلائد من الكفار ، ولا تعترضوا الآمّين البيت الحرام والقاصدين له ، فالمعنى : أن اللّه يوجب على المسلمين أن يكون زمان الحج ومكانه وقت أمان واطمئنان ، لا خوف ولا قلق للحاج حتى يكون آمنا على نفسه وماله فالحجاج يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا ، ومن كان كذلك وجبت المحافظة عليه.
وإذا تحللتم وخرجتم من الإحرام وأنتم في غير أرض الحرم فاصطادوا كما تشاءون ، فإن المحّرم الصيد وأنتم محرمون أو أنتم في أرض الحرم وإن لم تكونوا محرمين ، فإذا تحللتم من هذين فلا إثم عليكم في الصيد وأكله.(1/475)
ج 1 ، ص : 476
ولا يحملنكم بغض قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية ، لا يحملنكم هذا على الاعتداء عليهم بغير حق ، فالعفو والصفح خير.
وتعاونوا على البر وهو ما تطمئن إليه القلوب وتسكن من كل خير وطلب الشرع الشريف على سبيل الأمر والنهى ، ولا تتعاونوا على الإثم وهو ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه غيرك من كل ذنب ومعصية للّه ، ولا تتعاونوا على العدوان على حق الغير ، وهذا من جوامع الكلم الشامل لكل معروف ومنكر وكل خير وشر.
فالقرآن يأمرنا بالتعاون على كل ما ينفع الأمة في دينها ودنياها ، ولا شك أن هذا مبدأ اجتماعي خير ، فالأمم وقد تكاثرت أفرادها وتشعبت اتجاهاتها ، وتعددت مصالحها ، أصبح لا يؤثر فيها مجهود الفرد مهما كان قويا ، بل لا بد من تعاون غيره وتسانده معه ، ومن ثم كانت الجمعيات الدينية والتكتل للخير ، من أقوى دعائم النجاح والفلاح في هذا العصر.
وقد كان المسلمون في العصر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى تكتل وارتباط لأن الكل مرتبط بعهد اللّه وميثاقه ، أما نحن اليوم ففي أشد الحاجة إلى توحيد الاتجاهات حتى تأتى الدعوة إلى اللّه بثمرها الطيب ، واتقوا اللّه أيها الناس إن اللّه شديد العقاب فاحذروه. وإياكم ومخالفة أمره.
المحرمات من المطعومات [سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)(1/476)
ج 1 ، ص : 477
المعنى :
إن اللّه تعالى أحل لنا أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان الذي يعيش في البر والبحر والجو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ وإنما حرم علينا أربعة أنواع بالإجمال : إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [سورة النحل آية 115].
وفي هذه الآية ذكر المحرم وهو عشرة :
الميتة : وهي ما ماتت وحدها بدون فعل فاعل ، وفي الشرع : هي التي لم تذكّ ذكاة شرعية ، وقد حرمت لما فيها من الضرر إذ الغالب أنها ماتت من مرض ، وبقي فيها مكروبه وجراثيمه التي تعيش في الدم بعد الوفاة ، أما إذا ذكيت فإن الدم الذي يحمل الجراثيم أو أغلبه ينزل منها ، على أنها مما تعافها النفوس الطيبة وتأنف من أكلها الطباع السليمة.
الدم : والمراد به المسفوح لا المتجمد كالكبد والطحال ، إذ هو مباءة للجراثيم الفتاكة ، على أنه مستقذر عند الطبع السليم ، مما يعسر هضمه وهو من فضلات الجسم الضار ، كالبراز ، فدل ذلك على أنه لا يحل أكله أبدا.
ولحم الخنزير : وهو ثالثة الأثافى ، والمراد لحمه وعظمه ودهنه ، وهو حيوان قذر لا يأكل إلا القاذورات والمواد العفنة ، وقد أثبت الطب الحديث أن أكله يولد الدودة الشريطية ، والدودة الوحيدة ، والحلزونية ، على أنه عسير الهضم ، ضار بالمعدة ضررا بالغا ، ولولا ما يستعين به بعض الغربيين من الأدوية ما أكلوه ، على أن أكثر الدول حرمت ذبحه ، وهل تقبل النفوس الطيبة على أكل حيوان كهذا ؟ والإسلام حينما حرم(1/477)
ج 1 ، ص : 478
الكلب والخنزير لم يكن متعديا ولا متجنيا ، بل لما فيهما من الضرر والخطورة ، وإنما ينظر الشرع للجماهير والشعب لا لبعض أفراد يعنون بكلابهم مثلا فلا يطعمونهم إلا شهى اللحم!!! ما أهل لغير اللّه به : والإهلال رفع الصوت ، وقد كانوا يرفعون صوتهم عند الذبح في الجاهلية بقولهم : باسم اللات والعزى ... إلخ. فما ذبح وقد ذكر عليه اسم غير اللّه كان حراما أكله ، إذ أكله مشاركة لأهله في عبادة غير اللّه ، وهذا مما يجب إنكاره لا المشاركة فيه.
المنخنقة : هي ما ماتت خنقا بأى شكل كان ، وهي نوع من الميتة التي لم تذك ذكاة شرعية ، وإنما خصها القرآن بالذكر مع اندراجها في الميتة لئلا يظن أنها ماتت حتف أنفها بل بفعل فاعل فتحل ، ولكن الشرع شرط الذكاة ليتأكد الإنسان مما يأكل ويثق من أن ما يتغذى به سليما من هذا الدم الفاسد الذي يراق بالذبح.
الموقوذة : هي التي ماتت بعصا أو بحجر بلا ذكاة شرعية وكانوا يأكلونها في الجاهلية ، والوقذ يحرم في الإسلام لأنه تعذيب للحيوان شديد ، وليست معه ذكاة ومن هنا حرمت.
ويدخل في الموقوذة ما رمى بعصا أو حجر ليس له حد ، وما رمى بالبندق « وهو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها » وكذا الحصاة فإن هذا كله لا يفقأ عينا ولا ينكى عدوا ولا يحرز صيدا وليس سببا للقتل غالبا أما الرصاص المستعمل الآن في سلاح الصيد فجائز شرعا على الصحيح.
المتردية : هي ما سقطت من مكان عال كجبال ، أو هوت في بئر بسبب ذلك هي كالميتة لا يحل أكلها بدون تذكية ، ويجوز عقرها في أى مكان للضرورة فتحل.
النطيحة : وهي ما نطحتها بهيمة أخرى فماتت ، وهي حرام كالميتة.
ما أكل السبع : وهي ما قتلت بافتراس حيوان كالسبع والذئب والنمر مثلا ، والمراد ما بقي منها بعد السبع لا ما أكلت كلها ، وكانوا في الجاهلية يأكلون ما بقي من السباع والوحوش.(1/478)
ج 1 ، ص : 479
إلا ما ذكيتم : أى : إلا ما أدركتموه حيا مما سبق فذكيتموه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، وما أكل السبع جزءا منه ، وما أهل لغير اللّه به. فإذا كانت فيه حياة ولو بسيطة بأن يطرف عينا أو يضرب برجل أو يد ثم ذكيتموه ذكاة شرعية صار حلالا ، وإلا فلا.
أما الميتة والدم ولحم الخنزير فلا تحل أصلا ذكيت أم لا.
ما ذبح على النصب : وهو آخر المحرمات العشر ، والنصب : حجارة حول الكعبة ، قيل : كان عددها ثلاثمائة وستون حجرا ، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها تقربا للأصنام ، وهو نوع مما ذكر عليه اسم غير اللّه فحرم أكله لهذا.
وقد أضاف القرآن الكريم إلى محرمات الطعام التي كان الجاهليون يستحلونها خرافة أخرى كانوا يعملونها وهي :
الاستقسام بالأزلام : أى معرفة ما قسم له بواسطة الأزلام وكانت ثلاثة أنواع في الجاهلية ، نوع كان مع الشخص وعدده ثلاثة مكتوب على واحد (افعل) والثاني (لا تفعل) والثالث غفل.
النوع الثاني سبعة قداح ، واحدها قدح ، وكانت عند هبل في جوف الكعبة ، مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل.
النوع الثالث قداح الميسر ، وعددها عشرة ، سبعة منها فيها حظوظ وثلاثة غفل ...
إلخ ، ما هو معروف.
أى : حرم عليكم معرفة ما قسم لكم بالأزلام ، والحكمة في هذا أنه من الخرافات والأوهام التي تعوق نشاط الفرد والأمة ومدعاة للكسل والسير على غير بصيرة وهدى ، على أنها تجعل الناس ألعوبة في يد الكهان ، والإسلام برىء من هذا كله.
وفي هذه الأيام شاعت معرفة الحظ والاستقسام بأوراق (الكوتشينة) و(الودع) و(الفنجان) وهذا كله منكر شرعا لا يليق بعقل المسلم.
على أن معرفة الحظ والنصيب بواسطة المسبحة أو المصحف شيء لا يعرفه الشرع ولا القرآن.(1/479)
ج 1 ، ص : 480
والاستخارة الواردة شرعا : أن يصلى الإنسان ركعتين نفلا للاستخارة ثم يدعو اللّه بدعاء يشرح به صدره لما يريده إن كان خيرا له في دينه ودنياه ، وللنبي صلّى اللّه عليه وسلّم دعاء في الاستخارة موجود في كتب الحديث.
كل المحرمات التي ذكرت لكم فسق وخروج عن الدين والمألوف من الحكمة والعقل.
اليوم وهو يوم عرفة في حجة الوداع يئس الكفار من التغلب على دينكم ويئس الشيطان من أن يعبد غير اللّه في أرضكم ، وعلى ذلك فلا تخشوا أحدا إلا اللّه ، ولا يهمنكم أمر الكافرين فقد عصمكم اللّه منهم ، واخشوا اللّه واتقوه ولا تخالفوه في شيء أبدا.
اليوم أكملت لكم دينكم بإحلال الحلال وتحريم الحرام حتى صار كل شيء بينا واضحا لا لبس فيه ولا غموض ، وكفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم ، وأتممت عليكم نعمتي فلم يحج معكم مشرك أبدا ، وقد تحقق الوعد ، وفتحت مكة ، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا ، وجاءكم النصر ورضيت لكم الإسلام دينا ، واخترته لكم وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ « 1 » .
كل ما ذكر من المحرمات العشر حرام على المسلمين جميعا إلا المضطر الذي حمل قهرا على تناول ما يضره كأن يكون في مخمصة تخمص لها البطون ، أى : تضمر ، فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر من المحرمات بشرط أن يكون غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه ولا متجاوز قدر الضرورة ، فإن اللّه غفور له ولمثله رحيم بخلقه.
___________
(1) سورة آل عمران آية 85.(1/480)
ج 1 ، ص : 481
الحلال من المطعومات [سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 5]
يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
المفردات :
الطَّيِّباتُ : جمع طيب ، وهو ضد الخبيث. الْجَوارِحِ : جمع جارحة ، وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور. مُكَلِّبِينَ : من التكليب وهو : تعليم الكلاب ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقا. وَالْمُحْصَناتُ قيل : هن الحرائر ، وقيل : العفيفات عن الزنا. مُسافِحِينَ : مجاهرين بالزنا. مُتَّخِذِي أَخْدانٍ :
مسرين بالزنا ، والخدن : الصديق. حَبِطَ عَمَلُهُ : بطل ثواب عمله.
سبب النزول :
روى أن عدى بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالا : يا رسول اللّه قد حرم اللّه الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت
، وروى أن عدى بن حاتم الطائي أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول حتى أنزل اللّه هذه الآية.(1/481)
ج 1 ، ص : 482
المعنى :
اللّه - سبحانه وتعالى - سخر لنا ما في السموات والأرض لننتفع به في وجوه النفع من الأكل والشرب واللباس والزينة ... إلخ. ولذا كان الأصل في الأشياء الحل إلا أن هناك نفوسا حرمت الطيب وأحلت المحرم وخاصة في المطعومات فبين اللّه لنا ما حرم وما أحل لا سيما بعد سؤال الناس عن هذا.
يسألك المؤمنون أيها الرسول : ماذا أحل لهم من الطعام واللحوم ؟ قل : أحل لكم الطيبات ، أى : غير الخبيثات ، وصيد ما علمتم من الجوارح المعلمة ، وما هي الطيبات ؟ هي : كل ما لم يرد نص بتحريمه واستطابته النفوس الطيبة المعتدلة المزاج ، والمتوسطة في المعيشة.
فقد ورد نص بتحريم المحرمات العشر الماضية في القرآن ، وورد عن ابن عباس (نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير) والسبع عند الشافعى ما يعدو على الناس والحيوان ، وعند أبى حنيفة كل ما أكل اللحم ويمكن أن يقال : ما لم يرد فيه نص قسمان : حلال طيب ، وحرام خبيث. وهل العبرة في التميز ذوق أصحاب الطباع السليمة من العرب أو يعمل كل أناس وجماعة بحسب أذواقهم ؟
قولان.
وقد ثبت أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عاف أكل الضب وأجاز أكله لمن سأله كما في حديث خالد ابن الوليد في الصحيحين وغيرهما.
هذا في صيد البر وحيوانه ، أما حيوان البحر فكله حلال أكل العشب أو أكل اللحم ، أما ما يعيش في البر والبحر كالضفدع والتمساح فلا يحل أكله ، وكذا الثعبان والسلحفاة للاستخباث والسم الذي في الثعبان.
أما صيد الجوارح فقد اشترط أن تكون الجارحة معلمة ومرسلة من الصائد حتى يكون قتل الجارح للصيد ذكاة شرعية. وإن أتى به حيا ذكاه صاحبه ، وضابط التعليم أن تكون الجارحة إذا أغراها صاحبها بالصيد ذهبت إليه ، وإذا كفها انكفت وتمسك عليه الصيد فلا تأكل منه شيئا.(1/482)
ج 1 ، ص : 483
فإن أكلت منه فالجمهور على أنه لا يحل لأنه مثل فريسة السبع المحرمة سابقا ، وذلك
لحديث عدى بن حاتم : أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم اللّه فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل ، فإنى أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه »
وفي رواية أخرى : « وإذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم اللّه فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتله ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاة » .
وبعضهم يرى حل ما بقي من الكلب لظاهر الآية ولحديث أبى ثعلبة الخشني : « فكل وإن أكل منه »
وبعضهم لا يأكل بقية الكلب ويأكل بقية الطائر.
وفي رواية : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن صيد القوس فقال : « ما صدت بقوسك فذكرت اسم اللّه عليه فكل »
وفي رواية أخرى : ذكى أو لم يذك
(ذبح أو لم يذبح) وصيد البندقية كالقوس ، وبعضهم يشترط في حله الذبح إن أدرك حيا. وما علمتم من الجوارح مكلبين ، تعلمونهن مما علمكم اللّه من أنواع الحيل والتأديب فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم اللّه عليه ، أى : عند إرسال الكلب ، وقيل : عند الأكل ، وعلى ذلك فهل التسمية في الآية سنة إن نسيها الشخص فلا حرج ؟ روى ذلك عن ابن عباس ، وبعضهم يرى أنها واجبة.
واتقوا اللّه في هذه الحدود ، وقفوا عندها : إن اللّه سريع الحساب ، لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض.
روى أنه يحاسب الناس جميعا في مقدار نصف يوم.
أحل لكم الطيبات على سبيل التفضيل ، وذبائح الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى حلال لكم دون ذبائح المشركين عبدة الأصنام والأوثان ، والتسمية عند الذبح قيل :
لا بد منها ، والأرجح إن ذكر اسم غير اللّه فلا تأكل من المذبوح ، هذا إن سمعته ، فإن لم تسمعه يذكر شيئا فكل وهو حلال.
وطعامكم أيها المؤمنون حل لهم ، فلا جناح عليكم أن تطعموهم أو تبيعوهم شيئا.
والمحصنات ، أى : الحرائر العفيفات من المؤمنات ، والذين أوتوا الكتاب من قبلكم حلال لكم ، بشرط أن تؤتوهن مهورهن بقصد الإحصان والإعفاف ، لا سفح الماء على طريق الزنا العلنى ، ولا عن طريق الزنا السرى وهو اتخاذ الأخدان.(1/483)
ج 1 ، ص : 484
ومن يكفر بالإيمان وفروعه وأصوله ، وأحكامه وقوانينه ، فقد حبط عمله وبطل أجره وهو في الآخرة من الخاسرين.
وعلى العموم : للصيد والذبائح باب واسع في كتب الفقه والحديث يحسن الرجوع إليه لمن أراد المزيد.
الوضوء والغسل والتيمم [سورة المائدة (5) : الآيات 6 الى 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
المفردات :
وُجُوهَكُمْ : جمع وجه ، وهو ما تقع به المواجهة ، وحدّه طولا ما بين منبت(1/484)
ج 1 ، ص : 485
شعر الرأس إلى منتهى اللحيين ، وعرضا ما بين الأذنين. الْمَرافِقِ : جمع مرفق ، وهو أعلى الذراع وأسفل العضد. الْكَعْبَيْنِ : العظمين الناتئين عند اتصال الساق بالقدم من الجانبيين. جُنُباً أى : أصابتكم جنابة بمجامعة النساء ، أو إنزال المنى.
بِذاتِ الصُّدُورِ : بصاحبة الصدور ، والمراد بها : السر الذي لم يبارح الصدور.
المناسبة :
بعد أن بين اللّه - سبحانه وتعالى - عهوده الخاصة بالحلال والحرام في الطعام والنكاح ، أخذ يبين ما يقتضيه هذا من الشكر للّه والصلاة ، ومفتاحها الوضوء والغسل والتيمم ، وختم الآية ببيان الحكمة في الطهارة وتذكيرنا بالعهود والمواثيق التي التزمناها ،
روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « مفتاح الجنة الصلاة ، ومفتاح الصلاة الطهور » .
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا : إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون وهذا التقيد بالحدث أتى من السنة الشريفة ، فعليكم بالوضوء ، فالوضوء واجب عند كل صلاة على المحدث حدثنا أصغر ، وإنما يستحب على غير المحدث عند كل صلاة.
فقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ »
وروى البخاري عن عمر ابن عامر الأنصارى : سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يتوضأ عند كل صلاة ، قال : قلت : فأنتم كيف تصنعون ؟ قال : كنا نصلى الصلوات بوضوء واحد ولم نحدث » .
فرائض الوضوء :
إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ، واغسلوا أيديكم إلى المرافق ، فالمرافق تغسل من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وامسحوا برءوسكم ، امسحوا ولو شعرة واحدة عند الشافعى - رضى اللّه عنه - وربع الرأس عند الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان ، وعلى كل الرأس عند مالك للاحتياط وقد فعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم(1/485)
ج 1 ، ص : 486
هذا كله ، والآية تحتمل كل هذا. إذ الباء في قوله تعالى : بِرُؤُسِكُمْ هل هي للإلصاق أو للتبعيض أو زائدة صلة ؟ ؟ ولا تنس أن خلافهم رحمة ، ومن هنا كانت دراسة الأزهر للغة دراسة حرفية أمرا واجبا حتى يتسنى استخلاص الأحكام أو فهمها فهما صحيحا! وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ أى : واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، وهما داخلان كالمرفقين. ومن فرائض الوضوء النية عند الشافعى ، واستدل بقوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ وبحديث « إنما الأعمال بالنيات »
والترتيب كذلك
لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « أبدأ بما بدأ اللّه به »
وتوسط مسح الرأس بين غسل اليدين والرجلين يدل على الترتيب ، وعلى ذلك فتكون فروض الوضوء : النية ، وغسل الوجه ، وغسل اليدين ، ومسح بعض الرأس ، وغسل الرجلين ، والترتيب ، وله سنن كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
روى الترمذي وغيره عن بعض الصحابة قال : رأيت عليا توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما ، ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا ، وذراعه ثلاثا ، ومسح رأسه مرة ثم غسل قدميه إلى الكعبين ثم قال : « أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم » أى : وضوءه.
وفي هذا الحديث فروض الوضوء وبعض السنن ، وصح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم توضأ مرة مرة ، ومرتين مرتين ، وأما التثليث فهو السنة التي جرى عليها العمل في الكثير.
نواقض الوضوء :
ما خرج من السبيلين ، النوم على غير هيئة المتمكن ، وتلاقى بشرتي ذكر وأنثى ، وعند الأحناف : اللمس لا ينقض مطلقا ، وقيل : بالشهوة ينقض فقط ، وعند الإمام مالك : اللمس ينقض إذا كان بشهوة مقصودة أو وجدها بدون قصد ، فإن لم يقصد اللذة ولم يجدها ، فلا ينتقض وضوؤه ، ومس فرج الآدمي بباطن الكف ، وخالف بعضهم في هذا ، وليست نواقض الوضوء في الآية ولكن تعميما للفائدة ذكرت ، وعلى العموم فللوضوء أحكام كثيرة في كتب الفقه.(1/486)
ج 1 ، ص : 487
الغسل :
هو تعميم البدن بالماء الطاهر ، وله أسباب منها : الجنابة وتكون بإيلاج الحشفة أو قدرها من الذكر في فرج ، أو بنزول المنى ، وكذا الولادة ، وكذا الحيض والنفاس ، فمن كان جنبا أو عنده سبب من أسباب الغسل المتقدمة وأراد الصلاة فعليه الغسل مع النية وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا.
التيمم :
هو ضربتان للوجه واليدين بنية من تراب طاهر له غبار ، وقيل : لا يشترط ، وله أسباب : وهي تعذر استعمال الماء لمرض أو سفر أو أحدث الشخص حدثا أصغر أو حدثا أكبر (كما تقدم في الغسل) وطلب الماء فلم يجده أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ جامعتم فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.
حكمة مشروعية الوضوء والغسل :
غسل البدن كله أو أطرافه مما يبعث النشاط والهمة فيقف العبد بين يدي ربه نشيطا حاضر القلب صافى الروح ، وعند حصول سبب من أسباب الغسل كالجنابة أو الجماع مثلا وهو ما يسمى بالحدث الأكبر يعترى الجسم استرخاء وفتور يزولان بالغسل ، على أن النظافة من الإيمان (و هي أمر لازم للمسلم من حيث كونه مسلما. ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج حيث أوجب الغسل والوضوء للصلاة وعند فقد الماء أوجب التيمم ، ولكن يريد ليطهركم ماديا من الدنس والرجس ، ومعنويا من الكسل والفتور ويبعث النفس صافية مشرقة لتناجى ربها ، وليتم نعمته برسمه طريق العبادة لكم ، بهذا تقومون بالشكر الواجب عليكم.
واذكروا نعمة اللّه عليكم الذي وفقكم للإسلام وهداكم للقرآن ، واذكروا ميثاقه الذي أخذه عليكم وأنتم في عالم الذرة ، وحين الإيمان بالرسول والشهادة للّه (إذ قلتم بلسان الحال : سمعنا وأطعنا).
واتقوا اللّه في كل شيء ولا تنقضوا الميثاق إن اللّه عليم بذات الصدور.(1/487)
ج 1 ، ص : 488
إتقان العمل والشهادة بالقسط مع التذكير بنعم اللّه [سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
المفردات :
قَوَّامِينَ : جمع قوّام ، وهو المبالغ في القيام بالشيء والإتيان به مقوما تاما كاملا. بِالْقِسْطِ : بالعدل. يَجْرِمَنَّكُمْ : يحملنكم ويكسبنكم. خَبِيرٌ الخبرة : العلم الدقيق الذي يؤيده الاختبار. يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يقال : بسط إليه لسانه : إذا شتمه ، وبسط إليه يده : إذا بطش به.(1/488)
ج 1 ، ص : 489
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا : كونوا من أصحاب النفوس الطيبة والأرواح العالية الذين يتقنون أعمالهم ، ويخلصون فيها إخلاصا للّه ولرسوله ، سواء منها الأعمال الدينية والدنيوية ، فإن اللّه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، والإتقان والإخلاص أساس النجاح ، وأما الشهادة بالقسط وتحرى العدل فهي الدعامة الأولى لسعادة الأمم ، وبناء المجتمع وانتشار الطمأنينة ، وانصراف كل إلى عمله.
وأنت إذا لم تحاب أحدا في شهادتك ، وقمت بها عادلا. لم تراع قرابة ولا صداقة ولم تخش في قول الحق لومة لائم ، ولم تحملك عداوة قوم لك ولا بغضهم على الجور وعدم العدل ، كنت من القوامين للّه والشهداء بالقسط ولو على أنفسهم.
فالعدل العدل!!! فهو أقرب طريق إلى التقوى ، والخلوص من المهالك والمعاصي ، واحذروا عقاب اللّه فإنه بكم خبير وبعملكم بصير ، وسيجازيكم عليه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
فهذه الآية الكريمة والآية التي تقدمت في سورة النساء كلاهما يعالج داء خطيرا من أكبر الكبائر وهو كتمان الشهادة ، وشهادة الزور ، واللّه قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى.
وأما الذين كفروا ، وكذبوا بآيات اللّه الكونية ، وآياته المنزلة على رسله مع العلم بأن من يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض فقد كفر بالكل ، فهؤلاء أصحاب النار الملازمون لها ، وهي بئس المأوى وبئس المصير.
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعم اللّه عليكم التي لا تحصى ، ومن نعمه السابغة أن دفع عنكم كيد أعدائكم ورده في نحورهم ، على كثرتهم وقوتهم ، وضعفكم وقلتكم ، وقد هموا وعزموا بل وأنفقوا جهدهم أن يمدوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ولكن اللّه مؤيد رسله وناصر دينه ومتمّ نوره ولو كره الكافرون ، ولقد صدق اللّه وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده!!! وقد روى في أسباب النزول لهذه الآية روايات كثيرة كلها تدور حول رجل هم بقتل(1/489)
ج 1 ، ص : 490
النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم حفظه اللّه منه مع أنه مسلح. وكان النبي أعزل ، ولقد منّ اللّه على المؤمنين عامة بحفظ النبي - عليه الصلاة والسلام - والصحابة من أعدائهم ولا شك أن ذلك حفظ للدين ، وذكرهم بهذا ليقتفى المؤمنون آثار من تقدمهم واللّه ناصرهم ما نصروه ، وحافظهم من أعدائهم إن كانوا قوامين للّه شهداء بالقسط عدولا.
واتقوا اللّه أيها الناس وعلى اللّه وحده فليتوكل المؤمنون ، لا على قوتهم وبأسهم ، ولا يغرنهم الذين كفروا مهما كثروا وتفننوا في أساليب الخراب والدمار ، فاللّه معهم وناصرهم ما داموا مؤمنين.
كيف نقض اليهود والنصارى المواثيق ؟ [سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)(1/490)
ج 1 ، ص : 491
المفردات :
نَقِيباً نقيب القوم : كبيرهم الذي يعنى بهم وبمصالحهم ويعرف دخائلهم وهو الضامن لهم. وَعَزَّرْتُمُوهُمْ : نصرتموهم ومنعتموهم من الأعداء. لَعَنَّاهُمْ :
طردناهم من رحمتنا. قاسِيَةً : شديدة مغلقة لا تقبل خيرا. خائِنَةٍ أى :
خيانة ، أو نفس خائنة. فَأَغْرَيْنا : ألزمهم وألصقنا بهم.
المناسبة :
بعد أن أمرنا بالوفاء بالعهود وذكرنا بموجب هذا الوفاء من إحلال الحلال وتحريم الحرام ، وتبصيرنا بالاستعداد للصلاة وإقامة الشهادة بالعدل ، وقد ذكرنا بنعمه والمواثيق التي أخذها علينا. بعد هذا كله أخذ يعرض لنا حال أهل الكتاب وقد نقضوا الميثاق.
وكيف كان جزاؤهم في الدنيا والآخرة ، لعل المسلمين يتعظون بمن سبقهم من الأمم.
روى أنه لما نجا بنو إسرائيل من فرعون وصحبه ، أمرهم اللّه بالسير إلى بيت المقدس وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة ، وقال لهم : إنى جعلتها لكم وطنا ، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها ، وإنى ناصركم ، وأمر نبيه موسى - عليه السلام - أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بتنفيذ ما أمروا به ، فاختار النقباء ، وأخذ الميثاق على بنى إسرائيل وتكفل النقباء بما طلب وسار بهم فلما دنا من بيت المقدس بعث النقباء يتحسسون الأخبار ، فرأوا أجساما قوية ، وشوكة وقوة ، فهابوهم ورجعوا وحدثوا(1/491)
ج 1 ، ص : 492
قومهم بما رأوا. وكان موسى قد أمرهم ألا يخبروا أحدا بما يرون فنقضوا العهد إلا نقيبين منهم
وهما اللذان قال فيهم القرآن : قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ وسيأتي خبرهما بعد في الآية 23.
المعنى :
ولقد أخذ اللّه العهود والمواثيق على بنى إسرائيل بواسطة نبيهم موسى ليعملن بالتوراة وليقبلنها بجد ونشاط خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [سورة البقرة الآيات 63 و93] ولا يزال هذا العهد موجودا في التوراة ، وأمرناه أن يختار اثنى عشر نقيبا منهم ، يتولون أمور الأسباط ، ويقومون على رعايتهم ، وبعثناهم يتحسّسون العدو ليقاتلوه ، وقال اللّه على لسان موسى : إنى معكم وناصركم على عدوكم ومطلع عليكم ومجازيكم على أعمالكم.
ثم أعطاهم العهد الموثق : لئن أقمتم الصلاة وأديتموها تامة كاملة الأركان مستوفية الشروط ، وأنفقتم بعض المال الذي به تزكو نفوسكم وتطهر. وآمنتم برسلي التي سترسل لكم بعد موسى - عليه السلام - كداود وسليمان ويحيى وزكريا وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - ونصرتموهم ، ومنعتموهم من الأعداء ، ووقفتم إلى جانبهم في السراء والضراء ، وأقرضتم اللّه قرضا حسنا طيبة به نفوسكم ، مع أنكم تقرضون ربّا له خزائن السموات والأرض قادرا كريما ، يضاعف الحسنة إلى عشرة أمثالها بل إلى سبعمائة.
تاللّه إنكم إن فعلتم هذا (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل ونصرتهم والقرض الحسن) لأكفرن عنكم سيئاتكم ، فإن الحسنات يذهبن السيئات ، وأنتم بذلك تستحقون الرضوان ودخول الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار ، ومن يكفر بعد ذلك منكم ، وينقض الميثاق فقد ضل السبيل الواضح وأخطأ الطريق المستقيم الذي رسمه اللّه لعباده الأبرار.
وهؤلاء اليهود - كما وصفهم القرآن غير مرة - دأبهم العناد ، وديدنهم الكفر والعصيان ، وجزاؤهم الطرد والحرمان ، فبنقضهم الميثاق ، وكفرهم باللّه ورسله وعدم نصرتهم لهم وعدم تعظيمهم وتوقيرهم ، استحقوا المقت والغضب واللعن والطرد من(1/492)
ج 1 ، ص : 493
رحمة اللّه ، وكان نقضهم الميثاق مفسدا لفطرتهم مدنسا لنفوسهم ، فإن الذنب الذي يرتكبه الإنسان يترك نكتة سوداء في القلب. فإذا كثرت المعاصي اسود القلب وأصبح في أكنة ، لا يصل إليه النور والهدى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ « 1 » ولذلك رأيناهم يقتلون الأنبياء بغير حق ، ويفترون على مريم البتول وابنها عيسى الذي أرسل لهم يهديهم سواء السبيل ، بل حاولوا قتله وافتخروا بذلك وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ « 2 » فبسبب هذا بعدوا عن رحمة اللّه وطردوا منها شر طردة وأصبحت قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قساوة ، وصاروا يحرفون الكلم عن مواضعه فيقدمون ويؤخرون ، ويحذفون منه ، ويغيرون معناه ويبدلون ، ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين ، وقد نسوا حظا من التوراة كبيرا.
ذلك أن موسى - عليه السلام - توفى والتوراة التي كتبها وأمر بحفظها نسخة واحدة قد فقدت باتفاق المؤرخين من اليهود والنصارى عند سبى البابليين لهم وإغارتهم عليهم ، ولم يكن عندهم غيرها وما كانوا حفظوها كلها ، نعم هناك أسفار خمسة تنسب إلى موسى - عليه السلام - فيها أخبار عن موته وحياته وأنه لم يقم أحد بعده مثله ، كتبت بعد موته بزمن طويل ، قيل : كتبها عزرا الكاهن معتمدا على ما بقي عند شيوخهم الذين بقوا بعد الأسر والقتل.
أفلا تراهم نسوا حظا كبيرا ، وكما يقول القرآن في موضع آخر : أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ « 3 » ومن العلماء من يرى أن معنى الآية أنهم تركوا أحكاما كثيرة من التوراة.
واللّه أعلم بكتابه.
ألا ترى أن هذا من أعظم المعجزات على صدق الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حيث أخبرهم بدخائل نفوسهم!! وأما أنت يا محمد فلا تأس عليهم ، ولا تعجب من عنادهم فها هم قديما قد فعلوا كل شيء ، ولا تزال تطلع منهم على خيانة تصدر منهم على سبيل المبالغة ، إلا قليلا منهم ممن آمن وحسن إيمانه.
وإذا كان الأمر كذلك فاعف عنهم واصفح إذا تابوا ، أو بذلوا الجزية ، إن اللّه يحب المحسنين.
___________
(1) سورة البقرة الآية 7. [.....]
(2) سورة النساء الآية 157.
(3) سورة آل عمران الآية 23 والنساء 44 و51.(1/493)
ج 1 ، ص : 494
ولقد أخذ اللّه ميثاق الذين أتوا الكتاب من النصارى ، فنسوا حظا عظيما مما ذكروا به ولذلك كان جزاؤهم أن اللّه ألزمهم العداوة والبغضاء حتى صارت صفة لازمة لهم لاصقة بهم إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم اللّه بما كانوا يصنعون.
والمنصف للتاريخ يعرف أن المسيح توفى ، ولم يكن هناك إنجيل مكتوب ، وقد اضطهد اليهود أتباعه وتلاميذه وشردوهم حتى قتلوا أكثرهم فلما هدأت الأحوال ودخل الملك قسطنطين الديانة المسيحية أخذوا يكتبون الأناجيل ، ولذلك كانت كثيرة ومختلفة ومتباينة.
وسوف ينبئهم اللّه بما كانوا يصنعون في الدنيا ، ويجازيهم عليه حتما.
القرآن وما يخفيه أهل الكتاب [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
المعنى :
يا أهل الكتاب. قد جاءكم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم مؤيدا بمعجزة القرآن المعجزة الباقية الخالدة ، فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. هذا النبي قد بين لكم كثيرا من الأحكام والآيات التي كنتم تخفونها عن العوام ،
فقد روى أن هذه الآية نزلت حينما كتموا(1/494)
ج 1 ، ص : 495
حكم الزاني المحصن وأقسم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على حبرهم ابن صوريا وناشده اللّه حتى اعترف به.
وقد أنكروا غير ذلك من بشارة النبي ووصفه فبينه القرآن لهم ، ولقد كان بيان القرآن لما كتموه سببا في إسلام كثير من أحبارهم وعلمائهم.
يبين اللّه بواسطة رسوله كثيرا مما يخفون ، ويعفو عن كثير مما لا تمس الحاجة إليه ، ولا يفيد الدعوة في شيء ، وهم يعلمون أنهم يخفون غير الذي أبداه الرسول ...
يا أهل الكتاب : قد جاءكم من اللّه نور هو النبي محمد ، أو هو القرآن ، أو دينه ، وجاءكم كذلك كتاب مبين بين الحق وأظهر المكنون ، يهدى به اللّه من اتبع رضوانه طريق الخير التي تنجيه من العذاب الأليم ، ويخرج من اتبعه من ظلمات الشرك والخبث والخرافة والأوهام الباطلة إلى نور الإسلام وهدى القرآن الذي أنزل بعلمه ومشيئته وتوفيقه ، ويهدى من اتبعه صراطا مستقيما يوصل إلى خير الدنيا والآخرة.
مناقشة النصارى في عقائدهم [سورة المائدة (5) : الآيات 17 الى 19]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (19)(1/495)
ج 1 ، ص : 496
المفردات :
يَمْلِكُ : يدفع ويمنع ، وأصل الملك : الضبط والحفظ التام. يُهْلِكَ :
يميت ويعدم. فَتْرَةٍ : سكون وهدوء من الرسل ، والمراد انقطاع الوحى ، وعدم ظهور الرسل مدة من الزمن.
المعنى :
المسيحيون في هذا العصر طوائف أشهرها ثلاث : البروتستانت ، والكاثوليك ، والأرثوذكس. يقولون بألوهية المسيح وأن اللّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا ، وقد كان المسيحيون القدامى لا يصرحون بهذا الرأى وإن كان لازما لأقوالهم بالحلول والاتحاد ، على أن فرقة منهم هي اليعقوبية كانت تقول : إن المسيح هو اللّه.
والمسيحيون المعاصرون خصوصا الكاثوليك والأرثوذكس لا يعدون الموحد مسيحيا ، وأساس هذه العقيدة عبارة وردت في إنجيل يوحنا (في البدء كانت الكلمة والكلمة كان عند اللّه : واللّه هو الكلمة) وقد أطلقوا لفظ الكلمة على المسيح ، فصار معنى الفقرة : اللّه هو المسيح ، كما وصفهم القرآن الكريم.
على أن الثابت أن يوحنا كتب إنجيله في آخر حياته وكتبه بإلحاح عليه. فإذا المسيح برىء منها ولم يدع إليها أبدا بل سيأتى أنه دعا إلى التوحيد وإلى تمجيد اللّه فقط كما نقل عنه في الإنجيل.(1/496)
ج 1 ، ص : 497
وقد ذكر الدكتور (بوست) في تاريخ الكتاب المقدس : طبيعة اللّه ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر : اللّه الأب ، واللّه الابن ، واللّه روح القدس ، فإلى الأب الخلق ، وإلى الابن الفداء ، وإلى روح القدس التطهير ، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء.
ولقد رد القرآن هذا الزعم الباطل ، وأبطل تلك العقيدة الوثنية فقال : يا أيها الرسول قل لهؤلاء الذين تجرأوا على مقام الألوهية : من يملك من اللّه شيئا إذا أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ؟ من يمنع اللّه إذا أراد أن يميت المسيح وأمه ؟ لا أحد يقدر على هذا!! فاللّه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه!! بل لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وأمره وها هو ذا المسيح وأمه قد حصل لهما ما حصل لبقية الخلق فهل منعا عن أنفسهما شيئا ؟ ؟ .
وإذا كان المسيح لم يستطع أن يدفع شيئا عن نفسه ولا عن أمه ولم يستطع أحد أن يدفع عن المسيح شيئا فهل يكون هو اللّه الذي بيده ملكوت كل شي ء ؟ تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا!! ولنا أن نرد عليهم بكلامهم.
إذا كان المسيح إلها فكيف لم يرد عن نفسه الصلب الذي هو شر أنواع الهلاك ؟ فقد قيل في الإنجيل : « ملعون كل من علق على خشبة » من إحدى رسائل بولس الرسول ، وثبت أن المسيح استغاث بربه ضارعا خائفا وجلا ليصرف عنه ذلك الكأس فلم يجب إلى طلبه ، في إنجيل متى : (إلهى إلهى لما ذا تركتني ؟ ). (يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس. إن لم يمكن أن تعبر عنى هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك).
فإذا عيسى - كما هو منصوص عندهم - نبي ورسول كما أنه بشر كبقية الخلق خائف وجل متضرع إلى اللّه - جل جلاله - شاعر بأن الصلب شر أنواع الهلاك ، ولإخلاصه وصدقه نجاه اللّه من الذين مكروا به وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء 157].
لا أحد يمكنه أن يرفع الهلاك ويمنع الموت عن عيسى وأمه ومن في الأرض جميعا وكيف يكون غير هذا ؟ وللّه وحده ملك السموات والأرض وما بينهما.
ولقد كان السبب في تخبط النصارى وضلالهم كثرة المتشابه عندهم في الأناجيل ،(1/497)
ج 1 ، ص : 498
وأن عيسى خلق على غير السنن المألوف ، وقد عمل أعمالا غريبة لم تصدر عن عامة البشر.
ولذلك رد اللّه عليهم هذا بقوله : يَخْلُقُ ما يَشاءُ فهو مالك الملك ، وصاحب الأمر في السماوات والأرضين يخلق ما يشاء على حسب حكمته وإرادته فقد خلق أبانا آدم بلا أب ولا أم ، وحواء بدون أم ، وعيسى بلا أب وأصول الحيوانات جميعا من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة.
ولقد أرسل رسله مبشرين ومنذرين ، وأيدهم بروح من عنده وأجرى على أيديهم المعجزات المناسبة لزمانهم ، فهذا موسى وعصاه السحرية لأن السحر كان أبرز علم عندهم ، وهذا عيسى وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الميت لأن الطب كان أبرز شيء عند قومه ، وهذا خاتم النبيين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كانت معجزته القرآن لأنه بعث في العرب المعتزين بالفصاحة وكانت رسالته خاتم الرسالات فكان قرآنه باقيا كاملا في كل شيء ، هذا القرآن الذي وقف وحده آلاف السنين يرد هجمات أعدائه على كثرتهم.
فلا يغرنكم أيها المسيحيون إحياء عيسى للميت.
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له وأنت أحييت أجيالا من العدم
ولا غرابة في ذلك فاللّه يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.
وإذا كان عيسى إلها فمن كان الإله قبله ؟ وعلى أى وضع كان ؟
وسيأتى مزيد من الرد على ألوهية عيسى ابن مريم قريبا.
روى أن اليهود تكلموا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فدعاهم إلى التوحيد وحذرهم من عذاب يوم القيامة ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ؟ ونحن أبناء اللّه وأحباؤه!! وقد قالت النصارى ذلك فنزلت هذه الآية.
والمعنى : قالت اليهود كما قالت النصارى : نحن أبناء اللّه وأحباؤه!! فاللّه يعاملنا معاملة الأب لأبنائه يعطف علينا ويرحمنا ، وبعض النصارى بالغوا في ذلك فقالوا :
عيسى ابن اللّه حقيقة ونحن أبناء مجازا.
وقد رد اللّه عليهم بقوله : قل لهم يا محمد : إذا كان الأمر كذلك!! فلم يعذبكم(1/498)
ج 1 ، ص : 499
بذنوبكم في الدنيا كما ترون من تخريب دياركم وهدم الوثنيين لمسجدكم في بيت المقدس ، ومن لصوق العداوة والبغضاء فيكم أيها النصارى ، فأنتم تتحاربون وتتقاتلون إلى الأبد ، فبعضكم رأسمالي وستظل الحرب بينكم دائما حتى تفنوا جميعا إن شاء اللّه.
وأما في الآخرة فيكون العذاب عسيرا عليكم أهل الكتاب ، والأب لا يفعل هذا مع أبنائه والأولاد لا يعصون آباءهم كما تفعلون!! بل أنتم وغيركم من جميع الطوائف والملل بشر وخلق من خلق اللّه لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان الصادق الخالص من شوائب الوثنية.
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [سورة النساء آية 123].
وللّه ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير في الآخرة إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً « 1 » وسيعذب الكافر والعاصي ويثيب الطائع والصالح.
يا أهل الكتاب لا حجة لكم ، قد جاءكم رسولنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يبين لكم ما اندثر من الأحكام ، وضاع من القوانين وقد بشرت به كتبكم وهو مصدق لما معكم ، جاءكم على فترة من انقطاع الرسل والوحى عليكم فيما بينه ما كنتم تخفونه وتكتمونه ، ولو لا أنه رسول ما أمكنه ذلك ، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، لئلا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير ، واللّه على كل شيء قدير.
___________
(1) سورة مريم آية 93.(1/499)
ج 1 ، ص : 500
من مواقف اليهود مع موسى عليه السلام [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
المفردات :
مُلُوكاً : أحرارا عندكم ما يكفيكم. الْمُقَدَّسَةَ : الطاهرة من الأوثان(1/500)
ج 1 ، ص : 501
وعبادتها. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ : ترجعوا عما أمرتم به. جَبَّارِينَ :
جمع جبار ، وهو الطويل القوى المتكبر العاتي ، مأخوذ من قولهم : نخلة طويلة لا ينال ثمرها. يَتِيهُونَ التيه : الحيرة ، ومنه صحراء تيهاء : إذا تحير سالكها لعدم الأعلام التي يهتدى بها.
المناسبة :
بعد أن أقام القرآن الدليل على صحة نبوة النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وتعرض لأهل الكتاب في ذلك ، ساق قصة لليهود تثبت عنادهم وكفرهم مع أنبيائهم لتكون تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتسجيلا عليهم.
وقد ذكرنا هذه القصة عند الكلام على الميثاق والنقباء في آية (12) من هذه السورة.
المعنى :
واذكر يا محمد لبنى إسرائيل ولسائر الناس الذين تبلغهم دعوتك وقت قول موسى لقومه : تذكروا نعمة اللّه عليكم واشكروه عليها ، فقد جعل فيكم أنبياء كثيرة إذ غالب الأنبياء من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه السلام - ولم يكن من ولد إسماعيل إلا النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبنو إسرائيل من نسل يعقوب.
وجعلكم ملوكا أحرارا عندكم ما يكفيكم ويقيكم ذل السؤال من زوجة وخادم ودار كما ورد في ذلك الآثار.
وآتاكم ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانكم ، فالمن والسلوى. وتظليلكم بالغمام ، وفرق البحر ، وإنجاؤكم وغرق عدوكم ... إلخ ، ما هو مذكور في الجزء الأول.
يا قوم : ادخلوا الأرض الطاهرة من عبادة الأوثان لكثرة الأنبياء فيها ، واختلف المفسرون فيها هل هي فلسطين أم غيرها. والظاهر أنها فلسطين المنكودة ، التي كتب اللّه لكم فيها حق السكنى ووعد بها إبراهيم وبنيه ففي سفر التكوين من التوراة :
(لنسلك أعطى هذه الأرض) على أنها لا تكون ملكا لا يزاحم فيها أحد بل لهم السكنى(1/501)
ج 1 ، ص : 502
فقط. فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنهم لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح ، ولعل ما هم فيه من الضيق والشدة يؤذن بضياع ملكهم الذي أسسه الانجليز والأمريكان لأمور سياسية!! وقال موسى : يا قوم : لا ترجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل الإلهى ، إلى الوثنية والفساد في الأرض ، وقيل : لا تراجعوا عما أمرتم به مطلقا من الدخول في الأرض المقدسة وغيره فتنقلبوا خاسرين.
قال النقباء الذين أرسلوا للتجسس لموسى : إن فيها قوما طوالا جبارين ، أولى بأس وقوة ، وإنا لا ندخلها أبدا ما داموا فيها. وكان يسكنها في هذا الوقت بنو عناق من الكنعانيين. وقد بالغ اليهود في وصفهم بما لا يصدقه عقل ولا منطق.
ولا غرابة في إحجامهم عن الدخول فيها وقتالهم الجبارين فكل قوم تربوا في أحضان الذل والاستعمار يألفونه ولا يألفون الحرية والكرامة ، ولذلك قالوا معتذرين :
لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون!! قال رجلان من الذين يخافون اللّه وقد أنعم عليهما بالتوفيق والسداد : ادخلوا يا قوم عليهم الباب فإنكم إذا دخلتموه كان اللّه معكم وناصركم عليهم ، وعلى اللّه وحده فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.
قالوا : يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فإنهم أولو قوة وبأس. وعلى ذلك فاذهب أنت وربك الذي أمرنا أن نخرج من مصر ونأتى إلى هنا فقاتلا ، إنا ها هنا قاعدون ومتخلفون عن الحرب.
قال موسى وقد عرف قومه وإباءهم ، وخشي أن يفتنوا الرجلين الصالحين قال : رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى هارون الذي عرفت فيه الامتثال والطاعة ، يا رب فافصل بيننا وبين هؤلاء القوم الفاسقين ، قال الرب - سبحانه وتعالى - : إذا كان الأمر كذلك فإن هذه الأرض محرمة عليهم أربعين سنة وهم في هذه المدة يتيهون في البيداء لا يعرفون لهم قرارا ، وهكذا ينزل عذاب اللّه على كل من يخالف أمره ، فهؤلاء هم اليهود وهذه أعمالهم من قديم مع أنبيائهم فلا تأس يا محمد عليهم ولا تحزن!.(1/502)
ج 1 ، ص : 503
قصة أول قتيل في الوجود [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)(1/503)
ج 1 ، ص : 504
المفردات :
وَاتْلُ : التلاوة القراءة. نَبَأَ : هو الخبر المهم. قُرْباناً : ما يتقرب به إلى اللّه - سبحانه وتعالى - من الذبائح وغيرها. بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ : مددتها لتعتدى علىّ. تَبُوءَ : ترجع بعقاب يعادل الإثم ويساويه. يا وَيْلَتى :
يا فضيحتي احضرى ، والويل : الشر ، والويلة : الفضيحة والبلية.
يسوق اللّه هذه القصة ليبين طبائع النفوس الموروثة وما يفعله الحسد الكامن والداء الباطن ، الذي يقضى على أقوى سبب وأمتن رابطة وهي الأخوة ، وكيف كان السبب في أول قتيل في الأرض ؟ ؟
فإذا لا تيأس يا محمد ، ولا تعجب من فعل اليهود إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [سورة المائدة آية 11] فهم قوم يحسدون الناس على ما آتاهم ربهم من فضله ، على أن هذا طبع متأصل في أبناء آدم.
واتل يا محمد على قومك وعلى كل من تبلغه دعوتك ، اتل عليهم نبأ هاما وخبرا متلبسا بالحق والصدق ، لا مبالغة فيه ولا كذب كما يفعل اليهود في أخبارهم وكتبهم من التحريف والتبديل.
اتل خبر ابني آدم لصلبه - على الأصح - قيل : هما قابيل القاتل ، وهابيل القتيل ، وكانت عادتهم أن يتزوج ذكر البطن الأولى أنثى البطن الثانية ، وبالعكس ، فصادف أن قابيل معه توأم جميلة ، ومع هابيل توأم دميمة رغب عنها قابيل ، وطلب توأمه وحسد هابيل عليها ، فلما احتكما إلى أبيهما آدم قال : كل منكم يقرب قربانا ، والذي يقبله اللّه منه بالحريق يأخذ الجميلة ، فقدم قابيل وكان زارعا قليلا من سنبل القمح ، وقدم هابيل وكان راعيا للغنم كبشا سمينا ، فتقبل اللّه من هابيل ولم يتقبل من قابيل ، فحنق عليه أكثر ، وقال : لأقتلنك ، قال هابيل : ولم يا أخى ؟ وما ذنبي في أن اللّه لم يتقبل منك ؟
فأصلح نفسك ، وقدم مخلصا لوجه اللّه ، فإنما يتقبل اللّه من المتقين. يا أخى : لئن مددت إلىّ يدك بالسوء ، أن تقتلني ظلما وعدوانا ، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك أبدا.(1/504)
ج 1 ، ص : 505
وذلك لأنى أخاف اللّه رب العالمين ، الذي تعهدنا بالعناية والرعاية ، وخلقنا على أتم خلق وأكمله ، فمن يتعدى على هذا الخلق السوى فقد استحق العقاب الشديد!! يا أخى : إنى لا أريد مقابلة الجريمة بالجريمة أصلا ، فإنك إن فعلتها تبوء بإثم قتلى وإثمك الخاص بك الذي كان من شأنه عدم قبول قربانك ، فارجع عما أنت مقدم عليه! وكيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه. والجواب أنه أراد ذلك حينما بسط إليه يده بالقتل فعلا وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها « 1 » .
إنك يا أخى إن فعلت هذا الجرم فستكون من أصحاب النار الملازمين لها ، وذلك جزاء الظالمين!!! ترى أنه نفره من القتل بثلاث : الخوف من اللّه ، أن يبوء بإثمه وإثم نفسه ، كونه من أصحاب النار ... ومن الظالمين.
والقاتل مهما كانت نفسه ملوثة بحب الانتقام والقتل يرى في الإقدام على هذا العمل جرما وفظاعة فيتردد ، ولا يزال كذلك حتى تشجعه نفسه الأمارة بالسوء فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ وهدم ما بناه اللّه وأتقنه فأصبح من الخاسرين ، وأى خسارة أكبر من هذه الخسارة في الدنيا والآخرة ؟ !
روى أنه لما قتله ، ولم يعرف كيف يوارى جثته ، وتحير في ذلك ، فبعث اللّه غرابا يبحث في الأرض منقبا في غذائه ، فحفر حفرة ، فرآه قابيل ففطن إلى مثل عمله ، ففعل لأخيه مثلها وواراه فيها ، وقال : يا ويلتى احضرى فقد حان وقتك ، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ؟
والندم الذي حصل لم يكن على القتل بل على عجزه عن مواراة أخيه.
بسبب هذا الجرم التشنيع والفعلة القبيحة ، التي فعلها أبناء آدم كتبنا على بنى إسرائيل وإنما خصهم القرآن بالذكر ، وإن كان القتل محرما قبلهم في الأمم السابقة ، لأن التوراة أول كتاب حرم فيه القتل كتابة بسبب طغيانهم وسفكهم الدماء وقتلهم الأنبياء بسبب الحسد الكامن في نفوسهم ...
___________
(1) سورة الشورى آية 40.(1/505)
ج 1 ، ص : 506
كتبنا على بنى إسرائيل ومن بعدهم : أنه من قتل نفسا بغير نفس ، أى : بدون قصاص أو بدون فساد في الأرض يزلزل الأمن والطمأنينة ، ويهلك الحرث والنسل ، وذلك مثل قطع الطريق ، من يفعل شيئا من ذلك فكأنما قتل الناس جميعا ، واعتدى على المجتمع البشرى كله!! أفلا يكون هذا الجرم فظيعا ؟ إنه لقطيع ، ولذلك كان من أكبر الكبائر بعد الشرك باللّه وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية من سورة النساء. آية 93.
ومن هنا تعلم أن نفس القتيل ليست ملكه ، بل هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه ، فمن اعتدى على نفس ولو كانت نفسه (بالانتحار) استحق عقاب اللّه الشديد يوم القيامة ... ومن أحيا نفسا بأى سبب كان ، فكأنما أحيا الناس جميعا إذ كل نفس عضو في المجتمع.
ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات الواضحات كالشمس أو أشد. ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون بعد هذا البيان الرائع.
وهذه الآية الكريمة تقرر بوضوح مبدأ تكافل الأمة الواحدة وتضامنها كوحدة خاصة.
حكم قطاع الطرق [سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)(1/506)
ج 1 ، ص : 507
المفردات :
يُحارِبُونَ الحرب : ضد السلم والأمن على النفس والمال. فَساداً الفساد : ضد الصلاح ، وكل من أخرج شيئا عن وضعه الصالح له يقال : إنه أفسده.
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ : ينقلوا من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره ، وقيل :
المراد يسجنوا.
سبب النزول :
روى البخاري ومسلم عن أنس أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتكلموا بالإسلام ، فاستوخموا المدينة - وجدوها رديئة المناخ - فأمر لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بزود من الإبل - الزود من ثلاثة إلى تسعة - وراع وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء فيشربوا من « أبوالها وألبانها » فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلام ، وقتلوا الرعي
، وفي رواية ، مثّلوا به ، واستاقوا الزود من الإبل. فبلغ ذلك الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فبعث في طلبهم فأتوا بهم فسملوا أعينهم (كحلوها بمسامير الحديد المحماة) وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركوا حتى ماتوا ، فنزلت الآية.
والظاهر - واللّه أعلم - أن هذه الآية عامة لكل من يفعل هذا العمل الشنيع في دار الإسلام سواء كان مسلما أو غيره.
واللّه تعالى أنزل هذه الآية بهذا التشديد في العقاب لسد ذريعة هذه المفسدة ، وهي إزالة الأمن من بين ربوع الدولة ، واضطراب الناس فيها ، ومع هذا حرم المثلة وتشويه الأعضاء.
المعنى :
لا جزاء للذين يحاربون اللّه ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا ، إلا ما ذكره اللّه من التقتيل أو الصلب أو تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض.
ومحاربة اللّه ورسوله تكون بالاعتداء على شرعة الأمان والسلم والحق والعدل(1/507)
ج 1 ، ص : 508
والطمأنينة بين الناس ، كما أنها تكون بالاعتداء على الحقوق الشرعية ، كمنع الزكاة مثلا ، كما حصل لأبى بكر فقد حارب المانعين لها بكل قواه.
هذا كله يلزمه الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل :
وقد وضع اللّه للقتل والسرقة والاعتداء على المال حدودا خفيفة ، فمثلا في القتل القصاص إلا إذا عفى له عن شيء ، وفي السرقة قطع اليد والاعتداءات على المال بالضمان مثلا لأنها اعتداءات فردية.
أما هنا في هذه الآية فتلك حدود قطاع الطريق المجاهرين بالمعصية المجتمعين للاعتداء. لذلك شرط بعضهم شروطا ثلاثة للمحاربين :
1 - أن يكون معهم سلاح يعتمدون عليه.
2 - أن يكون ذلك في صحراء أو في مكان لا تنفع فيه الاستغاثة.
3 - أن يأتوا مجاهرين معتمدين على القوة والغلب ، لا على الخفية واللصوصية.
أما جزاؤهم فأخذهم بلا رحمة ولا هوادة ، وإن كانوا جماعة. يشير إلى هذا قوله تعالى : أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا.
وعند الجمهور أن القتل في الآية للقاتل ، والصلب مع القتل لمن أخذ المال وقتل ، وقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لمن أخذ المال وأخاف.
والنفي لمن أخذ المال فقط ، وليس للولي العفو في حد من هذه الحدود ، فمثلا في القتل العادي يجوز للولي العفو وترك القصاص. وهنا لا بد من القصاص وإن عفا ، وهذا معنى التشديد الذي يشير إليه لفظ (يقتّلوا).
ذلك لهم خزي وأى خزي بعد هذا العقاب الصارم ؟ ، ولهم في الآخرة بعد ذلك عذاب عظيم جدا.
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ولم يكن للإمام عليهم من سبيل فاعلموا أن حد اللّه يسقط عنهم ، ويؤخذون بحقوق الآدميين ، أى : يقتص منهم عن النفس والجراح ، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم ، ويجوز لولى الدم العفو كسائر الجنايات(1/508)
ج 1 ، ص : 509
من غير المحاربين ، يشير إلى هذا قوله : فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإن توبتهم قبل القدرة دليل على أنها توبة خالصة لوجه اللّه.
واعلموا أن هؤلاء المحاربين للّه ولرسوله بالعصيان والفساد ، واجب على الإمام قتالهم ، وعلى المسلمين المعونة له وكفهم عن فعلهم.
أساس الفلاح في الآخرة [سورة المائدة (5) : الآيات 35 إلى 37]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
المفردات :
الْوَسِيلَةَ : ما يتوصل به إلى تحصيل المقصود وهي القربة ، وتطلق على أعلى منزلة في الجنة.
المعنى :
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان ، خذوا لنفسكم الوقاية من عذاب اللّه بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وتقربوا إليه بالطاعات والعمل بما يرضيه ، فإن هذه هي الوسيلة إليه أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ « 1 » ... وجاهدوا أنفسكم بكفها عن
___________
(1) سورة الإسراء آية 57.(1/509)
ج 1 ، ص : 510
المحرم ، والتزامها الصراط المستقيم ، وجاهدوا أعداء الإسلام حتى يكون الدين كله للّه ، وجاهدوا في سبيل الحق والحرية والخير للأمة والوطن. فكل هذا جهاد في سبيل اللّه.
واتقوا اللّه وابتغوا إليه القربى بالطاعة واجتناب المنهيات ، واحتملوا الجهد والمشقة في سبيل اللّه ، كل ذلك رجاء الفوز والفلاح في المعاش والمعاد. واعلم أن لفظ التوسل جاء بثلاث معان : القربى إلى اللّه بالطاعة كما مر ،
دعاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وشفاعته كما ثبت عن عمر - رضى اللّه عنه - : « اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا »
فكان يدعو العباس وهم يؤمّنون عليه ، ترى أنها الدعاء والشفاعة ، وكانت في حياة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أما بعد موته فبدعاء أقرب الناس إليه كعمه العباس ، ويوم القيامة تكون بشفاعته.
أما المعنى الثالث فهو : الوسيلة ، أى : التوسل بالإقسام على اللّه بالصالحين والأولياء المقربين ، وهذا لم يرد به نص صحيح ، بل قال أبو حنيفة وأصحابه : إنه لا يجوز.
والتوسل بهذا المعنى ينكره العقل ، ويأباه الشرع ولا دليل عليه في هذه الآية ولا في غيرها.
إن الذين كفروا باللّه ، وجحدوا آياته ، وكذبوا رسله لو فرض أن لهم ملء ما في الأرض ذهبا بل وضعفه ليفتدوا به أنفسهم من عقاب اللّه وعذابه ، على كفرهم وعنادهم ، فافتدوا به ما تقبل اللّه منهم ذلك ، فداء وعوضا ، بل هم معذبون عذابا دائما وهذا تمثيل لحالهم يوم القيامة.
يود الواحد منهم لو يفتدى نفسه من عذاب يومئذ ببنيه ، ولكن هيهات له ذلك! يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ، ولهم عذاب مقيم دائم. فانظر يا أخى في أساس الفلاح في الإسلام ، وأنه محصور في التقوى والطاعة لا في شفاعة ولا في غيرها.(1/510)
ج 1 ، ص : 511
السارق وجزاؤه [سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (40)
المفردات :
السَّارِقُ : من يأخذ المال خفية من حرز مثله. نَكالًا : مأخوذ من النكل ، وهو القيد ، ولا شك أن هذه عقوبة تمنع الناس من ارتكاب السرقة.
المعنى :
بعد أن تعرض القرآن الكريم للمحاربين الذين يسعون في الأرض فسادا وبين جزاءهم ، ثم أمر الناس بعدها بالتقوى واللجوء إلى اللّه وحده ، بين هنا جزاء من يعتدى على الناس ويسرق أموالهم خفية.
مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة ، فمن يسرق منكم ذكرا كان أو أنثى.
فاقطعوا أيديهما جزاء لهما على ارتكاب فعلهما ، وانتهاك حرمة الغير بأخذ ماله ، ولأن السرقة قد تجر إلى الدفاع عن المال وإلى القتل .. ولا بد أن يكون المسروق موضوعا في مكان يحفظ فيه أمثاله (و هو حرز المثل) وهل تقطع اليد في كل سرقة ولو در هما ؟ أو لا بد أن يكون المسروق ربع دينار أو ثلاثة دراهم لقول عائشة - رضى اللّه عنها - :(1/511)
ج 1 ، ص : 512
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقطع في دينار فصاعدا ، وعند الأحناف لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا.
وتثبت السرقة بالإقرار أو الشهود ، ويسقط الحد بالعفو عن السارق أو التوبة قبل رفع الأمر إلى الإمام ، وأما المال المسروق فلا بد من رده إلى صاحبه بعينه أو قيمته.
حدّ اللّه هذا الحد ، جزاء للسارق ، ونكالا للغير ومنعا له ، حتى لا يقع غيره في مثل ما وقع ، فإن قطع اليد ميسم الذل والعار الذي لا يمحى أبدا ، واللّه عزيز لا يغالب ، حكيم في كل ما سنّه لنا من قوانين أما القوانين الوضعية فإنها تجعل من السجن مدرسة يتعلم فيها اللص أنواع الإجرام ، ولذا نرى معها تعدد السرقات.
فمن تاب من بعد ظلمه بالسرقة وأصلح نفسه فإن اللّه يتوب عليه إنه هو الغفور الرحيم.
ألم تعلم أيها المؤمن : أن اللّه ملك السموات والأرض يتصرف فيهما بحكمته ، وعدله وعلمه الواسع وفضله العميم فمن حكمته وعدله وضع حد للسرقة ، حتى يشيع الأمن في ربوع الدولة وتطمئن النفوس لتنصرف إلى أعمالها ، ومن فضله ورحمته أنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات وهو على كل شيء قدير.
يرى البعض أن في هذا القطع لليد شدة وغلظة وأن هذه شريعة الغاب والقفار ، لا شريعة الحضارة والمدنية.
ولقد كذبوا فها هي ذي قوانينهم تحمى الرذيلة في كل ميادينها ، وتساعد على ارتكابها والمفروض أن الحدود موانع وزواجر ، ولا مانع أحكم وأعدل من حدود اللّه ، أما ترى الدول التي تحكم بكتاب اللّه كيف استتب فيها الأمن واختفت منها السرقات ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!(1/512)
ج 1 ، ص : 513
اليهود ومواقفهم من أحكام التوراة [سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)(1/513)
ج 1 ، ص : 514
المفردات :
لا يَحْزُنْكَ : لا يؤلمك هؤلاء. يُسارِعُونَ أى : يقعون في الكفر بسرعة ورغبة ، والمراد أنهم ينتقلون مسرعين من بعض فنون الكفر إلى بعض آخر.
فِتْنَتَهُ : اختباره حتى يظهر ما تنطوى عليه نفسه. لِلسُّحْتِ : الخبيث من المكاسب ، وهو في اللغة : الهلاك والشدة ، وسمى المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات والبركات ، أى يذهبها.
سبب النزول :
روى أبو داود أنه زنى رجل وامرأة من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيفات ، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند اللّه ، وقلنا : فتيا نبي من أنبيائك ، قال : فأتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو جالس في المسجد مع أصحابه فقالوا : يا أبا القاسم : ما ترى في رجل وامرأة زنيا ، فلم يكلمهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أتى بيت مدارسهم ، أى : مدارسهم فقام على الباب فقال : « أنشدكم باللّه الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ فقالوا : يحمم وجهه ، أى : يوضع عليه السواد ، ويجبه - يحمل الزانيان على حمار مع تقابل أقفيتهما ويطاف بهما - ويجلدان ، قال : وسكت شاب منهم يقال له ابن صوريا ، فلما رآه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ألظ به النشدة - ألح في سؤاله - فقال ابن صوريا : اللهم إذ أنشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم. فقال الرسول : فإنى أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما - انتهى كما في القرطبي.
ورويت روايات أخرى كلها تدور حول إنكارهم الحكم ، وعبثهم بالشريعة والتوراة.
المعنى :
يرشدنا اللّه - سبحانه وتعالى - إلى أدب الخطاب مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله : يا أيها الرسول ، حتى لا نناديه ، كما كان يفعل بعض الأعراب ، ولقد كان نداء أفاضل الصحابة ،(1/514)
ج 1 ، ص : 515
يا رسول اللّه ، وانظر إلى تكريم اللّه له فإنه ينادى الأنبياء بأسمائهم وما ناداه باسمه قط.
يا أيها الرسول : لا يهمنك أمر الذين يسرعون بالوقوع في الكفر ، ولا تأس عليهم فاللّه بهم محيط ، وهو ناصرك عليهم حتما ، مهما أظهروا من عداوة ، وتعاونوا مع المشركين وألبوهم عليك.
والمراد من النهى عن الحزن النهى عن لوازمه التي يفعلها الشخص مختارا كتذكر المصائب وتعظيم شأنها.
ومن هم المسارعون بالوقوع في الكفر ، والتنقل في أساليبه وألوانه ؟ هم المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، وبعض اليهود الذين يبلغون في سماع الكذب من أحبارهم الذين يلقون إليهم الأخبار الكاذبة في حق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل : سماعون للأخبار من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم ينقلونها إلى الأحبار فيحيكون الأكاذيب على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم موافقة لبعض ما يصدر عنه صلّى اللّه عليه وسلّم فيكون عملهم التجسس على النبي.
سماعون الكذب للأخبار ، وسماعون لقوم آخرين لهم رأى خاص واتجاه آخر ، موصوفون بأنهم لم يأتوك من شدة الكراهة لك ، والحسد عليك ، وقد كان بعض زعماء اليهود ، يأبون على أنفسهم أن يجلسوا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم!! وهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه بنقل كلمة مكان أخرى ، أو إخفائها وكتمانها ، أو بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له.
وهم يقولون لأتباعهم - كما ورد في سبب النزول - إن أعطاكم محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوها ، وإن حكم بالرجم فاحذروا قبوله ، وما لك تحزن عليهم ؟
والحال أنه من يرد اللّه أن يختبره في دينه ، ويظهر أمره ويكشف سره ، فلن تملك له من اللّه شيئا يمنع ذلك ، وهؤلاء المنافقون واليهود قد أظهرت فتنة اللّه لهم مقدار فسادهم ، فهم الذين وضعوا أنفسهم للكذب ونقله وتحريف الكلم وكتمانه اتباعا لأهوائهم ، ومرضاة لرؤسائهم وذوى الجاه فيهم ، فلا تحزن عليهم ولا تطمع فيهم أبدا.
أولئك الذين لم يرد اللّه أن يطهر قلوبهم ، ويزكى نفوسهم ، لأن سنة اللّه في خلقه(1/515)
ج 1 ، ص : 516
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا « 1 » وأن النفس إذا مرنت على السوء والشر لم يعد لها طريق للخير ، ولا سبيل للنور!! لهم في الدنيا خزي بفضيحتهم وهتك سترهم ، وظهور الإسلام والقضاء عليهم ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم هوله شديد وقعه.
ولا غرابة في ذلك فهم قوم سماعون للكذب ، مروجون له ، أكالون للسحت آخذون الرشوة ، سباقون للمحرم ، وهكذا كل أمة في طور انحلالها ينتشر فيها الخلق الرديء خاصة الكذب والبهتان والرشوة والسحت ... فإن جاءوك فاحكم بينهم بما ترى ، أو أعرض عنهم ، قيل : هذا الحكم نسخ بقوله : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ « 2 » وقيل : هذا في غير أهل الذمة ، أما هم فقانون الإسلام قانونهم.
وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا أبدا. وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل الذي لا شك فيه وهو قانون القرآن. وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللّه ظاهر واضح ، ثم هم يتولون ويعرضون من بعد ذلك. وما أولئك بالمؤمنين أبدا ، ذلك أن أمرهم عجب. كيف يدّعون الإيمان بالتوراة ، ولا يحكمون بها ويطلبون الحكم من غيرها ؟ ؟ والأعجب من هذا أنهم تركوا التوراة لأنها لم توافق أهواءهم ، وجاءوا يحكمون القرآن ثم تولوا وأعرضوا لأنه لم يوافق أهواءهم فهذا حالهم وديدنهم ، وما أولئك بالمؤمنين أبدا.
أما نحن المسلمين فأخشى ما أخشى - وقد تركنا حكم القرآن ، وجئنا نحكم أهواءنا بل وأحكام من ليسوا على ديننا وشاكلتنا - أن ينطبق علينا قوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ « 3 » الظالمون الفاسقون!
___________
(1) سورة الأحزاب آية 62 والفتح آية 23.
(2) سورة المائدة آية 49.
(3) سورة المائدة آية 44.(1/516)
ج 1 ، ص : 517
في التوراة حكم اللّه وقد أعرض عنها اليهود [سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 47]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)(1/517)
ج 1 ، ص : 518
المفردات :
التَّوْراةَ : اسم للكتاب الذي أنزل على موسى. الرَّبَّانِيُّونَ : مفردة رباني ، نسبة إلى الرب ، وهو الذي يسوس الناس بالعلم ويربيهم. وَالْأَحْبارُ :
جمع حبر ، هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه. بِمَا اسْتُحْفِظُوا : بما طلب إليهم حفظه منهم. شُهَداءَ : رقباء وحفاظا. وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ : جعلنا عيسى يقفو أثرهم ويتبعهم.
المناسبة :
بعد أن نعى اللّه على اليهود عدم رضائهم بحكم التوراة وطلب حكم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن وافق هواهم ثم إعراضهم عن حكمه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر هنا التوراة وما فيها من الهدى والنور والحكم والقانون مسجلا عليهم جرمهم.
المعنى :
إنا أنزلنا التوراة على موسى الكليم ، فيها هدى يهدى به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام والحق ، وفيها نور يستضاء به ويكشف ما تشابه عليهم وأظلم ، هذا في التوراة المنزلة من عند اللّه لا في صحفهم المبدلة المحرفة التي سموها توراة.
هذه التوراة قانون يحكم بها النبيون الذين نزلوا بعد موسى حتى عيسى ابن مريم ، وأسلموا وجوههم للّه قانتين مخلصين ، حكموا بها بين اليهود ، فهي شريعتهم الخاصة بهم ، حتى نزل عيسى ابن مريم ، وكان آخر نبي نزل على بنى إسرائيل ، وقد نقل عن عيسى - عليه السلام - في الإنجيل : (ما جئت لأنقض الناموس - شريعة موسى - وإنما جئت لأتمم ..) فالإنجيل مكمل لها وقد حكم بها عيسى - عليه السلام - .
وحكم بها وحافظ عليها الربانيون والأحبار وهم الصالحون من ولد هارون في الأزمنة التي لم يكن بها أنبياء ، وذلك بسبب ما أخذه الأنبياء عليهم من العهد المؤكد ، وسألوهم حفظها والعناية بها ، وكانوا على كتاب اللّه شهودا ورقباء يحمونه من التغيير والتحريف ، وشاهدين عليه أنه الحق لا مرية فيه.(1/518)
ج 1 ، ص : 519
فأين أنتم أيها اليهود ؟ وأين علماؤكم الآن من الربانيين والأحبار السابقين ؟ فهؤلاء يحافظون عليها ، وأنتم تحرفون وتكتمون!! وإذا كان الأمر كذلك فلا تخشوا الناس أيها الأحبار المعاصرون فتكتموا الحق ، من صفة النبي والبشارة بها ، طمعا في الدنيا وعرضها الزائل ، واخشوا اللّه ربكم واقتدوا بالصالحين السابقين من أمتكم ، واحفظوا التوراة ، وإياكم والتحريف ، روى عن الحسن : أخذ اللّه على الحكام ألا يتبعوا الهوى ، وألا يخشوا الناس ، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ، ولا تشتروا بآياتنا ثمنا قليلا ، ومنفعة حقيرة تأخذونها ، من رشوة أو جاه أو رئاسة كاذبة! وكيف تستبدلون الثمن القليل والعرض الزائل بالآيات البينات التي استحفظتم عليها وكنتم عليها شهودا ؟ !! واعلموا أن من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون وقد حكم اليهود في الزاني المحصن بالجلد وتركوا الرجم ، وفي القتل بالتفريق بين بنى قريظة والنضير وتركوا العدل والقصاص.
واللّه في التوراة قد سوى بين الجميع لا فرق بين أمير وخفير ، ولا بين شريف ووضيع.
ومن لم يحكم بما أنزل اللّه مستحلا له ، منكرا بالقلب حكم اللّه ، وجاحدا باللسان فهو من الكافرين ، ومن لم يحكم وهو معتقد أنه مخطئ ومذنب فهو خارج عن الدين ومؤاخذ على شهادته ورضائه الحكم بغير حكم اللّه ، وتقصيره في طلب تحكيم ما أنزل وهذا حكم عام في كل من يترك كتاب اللّه والحكم به.
إنا أنزلنا التوراة ، وفرضنا عليهم فيها أن النفس تقتل بالنفس والعين بالعين ، والسن بالسن وهكذا بقية الأعضاء بالقياس ، وكذا الجروح على تفصيل فيها وبيان لحدها بالضبط. فيها القصاص ، وهذا الحكم في القتل أو التعدي العمد ، أما الخطأ ففيه الدية ، وأن تصدقوا خيرا لكم فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ يكفر اللّه بها ذنوبه ويعفو عنه وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 237]
روى عبادة بن الصامت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « من تصدق من جسده بشيء كفر اللّه تعالى عنه بقدره من ذنوبه » .
ومن لم يحكم بما أنزل اللّه ، ويعرض عما شرعه اللّه من القصاص والعدل والتساوي بين الأفراد فهو من الظالمين الذين يغمطون الناس حقوقهم المشروعة.(1/519)
ج 1 ، ص : 520
وقفينا على آثار أنبياء بنى إسرائيل بعيسى بن مريم فكان آخر نبي لبنى إسرائيل ، مصدقا لما بين يديه من التوراة حاكما بها. حافظا لها لم يغير منها شيئا ، وإنما أتى متمما لها كما نقل عنه في الإنجيل.
وآتيناه الإنجيل الذي نزل عليه ، فيه الهدى والنور. والإرشاد والوعظ الذي يهدى إلى طريق الحق ، وكان مصدقا للتوراة ، مؤيدا لها مع اشتماله على الهدى والموعظة الحسنة : ومن الثابت الذي لا يقبل الشك أنه كان في التوراة والإنجيل نور البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ووصفه وأن شريعته تامة كاملة عامة ، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين ، ولكن لا ينتفع بهذا كله إلا المتقون.
وقلنا لأهل الإنجيل : احكموا بما أنزل اللّه فيه من الأحكام والمواعظ ، ومما كان فيه اتباع التوراة وأحكامها حتى يرسل النبي العربي خاتم الأنبياء ولكن النصارى غيروا الإنجيل وحرفوا كلمه من بعد مواضعه ولم يحكموا به ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون والخارجون عن حدود الدين والعقل.
يروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بنى إسرائيل ؟ قال : نعم هي فيهم ، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل ، والأوصاف الثلاثة باعتبارات مختلفة : فلإنكارهم وصفوا بالكفر ، ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا بالظلم ، ولخروجهم عن الحق وصفوا بالفسق ، وقيل في تخريج الأوصاف : إن من يترك حكم اللّه معتقدا أنه لا يصلح فهو الكافر ، ومن يترك لسبب آخر من ضياع الحقوق فهو ظالم ، وإلا فهو فاسق.
الحكم بكتاب اللّه ودستور القرآن [سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)(1/520)
ج 1 ، ص : 521
المفردات :
مُهَيْمِناً : رقيبا حافظا لما تقدّمه من الكتب وشاهدا عليه. شِرْعَةً الشرعة في اللغة : الطريق الذي يتوصل به إلى الماء. والطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة ، وفي لسان الشرع : ما شرعه اللّه لعباده من الدين وأحكامه. وَمِنْهاجاً :
طريقا مستمرا واضحا. فَاسْتَبِقُوا : تسابقوا وسارعوا إلى الطاعات. أَنْ يَفْتِنُوكَ : أن يميلوا بك من الحق إلى الباطل.
المناسبة :
فيما مضى تكلم القرآن عن التوراة والإنجيل وما فيهما من نور وهدى وموعظة للمتقين ، أما القرآن الكريم والدستور المبين الذي نزل على الرسول الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين فها هو ذا.
المعنى :
وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب الكامل ، الذي يحق أن يطلق عليه اسم الكتاب فقط ،(1/521)
ج 1 ، ص : 522
ذلك الكتاب ، لا ريب فيه ، هدى للمتقين ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد. أنزلناه عليك ملتبسا بالحق داعيا إليه ، مؤيدا به مشتملا عليه ، مقرا له ، مصدقا لما بين يديه من الكتب كالتوراة والإنجيل. إذ قال : هما من عند اللّه ، وإن موسى وعيسى رسولان من عنده ، لم يفتريا على اللّه كذبا وبهتانا ، وإنما حرفتم أنتم وآباؤكم ، وكتمتم ونسيتم كثيرا مما أوتيتم. حالة كونه مهيمنا على جنس الكتاب المنزل على الرسل السابقين رقيبا عليه. حيث بين حقيقة هذه الكتب وشهد لها بالصحة وبين عمل أصحابها فيها من نسيان وتحريف ، فها هو ذا قد حفظها وهيمن عليها وأظهر حقيقتها للناس.
وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته. فاحكم يا محمد وكذا كل حاكم. احكم بينهم بما أنزل اللّه ، فهو واحد لم يتغير في القرآن والإنجيل والتوراة. على أن ما في القرآن كان ناسخا للكل متمما شاملا وما قبله كان كالمقدمة.
ولذلك قال : احكم بينهم بما أنزل اللّه ، فإنه الحق الذي لا محيص عنه. والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تصلح للعالم إلى يوم القيامة.
ولا تتبع أهواءهم فيما حرفوا وبدلوا. من حكم الرجم والقصاص في القتل ، والمعنى : لا تعدل عما جاءك من الحق متبعا لأهوائهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قال الآلوسي ما معناه : وهذا استئناف مسوق لحمل أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم على الانقياد لحكمه. واتباع شرعه. ذلك أنهم كلفوا بالعمل بالقرآن دون غيره من الكتب ، لكل أمة منكم أيها الناس - الشاملون للموجودين أيام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والسابقين لهم أيام موسى وعيسى - وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة لا تكاد تتخطاهما ، فالأمة من بنى إسرائيل التي كانت موجودة من مبعث موسى إلى مبعث عيسى شرعتها التوراة ، وهم من مبعث عيسى إلى مبعث محمد شرعتهم الإنجيل ، والأمة من الناس أجمعين من مبعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلى يوم القيامة شرعتها ومنهاجها القرآن لأن محمدا خاتم الأنبياء ، وأرسل للناس جميعا إلى يوم القيامة ودستوره أتم دستور وكتابه أكمل كتاب ، وليست هذه دعوة ، وإنما الواقع يؤيد ذلك.
ولو شاء اللّه أن يجعلكم أمة واحدة ، لها دين واحد وكتاب واحد ورسول واحد(1/522)
ج 1 ، ص : 523
لجعلكم كذلك ، ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء غيره. ليعاملكم - سبحانه وتعالى - معاملة من يبتليكم فيما آتاكم من الشرائع لحكم إلهية يقتضيها كل عصر.
إذا كان الأمر كذلك فسارعوا إلى مغفرة من ربكم وتسابقوا في عمل الطاعات ، واعلموا أن المرجع إلى اللّه وحده وإليه المصير! فينبئكم بما كنتم تختلفون ، وسيجازيكم على ذلك كله.
وأنزلنا إليك الكتاب : وأنزلنا أن احكم بينهم بما أنزل اللّه ، ولا تتبع أهواءهم ، وقد كرر الأمر بالحكم بالقرآن لأن الاحتكام إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان في حادثة الرجم وحادثة القصاص في القتلى.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس : قال كعب بن أسد وعبد اللّه بن صوريا وشاش بن قيس من اليهود : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرفهم وسادتهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وأن بيننا وبين قوم خصومة ، فنخاصمهم إليك ، فتقضى لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأنزل اللّه - عز وجل - وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك ... الآية.
فكانت إقرارا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم على ما فعل ، وأمرا بالثبات على الحق وعدم الانخداع بأقوال هؤلاء وأمثالهم.
فإن تولوا وأعرضوا ، فلا يهمنك أمرهم ولا تبال بهم ، واعلم أنما يريد اللّه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وهو التولي والإعراض. أما بقية ذنوبهم وما أكثرها فلهم عذاب أليم ، واللّه أعلم به ، وإن كثيرا منهم لفاسقون وخارجون عن حدود العقل والدين والمروءة.
عجبا لهؤلاء! أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل اللّه وهو الحكم العدل والرأى الوسط الرشيد. فيبغون حكم الجاهلية ؟ لعجب وأى عجب هذا ؟ ! أهناك من يترك دستور الرحمن وهدى القرآن لرأى الجاهلية الحمقاء ؟ وما كانوا عليه من التفاصيل وضياع الحقوق.
ولعمري نحن الآن وقد تركنا ديننا ونبذنا دستورنا ، لأنّا أشدّ من هؤلاء! إذ هم خارجون عن الإسلام لا يعترفون به كدين إلهى أو على الأقل لا يعرف حقيقته إلا أحبارهم ، أما نحن فندعى الإسلام ، ونأمل في الجنة وثواب اللّه ، ومع هذا تركنا حكم(1/523)
ج 1 ، ص : 524
القرآن إلى رأى هو كرأى الجاهلية بل أشد ميوعة ومحاباة ، فالقانون الوضعي يحمى الجرائم والمجرمين! هذا الخطاب في الآية وهذا الاستفهام والتعجب والإنكار إنما هو لقوم يوقنون أنه لا أعدل من اللّه ولا أحسن حكما منه ..!
موالاة اليهود والنصارى وعاقبتها [سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
المفردات :
مَرَضٌ : شك ونفاق. دائِرَةٌ : ما يدور به الزمان من المصائب والإحن التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها. حَبِطَتْ : بطلت أعمالهم.
سبب النزول :
روى الرواة أنه جاء عبادة بن الصامت من بنى الخزرج إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :
يا رسول اللّه إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم ، وإنى أبرأ إلى اللّه ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى اللّه ورسوله. فقال عبد اللّه بن أبى : إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من(1/524)
ج 1 ، ص : 525
موالاة موالي. فقال الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لعبد اللّه بن أبى : « يا أبا الحباب : أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو لك دونه » قال : إذن أقبل ، فنزلت هذه الآية
. المعنى :
يا من اتصفتم بهذا الوصف وهو الإيمان باللّه ورسوله ، سواء كان هذا باللسان فقط ولا إخلاص معه. أو كان إيمانا صادقا ومعه الإخلاص. لا يليق بكم أن تفعلوا ما نهاكم اللّه عنه من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وتسرون إليهم بما أخفيتم وما أعلنتم ، وتتحابون إليهم وتصادقونهم ، إذ بعض اليهود أولياء بعض ، وبعض النصارى أولياء بعض ، والكل متفق على كلمة واحدة هي بغضكم بغضا شديدا.
ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، أى : من جملتهم ، وحكمه حكمهم. وهذا تشديد على المنافقين الذين يتخذون صداقات ، ويربطون صلات باليهود والنصارى وأعداء الدين. إن اللّه لا يهدى الظالمين أنفسهم بموالاة الكفار أيا كان السبب.
فترى يا محمد وكذا كل من تصح منه الرؤية. ترى الذين في قلوبهم مرض : الشك والنفاق كعبد اللّه بن أبى وأضرابه ، يسارعون في موالاتهم ، ويرغبون فيها رغبة أكيدة خاصة للشيطان ، وانظر إلى تعبير القرآن (يسارعون فيهم) بدل (يسرعون إلى موالاتهم) للإشارة إلى أنهم منتقلون من بعض مراتبها إلى بعض فهم مستقرون فيها.
يقولون متعللين : نخشى أن تصيبنا دائرة تدور علينا من دوائر الدهر. ودولة من دولة ، بأن ينقلب الأمر للكفار واليهود وتدول الدولة على المسلمين فنحتاج إليهم فلا يسعفوننا بالميرة والطعام - أرأيت كيف لا يثق المنافقون بوعد اللّه ؟ وأن حزب اللّه هم المفلحون.
وعسى اللّه أن يأتى بالفتح ، و(عسى) في القرآن وعد محتوم فإن الكريم متى أطمع أطعم ، وإذا وعد حقق ، فما ظنك بأكرم الأكرمين ؟ وهو على كل شيء قدير. والمراد بالفتح : فتح مكة ، أو فتح من عنده شامل لتأسيس الدولة ، وانتظام شؤونها(1/525)
ج 1 ، ص : 526
واستقرارها في الوجود ، أو أمر من عنده يفضح حال المنافقين ، ويهتك سترهم ، ويرد كيدهم في نحورهم وقد صدق اللّه وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده فيصبح أولئك المنافقون نادمين على ما أسروا وكتموا!! ويقول الذين آمنوا تعجبا وتعريضا وشماتة بهم مخاطبين اليهود ، ومشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ، وقد بدت الأمور على غير ما كانوا يرجون :
أهؤلاء (المنافقون) الذين أقسموا باللّه جهد أيمانهم إنهم لمعكم أيها اليهود ؟ حبطت أعمالهم التي كانوا ينافقون بها من صلاة وصوم ... إلخ. فأصبحوا خاسرين دنيا وأخرى.
وهذا مرض خطير ينتشر في الأمم الضعيفة المستعبدة ، ترى الكثير من أبنائها الذين في قلوبهم ضعف وفي نفوسهم مرض يلجئون إلى الأعداء من الأجانب يتخذون عندهم يدا لأنهم ليسوا مؤمنين بالنصر وأن الدولة لهم.
يا قوم : اسمعوا وعوا واعتبروا. فإنما يتذكر أولوا الألباب!!
المرتدون والمحاربون لهم [سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 56]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)(1/526)
ج 1 ، ص : 527
المفردات :
يَرْتَدَّ الارتداد : الخروج من الإسلام والدخول في الكفر مطلقا ، أو بسبب ترك ركن كالزكاة جهارا وعنادا. يُحِبُّهُمْ : يجازيهم على أعمالهم أحسن الجزاء وأتمه. وَيُحِبُّونَهُ : يخلصون له في العمل ، يطيعونه في كل أمر ونهى. أَذِلَّةٍ :
جمع ذليل ، بمعنى عاطفين عليهم. أَعِزَّةٍ : جمع عزيز ، بمعنى أنهم متعالون عليهم.
راكِعُونَ : خاشعون وخاضعون. حِزْبَ اللَّهِ : الجماعة المجتمعة التي حزبها أمر من الأمور وألمّ بها اتجاه خاص.
روى أنه ارتد عن الدين إحدى عشرة قبيلة : ثلاث أيام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وسبع أيام أبى بكر - رضى اللّه عنه - وجبلة بن الأيهم أيام عمر - رضى اللّه عنه - فالذين ارتدوا أيام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم :
(أ) بنو مدلج ورئيسهم الأسود العنسي تنبأ باليمن ، وكان كاهنا وأهلكه اللّه على يد فيروز الديلمي.
(ب) بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ، الذي تنبأ وأرسل كتابا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفيه :
أنه شريك وأن الأرض قسمان ،
فكتب له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذاب ، والسلام على من اتبع الهدى. أما بعد : فإن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين
، وقاتله أبو بكر - رضى اللّه عنه - والذي قتله وحشي قاتل حمزة.
(ج) بنو أسد وزعيمهم طلحة بن خويلد ارتد أيام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقاتله أبو بكر في خلافته ، ففر إلى الشام وأسلم وحسن إسلامه.
المرتدون أيام أبى بكر :
(1) غطفان وزعيمهم قرة بن سلمة.
(2) فزارة قوم عيينة بن حصن.
(3) بنو سليم قوم الفجاءة عبد ياليل.
(4) بنو يربوع قوم مالك بن نويرة.(1/527)
ج 1 ، ص : 528
(5) بعض بنى تميم وزعيمتهم سجاح بنت المنذر الكاهنة.
(6) كندة قوم الأشعث بن قيس.
(7) بنو بكر بن وائل.
وقد ارتد أيام عمر جبلة بن الأيهم من الغسانيين تنصر ولحق بالشام ، وله في ذلك شعر وحوادث ، وسبب ارتداده أنه كان بمكة يطوف فوطئ إزاره رجل من بنى فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه ، فاستعدى الفزاري عليه عمر - رضى اللّه عنه - فحكم إما بالعفو أو القصاص ، فقال جبلة : أتقتص منى وأنا ملك وهو سوقة ؟ ... إلخ ما هو مذكور في كتب التاريخ.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه في المستقبل - والعياذ باللّه - كالقبائل التي ذكرناها ، فسوف يأتى اللّه بقوم هو أعلم بهم ، قيل : هم من اليمن أو فارس ، والظاهر أنهم أبو بكر والصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - وقد وصفهم القرآن بصفات :
أنهم يحبون اللّه باتباع أمره واجتناب نهيه ، ويحبهم اللّه بعطفه وتوفيقه ورضوانه ومجازاتهم أحسن الجزاء.
وهم أذلة عاطفون على المؤمنين ، مكانتهم عالية ولكنهم متواضعون يرأفون بالمؤمنين ويخفضون لهم جناح الذل من الرحمة ، وعلى الكافرين أعزة ، وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين ، غلاظ شداد عليهم إذا حاربوهم ، لا يقبلون الدنية في دينهم.
يجاهدون في سبيل اللّه وفي سبيل نصرة الحق والفضيلة والدين وإعلاء كلمته وفي سبيل خدمة الوطن وأهله ، يجاهدون ببذل النفس والنفيس ولا يخافون في الحق وإظهاره لومة لائم. ولا يرجون ثوابا من أحد ، ولا يخافون عذابا من أحد ، بل تصدر أعمالهم بإخلاص للّه ورسوله.
وفي هذا تعريض بالمنافقين في كل عصر وزمان.
وذلك فضل اللّه وتوفيقه وهدايته وإرشاده يؤتيه من يشاء من عباده الذين فيهم الاستعداد للخير والميل بطبعهم وفطرتهم.(1/528)
ج 1 ، ص : 529
وأحسن ما قيل في مثل هذا الموضوع أن القوى النفسية والبدنية التي في العبد من اللّه قطعا ، والاتجاه بها إلى الخير أو الشر من العبد ، وهذا مناط الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.
وهب أنك تقود سيارة لشخص وقد حذرك مرارا من المخالفات وأمرك بطاعة أوامر الحكومة ، وعلى كل طريق لافتة واضحة تعلن الثواب والعقاب ، فقدتها مرة في الطريق السهل وحافظت على الأوامر فلم يهلك حرثا ولا نسلا ، ومرة خالفت الأوامر فأهلكت الحرث والنسل ، أمن العدل أن تترك في الحالتين ؟ أمن العدل أن تحاسب صاحب السيارة أم قائدها ؟ ؟ المعقول أننا نحاسب القائد ونجازيه في الحالتين ، وهكذا نحن في الدنيا!! واللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم ، واللّه ذو الفضل العظيم.
وإنما وليكم الواجب الاتجاه إليه هو اللّه ومعه رسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة كاملة تامة ويؤتون الزكاة في ركوع وخشوع وخضوع ، بلا نفاق وبلا رياء.
ومن يتول اللّه ورسوله والمؤمنين فإنه هو الناجي الفائز ، لأن حزب اللّه وجماعته هم الغالبون إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ « 1 » .
النهى عن موالاة الكفار والسبب في ذلك [سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 63]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
___________
(1) سورة محمد آية 7.(1/529)
ج 1 ، ص : 530
المفردات :
هُزُواً سخريا. وَلَعِباً اللعب : ضد الجد. نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ :
دعوتهم لها بالأذان والإقامة. تَنْقِمُونَ نقم ينقم : أنكر وعاب عليه قولا أو عملا.
مَثُوبَةً : جزاء وثوابا ، من ثاب إليه : إذا رجع ، ولا شك أن الجزاء يرجع إلى صاحبه. الطَّاغُوتَ : كل ما عبد من دون اللّه ، وعبادته مجاز عن طاعته.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وكذا المشركين. لا تتخذوهم أولياء أبدا فإنهم يودون عنتكم ومشقتكم ، وقد بدت البغضاء من أفواههم ، وما تخفى صدورهم أكبر ، بعضهم أولياء بعض ، مع أن موالاتهم تغضب اللّه ورسوله.(1/530)
ج 1 ، ص : 531
وهم الذين اتخذوا دينكم ومشاعره هزؤا وسخرية ، ومظهرا من مظاهر اللعب والضحك ولا شيء أشق على النفس من استهزاء المعاند له وسخريته به وبرأيه وشعاره ، واتقوا اللّه أيها الناس واخشوا عذابه ووعيده على الموالاة إن كنتم مؤمنين.
كرر اللّه نهى المؤمنين عن موالاة أعدائهم من الكفار تنفيرا لهم عنها ، وتسجيلا على الكفار فعلهم.
وبعد أن أثبت اللّه استهزاءهم بالدين على وجه العموم وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ « 1 » سجل عليهم استهزاءهم بنوع خاص هو عماد الدين وأساسه : هو الصلاة.
وإذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان والإقامة اتخذوا هذه المناداة والصلاة هزؤا ولعبا ، ما ذلك الاستهجان القبيح إلا لأنهم قوم لا عقل لهم يرشدهم ولا رأى يهديهم بل هم في ضلالهم يعمهون.
إذا ما أروع هذا النداء الذي يهز القلوب ويجلوها ، ويطهر النفوس ويزكيها ، يا سبحان اللّه!! أهذا النداء يضحك ؟
اللّه أكبر. اللّه أكبر. نعم ، اللّه أكبر من كل شيء في الوجود ، استفتاح يا له من استفتاح! وانظر إلى إتباعه بالشهادتين للّه ورسوله وهما ركنا الإيمان ودعامته! وما أروع قول المؤذن : حي على الصلاة! أقبلوا عليها بجد ونشاط ونفس راضية مطمئنة ، حي على الفلاح : وهل هناك فلاح أكثر من هذا وأعلى ؟ ! قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [سورة الشمس الآيتان 7 و8] اللّه أكبر ، لا إله إلا اللّه!
روى ابن جرير عن ابن عباس قال : أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نفر من اليهود : أبو ياسر ابن أخطب ، ورافع بن أبى رافع في جماعة فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ؟ فقال :
آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ « 2 » فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا : لا نؤمن بمن آمن به ، وروى أنهم قالوا : لا نعلم شرا من دينكم
، فنزلت الآيات الآتية :
___________
(1) سورة البقرة آية 14.
(2) سورة البقرة آية 136.(1/531)
ج 1 ، ص : 532
قل يا أهل الكتاب ما تنقمون منا ، وما تعيبون علينا إلا إيماننا باللّه ورسله إيمانا صادقا خالصا ، مع وصف اللّه - سبحانه وتعالى - بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص ، وكذا الرسل جميعا - عليهم السلام - لا نفرق بين أحد منهم مع وصفهم بما يليق بهم شرعا ، وكذا ما أنزل عليهم من الكتب.
وإن أكثركم لفاسقون وخارجون عن حدود العقل والرأى والدين الصحيح ، يا عجبا كل العجب! أيكون مناط المدح عنوان الذم ؟ وللّه در الشاعر العربي حيث يقول :
ما نقموا من بنى أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
قل يا محمد لهم : من أنبئكم أيها المستهزئون بديننا القائلون : لا نعلم شرا من دينكم - بما هو شر من ذلك الدين الذين تنقمون به علينا ؟ دين من لعنه اللّه وغضب عليه بسبب سوء فعله ، وهذا تبكيت لهم شديد بذكر جرائم آبائهم ، وجزائهم عليها إذ اللعن والغضب نهاية العقاب والمؤاخذة من اللّه لهم.
ودين من جعل منهم القردة والخنازير وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [سورة البقرة آية 65].
أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ، وكان التعبير ب (شر) مع أن هذا الدين خير محض مجاراة لهم في اعتقادهم ومشاكلة للفظهم.
وهاك سيئة أخرى تقتضي وحدها عدم الموالاة.
وإذا جاءوكم وحضروا مجالسكم وخاصة مجلس الرسول قالوا : آمنا باللسان فقط ، والحال أنهم دخلوا متلبسين بالكفر مؤتزرين به لا يفارقهم ، وهم قد خرجوا به واللّه أعلم بما يكتمون - حين الدخول - من النفاق وعند الخروج من العزم والكيد والمكر ، وما ملئت به قلوبهم من الحسد والبغضاء لكم. فاحذروهم ولا توالوهم. وترى كثيرا منهم يسارعون في ارتكاب الإثم والعدوان ويقبلون عليهما راغبين فيهما بجد ونشاط ، ويقبلون على أكل السحت والدنىء من المحرم ، تاللّه لبئس العمل عملهم.
ويا ضلال هؤلاء أما وجدوا من يرشدهم ؟ أما وجدوا من ينكر عليهم ؟ لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم والكذب والبهتان في أمور الدين ، وأكلهم السحت ؟
تاللّه لبئس ما كان يصنع هؤلاء الأحبار.(1/532)
ج 1 ، ص : 533
ولعل سائلا يقول : لم يقال في جانب الشعب لبئس ما كانوا يعملون وفي جانب الأحبار والعلماء لبئس ما كانوا يصنعون ؟
والجواب : أن الفعل ما يصدر عن الإنسان مطلقا ، فإن قصد كان عملا ، وإن صاحبه دوام ومرونة كان صنعة ، وكان صاحبه صانعا.
على أن فاعل المعصية من الناس تدفعه شهوته ونفسه إليها ، وأما الذي ينهاه من الأحبار والعلماء بالطبع لا شهوة معه تدفعه إلى العمل ولا إلى عدم الإنكار ، أشد إثما وأعظم جرما من الفاعل نفسه.
روى عن ابن عباس : (ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية) يريد أنها حجة على العلماء إذا هم قصروا في الهداية والإرشاد!!
من سيئات اليهود وطريق السعادة في الدارين [سورة المائدة (5) : الآيات 64 الى 66]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)(1/533)
ج 1 ، ص : 534
المفردات :
اليد تطلق على الجارحة وتطلق مجازا على النعمة وعلى العطاء. مَغْلُولَةٌ :
ممسكة عن الإنفاق. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ : أمسكت عن الإنفاق والخير.
مَبْسُوطَتانِ المراد : كثيرة العطاء. أَقامُوا التَّوْراةَ : عملوا بما فيها على أتم وجه وأكمله ، وكذا الإنجيل. مُقْتَصِدَةٌ : معتدلة.
سبب النزول :
روى الطبراني عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود - قيل : هو النباش بن قيس ، وقيل هو فنحاص كبير بنى قينقاع - قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل اللّه هذه الآية.
المعنى :
بعد أن عدد من سيئاتهم ، وسجل عليهم بعض أعمالهم الموروثة ، يذكر سيئة من أفظع سيئاتهم ألا وهي وصف اللّه - سبحانه - بما لا يتفق أبدا مع العقل ، ولا يقول به رجل من أهل الكتاب.
وقالت اليهود - أى بعضهم - : يد اللّه مغلولة. وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، ألا ترى إلى قوله سبحانه : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء آية 29] وقول النبي : « أطولكن يدا أسر عكن لحوقا بي يوم القيامة » .
والمراد بطول اليد : الجود والكرم.
قال بعضهم : هذا لما أصابتهم أزمة مالية.
غلت أيديهم ، وأمسكت عن الجود والخير ، فهم القوم البخلاء الأنانيون لعنهم اللّه بما قالوا ، فهو الكريم ويحب كل كريم ، ويداه مبسوطتان للعطاء ، ينفق كيف يشاء ، على وفق الحكمة الإلهية فهو يعطى ويمنع ، ويقبض ويبسط لحكم هو أعلم بها اللَّهُ(1/534)
ج 1 ، ص : 535
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ
[سورة الرعد آية 26] ، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ [سورة الشورى آية 27].
وتاللّه ليزيدن الذي ينزل عليك من الآيات البينات التي تكشف سترهم وتطلعك على أعمالهم ونواياهم ، ليزيدنهم ذلك طغيانا وظلما وجحودا وبطرا ، يا سبحان اللّه! إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. ما كان سببا في الخير يكون عندهم سببا في الشر! ولقد حكم عليهم بأن ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، فلا يهمنك أمرهم ، ولا تغتر باتفاقهم في فلسطين المنكودة ، فهي سحابة صيف لهم ، وتنبيه من اللّه لنا علّنا نثوب إلى رشدنا ونرجع إلى ديننا.
وكلما أوقدوا نارا للحرب في الخارج أو الداخل كإثارة الفتن وتشتيت الكلمة وتأليب العدو ، كلما فعلوا هذا أطفأ اللّه نارهم ، وأبطل عملهم ، وهم دائما يسعون في الأرض فسادا ، واللّه لا يحب المفسدين وسيجازيهم على ذلك بأقسى أنواع العقاب.
وفي كتب التاريخ القديم والحديث ما يشهد على هذا! ثم بعد هذا وسعت رحمته كل شيء وفتح باب كرمه للتائبين الذين يقبلون عليه ولو كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم.
ولو أن أهل الكتاب آمنوا بكتبهم وبالقرآن ولم يحرفوا ولم يركبوا رءوسهم واتقوا اللّه في كل أعمالهم لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها ومحونا عنهم أوزارها ولأدخلناهم جنات النعيم.
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل المنزلين من عند اللّه بنور التوحيد والهداية ولم يسمعوا لأحبارهم ومفترياتهم ، وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم : لا سيما القرآن الكريم ، وعملوا بما فيها على خير وجه وأتمه لبسط اللّه الرزق لهم وأنزل عليهم الخير والتوفيق وأكلوا من كل جهة وجانب.
وفي هذا إشارة إلى أن العمل الصالح من الإيمان الكامل مدعاة لرضا الرب وسعة الرزق ، والسعادة في الدنيا والآخرة مع سلوك الطرق المعروفة والنظم المألوفة في عالم الاقتصاد!(1/535)
ج 1 ، ص : 536
من أهل الكتاب وكذا كل أمة في الوجود جماعة قليلة معتدلة في الرأى ، والكثير الغالب منهم فاسقون وخارجون عن أصول الدين والعقل ، وصدق رسول اللّه : « الناس كإبل لا تجد فيها راحلة » .
تبليغ الرسول للدين [سورة المائدة (5) : الآيات 67 الى 69]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
المفردات :
يَعْصِمُكَ : يحفظك ، مأخوذ من عصام القربة ، وهو ما يربط به فمها من خيط أو سير جلد. الصَّابِئُونَ الخارجون من الأديان كلها ، وقيل : هم قوم عبدوا الملائكة وصلّوا إلى غير القبلة.
روى ابن مردويه عن ابن عباس قال : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أى آية من السماء أنزلت أشد عليك ؟ فقال : كنت بمنى أيام الموسم ، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس فنزل علىّ جبريل فقال : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (الآية).(1/536)
ج 1 ، ص : 537
فقلت : أيها الناس : من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة ؟ أيها الناس لا إله إلا اللّه وأنا رسول اللّه إليكم تفلحوا وتنجوا ولكم الجنة. قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علىّ بالتراب والحجارة ويقولون : كذاب صابئ » فجاء عمه العباس فأنقذه منهم وطردهم عنه.
المعنى :
نادى اللّه - سبحانه وتعالى - حبيبه بوصف الرسول ، التي تقتضي التبليغ التام الكامل ، أيها الرسول : بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك ولا تخش أحدا ، ولا يهمك شيء أبدا ، فإنك إن لم تبلغ الكل فما بلغت رسالته ، فكأن كتمان شيء من الرسالة ، ولو إلى أجل هو كتمان للكل تفظيعا لجرم الكتمان ، وكيف يكتم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم شيئا من الرسالة خوفا أو خشية ؟ واللّه يعصمك من الناس أجمعين. ويعصمك من القتل والفناء ، أما العذاب والشدائد والآلام والحروب والإحن فهي الحوادث التي تخلق الرجال ، والبوتقة التي صهرت الناس فظهر المؤمن الصادق من المنافق الكاذب ، كما بينا ذلك في العزوات.
وكيف يكون رسول اللّه واللّه لا يعصمه ؟ وهو المعصوم من كل سوء!! انظر كيف يضل المسيحيون حين يعتقدون صلب المسيح وقتله ؟ ولعل الحكمة في هذه الآية ، أن يعرف الجميع أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رسول رب العالمين ، بلغ جميع ما أنزل إليه من ربه لم يكتم شيئا ، ولم يخص أحدا بشيء وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام آية 153] إن اللّه لا يهدى القوم الكافرين الذين يؤذونك ويعاندوك.
قل لهم : يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى لستم على شيء يعتد به من أمر الدين ، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين حتى تقيموا التوراة والإنجيل ، وإقامتها العمل بكل ما فيها من التوحيد الخالص والبشارة بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته ، وحتى تقيموا ما أنزل إليكم من ربكم على لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وهو القرآن المصدق لما تقدمه من الكتب والمكمل للرسالات السابقة ، ونحن أيها المسلمون لسنا على شيء أبدا حتى نقيم القرآن ونعمل بأحكامه. ونهتدي بهديه في كل أمورنا.(1/537)
ج 1 ، ص : 538
وأقسم اللّه ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك وهو القرآن طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم وذلك بسبب حسدهم الكامن حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ من ربّهم. « 1 »
أما القليل منهم الذين يؤمنون باللّه وبكتبه فلا يزيدهم القرآن إلا هدى ورشادا وخيرا وإسعادا.
وإذا كان هذا شأن القرآن ، فلا يهمنك أمرهم ، ولا تأس على القوم الكافرين.
وهاك قانونا عاما وحكما شاملا للجميع على اختلاف أشكالهم وألوانهم ، ولا غرابة فهي الرسالة العامة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ « 2 » إن الذين آمنوا باللسان كالمنافقين ، والذين هادوا من أتباع موسى - عليه السلام - والذين صبئوا وخرجوا عن حدود الأديان ، والنصارى من أتباع المسيح - عليه السلام - من آمن باللّه ورسله واليوم الآخر إيمانا صادقا ، وعمل عملا صالحا ، فلا خوف عليهم أبدا من عذاب يوم القيامة.
ولا هم يحزنون أبدا بل هم في جنات النعيم ، وعلى الأرائك ينظرون.
من قبائح اليهود أيضا [سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
___________
(1) سورة البقرة آية 109.
(2) سورة سبأ آية 28.(1/538)
ج 1 ، ص : 539
المعنى :
لا يزال الكلام في أهل الكتاب وتعداد سوءاتهم وقبائحهم وخاصة اليهود.
تاللّه لقد أخذنا العهد الموثق على بنى إسرائيل ليؤمنن باللّه ورسله ولا يكتمونه أبدا ، وأرسلنا إليهم رسلا ، يؤكدون هذا العهد ، ويحددون هذا الميثاق ، حتى يكونوا على ذكر منه أبدا ولكنهم اليهود ، كلما جاءهم رسول من عند اللّه بما لا تهواه أنفسهم لأنهم لا يهوون إلا الشر ، ناصبوه العداء ، وساموه سوء العذاب ، وكأن سائلا سأل وقال :
ماذا كانوا يفعلون ؟ فأجيب : فريقا منهم كذبوا وفريقا منهم كانوا يقتلون الأنبياء من غير ذنب ولا جريرة إلا أنهم كانوا يقولون : ربنا اللّه ..
لعنهم اللّه!! قد ظنوا ظنا يكاد يكون كاليقين أنهم لا تكون لهم فتنة أبدا ، ولا يختبرون بالشدائد أصلا ، وكيف يكون هذا وهم (كما يعتقدون) أبناء اللّه وأحباؤه وهم من نسل الرسل الكرام فلا يعذبون بذنوبهم أبدا.
فعموا لهذا وصموا عن آيات اللّه التي أنزلها في كتبه وعموا عما يحصل لهم من الإنذارات والشدائد فلم يتعظوا بشيء أبدا ، وصموا عن سماع القوارع من الحجج والآيات البينات.
ثم تابوا بعد عبادتهم العجل وقبل اللّه توبتهم ، ثم عموا وصموا مرة ثانية حيث طلبوا رؤية اللّه وقتلوا الأنبياء كزكريا ويحيى وحاولوا قتل عيسى ابن مريم وخالفوا أوامر اللّه ورسله.
وقوله تعالى : كَثِيرٌ مِنْهُمْ يفيد أن أكثرهم العصاة وأقلهم المؤمنون الصالحون.
وأما نحن - أيها المسلمون - حذار حذار من ادعائنا وغرورنا بدون العمل ، حذار حذار ألا نلتفت إلى التنبيهات والقوارع التي تصيبنا ، حذار من أن ينطبق علينا هذا الكلام!!(1/539)
ج 1 ، ص : 540
الإله عند المسيحيين [سورة المائدة (5) : الآيات 72 الى 76]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
المعنى :
بعد أن عدد قبائح اليهود أخذ يذكر شيئا من عقيدة النصارى في الإله! تاللّه لقد كفر الذين قالوا : إن اللّه هو المسيح ابن مريم ، وكيف لا يكفرون وقد(1/540)
ج 1 ، ص : 541
ضلوا ضلالا بعيدا جدا ، عن العقل والدين إذ هم يقولون : إن اللّه مركب من ثلاثة أقانيم ، أى : أصول : الأب ، والابن ، وروح القدس.
وقد حل الأب والابن واتحد وكون روح القدس ، وكل واحد من هذه الثلاثة عين الآخر ، والثلاثة واحد والواحد ثلاثة ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
على أن خلاصة أقوالهم أن اللّه هو المسيح والمسيح هو اللّه.
ولقد رد القرآن عليهم : كيف تقولون هذا البهتان وقد قال المسيح ابن مريم : يا بنى إسرائيل اعبدوا اللّه ربي وربكم ، فقد أمرهم بعبادة اللّه وحده معترفا بأنه ربه وربهم ودعاهم إلى التوحيد الخالص من كل شرك.
وهذا هو عيسى يحذرهم عاقبة الشرك والوثنية : إنه من يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين لأنفسهم باتخاذ الشركاء والآلهة من نصير ينصرهم ولا شفيع يشفع لهم وينقذهم مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة 255] لقد كفر الذين قالوا : إن اللّه ثالث ثلاثة ، أى : واحد من ثلاثة التي هي الأقانيم الثلاثة.
وما من إله في الوجود يستحق العبادة إلا إله واحد ، فرد ، صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، سبحانه وتعالى عما يشركون!.
وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم.
أعموا فلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه ويرجعون إليه ؟ واللّه كتب على نفسه الرحمة وهو الغفور الرحيم.
أما حقيقة المسيح عيسى بن مريم ، فهو رسول كبقية الرسل أيد بالمعجزات الخوارق للعادة كالنبيين السابقين ، وكما أيد المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم بالمعجزة الباقية الخالدة : القرآن.
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
[سورة النساء آية 171].(1/541)
ج 1 ، ص : 542
وأما أمه فهي الصديقة الطاهرة نفخ اللّه فيها من روحه وصدقت بكلمات ربها فكانت من القانتين.
وأما حقيقتها الشخصية والنوعية فمساوية لسائر البشر بدليل أنهما يأكلان الطعام ليقيما به أودهما ، ومرت بهما ظروف خاصة وعامة كغيرهما ، وهما يذهبان إلى الخلاء ليقضيا حاجتهما فهل يكون أمثال هذين آلهة تعبد ؟ !! انظر يا من يتأتى منك النظر! كيف نبين لهم الآيات ، ثم بعد هذا يغالون في البعد عن المنطق السليم ، وكيف يصرفون عن استبانة الحق كأن عقولهم فقدت - بسبب التقاليد - وظيفتها ؟ !!
خلاصة نظرية القرآن في المسيح
تعرض القرآن الكريم إلى المسيح عيسى ابن مريم وقد غالى فيه أهل الكتاب ، فاليهود ينكرون نبوته ويفترون عليه الكذب ، ويقولون عليه وعلى أمه البهتان.
والمسيحيون يغالون في رفع عيسى عن البشر ، فتارة يجعلونه إلها ، أو الآلهة ثلاثة والمسيح بن مريم واحد منهم ، وتارة يقولون : هو ابن اللّه.
فقال القرآن القول الحق ، والرأى الوسط في عيسى ابن مريم ذلك في الآيات 71 ، 172 من سورة النساء وقد مر تفسيرهما ، وفي آية 17 من سورة المائدة والآيات 72 ، 73 ، 74 ، 75 ، 76 من السورة نفسها (هذه الآيات كلها مفسرة في هذا الجزء).
وخلاصته أن المسيح عيسى ابن مريم نبي من الأنبياء ورسول اللّه إلى بنى إسرائيل ، وقد خلق بكلمة اللّه التكوينية ، ومؤيد بروح منه تعالى ، وهو عبد اللّه وخاضع له ولن يستنكف من هذا بل ظل يدعو إليه كما في الإنجيل.
وعيسى رسول كبقية الرسل أيد بالمعجزات الموافقة لعصره كأى نبي أرسل ، واللّه يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.
ولا غرابة في شأن ولادته فهذا آدم وهذه حواء ، وهذه أصول الحيوانات جميعا!!! واللّه - سبحانه وتعالى - هو الدائم الباقي القوى القادر ، لا راد لقضائه ولا معقب(1/542)
ج 1 ، ص : 543
لحكمه ، إذا أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ، فهل يمنعه مانع! والمسيح نفسه يقول : يا بنى إسرائيل اعبدوا اللّه ربي وربكم ، ثم يحذرهم الشرك وعاقبته ، ويبين القرآن أن التثليث خطأ ، وما من إله إلا إله واحد ، لا إله إلا اللّه سبحانه وتعالى عما يشركون ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة 117].
على أن المسيح وأمه بشر كبقية البشر إلا أن عيسى رسول من اللّه وأمه صديقة طاهرة كانا يأكلان الطعام ويذهبان إلى الخلاء ، ولهما كل عوارض البشر وصفاتهم ، وهما لا يملكان لأنفسهما نفعا ولا ضرا فكيف يعبدان!! هذه هي خلاصة لما في هذه الآيات القرآنية بالنسبة لعيسى ابن مريم. ولقد قرأنا الكثير من الأناجيل فوجدنا فيها آيات متشابهة جعلت النصارى يقولون بالتثليث تارة ، وبأن اللّه هو المسيح مرة أخرى ، أما الآيات المحكمة في الإنجيل فلإثبات الوحدانية للّه تعالى ، ولبيان حقيقة المسيح وهي كما في القرآن مع فارق بسيط جدا (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) وكان للوثنية عند اليونان والرومان والمصريين أثر كبير في انحراف النصارى عن تعاليم المسيح المحكمة ، ففي إنجيل مرقص الإصحاح السابع الآية 7 ، 8 (و باطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس. لأنكم تركتم وصية اللّه وتتمسكون بتقليد الناس).
المتشابه في الإنجيل :
في إنجيل يوحنا الإصحاح الأول العدد 1 (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند اللّه والكلمة اللّه) وعندهم أن الكلمة هي المسيح ، ينتج أن اللّه هو المسيح كما وصفهم القرآن وكما جاء في الرسالة الأولى ليوحنا الرسول بالإصحاح الخامس والعدد 7 ، 8 (فإن الذين يشهدون في السماء هم الأب والكلمة والروح القدس ، وهؤلاء الثلاثة هم واحد ، والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم الواحد) هذا صريح في عقيدة التثليث.(1/543)
ج 1 ، ص : 544
فيم يشهد الثالوث الأول والثالوث الثاني ؟ وما هذا الثالوث الثاني ، وما الفرق بين الاثنين ؟ بأيهما نؤمن وكيف نستسيغ أن الأب والابن وروح القدس والماء والدم يشهدون ؟ وما معنى أن الثلاثة هم واحد أو في الواحد أو بالعكس ؟ إن هذا لشيء عجاب ، ويمكننا أن نرد على دعواهم ألوهية المسيح من الإنجيل نفسه وهي الآيات المحكمة فيه.
1 - في إنجيل متى الرابع والعدد 10 : (لما جاء الشيطان للمسيح وهو يجربه وقال له :
إن خررت وسجدت لي أعطيك هذه الممالك جميعا ، حينئذ قال يسوع : اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد).
وهذه شهادة المسيح بأن اللّه هو بارئ السموات والأرض وله وحده السجود والعبادة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الفاتحة).
2 - في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر العدد 3 يقرر المسيح بأنه رسول اللّه وأنه رسول الإله الحقيقي (و هذه الحياة الأبدية أن يعرفوك ، إنك الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته).
وفي الآية الرابعة من الإصحاح نفسه يقول المسيح : (أنا مجدتك على الأرض ، العمل الذي أعطيتنى لأعمل قد أكملته) إذا هو عبد خاضع للّه قدم له العبادة والتمجيدنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
[سورة النساء آية 172].
3 - والمسيح رسول قد خلت من قبله الرسل له رسالة خاصة ومهمة خاصة إذا أتمها انتهى ، يقول بولس الرسول في الرسالة الأولى لأهل كورنثوس الإصحاح الخامس عشر العدد 28 : (و متى أخضع له الكل فحينئذ الابن نفسه سيخضع للذي أخضع له الكل كي يكون اللّه الكل في الكل).
4 - المسيح وأمه كانا يأكلان الطعام ، ويذهبان إلى الخلاء ولهما أعراض البشر ، وهذا هو المسيح عند إحيائه العازر بعد موته بأربعة أيام وقد ذهب إلى القرية التي مات فيها وتقابل مع أختيه مريم ومرثا ورأى مريم تبكى (فلما رآها يسوع تبكى واليهود الذين جاءوا معها يبكون انزعج بالروح واضطرب وقال : أين وضعتموه ؟ قالوا له : يا سيد تعال وانظر ، بكى يسوع).(1/544)
ج 1 ، ص : 545
فهل يتصور إنسان يدرك أن الإله يضطرب وينزعج ، وكان يجهل الموضع الذي فيه دفن الميت ، ويبكى ويضعف ، وهذه كلها علامات البشرية ولا يتصور أن فيه لاهوتا وناسوتا زيادة على ما في البشر ثم يحصل منه هذا.
وفي الآية 42 نرى أن المسيح يصلى إلى اللّه : (أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي ، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا : إنك أرسلتنى) نرى أن منتهى الأمل الذي كان يرجوه أن يعرفوا أنه الرسول فقط.
وبعد : فهذا شيء يحار له كل إنسان عاقل!!! إذ كيف يقبل هذا ويدين به أناس يعتقدون هذه العقائد ؟ ؟
وأختتم كلمتي بقرار اللجنة الخاصة لوضع التسابيح والتراتيل للكنائس الإنجيلية البروتستانتية فقد وضعت إحدى الترنيمات وهذا مطلعها :
للواحد الرحمن الخالق الأكوان تسبيحنا للأب بارينا - والابن فادينا - والروح محيينا نهدي الثنا
السبب في استشراء الفساد فيهم [سورة المائدة (5) : الآيات 77 الى 81]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)(1/545)
ج 1 ، ص : 546
المفردات :
لا تَغْلُوا الغلو : الإفراط وتجاوز الحد. أَهْواءَ : آراء قوم دعت إليها الشهوة دون الحجة والبرهان. لُعِنَ اللعن : الطرد من الرحمة.
المعنى :
يا أيها الرسول قل لهؤلاء النصارى : أتعبدون عيسى متجاوزين اللّه ، وعيسى وكذا كل معبود من دون اللّه لا يملك ضرا ولا نفعا لأعدائه وأوليائه على السواء ، فهذا عيسى مع أعدائه اليهود هل أمكنه أن يصيبهم بضر ، لا. بل حاولوا قتله وصلبه ، والصلب أحقر أنواع القتل وأشده وملعون صاحبه ، هل فعل شيئا ، وهل دفع عن نفسه ضرا ؟
هل أوقع عذابا على أعدائه ؟ كل الذي فعله التجأ إلى اللّه وفوض أمره إليه.
وهذا عيسى كذلك مع أنصاره وأتباعه وقد كانوا مطرودين معذبين ، هل أوصل نفعا لهم ؟
واللّه هو السميع لكل صوت بل لكل همس في القلوب ، العليم بكل شيء فهو الذي يستحق العبادة وحده دون سواه.
قل لهم يا محمد : لا تغلوا يا أهل الكتاب ولا تتجاوزوا الحدود في عيسى بين إفراط(1/546)
ج 1 ، ص : 547
وتفريط ، فاليهود يبالغون في إهانته هو وأمه ، والنصارى يرفعونه إلى مقام الألوهية بل يعبدونه.
فالوسط الوسط. والحق الحق ، في المسيح وأمه الذي ذكر في القرآن!! يا أهل الكتاب لا تتبعوا أهواء قوم وآراءهم المدفوعة بالشهوة لا بالحجة والبرهان ، هؤلاء القوم ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيرا من غيرهم ، وهذا خطاب لأهل الكتاب المعاصرين.
وبعد أن بيّن اللّه أنهم ضلوا وأضلوا كثيرا ، وضلوا عن السبيل الوسط والرأى المعتدل ، بين سبب ذلك فقال :
لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل في الزبور على لسان داود ، وفي الإنجيل على لسان عيسى بن مريم. وذلك اللعن بسبب عصيانهم ، فقد لعن داود من اعتدى منهم يوم السبت وكذلك عيسى ، وما كان هذا إلا بسبب تماديهم في العصيان والمخالفة : فاحذروا أيها المعاصرون ذلك.
وقد بين اللّه سبب استمرارهم في المعاصي بقوله :
كان من دأبهم ألا ينهى أحد منهم أحدا عن منكر ارتكبه ، وذنب اقترفه ، بل العاصي منهم لا يجد من يأخذ على يديه ، والظالم لا يجد من يمنعه فانتشرت الفوضى وعم سوء الخلق ، وهذا نذير الفناء ودليل الهلاك ، تاللّه لبئس الفعل فعلهم وما كانوا يعملونه.
والمنكر إذا فشا في قوم ولم يجد من ينكره. ورأى العامة ذلك زالت الهيبة من النفوس والحياة من الضمائر. وصار عادة للناس ، وبالطبع زال سلطان الدين من القلوب.
والنهى عن المنكر هو حفاظ الدين وسياجه ، وتركه جريمة خصوصا من رجال الدين وأهله ، وفي هذا الوقت العصيب لا يدفع السوء الذي استشرى وبلغ الغاية إلا تكتل القوى ، وتضافر الأفراد والجماعات حتى تستأصل شأفة الفساد.
وإنى نذير لقومي أن يطبق عليهم هذا الجزاء الطبعي لكل جماعة يموت بينهم التناهى عن المنكر والأمر بالمعروف ، ولعل هذا هو السبب في سياق هذه الآيات تحذيرا وإنذارا لنا.
روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود أنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « إن أول(1/547)
ج 1 ، ص : 548
ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق اللّه ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب اللّه قلوبهم بعضهم ببعض ، ثم تلا قوله :
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله فاسِقُونَ ثم قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « كلا ، واللّه لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على الحق أطرا ولتقسرنه على الحق قسرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما يلعنهم » « 1 » .
والأحاديث في خطر ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كثيرة.
وإلى متى يا قوم ؟ إلى متى نعرض عن ديننا ولا نرعوى عن غينا ؟ ... هذه هي أحوال أسلافهم أما المعاصرون منهم فهاك حديثا عنهم : ترى كثيرا من أهل الكتاب خصوصا اليهود منهم يتولون الذين كفروا من مشركي مكة ويتحالفون معهم بل ويؤلبونهم على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
إنه لعجب وأى عجب يتحالف أهل الكتاب مع من لا كتاب له ولا رسول على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه!!! وقد روى أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ومع هذا لم يتم لهم ما أرادوا.
لبئس شيئا قدموه لأنفسهم في الآخرة وهو الأعمال التي أوجبت سخط اللّه وغضبه عليهم ، ولعنه لهم وهم في العذاب خالدون.
ولو كانوا ، أى : اليهود يؤمنون باللّه والنبي موسى كما يدعون ، ويؤمنون بما أنزل إلى موسى من التوراة ما اتخذوا المشركين من قريش وغيرهم أولياء وحلفاء ضد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
ولكن كثيرا منهم فاسقون وخارجون عن حدود الدين ويريدون رئاسة كاذبة وعرضا زائلا.
وفقنا اللّه للخير ، والاهتداء بهدى القرآن والسنة المطهرة إنه سميع الدعاء.
___________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهى 4/ 508 رقم 4336 والترمذي وابن ماجة. [.....](1/548)
ج 1 ، ص : 549
اليهود والنصارى وعلاقتهم بالمؤمنين [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
المفردات :
عَداوَةً العداوة والمحبة : صفتان من صفات النفس ، يظهر أثرهما في القول والعمل. قِسِّيسِينَ واحده : قسّ وقسيس ، وهو رئيس من رؤساء النصارى ، والأصل فيه أن يكون عالما بدينهم وكتبهم. وَرُهْباناً واحده : راهب ، وهو العابد المنقطع للعبادة. تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ : تفيض دمعا حتى يتدفق من جوانبها لكثرته.
فَأَثابَهُمُ : جازاهم.(1/549)
ج 1 ، ص : 550
سبب النزول :
اختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في قوم من النصارى ، صفتهم كما ذكر القرآن ، أما كونهم من الحبشة أو من نجران ، وكون عددهم كذا أو كذا فاللّه ورسوله أعلم بذلك ، والغرض المهم ما تشير إليه الآيات.
المناسبة :
بعد أن تعرض القرآن الكريم لليهود وأعمالهم ، وللنصارى وعقائدهم ، ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم ومحبتهم للمؤمنين ، وتعرض للمشركين كذا بالتبع.
المعنى :
تاللّه لتجدن أشد الناس عداوة للمؤمنين اليهود ، وما ذلك إلا أنهم أهل عناد وجحود ، وغمط للحقوق يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله ، خاصة أهل العلم ورجال الدين ، ولذا نراهم قتلوا الأنبياء بغير حق ، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس ، ووقفوا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مواقفهم المشهورة. فقد هموا بقتله ، وحاولوا ذلك مرارا فسمّوه ، وسحروه ، وألّبوا عليه القبائل ، وكانوا مصدر النفاق والشغب ، هذا شأنهم دائما ، فهم أهل مكر وخيانة ، غلبت عليهم الأنانية وحب المادة ، ولؤم الطبع وسوء الصنع ، ويقاربهم في هذا أهل الشرك وعبّاد الأوثان ، فهم مشتركون معهم في أخص الصفات وإن فاقهم اليهود. وأشد ما لاقى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من العداوة والإيذاء كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها ، ومن مشركي العرب ولا سيما أهل مكة وما قرب منها.
والتاريخ قديما وحديثا ملئ بالشواهد على ذلك ، وإن مالأ اليهود المسلمين في بعض الظروف فلأمور سياسية عارضة دفعهم إليها حب المادة وعدل المسلمين.
ولتجدن - أيها الرسول - أقرب الناس مودة وأكثرهم محبة للذين آمنوا بك وصدقوك ، الذين قالوا : إنا نصارى وهم أتباع المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه ، لما(1/550)
ج 1 ، ص : 551
غرست تعاليمه فيهم من الرقة والرأفة والبعد عن التعصب الديني نوعا ما بالنسبة إلى اليهود وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها « 1 » وفي تعاليمهم : « من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر » . ولقد أشار القرآن الكريم إلى سبب المودة فقال :
ذلك بأن منهم قسيسين يقومون بالتعليم وتهذيب الخلق ، وتربية الفضائل وغرس المثل العليا ، ومنهم رهبانا يعبدون اللّه رهبة منه وخوفا ، وطمعا وأملا في ثوابه ، فهم بعلمهم هذا يعوّدون الناس الزهد والتقشف والبعد عن الدنيا وغرورها ، وبأنهم متواضعون لا يستكبرون.
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من القرآن ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من كل جانب ، فيضانا مما عرفوا من الحق الذي نزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إذ هو مصدق لما معهم من الكتاب ، ومطابق لما وصف عندهم ، ولم يمنعهم عن ذلك عتوّ وعناد متأصل فيهم.
هذا حالهم ، أما مقالهم فيقولون : ربنا آمنا بك وبرسلك خاصة محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فاكتبنا مع الشاهدين ، الذين يشهدون يوم القيامة للأنبياء والرسل وهم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم :
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً « 2 » .
أىّ مانع يمنعنا من الإيمان باللّه الذي لا إله إلا هو ؟ ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان ذلك الرسول المبشّر به في كتابنا إذ هو روح الحق ، وإنا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت نفوسهم ، وطهرت أرواحهم بالعقائد الصحيحة والمثل العليا وهم أتباع هذا النبي الكريم.
والمعنى : لا مانع من الإيمان بعد أن ظهرت الحجة ووضح الطريق ، ونحن نطمع في أن نكون في عداد الأبرار والأخيار من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. فأثابهم اللّه وجازاهم بما قالوا عن عقيدة راسخة ونفس مطمئنة راضية ، وآتاهم جنات تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ، هؤلاء هم المسيحيون الأحرار الذين نظروا في تعاليم المسيح الحقيقية فوقفوا على سرها وتكشفت لهم جنباتها ،
___________
(1) سورة الحديد آية 27.
(2) سورة البقرة آية 143.(1/551)
ج 1 ، ص : 552
ورزقوا فكرا حرّا وعقلا رشيدا وروحا طيبة بعيدة عن التعصب تدين بمبدأ (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أى وعاء خرجت).
أما السواد الأعظم من المسيحيين الذين غرقوا في بحار التعصب ، ولم ينظروا ولم يكفروا وقالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، أو من عرفوا الحق وأعرضوا عنه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ « 1 » فهؤلاء وهؤلاء يقول اللّه فيهم :
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا الدالة على صدق نبينا أولئك هم أصحاب الجحيم الملازمون لها.
التشدد في الدّين [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
المفردات :
طَيِّباتِ الطيب : ما تستلذه النفس ويميل إليه القلب. لا تَعْتَدُوا :
لا تتجاوزوا الحدود المرسومة لكم. طَيِّباً : غير مستقذر حسّا أو معنى.
سبب النزول :
روى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصف القيامة يوما لأصحابه فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار ، فرق فريق من الصحابة ، واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون - وكان منهم على بن أبى طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالم مولى أبى حذيفة ، وقدامة - واتفقوا على أن يظلوا صائمين قائمين وألا يناموا على الفراش ، وألا يأكلوا
___________
(1) سورة البقرة آية 146 والأنعام 20.(1/552)
ج 1 ، ص : 553
اللحم وألا يقربوا النساء وأن يرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ، وهموا بالاختصاء ، وأجمعوا على قيام الليل وصيام النهار. فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال لهم :
« إنى لم أومر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وقوموا وأفطروا وناموا ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم ، وآتى النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منى » فنزلت الآية.
وعن ابن مسعود أن رجلا قال : إنى حرمت الفراش ، فتلا هذه الآية وقال : نم على فراشك وكفر عن يمينك.
كان وصف النصارى بالرهبنة ربما يفيد أنها خير ، فكانت هذه الآية القول الفصل والحكم العدل.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما طاب ولذ من الحلال فإنه مما تستلذه النفس ويميل إليه القلب ، ولا تمنعوا أنفسكم من الطيبات منع تحريم ، أو لا تقولوا : حرمنا على أنفسنا كذا وكذا مما هو حلال لكم ومباح.
لا تفعلوا هذا تنسكا وتقربا إلى اللّه ، فإن اللّه لا يرضى عن ذلك بل ينهى عنه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ « 1 » ولا تجاوزوا حدود ما أحل اللّه لكم إلى ما حرم فقد حرم عليكم الخبائث وحرم عليكم الإسراف والتقتير ، وجعلكم أمة وسطا فلا إفراط ولا تفريط : كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ « 2 » وكلوا مما رزقكم اللّه حالة كونه حلالا لا إثم فيه كالربا والرشوة والسحت فإنها إثم وفسوق ، وكلوا الطيب الذي ليس مستقذرا في نفسه كالمحرمات العشر السابقة في أول السورة ، أو لطارئ كالفساد والتغير بطول المكث.
إن اللّه لا يحب المعتدين المتجاوزين حدود الشرع ، على أن الأكل في الآية يراد به التمتع الشامل للشرب والأكل.
___________
(1) سورة البقرة آية 172.
(2) سورة الأعراف آية 31.(1/553)
ج 1 ، ص : 554
واتقوا اللّه في الأكل واللباس والنساء وغيرها فلا تحرموا ما أحل اللّه ، ولا تحلوا ما حرم اللّه ظنا منكم أن هذا خير ، لا بل هو تشديد في الدين لا يرضى اللّه ورسوله ، وكذلك لا تسرفوا في التمتع ، فمن جعل شهوة بطنه وفرجه أكبر همه فهو من المسرفين إخوان الشياطين ، ومن أنفق أكثر من طاقته واستدان ولم يقتصد فهو من المبذرين ، ومن قتّر على نفسه وبخل عليها وقد بسط اللّه له الرزق فهو من المعتدين المذمومين.
والناظر إلى هذه الآية الكريمة يمكنه أن يدرك أن الدين الإسلامى ينظر إلى الروح والجسد نظرة اعتبار واعتدال ، « إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى » ، وبذا كنا أمة وسطا عدولا ، وخير الأمور أوسطها ، على أن تحريم الطيبات وتعذيب النفس ، وإيلام الجسد عبادة مأثورة عن قدماء الهنود واليونان ، قلدهم فيها أهل الكتاب خاصة النصارى. والمعروف أن سيرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان يأكل ما وجد ، فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج ، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل ، فكان صلّى اللّه عليه وسلّم قدوة للغنى والفقير ، والصحابة والخلفاء منهم الغنى والفقير فكل ينفق على قدر حاله بلا تقتير ولا إسراف لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [سورة الطلاق آية 7].
الأيمان وكفارتها [سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)(1/554)
ج 1 ، ص : 555
المفردات :
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اليمين اللغو : هو ما لا قصد فيه للحلف. عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ عقد الأيمان : توكيدها بالقصد ، وتعقيدها : المبالغة في توكيدها.
فَكَفَّارَتُهُ الكفارة : من الكفر وهو الستر ، وهي أعمال تكفر بعض الذنوب ، أى : تغطيها وتسترها. مِنْ أَوْسَطِ : المراد الوسط في الطعام بلا مبالغة في التقتير أو الإسراف. أَوْ تَحْرِيرُ عتق رقبة.
المناسبة :
روى ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا : يا رسول اللّه : كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
المعنى :
لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم التي لا يتعلق بها حكم شرعي ، كلا واللّه وبلى واللّه ، أى : التي تلقى بلا قصد ولكن لتأكيد الكلام ، فهذه لا مؤاخذة فيها ، وهذا رأى الشافعى ، وعن مجاهد : هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، ولكن قوله تعالى : عَقَّدْتُمُ يؤيد رأى الشافعى.
ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وأكدتموها بالقصد وصممتم عليها إذا حنثتم فيها ، وكانت باللّه أو بصفة من صفاته ، أما غير ذلك فليس بيمين :
« سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عمر - رضى اللّه عنه - يحلف بأبيه فقال : من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت » .
أما الحلف بغير اللّه من مخلوق كنبي أو ولى فليس بيمين بل إنه حرام.
ويحرم الحنث في اليمين إذا حلفت على فعل واجب ، وإذا حلفت على فعل مندوب أو مباح يندب الوفاء ويكره الحنث ، وإذا حلفت على محرم وجب الحنث في اليمين والكفارة.
فقد ثبت في الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه » .(1/555)
ج 1 ، ص : 556
أما كفارة اليمين إذا حنثت فيه :
فكفارته : إطعام عشرة مساكين طعاما وسطا بلا إسراف ولا تقتير ، كما تطعم أهلك في الظروف المعتدلة ، ومن زاد في الخير فلا بأس به ، وقدر بنصف صاع من برّ أو صاع من غيره لكل مسكين ، والصاع بالكيل المصرى قدحان وثلث. أو تغديهم وتعشيهم بخبز ولحم أو لبن ، أو خضار ، أو زيت ، كل على قدر طاقته.
فإن لم يكن طعام لعشرة فكسوتهم لكل فقير (جلابية) متوسطة الثمن أو قميص أو سروال أو طاقية ، أو تحرير رقبة مؤمنة ، فهو مخير بين الإطعام والكسوة والعتق ، فمن لم يجد ذلك ولم يستطع إطعام أو كسوة أو عتقا ، فعليه صيام ثلاثة أيام متتالية على الصحيح ، وقد فسروا الاستطاعة بأن يكون عنده ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة.
فإن عجز عن ذلك كله استقر الحق في ذمته حتى يستطيع ، ذلك المذكور كفارة أيمانكم ، إذا حلفتم حلفا شرعيّا وحنثتم ، واحفظوا أيمانكم ، فلا تبذلوها لأتفه الأسباب ، ولا تجعلوها عرضة ، وإن حنثتم فاحفظوها بالكفارة ، وإن حلفتم فلا تنسوا ما حلفتم عليه ، ولا تحشوا إلا لضرورة ، ويكون الحنث فيها أفضل من السير مع اليمين الكاذبة. مثل هذا البيان الشافي الواضح يبيّن اللّه لكم آياته وأحكامه ليعدّكم ويؤهلكم لشكره على نعمه جل شأنه.
واليمين الغموس : التي يضيع بها حق المسلم ، أو يقصد بها غش أو خيانة ، فلا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام ، بل لا بد فيها من توبة ورجوع إلى اللّه مع أداء الحقوق لأربابها ، قال رسول اللّه : « من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى اللّه وهو عليه غضبان » (رواه البخاري ومسلم) ، ويقول اللّه : وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة النحل آية 94].(1/556)
ج 1 ، ص : 557
الخمر والميسر وخطرهما [سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 93]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
المفردات :
الْخَمْرُ : كل شراب مسكر. الْمَيْسِرُ في أصل اللغة : القمار بالقداح في كل شيء ، ثم غلب في كل مقامرة ، وقد مضى الكلام عليه في آية البقرة 219.
الْأَنْصابُ : حجارة كانت حول الكعبة يذبحون قرابينهم عندها. الْأَزْلامُ :
قطع رقيقة من الخشب كالسهم كانوا يستقسمون بها ، وقد مر أول هذه السورة في آية (3) تفصيلها. رِجْسٌ : مستقذر حسا ومعنى. طَعِمُوا طعم الشيء يطعمه :
ذاق طعمه عن طريق الأكل أو الشراب.
المناسبة :
بعد أن نهى اللّه - سبحانه وتعالى - عن تحريم الطيبات من الرزق ، وأمر بأكل(1/557)
ج 1 ، ص : 558
الحلال الطيب بلا إسراف ولا تقتير ، وكانوا يستطيبون الخمر والميسر ناسب أن يتعرض القرآن لبيان حقيقتهما.
روى أن عمر كان يدعو اللّه تعالى قائلا : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فلما نزلت آية البقرة ظل على دعائه ، ولما نزلت آية النساء ظل كذلك على دعائه ، فلما نزلت آية المائدة ، وسمع قوله تعالى : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال : انتهينا! وكانت هذه الآية هي الفاصلة القاضية.
روى أن عمر قال حين سمع إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام ؟ بعدا لك وسحقا!!! وتركها الناس وأراقوها في الطرقات.
وروى عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا ، وثملوا ، واعتدى بعضهم على بعض ، فلما صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه ولحيته ، فيقول : صنع بي أخى فلان هذا ، ولو كان رءوفا بي ورحيما ما صنع هذا!!! وقد وقعت بينهم ضغائن فأنزل اللّه هذه الآية إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فقال ناس : هي رجس وهي في بطن فلان كحمزة مثلا وقد قتل يوم أحد ، وفي بطن فلان وقد قتل يوم بدر ، فأنزل اللّه لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ الآية.
ولعلك تسأل ما الحكمة من تحريم الخمر تدريجياّ ؟ ؟ وما علمت أنها الحكمة العالية والدواء الناجع لهذا الداء المتأصل ، الذي أدمنت العرب على شربه ، فلو حرمت الخمر دفعة واحدة لكان ذلك أدعى لتنفير الناس من الدين كله.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله : اعلموا أن هذا الوصف يوجب عليكم الامتثال لأمر اللّه والتزام حدود الشرع ، واعلموا أنما الخمر وهي : ما خامر العقل ، أى : ستره فأسكره رجس من عمل الشيطان وصنعه ، وهو عدوكم اللدود ، الذي لا يعمل إلا للشر ولا يزيّن إلا للهلاك!!! ولقد خطب عمر بن الخطاب يوما على منبر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : « قد نزل تحريم(1/558)
ج 1 ، ص : 559
الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر :
ما خامر العقل » ، وهذا أبين بيان في حقيقة الخمر ، يخطب عمر بالمدينة على مرأى ومسمع من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهم أهل اللسان والبيان ، وأعلم الناس بلغة القرآن ، فلا ينكر أحد عليه ولا يستفسر أحد عن نوع دون نوع!!! ولا تنس
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « كل مسكر خمر وكل خمر حرام »
فإن كل مادة مغيبة للعقل مهلكة للصحة فهي خمر وإن تعددت الأسماء ، وإذا ثبت هذا بطل رأى القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا.
والنبيذ قديما : عبارة عن تمر أو زبيب ينقع في ماء حتى يحلو الماء فيشرب ، وهذا حلال حيث لم يختمر ولم يسكر ، وأقرب الأشياء به ما يسمى بالخشاف في مصر ، أما النبيذ المستعمل الآن فخمر وحرام ومسكر ... وفي آية 219 من سورة البقرة بيان واضح متمم لما هنا.
إنما الخمر والميسر والأنصاب المنصوبة من حجارة حول الكعبة وكانوا يعظمونها والأزلام وكانوا يستقسمون بها إنما ذلك رجس وقذارة!! وأى رجس أكبر من هذا ؟
فالخمر والميسر مستقذران حسا ومعنى ، من ناحية الشرع والعقل ، وهما من عمل الشيطان وصنعه ، فاجتنبوا هذا الرجس واتركوه ، واجعلوه في جانب وأنتم في جانب ، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم إذ هما من أخطر الأمراض اجتماعيا ودينياّ واقتصادياّ.
أما الخطر الاجتماعى فالشيطان يريد لكم - بشرب الخمر ولعب الميسر - أن تقع بينكم العداوة والبغضاء فيقضى على جماعتكم ، ويشتت شملكم ويهدم كيانكم ، والإسلام حريص جدّا على أخوتكم واتحادكم وتضامنكم وإزالة أسباب الشقاق والنزاع فيما بينكم.
والشواهد على هذا كثيرة واضحة ، ولا غرابة فالخمر تذهب العقل الواعي وتستره ، وهو الذي يدرك قواعد العرف والدين التي تمنعنا عن الشر والوقوع فيه ، فإذا ضاع واستتر ، ظهر الإنسان بشهواته وطبيعته الحيوانية يأتى الدنية ، ويقوم بأحط الأعمال وأقذرها!!(1/559)
ج 1 ، ص : 560
والميسر وما فيه من ربح وخسارة ، بلا عمل وتجارة ، مثار العداوة والبغضاء في نفوس اللاعبين.
أما ضياع الشخصية وفناء الشباب وهلاك الصحة ، والانغماس في تيار الرذيلة فشيء لا ينكره عاقل ، ولا يحتاج إلى نص.
وأما الناحية المالية فحدث عنها ولا حرج ، فكم من بيوت هدمت وكم من أموال بددت ، على الموائد الخضراء والحمراء في الليل والنهار ؟ ؟
وأما الخطر الديني وما أدراك ما هو ؟ !! فهما يصدان عن ذكر اللّه ، الذي يجلو القلوب ويزكيها ، ويطهر النفوس ويهديها ، وهما يمنعان من الصلاة التي هي عماد الدين إذ السكران لا عقل له ولا قلب فكيف يهتدى إلى الخير وإلى الصلاة ؟ ؟ ولاعب الميسر يجلس الساعة والساعات بل يواصل ليله ونهاره ولا يدرى ما حوله ولا يشعر بنفسه ، قد نسى بيته وأهله وولده ، وإنه ليقضى الوقت بين الأوراق والنار تشتعل في بيته فلا يغيث أهله مع الناس فكيف يفكر في الصلاة ؟ على أنه إذا صلّى بلا روح وبلا قلب.
فهل أنتم يا من اتصفتم بوصف الإيمان وتحليتم به منتهون بعد هذا البيان اللاذع والقول الفاضح ؟ ! وهذا أمر بالانتهاء جاء على أسلوب بليغ جدّا يدركه من يقف على أسرار بلاغة القرآن.
وكيف لا يكون هذا شأن الخمر والميسر ؟ وقد نفر اللّه منهما ، وأكد تحريمهما بوجوه من التأكيد أهمها.
سماهما رجسا من عمل الشيطان (الخمر أم الخبائث) بل قصرهما على الرجس لا يتعديانه إلى غيره ، وقرنهما بالأنصاب والأزلام ، وأنت تعرف أنهما من أعمال الشرك وخرافات الوثنية (مدمن الخمر كعابد الوثن).
وعلق الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة على اجتنابهما.
وجعلهما مثار العداوة والبغضاء ، ومبعث الشقاق والشحناء.(1/560)
ج 1 ، ص : 561
وهما يصدان عن ذكر اللّه ، واللّه يقول : أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد 28].
وكان ختام الآية بقوله : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ على ما فيه من البلاغة والبيان أتم صارف للمسلمين عنهما وصادّ.
وأطيعوا اللّه - تعالى - فيما أمركم به ، وأطيعوا الرسول فيما بينه لكم ، واحذروا عاقبة المخالفة وما تجر من الخيبة والندامة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة النور آية 63].
فإن توليتم بعد هذا فلا تلومنّ إلا أنفسكم ، واعلموا أنما على رسولنا البلاغ فقط ، وعلينا الحساب والجزاء يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 19].
ومن مات قبل التحريم فلا شيء عليه إذ هناك قانون عام وهو : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات كحمزة الذي استشهد قبل تحريم الخمر وغيره ، ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا ما اتقوا اللّه وعملوا الصالحات الباقيات التي شرعت في حياتهم كالصلاة والصيام وغيرهما ، ثم اتقوا ما حرم عليهم ، وآمنوا بما نزل فيه وفي غيره ثم استمروا على التقوى والإحسان وعمل الصالحات ، واللّه يحب المحسنين المتقنين أعمالهم المخلصين فيها.
التداوى بالخمر :
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنه ليس بدواء ولكنه داء » ... « وما جعل اللّه شفاء أمتى فيما حرم عليها »
ولقد ناقشت طبيبا من كبار الأطباء في ذلك فقال : ليس هناك مرض يتعين علاجه بالخمر وحدها وقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنه داء »
أكده رأى الطب إذ إن الخمر تولد أمراضا كثيرة يموت بها كل عام عدد لا يحصى من الناس ، وفكرة التداوى بالخمر حيلة شيطانية حتى تتمكن من النفس وتصبح عادة يصعب انتزاعها.
وحكم شارب الخمر الحد أربعين جلدة ، وقيل ثمانين ،
فقد روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جلد أربعين
، وفعل أبو بكر مثله ، فلما كان عمر استشار الناس ، فقال عبد الرحمن :
أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر. والرأى أنه لا يقل عن أربعين ولا يزيد عن ثمانين.
ومثل الميسر كل لعب على مال ، أما الشطرنج والنرد والألعاب الأخرى فإن أورثت العداوة وصدت عن ذكر اللّه وعن الصلاة فهي كالميسر ، وإلا فإنها مكروهة مطلقا.(1/561)
ج 1 ، ص : 562
ومثل الخمر كل مادة يحصل منها ضرر مالي أو جسمانى أو خطر اجتماعي أو خطر ديني كالحشيش والأفيون.
الصيد في الإحرام وجزاؤه [سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 96]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
المفردات :
لَيَبْلُوَنَّكُمُ : ليعاملنكم معاملة من يختبركم. تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ : يكون في متناول اليد. حُرُمٌ : محرمون بحج وعمرة ، أو في مكان الحرم. عَدْلٍ :
مساو له. وَبالَ أَمْرِهِ : عاقبة أمره الثقيلة. لِلسَّيَّارَةِ : جمع سيار ، وهو المسافر.(1/562)
ج 1 ، ص : 563
المناسبة :
أحل اللّه لنا أكل الطيبات من الرزق واستثنى الخمر وما شاكلها ، وهنا أضاف لها الصيد في الإحرام وبيّن جزاءه.
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه وبرسوله : ليبلونكم اللّه ، وليعاملنكم معاملة من يختبركم بشيء من الصيد ، أى : بعض منه وهو صيد البر لا صيد البحر ، اختبركم بإرساله بحيث يسهل تناول بعضه بالأيدى ، وبعضه بالرماح ، وكيف لا يكون هذا اختبارا وابتلاء ؟
والمصيد طعامه لذيذ ، واصطياده حبيب إلى النفس في الأسفار ، فإذا أضيف إلى ذلك كثرته وعدم تأبّيه ، كان هذا اختبارا وأى اختبار ؟ يفعل اللّه هذا ، ليعلم علم ظهور وانكشاف من يخافه بالغيب ، ومن يخافه أمام الناس فقط ، كالمنافقين يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم واللّه عالم بكل شيء ، ولكن يريد ليطهركم ، وليتم نعمته عليكم بالامتثال.
فمن اعتدى منكم بعد ذلك البيان ، فله عذاب شديد في الدنيا والآخرة.
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان ، وصدقتم الرسول ، وآمنتم بالقرآن ، لا تقتلوا صيد البر ، وهذا النهى هو الابتلاء المذكور في الآية السابقة ، لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة أو في مكان الحرم وإن لم تحرموا ، وذلك إجلالا للحج وشعائره ، واحتراما للمكان وهيبته ، إذ هو مباءة للناس والطير وأمن لهم ، وهذا في الحرم المكي ، أما الحرم المدني فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة فإن فعل هذا أحد أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعى ،
ورد عن رسول اللّه في الصحيح « اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإنى أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة لا يختلى خلاها (الخلى :
النبات الرقيق ما دام رطبا ، ويختلى : يقطع) ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها » .
ومن قتله منكم عامدا قاصدا له ، فعليه جزاء من النّعم مماثل له في هيئته وصورته ، إن وجد المثل وإلا فقيمته ، وقيل : يقوّم من أول الأمر ، واعلم أن ما يجزى من الصيد شيئان دواب وطير ، فيجزى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ففي النعامة(1/563)
ج 1 ، ص : 564
بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي الظبى شاة ... إلخ على ما هو مذكور في كتب الفقه وفي الطير قيمته إلا حمام مكة فإن الحمامة شاة اتباعا للسلف في ذلك.
وقد ورد عن جابر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « في الضبع إذا أصابه المحرم كبش ، وفي الظبى شاة ، وفي الأرنب عناق » « 1 »
والعناق : الأنثى من المعز لم تبلغ سنة.
واعلم أن الآية الكريمة ، أفادت أن القتل العمد فيه الجزاء ، والسنة النبوية أفادت أن الخطأ كذلك ، عن سعيد بن جبير : لا أرى في الخطأ شيئا. أخذا بظاهر الآية واللّه أعلم بكتابه.
والصيد الذي نهت عنه الآية : كل حيوان وحشي يؤكل لحمه ، فلا شيء في قتل الحمار الأهلى مثلا ، ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع ، والحشرات ، والفواسق كالحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ، وألحق مالك بالكلب الذئب والأسد والنمر.
ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم : يحكم به اثنان ذوا عدل منكم من أهل المعرفة والعدل من المؤمنين ، وإنما احتجنا للتحكيم لأن المماثلة بين النعم والصيد ، ما تخفى على كثير خصوصا في هذه الأيام ، وقد توالدت أشكال وأصناف من الحيوان والطيور ، وما لا مثل له يحكم فيه بالقيمة.
فجزاء مثل ما قتل من النعم هديا بالغ الكعبة ، وأصلا إليها ، يذبح عندها ويفرق على مساكين الحرم.
نعم عليه جزاء مماثل لما قتل أو كفارة هي أن يقوّم الصيد الذي أصابه فينظركم ثمنه من الطعام ؟ فيطعم لكل مسكين مدّا أو يصوم مكان كل مد يوما.
وعند أبى حنيفة يقوّم الصيد أوّلا وجد له مثل أولا والآية لا تمنع هذا. روى ابن جرير عن ابن عباس قال : إذا قتل المحرم شيئا من الصيد فعليه فيه الجزاء ، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه ذبح شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
أوجبنا هذا ليذوق عاقبة أمره وسوء فعله ، حيث هتك حرمة الإحرام وعفا اللّه عما سلف قبل نزول الآية.
___________
(1) أخرجه البيهقي 5/ 183.(1/564)
ج 1 ، ص : 565
ومن عاد بعد هذا فينتقم اللّه منه أشد الانتقام في الآخرة ، واللّه عزيز الانتقام ، لا يغلبه عاص أو مذنب.
أيها المسلمون أحل لكم صيد البحر سواء كان حيا أو ميتا ، قذفه البحر أو طفا على وجهه ، أو انحسر عنه الماء فهو الحل ميتته ، الطهور ماؤه ، أحله اللّه متاعا لكم وللسيارة المسافرين ، فمن كان مقيما فليأكل من صيده الطازج ، ومن كان مسافرا فعنده السمك المحفوظ ، وحرم عليكم صيد البر من الوحش والطير ما دمتم حرما ، أى : فلا مانع من أكل ما صاده غيركم ، أو صدتموه في غير الإحرام ،
عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم » « 1 »
واتقوا اللّه الذي إليه تحشرون.
البيت الحرام والشهر الحرام ومكانتهما [سورة المائدة (5) : آية 97]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (97)
المفردات :
جَعَلَ يصح أن تفسر بالجعل التكويني الخلقي أو التشريعي الْكَعْبَةَ :
البيت المربع ، وقيل : المرتفع ، وقد غلب اسمها على البيت المقدس الذي بناه إبراهيم وإسماعيل بمكة عليهما السلام. قِياماً لِلنَّاسِ : ما به يقوم أمرهم ويصح شأنهم.
وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ تقدم تفسير ذلك أول السورة.
قال الرازي : اللّه تعالى حرم في هذه الآية المتقدمة الاصطياد على المحرمين ، فكان الطير والوحش آمنا على نفسه وولده ، وفي هذه الآية أفاد أن الحرم سبب لأمن الناس وهدايتهم لحصول الخيرات والسعادة في الدنيا والآخرة لهم.
___________
(1) أخرجه أحمد 3/ 362 وأبو داود والترمذي وغيرهم.(1/565)
ج 1 ، ص : 566
المعنى :
جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قياما للناس الذين يسكنونها ، حيث يجلب إليهم الخيرات ، ويرزقهم من الثمرات ويجعل قلوب الناس تهوى إليهم ، وتعطف عليهم وبذلك يقوم أمرهم ، ويصلح شأنهم ، وكذا من حج إليها واعتمر يجدون فيها الخير والسعادة ، والراحة والطمأنينة ، وكل ذلك إجابة لدعاء إبراهيم - عليه السلام - :
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [ابراهيم 37].
وجعلها اللّه قياما للناس في أمر دينهم المهذّب لأخلاقهم المزكّى لأنفسهم ، أليست مكان الحج الذي هو ركن من أركان الدين ؟ فيه يعقد المؤتمر العام للمسلمين الذين يهرعون إليه من كل فج عميق كبارهم وزعماؤهم. وأغنياؤهم ، يتباحثون ويقفون على أمور دينهم ، وتنبعث القوة في نفوسهم ، ويتجدد الإسلام في أعماقهم ، وتتأكد الرابطة بينهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ « 1 » وجعل اللّه الشهر الحرام قياما للناس كذلك فهو مثابة للناس وأمن في الجاهلية والإسلام ، فيه يأمنون على أنفسهم وتجارتهم وأموالهم ، فيه يلقى السلاح ، وتهدأ النفوس ، وتسكن الفتن ، وتخمد نار الحرب المستعرة ، ألست معى في أنه قيام للناس ؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ « 2 » وكان الهدى والقلائد قياما للناس فمن بذلها قوّمت له دينه ، وكفرت عن ذنبه ، وطهرت له نفسه ، وزكّت ماله ، وجعلته آمنا على نفسه وهي عند من يأخذها قوام حياته.
كل ذلك لتعلموا أن هذه الأمور لحكم ، اللّه يعلمها ، ولا يمكن أن تصدر إلا من عالم بما في السموات وما في الأرض ، وأنه بكل شيء عليم.
والناظر إلى الحج يجده دعامة من أقوى الدعائم للإسلام ، يعرفه الغربيون ويعرفون أثره في نفوس المسلمين ، وما يحصل بسببه من تقوية أواصر الصلات ، وإذكاء روح الدين بين المؤمنين.
___________
(1) سورة الحجرات آية 10.
(2) سورة العنكبوت آية 67.(1/566)
ج 1 ، ص : 567
ترغيب وترهيب [سورة المائدة (5) : الآيات 98 الى 100]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
المفردات :
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ : الحلال والحرام ، والرديء والجيد. الْأَلْبابِ :
العقول.
المعنى :
اللّه - سبحانه - عليم بكل شيء ، وعليم بما في السموات وما في الأرض. وهو القاهر فوق عباده ، الرحمن الرحيم ، ومقتضى هذا كله أنه لم يخلقنا عبثا ولم يتركنا هملا ، بل لا بد من جزاء العاصي ، وإثابة المطيع اعلموا أن اللّه شديد العقاب ، وسريع الحساب ، وقوى العذاب لمن عصى وطغى ، وتجبر وبغى ، وهو رءوف بالعباد غفور للسيئات ، رحيم بمن عمل سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح. وأما من نشأ طائعا ولم يدنس نفسه أبدا فهنيئا له الرضوان ثم هنيئا!.
وإذا كان الأمر كذلك فاعلموا أنه ما على الرسول إلا البلاغ وعلى اللّه وحده الحساب وإليه المرجع والمآب ، واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون ، وهو الذي يعلم السر وأخفى ، والغيب والشهادة فاتقوا اللّه واحذروا حسابه ، قل لهم : يا أيها الرسول(1/567)
ج 1 ، ص : 568
لا يستوي الخبيث والطيب ، والحلال والحرام ، وهل يستوي الجيد والردي ء ؟ وكيف يستويان ؟ !! أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ « 1 » أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
«
2 » !!! قل لهم : لا يستوي الخبيث والطيب أبدا ، ولو أعجبك كثرة الخبيث من العصاة والكفار وقلة الطيب من المسلمين والأبرار.
تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
فاتقوا اللّه يا أولى الألباب وتذكروا فإنما يتذكر أولوا العقول الصحيحة الذين يحكمون أحكاما سليمة موفقة تفرق بين النافع حقيقة وإن شابه تعب ومشقة ، وبين الضار المهلك وإن ازينت له الدنيا وازّخرفت.
السؤال الضار [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
سبب النزول :
روى مسلم عن أبى هريرة قال : خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : أيها الناس ، قد فرض اللّه عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول اللّه ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم.
فأنزل اللّه هذه الآية.
___________
(1) سورة ص آية 28.
(2) سورة الجاثية آية 21.(1/568)
ج 1 ، ص : 569
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائقه التي تركت رحمة بكم وإشفاقا عليكم ، وقيل المعنى : لا تكثروا من السؤال عما لا يعنيكم من أحوال الناس ، وهذا مثل قوله تعالى : « وَلا تَجَسَّسُوا [سورة الحجرات آية 12].
وليس المراد النهى عن السؤال مطلقا في أمور الدين. لا ، بل قد أقر الشرع سؤالهم عن توضيح أحكام العدة والخمر وغيرهما فلا حرج في مثل هذا ، وإنما الحرج في التشدد في العمل وكثرة التكاليف لأن هذا قد يؤدى للإهمال وقد يؤدى إلى الخروج من الدين كما حصل في الأمم السابقة.
وقد سأل سائل منهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن أبيه من هو ؟ وهل الحج واجب في كل سنة أم لا ؟ وغير ذلك من الأسئلة المحرجة التي فيها العنت والمشقة على الناس.
وإن تسألوا عن غير هذه المسائل الشائكة مما تمس الحاجة إليه من تحريم أو تحليل أو حكم جديد تجابون إلى طلبكم فإنه خير ، فالنهي إذن في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه ، وكان في الإجابة عنه مشقة وزيادة كلفة. وقيل : لا تسألوا عن أشياء عفا اللّه عنها إن تبد لكم تسؤكم ، وعلى هذا خرج
حديث ثعلبة الخشني قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « إن اللّه تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » .
قد سأل مثلها قوم قبلكم فلما أجيبوا وفرضت عليهم كفروا بها وقالوا : ليست من عند اللّه ، وما قوم صالح وأصحاب البقرة منكم ببعيد فاعتبروا يا أولى الأبصار ، ولا تشددوا فيشدد اللّه عليكم ، فإن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه الدين فسددوا وقاربوا.(1/569)
ج 1 ، ص : 570
نوع من ضلال الجاهلية [سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
المفردات :
بَحِيرَةٍ : هي الناقة يبحرون أذنها ، أى : يشقونها شقّا واسعا إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى ، وكان يمنح درها للطواغيت فلا يحلبها أحد. سائِبَةٍ السائبة : الناقة التي تسيب لآلهتهم فترعى حيث شاءت ، ولا يحمل عليها ولا يجز صوفها ولا يأخذ لبنها إلا ضيف. وَصِيلَةٍ الوصيلة : الشاة أو الناقة التي تصل أخاها. فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرا كان لآلهتهم ، وإذا ولدت أنثى كانت لهم ، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر إلا لآلهتهم. وقيل في تفسيرها غير ذلك. حامٍ الحامى : الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
أخرج ابن جرير عن أبى هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون : رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار (القصب : المعى ، والأقصاب : الأمعاء) فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك ، فقال أكثم :
أخشى أن يضرّ بي شبهه يا رسول اللّه ، فقال رسول اللّه : لا إنك مؤمن وهو كافر ، إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى.(1/570)
ج 1 ، ص : 571
المعنى :
أيها المسلمون ما جعل اللّه في الدين الإسلامى من بحيرة ، ولا سيّب سائبة ، ولا وصل وصيلة ، ولا حمى حاميا ، أى : ما شرع ذلك ولا أمر به ، فما كان يفعله الجاهليون فهو رد عليهم غير مقبول منهم.
ولكن الذين كفروا - إذ يفعلون ما يفعلون - إنما يفترون على اللّه الكذب ، حيث قالوا أمرنا اللّه بهذا ، وقالوا : لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دونه من شي ء!! قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟ إن تتبعون إلا الظن ، وما تهوى الأنفس ، وقد ثبت في الصحيح كما مر أن أول من سنّ هذا هو عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف ولكن أكثرهم لا يعلمون.
وإذا قيل لهم : تعالوا أيها الضالون إلى نور القرآن وإلى هدى الرسول وحكّموا عقولكم وانزعوا عنها غطاء التعامي عن آيات اللّه قالوا غرورا وجهلا وسفها وحمقا :
حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فآباؤنا مصدر التشريع الصحيح!! أيتبعونهم ويتركون الدين الصحيح والتشريع القويم ، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا ولا يهتدون إلى خير أصلا ، ولا غرابة فهم الذين عاشوا في العداوة والبغضاء والحروب والغارات وشرب الخمر ووأد البنات ، وعمل الفحش والمنكرات!! وهل كانت هناك جاهلية جهلاء ؟ وضلالة عمياء أسوأ من هذا ؟
في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر [سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
المناسبة :
بعد أن بين اللّه ضلال أهل الشرك وعنادهم ، وتفكيرهم السقيم في اتباع آبائهم ، خفف(1/571)
ج 1 ، ص : 572
اللّه عن المؤمنين أوزارهم ، وأمر بأن يكملوا أنفسهم بالعمل الطيب ، ولا عليهم شيء بعد هذا.
المعنى :
يا أيها المؤمنون عليكم أنفسكم ، كملوها بالعلم والعمل وأصلحوها بالقرآن والسنن وانظروا فيما يقربها إلى اللّه حتى تكون في رفقة الأنبياء الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، وبعد هذا لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
نعم لا يضركم شيء إذا قمتم بما عليكم من واجبات وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكرات ، فاللّه يقول : وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى « 1 » ثم إلى اللّه وحده المرجع والمآب وسيجازى كلا على عمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر.
روى ابن كثير أن أبا بكر خطب في الناس فقال : « أيها الناس إنكم تقرءون وهذه الآية (عليكم أنفسكم ... الآية) وإنكم تضعونها في غير موضعها وإنى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم اللّه بعقاب »
وفي حديث أبى ثعلبة الخشني قال : « لقد سألت عنها خبيرا (أى : هذه الآية) سألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحّا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام فإن من ورائك أياما ، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم » .
وفي رواية لابن عمر : إن هذه الآية تأويلها في غير زمن النبوة بل في القرون الآتية بعد ، وعن سعيد بن المسيب : إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
والخلاصة أن السلف متفقون على أن المسلم يكمل نفسه بالعمل الصالح ، ويكمل غيره بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وأن هذا فرض لا يسقط إلا إذا اضمحل الزمان ، وفسد الناس فسادا يؤدى إلى إيذاء الواعظ إيذاء يهلكه.
والرأى - واللّه أعلم - أن اللّه يخاطب الجماعة في مقام الأمر بالمعروف والنهى عن
___________
(1) سورة الزمر آية 7.(1/572)
ج 1 ، ص : 573
المنكر وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ « 1 » وهنا لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ هذه الجماعة لا يضرها أبدا إيذاء ما دامت أمة متحدة مستمسكة بدينها.
داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر.
فإن سقط الأمر بالمعروف أو خف عن الفرد في زمن من الأزمان - والحمد للّه لم يحصل بعد - فلن يسقط ولن يخف عن الجماعة.
حقيقة إن الوعظ الفردى قد يكون عسيرا ولكن الوعظ الجماعى مع تقوية السناد بكثرة الأفراد الصالحين هو طريق الإصلاح والخير ، وليس أجدى على الأمة من تكتل الدعاة واجتماع طلاب القرآن وحكمه ففيهم الخير فيما نعلم ، وإليهم تتجه أنظار المسلمين.
الشهادة على الوصية حين الموت وأحكامها [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
___________
(1) سورة آل عمران آية 104.(1/573)
ج 1 ، ص : 574
المفردات :
شَهادَةُ هي : قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة. ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ : سافرتم لأن المسافر يضرب الأرض برجليه. تَحْبِسُونَهُما :
تمسكونهما. إِنِ ارْتَبْتُمْ : شككتم في صدقهما فيما يقرّان به. عُثِرَ اطّلع ، وأعثر عليه : أعلمه به.
سبب النزول :
كان تميم الداري ، وعدى بن بدّاء رجلين نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية.
ويطيلان الإقامة بها ، فلما هاجر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة حولا متجرهما إلى المدينة فخرج بديل مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة ، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصية بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما أن يوصلوا متاعه إلى أهله ، فلما مات فتحوا متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به ، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه ، فقالا : هذا الذي قبضنا له ، ودفع إلينا فقالوا لهما : هذا كتابه بيده ، قالا : ما كتمنا له شيئا ، فترافعوا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت هذه الآية .. فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يستحلفوهما دبر صلاة العصر باللّه الذي لا إله إلا هو.
ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا ، فمكثا ما شاء اللّه أن يمكثا ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموه بالذهب ، فقال أهله : هذا من متاعه ، قالا : نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا ، فترافعوا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت الآية فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رجلين من أهل بيت الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه.
ثم إن تميما أسلم وبايع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : صدق اللّه ورسوله أنا أخذت الإناء مع صاحبي.(1/574)
ج 1 ، ص : 575
المعنى :
يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن اللّه - تعالى - أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصى إذا حضرته مقدمات الموت ، وأصابته مصيبته وهو في سفر فأوصى إلى اثنين عدول في ظنكم فإن لم يكونا فآخران من غيركم ، أى : من الكفار للضرورة أو من غير عشيرتكم وقرابتكم ، أى : من المسلمين الأجانب فأوصيتم إلى اثنين منهما ، ودفعتم إليهما المال وذهبا إلى ورثتكم فارتابوا في أمرهما ، وادعوا عليهما خيانة ، فإن كانا أمينين وصدقوهما بلا يمين فلا شيء.
أما في حالة الشك فالحكم أن تحبسوهما ، وتستوثقوا منهما حتى الفراغ من صلاة العصر كما فعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع تميم وزميله ، ولأن هذا وقت القضاء والفضل في الدعاوى ، وانظر إلى اختيار الزمان والمكان وصيغة القسم ونظامه ، فيقسمان باللّه أنهما ما كذبا وما بدلا ، وأن ما شهدا به هو الحق وما كتما من شهادتهما ولا غيّرا ، ويقسمان إنا لا نشتري بيمين اللّه ثمنا حقيرا من متاع الدنيا الفاني. ولو كان المقسم له من أقاربنا.
إنا إذا كتمنا أو غيرنا وبدلنا لنكونن من الآثمين المستحقين عقاب اللّه في الدنيا والآخرة.
فإن عثر على أنهما استحقا إثما بكذبهما وخيانتهما بعد ذلك كما حصل في قصة بديل السابقة ، فالواجب حينئذ أن ترد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له الأقربين منه الأحقين بالإرث ، فيقسمان باللّه لشهادتنا ويميننا أحق وأصدق من أيمان اللذين حضرا الوصية ، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة ، إنا إذا حصل منا شيء من هذا ، وتعدينا الحق وجاوزناه ، فحلفنا مبطلين كاذبين لنكونن من الظالمين لأنفسنا بتعريضها لسخط اللّه وعقابه.
ذلك الذي شرعناه من هذا النظم جميعا أدنى الطرق وأقربها إلى أن يؤدى الشهداء الشهادة على وجهها بلا تحريف ولا تبديل ، وأن يخافوا من الفضيحة التي تعقب استحقاق الإثم برد أيمان الورثة بعد أيمانهم فإنها تكون مبطلة لأيمانهم فالواجب أن يخافوا من عقاب اللّه أو من رد الأيمان والفضيحة.(1/575)
ج 1 ، ص : 576
واتقوا اللّه يا عباد اللّه واسمعوا وأطيعوا ، واللّه لا يهدى القوم الظالمين الخارجين عن حدود الشرع أبدا.
من مواقف يوم القيامة [سورة المائدة (5) : آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
المعنى :
يقول اللّه - تعالى - ما معناه : اتقوا اللّه واذكروا دائما يوم يجمع اللّه الرسل يوم القيامة ، فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب لأممهم ، كما إذا سأل الموءودة والمراد من وأدها!! يقول لهم : ماذا أجبتم.
والمعنى : أى إجابة أجبتم بها ؟ أإجابة إيمان وإقرار أم إجابة كفر واستكبار ؟
وليوم القيامة مواقف ، فتارة تشهد الرسل على أممهم ، وتارة يسأل اللّه الأمم فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. « 1 »
واللّه يسأل الرسل فيقولون : لا علم لنا ، أى : بالنسبة إلى علمك فأنت تعلم السر وأخفى ، إنك أنت علام الغيوب ، وقال ابن عباس : المعنى : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا إنك أنت علام الغيوب.
ونقل أن ما يفاجئهم من هول ذلك اليوم وفزعه يذهلهم عن الجواب ، إذ ينسون أكثر الأمور. لا عِلْمَ لَنا وإذا ما هدأ روعهم ، وسكنت نفوسهم بعض الشيء يشهدون على أممهم ، وإذا كان هذا حال الأنبياء ، فكيف يكون حالنا نحن ؟ حقيقة إنه يوم الفزع الأكبر يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ للّه ، ومن هنا ظهرت المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها ، فهي تخويف وبيان أن اللّه عالم فلا تكتموا شيئا.
___________
(1) سورة الأعراف آية 27. [.....](1/576)
ج 1 ، ص : 577
معجزات عيسى عليه السلام [سورة المائدة (5) : الآيات 110 الى 111]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)
المفردات :
بِرُوحِ الْقُدُسِ : جبريل - عليه السلام - الذي يؤيد به اللّه رسله بالتعليم والتثبيت ، وقيل : روح عيسى الطاهرة القوية. فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا : في حالتي الصغر والكبر والضعف والقوة. الْكِتابَ المراد : كل ما يكتب.
وَالْحِكْمَةَ : العلم النافع. الْأَكْمَهَ من ولد أعمى. سِحْرٌ السحر : هو التمويه والتخييل بالباطل حتى يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته.
بعد أن ذكر اللّه - سبحانه وتعالى - سؤال الأنبياء جملة وجوابهم ، مع الإشارة إلى ما يفيده السؤال والجواب من الإحراج والتوبيخ ، تعرض لعيسى خاصة ، لعل قومه(1/577)
ج 1 ، ص : 578
يعرفون موقفه من اللّه - سبحانه وتعالى - فيرجعوا عن عقائدهم الفاسدة وكل الأمم طعنوا في نبوة أنبيائهم ، أما هؤلاء فتعدى طعنهم إلى اللّه - سبحانه وتعالى - حيث نسبوا له الزوجة والولد.
وقد غالوا في المسيح حتى رفعوه عن درجة الأنبياء بسبب سوء فعلهم في معجزاته.
المعنى :
واذكر يا محمد وقت قول اللّه : يا عيسى ابن مريم : اذكر نعمتي عليك حيث اصطفيتك بالرسالة ، وشرفتك بالنبوة ، وكنت من غير أب ، فكنت آية على قدرة اللّه ، واذكر نعمتي على والدتك النقية الطاهرة ، مريم البتول التي برأتها مما نسب إليها ، وشرفتها بنسبة عيسى لها.
اذكر يا عيسى ابن مريم نعم اللّه عليك إذ أيدك بروح القدس جبريل ، علمك وثبتك ، ولقنك الحجة بأمر اللّه وإذنه ، وأيديك بروح طاهرة قوية ، فصرت بهذا تكلم الناس صبيًّا في المهد ، وتكلمهم كبيرا مكتمل القوى العقلية والرجولة الكاملة ، تدعو اللّه وتبرئ أمك فكنت مؤيدا في كل وقت فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [سورة مريم الآيات 29 - 31].
واذكر نعمتي عليك إذا علمتك قراءة الكتاب ، وعلمتك الحكمة والعلم النافع في الدنيا والآخرة. خاصة التوراة والإنجيل.
واذكر نعمتي عليك إذ تخلق من الطين صورة كصورة الطير فتنفخ فيها فتكون طيرا له روح وحركة ، بإذن اللّه وإرادته ، لا بقدرتك أنت ، ولكنها المعجزة جرت على يدك بأمر اللّه ، شأنك في هذا شأن جميع الرسل ، وإذ تبرئ الأكمه والأبرص بإذن اللّه ، وإذ تخرج الموتى من قبورهم فيحيون بأمر اللّه وإذنه.
فهذا عيسى وهذه معجزاته كلها بأمر اللّه وإذنه وفي الإنجيل يقول عيسى : « أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي وأنا أعلم أنك في كل حين تسمع لي ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ، ليؤمنوا أنك أرسلتنى » .(1/578)
ج 1 ، ص : 579
واذكر يا عيسى إذ كففت ومنعت عنك بنى إسرائيل وقت أن جئتهم بالبينات الواضحات وقد حاولوا قتلك وصلبك ، ومكروا ومكر اللّه ، واللّه خير الماكرين ، قد نجاك اللّه منهم ، وكفهم عنك ، فما قتلوك وما صلبوك ولكن توفاك ورفعك إليه وطهرك من الذين كفروا ، وكل ما فعلوه قولهم : ما هذا إلا سحر مبين ، وتلك حجة العاجزين.
واذكر إذ أوحيت إلى الحواريين أصحابك وألهمتهم أن يؤمنوا بي وبرسولي عيسى بن مريم ، فآمنوا ، وقالوا : آمنا باللّه وبرسوله واشهد بأننا مسلمون ومنقادون للّه في السر والعلانية.
وهكذا منّ اللّه على عيسى وفضّله وكرّمه ، وجعل له أنصارا وأتباعا وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه واسع عليم.
قصة المائدة [سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)(1/579)
ج 1 ، ص : 580
المفردات :
الْحَوارِيُّونَ : الأصحاب الخلّص للمسيح. مائِدَةً : هي الخوان الذي عليه الطعام أو الخوان نفسه. اللَّهُمَّ : يا اللّه. عِيداً : فرحا وسرورا ، أو يوما يجتمع الناس فيه للعبادة كعيد الفطر مثلا يعود كل سنة.
قصة المائدة عبرة وعظة ، لمن يطلب من اللّه آيات غير التي أنزلت ، وعاقبة ذلك ، وهي في الجملة تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبيان لطبائع الناس وسيرتهم مع أنبيائهم.
المعنى :
واذكر وقت قول الحواريين لعيسى بن مريم. والمراد في مثل هذا التركيب ذكر ما حصل في الوقت لا نفس الوقت.
قال الحواريون وهم المؤمنون الخلص ردّا على عيسى حين قال : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [ال عمران آية 52] ومع هذا قالوا : هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ!! وهذا سؤال لا يليق بهم قطعا!! ولذا خرجه العلماء على وجوه أحسنها أنّ (يستطيع) بمعنى يطيع ، كاستجاب بمعنى أجاب ، أو المعنى : هل تستطيع أمر ربك أى : سؤاله ، وقيل : إنه سؤال عن الاستطاعة على حسب الحكمة الإلهية ، أى : هل ينافي الحكمة إنزال المائدة أم لا ؟ فإن ما ينافي الحكمة لا يقع قطعا وإن كان ممكنا.
ولذا قالوا معتذرين عن إيراد السؤال بهذه الصورة : نريد أن نأكل منها فنحن في حاجة إليها ، ونحن إذا أكلنا تطمئن قلوبنا وتهدأ نفوسنا ، ونعلم أن قد صدقتنا في أن اللّه تعالى أرسلك نبيا ، واختارنا أعوانا لك وقد رضى عنا بإجابة سؤالنا.
ونكون عليها من الشاهدين بالوحدانية ، ولك بالرسالة والنبوة إذ هي كالدليل على ذلك.
قال عيسى ابن مريم : يا ربنا يا مالك أمرنا ، ومتولّى شئوننا : أنزل علينا مائدة من السماء يراها هؤلاء ، وتكون لنا معشر المؤمنين مصدر فرح وسرور ، ويوم نزولها نتخذه عيدا نجتمع فيه للعبادة والشكر ، ويعود علينا كل عام باليمن والإقبال(1/580)
ج 1 ، ص : 581
وجودا وآخرنا كذلك ، وتكون آية منك ، ودلالة وحجة ترشد القوم إلى صحة دعوتي ، وصدق رسالتي ، وارزقنا ما به نقيم أودنا ، ونغذي أجسامنا وعقولنا فأنت خير الرازقين ، ترزق من تشاء بغير حساب.
قال اللّه تعالى : إنى منزلها عليكم وقد نزلت إذ وعده الحق وقوله الصدق.
فمن يكفر بعد نزول الآية المقترحة فإنى أعذبه عذابا شديدا لا أعذب هذا العذاب لأحد من العالمين ، إذ اقتراح آية بعد الآيات الكثيرة التي نزلت كهذه المائدة آية يشترك في إدراكها جميع الحواس ، ثم بعد هذا يكفر بها ويستهزأ ، فإنه يستحق من اللّه عذابا دونه عذاب الكفار جميعا.
وورد في قصة المائدة روايات كثيرة عن شكلها ولونها وطعمها. والظاهر - واللّه أعلم - أنه كان لخيال الإسرائيليين فيها نصيب ، ونحن نلتزم حدود القرآن والسنة الصحيحة وفقنا اللّه إلى الصواب.
تخلص عيسى مما ادعته النصارى [سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 120]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (120)(1/581)
ج 1 ، ص : 582
المفردات :
ما فِي نَفْسِي المراد : تعلم سرى ولا أعلم سرك. شَهِيداً : حفيظا بما أمرتهم. الرَّقِيبَ : من المراقبة ، وهي المراعاة ، والمراد الحافظ لهم والعالم بهم.
هذا سؤال من اللّه - عز وجل - لعيسى خاصة حتى يجيب فتكون إجابته توبيخا لمن ادعى غير إجابته ، ودليلا على أن قومه غيروا بعده وبدلوا وادعوا عليه كذبا وبهتانا لم يقله ، وإنكاره بعد سؤاله أشد في التوبيخ وأبلغ في التكذيب.
المعنى :
واذكر يا محمد وقت قول اللّه لعيسى بن مريم : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين متجاوزين بذلك توحيد اللّه وإفراده بالعبادة والتقديس ؟ ! فاللّه يسأل للإنكار والتوبيخ ، أقالوا هذا القول وافتروا هذه الفرية بأمر منك أم هو افتراء واختلاق من عند أنفسهم ؟
واتخاذ الآلهة من دون اللّه يكون بعبادتهم ، أو إشراكهم في العبادة ، على معنى أن لهم تصريفا أو أنهم يقربون إلى اللّه زلفى ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى « 1 » .
وقد نعى اللّه - سبحانه وتعالى - على المسيحيين اتخاذهم المسيح إلها وكذا أمه ، وعبادته وأمه معروفة في الكنائس الشرقية والغربية. نعم قد أنكرت فرقة البروتستانت عبادة أمه.
وما العقيدة الجديدة التي أثبتها بابا روما في هذه السنين ورد عليه بعض العلماء ببعيدة.
___________
(1) سورة الزمر آية 3.(1/582)
ج 1 ، ص : 583
ولا أدرى أظل الدين ناقصا حتى كمل في القرن العشرين ؟ ؟
أم أن رجال الدين عند المسيحيين لهم حق المحو والإثبات في العقائد! اللّه أعلم بذلك ، قال عيسى : سبحانك يا رب! وتنزيها لك وتقديسا! ما يكون لي ، ولا ينبغي لي أن أقول ما ليس بحق أصلا وكيف يصدر هذا منى ؟
وقد عصمتني وأيدتنى بروح من عندك. إن كنت قلته فقد علمته فأنت تعلم الغيب والشهادة ، وتعلم سرى وضميري ، وأنا لا أعلم شيئا مما استأثرت به من بحار علمك إنك أنت علام الغيوب.
يا رب ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به من التوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية :
أن اعبدوا اللّه ربي وربكم فأنا عبد مثلكم إلا أنه قد خصنى اللّه بالرسالة إليكم.
وكنت يا رب قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون وما يفعلون فأقر الحق وأقاوم الباطل ، وقد كانت هذه العقائد الخطيرة غير موجودة في حياتي ، فلما توفيتني ورفعتني كنت يا رب الحفيظ عليهم دوني ، ولا يخفى عليك شيء.
وقد تقدم ما يثبت أن عيسى برىء من التثليث والحلول والإشراك كما وضحنا في الجزء السادس وهذا عيسى في الإنجيل يقول : « وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته » .
وقد فوض أمر هذه الأمة للّه فقال : وإن تعذبهم بمعصيتهم التي لم يتوبوا عنها فهم عبادك.
وإن تغفر لهم سيئاتهم بعد توبتهم وصلاح أمرهم فهم عبادك وأنت العزيز الحكيم في كل صنع.
قال اللّه : هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع الصادقين صدقهم في إيمانهم وشهاداتهم ، لهم في الآخرة جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى اللّه عنهم ، ورضوانه أكبر من كل نعمة وفضل ، ورضوا عنه ، ذلك هو الفوز العظيم.
وكيف لا يكون هذا ؟ وللّه ملك السماوات والأرض وما فيهن من عوالم ، واللّه أعلم بها وهو على كل شيء قدير ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.(1/583)
ج 1 ، ص : 584
سورة الأنعام
آياتها 165 آية وهي سورة مكية إلا بعض آيات قلائل ، وهي سورة جامعة لأصول التوحيد شارحة للعقيدة الإسلامية وخاصة أحوال البعث وإثبات الرسالة وما يتبع ذلك.
وقد تضافرت الروايات على أنها نزلت جملة واحدة ،
فقد روى نافع عن ابن عمر - رضى اللّه عنهما - قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « نزلت علىّ سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد »
ولا مانع في أن يكون بعض آياتها مدنيا ثم وضعه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في موضعه من السورة.
وقال القرطبي : هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعة ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يؤيد نزولها جملة واحدة.
أما مناسبتها : ففي المائدة محاجة أهل الكتاب وفي هذه محاجة المشركين ، والمائدة ذكرت المحرمات بالتفصيل لأنها من آخر القرآن نزولا ، والأنعام ذكرت ذلك جملة.
دلائل الوحدانية والبعث مع شمول العلم [سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)(1/584)
ج 1 ، ص : 585
المفردات :
الْحَمْدُ : هو الثناء الحسن والذكر الجميل. خَلَقَ الخلق في اللغة :
التقدير ، أى : جعل الشيء بمقدار معين على حسب علمه ، وفي أبى السعود : الجعل الإنشاء والإبداع كالخلق ، غير أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والإبداع ، والجعل عام للإنشاء كما في قوله تعالى : وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.
وللتشريع والتقنين كما مر في قوله : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء.
يَعْدِلُونَ : يجعلون له عدلا مساويا وشريكا له منافسا. أَجَلًا الأجل : المدة المضروبة للشيء ، وقضى أجلا بمعنى حكم به وضربه. تَمْتَرُونَ : تشكّون في دلائل البعث والتوحيد.
المعنى :
أثنى اللّه - سبحانه وتعالى - على نفسه ، مما علّم به عباده الثناء عليه ، فالحمد للّه ، وكل ثناء ثابت له ، إذ هو متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص ، وثابت له الخلق والإيجاد ، والإنشاء والإبداع.
وقد وصف - سبحانه وتعالى - هنا بصفتين من موجبات الحمد والثناء ، وهما خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور.
أما خلق السموات والأرض ، وما فيهما من العوالم والنظام ، والتقدير والإحكام فشيء يعترف به المشركون والمؤمنون على السواء وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ « 1 » فهذه السموات وما فيها من نجوم وأفلاك وشموس وكواكب ، كل له مدار ، وله شروق وأفول ، وهذا الهواء المحيط بالأرض ، وهذا الأثير الذي ينقل الصوت ، أليس هذا كله يدل على الوحدة والكمال! الحمد للّه الذي خلق السموات وما فيها وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى!! أما الأرض وما أدراك ما هي ، كوكب سيار وفلك دوار ، كانتا رتقا ففتقناهما وهي معلقة في الفضاء ، وتدور حول الشمس ، وعليها الجبال الرواسي وفيها الأنهار والبحار وعليها نسير وفيها نعيش وهي كروية ، ولا يقع الماء من جوانبها ،
___________
(1) سورة لقمان آية 25 والزمر 38.(1/585)
ج 1 ، ص : 586
ولا يتدفق عند قطبيها ، من الذي خلق هذا وقدره ؟ ؟ إنه هو اللّه الواحد الأحد الفرد الصمد.
الحمد للّه قد جعل الظلمات والنور!! وهل الظلمات والنور في المحسوسات أم هما في المعقولات ، أم اللفظ عام للجميع ؟ .
والقرآن الكريم جرى على جمع الظلمات وإفراد النور لأن ظلمات الشرك والكفر أسبابها وأشكالها وألوانها مختلفة وكثيرة ، أما نور الحق والهدى فطريقهما واحد ، وللظلمات الحسية أسباب لأن الظلمة تحصل بحجب النور بالجسم والأجسام مختلفة وكثيرة ، وللنور مصدر واحد وإن اختلف قوة وضعفا ، وشكلا وصورة.
ثم الذين كفروا بعد هذا كله يعدلون بالوحدانية إلى الشرك ، ويجعلون لمن خلق وأوجد وأنشأ وأبدع شريكا مساويا له كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ، أبعد هذا يكون شك في وحدانية اللّه وكماله ؟ !! ثم استأنف القرآن كلاما خاطب به المشركين والمعاندين مذكّرا لهم بما هو ألصق بهم ، وهو خلقهم من طين أو من ماء مهين ، فهذا أبونا آدم خلق من طين وها نحن أولاء نتكون من منىّ وبويضة ، وهما من دم الذكر والأنثى ، والدم من الغذاء ، والغذاء من الحيوان والنبات وهما يرجعان إلى الأرض ، وقيل : المعنى : خلق أباكم آدم من طين. ثم ضرب لنا أجلا نعيش به في الدنيا إلى وقت محدود فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ « 1 » وهناك أجل آخر مسمى عنده هو أجل الدنيا وانتهاؤها ، ومصيرها إلى الحياة الآخرة لا يعلم به إلا هو ، ولم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [سورة الأعراف آية 187].
ثم أنتم بعد هذا تمترون وتشكّون في خلقكم مرة ثانية ، أى : في البعث ؟ فالذي خلق الجنين في بطن أمه من ماء مهين وجعله يتنفس ولو تنفس بالهواء العادي لمات ، وجعله يتغذى بالدم القذر القاتل ، أليست هذه حياة عجيبة ؟ !!! حقا إنها لعجيبة ، والذي أحيانا على هذا الوضع قادر على إحياء الموتى يوم القيامة.
___________
(1) سورة الأعراف آية 34 والنحل 61].(1/586)
ج 1 ، ص : 587
وهو اللّه في السموات والأرض ، نعم هو اللّه الموصوف بكل كمال ، وخالق السماء والأرض وما فيهما ، هذه حقائق معروفة ، وأمر شهد به الخلق جميعا ، وفي ابن كثير :
معنى هذه الآية : المدعو اللّه في السموات والأرض ، أى : يعبده ويوحده ويقر له بالألوهية من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه اللّه ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر ، وهذه الآية كقوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أى : هو إله من في السماء وإله من في الأرض ، وعلى هذا فقوله تعالى : يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ خبر بعد خبر وصفة أخرى ، وقيل : المعنى : هو اللّه يعلم سركم وجهركم في السموات والأرض ويعلم ما تكسبون ، فهو سبحانه العليم الخبير.
سبب كفرهم وشبهاتهم والرد عليها [سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 9]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8)
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)(1/587)
ج 1 ، ص : 588
المفردات :
مُعْرِضِينَ الإعراض : التولي عن الشيء.
بِالْحَقِّ أى : بالأمر الثابت المتحقق في نفسه ، والمراد به هنا الدين. أَنْباءُ جمع نبأ : وهو الخبر المهم. مِنْ قَرْنٍ القرن من الناس : القوم المقترنون في زمن واحد ، ومدته من الزمن مائة سنة ، وقيل غير ذلك. السَّماءَ المراد : المطر. مِدْراراً : مبالغا فيه في الكثرة والغزارة. كِتاباً : صحيفة مكتوبة. قِرْطاسٍ : الورق الذي يكتب فيه.
وَلَلَبَسْنا اللبس : الستر والتغطية ، والمراد : جعلنا أمرهم يلتبس عليهم فلا يعرفونه.
ما تقدم من الآيات كان في إثبات الوحدانية ، وكمال الربوبية للّه - سبحانه وتعالى - وإثبات البعث ، وأن اللّه الذي يعترفون له بخلق السموات والأرض هو الإله المعبود بحق ، المحيط علما بكل شيء لا إله إلا هو!!! ولكنهم أشركوا باللّه وكذبوا رسله ، ولم يؤمنوا بهذه الآيات الكونية ولا الآيات القرآنية التي تناديهم ليصدقوا بها ويصدقوا برسولها صلّى اللّه عليه وسلّم وهذه الآيات تشير إلى سبب التكذيب والكفر!!
المعنى :
وما تأتيهم أية آية من آيات ربهم الذي رباهم ، وتعهدهم في حالتي الضعف والقوة ، وكفل لهم الرزق ، وآتاهم من كل شيء ، وكفل لهم جميع ما في الأرض ، ما تأتيهم آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأنبياء آية 2].
فهم لم ينظروا نظرة اعتبار وتأمل ، ولم يجردوا أنفسهم من قيد التقليد ، وحمى العصبية ، وحماقة الجاهلية ، فهم إذا أتتهم آية أعرضوا وقالوا : سحر مستمر وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. [سورة الأعراف آية 132].
فبسبب هذا قد كذبوا بالحق والدين الصدق ، الذي دعا إليه القرآن الكريم وجاء به النبي الأمين : من الدعوة إلى العقائد الصحيحة ، والآداب الكريمة ، والمثل العليا ، ولكون الإعراض طبيعة فيهم وغريزة كذبوا بسرعة فائقة عقب الدعوة مباشرة ، وكانت(1/588)
ج 1 ، ص : 589
عاقبة أمرهم خسرا ، وسوف يأتيهم أخبار وأحوال الذين كذبوا به وهو القرآن ، سيأتيهم نبأ هذا التكذيب وعاقبته وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ « 1 » وقد أتى حيث هزموا بغزوة بدر ، وجاء نصر اللّه والفتح ودخل الناس في دين اللّه أفواجا ، هذا في الدنيا!! وقال الرازي في تفسيره : كان حال هؤلاء في كفرهم على ثلاث مراتب : إعراض عن التأمل ، ثم تكذيب ، وثالثة الأثافى استهزاء بآيات اللّه وكلامه.
عجبا لهؤلاء!! ألم يعلموا نبأ من كان قبلهم ، وكيف كان مآلهم ؟ ! .. كم أهلكنا من قبلكم من قوم أعطيناهم ما لم نعط لكم ومكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ، أفكان هذا كله مانعا لنا من إنزال العقوبة الصارمة بهم لما أعرضوا وكذبوا واستهزءوا ؟ ؟ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ « 2 » لا هذا ولا ذاك!! ألم تروا قوم عاد وثمود ، وقوم فرعون وإخوان لوط ؟ !! إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ « 3 » والمسلمون اليوم أخوف ما أخاف عليهم هذا الإعراض عن آيات اللّه والتكذيب لها عمليا ، أخاف عليهم أن يحيق بهم عاقبة أمرهم فتلك سنة اللّه ولن تجد لسنة اللّه تبديلا.
كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يضيق ذرعا بقومه من جراء تكذيبهم وعنادهم فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ « 4 » وكانوا يكثرون في طلب الآيات الخاصة ، فرد اللّه عليهم بما ألزمهم.
ولو نزلنا عليك يا محمد كتابا مكتوبا من السماء في قرطاس وفيه دعوتهم إلى الدين بالحجة لما آمنوا به ولما صدقوك في ذلك بل ولقالوا : ما هذا إلا سحر وخيال ظاهر ليس فيه حقيقة ، وانظر إلى تعبير القرآن الكريم : نَزَّلْنا بالتشديد ، وقوله كِتاباً فِي قِرْطاسٍ والكتاب لا يكون إلا فيه ، ثم قوله : فلمسوه بأيديهم ، وقلبوا فيه وبالغوا في
___________
(1) سورة هود آية 8.
(2) سورة القمر آية 43.
(3) سورة البروج الآيات 12 - 14.
(4) سورة هود آية 12.(1/589)
ج 1 ، ص : 590
ذلك ، كل هذه أساليب تفيد المبالغة وتأكيد النزول وتأكدهم منه ، ومع هذا يقولون :
إن هذا إلا سحر مبين.
وكان الكفار قد اقترحوا اقتراحين ، أولهما : أن ينزل على الرسول ملك من السماء يرونه ويكون معه نذيرا ومؤيدا له ونصيرا ، وذلك أنهم يفهمون أن الرسول بشر والرسالة تتنافى مع البشرية ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ « 1 » . وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [سورة الفرقان آية 7].
وقد حكى اللّه عنهم هذا كثيرا في سورة هود وإبراهيم وغيرهما.
وقد رد اللّه اقتراحهم هذا بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لقضى الأمر وهلكوا ثم لا ينظرون ولا يمهلون إذ جرت سنة اللّه في خلقه ، إذا تعصب قوم وطلبوا آية غير التي أنزلت إليهم ، وأجيبوا إلى طلبهم ، ثم لم يؤمنوا ، يهلكهم اللّه بعذابه ويقضى عليهم.
وهؤلاء من أمة الدعوة المحمدية ، وقد قضى اللّه ألا يهلكهم بعذاب الاستئصال تكريما للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعسى أن يأتى من نسلهم من يعبد اللّه حقا ، وقد كان هذا.
الاقتراح الثاني : هلا نزّلت الملائكة علينا بالرسالة ، وكان الرسول ملكا لا بشرا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً « 2 » فأنت ترى أن اقتراحهم الثاني مبنى على الغرور الكاذب والجهل الفاضح وأن هذا النبي الأمين الصادق الكريم لا يستحق هذه الرسالة فإن كان ولا بد من إرسال بشر فنحن أولى منه وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا « 3 » .
فيرد اللّه عليهم : لو جعلنا الرسول ملكا لجعلناه رجلا حتى يمكن التفاهم معه والأنس به ومخاطبته ، ولو جعلناه بشرا لعاد الأمر كما كان وللبسنا عليهم واختلط الأمر عندهم ، فإن هذا الرجل سيقول لهم : إنى رسول اللّه كما يقول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أما اختصاص محمد دون غيره بالرسالة وتشريفه بالنبوة فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
___________
(1) سورة المؤمنون آية 33.
(2) سورة المؤمنون آية 24.
(3) سورة الزخرف آية 31 - 32.(1/590)
ج 1 ، ص : 591
تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم [سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
المفردات :
اسْتُهْزِئَ الاستهزاء : السخرية والاستخفاف والاحتقار ، ويتبع ذلك غالبا الضحك. فَحاقَ : أحاط بهم فلم يكن لهم منه مخرج.
المعنى :
يخبر اللّه - سبحانه وتعالى - نبيه الكريم بصيغة القسم ، أن الكفار قد استهزءوا قديما برسل كثير عددهم ، عظيم شأنهم ، رسل من قبلك ، فليس استهزاؤهم بك بدعا ، بل أنت مسبوق في ذلك ، فلا تحزن عليهم ، ولا تك في ضيق مما يفعلون ، فهذا شأن الكفار قديما وحديثا.
واعلم أنه قد أحاط بهم فلم يكن لهم منه مخرج ، وليس لهم مفر ولن يفلتوا من عاقبة فعلهم أبدا.
فالآية إرشاد للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ببيان سنة اللّه في الخلق وأن العاقبة للمتقين ، وأن العذاب والخزي للكافرين والمستهزئين إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. [سورة الحجر آية 95].
وإن ارتاب المشركون في ذلك فقل لهم : سيروا في الأرض ، وتنقلوا فيها لتقفوا بأنفسكم على تاريخ من سبقكم من عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وإخوان لوط (فما راء كمن سمعا) سيروا في الأرض ثم انظروا واعتبروا ، كيف كان عاقبة المكذبين ؟ ؟(1/591)
ج 1 ، ص : 592
أسلوب آخر في إثبات الوحدانية والبعث [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 16]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
المفردات :
كَتَبَ : فرض وأوجب على نفسه. لَيَجْمَعَنَّكُمْ المراد : ليحشرنكم.
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ المراد بالخسارة هنا : ترك ما يقتضيه العقل والعلم.
ما سَكَنَ من السكون أو السكنى ، والمراد : عدم الحركة. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ : منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق. يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ :
يبعد عنه. رَحِمَهُ : أنجاه من الهول الأكبر.
ها هو ذا القرآن الكريم يعود إلى إثبات الوحدانية للّه والكمال له. وإثبات البعث والجزاء بأسلوب آخر ، ونمط عال في الأداء ، طرقا للسمع من جميع الأنحاء حتى لا يمل السامع مع زيادة التكرير والتثبيت فهذا هو المقصود المهم والهدف المرجو للقرآن الكريم.(1/592)
ج 1 ، ص : 593
المعنى :
قل لهم يا محمد : لمن ما في السموات والأرض ؟ ولمن هذا الكون وما فيه ؟ ولمن هذا الوجود وما يحويه ؟ لمن هذه السماء وقد ازينت! وهذه الكواكب وقد انتثرت!! ولمن هذه الأرض وقد مدت وفيها الأنهار الجواري والجبال الرواسي والعوالم التي لا يحيط بها إلا خالقها!! قل لهم : هذا كله للّه واهب الوجود ، الكبير المعبود. مالك الملكوت ، ذو الرحمة والجبروت ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وهذا سؤال ، وجوابه قد أمر به صلّى اللّه عليه وسلّم في القرآن لأنه هو الجواب المتعيّن ، ولا يمكن لمنصف أن ينكر هذا أبدا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ « 1 » فهم معترفون بهذا ولكن لسوء تفكيرهم يقولون في الأصنام : ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى « 2 » فبئس ما يصنعون ، على أن السؤال وجوابه كان تبكيتا لهم وتوبيخا ، وقد بنى عليه شيء آخر من لوازمه ، وقد يجهله المسئولون أو ينكرونه لعنادهم وحماقتهم.
فاللّه الذي برأ السموات والأرض ، وله كل ما فيهما مما لا نعلم عنه إلا قليلا ، وكالذرة بالنسبة للجبال الشم ، وقد أوجب على نفسه ، وقوله عَلى نَفْسِهِ لتأكيد الوعد وتحقيقه. أوجب الرحمة على عباده إذ هو الرحمن الرحيم ، ليجمعنكم ليوم القيامة جمعا لا شك فيه ولا ريب ، أو أنه ليجمعنكم ليوم لا ريب فيه ولا شك ، نعم يجمعنا ويحشرنا لنأخذ الجزاء على أعمالنا فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ « 3 » ، وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى « 4 » والثواب والعقاب على الأعمال من مظاهر الرحمة بالخلق ، حتى يعرف الخلق ذلك ، ومتى علم هذا كف باغي الشر عن شره ، وأسرع باغي الخير في عمله ، مع أنه ليس من العدل والرحمة ألا يجازى المحسن على إحسانه وألا يعاقب المسيء على إساءته. وكذلك من مظاهر الرحمة هدايتنا إلى معرفته ونصب الأدلة على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض.
___________
(1) سورة لقمان آية 25.
(2) سورة الزمر آية 3.
(3) سورة الزلزلة الآيتان 7 و8.
(4) سورة النجم آية 31. [.....](1/593)
ج 1 ، ص : 594
وقد سبقت رحمته غضبه وزادت عليه فهو يجازى الحسنة بعشر أمثالها وقد تضاعف أضعافا لمن يشاء ، والسيئة بمثلها فقط مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [سورة الأنعام آية 160].
وأخص هؤلاء الذين خسروا أنفسهم ممن يجتمعون ليوم القيامة ، وهم من فسدت فطرتهم ، وساءت نفوسهم فلم يهتدوا بنور الدين ، وحرموا أنفسهم من النظر والتفكير في هذا الكون وآياته. بعين العقل والحكمة ، وإنما أعماهم التقليد وسوء الرأى وحمى العصبية وداء الحسد عن النظر الصحيح والفهم السليم ، ولم تكن لهم عزيمة صادقة وإرادة حازمة ، تجعلهم يتركون ما كان عليه الآباء إلى ما وافق العلم والعقل والرأى ، نعم هؤلاء الذين خسروا أنفسهم ، فهم لا يؤمنون أبدا بالبعث والثواب والعقاب.
للّه ما في السموات وما في الأرض ، وله ما سكن في الليل والنهار ولم يتحرك ، وله ما تحرك ولم يسكن ، فهو المتصرف تصرفا كاملا في كل شيء خاصة ما سكن وخفى في الليل ومن باب أولى ما تحرك وظهر في النهار.
فأنت معى أن القرآن الكريم تعرض لجميع الأمكنة في السموات والأرض ولكل الأزمنة في الليل والنهار وهذه إشارة إلى كما إحاطته وتمام تصرفه ، وهو السميع لكل قول ودعاء العليم بكل فعل ونية.
وهذا يقتضى عدم اتخاذ الأولياء من دون اللّه.
قل لهم يا محمد : أغير اللّه أتخذ وليّا ينصرني ؟ أو يدفع ضررا عنى ، أو يجلب خيرا لي ؟ والاستفهام لإنكار اتخاذ غير اللّه وليّا من الأصنام والشفعاء ، أما اتخاذ الأصحاب والأصدقاء من المؤمنين فلا شيء ما دام في حدود كسبه وتصرفه الذي منحه اللّه لبنى جنسه.
قل لهم : أفغير اللّه تأمرونى أعبد أيها الجاهلون ؟ أغير اللّه فاطر السموات والأرض ومبدعهما لا على مثال سابق ، أغير اللّه أتخذه وليّا يلي أمورى ؟ فإن من فطر السماء والأرض وأبدعهما من غير تأثير ولا شفيع يجب أن يخص بالعبادة وحده إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ واللّه - سبحانه وتعالى - يطعم ويرزق الناس وليس في حاجة إلى أحد ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات 57] وفي هذا تعريض بمن يتخذون من(1/594)
ج 1 ، ص : 595
العبادة آلهة وهم محتاجون إلى الطعام وما يتبعه من الحاجة إلى الخلاء ، أما من يعبد غير الإنسان فعبادته ضرب من الخبل والجنون ، أما وقد ظهرت هذه الحقائق بادية للعيان ، فقل لهم يا محمد : إنى أمرت أن أكون أول من أسلم وجهه للّه وانقاد ، حيث ثبت أن له ما سكن وما تحرك ، وهو السميع البصير ، فاطر السموات والأرض واهب الرزق والحياة ، غير محتاج لأحد ، ليس كمثله شيء ، ولهذا أمرت أن أكون أول من أسلم ، ونهيت عن الشرك باللّه ، وإنى أخاف إن عصيت ربي عذابا عظيما يوم القيامة يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ للّه.
وإذا كان هذا حال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الذي غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر المعصوم خاتم الأنبياء والمرسلين.
فما بالنا نحن وما بالك يا بن آدم ؟ إنك لمسكين مغرور حيث تتعلق بالأوهام والالتجاء لغير اللّه.
من يدفع عنه يومئذ ذلك العذاب فقد رحمه اللّه ونجا فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [سورة آل عمران آية 185] وذلك الفوز هو الواضح العظيم.
من مظاهر القدرة وشهادة اللّه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم [سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 19]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)(1/595)
ج 1 ، ص : 596
المفردات :
الضر : ضد النفع ، هو ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله.
بِخَيْرٍ : هو ما يرغب فيه الكل وتطمع إليه النفس كالعقل والعلم والعدل. وضده الشر. الْقاهِرُ القهر : الغلبة والإذلال معا. شَهادَةً : هي إخبار عن علم ومعرفة واعتقاد مبنى على المشاهد بالبصر أو البصيرة.
المعنى :
يقول اللّه - سبحانه وتعالى - ما معناه : وإن يمسسك اللّه بضر من ألم أو فقر أو مرض أو أى مصيبة تحصل للإنسان فلا كاشف له ولا مزيل إلا هو - سبحانه وتعالى - إذ هو القادر على كل شيء ، فيجب على المسلم ألا يتوجه لغيره إذ بيده وحده إزالة الضر وجلب النفع ، والضر يزيله اللّه بتوفيق عبده لسلوك الطرق المنتجة المعروفة ، وقد يزيله بلا عمل من الإنسان أصلا ، وهو الحكيم الخبير بخلقه ، وإن يمسسك بخير من غنى أو صحة أو مال ، فهو من عنده وحده إذ لا يقدر على ذلك إلا هو - سبحانه وتعالى - وهو على كل شيء قدير ، وفي مقابلة الخير بالضر إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان في الدنيا ليس شرّا بل قد يكون فيه نفع .. وبعد أن أثبت اللّه لنفسه كمال القدرة وعظيم التصرف أثبت له كمال السلطان وتمام القهر والغلبة لعباده حتى يلجأ إليه الكل ويدعونه رغبا ورهبا فقال : وهو القاهر فوق عباده ، والفوقية هنا فوقية استعلاء بالقهر والغلبة لا فوقية مكان ، كما تقول : السلطان فوق رعيته ، والمراد فوقهم بالأمر والغلبة ، وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة وهو منع غيره من بلوغ المراد إلا بأمره وهو الحكيم في أمره الخبير بخلقه - سبحانه وتعالى - .
وكان المشركون يقولون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم من يشهد لك بأنك رسول اللّه ؟ فنزلت الآية وأمر رسول اللّه أن يسألهم أى شيء أكبر شهادة وأعظمها وأصدقها ؟
ثم أمره بالإجابة فقال : أكبر الأشياء شهادة الذي لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ هو اللّه - تعالى - الشهيد بيني وبينكم ، وأوحى إلىّ هذا القرآن من لدن اللّه لأنذركم به عقاب تكذيبي فيما جئت به. وأنذر من بلغه هذا القرآن في أى(1/596)
ج 1 ، ص : 597
مكان أو زمان حتى تقوم الساعة ، ولهذا كانت رسالته عامة ، وشهادة اللّه للرسول كانت بإخباره بها في كتابه بنحو قوله : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وبتأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن فهو المعجزة الخالدة الدالة على صدق النبي فيما يبلغه عن ربه ، وكذا شهادة الكتب السابقة للنبي وبشارتها له ، ولا تزال هذه البشارة في كتب اليهود والنصارى ، والخلاصة أن شهادة اللّه - تعالى - هي شهادة آياته في القرآن وآياته في الأكوان ودلالة العقل والوجدان اللذين أو دعا في الإنسان.
ثم أمره بالشهادة له بالوحدانية والتبرؤ من الشرك والوثنية.
أإنكم لتشهدون وتقرون أن مع اللّه آلهة أخرى ؟ قل لهم : لا أشهد بهذا أبدا ، قل لهم : إنما إله واحد. وإننى برىء ممّا تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرهما!!
كتمان الشهادة والافتراء على اللّه [سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 24]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
المفردات :
فِتْنَتُهُمْ الفتنة : الاختبار ، والمراد عاقبة الشرك.(1/597)
ج 1 ، ص : 598
روى أن كفار قريش سألوا أهل الكتاب عن رأيهم في النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي دينه. فقالوا :
ليس في التوراة والإنجيل شيء يدل على نبوته
،
وقد شهدوا له بالرسالة والصدق قبل أن يثبت كذب أهل الكتاب في شهادتهم ومن هنا كانت المناسبة.
وقد روى أن عمر بن الخطاب لما قدم المدينة سأل عبد اللّه بن سلام عن هذه المعرفة فقال : يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني .. وأشهد أنه حق من عند اللّه. واستطرد الكلام إلى بعض مواقف المشركين.
المعنى :
الذين آتيناهم الكتاب قديما وهم اليهود والنصارى يعرفون محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين كما يعرفون أبناءهم أو أشد ، يعرفونه بما عندهم من نعته ، وما ثبت من صدقه ، وبالدلائل التي ظهرت معه. ولكنهم أنكروا كما أنكر المشركون والسبب أنهم خسروا أنفسهم واشتروا الضلالة بالهدى ، لم تكن عندهم عزيمة صادقة تدفعهم إلى الإيمان وترك العصبية الجاهلية ولذلك فهم لا يؤمنون أبدا بالقرآن وبالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعنادهم وحسدهم لا لجهلهم به ، ولا أحد أظلم من شخص افترى على اللّه كذبا ، واختلق بهتانا حيث قال : إن للّه شريكا وله ولد ، والملائكة بنات اللّه ، وحرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكذب بالقرآن ، وآياته البينات ، وكذب بالآيات الكونية التي تدل على وحدانية الصانع وأن الدنيا لم تخلق عبثا ، أما جزاء هؤلاء فإنه لا يفلح الظالمون أبدا في الدنيا والآخرة.
وذكّرهم أيها الرسول يوم نحشرهم جميعا لا فرق بين ملة وملة إذ الكفر ملة واحدة ثم نقول للذين أشركوا : أين شركاؤكم ؟ ! الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء للّه ، وتدعونهم كما تدعون اللّه ، وتلجئون إليهم كما تلجئون إلى اللّه.
والسؤال للتبكيت والتأنيب!! ثم لم تكن عاقبة الشرك ونتيجته التي رأوها ماثلة للعيان يوم القيامة إلا قولهم : واللّه ربنا ما كنا مشركين أبدا. نعم وصلت حالهم إلى الإنكار والكذب بعد ما كانوا معتزين بالشرك وبدين الآباء والأجداد.(1/598)
ج 1 ، ص : 599
عجبا لهؤلاء! أيكذبون على ربهم يوم القيامة ؟ أم هي الدهشة والحيرة والخزي والوبال ؟ فتارة يكذبون وتارة يصدقون ولا يكتمون اللّه حديثا.
انظر كيف كذبوا على أنفسهم ؟ يا له من كذب وخزي وعار! بعد الافتخار والاعتداد بدين الشرك والأوثان ، تعجب كيف كذبوا وضل عنهم ما كانوا يفترونه ويختلقونه ؟
بعض أعمال المشركين [سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
المفردات :
أَكِنَّةً الأكنّة : جمع كنان ، وهو الغطاء والستر. وَقْراً : صمما وثقلا في السمع. آيَةٍ : علامة دالة على صدق الرسول. أَساطِيرُ : جمع أسطورة ، وهي الخرافة. وَيَنْأَوْنَ : يبعدون عنه ويعرضون.
سبب النزول :
روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعقبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم ، يسمعون تلاوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للقرآن فقالوا للنضر - وكان صاحب أخبار - : يا أبا قتيلة ما يقول محمد ؟ ! فقال النضر : والذي جعلها بيته ما أدرى ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم به عن القرون الماضية ، فقال أبو سفيان :(1/599)
ج 1 ، ص : 600
إنى لأراه حقا ، فقال أبو جهل : كلا ، فنزلت
... ولكنا قلنا فيما مضى : إن الصحيح أن سورة الأنعام نزلت دفعة واحدة ... ولعلهم يذكرون حوادث وقعت تتفق مع الآيات.
المعنى :
ومن هؤلاء الكفار فريق يستمع إليك وأنت تقرأ القرآن المحكم الآيات البين المعجزات ، والحال أنا جعلنا على قلوبهم أغطية وستائر تحول دون فهم القرآن الكريم وتدبر معانيه وجعلنا في آذانهم صمما حتى لا يسمعوا آياته سماع قبول وتدبر.
وهذا تمثيل وتصوير لموقفهم من القرآن والنبي حيث قالوا : أساطير الأولين ، وسحر وشعر والنبي ساحر كذاب ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً « 1 » إذ حالهم وما نشئوا فيه وبيئتهم وحبهم للرياسة والجاه وحسدهم للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم كل ذلك كان بمثابة غطاء وحجاب يمنع القلب والسمع من أن يتقبل كلام اللّه وكلام رسوله بقلب فاهم وسمع واع.
ولذلك يقول القرآن فيهم : وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها فهم كفروا بكل آية ومعجزة وذلك لصرف اللّه قلوبهم عن الخير لما أعماهم التقليد عن النظر الصحيح والفهم السليم. وهذه سنة اللّه ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ، حتى إذا جاءوك مجادلين يقول الذين كفروا منهم وكذبوا : ما هذا إلا خرافات وترهات فهم لم يكتفوا بالتكذيب بل وصفوه بأحط الأوصاف حيث قالوا : أساطير الأولين.
وهم ينهون الناس عن القرآن حتى لا يسمعه أحد ، ويصدون عن سبيل اللّه. وهم ينأون عنه ويبتعدون بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم منه وتأكيدا لنهيهم عنه ، وما يهلكون إلا أنفسهم فقط وما يشعرون.
___________
(1) سورة الكهف آية 5.(1/600)
ج 1 ، ص : 601
من مواقف المشركين يوم القيامة [سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 32]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
المفردات :
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يقال : وقف على الشيء : عرفه وتبينه ، ووقف نفسه على الشيء : حبسها ، ومنه : وقف العقار على الفقراء. بَدا لَهُمْ : ظهر ووضح.
السَّاعَةُ : هي الوقت المحدد المعروف ، وتطلق في لسان الشرع على الوقت الذي ينقضي به أجل الدنيا وتبدأ به الحياة الأخرى. بَغْتَةً : فجأة يا حَسْرَتَنا الحسرة : الندم على ما فات كأن المتحسر قد انحسر وانكشف عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه. ما فَرَّطْنا التفريط : التقصير في الشيء مع القدرة على فعله.
أَوْزارَهُمْ : جمع وزر ، وهو الحمل الثقيل ، ويطلق في لسان الشرع على الإثم(1/601)
ج 1 ، ص : 602
والذنب كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل ظهره. لَعِبٌ : هو العمل الذي لا يقصد به جلب نفع أو دفع ضر. لَهْوٌ : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه.
المعنى :
هؤلاء المشركون أمرهم عجيب حقا ، فإنك تراهم في الدنيا يكفرون بالقرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويستهزئون به وبدينه ، ولا يؤمنون بالبعث وتوابعه ويفاخرون بذلك ، ولو ترى إذ يقفون على النار حتى يعاينوا ويطلعوا عليها ويتبينوها أو يدخلوها فيعرفون كنهها ويتلظون بنارها. لرأيت شيئا عجيبا تقف العبارة دون وصفه .. وهم إذ وقفوا عليها وظنوا أنهم مواقعوها حتما. قالوا : يا ليتنا نرد إلى الدنيا ولا نكذب بهذه النار وما يتبعها من أمور البعث والجزاء أو لا نكذب بأية آية من آيات ربنا ، ونكون من المؤمنين باللّه المصدقين برسله وآياته (بل) إضراب إبطالى لهذا التمني السابق على معنى (لا) لا. ليسوا صادقين في هذا التمني والرغبة في الإيمان أصلا ، بل لأنهم ظهر لهم وبدا ما كانوا يخفونه ويكفرون به من أمور البعث والنار التي وقفوها عليها إذ من يكفر بأمر يخفيه ولا يظهره ، ومن يؤمن به يبديه ولا يكتمه ، والكلام في النار والعرض عليها.
ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والعناد وعدم الإيمان ، وإنهم لقوم طبعهم الكذب وديدنهم العناد ، ولو ردوا إلى الدنيا لقالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط وليست لنا حياة أخروية أبدا ، وما نحن بمبعوثين وهكذا القوم الماديون لا يؤمنون بالغيب ، ولا يرجى منهم خير أبدا.
ولو ترى هؤلاء المشركين المكذبين حين تقفهم الملائكة ، وتحبسهم ليحاسبهم ربهم ، ويحكم فيهم بما أراد يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ « 1 » لو رأيت هؤلاء حينئذ لهالك أمرهم واستبشعت منظرهم ورأيت ما لا تؤديه عبارة ولا يحيط به وصف وكأن سائلا سأل وقال : ماذا قيل لهم حينئذ ؟ فأجيب قال لهم ربهم تبكيتا وتأنيبا : أليس هذا الذي أنتم فيه من أهوال الآخرة هو الحق لا شك فيه ؟ قالوا : بلى نعم هو الحق لا شك فيه وربنا ، قال لهم ربهم : فذوقوا ألم العذاب المر الذي تجدونه كما يجد من يذوق الشيء من قوة الإحساس والإدراك ، كل ذلك بسبب ما كنتم تكفرون به
___________
(1) سورة الانفطار آية 19.(1/602)
ج 1 ، ص : 603
وتجحدون في الدنيا ، ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم هذا الإقرار منكم بأنه حق قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه ، وما وعد اللّه به عباده الصالحين ، نعم خسروا نعيم الآخرة وثوابها وسعادة الإيمان ولذته ورضوانا من اللّه أكبر من كل شيء.
وما كان هذا إلا نتيجة لإنكارهم الحياة الأخروية فإن من ينكرها يكون ماديا شهوانيّا ليس له قلب ولا روح وهم كالأنعام بل أضل سبيلا.
قد خسر الذين كذبوا حتى إذا جاءتهم منيتهم مباغتة لهم ومفاجئة قالوا : يا حسرتنا احضرى فهذا أوانك ، يا حسرتنا على ما فرطنا في الحياة الدنيا التي كنا نزعم أن لا حياة بعدها ...
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « من مات قامت قيامته »
فتكذيبهم مستمر إلى موتهم فقط أما خسارتهم فلا حد لها ولا نهاية. وتحسرهم كذلك قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وهم يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ، يحملونها على ظهورهم ، وهذا ما كسبته أيديهم وجنته جوارحهم ، ألا ساء ما يحملون وبئس ما يصنعون.
وأما الحياة الدنيا التي قال عنها الكفار إنه لا حياة بعدها فهي دائرة بين عمل لا فائدة فيه كلعب الأطفال وبين عمل فائدته عاجلة سلبية كفائدة اللهو فمتاعها قليل ، وأجلها قصير ، وحياتها تعب ، وصاحبها في كبد لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ « 1 » . وأما الدار الآخرة فنعم عقبى الدار! نعيمها مقيم وظلها دائم لا همّ فيها ولا نصب ، ولا تعب ولا ألم وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ « 2 » .
___________
(1) سورة البلد آية 4.
(2) سورة الحجر الآيتان 47 و48.(1/603)
ج 1 ، ص : 604
تسلية اللّه لنبيه وسنة اللّه في خلقه [سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 37]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
المفردات :
لَيَحْزُنُكَ الحزن : ألم نفسي يكون عند فقد محبوب أو امتناع مرغوب أو حدوث مكروه. يَجْحَدُونَ الجحود : إنكار ما ثبت في القلب أو إثبات ما نفى فيه. نَبَإِ هو الخبر ذو الشأن العظيم. كَبُرَ يقال : كبر على فلان الأمر ، أى : عظم عنده وشق عليه وقعه. إِعْراضُهُمْ الإعراض : التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه ، أو احتقارا له. أَنْ تَبْتَغِيَ : أن تطلب ما في طلبه كلفة ومشقة من البغي وهو تجاوز الحد ويكون في الخير والشر. نَفَقاً : السرب في الأرض وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج. سُلَّماً : المرقاة من السلامة لأنه هو الذي يسلمك إلى مصعدك. يَسْتَجِيبُ استجاب الدعاء : إذا لباه وقام بما دعاه إليه بالتدريج.(1/604)
ج 1 ، ص : 605
المناسبة :
بعد هذا الحجاج والنقاش ذكر تأثير كفرهم وعنادهم في نفس النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وذكر ما يسليه ببيان ما حصل لغيره من الرسل قديما.
روى ابن جرير عن السّدّىّ أن الأخنس بن شريق وأبا جهل التقيا فقال الأخنس لأبى جهل : يا أبا الحكم خبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيرى ، قال أبو جهل : واللّه إن محمدا لصادق وما كذب قط. ولكن إذا ذهب بنو قصى باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ .
المعنى :
قد نعلم - أيها الرسول - إنه ليحزنك ويؤلم نفسك ما عليه هؤلاء القوم ، وما يقولونه لك من تكذيب وطعن ، وتنفير للعرب عن دعوتك ، وهذه نفسك الطاهرة تتألم ، وقد رأيت عشيرتك وأهلك في ضلال وخسران ، وأنت تدعوهم إلى الهدى والفلاح فلا يسمعون ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، ولا تحزن عليهم ، ولا تك في ضيق مما يفعلون. فإنهم لا يكذبونك فأنت الصادق عندهم الأمين في ناديهم ما جربوا عليك كذبا ولا خيانة ، ولكنهم يعاندون ويستكبرون ، وتدفعهم الإحن والحسد والعصبية الحمقاء ، فهذا أبو جهل يقول : إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به :
فهم لا يكذبون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولكنهم يفهمون خطأ أن ما جاء به من أمور البعث والحياة الأخرى غير مطابق للواقع ، ولا يقتضى هذا أن يكون هو الذي افتراه ، على أنهم ما كذبوه في أنفسهم ولكنهم كذبوه أمام الناس فقط!! وكان إصرارهم على التكذيب مع ظهور المعجزات والآيات تكذيبا لآيات اللّه ، أما أنت أيها الرسول الكريم فلا تحزن عليهم وتذرع بالصبر والسلوان ، واعتبر بمن تقدمك من الرسل الكرام ، فهذه طبيعة الناس قديما وحديثا ، ولقد كذبت رسل من قبلك ، خاصة أولى العزم منهم ، فصبروا على أذاهم إلى أن نصرهم اللّه وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. [سورة البقرة آية 214].
وهذه هي سنة اللّه في الأمم مع رسلهم ، ولن تجد لسنة اللّه تحويلا ، فاصبر كما صبر(1/605)
ج 1 ، ص : 606
أولو العزم من الرسل ، واعلم أن اللّه يدافع عن الذين آمنوا ، وأنه لا مبدل لكلمات اللّه أبدا ولا مغير لوعده.
ولقد جاءك من أخبار المرسلين التي تفيد تكذيب الناس لهم وصبرهم ونصر اللّه لهم إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 51].
وكانوا يقترحون على النبي آيات ويعلقون الإيمان عليها : وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى آخر ما ذكر في الآيات من سورة الإسراء.
فرد اللّه عليهم بما معناه : وإن كان كبر عليك إعراضهم وما يطلبون ، ورأيت أن إتيانهم بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم فيؤمنون ، فإن استطعت أن تبتغى لنفسك نفقا تطلبه في الأرض فتذهب في أعماقها أو سلما في الجو فترقى إلى أطباق السماء فتأتيهم بآية مما اقترحوا فأت بها ، ولكنك رسول والرسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر ، ولا يستطيع إيجاده إلا الخالق ، واعلم أنه لو شاء اللّه لجمعهم على الهدى وما جئت به ولكنه شاء اختلافهم وتفاوتهم واختبارهم وما يترتب على ذلك.
الناس فريقان ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى ، فريق تتلى عليه آيات اللّه فيسمعها سماع قبول ، وينظر إليه نظرة اعتبار وتذكر ، نظرة خالية من الهوى والعناد والاستكبار ، وهؤلاء يستجيبون لما دعاهم اللّه فهم كالتربة الصالحة للإنبات تقبل الماء وتنبت الكلأ.
وفريق تتلى عليه الآيات فيظل متكبرا سادرا في غلوائه ، لا ينظر ولا يعتبر ، ولا يسمع سماع قبول ، وهم موتى القلوب ، وأبعد الناس من الانتفاع بما يسمعون.
هؤلاء يترك أمرهم إلى اللّه فهو الذي يبعثهم بعد موتهم ، فيحاسبهم ويجازيهم ثم إليه يرجعون ، هو القادر على ذلك وحده فلا تبخع نفسك عليهم حسرات ، إذ ليس في استطاعتك هدايتهم ، إنما عليك البلاغ ، وعلى اللّه الحساب ، وقال المشركون المعاندون بعد نزول الآيات تترى التي لو لم يكن فيها إلا القرآن لكفى قالوا : هلا نزل عليه آية من ربه كما اقترحنا ، وقد قالوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ(1/606)
ج 1 ، ص : 607
أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ
« 1 » قل لهم يا محمد سبحان ربي!! كيف تطلبون منى هذه الآيات! وهل أنا إلا بشر ورسول ؟ وليس يقدر الرسول على إنزال آية من الآيات وإنما القادر هو اللّه فقط على إجابتكم لما تطلبون.
وقد مضت سنة اللّه في الأمم أن إجابة المعاندين إلى ما طلبوا لم تكن سببا لهدايتهم أبدا بل كانت سببا في عذابهم واستئصالهم ، فإنزال آية مما اقترحوا لا يكون خيرا لهم بل هو شر ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ، وطلبهم تعجيز للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا للهداية وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ « 2 » .
من دلائل قدرة اللّه وكمال علمه [سورة الأنعام (6) : الآيات 38 الى 39]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
المفردات :
دَابَّةٍ الدبيب : المشي الخفيف ، والدابة : كل ما يدب على الأرض من الحيوان طائِرٍ : كل ذي جناح يطير في الهواء. أُمَمٌ : جمع أمة ، وهي الجماعة يجمعهم أمر كدين أو لغة أو صفة أو عمل.
اللّه - سبحانه وتعالى - على كل شيء قدير ، ينزل الآيات حسب الحكمة والمصلحة ، وها هي ذي مظاهر القدرة وشمول العلم ، وكمال التدبير.
___________
(1) سورة الإسراء الآيات 90 - 93.
(2) سورة القمر آية 2.(1/607)
ج 1 ، ص : 608
المعنى :
لا يوجد نوع من أنواع الدواب التي تدب على الأرض ، ولا نوع من أنواع الطير الذي يطير في الجو إلا وهو أمم مماثلة لكم أيها الناس ، لهم أرزاق وآجال ونظام محكم وطبائع تتلاءم مع خلقتهم وتكوينهم ، فتبارك اللّه أحسن الخالقين! وقد أثبت العلماء الباحثون في طبائع الحيوان أن كثيرا من فصائله أمم لها ملك ومملكة ونظام وقيادة ، وما النحل والنمل عنا ببعيد! وخص دواب الأرض بالذكر لأنها المرئية للكفار ، أما ملكوت اللّه في السموات ففيه ما لا يعلمه إلا اللّه وحده ، وهذه الآية توجه أنظارنا إلى البحث والدرس في طبائع الحيوان والاستفادة من ذلك فقد خلق لنا جميع ما في الأرض لننتفع منه ونسخره لمصلحتنا.
وما فرطنا في الكتاب من شيء أبدا ، ولا قصرنا في أى شيء أبدا ، وقال ابن عباس :
إن المراد بالكتاب هو أم الكتاب (و هو خلق غيبي سجل فيه كل ما كان وما سيكون على حسب السنن الإلهية). وقيل : الكتاب هنا هو علم اللّه المحيط بكل شيء ، شبه بالكتاب لكونه ثابتا لا ينسى. وقيل هو القرآن ، والمعنى : ما تركنا في القرآن شيئا من ضروب الهداية وأصول الأحكام والقوانين : ففي القرآن السياسة العامة الإسلامية من ناحية الاقتصاد والاجتماع والدين ، وفيه الأصول العامة الأخرى للدين كالسنة والقياس والإجماع ، ثم إلى ربهم يحشرون ويجازون على أعمالهم.
والذين كذبوا بآياتنا المنزلة الدالة على كمال القدرة ، وتمام العلم والحكمة صم لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول ، وبكم لا ينطقون بما عرفوا من الحق ، وهم يتخبطون في الظلمات ، ظلمات الجهل والكفر والعادات القبيحة.
من يشاء اللّه يخذله ويضله ولا يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف حيث ثبت في علمه القديم أنه أهل لما هو فيه من شقاء وعذاب.
ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم لأنه أهل لذلك في علمه ، وهكذا كانت الحكمة فيما اختاره اللّه أزلا وفق علمه ، صنع اللّه الذي أتقن كل شيء إنه خبير بعباده بصير بخلقه.(1/608)
ج 1 ، ص : 609
إلى اللّه يلجأ العبد في الشدائد مع ضرب الأمثال بالأمم السابقة [سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 45]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِه ِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
المفردات :
أَرَأَيْتَكُمْ أسلوب عربي يفيد التعجب وأن ما بعده غريب عن الصواب ، والمراد : أخبرونى. فَيَكْشِفُ أى : يزيل ما تدعونه إلى كشفه. بِالْبَأْساءِ :
بالشدة والعذاب والقوة ، وتطلق البأساء على الحرب والمشقة. وَالضَّرَّاءِ : من الضر ضد النفع. يَتَضَرَّعُونَ التضرع : إظهار الضراعة والخضوع بتكلف.
مُبْلِسُونَ : متحسرون يائسون من النجاة. دابِرُ الْقَوْمِ : آخرهم الذي يكون في أدبارهم.(1/609)
ج 1 ، ص : 610
المعنى :
يا أيها الرسول قل لأولئك المشركين : أخبرونى إن أتاكم عذاب اللّه الذي نزل بأمثالكم من الأمم السابقة كالخسف والريح الصرصر والغرق ، أو أتتكم الساعة وهولها ، والقيامة وما فيها ، أخبرونى إن حصل هذا ، أغير اللّه تدعون لينجيكم من هذا العذاب وهوله ؟ ! إن كنتم صادقين في دعوى الألوهية لهؤلاء الأصنام الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ، ولكم شفعاء ، والسؤال للتبكيت والإلزام بل - إضراب لإبطال ما تقدم - إياه وحده تدعون ، وله وحده تتجهون ، وبه وحده تستعينون حتى يكشف عنكم ما ألم بكم من ضر أو مسكم من شدة. يكشف ما تدعون إليه إن شاء كشفه ، وكان فيه حكمة ، وأنتم تنسون ما تشركون ، وتتركون آلهتكم ولا تذكرون في ذلك الوقت إلا اللّه فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ « 1 » .
وذلك أن الإنسان أودع في فطرته توحيده - عز اسمه - وأما الشرك فشيء عارض للإنسان بالتقليد شاغل للذهن بالفساد وقت الرخاء ، حتى إذا جد الجد دعوا اللّه مخلصين له الدين وضل عنهم ما كانوا يعبدون فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ « 2 » .
ثم أخذ القرآن يضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين ، ولكن أممهم عصوا وبغوا ، فأخذناهم بالبأساء والشدائد ، والضراء والمهالك ، عسى أن يكون ذلك رادعا لهم ومؤدبا. فالشدائد قد تربى النفوس وتهذبها ، وتجعل المغرور يراجع نفسه ويفكر في أمره ولذا يقول اللّه : لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ويلجئون ، ومع هذا فكثير من الناس لا تنفعهم هذه الزواجر ولا تردعهم هذه الشدائد.
فهلا تضرعوا حين جاء بأسنا وكانوا خاشعين تائبين ، ولكن أنى لهم هذا ؟ وقد قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة. فلم تؤثر فيهم النذر ، ولم تنفعهم العبر ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ، وبئس ما كانوا يصنعون.
___________
(1) سورة العنكبوت آية 65.
(2) سورة الروم آية 30.(1/610)
ج 1 ، ص : 611
فلما نسوا ما ذكروا به وأعرضوا عما أنذروا به ، فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ناحية ومتعناهم بالحياة الدنيا استدراجا وإملاء نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، بلا إنذار ولا استئذان أخذناهم بغتة فإذا هم متحسرون يائسون من رحمة اللّه فقطع دابر القوم عن آخره حتى لم يبق منهم أحد ، والحمد للّه رب العالمين ، وفي هذا إشارة إلى أن إبادة القوم المفسدين نعمة من اللّه رب العالمين. وأن في الضراء والسراء عبرة وعظة للناس ، وإنما يتذكر أولو الألباب.
من أدلة التوحيد أيضا [سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
المفردات :
نُصَرِّفُ الْآياتِ : نقلبها ونكررها على وجوه مختلفة. يَصْدِفُونَ :
يعرضون عن ذلك. يَمَسُّهُمُ المس : اللمس باليد بما يسيء غالبا من ضر أو شر.
المعنى :
قل يا محمد لهؤلاء المشركين : أخبرونى ماذا أنتم فاعلون ؟ ! إن أخذ اللّه سمعكم ،(1/611)
ج 1 ، ص : 612
وأبصاركم ، وختم على قلوبكم ، إذ هو الذي وهب لكم السمع والبصر والفؤاد ، وإذا سلبها منكم عدتم صما وعميا لا تسمعون قولا ، ولا تبصرون طريقا ، ولا تعقلون نفعا ولا ضرّا ولا حقّا ولا باطلا ، ماذا تفعلون مع آلهتكم التي تدعونهم وترجون شفاعتهم لو فعل اللّه بكم ذلك ؟ من إله غير اللّه يأتيكم بهذا ؟ لا إله إلا اللّه وحده فهو الذي يقدر على ذلك ، ولو كان ما اتخذتموه آلهة تنفع أو تضر لردت عليكم هذا ، وإن كنتم تعلمون بلا شك أنها لا تقدر على شيء أصلا بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه.
فلما ذا تدعونهم ؟ والدعاء عبادة والعبادة لا تكون إلا للّه الواحد القهار ، واهب الوجود ، الحق المعبود ، سبحانه وتعالى!! انظر يا من يتأتى منه النظر كيف يصرف اللّه القول ويكرره بألوان مختلفة ، وعلى أساليب متعددة في غاية الوضوح والبيان ، ثم هم بعد ذلك يعرضون ويصدفون عن النظر إليها بعين بريئة خالية من حجب التقليد ، وغطاء العصبية وداء الحسد.
قل لهم : أخبرونى إن أتاكم العذاب من اللّه كما أتى لمن قبلكم من المكذبين الضالين ، عذاب الخسف والاستئصال والهلاك ، أتاكم هذا العذاب بغتة بلا مقدمات ، أو أتاكم العذاب جهرة وعيانا بمقدماته وأنتم تنظرونه.
أخبرونى ماذا أنتم فاعلون ؟ هل يهلك بهذا إلا القوم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بسلوكهم طريق الشرك والباطل! وما نرسل المرسلين إلا مبشرين من آمن بالثواب ، ومنذرين من عصى بصارم العذاب ولا عليهم شيء بعد هذا أبدا ، سواء عليهم آمن الناس أم كفروا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ « 1 » أما اللّه - سبحانه وتعالى - فهو المجازى.
فمن آمن وأصلح نفسه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ « 2 » .
ومن كذب وتولى ، فإنه يمسه العذاب جزاء كفره وفساده.
وإن أصابه خير في الدنيا فمتاع قليل ، ثم يضطره اللّه إلى عذاب النار وبئس المصير.
___________
(1) سورة الشورى آية 48.
(2) سورة الأنبياء آية 103.(1/612)
ج 1 ، ص : 613
مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام وتبعات الرسالة [سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
المفردات :
خَزائِنُ جمع خزانة ، وهي : ما يخزن فيه الشيء ويحفظ ، والمراد القسم بين الخلق ، وأرزاقهم. الْغَيْبَ : ما غاب عن جميع الخلق واستأثر اللّه بعلمه.
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ : المراد بهما الضال والمهتدى. الولي : الناصر. وَلا تَطْرُدِ الطرد : الإبعاد. بِالْغَداةِ الغداة والغدوة : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. الْعَشِيِّ : آخر النهار ، والمراد جميع الأوقات. فَتَنَّا : ابتلينا واختبرنا. مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ : أنعم اللّه عليهم.(1/613)
ج 1 ، ص : 614
المعنى :
كان لعناد المشركين مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أثر كبير في نفسه ، وكانوا يطلبون منه آيات غريبة جهلا منهم بموقف الرسول ومهمته ورسالته ، فقال اللّه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما معناه. قل لهؤلاء : أنا لا أدّعى لكم أن عندي خزائن اللّه أملكها وأقسمها بين الخلق ، وأتصرف فيها ، ولم أدع أنى أعلم الغيب الذي استأثر اللّه بعلمه فلم يطلع أحدا عليه من رسول أو ملك ، اللهم إلا ما علمه الرسول عن طريق الوحى الإلهى فهو من العلم الضروري لا الكسبي ، ولم أدّع أنى من الملائكة آتى بما لا يأتى به البشر.
والمعنى : لست أدّعى الألوهية أو الملكية حتى تطلبوا منى ما ليس في طاقتي وقدرتي ، وإنما أنا بشر قد شرفني اللّه بالنبوة ، وما أتبع إلا ما يوحى إلىّ فقط ، وهذه الرسالة ليست لي خاصة بل سبقني بها رسل كرام قبلي.
واعلموا أن التصرف المطلق في الكون للّه وحده الواحد القهار ، القادر على أن ينزل الآيات التي تطلبونها وغيرها ، وهو العليم بما كان وما سيكون ، أما الرسول فيبلغ عنه أمر الدين ، وليس قادر على ما لا يقدر عليه البشر من تفجير الينابيع والأنهار ، وخلق الجنات والبساتين ، وإسقاط السماء كسفا والإتيان باللّه والملائكة قبيلا وغير ذلك مما يطلبه المعاندون.
وإذا كان الأنبياء لم يؤتوا القدرة على التصرف فيما وراء الأسباب فمن باب أولى غيرهم من الأولياء الصالحين.
قل لهؤلاء : هل يستوي الأعمى والبصير ؟ والضال عن طريق الحق والهدى والمهتدى إلى سواء السبيل ؟ وكيف يستويان ؟ ، أعميتم فلا تتفكرون فيما أذكر لكم من الحجج وأدعوكم إليه ؟ ! وتنظرون إلى القرآن وما فيه!! وإلى بلاغته ومعانيه! وأنه ليس في مقدوري أن آتى بمثله ، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ، بعيدا عن الإتيان بمثل ذلك عاطلا عن هذه المعرفة وتلك العلوم! وأنذر بما يوحى إليك الذين يخافون من الحشر ، والحال أنهم يعتقدون بأن ليس لهم فيه ولى ولا شفيع بل الأمر كله للّه! فهم الذين ينتفعون به ، ولقد كرر القرآن هذا(1/614)
ج 1 ، ص : 615
المعنى وصدر سورة البقرة به ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فالذين يؤمنون بالغيب ، ويؤمنون بالحياة الأخروية هم المنتفعون بالقرآن ، أما الماديون الذين لا يؤمنون بغير المادة ، فقد ختم اللّه على قلوبهم وأعمى أبصارهم وجعل في آذانهم وقرا فلا ينتفعون بنور القرآن أصلا إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ [سورة فاطر آية 18].
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى ، يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم ، ولا تطردهم عن مجلسك ، فهم المخلصون لك المؤمنون بدعوتك ، يريدون بهذا وجه اللّه ، لا نفاقا ولا رياء ولا سمعة.
روى أحمد وابن جرير والطبراني في جماعة آخرين عن عبد اللّه بن مسعود قال : مر الملأ من قريش على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء منّ اللّه عليهم من بيننا ؟
أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. فأنزل اللّه فيهم وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلى قوله تعالى : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.
و
في رواية أخرى وقع في نفس عمر بن الخطاب حسن عرضهم ، فلما نزلت الآية أقبل عمر فاعتذر ، فأنزل اللّه وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام آية 54].
وقد كان من علامات النبوة أن يتبع النبي ضعفاء الناس لا أشرافهم ، تذكر قصة هرقل ، وقد سأل الوفد أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ ؟
فقيل : بل ضعفاؤهم ، فقال : هكذا الرسل من قبله وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ من قصة نوح في سورة هود [الآية 27 وما بعدها].
ولما ذا تطردهم ؟ ما عليك من حسابهم من شيء إن كانوا غير مخلصين ، وما عليهم من حسابك من شيء ، فكل نفس بما كسبت رهينة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وما عليك أنت إلا البلاغ فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 21 و22] إنك إن طردتهم تكن من الظالمين لأنفسهم بعدم امتثالهم أمر اللّه ، ومثل ذلك الابتلاء العظيم ابتلينا بعضهم ببعض لتكون العاقبة أن يقول هؤلاء المشركون المغرورون حينما يرون(1/615)
ج 1 ، ص : 616
ضعاف الناس كبلال وصهيب من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : أهؤلاء الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين خصهم اللّه بهذه النعمة من جملتنا ومجموعنا كيف ذلك ؟ إن هذا لا يكون لأنا نحن المفضلون عند اللّه بما آتانا من قوة وبسطة في العيش وثروة وجاه.
فلو كان هذا الدين خيرا لوفقنا اللّه إليه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف 11] فهم يقيسون التوفيق على مظاهر الدنيا الكاذبة.
يا عجبا كل العجب ... أليس اللّه بأعلم بالشاكرين ؟ ؟ الذين يستحقون النعم بسبب شكرهم للّه وقيامهم بالواجب عليهم لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة إبراهيم آية 7].
من مظاهر رحمته بخلقه [سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 55]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
المفردات :
سَلامٌ عَلَيْكُمْ السلام : السلامة من العيوب والآفات ، وهو الأمان ، والتحية والقبول ، وهو من أسمائه - سبحانه وتعالى - . كَتَبَ : فرض وأوجب.
بِجَهالَةٍ الجهالة : السفه والخفة التي تقابل الحكمة والعقل. وَلِتَسْتَبِينَ :
تتضح وتظهر.
أراد اللّه - سبحانه وتعالى - أن يكرم المسلمين جميعا شريفهم ووضيعهم وأن يتقبلهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالقبول والسلام والأمان.(1/616)
ج 1 ، ص : 617
المعنى :
وإذا جاءك يا محمد الذين يؤمنون بآياتنا ويصدقون بها تصديقا مصحوبا بالعمل الطيب فقل لهم : سلام عليكم ، وأمنة لكم من أن يعاقبكم ربكم على ذنب تبتم عنه ورجعتم بعده إليه.
قل لهم يا محمد : سلام اللّه عليكم وإكرامه لكم ، قد فرض على ذاته الكريمة الرحمة بعباده فهو واسع الفضل والمغفرة كبير العفو والرحمة ، وفيما منحنا اللّه من الخلق السوى والغرائز ، ونعمة السمع والبصر والفؤاد والعقل وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ « 1 » وفيما خلق لنا مما في الأرض جميعا ، وما آتانا من العلوم الكسبية التي بها ذللنا الطبيعة : الدليل على تمام رحمته وكمال نعمته وأنه الرحمن الرحيم بخلقه وعباده ، ثم بين اللّه أصلا من أصول الدين في الرحمة بعباده فقال : إنه من عمل منكم أيها المؤمنون عملا سيئا يتنافى مع الدين والخلق حالة كونه متلبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء ، كغضب شديد أو شهوة جامحة ثم تاب ورجع إلى اللّه فإن اللّه يتوب عليه.
وقيل : من عمل منكم سوءا وهو جاهل بما يتعلق به من المكروه والضرر ، ثم تاب من بعده من قريب بمعنى أنه أنب نفسه ، ولم يستمر على عزمه السيئ ، بل ثابت نفسه إلى رشدها ، وأدركت أن الشيطان مسها ، فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ، وأصلح نفسه بالعمل الطيب دليلا على صدقه وخروج نفسه من حيز الشر والضلال إلى دائرة النور والعرفان بالذات الأقدس.
إذا كان هذا فاعلموا أنه غفور رحيم يقبل التوبة من عباده ، ويعفو عن السيئات ، وقد شرطوا في التوبة الصادقة الندم الحقيقي ، والعزم على عدم الرجوع ، ورد المظالم إلى أهلها وإتباعها بالعمل الصالح.
مثل ذلك التفصيل المحكم المبين لأحكام الدين وأصوله نفصل الآيات كلها ليهتدى بها أولو العقل الرشيد والفكر السليم وليستبين ويظهر طريق المجرمين حيث وضح طريق الصالحين.
___________
(1) سورة الذاريات آية 21.(1/617)
ج 1 ، ص : 618
موقف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من المشركين [سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
المفردات :
نُهِيتُ : صرفت وزجرت. بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي البينة : كل ما يتبين به الحق من الحجج العقلية والآيات الحسية. يَقُصُّ : يذكر. الْفاصِلِينَ الفصل :
القضاء والحكم.
المعنى :
يا أيها الرسول : قل لهؤلاء المشركين : إنى نهيت وصرفت عن عبادة ما تدعونهم وتطلبون منهم الخير ودفع الضر ، من صنم أو وثن أو عبد مهما كان شأنه ، صرفت عن هذا كله بالآيات القرآنية والآيات الحسية ، وما ركب اللّه فىّ من عقل رشيد ، وروح طيبة طاهرة وفطرة سليمة بعيدة عن أسر التقليد وقيد الجهل وداء الحسد.
قل لهم : لا أتبع أهواءكم فإن عبادتكم غير اللّه سندها وحجتها الهوى فقط.
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ « 1 » . أما عبادة اللّه فلها الحجة البالغة والبرهان الساطع.
___________
(1) سورة الزخرف آية 23.(1/618)
ج 1 ، ص : 619
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
وعبادة غير اللّه ضلال وشرك. فإن اتبعتكم فقد ضللت إذا ، وما أنا في عداد المهتدين ، وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية في شيء وهم في ضلال مبين.
قل لهم : إنى فيما أخالفكم فيه من عبادة غير اللّه ، وفيما أدعوكم إليه من عبادة اللّه على بينة من ربي وحجة واضحة ، لا تقبل شكا ولا جدلا ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فالقرآن هو الحجة البينة والمعجزة الخالدة ، والآية الباقية التي تقوم مقام قول اللّه : « صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى » وأما أنتم فلقد كذبتم بالقرآن واتبعتم الشيطان وكفرتم بالرحمن ... ويا للعجب تكذبون بالقرآن وما دعا إليه ، وتدعون إلى اتباع الهوى والضلال والتقليد الأعمى ، فبئس ما تصنعون.
وكانوا يشتبهون في القرآن ورسالة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأن اللّه لم ينزل عليهم ما طلبوا فأزال القرآن هذا بقوله للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
قل لهم ما عندي ما تستعجلون به وتطلبونه على عجل من اللّه ، ولم أقل لكم إنى أقدر على هذا!! وما الحكم في هذا إلا للّه الواحد القهار ، وكل شيء عنده بمقدار ، واللّه يقص القصص الحق في وعده ووعيده وهو خير الحاكمين.
قل لهم : لو عندي ما تستعجلون به ، ولو أن اللّه أمكننى من إيقاع العذاب بكم ، وجعله من قوتي الكسبية لأوقعته عليكم ، ولقضى الأمر بيني وبينكم ، واللّه قد وعدني النصر ، ووعده الحق ، وقد تحقق ما وعد.
وهناك
حديث عن أبى هريرة يفيد : أن ملك الجبال ناداه وقال : يا محمد إن اللّه قد سمع قول قومك لك وقد بعثني ربك لك لتأمرنى بأمرك فيما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : بل أرجو أن يخرج اللّه من أصلابهم من يؤمن باللّه.
والمخلص في هذا أن الآية دلت على سؤالهم العذاب ، وجوابه صلّى اللّه عليه وسلّم والحديث ليس فيه سؤال بل عرض عليه ملك الجبال فلهذا استأنى بهم وترفق عليهم ، واللّه أعلم بالظالمين كيف يعاقبهم ؟ ومتى يعاقبهم ، وعلى أي صورة يكون جزاؤهم ؟ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. [سورة الأعراف آية 34].(1/619)
ج 1 ، ص : 620
كمال علمه سبحانه وتعالى [سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 62]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
المفردات :
مَفاتِحُ : جمع مفتح ، وهو المخزن ، أو جمع مفتح وهو المفتاح الذي تفتح به الأقفال. يَتَوَفَّاكُمْ التوفي : أخذ الشيء وافيا كاملا ، والتوفية : إعطاء الشيء تامّا وافيا ، وهو يطلق على الموت والنوم. جَرَحْتُمْ : كسبتم بالجوارح ، ويستعمل اللفظ في الشر والخير ، والاجتراح : فعل الشر خاصة. يَبْعَثُكُمْ : يوقظكم من النوم. حَفَظَةً : هم الكرام الكتبة من الملائكة.
المناسبة :
طلبوا من النبي آيات خاصة - كما تقدم - واستعجلوه بها فرد القرآن عليهم بأن الكل(1/620)
ج 1 ، ص : 621
في قبضته وهو القاهر فوق عباده ، ولا يملك الرسول شيئا ، ثم بين هنا أن ما استعجلوه به ليس فيما يدخل في علم النبي حتى يخبرهم في أى وقت يقع وإنما هو مما استأثر اللّه بعلمه ، وهو العليم بكل شيء.
المعنى :
عنده وحده - سبحانه - ما يوصل به إلى الغيب المحجوب عن الكل ، أى : عنده علم الغيب. إذ العلم صفة تنكشف بها للّه - سبحانه وتعالى - معلومات الغيب والشهادة ، وإنما أطلق المفتاح وأراد العلم للإشارة إلى أن الغيب المستور في أماكن بعيدة لا يصل إليها أى مخلوق كالخزائن المغلقة بالأبواب والأغلاق ، ولها مفاتيح محكمة ، وقيل المعنى : وعنده خزائن الغيب ، على أن المراد بالمفاتيح الخزائن. لا يعلمها إلا هو وحده الذي يعلم السر وأخفى ، فهذه الجملة إذن توكيد للجملة السابقة.
وهو يعلم كل ما في البر وكل ما في البحر ، فهو يعلم المشاهدات كما يعلم المغيبات ، واللّه يعلم ما تسقط من ورقة في أى زمان أو مكان ، فهو يعلم الأحوال كلها المتعلقة بالذوات السابقة إذ سقوط الورق حال من الأحوال ، وذكره إشارة إلى جميع الأحوال.
وليست هناك حبة في ظلمات الأرض السحيقة. وأغوارها البعيدة ، ولا شيء رطب ، ولا شيء يابس ، أى : ولا حي بالمعنى العام ، ولا يابس إلا في مكنون علمه الثابت الذي لا يمحى ، كما أن الشيء المسجل المكتوب كتابة لا يمحى ، وقيل المعنى :
كل ذلك في اللوح المحفوظ ، واللّه أعلم بكتابه.
والخلاصة أنه - سبحانه - يعلم الغيب والشهادة ، والأحوال الظاهرة والباطنة.
أما أنتم أيها الناس ... فاللّه يتوفاكم بالليل ، أى : ينيمكم فيه ، ويقبض أرواحكم إليه ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ، ويعلم ما كسبتم في النهار علما سابقا على عملكم ، فهو يعلم أن منكم من يكفر ، ومنكم من يعصى ربه ثم بعد هذا الموت الأصغر الذي فيه يقبض أرواحكم إليه ويعلم أعمالكم بعد ما يبعثكم في الدنيا نهارا ليعمل كل عمله ، وليقضى أجل مسمى عنده وعمر محدود(1/621)
ج 1 ، ص : 622
لكل منكم ، ثم إليه مرجعكم بالموت الأكبر لا إلى غيره ، ثم ينبئكم ، والمراد : يجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر.
وهو القاهر فوق عباده المتسلط عليهم ، المتصرف فيهم ، يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة.
وهو يرسل عليكم حفظة من الملائكة يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [سورة الانفطار الآيتان 10 و12].
سبحان اللّه!! ما أعجب شأننا ، علينا رقيب وعتيد يحصون علينا أعمالنا ، ويكتبون وهم لا يغفلون ، ومع هذا نعصى اللّه جهرا وسرّا ؟ !!! سبحانك أنت أرحم الراحمين!!.
ولعل سائلا يقول : ما الحكمة في الحفظة الكتبة واللّه أعلم بكل شي ء ؟ والجواب أن المكلف إذا عرف هذا كان أهدى له وأبعد عن الفحشاء والمنكر ، وأقرب إلى عقل بعض الناس وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [سورة الكهف آية 49].
يرسل الحفظة الكرام البررة يحصون الأعمال مدة الحياة حتى إذا انتهى الأجل وحم القضاء ، وجاءت أسباب الموت ومقدماته ، توفته رسلنا - وهم ملك الموت وأعوانه - والحال أنهم لا يفرطون ولا يقصرون بزيادة أو نقصان ، ثم ردوا بعد هذا جميعا إلى اللّه وإلى حكمه ، وما الحكم الحق الذي يعطى بالعدل إلا له ، له الحكم وإليه الأمر ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، وهو أسرع الحاسبين : يحاسب الكل في أقل وقت وأسرعه لا يشغله شأن عن شأن. وفي
الحديث : « إن اللّه يحاسب الكل في مقدار حلب شاة » .
من مظاهر القدرة والرحمة [سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 67]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)(1/622)
ج 1 ، ص : 623
المفردات :
ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ : ظلمات الليل والسحب والمطر ، وقيل : المراد ظلمات معنوية. تَضَرُّعاً التضرع : المبالغة في الضراعة والتذلل والخضوع. وَخُفْيَةً بالضم والكسر : الخفاء والاستتار. كَرْبٍ الكرب : الغم الشديد.
يَلْبِسَكُمْ : من اللبس ، والمراد : يخلط أمركم عليكم خلط اضطراب واختلاف ، وأصل التركيب : يلبس عليكم أمركم. شِيَعاً : جمع شيعة ، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر واتفقوا فيه. نُصَرِّفُ : نحوّلها من نوع إلى آخر من فنون الكلام.
يَفْقَهُونَ : يفهمون.
المعنى :
يسلك القرآن المسالك المتعددة لغرس شجرة التوحيد في قلوب العرب ببيان مظاهر القدرة والعلم والرحمة ، فقال ما معناه : من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ؟ ومن ينقذكم من شدائد الأيام وهولها ؟ ومن ينير لكم السبيل إذا غم الطريق وأظلم ، ومن يسكن البحر الهائج والبركان الثائر ؟ هو اللّه الرحمن الرحيم القاهر فوق عباده ، القادر على كل شيء ، تدعونه متضرعين متذللين ، مع رفع الصوت والبكاء ، وقد يكون الصوت في السر والخفاء. لئن أنجيتنا من هذه الظلمات لنكونن ممن يوحدك ويشكرك هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ(1/623)
ج 1 ، ص : 624
وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
« 1 » قل لهم : اللّه ينجيكم من هذه الأهوال ، ومن كل كرب وغم ثم أنتم بعد هذا تشركون باللّه غيره ، ومن هنا نفهم أن الإنسان بطبيعته يلجأ إلى اللّه في الشدة والمكروه ، وفي النجاة ينسى نفسه ويعود إلى جهله.
قل لهؤلاء المشركين : اللّه هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا لا يعرف كنهه ولا يقف على حقيقته إلا اللّه - سبحانه وتعالى - ينزل عليكم من فوقكم كالرجم بالحجارة والآفات أو يصعد إليكم من تحتكم كالزلازل والبراكين والخسف المعهود في الأمم السابقة ، أو يخلط أمركم عليكم خلط اضطراب واختلاف ، حتى تكونوا فرقا وشيعا ، وأحزابا وجماعات ، كل فرقة لها اتجاه خاص ، تتقاتلون وتتحاربون ، ويذيق بعضكم بأس بعض ، حتى يقتل بعضكم بعضا.
وعن ابن عباس : المراد بمن فوقكم في الآية : أمراؤكم ، ومن تحت أرجلكم ، أى :
عبيدكم وسفلتكم.
انظر يا من يتأتى منه النظر كيف نصرف الآيات ونقلبها على وجوهها المختلفة ، لعلهم بهذا يفقهون الحق ويدركون السر ، ولا شك أن التنويع في الآراء وطرق الأبواب في الحجج ، سبيل إلى الفهم وإدراك الحقائق ، ولكن عند من ينظر النظر البريء الخالي من الحجب الكثيفة الموروثة كالتقليد الأعمى.
وقد كذب بالقرآن قومك ، وهو الذي لا شك فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد.
قل لهم : لست عليكم بوكيل. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ « 2 » لكل نبأ مستقر ، تظهر فيه حقيقته ، ولكل أمة أجل ، ولكل أجل كتاب تعلمون به صدق الوعد والوعيد سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ « 3 » .
___________
(1) سورة يونس آية 22.
(2) سورة ق آية 45. [.....]
(3) سورة فصلت آية 53.(1/624)
ج 1 ، ص : 625
والعذاب في الآية ورد منكّرا فيشمل المجاعة والقحط ، والصيحة والرجفة ، والريح الصرصر والزلازل والحجارة من سجيل والبراكين ، ويشمل ما تلقيه الطائرات وما تقذفه المدافع وما في السفن والغواصات من الطروبيد والألغام التي تنفجر فتبيد الناس وما القنابل الذرية عنكم ببعيد.
روى عن ابن عباس من طريق أبى بكر بن مردويه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « دعوت اللّه أن يرفع عن أمتى أربعا ، فرفع عنهم اثنتين ، وأبى أن يرفع اثنتين : دعوت اللّه أن يرفع عنهم الرجم من السماء ، والخسف من الأرض ، وألا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع عنهم الخسف والرجم ، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين » .
وقد تأكد كلام الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فها هي ذي الأمة المحمدية قد وقاها اللّه من الخسف والرجم كرمها لأجل نبيها فلم يعذبها بعذاب الاستئصال.
أما الخلافات الحزبية والفرق والشيع ، وقتال بعضنا لبعض فظاهر للعيان ، ولا يزال الشر يأتينا من هذا الباب وأن بعضنا سبب الويل بنفاقه مع المستعمر واتحاده معه واستخدام الأجنبى له ، وما الحوادث التي تترى علينا ونشاهدها ببعيدة! ؟
وفي الحديث حديث ثوبان « وإنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة ، وألا أسلط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا » .
أما زال ملك المسلمين بسبب نزاعهم وخلافهم واتصال بعضهم بالأجنبى العدو اللدود ؟ ! تنبهوا يا قوم وارجعوا إلى دينكم وقرآنكم فالخير لا يمكن أن يكون إلا فيه وتذكروا إنما يتذكر أولوا الألباب.
المستهزئون بالقرآن وجزاؤهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 70]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)(1/625)
ج 1 ، ص : 626
المفردات :
يَخُوضُونَ أصل الخوض : الدخول في الماء ، ثم استعمل في غمرات الأشياء ، أى : اتجاهها تشبيها لها بغمرات الماء ، والمراد : الاندفاع في الحديث والاسترسال فيه والدخول في الباطل مع أهله. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ : انصرف عنهم. الذِّكْرى :
التذكر. وَلكِنْ ذِكْرى المراد : تذكيرا. تُبْسَلَ نَفْسٌ البسل : حبس الشيء ومنعه بالقوة ، ومنه أسد باسل ، وشجاع باسل ، أى : يحمى نفسه ويمنعها ، المراد :
حبسهم في النار ومنعهم من الثواب.
روى عن سعيد بن جبير أن هذه الآية نزلت في المشركين المستهزئين بالقرآن والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
المعنى :
وإذا رأيت يا محمد وكذا كل مسلم الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والاستهزاء فأعرض عنهم ، ولا تجالسهم حتى يخوضوا في غير حديث الكفر والاستهزاء ومثلهم من يخوضون في القرآن بتأويله تأويلا يوافق أهواءهم واتجاههم ، لا تجالسهم وابتعد عنهم ،(1/626)
ج 1 ، ص : 627
وقد روى هذا الرأى عن ابن عباس - رضى اللّه عنه - ولعل السر في ذلك أنك إذا أعرضت عنهم ، وقمت من مجلسهم كان أدل على عدم مشاركتهم فيما يقولون وعلى عدم الرضا عما يفعلون! وهذه بلا شك أدعى للكف عن الخوض والاستهزاء غالبا وإذا خاضوا في غير ذلك الحديث فلا مانع من مجالستهم والتحدث إليهم.
قال القرطبي : « ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا ، وعرف أنه لا يقبل منهوعظا ولا نصيحة فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه » .
وإن أنساك الشيطان قبح مجالستهم والنهى عنها ، ثم تذكرتها فلا تقعد بعدها مع هؤلاء القوم الذين ظلموا أنفسهم بالتكذيب والاستهزاء.
وهنا بحث بسيط :
هل يجوز على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم النسيان ؟ وإذا جاز فهل في كل شيء أم في شيء خاص ؟
والجواب عن الأول يجوز النسيان عليه بغير وسوسة من الشيطان وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وقد ثبت وقوعه من آدم فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ومن موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وثبت في الصحيحين أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سها في الصلاة وقال :
« إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني » .
وإنساء الشيطان للإنسان بعض الشيء ليس من قبيل السلطان عليه والتصرف فيه إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة النحل آية 99].
والجواب عن الثاني : أن الصحيح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا ينسى فيما يبلغه عن ربه لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
وقيل : يجوز أن ينسى واللّه ينبهه حتما ، وما على الذين يتقون اللّه ويتركون غيرهم يخوضون في الباطل ويستهزئون بالقرآن من شيء أبدا ، ولكن إذا تركوهم بعد الموعظة وأعرضوا عنهم فهم يذكرونهم بهذا لعلهم يتقون اللّه فلا يخوضون في غمرات الشرك مرة ثانية حياء ممن يجالسهم أو كراهة إساءتهم.
وقيل المعنى : ولكن عليهم أن يذكروهم فلعلهم يتقون اللّه.
يا أيها الرسول : دع الذين اتخذوا دينهم الذي كان يجب أن يتبعوه ، ويهتدوا به اتخذوه لعبا ولهوا ، فإنهم لما عملوا هذه الأعمال التي ختم اللّه بها على قلوبهم ودس بها(1/627)
ج 1 ، ص : 628
نفوسهم ، ولم يعملوا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، فقد أضاعوا عمرهم فيما لا يفيد ، وهذا هو اللعب ، وشغلوا أنفسهم عن الجد والعمل المفيد وهذا هو اللهو.
وغرتهم الدنيا ، وغرهم باللّه الغرور ، يا أيها الرسول أعرض عنهم ، ولا تبال بأمثال هؤلاء ، وذكّر به من يخاف وعيدي خوف أن تبسل نفس في الآخرة بما كسبت ، وترهن بما عملت ، وتحبس بما قدمت كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ليس لكل نفس من دون اللّه ولى يلي أمرها ، ويدفع عنها شرها ، وليس لها شفيع يشفع لها :
ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [سورة غافر آية 18].
وكيف يكون غير هذا وإن تفد النفس نفسها بكل فدية وعدل يتساوى مع الذنب لا يقبل منها أصلا وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [سورة البقرة آية 48].
أولئك الذين اتخذوا القرآن هزءا وسخرية واتخذوا دينهم لعبا ولهوا قد حرموا الثواب ، وأسلموا أنفسهم للعذاب ، وحبسوا في نير العقاب ، ولهم شراب من حميم وغساق ، جزاء من ربك وفاق ، ولهم عذاب أليم.
الإسلام والشرك [سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)(1/628)
ج 1 ، ص : 629
المفردات :
أَعْقابِنا : جمع عقب ، وهو مؤخر الرجل ، ويقول العرب فيمن أحجم بعد إقدام : رجع على عقبيه ونكص ، وارتد على عقبه ورجع القهقرى ، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم. اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ : ذهبت بعقله وهواه ، وكانت العرب تزعم أن الجنون من تأثير الجن. حَيْرانَ : تائها ضالا عن الجادة لا يدرى ما يصنع. الصُّورِ : القرن ، وهو كالبوق ينفخ فيه فيصعق من في السموات والأرض ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون!
المعنى :
قل لهم يا محمد : أتدعو من دون اللّه ما لا ينفعنا إذا دعوناه ، ولا يضرنا إذا تركناه ، وكيف نرد على أعقابنا ، ونترك ديننا بعد إذ أسلمنا للّه ربنا ؟ ! أنعود إلى الكفر والشرك والضلال بعد الإسلام والهدى والنور ؟ أنعود إلى ملة الكفر بعد إذ هدانا اللّه ، ووفقنا إلى صراط مستقيم صراط اللّه العزيز الحكيم! إن هذا لشيء عجيب.
إننا إذا فعلنا ذلك كنا كالذي استهوته الشياطين وذهبت بعقله ، وأطارت صوابه ولبّه ، وأصبح حيران تائها لا يدرى كيف يسير ، والحال أن له أصحابا يدعونه إلى الطريق الحق ويقولون له : ائتنا ، ولكن أين هو منهم ؟ فقد ختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة ، فمن يهديه من بعد اللّه ؟
نعم ، من يرتد مشركا والعياذ باللّه بعد إيمانه كمن أصبح هائما على وجهه ، لا يلوى على شيء تاركا رفاقه على الطريق الحق وهم ينادونه : الهدى والفلاح والخير والرشاد والطريق الحق هنا. عد إلينا فلا يستجيب لهم لانغماسه فيما يضره ولا ينفعه ، وفيما ظن أنه خير والواقع أنه شر.(1/629)
ج 1 ، ص : 630
ادعهم أيها الرسول وقل لهم : إن هدى اللّه هو الهدى ، وطريق الإسلام هو الحق وهو الصراط المستقيم وقل لهم : إنا أمرنا بأن نسلم لرب العالمين فأسلمنا وجوهنا له وانقدنا لأمره إذ فيه الخير في الدنيا والآخرة ، وأمرنا بأن نقيم الصلاة وأن نتقي اللّه في السر والعلن ، فهو الذي إليه تحشرون وإليه وحده المرجع والمآب ، وهو الذي خلق السموات والأرض خلقا متلبسا بالحق الذي لا شك فيه خلقا للسنن الكونية المشتملة على الحكم البالغة وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ واذكر يوم يقول للشيء أيا كان :
كُنْ فَيَكُونُ ومن كان أمره التكويني (كن) مطاعا وحاصلا (فيكون) كان أمره التكليفي كذلك أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وله الملك وحده ، يوم ينفخ في الصور فيصعق من في السموات والأرض ، ويهلك ، حتى الملك الذي نفخ فيه ، ثم ينفخ مرة أخرى ، فإذا الكل قيام ينتظرون ماذا يفعل اللّه بهم وهو عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير.
فاللّه الموصوف بهذا ، أندعو من دونه ما لا ينفع ولا يضر بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
كيف ترك إبراهيم الشرك ؟ [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)(1/630)
ج 1 ، ص : 631
المفردات :
إِبْراهِيمُ : خليل الرحمن ، وأب إسماعيل ، وجد العرب ، وأبو الأنبياء - عليهم السلام - جميعا. آزَرَ : أبو إبراهيم أو عمه ، وقيل غير ذلك. مَلَكُوتَ :
ملك اللّه وسلطانه فيهما. جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ : ستره بظلمته. كَوْكَباً : نجما مضيئا. أَفَلَ الأفول : غيبوبة الشيء بعد ظهوره. بازِغاً البزوغ : ابتداء الطلوع. فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ : أخرجهما إلى الوجود لا على مثال سابق.
حَنِيفاً : مائلا عن الشرك والضلال.
كان العرب يدينون لإبراهيم الخليل ، ويعترفون به ، ويدعون أنهم على ملته ، وها هو ذا إبراهيم يجادل قومه ويراجعهم في عبادة الأوثان المرة بعد المرة ، فهل من معتبر ؟ ولقد أمر صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يذكر هذا الوقت ، والمراد ما حصل فيه لعل العرب يرجعون عن غيهم ويدركون خطأهم في عبادة الأوثان.
المعنى :
واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما وأوثانا تعبدهم من دون اللّه ؟ إنى أراك وقومك في ضلال مبين واضح ، وأى ضلال أوضح وأكثر من عبادتكم صنما تتخذونه من حجر أو شجر أو معدن ؟ تنحتونه بأيديكم ، وتعبدونه ، إن هذا لضلال مبين.
أتعبدون ما تنحتون ؟ واللّه خلقكم وما تعملون فأنتم أرفع من الصنم شأنا ، وأعلى مكانا ، ثم تتخذونهم آلهة معبودة مقدسة.(1/631)
ج 1 ، ص : 632
وكما أرينا إبراهيم الحق في شأن أبيه وقومه ، وأنهم على ضلال مبين أريناه المرة بعد المرة ملكوت السموات والأرض ، فاطلع على أسرار الخلق وخفايا الكون ، وهل يعرف ملكوته إلا هو ، وهل وقف العلماء بمراصدهم ومكبراتهم وآلاتهم الحديثة إلا على ما يوازى حبة في صحراء بالنسبة إلى ملكوت اللّه ؟
أرينا إبراهيم الملكوت وما فيه من أسرار العظمة ، وبديع النظام ، وقوة التدبير ، وعظمة الخلق صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ ليعرف إبراهيم نواحي العظمة وسنن اللّه في خلقه ، وحكمه في تدبير خلقه ، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين ، وليكون في خاصة نفسه من الراسخين والموقنين بالتوحيد الخالص.
وهكذا أنار اللّه بصيرته ، وأراه ملكوته ، ولما جن عليه الليل ، وستره بلباسه رأى كوكبا ممتازا عن الكواكب أنار الوجود وأفاض على العالم ضوءا خافتا ، قال إبراهيم حينئذ في مقام المناظرة والمحاجة : هذا ربي تمهيدا لإقامة الحجة على قومه ، فلما أفل وغاب وأسدل الليل عليه ستاره قال إبراهيم : ما هذا إله أبدا ... يظهر ثم يختفى ؟ أنا لا أحب الآفلين ، ولا أثق بهم فضلا عن كوني أعتقد فيهم الربوبية ، وكيف يفيد ما يغيب ويستتر ؟ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
وأراد إبراهيم أن يسلك طريقا آخر ، فلما رأى القمر بازغا قد عم ضوؤه الكون ، وهو أقوى من الكوكب ، قال : هذا ربي ، وهو أحق من الكوكب السابق ، فلما أفل القمر وغاب كذلك ، قال إبراهيم : ما هذا ؟ تاللّه لئن لم يهدني ربي خالق الأكوان ، والكواكب والأقمار لأكونن من القوم الضالين ، وهذا تعريض بأن عبدة الكواكب والأصنام في ضلال مبين.
فلما رأى الشمس بازغة وهي أعظم الكواكب المرئية لنا وأعمها نفعا ، إذ هي مصدر الحياة والدفء ومبعث النور والحركة قال إبراهيم : نعم هذا ربي. هذا أكبر من القمر والكوكب نفعا وضوءا وجرما ، وفي هذا مجاراة لقومه في أفكارهم واستدراج لهم حتى يسمعوا حجته.
فلما أفلت واحتجبت ولفها الليل بأستاره بعد ما أدركها الاصفرار والذبول ، وملأت الأفق بدم الشفق ، وجاء الليل بجحافله قال : ما هذا يا قوم ؟ إنى برىء مما تشركون باللّه ، فهذا حال الشمس والقمر والكوكب ، وفيهن شيء من النفع ظاهر(1/632)
ج 1 ، ص : 633
فكيف حال الصنم من شجر أو مدر أو معدن أو طعام ؟ ولعلكم يا كفار مكة تتعظون.
قال إبراهيم بعد هذا : إنى أسلمت وجهى مخلصا للّه متوجها لذاته الكريمة بالعبادة والتقديس إذ هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، خالق الأكوان صاحب الملك والملكوت فاطر السماء والأرض ، فالق الإصباح والنور ، خالق الليل والنهار ، رب الشمس والقمر.
ومن يسلم وجهه إلى اللّه وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، وإسلام الوجه : هو توجه الذات والقلب للّه ، وعبر به لأن الوجه أشرف عضو في الجسم وهو الشرفة التي تطل منها الروح.
وانظر في قصة إبراهيم حيث حاور وتلطف في القول ، وهكذا الحكمة مع الخصم العنيد ، فقال : لا أحب الآفلين ، ثم قال ثانيا : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ، وثالثا صرح بالبراءة من الشرك ومن المشركين إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ « 1 » ثم ذكر عقيدته بعد ما هدم أساس الشرك بالدليل حيث قال : إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
محاجة إبراهيم لقومه [سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 83]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
___________
(1) سورة الممتحنة آية 4.(1/633)
ج 1 ، ص : 634
المفردات :
حاجَّهُ المحاجة تطلق على محاولة الخصم في إثبات الدعوى ، وعلى رد دعوى الخصم ، وهي بهذا حجة دامغة أو شبهة واهية. بِظُلْمٍ المراد به : الشرك لأنه الظلم الأكبر.
المعنى :
ها هو ذا إبراهيم قد جاء قومه بالحق ، وأورد البينات من الحجج الدامغة والأدلة القاطعة ، حيث تمشى معهم ونزل إلى مستواهم ، وفي النهاية أثبت أن الذي فطر السموات والأرض هو المعبود بحق لا إله إلا هو.
وحاجة قومه بأوهى الحجج ، وأتوا بشبهات هزيلة ، لا تنهض دليلا إلا عند من ختم اللّه على قلوبهم وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة.
فقد قالوا : إنا نتخذهم آلهة تقربنا إلى اللّه ، وتشفع عنده ونحن قد وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، وإياك يا إبراهيم والآلهة ، احذرهم فإنا نخاف عليك منهم.
قال إبراهيم : أتحاجّونّي في اللّه ؟ ! إن هذا لشيء عجيب ، كيف ذلك ؟ واللّه خلق السموات والأرض وله ملكوت لا يحيط به إلا هو ، وهو القادر على كل شيء ، وهذه الأصنام لا تضر ولا تنفع ، ولا تسمع ولا ترى ، بل هي مخلوقة لكم وإن يسلبها الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.(1/634)
ج 1 ، ص : 635
أتحاجوني في اللّه وقد هداني إلى سواء السبيل ، ولا أخاف هذه الأصنام أبدا فهي لا تنفع نفسها ولا غيرها ولا تضر ، وكيف أخاف ما تشركون به ولا حول ولا قوة إلا باللّه وأنا لا أخافهم في وقت من الأوقات إلا أن يشاء اللّه ربي وربكم لي شيئا من الضر فينزل بي ما يشاء كأن يقع علىّ صنم فيصيبني أو ينزل شهاب من السماء فيحرقنى ، كل ذلك بمشيئة اللّه وحده! أما أن لهذه الأصنام شيئا في أنفسها أو في غيرها فهذا شيء لا يدور بخلد عاقل ، ولا ينطق به إنسان كامل.
أعميتم فلا تتذكرون شيئا أصلا ، حتى تسووا بين الخالق والمخلوق ، وبين الإله واهب الوجود وبين الحجر أو الكوكب المخلوق.
عجبا لكم!! كيف أخاف آلهتكم التي ينادى العقل الحر بأنها لا تنفع ولا تضر ، ولا تخافون إشراككم باللّه غيره وقد قامت الحجج العقلية والنقلية على أنه الإله الواحد الأحد ، الفرد الصمد.
وإذا كان هذا هو الواقع ، فأينا أهدى سبيلا ، وأحسن رأيا ، وأقوم قيلا ؟ ! وأحق بالأمن وعدم الخوف ؟ إن كنتم من أهل العلم والعقل والفكر الحر فالذين آمنوا أحق الناس بالأمن والطمأنينة ، لأنهم آمنوا باللّه ورسله وسلكوا طريق العقل والحكمة ولم يخلطوا إيمانهم بظلم كالشرك ، أولئك لهم الأمن الكامل التام في الدنيا والآخرة ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ،
روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة « 1 » - رضوان اللّه عليهم أجمعين - وقالوا : أيّنا لم يظلم ؟ فقرئ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ « 2 » .
وتلك حجتنا القوية آتيناها إبراهيم حجة له على قومه ، ولا غرابة في ذلك فاللّه يرفع من يشاء من عباده درجات بعضها فوق بعض ، فهذه درجة الإيمان وأخرى درجة العلم وثالثة درجة الحكمة والتوفيق ، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء إن ربك عليم بخلقه.
___________
(1) أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب ظلم دون ظلم حديث رقم 32.
(2) سورة لقمان آية 13.(1/635)
ج 1 ، ص : 636
إبراهيم أبو الأنبياء ومكانتهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 90]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
المفردات :
اجْتَبَيْناهُمْ : اخترناهم واصطفيناهم. لَحَبِطَ : بطل عنهم عملهم.
الْحُكْمَ : العلم النافع والفقه في الدين ، وقيل : القضاء بين الناس.(1/636)
ج 1 ، ص : 637
المعنى :
كان إبراهيم - عليه السلام - أمّة ، وكان من القانتين ، وهو من أولى العزم وهو أبو الأنبياء ، فما من نبي بعد إلا وهو من سلالته وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [سورة الحديد آية 26].
ووهبنا له على كبر منه ، وعقم امرأته ويأس ، إسحاق فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ جزاء إيمانه الكامل ، وإحسانه الشامل ، ونجاحه في ابتلاء اللّه له بذبح ولده إسماعيل.
فإبراهيم من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء فهو من سلالة نوح وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وهدينا من ذريته داود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، فهي ذرية طيبة ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وإبراهيم واسطة العقد جده نوح وأولاده الأنبياء ، وكذلك نجزى المحسنين.
وهدينا من ذريته كذلك زكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس وكل من الصالحين ، وهدينا من ذريته إسماعيل ابنه لصلبه وجد المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم إسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على عالمي زمانهم.
وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ، إذ لم يكن الكل مهديا إلى الخير وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
ولقد اجتبيناهم واخترناهم وخصصناهم بمزايا كثيرة ، وهديناهم صراطا مستقيما ، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء من عباده ، واللّه واسع عليم ، ولو أشركوا باللّه شيئا لكان جزاؤهم أن تحبط أعمالهم إذ توحيد اللّه - سبحانه وتعالى - هو المزكى للنفوس ، والمطهر للأرواح. وهو أساس الثواب ، ومناط الأجر فإذا انهار الأساس فلا يبقى معه ثواب للعمل أصلا وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر آية 65].
أولئك المذكورون جميعا ينهلون من معين واحد ، ولهم رسالة واحدة هي إرساء(1/637)
ج 1 ، ص : 638
قواعد التوحيد في الدنيا للّه - سبحانه وتعالى - وإن اختلفت في الشكل وطرق الأداء والمعجزات ، تبعا لظروف كل زمن وأمة ، أولئك الذين آتيناهم الكتاب كصحف إبراهيم وتوراة موسى ، وزبور داود وإنجيل عيسى ، وآتيناهم الحكم والعلم والفهم الصادق ، والنبوة ولا شك أن كل نبي كذلك إذا أساس النبوة العلم ، والفقه ، والفهم والفطانة ، فالنبوة قيادة وزعامة في الدين والدنيا وهل تتم بدون هذا ؟
أما الحكم بمعنى فصل القضاء والحكم بين الناس فلم يعط لكل نبي ، وهذه مراتب الفضل فيهم ، فكلهم أوتى الحكم والنبوة إذ كل من أوتى النبوة أوتى الحكم وليس كل من أوتى النبوة أوتى الكتاب.
فإن يكفر كفار قريش بالكتاب والحكم والنبوة التي أوتيت كلها لك يا محمد فقد وكلنا بعنايتها ، والعمل على خدمتها ، والدعوة إليها قوما كراما ، ليسوا بكافرين بها ، والمراد بهؤلاء القوم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم. ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين.
أولئك الذين هداهم اللّه ، ووفقهم : أئمة الدين وأعلام الهدى فبهداهم هذا اقتد ، وقد جمع نبينا خصالهم في الخير فكان خاتم النبيين وإمام المرسلين.
قل لهم : لا أسألكم على القرآن أجرا ولا منفعة خاصة ، وما هو إلا ذكرى للعالمين ، وهدى للمتقين.
إثبات رسالة الرسل وأثرها [سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)(1/638)
ج 1 ، ص : 639
المفردات :
وَما قَدَرُوا اللَّهَ يقال : قدرت الشيء : عرفت مقداره ، والمراد ما عرفوا اللّه حق المعرفة. قَراطِيسَ : جمع قرطاس ، وهو ما يكتب فيه من ورق أو غيره.
مباركا : كثير البركة. أُمَّ الْقُرى المراد بها : مكة المكرمة.
المعنى :
من عرف اللّه حقيقة ، وأدرك ما يجب في حقه ، وما يستحيل ، وما يجوز ، لا يسعه إلا أن يعترف بالرسالة والسفارة بين الخلق والخالق - جل جلاله - فاللّه لا يحده مكان ، وليس له زمان وهو مخالف للحوادث يستحيل عليه أن يخاطب البشر مباشرة :
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ثم يفضى الرسول إلى الخلق بالتعليمات الإلهية ، فمن أنكر الرسالة ما قدر اللّه حق قدره ولا عظّمه حق تعظيمه ، بل ما عرفه أصلا.
واللّه العالم بكل شيء القادر لا يعجزه شيء ، الذي وسعت رحمته كل شيء يعلم أن الخلق لا يمكن أن تصل إلى الغرض المقصود إلا بالهداة والمرشدين من الأنبياء والمرسلين ، فمن ينكر رسالتهم ما عرف اللّه حق المعرفة ، ولا قدره حق قدره.
قل لهؤلاء يا محمد : من أنزل الكتاب على موسى ؟ وأنتم تعترفون بالتوراة إذا قلتم :
لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ وقد أرسلتم الوفد تسألونهم عن محمد ودينه فكيف تقولون : ما أنزل اللّه على بشر من شي ء!!! وقيل في الآية معنى آخر ...
من أنزل التوراة على موسى نورا وهدى للناس وقد كانت التوراة كذلك حتى غيروها وحرفوها ونسوا حظا كثيرا منها ، وجعلوها قراطيس مقطعة ، وورقات مفرقة ، ليتمكنوا مما راموا من التحريف والتبديل ، وقد كان الحبر يفتي بالتوراة ويظهرها ، وإذا(1/639)
ج 1 ، ص : 640
أراد كتمان الحكم أخفاها ، وقد كتموا وصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وحكم البشارة ، وحكم الزنا!!! فأنتم أيها المشركون لا تثقوا بأقوال اليهود خصوصا فيما يتعلق بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فهم أشد أعدائه.
وهذا المعنى ظاهر على قراءة من قرأ يجعلونه أما على قراءة تَجْعَلُونَهُ بالتاء فيكون اللّه قد أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقرأ هذه الآية على مسمع من اليهود وغيرهم بالخطاب لهم.
وعلمتم أيها المؤمنون من العرب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم منه شيئا ، فبالإسلام أصبح للعرب دولة ، وبحث وفن وكيان علمي معترف به ، بعد جهالة جهلاء وضلالة عمياء.
قل لهم : اللّه أرسل الرسل ومعهم الكتب أرسل مع محمد القرآن ومع موسى التوراة ، ثم ذرهم واتركهم في خوضهم يلعبون.
وهذا القرآن كتاب أنزلناه يهدى إلى الحق وإلى سواء السبيل ، كتاب كثير البركة والخير ، مصدق لما تقدمه من الكتب ، ومهيمن عليهم ، أنزلناه للبركة ، ولتصديق الكتب السابقة ولإنذار أم القرى مكة ومن حولها ، والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها يؤمنون به ويصدقونه ، وهم على صلاتهم يحافظون ، وإلى كل ما أمروا به يسارعون ...
الكذب على اللّه وعاقبته [سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)(1/640)
ج 1 ، ص : 641
المفردات :
افْتَرى : اختلق الكذب. غَمَراتِ الْمَوْتِ : واحدها غمرة ، وهي الشدة ، وغمرات الموت : سكراته. باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بسط اليد سبق شرحه في الجزء السادس آية 28. الْهُونِ : الهوان والذل ، والهون : اللين والرفق خَوَّلْناكُمْ : أعطيناكم ومنحناكم ، والخول : الخدم والحشم. بَيْنَكُمْ هو بمعنى الصلة ، أو هو ظرف ، والاتصال مفهوم من الكلام. ضَلَّ أى : غاب.
المعنى :
شهادة ضمنية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالصدق حيث بين عاقبة الكذب على اللّه لا أحد في الوجود أظلم ممن كذب على اللّه ، وادعى أنه ما أنزل على بشر شيئا ، إذ أثبت له الشريك والولد ، أو قال : أوحى إلىّ ولم يوح إليه شيء ، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي ، أو قال : سأنزل مثل ما أنزل اللّه على رسله لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [سورة الأنفال آية 31].
يا للعجب لهؤلاء ... ولو تراهم في غمرات الموت وشدائده والحال أن الملائكة قد بسطت أيديها لهم لتخرج أنفسهم من أجسادهم بمنتهى الشدة والعنف فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ « 1 » وتقول لهم الملائكة تأنيبا وتعنيفا :
أخرجوا أنفسكم مما هي فيه وخلصوها إن أمكنكم ذلك ، وقيل : المعنى : أخرجوها كرها وقد قيل : إن روح المؤمن تخرج بسهولة وروح غيره تنتزع انتزاعا شديدا.
وقال الكشاف : هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الكفرة.
___________
(1) سورة الحديد آية 27.(1/641)
ج 1 ، ص : 642
وتقول الملائكة لهم : اليوم تجزون عذاب الهون والخزي ، وتلقونه على أفظع صورة بسبب ما كنتم تقولون على اللّه غير الحق كما مر.
ويقول اللّه لهم : لقد جئتمونا منفردين عن الأنداد والشركاء ، والأولياء والشفعاء ، كما خلقناكم أولا ، وها أنتم أولاء تركتم كل ما خولناكم وأعطيناكم من نعم وحشم ، وخدم وولد ، تركتموه ولم ينفعكم في شيء أصلا ، وما نرى معكم شفعاءكم - كما كنتم تدعونهم - الذين زعمتم أنهم فيكم وفي عبادتكم شركاء للّه.
تبّا لكم وسحقا. لقد تقطع وصلكم بينكم ، وبعد ما كان بينكم من صلات وصداقات ، ضل عنكم ما كنتم تزعمون ولم تنفعكم شفاعة الشافعين يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [سورة الانفطار آية 19].
من مظاهر القدرة والعلم الحكمة والرحمة [سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)(1/642)
ج 1 ، ص : 643
المفردات :
فالِقُ الفلق والفتق : الشق في الشيء مع إبانة بعضه عن بعض. الْحَبِّ :
الثمر يكون في الأكمام والسنبل. وَالنَّوى : جمع نواة : ما تكون في التمر والزبيب وما شاكله. تُؤْفَكُونَ : تصرفون. سَكَناً : ما يسكن فيه الإنسان مكانا كالبيت وزمانا كالليل وهو المراد. حُسْباناً : بالحساب والعدد. يَفْقَهُونَ الفقه : الفهم مع العمق في التفكير. مُتَراكِباً : يتراكم بعضه فوق بعض.
طَلْعِها الطلع : أول ما يبدو ويظهر من الزهر قبل أن ينشق عنه الغلاف.
قِنْوانٌ : هو العذق ، كالعنقود. وَيَنْعِهِ : نضجه واكتماله.
بعد إقرار مبدأ التوحيد والنبوة ، وبعض مواقف البعث ذكر هنا مظاهر كمال قدرته وعلمه وآياته الكونية التي تشهد له بكل ذلك.
المعنى :
إن الإله الذي يستحق العبادة والتقديس هو الذي يتصف بهذا ، ويعمل هذه الأعمال التي يعجز عن أقلها الأوثان والشركاء والأصنام بل والخلق مجتمعين متكتلين - سبحانه وتعالى جل جلاله - .. ؟ ؟
إن اللّه فالق الحب والنوى يخرج الزرع كالنجم والشجر من الحب والنوى ، والحياة هنا بمعنى قبول النمو والتغذية ، ولا شك أن الحب والنوى ميت بهذا المعنى ، وبعضهم يتوسع في الحياة ، ويقول إن الحب والنوى فيهما حياة بدليل أنه لو عقما لما أنبتا ولكن(1/643)
ج 1 ، ص : 644
اللغة لا تساعدهم وكانوا يمثلون قديما بإخراج الحيوان من النطفة أو البيضة ، ولكن العلم الحديث أثبت أن في النطفة حياة وكذا في البيضة ، وقيل : إن الرأى الصحيح أن الحيوان يخرج بمعنى يتكون من الغذاء ، وهو ميت ويخرج من الحيوان لبنه وفضلاته وهي ميتة وكون خلايا الجسم الحي تتكون من غذاء كاللبن والنبات مع عدم الحياة في الغذاء دليل على كمال القدرة.
واللّه مخرج الميت من الحي فيخرج الحب والنوى من النبات الحي ، ويخرج اللبن والفضلات من الحيوان الحي ، سبحانه وتعالى من قادر حكيم عليم ، فكيف تؤفكون وتصرفون عن طريق الهدى والفلاح ؟ واللّه فالق الإصباح ، قد فلق ظلمة الليل وشقها بعمود الصبح عند طلوع الفجر ، وجعل الليل سكنا للحيوان الحي ، يستريح فيه من التعب ، ويسكن جسمه من الألم وأعصابه من التفكير والنصب ، والليل وقت سكون وراحة ، والنهار وقت عمل ونشاط ، وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب وتقدير ، وترتيب ونظام محكم لا يختل أبدا لتعلموا بهما عدد السنين والحساب.
فانظر - وفقك اللّه للخير - للآيات الكونية الثلاث : شق الإصباح ، وسكون الليل ، ونظام الشمس والقمر وحسبانهما إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 49].
وهو الذي جعل لكم النجوم والمراد بها ما عدا الشمس والقمر مما لا يعلمه إلا هو جعلها علامات للسارى ، بها يهتدى للوقت من الليل أو من السنة ، ويعرف المسالك والطرق والجهات ، جعلها لتهتدوا بها في ظلمات الليل والماء ، أو المراد ظلمة الخطأ والضلال.
ولما في عالم السماء من صنع وإحكام ، وتقدير ونظام قد فصل اللّه الآيات القرآنية والآيات التكوينية وهما يدلان على حكم اللّه وتمام علمه ، ولا يستخرج كل هذا ولا يهتدى به إلا أهل العلم والنظر فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ « 1 » ولذا اختتمت الآية بقوله تعالى : قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
هذه آيات اللّه الكونية في الأرض والسماء ، وها هي ذي آياته في أنفسنا وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً « 2 »
___________
(1) سورة الحشر آية 2.
(2) سورة النساء آية 1.(1/644)
ج 1 ، ص : 645
قد خلقكم من ذكر وأنثى وجعلكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، وفي هذا إرشاد إلى التّوادّ والمحبة ، والتعاطف بين الخلق جميعا ، وإشارة إلى كمال القدرة وتمام العلم والحكمة ، خلقكم من نفس واحدة ، لكلّ مستقر في الأصلاب ، ومستودع في الأرحام ، والاستقرار : مكث غير محدود بزمن ولا وقت وهو أقرب إلى الثبات ، والاستيداع :
مكث موقوت معرض للرد والرجوع ، ولهذا كان الاستقرار في الأصلاب والاستيداع في الأرحام. وبعضهم عكس ، وبعضهم قال غير ذلك ، واللّه أعلم .. قد فصلنا الآيات ووضحناها لقوم يفقهون ويقفون على الأسرار الخفية بذكائهم وعمق تفكيرهم ، ولا شك أن النظر في الخلق والتكوين الإنسانى يحتاج إلى دقة ونظر وفهم.
وها هي ذي آياته التكوينية في النبات.
وهو الذي أنزل من السحاب الذي في السماء ماء فجعل منه كل شيء حي ، فأخرج به المولى - جل شأنه - نبات كل صنف من الأصناف فالتربة واحدة والماء واحد ولكن الشكل والطعم مختلف سبحانك يا رب أنت القوى القادر يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ « 1 » في الشجرة الواحدة تمر حسن وآخر رديء ، ثمر ناضج ، وثمر نيئ ، ثمر طعمه جميل وأخر قبيح ، سبحان اللّه أليس هذا من دلائل الوحدانية والقدرة ، فأخرج اللّه من النبات شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات ، وذلك كورق النجم ، وغصن الشجر ، ويخرج من هذا الأخضر حبا جافّا صلبا متراكبا بعضه فوق بعض في السنبل.
أما الشجر فهذا النخل عنوانه يخرج من طلعها قنوان دانية القطوف سهلة التناول ويخرج من النبات الأخضر جنات من أعناب وغيره من الفواكه والثمار كالزيتون والرمان مشتبها في الشكل والورق والثمر ، وغير مشتبه في لون الثمر وطعمه فمنها الحلو والحامض والمزّ ، بل منها ما هي كاليوسفى والبرتقال أو كالنارنج ، انظر إلى ثمر ما ذكر نظرة اعتبار وفحص إذا أثمر النبات وكيف يصير هذا الثمر من درجة إلى درجة حتى يصل إلى كمال نضجه وتمام منفعته ، وكيف يكون الثمر أجوف فارغا ثم يمتلئ بالخير والبركة ، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون باللّه أو فيهم الاستعداد لذلك.
___________
(1) سورة الرعد آية 4.(1/645)
ج 1 ، ص : 646
من كذبهم على اللّه والرد عليهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
المفردات :
خَرَقُوا خلق ، وخرق ، واخترق ، كلها بمعنى واحد ، قال الراغب : الخلق :
فعل الشيء بتدبير ورفق ، والخرق : قطع الشيء على سبيل الفساد. بَدِيعُ : مبدع على غير مثال سابق ، ومنه البدعة ، لأنه لا نظير لها. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ الإدراك : اللحاق والوصول إلى الشيء.
المعنى :
أشرك الناس باللّه شركاء من دونه ، وأقسم إبليس : لأغوينهم أجمعين ، إلا عبادك منهم المخلصين ، وقد عبدوا الملائكة وقالوا : إنها بنات اللّه ، وأطاعوا الشياطين في أمور الشرك باللّه ، وقال المجوس : إن للخير إلها وللشر إلها هو إبليس وذلك قوله تعالى :
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ واللّه وحده خلقهم وما يعبدون. فكيف يعبد سواه ، واختلق بعض الناس بجهلهم وحماقتهم للّه بنين ، وبنات ، سبحانه وتعالى عما(1/646)
ج 1 ، ص : 647
يشركون!! فقد قالت اليهود : عزيز ابن اللّه ، والنصارى قالوا : المسيح ابن اللّه ، وقال المشركون من العرب : الملائكة بنات اللّه.
كيف يكون ذلك! واللّه مبدع السموات والأرض وما فيهن ، فهو الخالق البارئ المصور كيف يكون له ولد ؟ ولم تكن له صاحبة ، والولد لا بد فيه من تزاوج وتناكح ، وهل يعقل أن تكون له صاحبة تجانسه وتشاكله ، وهو المنزه عن المثيل والشريك : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ « 1 » . وكيف يكون له ولد! وقد أقر الكل بأنه خلق السموات والأرض ، أفيكون في حاجة إلى ولد ؟ وله كل شي ء!! ؟ سبحانه وتعالى ذلكم اللّه ربكم ، لا إله إلا هو ، خالق كل شيء ، فاعبدوه وحده ، فهو الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، الخالق البارئ فاطر السموات والأرض ومبدعها وهو على كل شيء قدير.
واللّه سبحانه لا تدركه الأبصار ، ولا تراه رؤية إحاطة وشمول حتى تعرف كنهه وتحيط به : يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ « 2 » .
والآية الكريمة لا تنفى الرؤية التي وردت بها الأحاديث الصحيحة.
واللّه يدرك الأبصار ، يراها ويدركها ويقف على حقيقتها وكنهها ، وإلى هنا لم يعرف أحد حقيقة الضوء أو حقيقة البصر ولما ذا لم تر الأذن ؟ ولم تسمع العين ولما ذا كان عصب العين ينقل إشارة الرؤية وعصب السمع ينقل إشارة السمع ولكن اللّه وحده هو الذي يدرك الأبصار ويعلمها وهو اللطيف بذاته الخبير بدقائق خلقه وخفاياهم.
حقائق تتعلق بالرسالة [سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
___________
(1) سورة الشورى آية 11.
(2) سورة البقرة آية 255.(1/647)
ج 1 ، ص : 648
المفردات :
بَصائِرُ : جمع بصيرة ، وتطلق على العقيدة القلبية ، وعلى المعرفة الثابتة والحجة البينة ، ويقابلها البصر الذي يدرك به الأشياء الحسية. دَرَسْتَ أى : قرأت ، وفي الحديث : « كان يدارسه القرآن »
ومنه الدرس والمدرسة وهي تشير إلى التذليل بكثرة القراءة.
المعنى :
قد جاءكم كما يجيء الغائب المنتظر تلكم البصائر من الحجج والبراهين والآيات الكونية ، والأدلة العقلية ، التي تنير البصائر وتكشف الحجب والستائر ، جاءتكم من ربكم الذي تعهدكم في الصغر والكبر والضعف والقوة فمن أبصر فلنفسه ومن أساء فعليها : إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها « 1 » وما أنا عليكم بحفيظ ، ولا برقيب ، كل نفس بما كسبت رهينة ، وما علىّ إلا البلاغ وعلى اللّه الحساب.
مثل ذلك البيان الشافي نصرف الآيات في القرآن لإثبات أصول الدين ، ونفصلها ليهتدى بها المستعدون للاهتداء على اختلاف عقولهم وألوانهم ، وليقول الجاحدون المعاندون : إنما درست هذا وقرأته على غيرك وليس وحيا من عند اللّه ، ولقد رموا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأنه علّمه قين (حداد) كان بمكة وهو أعجمى وليس بعربي لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ « 2 » وكيف يصدر هذا القرآن الكامل في كل شيء عن بيئة جاهلية ؟ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى « 3 » ولنظهر هذا القرآن لقوم عندهم عقل وعلم.
___________
(1) سورة الإسراء آية 7.
(2) سورة النحل آية 103.
(3) سورة النجم آية 4.(1/648)
ج 1 ، ص : 649
اتبع يا محمد ما يوحى إليك ، وبلغه فاللّه معك ، الذي لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ، ولا يهمّنك أمرهم ، واعلم أنه إلى اللّه المرجع والمآب ، ولو شاء ما أشركوا أبدا ولكنه شاء ما وقع لحكم هو يعلمها وما جعلك عليهم حفيظا ورقيبا ، ولست عليهم بوكيل.
النهى عن سب الذين يدعون من دون اللّه [سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
روى أن زعماء قريش ذهبوا إلى أبى طالب وقالوا له : أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه ، وقالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك. فنزلت الآية.
المعنى :
ولا تسبوا أيها المسلمون آلهتهم التي يدعونها من دون اللّه إذ ربما نشأ عن ذلك أنهم يسبون اللّه - عزّ وجل - عدوانا وتجاوزا للحد في السباب ليغيظوا بذلك المؤمنين ،(1/649)
ج 1 ، ص : 650
وهم أجهل الناس بقدر اللّه ، ومن هنا نعلم أن الطاعة إن جرّت إلى معصية تترك. مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من الكفار سوء أعمالهم ، وهكذا سنة اللّه في خلقه ، يستحسنون ما جرت عليه نفوسهم ، وما تعودته عن تقليد أو جهل ، أو عن معرفة وعناد واللّه يتركهم وشأنهم ، وهو القادر على كل شيء ، فالتزين أثر لأعمالهم بدون جبر أو إكراه ، وإلا كان الثواب والعقاب وإرسال الرسل عملا لا يصح أن يكون.
وأقسموا ليؤمننّ إذا جاءتهم الآيات التي طلبوها ... كذبوا ، قل لهم : الآيات عند اللّه ، وهم لا يؤمنون أبدا.
الجزء الثامن
الرد على طلب المشركين الشهادة على الرسالة [سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 113]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)(1/650)
ج 1 ، ص : 651
المفردات :
وَحَشَرْنا : جمعنا. قُبُلًا : جمع قبيل ، كرغيف ورغف ، أى : ضمناء وكفلاء ، وقيل : قبلا ، أى : مواجهة ومقابلة ، ومنه قيل : قبل الرجل ودبره ، وقرئ قبلا ، أى : عيانا ومواجهة. شَياطِينَ قال ابن عباس : كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان. يُوحِي الإيحاء : الإعلام مع الخفاء والسرعة كالإيماء ، والمراد ما توسوس به الشياطين من الجن والإنس. زُخْرُفَ الزخرف :
الزينة ، ومنه سمى الذهب زخرفا ، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه. غُرُوراً :
خداعا باطلا. وَلِتَصْغى صغى إليه : مال ، وصغى فلان ، وصغوه معك : ميله وهواه. وَلِيَقْتَرِفُوا اقترف المال : اكتسبه ، والذنب : اجترحه.
روى عن ابن عباس أنه أتى جماعة من كفار مكة وزعمائها إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا :
أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول اللّه ، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم : أحقّ ما تقول أم باطل ؟ أو ائتنا باللّه والملائكة قبيلا ، فنزلت الآية.
وهذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ « 1 » مع تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بذكر طبائع الناس وما يلاقيه الأنبياء في دعوتهم.
المعنى :
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة فرأوهم بأعينهم المرة بعد المرة ، كما قالوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ « 2 » ولو كلمهم الموتى بأن نحييهم لهم فيخبروهم بما رأوا من ثواب أو عقاب كما قالوا : فَأْتُوا بِآبائِنا « 3 » ولو أننا حشرنا عليهم ، وجمعنا لهم من كل شيء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى معاينة ومواجهة ليكون ذلك دليلا على صدق دعواك ، أو جمعنا عليهم كل شيء ضمناء وكفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا.
لو حصل كل هذا لما كان من شأنهم الإيمان ، ولا كان استعدادهم يقتضى ذلك ، لأنهم ينظرون إلى الآيات نظرة تعنت وعداوة ، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ،
___________
(1) سورة الانعام آية 109. [.....]
(2) سورة الفرقان آية 21.
(3) سورة الدخان آية 36.(1/651)
ج 1 ، ص : 652
فلم ينظروا نظرا بريئا للهداية والعبرة حتى يتعظوا ويؤمنوا : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً « 1 » لكن لو شاء اللّه إيمانهم لآمنوا ، ولكنه يتركهم وفطرتهم التي تتنافى مع سلوك طريق الخير والانتفاع بهدى القرآن : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ « 2 » مع تبصرتهم وهدايتهم إلى طريق الخير والشر :
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ « 3 » .
ولكن أكثر المشركين يجهلون ذلك ، فيقسمون باللّه جهد أيمانهم : لئن جاءتهم آية مما اقترحوا ليؤمننّ بها ، وما يشعرون بقلوبهم وما انطوت عليه ، وبما ختم عليها حتى صارت كأنها في أكنة ، وقيل : ولكن أكثر المسلمين يجهلون نفوس الكفار وما هي فيه ، فيميلون إلى إنزال الآيات المقترحة علّهم يؤمنون.
وهكذا سنة اللّه في الخلق. منهم مهتد وكثير منهم فاسقون.
وهكذا سنته مع أنبيائه ، جعل لكل منهم أعداء من الجن والإنس - خاصة أولى العزم منهم - ليحظوا بدرجات الصبر والعمل ، فالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يدعو إلى الخير جاهدا ، والمشركون يدعون إلى ما يعتقدون جهدهم ، فمن باب تنازع البقاء لا بد من حصول العداوة والبغضاء ، والعاقبة للمتقين إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا « 4 » .
كما جعلنا هؤلاء أعداء لك جعلنا لكل نبي جاء قبلك أعداء ، هم شياطين الإنس والجن ،
روى أبو ذر - رضى اللّه عنه - أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال عقب صلاة : يا أبا ذر : هل تعوذت باللّه من شر شياطين الإنس والجن ؟ قال : قلت يا رسول اللّه : هل للإنس شياطين ؟ قال :
نعم وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ « 5 » .
___________
(1) سورة الأنعام آية 25.
(2) سورة البقرة آية 256.
(3) سورة البلد آية 10.
(4) سورة غافر آية 51.
(5) سورة البقرة آية 14.(1/652)
ج 1 ، ص : 653
وقال مجاهد وقتادة والحسن : إن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين ، أما مظهر عداوة هؤلاء للنبي والمسلمين فإنه يوحى بعض شياطين الجن إلى بعض شياطين الإنس وكذلك يوحى بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض ، وعن مالك بن دينار :
إن شيطان الإنس أشد علىّ من شيطان الجن ، إذا تعوذت باللّه ذهب شيطان الجن عنى ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرنى إلى المعاصي عيانا.
يوحى بعضهم إلى بعض بالقول المزخرف المزين ، وبالوسوسة والإغراء بالمعاصي ، والتمويه والخداع بالباطل ، ولو شاء ربك ما فعلوه أبدا فذرهم وما يفترون ، يفعلون هذا ليغروهم بالفساد ، لأنه الموافق لأهوائهم ، وليترتب على ذلك أن يرضوه ويطمئنوا إليه ، وأن يكتسبوا معه من الآثام والمعاصي ما هم مكتسبون.
الشهادة للنبي بالصدق وللقرآن بالحق [سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 115]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
المفردات :
حَكَماً : الحاكم : من يتحاكم إليه الناس ، ويحكم بينهم بالحق أو بغيره ، والحكم : من يحكم بالحق فقط كما قال القرطبي. مُفَصَّلًا : مبيّنا فيه الحق والباطل ، والحلال والحرام. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قال الراغب : تمام الشيء انتهاؤه(1/653)
ج 1 ، ص : 654
إلى حد لا يحتاج معه إلى شيء خارج عنه ، والمراد هنا أن كلمة اللّه وافية في الإعجاز والدلالة على صدق الرسول. لا مُبَدِّلَ : لا مغيّر.
المعنى :
ما لكم تطلبون آيات دالة على صدقى ، وتحكمون بها على أنى رسول اللّه ؟
وتقسمون أنها لو نزلت لآمنتم.
عجبا! أضللت فأبتغى غير اللّه حكما بيننا ؟ ! وليس لي أن أتعدى حكم اللّه ، ولا أن أتجاوزه ، إذ هو الحكم العدل ، وهو الذي أنزل إليكم القرآن كتابا مفصلا فيه كل شيء ، مبينا لكل حكم ، جامعا لكل خير ، فيه الهدى والنور ، والعلم والعرفان ، وهو المعجزة الباقية الدالة على صدق رسالتي لما فيه من الآيات ، ولما أعجز جهابذة البلاغة وأرباب البيان ، مع التحدي الصارخ لهم ... شهد لي بالصدق ، وعليكم بالكذب البهتان!! والذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى ، يعلمون أنه الحق المنزل من عند اللّه مشتملا على النور والهدى ، ومتلبسا بالحق والعلم إذ هو من جنس الوحى الذي نزل عليهم ، وقد جاء في كتبهم البشارة بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته فهم أدرى الناس به : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ « 1 » وقد اعترف بذلك من أنار اللّه بصيرته منهم واهتدى.
والخلاصة أنكم تتحكمون في طلب المعجزات والآيات الدالة على صدق الرسول.
وقد حصل ذلك بوجهين :
(أ) القرآن وهو المعجزة الباقية القائمة مقام قوله تعالى : « صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى » .
(ب) معرفة أهل الكتاب وشهاداتهم للنبي محمد بالصدق.
وإذا كان هذا حاصلا فلا تكونن من الشاكّين ، وهذا لون من ألوان التهييج والإلهاب كقوله : فلا تكونن من المشركين.
___________
(1) سورة البقرة آية 146.(1/654)
ج 1 ، ص : 655
وتمت كلمة ربك ، وقرئ : « كلمات ربك » ، نعم تم كلام اللّه فلا يحتاج إلى شيء آخر ، وأصبح كافيا وافيا في الإعجاز ، والدلالة على الصدق ، وقيل : تمت كلمة ربك فيما وعدك به من النصر على الأعداء ، وأوعد به المستهزئين والكافرين من الخذلان والهلاك : وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ « 1 » .
نعم تمت كلمة ربك صدقا فيما أخبر به ، وعدلا فيما حكم به ، ومن أصدق من اللّه قيلا ؟ من أعدل من اللّه حكما ؟
ثم كان كل ما أخبر به - جل شأنه - من أمر ونهى ، ووعد ووعيد ، وقصص وخبر ، صادقا عادلا ، لا مبدل لكلماته ، ولا راد لقضائه ، فهو القادر على كل شيء ، الحكيم في كل صنع ، السميع لكل قول ، العليم بكل حال ووضع ، سبحانه وتعالى عما يشركون!!
عقائد المشركين وذبائحهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 121]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
___________
(1) سورة الصافات الآيات 171 - 173.(1/655)
ج 1 ، ص : 656
المفردات :
يَخْرُصُونَ : يحدسون ويقدّرون ، والخرص : الحدس والتخمين ، والخارص يقطع بما لا يجوز القطع به إذ لا يقين معه. فَصَّلَ : بيّن وأزال عنكم اللبس في المحرمات. الْإِثْمِ : القبيح ، وفي لسان الشرع : ما حرمه اللّه. لَفِسْقٌ :
معصية وخروج عن دائرة الدين.
المعنى :
لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله الضالون والمشركون ، فإنهم يسلكون سبل الضلال والإضلال ويتبعون الظنون الفاسدة ، وإن تطع أكثر من في الأرض من الكفار والمشركين ، إن تطعهم في أمور الدين ، وتخالف ما أنزل اللّه عليك ، يضلوك عن سبيل اللّه ، سبيل الحق والعدل والصراط المستقيم ، إذ هم لا يتبعون فيما يصدر عنهم إلا الهوى والظن ، ويتجافون عن الحجج العقلية والبراهين الإلهية ، إن يتبعون إلا الظن ، وإن هم إلا يحدسون كالخارص في ثمر النخل ، فاعتقادهم مبنى على الحدس والتخمين ، لا على الحجة واليقين ، وصدق اللّه : فكل النظريات المخالفة ليس مع أصحابها حجة ولا يقين وإنما كله ظن وتخمين.(1/656)
ج 1 ، ص : 657
أليس هذا من أخبار السماء الصادقة ؟ فها نحن أولاء بين الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، ولم يكن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يعلم من أخبار الأمم وأحوالها إلا النزر اليسير.
لا تطعهم أبدا ، إن ربك هو أعلم منك ومن غيرك بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
وإذا كان الأمر كذلك ، فكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه وقت الذبح. إن كنتم بآياته مؤمنين.
وقد كان المشركون من العرب يجعلون الذبائح من أمور العبادات ، فيتعبدون بالذبح للآلهة والأصنام ، ويقولون : كيف تعبدون اللّه ، وما قتله اللّه لا تأكلونه ؟ أى : ما مات حتف أنفه بلا ذبح. وما قتلتموه بأيديكم تأكلونه على أنه حلال.
أىّ مانع لكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه عند الذبح ، والحال أنه قد فصل لكم ، وبين ما أحل وما حرم : قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً [الأنعام 145] .. فقد حرم اللّه هذه المحرمات ، وذكرها في سورة المائدة بالتفصيل ، آية 3 ..
إلا في حال الاضطرار والضرورة فحينئذ يزول التحريم بقدر الضرورة (فالضرورات تبيح المحظورات) وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم الزائفة ، وشهواتهم الفاسدة ، من غير علم منهم بصحة مايقولون ، يضلون غيرهم ، ويصدونهم عن سبيل اللّه ، إن ربك هو أعلم بالمعتدين.
وذروا الإثم واتركوه ، سواء منه ما ظهر للناس واكتسبته الجوارح ، أو ما خفى عن الناس وكان من عمل القلب ، فاللّه يعلم الغيب والشهادة ، إن الذين يكسبون الإثم ، ويجترحون الذنب سيجزون بما كانوا يقترفون. أما من يعمل السوء بجهالة ويتوب إلى اللّه من قريب فأولئك يتوب اللّه عليهم ، فرحمته وسعت كل شيء.
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه ، بأن ذبح للصنم ، أو ذكر عليه غير اسم اللّه ، أو مات حتف أنفه ولم يذكر عليه شيء ، وإنه - أى : الأكل من هذا - لفسق ومعصية وخروج عن الدين وحدوده.
وقال مالك : كل ما لم يذكر اسم اللّه عليه بأن ترك سهوا أو عمدا فهو حرام ، أخذا(1/657)
ج 1 ، ص : 658
بظاهر الآية ، وقال الأحناف : إن ترك الذكر عمدا فهو حرام. وقال الشافعى : إذا كان الذابح مسلما فهو حلال ترك سهوا أو عمدا.
وإن الشياطين من الإنس والجن ليوحون إلى أوليائهم من الإنس والجن ويوسوسون لهم بالقول المزخرف ، والغرور الباطل ، ليجادلوكم على أساس باطل خال من الحكمة والعقل ، مثلا يقولون للمسلمين : كيف تحرمون ما قتله اللّه وتحلون ما قتلتم بعد هذا تدعون عبادة اللّه ؟ !! وإن أطعتموهم مطلقا في أى شيء وبخاصة فيما نحن فيه من استحلال الميتة ، إنكم لمشركون معهم ، وفيه دليل على أن من أحل حراما أو من حرم حلالا فهو كافر ومشرك ، لأنه أثبت مشرعا سوى اللّه ، وهذا هو الشرك بعينه.
مثل المؤمن والكافر [سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 123]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
المفردات :
أَكابِرَ أكابر القوم : رؤساؤهم. مُجْرِمِيها الإجرام : ما فيه الفساد والضرر من الأعمال ، والمجرمون : الفاعلون لهذه الأعمال. قَرْيَةٍ : البلد الذي يجمع الناس كالعاصمة مثلا ، وقد تطلق على الشعب والأمة. لِيَمْكُرُوا المكر : صرف الغير عما يقصده بحيلة.(1/658)
ج 1 ، ص : 659
المعنى :
بعد أن أبان اللّه أن من الناس المهتدى ، وكثير منهم الفاسقون ، ضرب مثلا للمؤمن وآخر للكافر ، فبين فيه أن المؤمن المهتدى بعد الضلالة ، الموفق إلى الخير والهدى ، المميز بين الحق والباطل : كمن كان ميتا فأحياه اللّه ، وجعل له نور القرآن والحكمة يمشى به في الناس : يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ « 1 » له نور يستضئ به في ظلمات الحياة ، فيميز بين الخير والشر ، وأما الكافر الذي بقي على الضلالة يتخبط في ظلمات الكفر والفساد فكمن استقر في الظلمات الحسية لا ينفك عنها ، وليس بخارج منها ، فهو لا يهتدى إلى سواء السبيل ولا يسير على الطريق المستقيم.
أيستوى المؤمن والكافر ؟ نعم لا يستويان أبدا ، وهل يستوي الظلمات والنور ؟
مثل هذا التزيين السابق ، للمؤمن إيمانه وللكافر كفره ، قد زين للكافرين ما كانوا يعملون ، والذي زين هذا هو الشيطان الذي أقسم لأغوينهم أجمعين ، أو هو اللّه - سبحانه وتعالى - نظرا إلى قوله : زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [سورة النمل آية 4].
وكما جعلنا في مكة صناديدها وأشرافها ليمكروا ويصدوا عن سبيل اللّه فيها ، كذلك جعلنا في كل قرية مجرميها وفساقها ، أكابرها وأشرافها ، لأنهم أقدر على المكر والخداع وترويج الباطل بين الناس لرئاستهم وسيادتهم. وهكذا سنة اللّه مع أنبيائه ، يتبعهم الضعفاء ويكفر بهم الأشراف ، ومع هذا فالعاقبة للمتقين ، وما يمكر هؤلاء إلا بأنفسهم ، لأن عاقبة مكرهم عليهم ، وما يشعرون.
غرور المشركين وعاقبته [سورة الأنعام (6) : آية 124]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
___________
(1) سورة الحديد آية 12.(1/659)
ج 1 ، ص : 660
المفردات :
صَغارٌ الصغار والصغر : الذل والهوان ، والصغر : القلة في المحسوسات.
أَجْرَمُوا : ارتكبوا ما فيه جرم.
كان الوليد بن المغيرة يقول للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك ، لأنى أكبر منك سنّا ، وأكثر منك مالا ، فأنزل اللّه هذه الآية ، وقيل : نزلت في شأن أبى جهل.
المعنى :
أراد أكابر قريش أن تكون لهم النبوة والرسالة ، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين وقالوا : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ « 1 » !! وذلك حسدا منهم وغرورا ، وظنّا منهم أن الرسالة مركز دنيوى ، فكما بسط اللّه الرزق لهم وآتاهم مالا ممدودا - أى : كثيرا - وبنين شهودا - أى : حضورا للمجالس - وكبارا في القوم. يؤتيهم النبوة ، ويمنحهم الرسالة.
ولهذا إذا جاءتهم آية دالة على صدق محمد ، وأنه رسول اللّه ، قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل اللّه من الآيات والمعجزات : بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً « 2 » . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ « 3 » أهم يقيسون الرسالة على مظاهر الدنيا الكاذبة ؟ وما علموا أن اللّه يعلم أهل رسالته ومكان نبوته ، ومن هو أهل لأداء الرسالة والقيام بالأمانة على الوجه الذي يرضاه ، على أن الرسالة فضل من اللّه يمنحها لمن يشاء من عباده ، لا ينالها أحد بكسبه ، واللّه لا يعطيها إلا لمن هو أهل لها لسلامة فطرته ، وطهارة قلبه ، وقوة روحه ، ومناعة نفسه ، حتى يمكنه القيام بأعبائها ، أما من يطلبها ويرغب فيها فليست له ، ولا هو يصلح لها ، ولا هي تصلح له.
وها هي ذي عاقبة هؤلاء الذين أجرموا في حق اللّه ، وطمعوا فيما لا طمع فيه سيصيبهم صغار وذلة ، وعذاب ومهانة من عند اللّه ، جزاء بما كانوا يمكرون ، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون.
___________
(1) سورة الزخرف آية 31.
(2) سورة المدثر آية 52.
(3) سورة الزخرف آية 32.(1/660)
ج 1 ، ص : 661
سنة اللّه في الخلق ودينه الحق [سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 128]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
المفردات :
يَشْرَحْ صَدْرَهُ يقال : شرح اللّه صدره فانشرح ، أى : وسّعه لقبول الإيمان والخير ، وقيل : الشرح : الفتح والبيان ، وقيل : هو نور يقذفه اللّه - تعالى - في القلب. ضَيِّقاً الضيق : ضد الواسع. حَرَجاً : هو أضيق الضيق.
الرِّجْسَ : العذاب ، وقيل : الشيطان. دارُ السَّلامِ : دار السلامة وهي الجنة.
المعنى :
ما تقدم كان جزاء للمشركين وعنادهم وغرورهم. وأما أنت يا رسول اللّه(1/661)
ج 1 ، ص : 662
فلا يهمنك أمرهم ولا تحزن عليهم ، فالأمر كله للّه. فمن يرد اللّه أن يهديه للحق ويوفقه للخير يشرح صدره للقرآن ، ويوسع قلبه للإيمان ، فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه ويتسع صدره للقرآن ، و
قد سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن شرح الصدر فقال - : « هو نور يقذفه اللّه في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟
قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت » .
وهذا يكون عند من حسنت فطرته وطهرت نفسه وكان فيها استعداد للخير وميل إلى اتباع الحق.
ومن فسدت فطرته ، وساءت نفسه ، إذا طلب إليه أن ينظر إلى الدين ويدخل فيه لما استحوذ وامتلأ قلبه من باطل التقاليد والاستكبار ، والعناد والحسد والغرور ، إذا طلب إليه أن ينظر في الدين ويدخل فيه ، يجد في صدره ضيقا - وأى ضيق ؟ - وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً وهذا الصنف تكون إجابة الداعي عنده ثقيلة على نفسه جدّا ، فيشعر بضيق شديد ، وحرج كثير ، كأنه كلف من الأعمال ما لا يطيق ، أو أمر بصعود السماء ، وأصبح حالهم كحال الصاعد في طبقات الجو ، والمرتفع في السماء كلما ارتفع وخف الضغط عنه شعر بضيق في النفس وحرج في القلب.
سبحانك ربي هذه نظرية علمية لم يقف عليها الناس إلا قريبا. وقد أخبر بها القرآن من أربعة عشر قرنا.
وهذا الإسلام الذي شرح اللّه صدر بعض عباده له ، هو صراط ربك المستقيم ، صراط اللّه العزيز الحميد الذي يعلم خلقه وما هم عليه ، فهو العلاج الوحيد ، والدواء المفيد الناجع لكل داء ، فعليكم به أيها المسلمون إن أردتم النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
قد فصلنا الآيات ، وبيناها على أتم وجه ، لقوم يتذكرون ويتعظون ، لهؤلاء السالكين طرق الهداية ، المنتفعين بنور القرآن وآياته ، لهؤلاء دار السلامة والسلام ، والأمان والنعيم وهي دار الجنة ، واللّه - سبحانه وتعالى - وليهم ومتولى أمرهم ، وهو حسبهم من كل ما يعنيهم وذلك بسبب ما كانوا يعملون من صالح الأعمال في الدنيا.(1/662)
ج 1 ، ص : 663
واذكر يوم يحشر ربك المخلوقات جميعا إنسهم وجنهم ، ويقول لهم : يا معشر الجن قد أكثرتم من إغوائكم للإنس حتى حشروا معكم ، وقال أولياؤهم وأتباعهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، فاستمتع الإنس بالجن حيث دلوهم على المعاصي وإرضاء الشهوات النفسية ، واستمتع الجن بالإنس حيث كانوا قادة لهم ورؤساء فامتثلوا أمرهم ، وسرّ الجن بذلك ، وقالوا متحسرين : قد بلغنا أجلنا الذي أجلته لنا وحددته لنا ، وهو يوم القيامة. قال اللّه لهم عند ذلك : النار مأواكم خالدين فيها إلا ما شاء اللّه ، إن ربك حكيم عليم.
من سنن اللّه في الكون مع ذكر بعض مواقف الآخرة [سورة الأنعام (6) : الآيات 129 الى 132]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
المفردات :
نُوَلِّي : من الولاية والإمارة ، أو : نجعل بعضهم أنصارا وأولياء لبعض.
ُصُّونَ
: يتلونها مع التوضيح والتبيين ، وفي المصباح : قصصت الخبر قصّا من باب رد : حدثته على وجهه. دَرَجاتٌ : مراتب من أعمالهم وجزائها.(1/663)
ج 1 ، ص : 664
المعنى :
ومثل الذي ذكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض في الدنيا لأنهم متشابهون ومتحدون في الاتجاه والعمل ، نولي بعض الظالمين بعضا بسبب ما كانوا يكسبون من أعمال الظلم المشتركة بينهم.
نولي بعضهم بعضا ، ونجعلهم أنصارا وأولياء لبعض وأصدقاء. فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض ، والكافرون بعضهم أولياء بعض ، وكل يقع على شاكلته ، إذ الأرواح جنود مجندة.
وأما ولاية المشركين لبعض فبمقتضى السنن الكونية ، إذ ولايتهم لبعض مترتبة على اتفاقهم في الخلق والعقيدة والمنفعة والتحزب ، مع أن اللّه لم يأمرهم بشيء من ذلك.
وفي المأثور قيل : سمعتهم يقولون : إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم ، وكما تكونون يولى عليكم. وعن ابن عباس « إذا رضى اللّه على قوم ولى أمرهم خيارهم ، وإذا سخط على قوم ولى أمرهم شرارهم » فيكون الحاكم وبطانته مثلا في السوء يقلدهم غيرهم فيعم الفساد البلد ، والمعنى : إنا نكل بعض الظالمين إلى بعض ، ونسلطهم على أنفسهم ، وهذا تهديد عام شامل لكل ظالم في الحكم أو غيره ، وقال فضيل بن عياض : « إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجبا » .
يا معشر الجن والإنس اقرّوا واعترفوا بإرسال الرسل لكم ، وقد قاموا بمهمة الرسالة خير قيام ، يقصون عليكم الآيات ، ويوضحون الحجج والبينات ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ، ويبشرون من آمن باللّه وعمل صالحا بالثواب العظيم ، وينذرون من خالف وعصى بهذا اليوم الشديد وقعه ، البالغ أثره ، وهذه الرسل منكم ، أى : من جنسكم في الخلق والتكليف والمخاطبة ، أى : من مجموعكم.
وهنا بحث : هل للجن رسل من أنفسهم كما للإنس ؟ أم الرسل من الإنس فقط ؟
وقوله منكم من باب التغليب ، كقوله : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وهما يخرجان من الماء الملح فقط ، أو المراد برسل الجن من كان يستمع إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم ينذر قومه بما سمع : وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ والثابت عن ابن عباس : كانت الرسل تبعث إلى الإنس ، وإن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بعث إلى الجن والإنس ، فقد قال الجن : إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [سورة الأحقاف آية 30].(1/664)
ج 1 ، ص : 665
فماذا قالوا عند ما قيل لهم : ألم يأتكم رسل منكم في الدنيا ؟ ! قالوا : نعم ... أتتنا الرسل وقصت علينا أحسن القصص ، وبشرتنا وأنذرتنا ببليغ الكلم ، يا عجبا لهم شهدوا على أنفسهم بهذا ، وقد كانوا في الدنيا مخدوعين بها ، مغرورين بمالها وجاهها وبريقها!!! فهم قد شهدوا على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين.
وللقيامة مواقف ، فتارة يعترفون بإرسال الرسل إليهم ، وتارة لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، وتارة تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بما كانوا يعملون وتارة يكذبون ويقولون : ما كنا مشركين.
ذلك الذي ذكر من إرسال الرسل للخلق ، تقص الآيات ، وتتلوا البينات ، لإصلاح حال الأفراد والجماعات ، في شئونهم الدنيوية والأخروية ، كل ذلك بسبب أن اللّه لم يكن من سنته أن يهلك الأمم ظالما وهم غافلون عما يجب عليهم ، بل لا بد من إرسال الرسل لتنير الطريق ، وتهدى السبيل فمن عصى بعد ذلك استحق العقاب ، ومن آمن وعمل صالحا استحق الثواب : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فاللّه لا يظلم أحدا من خلقه ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، فاعتبروا أيها المسلمون ، واعلموا أن ما نزل بكم إنما هو نتيجة لترك الدين وما فيه ، واعلموا أن لكل عامل درجات ومراتب مما عمل ، وجزاء عليه إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ، وما ربك بغافل عما تعملون.
تهديد وإنذار [سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)(1/665)