التفسير القيم لابن القيم
جمع وترتيب / محمد أويس الندوى
هذا التفسير قام بجمعه العلامة المحقق الشيخ محمد أويس الندوي خريج ندوة العلماء في الهند بذل فيه جهدا مشكورا حيث قرأ المطبوع من مؤلفات الحافظ ابن القيم واستخرج منها هذه المجموعة القيمة من تفسيره للقرآن وهي لم تشمل القرآن كاملا إلا أنها تعتبر نموذجا صالحا عن تفسير ابن القيم ومنهجه فيه، كما أن المتدبر لهذا التفسير ينتفع به نفعا عظيما....
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مقدمة ابن القيم(1/1)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له رب العالمين وإله المرسلين وقيوم السموات والأرضين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين أنزله لنقرأه تدبرا ونتأمله تبصرا ونسعد به تذكرا ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه ونصدق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه من أشجاره ورياحين الحكم من بين رياضه وأزهاره فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته وطريقه الموصلة لسالكها إليه ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب وبابه الأعظم الذي منه الدخول فلا يغلق إذا غلقت الأبواب وهو الصراط المستقيم الذي لاتميل به الآراء والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء لا تفنى عجائبه ولا تقلع سحائبه ولا تنقضي آياته ولا تختلف دلالاته كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرا زادها هداية وتبصيرا وكلما بجست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرا فهو نور البصائر من عماها وشفاء الصدور من أدوائها وجواها وحياة القلوب ولذة النفوس ورياض القلوب وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح والمنادي بالمساء والصباح ياأهل الفلاح حي على الفلاح نادى منادى الإيمان على رأس الصراط المستقيم 46 31 يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم
أسمع والله لو صادف آذانا واعية وبصر لو صادف قلوبا من الفساد
خالية لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل(1/2)
واعجبا لها كيف جعلت غذاءها من هذه الأراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تقبل الإغتذاء بكلام رب العالمين ونصوص حديث نبيه المرفوع أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطإ والصواب وخفى عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب
واعجبا كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها ومقبولها ومردودها وراجحها ومرجوحها وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقى الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان وكلام من أوتي جوامع الكلم واستولى كلامه على الأقصى من البيان
كلا بل هي والله فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها وحيرت العقول عن طرائق قصدها يربى فيها الصغير ويهرم فيها الكبير
وظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون والنهاية التي تنافس فيها المنافسون وتزاحموا عليها وهيهات أين السهى من شمس الضحى وأين الثرى من كواكب الجوزاء وأين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم وأين الأقوال التي أعلا درجاتها أن تكون سائغة الإتباع من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في محل النزاع وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها
ويتبصر وأين المذاهب التي إذا مات أربها فهي من جملة الأموات من النصوص التي لا تزول إذا زالت الأرض والسموات
سبحان الله ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا(1/3)
درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها وأفلت كواكبه النيرة من آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يبصرونها
خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز وقالوا مالك عندنا من عبور وإن كان ولا بد فعلى سبيل الإجتياز أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان له السكة والخطبة وماله حكم نافذ ولا سلطان المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول وأهل الكتاب والسنة المقدمون لنصوصها على غيرها جهال لديهم منقوصون 2 13 وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون
حرموا والله الوصول بعدولهم عن منهج الوحي وتضييعهم الأصول
وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها حتى إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه وقدموا على ما قدموه 39 48 وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه
فياشدة الحسرة عند ما يعاين المبطل سعيه وكده هباءا منثورا وياعظم المصيبة عند ما يتبين بواراق أمانيه خلبا وآماله كاذبة غرورا فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر وما عذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر(1/4)
أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال أو بالإشارات والشطحات وأنواع الخيال
هيهات والله لقد ظن أكذب الظن ومنته نفسه أبين المحال وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله على غيره وتزود التقوى وائتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم
وبعد فلما كان كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق وبتكميله لغيره في هذين الأمرين كما قال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر أقسم سبحانه أن كل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان وقوته العملية بالعمل الصالح وكمل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه فالحق هو الإيمان والعمل ولا يتمان إلا بالصبر عليهما والتواصي بهما كان حقيقا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره بل أنفاسه فيما ينال به المطالب العالية ويخلص به من الخسران المبين وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره
واستخراج كنوزه وإثارة دفائنه وصرف العناية إليه والعكوف بالهمة عليه فإنه الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد والموصل لهم إلى سبيل الرشاد فالحقيقة والطريقة والأذواق والمواجيد الصحيحة كلها لا تقتبس إلا من مشكاته ولا تستثمر إلا من شجراته
ونحن بعون الله ننبه على هذا بالكلام على فاتحة الكتاب وأم القرآن وعلى بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه المطالب وما تضمنته من الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال وما تضمنته من منازل السائرين ومقامات العارفين والفرق بين وسائلها وغاياتها ومواهبها وكسبياتها وبيان أنه لا يقوم غير هذه السورة مقامها ولا يسد مسدها ولذلك لم ينزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها(1/5)
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
سورة الفاتحة
اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال وتضمنتها أكمل تضمن
فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها ومدارها عليها وهي الله والرب الرحمن وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة ف إياك نعبد مبنى على الإلهية وإياك نستعين على الربوبية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة والحمد يتضمن الأمور الثلاثة فهو المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته والثناء والمجد كمالان لجده
وتضمنت إثبات المعاد وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها وتفرد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق وكون حكمه بالعدل وكل هذا تحت قوله مالك يوم الدين
وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة
أحدها كونه رب العالمين فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملا لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما فهذا هضم للربوبية ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به وما قدره حق قدره من نسبه إليه
الثاني أخذها من اسم الله وهو المألوه المعبود ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله
الموضع الثالث من اسمه الرحمن فإن رحمته تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كما لهم فمن أعطى اسم الرحمن حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب أعظم من تضمنه إنزال الغيث وإنبات الكلأ وأخراج الحب فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الإسم حظ البهائم والدواب وأدرك منه أولو الألباب أمرا وراء ذلك(1/6)
الموضع الرابع من ذكر يوم الدين فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم فيثيبهم على الخيرات ويعاقبهم على المعاصي والسيئات وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه والحجة إنما قامت برسله وكتبه وبهم استحق الثواب والعقاب وبهم قام سوق يوم الدين وسيق الأبرار إلى النعيم والفجار إلى الجحيم
الموضع الخامس من قوله إياك نعبد فإن ما يعبد به الرب تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه وعبادته وهي شكره وحبه وخشيته فطرى ومعقول للعقول السليمة لكن طريق التعبد وما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله وبيانهم وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول يستحيل تعطيل العالم عنه كما يستحيل تعطيله عن الصانع فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل ولم يؤمن به ولهذا جعل الله سبحانه الكفر برسله كفرا به
الموضع السادس من قوله اهدنا الصراط المستقيم فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام وهو بعد البيان والدلالة ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق وجعل الإيمان في القلب وتحبيبه إليه وتزيينه في القلب وجعله مؤثرا له راضيا به راغبا فيه
وهما هدايتان مستقلتان لا يحصل الفلاح إلا بهما وهما متضمنتان تعريف مالم نعلمه من الحق تفصيلا وإجمالا وإلهامنا له وجعلنا مريدين لإتباعه ظاهرا وباطنا ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة
ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة وبطلان قول من يقول إذا كنا مهتدين فكيف نسأل الهداية فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده(1/7)
أو أكثر منه أو دونه وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر ونحن محتاجون إلى الهداية التامة فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام
وللهداية مرتبة أخرى وهي آخر مراتبها وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة وهو الصرط الموصل إليها فمن هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه هدى هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كشد الركاب ومنهم من يسعى سعيا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يحبوا حبوا ومنهم المخدوش المسلم ومنهم المكردس في النار فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا حذو القذة بالقذة جزاء وفاقا هل تجزون إلا ما كنتم تعملون
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك وما ربك بظلام للعبيد
فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر
الموضع السابع من معرفة نفس المسئول وهو الصراط المستقيم ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور الإستقامة والإيصال إلى المقصود والقرب وسعته للمارين عليه وتعينه طريقا للمقصود ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة
فوصفه بالإستقامة يتضمن قربه لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل(1/8)
بين نقطتين وكلما تعوج طال وبعد واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته وإضافته إلى المنعم عليهم ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقا
والصراط تارة يضاف إلى الله إذ هو الذي شرعه ونصبه كقوله تعالى 6 153 وأن هذا صراطي مستقيما وقوله42 153 وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله وتارة يضاف إلى العباد كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه وهو المنسوب لهم وهم المارون عليه
الموضع الثامن من ذكر المنعم عليهم وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال
فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق أو جاهلا به والعالم بالحق إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها ألبتة فالعالم بالحق العامل به هو المنعم عليه وهو الذي زكى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح 91 9 قد أفلح من زكاها والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه والجاهل بالحق هو الضال والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل فكل منهما ضال مغضوب عليه ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به
ومن ههنا كان اليهود أحق به وهو متغلظ في حقهم كقوله تعالى في حقهم 2 90 بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وقال تعالى 5 60 قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة من عندالله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبدالطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل والجاهل بالحق أحق باسم الضلال ومن هنا وصفت النصارى به في قوله تعالى 5 77 قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق(1/9)
ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل فالأولى في سياق الخطاب مع اليهود والثانية في سياقه مع النصارى وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث عدي بن حاتم قال قال رسول الله اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون / ح /
ففي ذكر المنعم عليهم وهم من عرف الحق واتبعه والمغضوب عيهم وهم من عرفه واتبع هواه والضالين وهم من جهله ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة
وأضاف النعمة إليه وحذف فاعل الغضب لوجوه
منها أن النعمة هي الخير والفضل والغضب من باب الإنتقام والعدل والرحمة تغلب الغضب فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين وأسبقهما وأقواهما وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه وحذف الفاعل في مقابلتهما كقول مؤمني الجن 72 10 وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ومنه قول الخضر في شأن الجدار واليتيمين 18 82 فأراد ربك أن يبلغا أشدهم ويستخرجا كنزهما وقال في خرق السفينة 18 79 فأردت أن أعيبها ثم قال بعد ذلك وما فعلته عن أمري وتأمل قوله تعالى 2 187 أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم وقوله 5 3 حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وقوله 4 23 حرمت عليكم أمهاتكم ثم قال 4 24 وأحل لكم ما رواء ذلكم
وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر فكل الخلق في نعمه وهذا فصل النزاع في مسألة هل لله على الكافر من نعمة أم لا
فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان ومطلق النعمة تكون للمؤمن والكافر
كما قال تعالى 14 34 وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار
والنعمة من جنس الإحسان بل هي الإحسان والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر والمؤمن والكافر
وأما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون(1/10)
الوجه الثاني أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم 16 53 وما بكم من نعمة فمن الله فأضيف إليه ما هو منفرد به وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقا ومجرى للنعمة وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به تعالى بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه فكان في لفظة المغضوب عليهم بموافقة أوليائه له من الدلالة على تفرده بالإنعام وأن النعمة المطلقة منه وحده هوالمنفرد بها ما ليس في لفظة المنعم عليهم
الوجه الثالث أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر فاعل النعمة من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره ورفع قدره ما ليس في حذفه فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه ورفع قدره فقلت هذا الذي أكرمه السلطان وخلع عليه وأعطاه ما تمناه كان أبلغ في الثناء والتعظيم من قولك هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطى
وتأمل سرا بديعا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح وهي الهدى ودين الحق ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء فهذا تمام النعمة ولفظ أنعمت عليهم يتضمن الأمرين
وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضا أمرين الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه
فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلاله وغضب الله عليه
فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أبين استلزام واقتضاه أكمل اقتضاء في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة مع ذكر الفاعل في أهل السعادة وحذفة في أهل الغضب وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال(1/11)
وتأمل المقابلة بين الهداية والنعمة والغضب والضلال فذكر المغضوب عليهم و الضالين في مقابلة المهتدين المنعم عليهم وهذا كثير في القرآن يقرن بين الضلال والشقاء وبين الهدى والفلاح فالثاني كقوله 2 4 أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقوله أولئك لهم الأمن وهم مهتدون والأول كقوله تعالى 54 47 إن المجرمين في ضلال وسعر وقوله 2 7 ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله 20 123 فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى فهذا الهدى والسعادة ثم قال 20 124 ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى فذكر الضلال والشقاء
فالهدى والسعادة متلازمان والضلال والشقاء متلازمان
فصل وذكر الصراط المستقيم مفردا معرفا تعريفين تعريفا باللام
وتعريفا بالإضافة وذلك يفيد تعينه واختصاصه وأنه صراط واحد وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله 6 153 وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فوحد لفظ
الصراط و سبيله وجمع السبل المخالفة له وقال ابن مسعود خط لنا رسول الله خطا وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره وقال هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق(1/12)
ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب فالطرق عليهم مسدودة والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إلى الله قال الله تعالى 15 14 هذا صراط علي مستقيم قال الحسن معناه صراط إلي مستقيم وهذا يحتمل أمرين أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض فقامت أداة على مقام إلى والثاني أنه أراد التفسير على المعنى وهو الأشبه بطريق السلف أي صراط موصل إلي وقال مجاهد الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء وهذا مثل قول الحسن وأبين منه وهو من أصح ما قيل في الآية وقيل علي فيه للوجوب أي علي بيانه وتعريفه والدلالة عليه والقولان نظير القولين في آية النحل وهي 16 9 وعلى الله قصد السبيل والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر أن السبيل القاصد وهو المستقيم المعتدل يرجع إلى الله ويوصل إليه قال طفيل الغنوي
مضوا سلفا قصد السبيل عليهم ... وصرف المنايا بالرجال تشقلب
أي ممرنا عليهم وإليهم وصولنا وقال الآخر
فهن المنايا أي واد سلكته ... عليها طريقي أو علي طريقها
فإن قيل لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة إلى التي هي للإنتهاء لا أداة على التي هي للوجوب ألا ترى أنه لما أراد الوصول قال
882223 - 3 إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم وقال 30 23 إلينا مرجعهم وقال 6 108 ثم إلى ربهم مرجعهم وقال لما أراد الوجوب 88 26 ثم إن علينا حسابهم وقال 75 17 إن علينا جمعه وقرآنه وقال 6 38 وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ونظائر ذلك
قيل في أداة على سر لطيف وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى وهو حق كما قال في حق المؤمنين 2 4 أولئك على هدى من ربهم وقال لرسوله 27 79 فتوكل على الله إنك على الحق المبين والله عز وجل هو الحق وصراطه حق ودينه حق فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى فكان في أداة على على هذا المعنى ما ليس في أداة إلى فتأمله فإنه سر بديع(1/13)
فإن قلت فما الفائدة في ذكر على في ذلك أيضا وكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق وعلى الهدى
قلت لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى مع ثباته عليه واستقامته إليه فكان في الإتيان بأداة على ما يدل على علوه وثبوته واستقامته وهذا بخلاف الضلال والريب فإنه يؤتى فيه بأداة في الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه كقوله تعالى 9 45 فهم في ريبهم يترددون وقوله 6 39 والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات وقوله 23 24 فذرهم في غمرتهم حتى حين وقوله 42 14 وإنهم لفي شك منه مريب
وتأمل قوله تعالى 34 24 وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين فإن طريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير وطريق الضلال تأخذ سفلا هاوية بسالكها في أسفل سافلين
وفي قوله تعالى 15 41 قال هذا صراط علي مستقيم قول ثالث وهو قول الكسائي إنه على التهديد والوعيد نظير قوله 89 14 إن ربك لبالمرصاد كما يقال طريقك على وممرك على لمن تريد إعلامه بأنه
غير فائت لك ولا معجز والسياق يأبى هذا ولا يناسبه لمن تأمله فإنه قاله مجيبا لإبليس الذي قال 15 39 لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم ولا طريق لي عليهم
فقرر الله عز وجل ذلك أتم التقرير وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط لأنه صراط علي ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ولا الحوم حول ساحته فإنه محروس محفوظ بالله فلا يصل عدو الله إلى أهله
فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل ولينظر إلى هذا المعنى ويوازن بينه وبين القولين الآخرين أيهما أليق بالآيتين وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف(1/14)
وأما تشبيه الكسائي له بقوله إن ربك لبالمرصاد فلا يخفى الفرق بينهما سياقا ودلالة فتأمله ولا يقال في التهديد هذا طريق مستقيم علي لمن لا يسلكه وليست سبيل المهدد مستقيمة فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله فلا يستقيم هذا القول ألبتة
وأما من فسره بالوجوب أي علي بيان استقامته والدلالة عليه فالمعنى صحيح لكن في كونه هو المراد بالآية نظر لأنه حذف في غير موضع الدلالة ولم يؤلف الحذف المذكور ليكون مدلولا عليه إذا حذف بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة فإنه حذف مألوف معروف حتى إنه لا يذكر ألبتة فإذا قلت له درهم على كان الحذف معروفا مألوفا فلو أردت علي نقده أو علي وزنه وحفظه ونحو ذلك وحذفت لم يسغ وهو نظير علي بيانه المقدر في الآية مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق وأجل المعنيين وأكبرهما
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه يقول وهما نظير قوله تعالى 92 12 13 إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى قال فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى
قلت وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة والليل إذا يغشى إلا معنى الوجوب أي علينا بيان الهدى من الضلال ومنهم من لم يذكر في سورة النحل إلا هذا المعنى كالبغوي وذكر في الحجر الأقوال الثلاثة وذكر الواحدي في بسيطه المعنيين في سورة النحل واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في السور الثلاث
فصل والصراط المستقيم هو صراط الله وهو يخبر أن الصراط عليه سبحانه(1/15)
كما ذكرنا ويخبر أنه سبحانه على الصراط المستقيم وهذا في موضعين من القرآن في هود والنحل قال في هود 11 56 ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم وقال في النحل 16 76 وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل وهي كل على عابدها يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ويضعه ويقيمه ويخدمه فكيف يسوونه في العادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد وهو قادر متكلم غنى وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله فقوله صدق ورشد ونصح وهدى وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة هذا أصح الأقول في الآية وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره ومن ذكر غيره قدمه على الأقوال ثم حكاها بعده كما فعل البغوي فإنه جزم به وجعله تفسير الآية ثم قال وقال الكلبي يدلكم على صراط مستقيم
قلت ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه على الصراط
المستقيم فإن دلالته بفعله وقوله وهو على الصراط المستقيم في أفعاله وأقواله فلا يناقض قول من قال إنه سبحانه على الصراط المستقيم
قال وقيل هو رسول الله يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم
قلت وهذا حق لا يناقض القول الأول فالله على الصراط المستقيم ورسوله عليه فإنه لا يأمر ولا يفعل إلا مقتضاه وموجبه وعلى هذا يكون المثل مضروبا لإمام الكفار وهاديهم وهو الصنم الذي هو أبكم لا يقدر على هدى ولا خير والإمام الأبرار وهو رسول الله الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم
وعلى القول الأول يكون مضروبا لمعبود الكفار ومعبود الأبرار والقولان متلازمان فبعضهم ذكر هذا وبعضهم ذكر هذا وكلاهما مراد من الآية قال وقيل كلاهما للمؤمن والكافر يرويه عطية عن ابن عباس وقال عطاء الأبكم أبي بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون(1/16)
قلت والآية تحتمله ولا يناقض القولين قبله فإن الله على صراط مستقيم ورسوله وأتباع رسوله وضد ذلك معبود الكفار وهاديهم والكافر التابع والمتبوع والمعبود فيكون بعض السلف ذكر أعلى الأنواع وبعضهم ذكر الهادي وبعضهم ذكر المستجيب القابل وتكون الآية متناولة لذلك كله ولذلك نظائر كثيرة في القرآن
وأما آية هود فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدا وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة 6 115 وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا وأفعاله كلها مصالح وحكم ورحمة وعدل وخير فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله ألبتة لخروج الشر عن الصراط المستقيم فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله
وفي دعائه عليه الصلاة والسلام لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله والشر لا يتقرب به
إليك أو لا يصعد إليك فإن المعنى أجل من ذلك وأكبر وأعظم قدرا فإن من أسماؤه كلها حسنى وأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها حكم وأقواله كلها صدق وعدل يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه أو أفعاله أو أقواله فطابق بين هذا المعنى وبين قوله إن ربي على صراط مستقيم وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله 11 56 إني توكلت على الله ربي وربكم أي هو ربي فلا يسلمني ولا يضيعني وهو ربكم فلا يسلطكم علي ولا يمكنكم مني فإن نواصيكم بيده لا تفعلون شيئا بدون مشيئته فإن ناصية كل دابة بيده لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه فهو المتصرف فيها ومع هذا فهو في تصرفه فيها وتحريكه لها ونفوذ قضائه وقدره فيها على صراط مستقيم لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة ولو سلطكم علي فله من الحكمة في ذلك ماله الحمد عليه لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم لا يظلم ولا يفعل شيئا عبثا بغير حكمة(1/17)
فهكذا تكون المعرفة بالله لا معرفة القدرية المجوسية والقدرية الجبرية نفاة الحكم والمصالح والتعليل والله الموفق سبحانه
فصل ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه
مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة والنفوس مجبولة على وحشة التفرد وعلى الأنس بالرفيق نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق وأنهم هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له وهم الذين أنهم الله عليهم ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبنى جنسه
وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم فلا يكترث بمخالفة
الناكبين عنه له فإنهم هم الأقلون قدرا وإن كانوا الأكثرين عددا كما قال بعض السلف عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم وغض الطرف عمن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك
وقد ضربت لذلك مثلين فليكونا منك على بال
المثل الأول رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس فألقى عليه كلاما يؤذيه فوقف ورد عليه وتماسكا فربما كان شيطان الإنس أقوى منه فقهره ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول وكمال إدراك الجماعة فإن التفت إليه أطمعه في نفسه وربما فترت عزيمته فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده وخاف فوت الصلاة أوالوقت لم يبلغ عدوه منه ما شاء(1/18)
المثل الثاني الظبي أشد سعيا من الكلب ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه
والقصد أن في ذكر هذا الرفيق ما يزيل وحشة التفرد ويحث على السير والتشمير للحاق بهم
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت اللهم اهدني فيمن هديت أي أدخلني في هذه الزمرة واجعلني رفيقا لهم ومعهم
والفائدة الثانية أنه توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية
أي قد أنعمت بالهداية على من هديت وكان ذلك نعمة منك فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم فهو توسل إلى الله بإحسانه
والفائدة الثالثة كما يقول السائل للكريم تصدق علي في جملة من تصدقت عليهم وعلمني في جملة من علمته وأحسن إلي في جملة من شملته بإحسانك
فصل ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب
ونيله أشرف المواهب علم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم توسل إليه بأسمائه وصفاته وتوسل إليه بعبوديته وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الإسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد والترمذي(1/19)
أحدهما حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه قال سمع النبي رجلا يدعو ويقول اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى قال الترمذي حديث صحيح فهذا توسل إلى الله بتوحيده وشهادة الداعي له بالواحدانية وثبوت صفاته المدلول عليها باسم الصمد وهو كما قال ابن عباس العالم الذي كمل علمه القادر الذي كملت قدرته وفي رواية عنه هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد وقال أبو وائل هو السيد الذي انتهى سؤده وقال سعيد بن جبير هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأقواله
وبنفي التشبيه والتمثيل عنه بقوله ولم يكن له كفوا أحد وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة والتوسل بالإيمان بذلك والشهادة به هو الإسم الأعظم
والثاني حديث أنس أن رسول الله سمع رجلا يدعو اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ذا الجلال والإكرام ياحي يا قيوم فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة(1/20)
ونظير هذا دعاء النبي الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له ثم سأله المغفرة
فصل في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت
عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم
التوحيد نوعان نوع في العلم والإعتقاد ونوع في الإرادة والقصد ويسمى
الأول التوحيد العلمي والثاني التوحيد القصدي الإرادي لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة والثاني بالقصد والإرادة وهذا الثاني أيضا نوعان توحيد في الربوبية وتوحيد في الإلهية فهذه ثلاثة أنواع
فأما توحيد العلم فمداره إلى إثبات صفات الكمال وعلى نفي التشبيه والمثال والتنزيه عن العيوب والنقائص وقد دل على هذا شيئان مجمل ومفصل
أما المجمل فإثبات الحمد له سبحانه وأما المفصل فذكر صفة الإلهية والربوبية والرحمة والملك وعلى هذه الأربع مدار الأسماء والصفات(1/21)
فأما تضمن الحمد لذلك فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله مع محبته والرضا عنه والخضوع له فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود ولا من أعرض عن محبته والخضوع له وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها ولهذا كان الحمد لله حمدا لا يحصيه سواه لكمال صفاته وكثرتها ولأجل هذا لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه لما له من صفات الكمال ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه ولهذا ذم الله تعالى آلهة الكفار وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تهدي ولا تنفع ولا تضر وهذه صفة إله الجهمية التي عاب بها الأصنام نسبوها إليه تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا فقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجته لأبيه 19 42 يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فلو كان إله إبراهيم بهذه الصفة والمثابة لقال له آزر وأنت إلهك بهذه المثابة فكيف تنكر علي لكن كان مع شركه أعرف بالله من الجهمية وكذلك كفار قريش كانوا مع شركهم مقرين بصفات الصانع سبحانه وعلوه على خلقه وقال تعالى 7 148 واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا
جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين فلو كان إله الخلق سبحانه كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم واستدلال على بطلان الإلهية بذلك
فإن قيل فالله تعالى لا يكلم عباده(1/22)
قيل بلى قد كلمهم فمنهم من كلمه الله من وراء حجاب منه إليه بلا واسطة كموسى ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي وهم الأنبياء وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله فأنزل عليهم كلامه الذي بلغته رسله عنه وقالوا لهم هذا كلام الله الذي تكلم به وأمرنا بتبليغه إليكم ومن ههنا قال السلف من أنكر كون الله متكلما فقد أنكر رسالة الرسل كلهم لأن حقيقتها تبليغ كلامه الذي تكلم به إلى عباده فإذا انتفى كلامه انتفت الرسالة وقال تعالى في سورة طه عن السامري 20 88 فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ورجع القول هو التكلم والتكليم وقال تعالى 16 76 ضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فجعل نفي صفة الكلام موجبا لبطلان الإلهية وهذا أمر معلوم بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلها ولا مدبرا ولا ربا بل هو مذموم معيب ناقص ليس له الحمد لا في الأولى ولا في الآخرة وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال ونعوت الجلال التي لأجلها استحق الحمد ولهذا سمى السلف كتبهم التي صنفوها في السنة وإثبات صفات الرب وعلوه على خلقه وكلامه وتكليمه توحيدا لأن نفي ذلك وإنكاره والكفر به إنكار للصانع وجحد له وإنما توحيده إثبات صفات كماله وتنزيهه عن التشبيه والنقائص فجعل المعطلة جحد الصفات وتعطيل الصانع عنها(1/23)
توحيدا وجعلوا إثباتها لله تشبيها وتجسيما وتركيبا فسموا الباطل باسم الحق ترغييا فيه وزخرفا ينفقونه به وسموا الحق باسم الباطل تنفيرا عنه والناس أكثرهم مع ظاهر السكة ليس لهم نقد النقاد 18 17 من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا والمحمود لا يحمد على العدم والسكوت ألبتة إلا إذا كانت سلب عيوب ونقائص تتضمن إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية وإلا فالسلب المحض لا حمد فيه ولا مدح ولا كمال
وكذلك حمده لنفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه وتعبيد كل شيء له فاتخاذ الولد ينافي ذلك كما قال تعالى 10 67 قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض
وحمد نفسه على عدم الشريك المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره فيكون شريكا له فلو عدمها لكان كل موجود أكمل منه لأن الموجود أكمل من المعدوم ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذا كان متضمنا لثبوت كمال كما حمد نفسه بكونه لا يموت لتضمنه كمال حياته وحمد نفسه بكونه لا تأخذه سنة ولا نوم لتضمن ذلك كمال قيوميته وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر لكمال علمه وإحاطته وحمد نفسه بأنه لا يظلم أحدا لكمال عدله وإحسانه وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار لكمال عظمته يرى ولا يدرك كما أنه يعلم ولا يحاط به علما فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال لأن العدم لا يرى فليس في كون الشيء لا يرى كمال ألبتة وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكا لعظمته في نفسه وتعاليه عن إدراك المخلوق له وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة والنسيان لكمال علمه
فكل سلب في القرآن حمدالله به نفسه فلمضادته لثبوت ضده ولتضمنه كمال ثبوت ضده
فعلمت أن حقيقة الحمد تابعة لثبوت أوصاف الكمال وأن نفيها نفي لحمده ونفي الحمد مستلزم لثبوت ضده(1/24)
فصل فهذه دلالة على توحيد الأسماء والصفات وأما دلالة الأسماء
الخمسة عليها وهي الله والرب والرحمن والرحيم والملك فمبنى على أصلين
أحدهما أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله فهي مشتقة من الصفات فهي أسماء وهي أوصاف وبذلك كانت حسنى إذ لو كانت ألفاظا لا معانى فيها لم تكن حسنى ولا كانت دالة على مدح ولا كمال ولساغ وقوع أسماء الإنتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان وبالعكس فيقال اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم واللهم أعطني فإنك أنت الضار المانع ونحو ذلك
ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها قال تعالى 7 170 وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله كقوله تعالى 51 58 إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فعلم أن القوى من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة وكذلك قوله 35 10 فلله العزة جميعا فالعزيز من له العزة فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قويا ولا عزيزا وكذلك قوله 4 166 أنزله بعلمه 11 14 فاعلموا أنما أنزل بعلم الله 2 255 ولا يحيطون بشيء من علمه
وفي الصحيح عن النبي إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل
الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه فأثبت المصدر الذي اشتق منه اسمه البصير
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات
وفي الصحيحح حديث الإستخارة اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك فهو قادر بقدرة
وقال تعالى لموسى 7 144 إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فهو متكلم بكلام(1/25)
وهو العظيم الذي له العظمة كما في الصحيح عنه يقول الله تعالىالعظمة إزاري والكبرياء ردائي وهو الحكيم الذي له الحكم 40 12 فالحكم لله العلي الكبير وأجمع المسلمون أنه لو حلف بحياة الله أو سمعه أو بصره أو قوته أو عزته أو عظمته انعقدت يمينه وكانت مكفرة لأن هذه صفات كماله التي اشتقت منها أسماؤه
وأيضا لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها فلا يقال يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها فإذا انتقى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها
وأيضا فلو لم تسكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قام به فكانت كلها سواء ولم يكن فرق بين مدلولاتها وهذا مكابرة صريحة وبهت بين فإن من جعل معنى اسم القدير هو معنى اسم السميع البصير ومعنى اسم التواب هو معنى اسم المنتقم ومعنى اسم المعطي هو معنى اسم المانع فقد كابر العقل واللغة والفطرة
فنفي معاني أسمائه من أعظم الإلحاد فيها والإلحاد فيها أنواع هذا أحدها
الثاني تسمية الأوثان بها كما يسمونها آلهة وقال ابن عباس ومجاهد عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا فاشتقوا اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان وروي عن ابن عباس يلحدون في أسمائه يكذبون عليه وهذا تفسير بالمعنى
وحقيقة الإلحاد فيها العدول بها عن الصواب فيها وإدخال ما ليس من معانيها فيها وإخراج حقائق معانيها عنها هذا حقيقة الإلحاد ومن فعل ذلك فقد كذب على الله ففسر ابن عباس الإلحاد بالكذب أو هو غاية الملحد في أسمائه تعالى فإنه إذا أدخل في معانيها ما ليس منها وخرج بها عن حقائقها أو بعضها فقد عدل بها عن الصواب والحق وهو حقيقة الإلحاد(1/26)
فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات المصنوعات كإلحاد أهل الإتحاد فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها حتى قال زعيمهم وهو المسمى بكل اسم ممدوح عقلا وشرعا وعرفا وبكل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا
فصل الأصل الثاني أن الإسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على
الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة فإنه يدل عليه دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن وكذلك على الذات المجردة عن الصفة ويدل على الصفة الأخرى باللزوم فإن اسم السميع يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن ويدل على اسم الحي وصفة الحياة بالإلتزام وكذلك سائر أسمائه وصفاته ولكن يتفاوت الناس
في معرفة اللزوم وعدمه ومن ههنا يقع اختلافهم في كثير من الأسماء والصفات والأحكام فإن من علم أن الفعل الإختياري لازم للحياة وأن السمع والبصر لازم للحياة الكاملة وأن سائر الكمال من لوازم الحياة الكاملة أثبت من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ما ينكره من لم يعرف لزوم ذلك ولا عرف حقيقة الحياة ولوازمها وكذلك سائر صفاته
فإن اسم العظيم له لوازم ينكرها من لم يعرف عظمة الله ولوازمها
وكذلك اسم العلي واسم الحكيم وسائر أسمائه فإن من لوازم اسم العلي العلو المطلق بكل اعتبار فله العلو المطلق من جميع الوجوه علو القدر وعلو القهر وعلو الذات فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه العلي(1/27)
وكذلك اسمه الظاهر من لوازمه أن لا يكون فوقه شيء كما في الصحيح عن النبي وأنت الظاهر فليس فوقك شيء بل هو سبحانه فوق كل شيء فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم اسمه الظاهر ولا يصح أن يكون الظاهر هو من له فوقية القدر فقط كما يقال الذهب فوق الفضة والجوهر فوق الزجاج لأن هذه الفوقية تتعلق بالظهور بل قد يكون المفوق أظهر من الفائق فيها ولا يصح أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر والغلبة لمقابلة الإسم الباطن وهو الذي ليس دونه شيء كما قابل الأول الذي ليس قبله شيء ب الآخر الذي ليس بعده شيء
وكذلك اسم الحكيم من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله ووضعه الأشياء في مواضعها وإيقاعها على أحسن الوجوه فإنكار ذلك إنكار لهذا الإسم ولوازمه وكذلك سائر أسمائه الحسنى
فصل إذا تقرر هذان الأصلان فاسم الله دال على جميع الأسماء الحسنى
والصفات العليا بالدلالات الثلاث فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له مع نفي أضدادها عنه
وصفات الإلهية هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال وعن العيوب والنقائص ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الإسم العظيم كقوله تعالى 7 180 ولله الأسماء الحسنى ويقال الرحمن والرحيم والقدوس والسلام والعزيز والحكيم من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن ولا من أسماء العزيز ونحو ذلك
فعلم أن اسمه الله مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دال عليها بالإجمال والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم الله واسم الله دال على كونه مألوها معبودا تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا(1/28)
إليه في الحوائج والنوائب وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته المتضمنين لكمال الملك والحمد وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا قادر ولا متكلم ولا فعال لما يريد ولا حكيم في أفعاله
وصفات الجلال والجمال أخص باسم الله
وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب
وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم الرحمن وكرر إيذانا بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته
فالرحمن الذي الرحمة وصفه والرحيم الراحم لعباده ولهذا يقول تعالى 33 43 وكان بالمؤمنين رحيما 9 117 إنه بهم رءوف رحيم ولم يجيء رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به
ألا ترى أنهم يقولون غضبان للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملىء بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الإسم كثيرا كقوله تعالى 20 5 الرحمن على العرش استوى 26 59 ثم استوى على العرش الرحمن فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى 7 156 ورحمتي وسعت كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش إن رحمتي تغلب غضبي وفي لفظ فهو عنده على العرش
فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة ووضعه عنده على العرش وطابق بين ذلك وبين قوله الرحمن على العرش استوى وقوله 25 156 ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم(1/29)
وصفات العدل والقبض والبسط والخفض والرفع والعطاء والمنع والإعزاز والإذلال والقهر والحكم ونحوها أخص باسم الملك وخصه بيوم الدين وهو الجزاء بالعدل لتفرده بالحكم فيه وحده ولأنه اليوم الحق وما قبله كساعة ولأنه الغاية وأيام الدنيا مراحل إليه
فصل وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة وهي الله
والرب والرحمن كيف نشأ عنها الخلق والأمر والثواب والعقاب وكيف جمعت الخلق وفرقتهم فلها الجمع ولها الفرق
فاسم الرب له الجمع الجامع لجميع المخلوقات فهو رب كل شيء وخالقه والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره فاجتمعوا بصفة الربوبية وافترقوا بصفة الإلهية فألهه وحده السعداء وأقروا له طوعا بأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي لا تنبغي العبادة والتوكل والرجاء والخوف والحب والإنابة والإخبات والخشية والتذلل والخضوع إلا له
وهنا افترق الناس وصاروا فريقين فريقا مشركين في السعير وفريقا موحدين في الجنة
فالإلهية هي التي فرقتهم كما أن الربوبية هي التي جمعتهم
فالدين والشرع والأمر والنهي مظهره وقيامه من صفة الإلهية والخلق
والإيجاد والتدبير والفعل من صفة الربوبية والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار من صفة الملك وهو ملك يوم الدين فأمرهم بإلهيته وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى
وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده فالتأليه منهم له والربوبية منه لهم والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده بها أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبها هداهم وبها أسكنهم دار ثوابه وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم فبينهم وبينه سبب العبودية وبينه وبينهم سبب الرحمة(1/30)
واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته ف الرحمن على العرش استوى مطابق لقوله رب العالمين الرحمن الرحيم فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها فوسع كل شيء برحمته وربوبيته مع أن في كونه ربا للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء كما يأتي بيانه إن شاء الله
فصل في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد وإيقاع الحمد على مضمونها
ومقتضاها ما يدل على أنه محمود في إلهيته محمود في ربوبيته محمود في رحمانيته محمود في ملكه وأنه إله محمود ورب محمود ورحمان محمود وملك محمود فله بذلك جميع أقسام الكمال كمال من هذا الإسم بمفرده وكمال من الآخر بمفرده وكمال من اقتران أحدهما بالآخر
مثال ذلك قوله تعالى والله غني حميد والله عليم حكيم والله قدير والله غفور رحيم فالغنى صفة كمال والحمد صفة كمال واقتران غناه بحمده كمال
أيضا وعلمه كمال وحكمته كمال واقتران العلم بالحكمة كمال أيضا وقدرته كمال ومعفرته كمال واقتران القدرة بالمغفرة كمال وكذلك العفو بعد القدرة 4 14 إن الله كان عفوا قديرا واقتران العلم بالحلم 4 11 والله عليم حليم(1/31)
وحملة العرش أربعة اثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك فما كل من قدر عفا ولا كل من عفا يعفو عن قدرة ولا كل من علم يكون حليما ولا كل حليم عالم فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة ومن ملك إلى حمد ومن عزة إلى رحمة 26 9 وإن ربك لهو العزيز الرحيم ومن ههنا كان قول المسيح عليه السلام 5 121 إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أحسن من أن يقول وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن عزة وهي كمال القدرة وعن حكمة وهي كمال العلم فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني لا يكون قادرا حكيما عليما بل لا يكون ذلك إلا عجزا فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة وعلم تام وحكمة تضع بها الأشياء مواضعها فهذا أحسن من ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع الدال ذكره على التعريض بطلب المغفرة في غير حينها وقد فاتت فإنه لو قال وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم كان في هذا من الإستعطاف والتعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقها ما ينره عنه منصب المسيح عليه السلام لا سيما والموقف موقف عظمة وجلال وموقف انتقام ممن جعل لله ولدا واتخذه إلها من دونه فذكر العزة والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام 14 35 و36 واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ولم يقل
فإنك عزيز حكيم لأن المقام استعطاف وتعريض بالدعاء أي إن تغفر لهم وترحمهم بأن توفقهم للرجوع من الشرك إلى التوحيد ومن المعصية إلى الطاعة كما في الحديث اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعان قامت به وأن كل اسم يناسب ما ذكر معه واقترن به من فعله وأمره والله الموفق للصواب(1/32)
فصل في مراتب الهداية الخاصة والعامة وهي عشر مراتب المرتبة
الأولى مرتبة تكليم الله عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة بل منه إليه وهذه أعلى مراتبها كما كلم موسى بن عمران صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه قال الله تعالى 4 163 وكلم الله موسى تكليما فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخصمن مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر كلم هو التكليم رفعا لما يتوهمه المعطلة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أنه إلهام أو إشارة أو تعريف للمعنى النفسي بشيء غير التكليم فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز قال الفراء العرب تسمى ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ولكن لا تحققه بالمصدر فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام كالإرادة يقال فلان أراد إرادة يريدون حقيقة الإرادة ويقال أراد الجدار ولا يقال إرادة لأنه مجاز غير حقيقة هذا كلامه وقال تعالى 7 142 ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك وهذا التكليم غير التكليم الأول الذي أرسله به إلى فرعون وفي هذا التكليم
الثاني سأل النظر لا في الأول وفيه أعطى الألواح وكان عن مواعدة من الله له والتكليم الأول لم يكن عن مواعدة وفيه قال الله له 7 143 يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي أي بتكليمي لك بإجماع السلف(1/33)
وقد أخبر سبحانه في كتابه أنه ناداه وناجاه فالنداء من بعد والنجاء من قرب تقول العرب إذا كبرت الحلقة فهو نداء أو نجاء وقال له أبوه آدم في محاجته أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده وكذلك يقوله له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشفاعة إلى ربه وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى في السماء السادسة أو السابعة على اختلاف الرواية قال وذلك بتفضيله بكلام الله ولو كان التكليم الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن لهذا التخصيص به في هذه الأحاديث معنى ولا كان يسمى كليم الرحمن وقال تعالى 42 51 وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ففرق بين تكليم الوحي والتكليم بإرسال الرسول والتكليم من وراء حجاب
فصل المرتبة الثانية مرتبة الوحي المختص بالأنبياء قال الله تعالى
4 126 - إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وقال 42 51 وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الآية فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم وجعله في آية النساء قسيما للتكليم وذلك باعتبارين فإنه قسيم التكليم الخاص الذي هو بلا واسطة وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة
والوحي في اللغة هو الإعلام السريع الخفي ويقال في فعله وحى وأوحى قال رؤية وحى لها القرار فاستقرت وهو أقسام كما سنذكره
فصل المرتبة الثالثة إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري فيوحى
إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه
فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء لا تكون لغيرهم
ثم هذا الرسول الملكي قد يتمثل للرسول البشرى رجلا يراه عيانا ويخاطبه وقد يراه على صورته التي خلق عليها وقد يدخل فيه الملك ويوحى إليه ما يوحيه ثم يفصم عنه أي يقلع والثلاثة حصلت لنبينا
فصل المرتبة الرابعة مرتبة التحديث وهذه دون مرتبة الوحي الخاص(1/34)
وتكون دون مرتبة الصديقين كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كما قال النبي إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب / ح /
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله يقول جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا وعلق وجودهم في هذه الأمة ب إن الشرطية مع أنها أفضل الأمم لاحتياج الأمم قبلنا إليهم واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته فلم يحوج الله الأمة بعده إلى محدث ولا ملهم ولا صاحب كشف ولا منام فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها
والمحدث هو الذي يحدث في سره وقلبه بالشيء فيكون كما يحدث به
قال شيخنا والصديق أكمل من المحدث لأنه استغنى بكمال صديقيته
ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف فإنه قد سلم قلبه كله وسره وظاهره وباطنه للرسول فاستغنى به عما منه
قال وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول فإن وافقه قبله وإلا رده فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث
قال وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات حدثني قلبي عن ربي فصحيح أن قلبه حدثه ولكن عمن عن شيطانه أو عن ربه فإذا قال حدثني قلبي عن ربي كان مسندا الحديث إلى من لم يعلم أنه حدثه به وذلك كذب قال ومحدث الأمة لم يكن يقول ذلك ولا تفوه به يوما من الدهر وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك بل كتب كاتبه يوما هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال لا امحه واكتب هذا ما رأى عمر بن الخطاب فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر والله ورسوله منه برىء وقال في الكلالة أقول فيها برأيى فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان فهذا قول المحدث بشهادة الرسول وأنت ترى الإتحادي والحلولي والإباحي الشطاح والسماعي مجاهر بالقحة والفرية يقول حدثني قلبي عن ربي
فانظر إلى ما بين القائلين والمرتبتين والقولين والحالين وأعط كل ذي حق حقه ولا تجعل الزغل والخالص شيئا واحدا(1/35)
فصل المرتبة الخامسة مرتبة الإفهام قال الله تعالى وداود
وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فذكر هذين النبيين الكريمين وأثنى عليهما بالعلم والحكم وخص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة وقال على ابن أبي طالب وقد سئل هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلافهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة وكان فيها العقل وهو الديات وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما والفهم الفهم فيما أدلى إليك فالفهم نعمة من الله على عبده ونور يقذفه الله في قلبه يعرف به ويدرك مالا يدركه غيره ولا يعرفه فيفهم من النص مالا يفهمه غيره مع استوائهما في حفظه وفهم أصل معناه
فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية ومنشور الولاية النبوية وفيه تفاوتت مراتب العلماء حتى عد ألف بواحد فانظر إلى فهم ابن عباس وقد سأله عمر ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة إذا جا نصر الله والفتح وما خص به ابن عباس من فهمه منها أنها نعى الله سبحانه نبيه إلى نفسه وإعلامه بحضور أجله وموافقة عمر له على ذلك وخفائه عن غيرهما من الصحابة وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا وأين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله لولا الفهم الخاص ويدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس فيحتاج مع النص إلى غيره ولا يقع الإستغناء بالنصوص في حقه وأما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها
فصل المرتبة السادسة مرتبة البيان العام وهو تبيين الحق وتمييزه من(1/36)
الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه بحيث يصير مشهودا للقلب كشهود العين للمرئيات وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا ولا يضله إلا بعد وصوله إليها قال الله تعالى 9 115 وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون فهذا الإضلال عقوبة منه لهم حين بين لهم فلم يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا به فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا بعد هذا البيان
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده والقرآن يصرح بهذا في غير موضع كقوله 61 5 فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم 4 155 وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فالأول كفر عناد والثاني كفر طبع وقوله 6 110 ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له
فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه موضع عظيم
وقال تعالى 41 17 وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فهذا هدى بعد البيان والدلالة وهو شرط لا موجب فإنه إن لم يقترن به هدى آخر بعده لم يحصل به كمال الإهتداء وهو هدى التوفيق والإلهام
وهذا البيان نوعان بيان بالآيات المسموعة المتلوة وبيان بالآيات المشهودة المرئية وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله وصدق ما أخبرت به رسله عنه ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوة إلى التفكير في آياته المشهودة
ويحضهم على التفكر في هذه وهذه وهذا البيان هو الذي بعثت به الرسل وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم وبعد ذلك يضل الله من يشاء قال الله تعالى 64 4 وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم فالرسل تبين والله هو الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته(1/37)
فصل المرتبة السابعة البيان الخاص وهو البيان المستلزم للهداية
الخاصة وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والإجتباء وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب فلا تتخلف عنه الهداية ألبتة قال تعالى في هذه المرتبة 16 37 إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وقال 38 56 إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء فالبيان الأول شرط وهذا موجب
فصل المرتبة الثامنة مرتبة الإسماع قال الله تعالى ولو علم
الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون وقد قال تعالى 35 22 وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ فإن ذلك حاصل لهم وبه قامت الحجة عليهم لكن ذاك إسماع الآذان وهذا إسماع القلوب فإن الكلام له لفظ ومعنى وله نسبة إلى الآذان والقلب وتعلق بهما فسماع لفظه حظ الأذن وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن
في قوله 21 2 ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه أو تمكنه منها
وأما مقصود السماع وثمرته والمطلوب منه فلا يحصل مع لهو القلب وغفلته وإعراضه بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه 47 16 ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم
والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن ومرتبة الإفهام أعم فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه ومرتبة الفهم أخص من وجه آخر وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه ومتعلقاته وإشاراته ومرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب ويترتب على هذا السماع سماع القبول(1/38)
فهو إذن ثلاث مراتب سماع الأذن وسماع القلب وسماع القبول والإجابة
فصل المرتبة التاسعة مرتبة الإلهام قال تعالى ونفس وما
سواها فألهمها فجورها وتقواها وقال النبي لحصير بن منذر الخزاعي لما أسلم قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي
وقد جعل صاحب المنازل الإلهام هو مقام المحدثين قال وهو فوق مقام الفراسة لأن الفراسة ربما وقعت نادرة واستصعبت على صاحبها وقتا أو استعصت عليه والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد
قلت التحديث أخص من الإلهام فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان فأما التحديث فالنبي قال فيه إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر يعني من المحدثين فالتحديث إلهام خاص وهو الوحي إلى غير الأنبياء
إما من المكلفين كقوله تعالى 28 7 وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه وقوله 5 111 وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي وإما من غير المكلفين كقوله تعالى 16 29 وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون فهذا كله وحي إلهام
وأما جعله فوق مقام الفراسة فقد احتج عليه بأن الفراسة ربما وقعت نادرة كما تقدم والنادر لا حكم له وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم تطاوعه والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد يعني في مقام القرب والحضور
والتحقيق في هذا أن كل واحد من الفراسة والإلهام ينقسم إلى عام وخاص وخاص كل واحد منهما فوق عام الآخر وعام كل واحد قد يقع كثيرا وخاصة قد يقع نادرا ولكن الفرق الصحيح أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل وأما الإلهام فموهبة مجردة لا تنال بكسب ألبتة
فصل قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى نبأ يقع وحيا قاطعا
مقرونا بسماع إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن فليس كل خبر نبأ وهو نبأ خبر عن غيب معظم
ويريد بالوحي والإلهام الإعلام الذي يقطع من وصل إليه بموجبه إما بواسطة سمع أو هو الإعلام بلا واسطة(1/39)
قلت أما حصوله بواسطة سمع فليس ذلك إلهاما بل هو من قبيل الخطاب وهذا يستحيل حصوله لغير الأنبياء وهو الذي خص به موسى إذ كان المخاطب هو الحق عز وجل
وأما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع فهو من أحد وجوه ثلاثة لا رابع لها أعلاها أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا فإن هذا يقع لغير الأنبياء فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين بالسلام فلما اكتوى تركت خطابه فلما ترك الكي عاد إليه خطاب ملكي وهو نوعان
أحدها خطاب يسمعه بأذنه وهو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين
والثاني خطاب يلقى في قلبه يخاطب به الملك روحه كما في الحديث المشهور إن للملك لمة بقلب ابن آدم وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد ثم قرأ 2 268 الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا وقال تعالى 8 12 إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا قيل في تفسيرها قووا قلوبهم وبشروهم بالنصر وقيل احضروا معهم القتال والقولان حق فإنهم حضروا معهم القتال وثبتوا قلوبهم
ومن هذا الخطاب واعظ الله عز وجل في قلوب عباده المؤمنين كما في جامع الترمذي ومسند أحمد من حديث النواس بن سمعان عن النبي إن الله تعالى ضرب مثلا صراطا مستقيما وعلى كنفتي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوق الصراط فالصراط المستقيم الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهام الإلهي بواسطة الملائكة
وأما وقوعه بغير واسطة فمما لم يتبين بعد والجزم فيه بنفي أو إثبات موقوف على الدليل والله أعلم
فصل النوع الثاني من الخطاب المسموع خطاب الهواتف من الجان وقد(1/40)
يكون المخاطب جنيا مؤمنا صالحا وقد يكون شيطانا وهذا أيضا نوعان أحدهما أن يخاطبه خطابا يسمعه بأذنه
والثاني أن يلقى في قلبه عند ما يلم به ومنه وعده وتمنيته حين يعد الإنسى ويمنيه ويأمره وينهاه كما قال تعالى 4 120 يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وقال الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء وللقلب من هذا الخطاب نصيب وللأذن أيضا منه نصيب والعصمة منتفية إلا عن الرسل ومجموع الأمة
فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني أو ملكي بأي برهان أو بأي دليل والشيطان يقذف في النفس وحيه ويلقى في السمع خطابه فيقول المغرور المخدوع قيل لي وخوطبت صدقت لكن الشأن في القائل لك والمخاطب وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغيلان بن سلمة وهو من الصحابة لما طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك فمن يأمن القراء بعدك يا شهر
فصل النوع الثالث خطاب حالي تكون بدايته من النفس وعوده إليها
فيتوهمه من خارج وإنما هو من نفسه منها بدا وإليها يعود
وهذا كثيرا ما يعرض للسالك فيغلط فيه ويعتقد أنه خطاب من الله كلمه به منه إليه وسبب غلطه أن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة وانقطعت علقها عن الشواغل الكثيفة صار الحكم لها بحكم إستيلاء الروح والقلب على البدن ومصير الحكم لهما فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما وتشتد عناية الروح بها وتصير في محل(1/41)
تلك العلائق والشواغل فتملأ القلب فتصرف تلك المعاني إلى المنطق والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة ويتفق تجرد الروح فتتشكل تلك المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية فيرى صورها ويسمع الخطاب وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء ويحلف أنه رأى وسمع وصدق لكن رأى وسمع في الخارج أو في نفسه ويتفق ضعف التمييز وقلة العلم واستيلاء تلك المعاني على الروح وتجردها عن الشواغل
فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب ومن سمع نفسه غيرها فإنما هو غرور وخدع وتلبيس وهذا الموضع مقطع القول وهو من أجل المواضع لمن حققه وفهمه والله الموفق للصواب
فصل قال الدرجة الثانية إلهام يقع عيانا وعلامة صحته أنه لا يخرق
سترا ولا يجاوز حدا ولا يخطىء أبدا
الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى أن ذلك علم شبيه بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب وهذا معاينة ومكاشفة فهو فوقه في الدرجة وأتم منه ظهورا ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين وذكر له ثلاث علامات
إحداها أنه لا يخرق سترا أي صاحبه إذا كوشف بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره ويكشفه خيرا كان أو شرا أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس بل يستر نفسه ويستر من كوشف بحاله
الثانية أنه لا يجاوز حدا يحتمل وجهين
أحدهما أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي وتجاوز حدود الله مثل الكهان وأصحاب الكشف الشيطاني
الثاني أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية مثل أن يتجسس به على
العورات التي نهى الله عن التجسس عليها وتتبعها فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف فهو شيطاني لا رحماني
الثالثة أنه لا يخطىء أبدا بخلاف الشيطاني فإن خطأه كثير كما قال النبي لابن صائد ما ترى قال أرى صادقا وكاذبا فقال لبس عليك فالكشف الشيطاني لا بد أن يكذب ولا يستمر صدقه ألبتة
فصل قال الدرجة الثالثة إلهام يجلو عين التحقيق صرفا وينطق عن عين(1/42)
الأزل محضا والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها
عين التحقيق عنده هي الفناء في شهود الحقيقة بحيث يضمحل كل ما سواها في ذلك الشهود وتعود الرسوم أعداما محضة فالإلهام في هذه الدرجة يجلو هذا العين للملهم صرفا بحيث لا يمازجها شيء من إدراك العقول ولا الحواس فإن كان هناك إدراك عقلي أو حسي لم يتمحض جلاء عين الحقيقة والناطق عن هذا الكشف عندهم لا يفهم عنه إلا من هو معه ومشارك له وعند أرباب هذا الكشف أن كل الخلق عنه في حجاب وعندهم أن العلم والعقل والحال حجب عليه وأن خطاب الخلق إنما يكون على لسان الحجاب وأنهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب فلذلك تمتنع الإشارة إليه والعبارة عنه فإن الإشارة والعبارة إنما يتعلقان بالمحسوس والمعقول وهذا أمر وراء الحس والعقل
وحاصل هذا الإلهام أنه إلهام ترتفع معه الوسائط وتضمحل وتعدم لكن في الشهود لا في الوجود وأما الإتحادية القائلون بوحدة الوجود فإنهم يجعلون ذلك
اضمحلالا وعدما في الوجود ويجعلون صاحب المنازل منهم وهو برىء منهم عقلا ودينا وحالا ومعرفة والله أعلم
فصل المرتبة العاشرة من مراتب الهداية الرؤيا الصادقة وهي من أجزاء
النبوة كما ثبت عن النبي أنه قال الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة / ح /
وقد قيل في سبب هذا التخصيص المذكور إن أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة وذلك نصف سنة ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة من حين بعث إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك جزء من ستة وأربعين جزءا وهذا حسن لولا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة إنها جزء من سبعين جزءا
وقد قيل في الجمع بينهما إن ذلك بحسب حال الرائي فإن رؤيا الصديقين من ستة وأربعين ورؤيا عموم المؤمنين الصادقة من سبعين والله أعلم(1/43)
والرؤيا مبدأ الوحي وصدقها بحسب صدق الرائي وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطىء كما قال النبي وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها فيتعوض المؤمنون بالرؤيا وأما في زمن قوة نور النبوة ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا
ونظير هذا الكرامات التي ظهرت بعد عصر الصحابة ولم تظهر عليهم لإستغنائهم عنها بقوة إيمانهم واحتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم وقد
نص أحمد على هذا المعنى وقال عبادة بن الصامت رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام وقد قال النبي لم يبق من النبوة إلا المبشرات قيل وما المبشرات يا رسول الله قال الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له / ح / وإذا تواطأت رؤيا المسلمين لم تكذب وقد قال النبي لأصحابه لما أروا ليلة القدر في العشر الأواخر قال أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر فمن كان منكم متحريها فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان / ح /
والرؤيا كالكشف منها رحماني ومنها نفساني ومنها شيطاني وقال النبي الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام / ح /
والذي هو من أسباب الهداية هو الرؤيا التي من الله خاصة
ورؤيا الأنبياء وحي فإنها معصومة من الشيطان وهذا باتفاق الأمة ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا
وأما رؤيا غيرهم فتعرض على الوحي الصريح فإن وافقته وإلا لم يعمل بها فإن قيل فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة أو تواطأت
قلنا متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي بل لا تكون إلا مطابقة له منبهة عليه أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه لم يعرف الرائي اندراجها فيه فيتنبه بالرؤيا على ذلك ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق
وأكل الحلال والمحافظة على الأمر والنهي ولينم على طهارة كاملة مستقبل القبلة ويذكر الله حتى تغلبه عيناه فإن رؤياه لا تكاد تكذب ألبتة(1/44)
وأصدق الرؤيا رؤيا الأسحار فإنه وقت النزول الإلهي واقتراب الرحمة والمغفرة وسكون الشياطين وعكسه رؤيا العتمة عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام
وللرؤيا ملك موكل بها يريها العبد في أمثال تناسبه وتشاكله فيضربها لكل أحد بحسبه وقال مالك الرؤيا من الوحي وحى وزجر عن تفسيرها بلا علم وقال أتتلاعب بوحي الله
ولذكر الرؤيا وأحكامها وتفاصيلها وطرق تأويلها مظان مخصوصة بها يخرجنا ذكرها عن المقصود والله أعلم
فصل في بيان اشتماله الفاتحة على الشفاءين شفاء القلوب وشفاء
الأبدان
فأما اشتمالها على شفاء القلوب فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين فساد العلم وفساد القصد
ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما الضلال والغضب فالضلال نتيجة فساد العلم والغضب نتيجة فساد القصد وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه
والتحقيق ب إياك نعبد وإياك نستعين علما ومعرفة وعملا وحالا يتضمن(1/45)
الشفاء من مرض فساد القلب والقصد فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدا وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين ومتبعي الشهوات الذين لا غاية لهم رواءها وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل فإذا جاء الحق معارضا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق وحادوا عنه إلى طريق أخرى وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا به وجالوا وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق بل لموافقته غرضهم وأهواءهم وانتصارهم به 24 48 50 وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون
والمقصود أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها واضمحلت وفنيت حصلوا على أعظم الخسران والحسرات وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا إذا حق الحق وبطل الباطل وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة وهذا يظهر كثيرا في الدنيا ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ وينكشف كل الإنكشافيوم اللقاء إذا حقت الحقائق وفاز المحقون وخسر المبطلون وعلموا أنهم كانوا
كاذبين وكانوا مخدوعين مغرورين فياله هناك من علم لا ينفع عالمه ويقين لا ينجني مستيقنه(1/46)
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى ولكن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه وهي من أعظم القواطع عنه فحاله أيضا كحال هذا وكلاهما فاسد القصد ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء إياك نعبد وإياك نستعين
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء عبودية الله لا غيره بأمره وشرعه لا بالهوى ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم بالإستعانة على عبوديته به لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره
فهذه هي أجزاء إياك نعبد وإياك نستعين فإذا ركبها الطبيب اللطيف العالم بالمرض واستعملها المريض حصل بها الشفاء التام وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد وهما الرياء والكبر فدواء الرياء ب إياك نعبد ودواء الكبر ب إياك نستعين
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول إياك نعبد تدفع الرياء وإياك نستعين تدفع الكبرياء
فإذا عوفى من مرض الرياء ب إياك نعبد ومن مرض الكبرياء والعجب ب إياك نستعين ومن مرض الضلال والجهل ب اهدنا الصراط المستقيم عوفى من أمراضه وأسقامه ورفل في أثواب العافية وتمت عليه النعمة وكان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه والضالين وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه
وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يستشفى بها من كل مرض
ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين كان حصدك الشفاء الأدنى بها أولى كما سنبينه فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله وكلامه وفهمت عنه فهما خاصا اختصها به من معاني هذه السورة
وسنبين إن شاء الله تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطرق
فصل وأما تضمنها لشفاء للأبدان فنذكر منه ما جاءت به السنة وما(1/47)
شهدت به قواعد الطب ودلت عليه التجربة
فأما ما دلت عليه السنة ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن ناسا من أصحاب النبي مروا بحي من العرب فلم يقروهم ولم يضيفوهم فلدغ سيد الحي فأتوهم فقالوا هل عندكم من رقية أو هل فيكم من راق فقالوا نعم ولكنكم لم تقرونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم على ذلك قطيعا من الغنم فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب فقام كأن لم يكن به قلبة فقلنا لا تعجلوا حتى نأتي النبي فأتيناه فذكرنا له ذلك فقال ما يدريك أنها رقية كلوا واضربوا لي معكم بسهم
فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغنته عن الدواء وربما بلغت من شفائه مالم يبلغه الدواء
هذا مع كون المحل غير قابل إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين أو أهل بخل ولؤم فكيف إذا كان المحل قابلا
فصل وأما شهادة قواعد الطب بذلك فاعلم أن اللدغة تكون من ذوات
الحمات والسموم وهي ذوات الأنفس الخبيثة التي تتكيف بكيفية غضبية تثير فيها سمية نارية يحصل بها اللدغ وهي متفاوتة بحسب تفاوت خبث تلك النفوس وقوتها وكيفيتها فإذا تكيفت أنفسها الخبيثة بتلك الكيفية الغضبية أحدث لها ذلك طبيعة سمية تجد راحة ولذة في إلقائها إلى المحل القابل كما يجد الشرير من الناس راحة ولذة في إيصال شره إلى من يوصله إليه وكثير من الناس لا يهنأ له عيش في يوم لا يؤذي فيه أحدا من بني جنسه ويجد في نفسه تأذيا بحمل تلك السمية والشر الذي فيه حتى يفرغه في غيره فيبرد عند ذلك أنينه وتسكن نفسه ويصيبه في ذلك نظير ما يصيب من اشتدت شهوته إلى الجماع فيسوء خلقه وتثقل نفسه حتى يقضي وطره هذا في قوة الشهوة وذاك في قوة الغضب(1/48)
وقد أقام الله تعالى بحكمته السلطان وازعا لهذه النفوس الغضبية فلولا هو لفسدت الأرض وخرجت 2 251 ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين وأباح الله بلطفه ورحمته لهذه النفوس من الأزواج وملك اليمين ما يكسر حدتها
والمقصود أن هذه النفوس الغضبية إذا اتصلت بالمحل القابل أثرت فيه ومنها ما يؤثر في المحل بمجرد مقابلته له وإن لم يمسه فمنها ما يطمس البصر ويسقط الحبل
ومن هذا نظر العائن فإنه إذا وقع بصره على المعين حدثت في نفسه كيفية سمية أثرت في المعين بحسب عدم استعداده وكونه أعزل من السلاح وبحسب قوة تلك النفس وكثير من هذه النفوس يؤثر في المعين إذا وصف له فتتكيف نفسه وتقابله على البعد فيتأثر به ومنكر هذا ليس معدودا من بني آدم إلا بالصورة
والشكل فإذا قابلت النفس الزكية العلوية الشريفة التي فيها غضب وحمية للحق هذه النفوس الخبيثة السمية وتكيفت بحقائق الفاتحة وأسرارها ومعانيها وما تضمنته من التوحيد والتوكل والثناء على الله وذكر أصول أسمائه الحسنى وذكر اسمه الذي ما ذكر على شر إلا أزاله ومحقه ولا على خير إلا نماه وزاده دفعت هذه النفس بما تكيفت به من ذلك أثر تلك النفس الخبيثة الشيطانية فحصل البرء فإن مبنى الشفاء والبرء على دفع الضد بضده وحفظ الشيء بمثله فالصحة تحفظ بالمثل والمرض يدفع بالضد أسباب ربطها بمسبباتها الحكيم العليم خلقا وأمرا ولا يتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة وقبول من الطبيعة المنفعلة فلو لم تنفعل نفس الملدوغ لقبول الرقية ولم تقو نفس الراقي على التأثير لم يحصل البرء
فهنا أمور ثلاثة موافقة الدواء للداء وبذل الطبيب له وقبول طبيعة العليل فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولا بد بإذن الله سبحانه وتعالى(1/49)
ومن عرف هذا كما ينبغي تبين له أسرار الرقي وميز بين النافع منها وغيره ورقى الداء بما يناسبه من الرقي وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل كما أن السيف بضاربه مع قبول المحل للقطع وهذه إشارة مطلعة على ما وراءها لمن دق نظره وحسن تأمله والله أعلم
وأما شهادة التجارب بذلك فهي أكثر من أن تذكر وذلك في كل زمان وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة ولا سيما مدة
المقام بمكة فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني وذلك في أثناء الطواف وغيره فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط جربت ذلك مرارا عديدة وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين والله المستعان
فصل في اشتماله الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل
والنحل والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة
وهذا يعلم بطريقين مجمل ومفصل
أما المجمل فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق وإيثاره وتقديمه على غيره ومحبته والإنقياد له والدعوة إليه وجهاد أعدائه بحسب الإمكان
والحق هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده وأمره ونهيه ووعده ووعيده وفي حقائق الإيمان التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى وكل ذلك مسلم إلى رسول الله دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم
فكل علم أو عمل أو حقيقة أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته وعليه السكة المحمدية بحيث يكون من ضرب المدينة فهو من الصراط المستقيم وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال فما ثم خروج عن هذه الطرق الثلاث طريق الرسول وما جاء به وطريق أهل(1/50)
الغضب وهي طريق من عرف الحق وعانده وطريق أهل الضلال وهي طريق من أضله الله عنه ولهذا قال عبدالله ابن عباس وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم الصراط المستقيم هو الإسلام وقال عبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما هو القرآن وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره وقال سهل بن عبدالله طريق السنة والجماعة وقال بكر بن عبدالله المزني طريق رسول الله
ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه وإيثاره على غيره فهو الصراط المستقيم
وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له
فبهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل وهو من صراط الأمتين الأمة الغضبية وأمة أهل الضلال
فصل وأما المفصل فبمعرفة المذاهب الباطلة واشتمال كلمات الفاتحة
على إبطالها فنقول
الناس قسمان مقر بالحق تعالى وجاحد له فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى والرد على من جحده بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين
وتأمل حال العالم كله علويه وسفليه بجميع أجزائه تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده لا فرق بينهما بل دلالة الخالق على المخلوق والفعال على الفعل والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية والفطر الصحيحة أظهر من العكس
فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه إذا استدل الناس
بصنعه وأفعاله عليه ولا ريب أنهما طريقان صحيحان كل منهما حق والقرآن مشتمل عليهما
فأما الإستدلال بالصنعة فكثير وأما الإستدلال بالصانع فله شأن وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم 14 10 أفي الله شك أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى ثم نبهوا على الدليل بقولهم فاطر السموات والأرض(1/51)
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روح يقول كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها
وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله وهو حقيقة وجود هذا العالم فليس عند القوم رب وعبد ولا مالك ومملوك ولا راحم ومرحوم ولا عابد ومعبود ولا مستعين ومستعان به ولا هاد ولا مهدي ولا منعم ولا منعم عليه ولا غضبان ومغضوب عليه بل الرب هو نفس العبد وحقيقته والمالك هو عين المملوك والراحم هو عين المرحوم والعابد هو نفس المعبود وإنما التغاير أمر اعتباري
بحسب مظاهر الذات وتجلياتها فتظهر تارة في صورة معبود كما ظهرت في صورة فرعون وفي صورة عبد كما ظهرت في صورة العبيد وفي صورة هاد كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء والكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة فحقيقة العابد ووجوده أو إنيته هي حقيقة المعبود ووجوده وإنيته
والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم
فصل والمقرون بالرب سبحانه وتعالى أنه صانع العالم نوعان نوع
ينفي مباينته لخلقه ويقولون لا مباين ولا محايث ولا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه ولا فيه ولا بائن عنه
فتضمنت الفاتحة الرد على هؤلاء من وجهين(1/52)
أحدهما إثبات ربوبيته تعالى للعالم فإن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات كما باينهم بالربوبية وبالصفات والأفعال فمن لم يثبت ربا مباينا للعالم فما أثبت ربا فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين لزوما لا انفكاك له عنه ألبتة إما أن يكون هو نفس هذا العالم وحينئذ يصح قوله فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه ومن ههنا دخل أهل الوحدة وكانوا معطلة أولا واتحادية ثانيا
وإما أن يقول ما ثم رب يكون مباينا ولا محايثا ولا داخلا ولا خارجا كما قالته الدهرية المعطلة للصانع
وأما هذا القول الثالث المشتمل على جمع النقيضين إثبات رب مغاير للعالم مع نفي مباينته للعالم وإثبات خالق قائم بنفسه لا في العالم ولا خارج العالم ولا فوق العالم ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ولا يمنته ولا يسرته فقول له
خبىء والعقول لا تتصوره حتى تصدق به فإذا استحال في العقل تصوره فاستحالة التصديق به أظهر وأظهر وهو منطبق على العدم المحض والنفي الصرف وصدقه عليه أظهر عند العقول والفطر من صدقه على رب العالمين
فضع هذا النفي وهذه الألفاظ الدالة عليه على العدم المستحيل ثم ضعها على الذات العلية القائمة بنفسها التي لم تحل في العالم ولا حل العالم فيها ثم انظر أي المعلومين أولى به
واستيقظ لنفسك وقم لله قومة مفكر في نفسه في الخلوة في هذا الأمر متجرد عن المقالات وأربابها وعن الهوى والحمية والعصبية صادقا في طلب الهداية من الله فالله أكرم من أن يخيب عبدا هذا شأنه وهذه المسألة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات رب قائم بنفسه مباين لخلقه بل هذا نفس ترجمتها
فصل ثم المثبتون للخالق تعالى نوعان أهل توحيد وأهل إشراك وأهل
الإشراك نوعان(1/53)
أحدهما أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية فإنهم يثبتون مع الله خالقا آخر وإن لم يقولوا إنه مكافىء له والقدرية المجوسيه تثبت مع الله خالقين للأفعال ليس أفعالهم مقدورة لله ولا مخلوقة لهم وهي صادرة بغير مشيئته ولا قدرة له عليها ولا هو الذي جعل أربابها فاعلين لها بل هم الذين جعلوا أنفسهم شائين مريدين فاعلين
فربوبية العالم الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوال هؤلاء كلهم لأنها تقتضي ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال
وحقيقة قول القدرية المجوسية أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان ولا تناولتها ربوبيته وكيف تتناول مالا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه مع أن في عموم حمده ما يقتضي حمده على طاعات خلقه إذ هو المعين عليها والموفق لها وهو
الذي شاءها منهم كما قال في غير موضع من كتابه 76 30 وما تشاءون إلا أن يشاء الله فهو محمود على أن شاءها لهم وجعلهم فاعليها بقدرته ومشيئته فهو المحمود عليها في الحقيقة وعندهم أنهم هم المحمودون عليها ولهم الحمد على فعلها وليس لله حمد على نفس فاعليتها عندهم ولا على ثوابه وجزائه عليها
أما الأول فلأن فاعليتها بهم لا به وأما الثاني فلأن الجزاء مستحق عليه استحقاق الأجرة على المستأجر فهو محض حقهم الذي عاوضوه عليه
وفي قوله وإياك نستعين رد ظاهر عليهم إذ استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده وتحت قدرته ومشيئته فكيف يستعين من بيده الفعل وهو موجده إن شاء أوجده وإن شاء لم يوجده بمن ليس ذلك الفعل بيده ولا هو داخل تحت قدرته ولا مشيئته(1/54)
وفي قوله إهدنا الصراط المستقيم أيضا رد عليهم فإن الهداية المطلقة التامة هي المستلزمة لحصول الإهتداء ولولا أنها بيده تعالى دونهم لما سألوه إياها وهي المتضمنة للإرشاد والبيان والتوفيق والإقدار وجعلهم مهتدين وليس مطلوبهم مجرد البيان والدلالة كما ظنته القدرية لأن هذا القدر وحده لا يوجب الهدى ولا ينجي من الردى وهو حاصل لغيرهم من الكفار الذين استحبوا العمى على الهدى واشتروا الضلالة بالهدى
فصل النوع الثاني أهل الإشراك به في إلهيته وهم المقرون بأنه وحده
رب كل شيء ومليكه وخالقه وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين ورب السموات السبع ورب العرش العظيم وهم مع هذا يعبدون غيره ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم وهم الذين اتخذوا من دون الله أندادا فهؤلاء لم يوفوا إياك نعبد حقه وإن كان لهم نصيب من نعبدك لكن ليس لهم نصيب من إياك نعبد المتضمن معنى لا نعبد إلا إياك حبا وخوفا ورجاء
وطاعة وتعظيما ف إياك نعبد تحقيق لهذا التوحيد وإبطال للشرك في الإلهية كما أن إياك نستعين تحقيق لتوحيد الربوبية وإبطال للشرك به فيها وكذلك قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فإنهم أهل التوحيد وهم أهل تحقيق إياك نعبد وإياك نستعين وأهل الإشراك هم أهل الغضب والضلال
فصل في تضمنها الرد على الجهمية معطلة الصفات وذلك من وجوه
أحدها من قوله الحمد لله فإن إثبات الحمد الكامل له يقتضي ثبوت كل ما يحمد عليه من صفات كماله ونعوت جلاله إذ من عدم صفات الكمال فليس بمحمود على الإطلاق وغايته أنه محمود من وجه دون وجه ولا يكون محمودا بكل وجه وبكل اعتبار بجميع أنواع الحمد إلا من استولى على صفات الكمال جميعها فلو عدم منها صفة واحدة لنقص من حمده بحسبها
وكذلك في إثبات صفة الرحمة له ما يتضمن إثبات الصفات التي تستلزم من الحياة والإرادة والقدرة والسمع والبصر وغيرها(1/55)
وكذلك صفة الربوبية تستلزم جميع صفات الفعل وصفة الإلهية تسلتزم جميع أوصاف الكمال ذاتا وأفعالا كما تقدم بيانه
فكونه محمودا إلها ربا رحمانا رحيما ملكا معبودا مستعانا هاديا منعما يرضى ويغضب مع نفي قيام الصفات به جمع بين النقيضين وهو من أمحل المحال
وهذه الطريق تتضمن إثبات الصفات الخبرية من وجهين
أحدهما أنها من لوازم كماله المطلق فإن استواءه على عرشه من لوازم علوه ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا في نصف الليل الثاني من لوازم رحمته وربوبيته وهكذا سائر الصفات الخبرية
الوجه الثاني أن السمع ورد بها ثناء على الله ومدحا له وتعرفا منه إلى عباده بها فجحدها وتحريفها عما دلت عليه وعما أريد بها مناقض لما جاءت به فلك أن تستدل بطريق السمع على أنها كمال وأن تستدل بالعقل كما تقدم
فصل في تضمنها للرد على الجبرية وذلك من وجوه أحدها من
إثبات عموم حمده سبحانه فإنه يقتضي أن لا يعاقب عبيده على مالا قدرة لهم عليه ولا هو من فعلهم بل هو بمنزلة ألوانهم وطولهم وقصرهم بل هو يعاقبهم على نفس فعله بهم فهو الفاعل لقبائحهم في الحقيقة وهو المعاقب لهم عليها فحمده عليها يأبى ذلك أشد الإباء وينفيه أعظم النفي فتعالى من له الحمد كله عن ذلك علوا كبيرا بل إنما يعاقبهم على نفس أفعالهم التي فعلوها حقيقة فهي أفعالهم لا أفعاله وإنما أفعاله العدل والإحسان والخيرات
الوجه الثاني إثبات رحمته ورحمانيته ينفي ذلك إذ لا يمكن اجتماع هذين الأمرين قط أن يكون رحمانا رحيما ويعاقب العبد على مالا قدرة له عليه ولا هو من فعله بل يكلفه ما لا يطيقه ولا له عليه قدرة ألبتة ثم يعاقبه عليه وهل هذا إلا ضد الرحمة ونقض لها وإبطال وهل يصح في معقول أحد اجتماع ذلك والرحمة التامة الكاملة في ذات واحدة(1/56)
الوجه الثالث إثبات العبادة والإستعانة لهم ونسبتها إليهم بقولهم نعبد ونستعين وهي نسبة حقيقية لا مجازية والله لا يصح وصفه بالعبادة والإستعانة التي هي من أفعال عبيده بل العبد حقيقة هو العابد المستعين والله هو المعبود المستعان به
فصل في بيان تضمنها للرد على القائلين بالموجب بالذات دون الإختيار
والمشيئة وبيان أنه سبحانه فاعل مختار وذلك من وجوه
أحدها من إثبات حمده إذ كيف يحمد على ما ليس مختارا لوجوده ولا هو بمشيئته وفعله وهل يصح حمد الماء على آثاره وموجباته أو النار والحديد وغيرها في عقل أو فطرة وإنما يحمد الفاعل المختار بقدرته ومشيئته على أفعاله الحميدة هذا الذي ليس يصح في العقول والفطر سواه فخلافه خارج عن الفطرة والعقل وهو لا ينكر خروجه عن الشرائع والنبوات بل يتبجح بذلك ويعده فخرا
الثاني إثبات ربوبيته تعالى يقتضي فعله بمشيئته واختياره وتدبيره وقدرته وليس يصح في عقل ولا فطرة ربوبية الشمس لضوئها والماء لتبريده وللنبات الحاصل به ولا ربوبية شيء أبدا لما لا قدرة له عليه ألبتة وهل هذا إلا تصريح بجحد الربوبية
فالقوم كنوا للأغمار وصرحوا لأولي الأفهام
الثالث إثبات ملكه وحصول ملك لمن لا اختيار له ولا فعل ولا مشيئة غير معقول بل كل مملوك له مشيئة واختيار وفعل أتم من هذا الملك وأكمل 16 17 أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون
الرابع من كونه مستعانا فإن الإستعانة بمن لا اختيار له ولا مشيئة ولا قدرة محال
الخامس من كونه مسئولا أن يهدي عباده فسؤال من لا اختيار له محال وكذلك من كونه منعما
فصل في بيان تضمنها للرد على منكري تعلق علمه تعالى بالجزئيات وذلك
من وجوه
أحدها كمال حمده وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئا من العالم وأحواله وتفاصيله ولا عدد الأفلاك ولا عدد النجوم ولا من يطيعه ممن يعصيه ولا من يدعوه ممن لا يدعوه(1/57)
الثاني أن هذا مستحيل أن يكون إلها وأن يكون ربا فلا بد للإله المعبود والرب المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله
الثالث من إثبات رحمته فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم
الرابع إثبات ملكه فإن ملكا لا يعرف أحدا من رعيته ألبتة ولا شيئا من أحوال مملكته ألبتة ليس بملك بوجه من الوجوه
الخامس كونه مستعانا
السادس كونه مسئولا أن يهدي سائله ويجيبه
السابع كونه هاديا
الثامن كونه منعما
التاسع كونه غضبانا على من خالفه
العاشر كونه مجازيا يدين الناس بأعمالهم يوم الدين فنفي علمه بالجزيئات مبطل لذلك كله
فصل في بيان تضمنها للرد على منكري النبوات وذلك من وجوه أحدها
إثبات حمده التام فإنه يقتضي كمال حكمته وأن لا يخلق خلقه عبثا ولا يتركهم سدى لا يؤمرون ولا ينهون ولذلك نزه الله نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه وأخبر أن من أنكر الرسالة والنبوة وأن يكون ما أنزل على بشر من شيء فإنه ما عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه ولا قدره حق قدره بل نسبه إلى ما لا يليق به ويأباه حمده ومجده
فمن أعطى الحمد حقه علما ومعرفة وبصيرة استنبط منه أشهد أن محمدا رسول الله كما يستنبط منه أشهد أن لا إله إلا الله وعلم قطعا أن تعطيل النبوات في منافاته للحمد كتعطيل صفات الكمال وكإثبات الشركاء والأنداد
الثاني إلهيته وكونه إلها فإن ذلك مستلزم لكونه معبودا مطاعا ولا سبيل إلى معرفة ما يعبد به ويطاع إلا من جهة رسله
الثالث كونه ربا فإن الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم وجزاء محسنهم بإحسانه ومسيئهم بإساءته هذا حقيقة الربوبية وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة
الرابع كونه رحمانا رحيما فإن من كمال رحمته أن يعرف عباده نفسه وصفاته ويدلهم على ما يقربهم إليه ويباعدهم منه ويثيبهم على طاعته ويجزيهم بالحسنى وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة فكانت رحمته مقتضية لها(1/58)
الخامس ملكه فإن الملك يقتضي التصرف بالقول كما أن الملك يقضي التصرف بالفعل فالملك هو المتصرف بأمره وقوله فتنفذ أوامره ومراسيمه حيث شاء والمالك هو المتصرف في ملكه بفعله والله له الملك وله الملك فهو المتصرف في خلقه بالقول والفعل
وتصرفه بقوله نوعان تصرف بكلماته الكونية وتصرف بكلماته الدينية وكمال الملك بهما
فإرسال الرسل موجب كمال ملكه وسلطانه وهذا هو الملك المعقول في فطر الناس وعقولهم فكل ملك لا تكون له رسل يبثهم في أقطار مملكته فليس بملك
وبهذه الطريق يعلم وجود ملائكته وأن الإيمان بهم من لوازم الإيمان بملكه فإنهم رسل الله في خلقه وأمره
السادس ثبوت يوم الدين وهو يوم الجزاء الذي يدين الله فيه العباد بأعمالهم خيرا وشرا وهذا لايكون إلا بعد ثبوت الرسالة والنبوة وقيام الحجة التي بسببها يدان المطيع والعاصي
السابع كونه معبودا فإنه لا يعبد إلا بما يحبه ويرضاه ولا سبيل للخلق إلى معرفة ما يحبه ويرضاه إلا من جهة رسله فإنكار رسله إنكار لكونه معبودا
الثامن كونه هاديا إلى الصراط المستقيم وهو معرفة الحق والعمل به وهو أقرب الطرق الموصلة إلى المطلوب فإن الخط المستقيم هو أقرب خط موصل بين نقطتين وذلك لا يعلم إلا من جهة الرسل فتوقفه على الرسل ضروري أعظم من توقف الطريق الحسى على سلامة الحواس
التاسع كونه منعما على أهل الهداية إلى الصراط المستقيم فإن إنعامه عليهم إنما تم بإرسال الرسل إليهم وجعلهم قابلين الرسالة مستجيبين لدعوته وبذلك ذكرهم منته عليهم وإنعامه في كتابه
العاشر انقسام خلقه إلى منعم عليهم ومغضوب عليهم وضالين فإن هذا الإنقسام ضروري بحسب إنقسامهم في معرفة الحق والعمل به إلى عالم به(1/59)
عامل بموجبه وهم أهل النعمة وعالم به معاند له وهم أهل الغضب وجاهل به وهم الضالون هذا الإنقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون الرسالة وهذا الإنقسام ضروري بحسب الواقع فالرسالة ضرورية وقد تبين لك بهذه الطريق والتي قبلها بيان تضمنها للرد على من أنكر المعاد الجسماني وقيامة الأبدان وعرفت اقتضاءها ضرورة لثبوت الثواب والعقاب والأمر والنهي وهو الحق الذي خلقت به وله السموات والأرض والدنيا والآخرة وهو مقتضى الخلق والأمر ونفيه نفي لهما
فصل إذا ثبتت النبوات والرسالة ثبتت صفة التكلم والتكليم فإن
حقيقة الرسالة تبليغ كلام المرسل فإذا لم يكن ثم كلام فماذا يبلغ الرسول بل كيف يعقل كونه رسولا ولهذا قال غير واحد من السلف من أنكر أن يكون الله متكلما أو يكون القرآن كلامه فقد أنكر رسالة محمد بل ورسالة جميع الرسل التي حقيقتها تبليغ كلام الله تبارك وتعالى ولهذا قال منكرو رسالته عن القرآن 74 24 25 إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر وإنما عنوا القرآن المسموع الذي بلغوه وأنذروا به
فمن قال إن الله لم يتكلم به فقد ضاهأ قوله قولهم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فصل في بيان تضمنها للرد على من قال بقدم العالم وذلك من وجوه
أحدها إثبات حمده فإنه يقتضي ثبوت أفعاله لا سيما وعامة مواد الحمد في القرآن أو كلها إنما هي على الأفعال وكذلك هو ههنا فإنه حمد نفسه على ربوبيته المتضمنة لأفعاله الإختيارية ومن المستحيل مقارنة الفعل لفاعله هذا ممتنع في كل عقل سليم وفطرة مستقيمة فالفعل متأخر عن فاعله بالضرورة
وأيضا فإنه متعلق الإرادة والتأثير والقدرة ولا يكون متعلقها قديما ألبتة(1/60)
الثاني إثبات ربوبيته للعالمين وتقريرما ذكرناه والعالم كل ما سواه فثبت أن كل ما سواه مربوب والمربوب مخلوق بالضرورة وكل مخلوق حادث بعد أن لم يكن فإذا ربوبيته تعالى لكل ماسواه تستلزم تقدمه عليه وحدوث المربوب ولا يتصور أن يكون العالم قديما وهو مربوب أبدا فإن القديم مستغن بأزليته عن فاعل له وكل مربوب فهو فقير بالذات فلا شيء من المربوب بغنى ولا قديم
الثالث إثبات توحيده فإنه يقتضي عدم مشاركة شيء من العالم له في خصائص الربوبية والقدرة من خصائص الربوبية فالتوحيد ينفى ثبوته لغيره ضرورة كما ينفى ثبوت الربوبية والإلهية لغيره
فصل في بيان تضمنها للرد على الرافضة وذلك من قوله اهدنا الصراط
المستقيم إلى آخرها
ووجه تضمنه إبطال قولهم أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام منعم عليهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق واتبعوه ومغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه وضالون وهم الذين جهلوه فأخطأوه
فكل من كان أعرف للحق وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم
ولا ريب أن أصحاب رسول الله ورضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله ورضى الله عنهم جهلوا الحق وعرفه الروافض أو رفضوه وتمسك به الروافض(1/61)
ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما فرأينا أصحاب رسول الله فتحوا بلاد الكفر وقلبوها بلاد إسلام وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان فإنه قط ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام وكم جروا على الإسلام وأهله من بلية وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام من عسكر هولاكو وذويه من التتار إلا من تحت رءوسهم وهل عطلت المساجد وحرقت المصاحف وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم إلا بسببهم ومن جرائهم ومظاهرتهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة وآثارهم في الدين معلومة
فأي الفريقين أحق بالصراط المستقيم وأيهم أحق بالغضب والضلال إن كنتم تعلمون
ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب
رسول الله ورضى الله عنهم وهو كما فسروه فإنه صراطهم الذي كانوا عليه وهو عين صراط نبيهم وهم الذين أنعم الله عليهم وغضب على أعدائهم وحكم لأعدائهم بالضلال وقال أبو العالية رفيع الرياحي والحسن البصري وهما من أجل التابعين الصراط المستقيم رسول الله وصاحباه وقال أبو العالية أيضا في قوله صراط الذين أنعمت عليهم هم آل رسول الله وأبو بكر وعمر وهذا حق فإن آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة ولا خلاف بينهم وموالاة بعضهم بعضا وثناؤهم عليهما ومحاربة من حاربا ومسالمة من سالما معلومة عند الأمة خاصها وعامها وقال زيد بن أسلم الذين أنعم الله عليهم هم رسول الله وأبو بكر وعمر(1/62)
ولا ريب أن المنعم عليهم هم أتباعه والمغضوب عليهم هم الخارجون عن أتباعه وأتبع الأمة له وأطوعهم أصحابه وأهل بيته وأتبع الصحابة له السمع والبصر أبو بكر وعمر وأشد الأمة مخالفة له هم الرافضة فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمة ولهذا يبغضون السنة وأهلها ويعادونها ويعادون أهلها فهم أعداء سنته وأهل بيته وأتباعه من بنيهم أكمل ميراثا بل هم ورثته حقا
فقد تبين أن الصراط المستقيم طريق أصحابه وأتباعه وطريق أهل الغضب والضلال طريق الرافضة
وبهذه الطريق بعينها يرد على الخوارج فإن معاداتهم الصحابة معروفة
فصل وسر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى
هاتين الكلمتين وعليهما مدار العبودية والتوحيد حتى قيل أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن وجمع معاني القرآن في المفصل وجمع معاني المفصل في الفاتحة ومعاني الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين
وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين فنصفهما له تعالى وهو إياك نعبد ونصفهما لعبده وهو إياك نستعين
وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في موضعه
والعبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع والعرب تقول طريق معبد أي مذلل والتعبد التذلل والخضوع فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابدا له ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا ومن ههنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية والمنكرون لكونه محبوبا لهم بل هو غاية مطلوبهم ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم منكرين لكونه إلها وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم فهذا غاية توحيدهم وهو توحيد الربوبية الذي اعترف به مشركو العرب ولم يخرجوا به عن الشرك كما قال تعالى 43 87 ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وقال تعالى 39 38 ولئن سألتهم من خلق(1/63)
السموات والأرض ليقولن الله 22 84 89 قل لمن الأرض ومن فيها إلى قوله سيقولون لله قل فأنى تسحرون ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه
والإستعانة تجمع أصلين الثقة بالله والإعتماد عليه فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به لإستغنائه عنه وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به
والتوكل معنى يلتئم من أصلين من الثقة والإعتماد وهو حقيقة إياك نعبد وإياك نستعين وهذان الأصلان وهما التوكل والعبادة قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع قرن بينهما فيها هذا أحدها
الثاني قول شعيب 11 88 وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
الثالث قوله تعالى 10 123 ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه
الرابع قوله تعالى حكاية عن المؤمنين 60 4 ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير
الخامس قوله تعالى 73 8 9 واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا
السادس قوله تعالى 43 10 قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب
فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين وهما إياك نعبد وإياك نستعين وتقديم العبادة على الإستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها والإستعانة وسيلة إليها
ولأن إياك نعبد متعلق بألوهيته واسمه الله وإياك نستعين متعلق بربوبيته واسمه الرب فقدم إياك نعبد على إياك نستعين كما قدم اسم الله على الرب في أول السورة ولأن إياك نعبد قسم الرب فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به وإياك نستعين قسم العبد فكان من الشطر الذي له وهو اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة(1/64)
ولأن العبادة المطلقة تتضمن الإستعانة من غير عكس فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به ولا ينعكس لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته فكانت العبادة أكمل وأتم ولهذا كانت قسم الرب
ولأن الإستعانة جزء من العبادة من غير عكس ولأن الإستعانة طلب منه والعبادة طلب له
ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص والإستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص
ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك والإستعانة طلب العون على العبادة وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته
ولأن العبادة شكر نعمته عليك والله يحب أن يشكر والإعانة فعله بك وتوفيقه لك فإذا التزمت عبوديته ودخلت تحت رقها أعانك عليها فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم
والعبودية محفوفة بإعانتين إعانة قبلها على التزامها والقيام بها وإعانة بعدها على عبودية أخرى وهكذا أبدا حتى يقضي العبد نحببه
ولأن إياك نعبد له وإياك نستعين به وماله مقدم على ما به
لأن ماله متعلق بمحبته ورضاه وما به متعلق بمشيئته وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته فإن الكون كله متعلق بمشيئته والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم فالكفار أهل مشيئته والمؤمنون أهل محبته ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم إياك نعبد على إياك نستعين
وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين ففيه أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم وفيه الإهتمام وشدة العناية به وفيه الإيذان بالإختصاص المسمى بالحصر فهو في قوة لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك والحاكم في ذلك ذوق العربية والفقه فيها واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما وسيبويه نص على الإهتمام ولم ينف غيره(1/65)
ولأنه يقبح من القائل أن يعتق عشرة أعبد مثلا ثم يقول لأحدهم إياك أعتقت ومن سمعه أنكر ذلك عليه وقال وغيره أيضا أعتقت ولولا فهم الإختصاص لما قبح هذا الكلام ولا حسن إنكاره
وتأمل قوله تعالى 2 40 وإياي فارهبون 2 41 وإياي فاتقون كيف تجده في قوة لا ترهبوا غيري لا تتقوا سواي وكذلك إياك نعبد وإياك نستعين هو في قوة لا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك وكل ذي ذوق سليم يفهم هذا الإختصاص من علة السياق
ولا عبرة بجدل من قل فهمه وفتح عليه باب الشك والتشكيك فهؤلاء هم آفة العلوم وبلية الأذهان والفهوم مع أن في ضمير إياك من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل ففي إياك قصدت وأحببت من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي ما ليس في قولك قصدتك وأحببتك وإياك أعني فيه معنى نفسك وذاتك وحقيقتك أعني
ومن ههنا قال من قال من النحاة إن إيا اسم ظاهر مضاف إلى الضمير المتصل ولم يرد عليه برد شاف
ولولا أنا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة وذكرنا مذاهب النحاة فيها ونصرنا الراجح ولعلنا أن نعطف على ذلك بعون الله
وفي إعادة إياك مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين ففي إعادة الضمير من قوة الإقتضاء لذلك ما ليس في حذفه فإذا قلت لملك مثلا إياك أحب وإياك أخاف كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والإهتمام بذكره ما ليس في قولك إياك أحب وأخاف
فصل إذا عرفت هذا فالناس في هذين الأصلين وهما العبادة والإستعانة
أربعة أقسام
أجلها وأفضلها أهل العبادة والإستعانة بالله عليها فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها ولهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته وهو الذي علمه النبي لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال يا معاذ والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك / ح /(1/66)
فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا وعلى دفع ما يضاده وعلى تكميله وتيسير أسبابه فتأملها
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين ومقابل هؤلاء القسم الثاني وهم المعرضون عن عبادته والإستعانة به فلا عبادة ولا إستعانة بل إن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته لا على
مرضاة ربه وحقوقه فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض يسأله أولياؤه وأعداؤه ويمد هؤلاء وهؤلاء وأبغض خلقه عدوه إبليس ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها ومتعه بها ولكن لما لم تكن عونا له على مرضاته كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله وطرده عنه وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه ولم يكن عونا على طاعته كان مبعدا له عن مرضاته قاطعا له عنه ولا بد
وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له فيمنعه حماية وصيانة وحفظا لا بخلا وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته ويعامله بلطفه فيظن بجهله أن الله لا يحبه ولا يكرمه ويراه يقضي حوائج غيره فيسيء ظنه بربه وهذا حشو قلبه ولا يشعر به والمعصوم من عصمه الله والإنسان على نفسه بصيرة وعلامة هذا حمله على الأقدار وعتابه الباطن لها كما قيل
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
فوالله لو كشف عن حاصله وسره لرأي هناك معاتبة القدر وإتهامه وأنه قد كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ولكن ما حيلتي والأمر ليس إلي والعاقل خصم نفسه والجاهل خصم أقدار ربه(1/67)
فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئا معينا خيرته وعاقبته مغيبة عنك وإذا لم تجد من سؤاله بدا فعلقه على شرط علمه تعالى فيه الخيرة وقدم بين يدي سؤالك الإستخارة ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة بل استخارة من لا علم له بمصالحه ولا قدرة له عليها ولا اهتداء له إلى تفاصيلها ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بل إن وكل إلى نفسه هلك كل الهلاك وانفرط عليه أمره
وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال تسأله أن يجعله عونا لك على طاعته وبلاغا إلى مرضاته ولا يجعله قاطعا لك عنه ولا مبعدا عن مرضاته ولا تظن أن عطاءه كل ما أعطى لكرامة عبده عليه ولا منعه كل ما يمنعه لهوان عبده عليه ولكن عطاؤه ومنعه ابتلاء وامتحان يمتحن بهما عباده قال الله تعالى 89 25 و16 فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته وما ذاك لكرامته علي ولكنه ابتلاء علي وامتحان له أيشكرني فأعطيه فوق ذلك أم يكفرني فأسلبه إياه وأخول فيه غيره وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذلك من هوانه علي ولكنه ابتلاء وامتحان مني له أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق أم يتسخط فيكون حظه السخط
فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة فقال لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي ولم أبتله بالفقر لهوانه علي فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لإهانته إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته فله الحمد على هذا وعلى هذا وهو الغني الحميد
فعادت سعادة الدنيا والآخرة إلى إياك نعبد وإياك نستعين
فصل القسم الثالث من له نوع عبادة بلا استعانة وهؤلاء نوعان(1/68)
أحدهما القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق وإرسال الرسل وتمكينه من الفعل فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر من غير أن يكون الله سبحانه وفق هؤلاء بتوفيق زائد أوجب لهم الإيمان وخذل هؤلاء بأمر آخر أوجب لهم الكفر فهولاء لهم نصيب منقوص من العبادة لا استعانة معه فهم موكولون إلى أنفسهم مسدود عليهم طريق الإستعانة والتوحيد قال ابن عباس رضي الله عنهما الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيبه توحيده
النوع الثاني من لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والإستعانة لم تتسع قلوبهم لإرتباط الأسباب بالقدر وتلاشيها في ضمنه وقيامها به وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له بل كالعدم الذي لا وجود له وأن القدر كالروح المحرك لها والمعول على المحرك الأول
فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك ومن السبب إلى المسبب ومن الآلة إلى الفاعل فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم فقل نصيبهم من إياك نستعين ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والإستعانة وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف
فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه وكان مأمورا بإزالته لأزاله
فإن قلت فما معنى التوكل والإستعانة(1/69)
قلت هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع والعطاء والمنع وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس فيوجب له هذا اعتمادا عليه وتفويضا إليه وطمأنينة به وثقة به ويقينا بكفايته لما توكل عليه فيه وأنه ملي به ولا يكون إلا بمشيئته شاءه الناس أم أبوه
فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينويه من رغبة ورهبة هما مليان بهما فانظر في تجرد قلبه عن الإلتفات إلى غير أبويه وحبس همه على إنزال ما ينويه بهما فهذه حال المتوكل ومن كان هكذا مع الله فالله كافيه ولا بد قال الله تعالى 65 3 ومن يتوكل على الله فهو حسبه أي كافيه والحسب الكافي فإن كان مع هذا من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة وإن لم يكن من أهل التقوى فهو
القسم الرابع وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولم يدر مع ما يحبه ويرضاه فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه وطلبها منه وأنزلها به فقضيت له وأسعف بها سواء كانت أموالا أو رياسة أو جاها عند الخلق أو أحوالا من كشف وتأثير وقوة وتمكين ولكن لا عاقبة له فإنها من جنس الملك الظاهر والأموال لا تستلزم الإسلام فضلا عن الولاية والقرب من الله فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر والمؤمن والكافر فمن استدل بشيء من ذلك على محبة الله لمن آتاه إياه ورضاه عنه وأنه من أوليائه المقربين فهو من أجهل الجاهلين وأبعدهم عن معرفة الله ومعرفة دينه والتمييز بين ما يحبه ويرضاه ويكرهه ويسخطه فالحال من الدنيا فهو كالملك والمال إن أعان صاحبه على طاعة الله ومرضاته وتنفيذ أوامره ألحقه بالملوك العادلين البررة وإلا فهو وبال على صاحبه ومبعد له عن الله وملحق له بالملوك الظلمة والأغنياء الفجرة
فصل إذا عرف هذا فلا يكون العبد متحققا ب إياك نعبد
إلا بأصلين عظيمين
أحدهما متابعة الرسول(1/70)
والثاني الإخلاص للمعبود فهذا تحقيق إياك نعبد
والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام
أحدها أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة وهم أهل إياك نعبد حقيقة فأعمالهم كلها لله وأقوالهم لله وعطاؤهم لله ومنعهم لله وحبهم لله وبغضهم لله فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا ولا ابتغاء الجاه عندهم ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ولا هربا من ذمهم بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فالعمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع منهم لا يكون من عارف بهم ألبتة بل من جاهل بشأنهم وجاهل بربه فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم
وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله ولما يحبه ويرضاه وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه وهو الذي بلا عباده بالموت والحياة لأجله قال الله تعالى 67 2 الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملا قال الفضيل بن عياض العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ما كان لله(1/71)
والصواب ما كان على السنة وهذا هو المذكور في قوله تعالى 18 110 فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وفي قوله 4 125 ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه على متابعة أمره وما عدا ذلك فهو مردود على عامله يرد عليه أحوج ما هو إليه هباء منثورا وفي الصحيح من حديث عائشة عن النبي كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد / ح / وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء
فصل الضرب الثاني من لا إخلاص له ولا متابعة فليس عمله موافقا لشرع
وليس هو خالصا للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل ولهم أوفر نصيب من قوله 3 188 لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص
وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الإتباع والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال
فصل الضرب الثالث من هو مخلص في أعماله لكنها على غير متابعة الأمر
كجهال العباد والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر وكل من عبد الله بغير أمره واعتقد عبادته هذه قربة إلى الله فهذا حاله كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة وأمثال ذلك
فصل الضرب الرابع من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله(1/72)
كطاعة المرائين وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة ويحج ليقال ويقرأ القرآن ليقال فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها لكنها غير صالحة فلا تقبل 98 5 وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر والإخلاص له في العبادة وهم أهل إياك نعبد وإياك نستعين
فصل ثم أهل مقام إياك نعبد لهم في أفضل العبادة وأنفعها
وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق فهم في ذلك أربعة أصناف
الصنف الأول عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها
قالوا لأنه أبعد الأشياء عن هواها وهو حقيقة التعبد
قالوا والأجر على قدر المشقة ورووا حديثا لا أصل له أفضل الأعمال أحمرها أي أصعبها وأشقها
وهؤلاء هم أهل المجاهدات والجور على النفوس
قالوا وإنما تستقيم النفوس بذلك إذ طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الأرض فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق
الصنف الثاني قالوا أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها غاية الإمكان واطراح الإهتمام بها وعدم الإكتراث بكل ما هو منها
ثم هؤلاء قسمان
فعوامهم ظنوا أن هذا غاية فشمروا إليه وعملوا عليه ودعوا الناس إليه وقالوا هو أفضل من درجة العلم والعبادة فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها
وخواصهم رأوا هذا مقصودا لغيره وأن المقصود به عكوف القلب على الله وجمع الهمة عليه وتفريغ القلب لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والإشتغال بمرضاته فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله ودوام ذكره بالقلب واللسان والإشتغال بمراقبته دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له
ثم هؤلاء قسمان فالعارفون المتبعون منهم إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرقهم وأذهب جمعيتهم والمنحرفون منهم يقولون المقصود من العبادة جمعية القلب على الله فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه وربما يقول قائلهم(1/73)
يطالب بالأوراد من كان غافلا ... فكيف بقلب كل أوقاته ورد ثم هولاء أيضا قسمان منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته ومنهم من يقوم بها ويترك السنن والنوافل وتعلم العلم النافع لجمعيته
وسأل بعض هؤلاء شيخا عارفا فقال إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله فإن قمت وخرجت تفرقت وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي فما الأفضل في حقي
فقال إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم وأجب داعي الله ثم عد إلى موضعك وهذا لأن الجمعية على الله حظ الروح والقلب وإجابة الداعي حق الرب ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل إياك نعبد
الصنف الثالث رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر فرأوا خدمة الفقراء والإشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله / ح / رواه أبو يعلى
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه وعمل النفاع متعد إلى الغير وأين أحدهما من الآخر
قالوا ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب
قالوا وقد قال رسول الله لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم / ح / وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي واحتجوا بقوله من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء / ح / واحتجوا بقوله إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير / ح / وبقوله إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها / ح /
واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما دام نفعه الذي نسب إليه(1/74)
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعم في معاشهم ومعادهم لم يبعثوا بالخلوات والإنقطاع عن الناس والترهب ولهذا أنكر النبي على أولئك النفر الذين هموا بالإنقطاع للتعبد وترك مخالطة الناس ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله ونفع عباده والإحسان إليهم أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك
الصنف الرابع قالوا إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والإشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل
والأفضل في أوقات السحر الإشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والإستغفار
والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والإشتغال به
والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والإشتغال بإجابة المؤذن والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الإشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على
تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الإجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين(1/75)
والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والإعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والإشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه
والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والإشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته فهو يعبدالله على وجه واحد وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت
فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة(1/76)
عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره فإن رأيت العلماء رأيته معهم وإن رأيت العباد رأيته معهم وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو المتحقق ب إياك نعبد وإياك نستعين حقا القائم بهما صدقا ملبسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيث دار يدين بدين الآمر أني توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله فهو لله وبالله ومع الله قد صحب الله بلا خلق وصحب الناس بلا نفس بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين وتخلى عنهم وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها فواها له ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه والله المستعان وعيه التكلان
فصل ثم للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة وهم في
ذلك أربعة أصناف(1/77)
الصنف الأول نفاة الحكم والتعليل الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة وصرف الإرادة فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن تكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد ولا سببا لنجاة وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة كما قالوا في الخلق إنه لم يخلق ما خلقه لعلة ولا لغاية هي المقصودة به ولا لحكمة تعود إليه منه وليس في المخلوقات أسباب مقتضيات لمسبباتها ولا فيها قوى ولا طبائع فليست النار سببا للإحراق ولا الماء سببا للإرواء والتبريد وإخراج النبات ولا فيه قوة ولا طبيعة تقتضي ذلك وحصول الإحراق والري ليس بهما لكن بإجراء العادة الإقترانية على حصول هذا عند هذا لا بسبب ولا بقوة قامت به وهكذا الأمر عندهم في أمره الشرعي سواء لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا من غير أن يقوم بالمأمور به صفة اقتضت حسنه ولا المنهي عنه صفة اقتضت قبحه
ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى مفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين وجها وهو كتاب بديع في معناه وذكرناه أيضا في كتابنا المسمى سفر الهجرتين وطريق السعادتين
وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها ولا يتنعمون بها وليست الصلاة قرة أعينهم وليست الأوامر سرور قلوبهم وغذاء أرواحهم وحياتهم ولهذا يسمونها تكاليف أي قد كلفوا بها ولو سمى مدع لمحبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفا وقال إني إنما أفعله بكلفة لم يعده أحد محبا له ولهذا(1/78)
أنكر هؤلاء أو كثير منهم محبة العبد لربه وقالوا إنما يحب ثوابه وما يخلقه له من النعيم الذي يتمتع به لا أنه يحب ذاته فجعلوا المحبة لمخلوقه دونه وحقيقة العبودية هي كمال المحبة فأنكروا حقيقة العبودية ولبها وحقيقة الإلهية كونه مألوها محبوبا بغاية الحب المقرون بغاية الذل والخضوع والإجلال والتعظيم فأنكروا كونه محبوبا وذلك إنكار لإلهيته وشيخ هؤلاء هو الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد بن عبدالله القسري في يوم أضحى وقال إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا وإنما كان إنكاره لكونه تعالى محبوبا محبا لم ينكر حاجة إبراهيم إليه التي هي الخلة عند الجهمية التي يشترك فيها جميع الخلائق فكلهم أخلاء لله عندهم
وقد بينا فساد قولهم هذا وإنكارهم محبة الله من أكثر من ثمانين وجها في كتابنا المسمى قرة عيون المحبين وروضة قلوب العارفين وذكرنا فيه وجوب تعلق المحبة بالحبيب الأول من جميع طرق الأدلة النقلية والعقلية والذوقية والفطرية وأنه لا كمال للإنسان بدون ذلك ألبتة كما أنه لا كمال لجسمه إلا بالروح والحياة ولا لعينه إلا بالنور الباصر ولا لأذنه إلا بالسمع وأن الأمر فوق ذلك وأعظم
فصل الصنف الثاني القدرية النفاة الذين يثبتون نوعا من الحكمة
والتعليل ولكن لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه بل يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته
فعندهم أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم وأنها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير
قالوا ولهذا يجعلها الله تعالى عوضا كقوله 7 43 ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون وقوله ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وقوله هل تجزون إلا ما كنتم تعملون وقوله فيما يحكى عن ربه
عز وجل يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها / ح / وقوله تعالى 39 10 إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب(1/79)
قالوا وقد سماه الله سبحانه جزاء وأجرا وثوابا لأنه يثوب إلى العامل من عمله أي يرجع إليه منه
قالوا ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاءا ولا أجرا ولا ثوابا معنى
قالوا ويدل عليه الوزن فلولا تعلق الثواب والعقاب بالأعمال واقتضائها لها وكونها كالأثمان لها لم يكن للوزن معنى وقد قال تعالى 7 8 9 والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون
وهاتان الطائفتان متقابلتان أشد التقابل وبينهما أعظم التباين
فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء ألبتة وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في طاعته وينعم من أفنى عمره في معصيته وكلاهما بالنسبة إليه سواء وجوزت أن يرفع صاحب العمل القليل على من هو أعظم منه عملا وأكثر وأفضل درجات والكل عندهم راجع إلى محض المشيئة من غير تعليل ولا سبب ولا حكمة تقتضي تخصيص هذا بالثواب وهذا بالعقاب
والقدرية أوجبت على الله سبحانه رعاية الأصلح وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال وثمنا لها وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنغيص بإحتمال منة الصدقة عليه بلا ثمن
فقاتلهم الله ما أجهلهم بالله وأغرهم به جعلوا تفضله وإحسانه إلى عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد حتى قالوا إن إعطاءه ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد وأطيب له من أن يعطيه فضلا منه بلا عمل
فقابلتهم الجبرية أشد المقابلة ولم يجعلوا للأعمال تأثيرا في الجزاء ألبتة(1/80)
والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذي فطر الله عليه عباده وجاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنه وصدقته على عبده إن أعانه عليها ووفقه لها وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها وحببها إليه وزينها في قلبه وكره إليه أضداها ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ولا هي على قدره بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه فلو طالبه بحقه لبقى عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها فلذلك لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم كما ثبت ذلك عن النبي ولهذا نفى النبي دخول الجنة بالعمل كما قال لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله وفي لفظ لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله وفي لفظ لن ينجى أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل / ح / وأثبت سبحانه دخول الجنة بالعمل كما في قوله 16 32 ادخولا الجنة بما كنتم تعملون ولا تنافي بينها إذا توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها ردا على القدرية المجوسية التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكرير المنة
وهذه الطائفة من أجهل الخلق بالله وأغلظهم عنه حجابا وحق لهم(1/81)
أن يكونوا مجوس هذه الأمة ويكفي في جهلهم بالله أنهم لم يعلموا أن أهل سمواته وأرضه في منته وأن من تمام الفرح والسرور والغبطة واللذة اغتباطهم بمنة سيدهم ومولاهم الحق وأنهم إنما طاب لهم عيشهم بهذه المنة وأعظمهم منه منزلة وأقربهم إليه أعرفهم بهذه المنة وأعظمهم إقرارا بها وذكرا لها وشكرا عليها ومحبة له لأجلها فهل يتقلب أحد قط إلا في منته 49 17 يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنت صادقين
واحتمال منة المخلوق إنما كانت نقصا لأنه نظيره فإذا من عليه استعلى عليه ورأى الممنون عليه نفسه دونه هذا مع أنه ليس في كل مخلوق فلرسول الله المنة على أمته وكان أصحابه يقولون الله ورسوله أمن ولا نقص في منة الوالد على ولده ولا عار عليه في احتمالها وكذلك السيد على عبده فكيف برب العالمين الذي إنما يتقلب الخلائق في بحر منته عليهم ومحض صدقته عليهم بلا عوض منهم ألبتة وإن كانت أعمالهم أسبابا لما ينالونه من كرمه وجوده فهو المنان عليهم بأن وفقهم لتلك الأسباب وهداهم لها وأعانهم عليها وكملها لهم وقبلها منهم على ما فيها وهذا هو المعنى الذي أثبت به دخول الجنة في قوله بما كنتم تعملون
فهذه باء السببية ردا على القدرية والجبرية الذين يقولون لا ارتباط بين الأعمال والجزاء ولا هي أسباب له وإنما غايتها أن تكون أمارات
قالوا وليست أيضا مطردة لتخلف الجزاء عنها في الخير والشر فلم يبق إلا محض الأمر الكوني والمشيئة فالنصوص مبطلة لقول هؤلاء كما هي مبطلة لقول أولئك وأدلة المعقول والفطرة أيضا تبطل قول الفريقين وتبين لمن له قلب ولب مقدار قول أهل السنة وهم الفرقة الوسط المثبتون لعموم مشيئة الله وقدرته وخلقه العباد
وأعمالهم ولحكمته التامة المتضمنة ربط الأسباب بمسبباتها وانعقادها بها شرعا وقدرا وترتيبها عليها عاجلا وآجلا(1/82)
وكل واحدة من الطائفتين المنحرفتين تركت نوعا من الحق وارتكبت لأجله نوعا من الباطل بل أنواعا وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه 2 213 والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
فصل الصنف الثالث الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النفوس
واستعدادها لفيض العلوم عليها وخروج قواها عن قوى النفوس السبعية والبهيمية فلو عطلت عن العبادات لكانت من جنس نفوس السباع والبهائم والعبادات تخرجها عن مألوفاتها وعوائدها وتنقلها إلى مشابهة العقول المجردة فتصير عالمة قابلة لانتقاش صور العلوم والمعارف فيها وهذا يقوله طائفتان
إحداهما من يقرب إلى النبوات والشرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم إنشقاق الأفلاك وعدم الفاعل المختار
الطائفة الثانية من تفلسفت من صوفية الإسلام وتقرب إلى الفلاسفة فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لإستعداد النفوس وتجردها ومفارقتها العالم الحسى ونزول الواردات والمعارف عليها
ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادات إلا لهذا المعنى فإذا حصل لها بقي مخيرا في حفظه أورده أو الإشتغال بالوارد عنها ومنهم من يوجب القيام بالأوراد والوظائف وعدم الإخلال بها وهم صنفان أيضا
أحدهما من يوجبونه حفظا للقانون وضبطا للنفوس
والآخرون الذين يوجبونه حفظا للوارد وخوفا من تدرج النفس بمفارقتها له إلى حالتها الأولى من البهيمية
فهذه نهاية أقدام المتكلمين على طريق السلوك وغاية معرفتهم بحكم العبادة وما شرعت لأجله ولا تكاد تجد في كتب القوم غير هذه الطرق الثلاثة على سبيل الجمع أو على سبيل البدل
فصل وأما الصنف الرابع فهم الطائفة المحمدية الإبراهيمية أتباع
الخليلين العارفون بالله وحكمته في أمره وشرعه وخلقه وأهل البصائر في عبادته ومراده بها(1/83)
فالطوائف الثلاث محجوبون عنهم بما عندهم من الشبه الباطلة والقواعد الفاسدة ما عندهم وراء ذلك شيء قد فرحوا بما عندهم من المحال وقنعوا بما ألفوه من الخيال ولو علموا أن وراءه ما هو أجل منه وأعظم لما ارتضوا بدونه ولكن عقولهم قصرت عنه ولم يهتدوا إليه بنور النبوة ولم يشعروا به ليجتهدوا في طلبه ورأوا أن ما معهم خير من الجهل ورأوا تناقض ما مع غيرهم وفساده
فتركب من هذه الأمور إيثار ما عندهم على ما سواه وهذه بلية الطوائف والمعافى من عافاه الله
فصل فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها إنما يطلع عليها من عرف
صفات الرب عز وجل ولم يعطلها وعرف معنى الإلهية وحقيقتها ومعنى كونه إلها بل هو الإله الحق وكل إله سواه فباطل بل أبطل الباطل وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها وارتباطها بها كإرتباط متعلق الصفات بالصفات وكإرتباط المعلوم بالعلم والمقدور بالقدرة والأصوات بالسمع والإحسان بالرحمة والعطاء بالجود(1/84)
فمن أنكر حقيقة الإلهية ولم يعرفها كيف يستقيم له معرفة حكمة العبادات وغاياتها ومقاصدها وما شرعت لأجله وكيف يستقيم له العلم بأنها هي الغاية المقصودة بالخلق والتي لها خلقوا ولها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ولأجلها خلقت الجنة والنار وأن فرض تعطيل الخليقة عنها نسبة لله إلى مالا يليق به ويتعالى عنه من خلق السموات والأرض بالحق ولم يخلقهما باطلا ولم يخلق الإنسان عبثا ولم يتركه سدى مهملا قال تعالى 23 115 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون أي لغير شيء ولا حكمة ولا لعبادتي ومجازاتي لكم وقد صرح تعالى بهذا في قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فالعبادة هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها قال الله تعالى 75 36 أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي مهملا قال الشافعي لا يؤمر ولا ينهى وقال غيره لا يثاب ولا يعاقب والصحيح الأمران فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنهي والأمر والنهي طلب العبادة وإرادتها وحقيقة العبادة امتثالهما وقال تعالى 3 191 ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار وقال وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقال 45 22 وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت
فأخبر أنه خلق السموات والأرض بالحق المتضمن أمره ونهيه وثوابه وعقابه فإذا كانت السموات والأرض وما بينهما خلقت لهذا وهو غاية الخلق فكيف يقال إنه لا علة له ولا حكمة مقصودة هي غايته أو إن ذلك لمجرد استئجار العباد حتى لا ينكد عليهم الثواب بالمنة أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها بمخالفة العوائد
فليتأمل اللبيب الفرقان بين هذه الأقوال وبين ما دل عليه صريح الوحي يجد أن أصحاب هذه الأقوال ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته
فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له والإنقياد لأمره(1/85)
فأصل العبادة محبة الله بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه كما يجب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه فمحبتنا لهم من تمام محبته وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه
وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها وشاهدا لمن ادعاها فقال تعالى 3 31 قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله وشرطا لمحبة الله لهم ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله وانتفاء المتابعة ملزوم لإنتفاء محبة الله لهم فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله
ودل على أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله وطاعة أمره ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله قال الله تعالى 9 24 قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين
فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد(1/86)
منهم على قول الله ورسوله أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه أو معاملة أحدهم على معاملة الله فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وإن قاله بلسانه فهو كذب منه وإخبار بخلاف ما هو عليه وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله فذلك المقدم عنده أحب إليه من الله ورسوله لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه أو طاعته أو مرضاته ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول فيطيعه ويحاكم إليه ويتلقى أقواله كذلك فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا أو في بعض الأمور ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به فهذا الذي يخاف عليه وهو داخل تحت الوعيد فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله ولم يوافقه على اتباع شيخه فهو من الظلمة المعتدين وقد جعل الله لكل شيء قدرا
فصل وبنى إياك نعبد على أربع قواعد التحقق بما يحبه الله
ورسوله ويرضاه من قولاللسان والقلب وعمل القلب الجوارح
فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع فأصحاب إياك نعبد حقا هم أصحابها
فقول القلب هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله
وقول اللسان الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له والقيام بذكره وتبليغ أوامره
وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والرضى به وعنه والموالاة فيه والمعاداة فيه والذل له والخضوع والإخبات إليه والطمأنينة به وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة(1/87)
وأعمال الجوارح كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك
ف إياك نعبد التزام لأحكام هذه الأربعة وإقرار بها و إياك نستعين طلب للإعانة عليها والتوفيق لها و اهدنا الصراط المستقيم متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل وإلهام القيام بهما وسلوك طريق السالكين إلى الله بها
فصل وجميع الرسل إنما دعوا إلى إياك نعبد وإياك نستعين فإنهم
كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم فقال نوح لقومه 7 59 اعبدوا لله مالكم من إله غيره وكذلك قال هود وصالح وشعيب 7 65 73 85 وإبراهيم قال الله تعالى 16 36 ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال 21 25 وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدوا وقال تعالى 23 51 52 يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون
فصل والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه وأقربهم إليه فقال(1/88)
172 - لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا وقال 7 206 إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون وهذا يبين أن الوقف التام في قوله في سورة الأنبياء 21 19 وله من في السموات والأرض ههنا ثم يبتدىء ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون فهما جملتان تامتان مستقلتان أي إن له من في السموات ومن في الأرض عبيدا وملكا ثم استأنف جملة أخرى فقال ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته يعني أن الملائكة الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته يعني لا يأنفون عنها ولا يتعاظمون ولا يستحسرون فيعيون وينقطعون يقال حسر واستحسر أيإذا تعب وأعيا بل عبادتهم وتسبيحهم كالنفس لبني آدم فالأول وصف لعبيد ربوبيته والثاني وصف لعبيد إلهيته وقال تعالى 25 63 77 وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا إلى آخر السورة وقال 76 6 عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا وقال 38 17 واذكروا عبدنا داود وقال 38 41 واذكر عبدنا أيوب وقال 38 45 واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب وقال عن سليمان 38 30 نعم العبد إنه أواب وقال عن المسيح 43 59 إن هو إلا عبد أنعمنا عليه فجعل غايته العبودية لا الإلهية كما يقول أعداؤه النصارى ووصف أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية في أشرف مقاماته فقال تعالى 2 25 وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا وقال تبارك وتعالى تبارك الذي نزل الفرقان على عبده وقال الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه وفي مقام التحدي بأن ياتوا بمثله وقال وأنه لما قام عبدالله يدعوه(1/89)
كادوا يكونون عليه لبدا فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه وقال سبحان الذي أسرى بعبده ليلا فذكره بالعبودية في مقام الإسراء وفي الصحيح عنه أنه قال لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله / ح / وفي الحديث أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد / ح / وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو قال قرأت في التوراة صفة محمد محمد رسول الله عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر / ح /
وجعل الله سبحانه البشارة المطلقة لعباده فقال تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وجعل الأمن المطلق لهم فقال تعالى يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين وعزل الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به فقال إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وقال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون
وجعل النبي إحسان العبودية أعلى مراتب الدين وهو الإحسان فقال في حديث جبريل وقد سأله عن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك / ح /
فصل في لزوم إياك نعبد لكل عبد إلى الموت قال الله تعالى
لرسوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وقال أهل النار وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين واليقين ههنا هو الموت بإجماع أهل التفسير وفي الصحيح في قصة موت عثمان بن مظعون(1/90)
رضي الله عنه أن النبي قال أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه أي الموت وما فيه فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان من كان يعبد وما يقول في رسول الله ويلتمسان منه الجواب وعليه عبودية أخرى يوم القيامة يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود فيسجد المؤمنون ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا
ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد فهو زنديق كافر بالله وبرسوله وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله والإنسلاخ من دينه بل كلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه ولهذا كان الواجب على رسول الله بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم والواجب على أولى العزم أعظم من الواجب على من دونهم والواجب على أولى العلم أعظم من الواجب على من دونهم وكل أحد بحسب مرتبته
فصل في إنقسام العبودية إلى عامة وخاصة العبودية نوعان عامة
وخاصة فالعبودية العامة عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فهذه عبودية القهر والملك قال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم
وقال تعالى ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء فسماهم عباده مع ضلالهم لكن تسمية مقيدة بالإشارة وأما المطلقة فلم تجيء إلا لأهل النوع الثاني كما سيأتي بيانه إن شاء الله(1/91)
وقال تعالى قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون وقال وما الله يريد ظلما للعباد وقال إن الله قد حكم بين العباد فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة
وأما النوع الثاني فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر قال تعالى يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون وقال فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وقال وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقال تعالى عن إبليس لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فقال تعالى عنهم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
فالخلق كلهم عبيد ربوبيته وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته
ولا يجىء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء
وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه إما منكرا كقوله إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا والثاني معرفا باللام كقوله وما الله يريد ظلما للعباد إن الله قد حكم بين العباد
الثالث مقيدا بالإشارة أو نحوها كقوله أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء
الرابع أن يذكروا في عموم عباده فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر كقوله أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون
الخامس أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله
وقد يقال إنما سماهم عباده إذ لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة
وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة لأن أصل معنى اللفظة الذل والخضوع يقال طريق معبد إذا كان مذللا بوطء الأقدام وفلان عبده الحب إذا ذلله لكن أولياؤه خضعوا له وذلوا طوعا واختيارا وانقيادا لأمره ونهيه وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما(1/92)
ونظير انقسام العبودية إلى خاصة وعامة انقسام القنوت إلى خاص وعام والسجود كذلك قال تعالى في القنوت الخاص أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه وقال في حق مريم وكانت من القانتين وهو كثير في القرآن
وقال في القنوت العام وله من في السموات والأرض كل له قانتون أي خاضعون أذلاء
وقال في السجود الخاص إن الذين عند ربك لا يستكبرون
عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون وقال إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا وهو كثير في القرآن
وقال في السجود العام ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال
ولهذا كان هذا السجود الكره غير السجود المذكور في قوله ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس فخص بالسجود هنا كثيرا من الناس وعمهم بالسجود في سورة النحل ولله يسجد ما في السموات والأرض من دابة والملائكة وهو سجود الذل والقهر والخضوع فكل أحد خاضع لربوبيته ذليل لعزته مقهور تحت سلطانه تعالى
فصل في مراتب إياك نعبد علما وعملا للعبودية مراتب بحسب
العلم والعمل فأما مراتبها العلمية فمرتبتان
إحداهما العلم بالله والثانية العلم بدينه
فأما العلم به سبحانه فخمس مراتب العلم بذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه وتنزيهه عما لا يليق به
والعلم بدينه مرتبتان إحداهما دينه الأمري الشرعي وهو الصراط المستقيم الموصل إليه
والثانية دينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه وقد دخل في هذا العلم العلم بملائكته وكتبه ورسله
وأما مراتبها العلمية فمرتبتان مرتبة لأصحاب اليمين ومرتبة للسابقين المقربين فأما مرتبة أصحاب اليمين فأداء الواجبات وترك المحرمات مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات وترك بعض المستحبات
وأما مرتبة المقربين فالقيام بالواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم متورعين عما يخافون ضرره(1/93)
وخاصتهم قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية
فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين بل كل أعمالهم راجحة ومن دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات وهؤلاء يأتونها طاعات وقربات ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله
فصل ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب
العبودية
وبيانها أن العبودية منقسمة على القلب اللسان والجوارح وعلى كل منها عبودية تخصه
والأحكام التي للعبودية خمسة واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح
فواجب القلب منه متفق على وجوبه ومختلف فيه
فالمتفق على وجوبه كالإخلاص والتوكل والمحبة والصبر والإنابة والخوف والرجاء والتصديق الجازم والنية في العبادة وهذه قدر زائد على الإخلاص فإن الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره
ونية العبادة لها مرتبتان
إحداهما تمييز العبادة عن العادة والثانية تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض
والأقسام الثلاثة واجبة
وكذلك الصدق والفرق بينه وبين الإخلاص أن للعبد مطلوبا وطلبا فالإخلاص توحيد مطلوبه والصدق توحيد طلبه
فالإخلاص أن لا يكون المطلوب منقسما والصدق أن لا يكون الطلب منقسما فالصدق بذل الجهل والإخلاص إفراد المطلوب
واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة
وكذلك النصح في العبودية ومدار الدين عليه وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي له وأصل هذا واجب وكماله مرتبة المقربين
وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان واجب مستحق وهو مرتبة أصحاب اليمين وكمال مستحب وهو مرتبة المقربين
وكذلك الصبر واجب بإتفاق الأمة قال الإمام أحمد ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن أو بضعا وتسعين وله طرفان أيضا واجب مستحق وكمال مستحب
وأما المختلف فيه فكالرضا فإن في وجوبه قولين للفقهاء والصوفية(1/94)
والقولان لأصحاب أحمد فمن أوجبه قال السخط حرام ولا خلاص عنه إلا بالرضا ومالا خلاص عن الحرام إلا به فهو واجب
واحتجوا بأثر من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سواي
ومن قال هو مستحب قال لم يجىء الأمر به في القرآن ولا في السنة بخلاف الصبر فإن الله أمر به في مواضع كثيرة من كتابه وكذلك التوكل قال إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وأمر بالإنابة فقال وأنيبوا إلى ربكم وأمر بالإخلاص كقوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وكذلك الخوف كقوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقوله فلا تخشوهم واخشون وقوله وإياي فارهبون وكذلك الصدق قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وكذلك المحبة وهي أفرض الواجبات إذ هي قلب العبادة المأمور بها ومخها وروحها
وأما الرضا فإنما جاء في القرآن مدح أهله والثناء عليهم لا الأمر به قالوا وأما الأثر المذكور فإسرائيلي لا يحتج به
قالوا وفي الحديث المعروف عن النبي إن استطعت أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا وهو في بعض السنن
قالوا وأما قولكم لا خلاص عن السخط إلا به فليس بلازم فإن مراتب الناس في المقدور ثلاثة الرضا وهو أعلاها والسخط وهو أسفلها والصبر عليه بدون الرضا به وهو أوسطها فالأولى للمقربين السابقين والثالثة للمقتصدين والثانية للظالمين وكثير من الناس يصبر على المقدور فلا يسخط وهو غير راض به فالرضا أمر آخر(1/95)
وقد أشكل على بعض الناس اجتماع الرضا مع التألم وظن أنهما متباينان وليس كما ظنه فالمريض الشارب للدواء الكريه متألم به راض به والصائم في شهر رمضان في شدةالحر متألم بصومه راض به والبخيل متألم بإخراج زكاة ماله راض بها فالتألم كما لا ينافي الصبر لا ينافي الرضا به وهذا الخلاف بينهم إنما هو في الرضا بقضائه الكوني وأما الرضا به ربا وإلها والرضا بأمره الديني فمتفق على فرضيته بل لا يصير العبد مسلما إلا بهذا الرضا أن يرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا
ومن هذا أيضا اختلافهم في الخشوع في الصلاة وفيه قولان للفقهاء وهما في مذهب أحمد وغيره
وعلى القولين اختلافهم في وجوب الإعادة على من غلب عليه الوسواس في صلاته فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد وأبو حامد الغزالي في إحيائه ولم يوجبها أكثر الفقهاء
واحتجوا بأن النبي أمر من سها في صلاته بسجدتي السهو ولم يأمره بالإعادة مع قوله إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته فيقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى / ح / ولكن لا نزاع أن هذه الصلاة لا يثاب على شيء منها إلا بقدر حضور قلبه وخضوعه كما قال النبي إن العبد لينصرف من الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها ثلثها ربعها حتى بلغ عشرها / ح / وقال ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها / ح / فليست صحيحة باعتبار ترتب كمال مقصودها عليها وإن سميت صحيحه باعتبار أنا لا نأمره بالإعادة
ولا ينبغي أن يعلق لفظ الصحة عليها فيقال صلاة صحيحة مع أنه لا يثاب عليها فاعلها
والقصد أن هذه الأعمال واجبها ومستحبها هي عبودية القلب فمن عطلها فقد عطل عبودية الملك وإن قام بعبودية رعيته من الجوارح
والمقصود أن يكون ملك الأعضاء وهو القلب قائما بعبوديته لله سبحانه هو ورعيته
وأما المحرمات التي عليه فالكبر والرياء والعجب والحسد والغفلة والنفاق وهي نوعان كفر ومعصية
فالكفر كالشك والنفاق والشرك وتوابعها(1/96)
والمعصية نوعان كبائر وصغائر
فالكبائر كالرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله والفرح والسرور بأذى المسلمين والشماتة بمصيبتهم ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله وتمنى زوال ذلك عنهم وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها وإلا فهو قلب فاسد وإذا فسد القلب فسد البدن
وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب وترك القيام بها
فوظيفة إياك نعبد على القلب قبل الجوارح فإذا جهلها وترك القيام بها امتلأ بأضدادها ولا بد وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها
وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها
ومن الصغائر أيضا شهوة المحرمات وتمنيها وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر بحسب تفاوت درجات المشتهي فشهوة الكفر والشرك كفر وشهوة البدعة فسق وشهوة الكبائر معصية فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب وإن تركها عجزا بعد بذله مقدوره في تحصيلها استحق عقوبة الفاعل لتنزيله منزلته في أحكام الثواب والعقاب وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع ولهذا قال النبي إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا هذا القاتل يا رسول الله فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه فنزله منزلة القاتل لحرصه على قتل صاحبه في الإثم دون الحكم وله نظائر كثيرة في الثواب والعقاب
وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه
فصل وأما عبوديات اللسان الخمس فواجبها النطق بالشهادتين وتلاوة ما
يلزمه تلاوته من القرآن وهو ما تتوقف صحة صلاته عليه وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر الله بها ورسوله كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود وأمر بقول ربنا ولك الحمد بعد الأعتدال وأمر بالتشهد وأمر بالتكبير(1/97)
ومن واجبه رد السلام وفي ابتدائه قولان
ومن واجبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل وإرشاد الضال وأداء الشهادة المتعينة وصدق الحديث
وأما مستحبه فتلاوة القرآن ودوام ذكر الله والمذاكرة في العلم النافع وتوابع ذلك
وأما محرمه فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله والدعاء إليها وتحسينها وتقويتها وكالقذف وسب المسلم وأذاه بكل قول والكذب وشهادة الزور والقول على الله بلا علم وهو أشدها تحريما
ومكروهة التكلم بما تركه خير من الكلام به مع عدم العقوبة عليه
وقد اختلف السلف هل في حقه كلام مباح متساوي الطرفين على قولين ذكرهما ابن المنذر وغيره أحدهما أنه لا يخلو كل ما يتكلم به إما أن يكون له أو عليه وليس في حقه شيء لا له ولا عليه
واحتجوا بالحديث المشهور وهو كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان من ذكر الله وما والاه
واحتجوا بأنه يكتب كلامه كله ولا يكتب إلا الخير والشر
وقالت طائفة بل هذا الكلام مباح لا له ولا عليه كما في حركات الجوارح
قالوا لأن كثيرا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي وهذا شأن المباح
والتحقيق أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين بل إما راجحة وإما مرجوحة لأن للسان شأنا ليس لسائر الجوارح وإذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول اتق الله فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا وأكثر ما يكب الناس على مناخرهم في النار حصائد ألسنتهم وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يرضى الله ورسوله أولا فإن كان كذلك فهو الراجح وإن لم يكن كذلك فهو
المرجوح وهذا بخلاف سائر الجوارح فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوى الطرفين لما له في ذلك من الراحة والمنفعة فأبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له ولا مضرة عليه فيه في الآخرة وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به فلا يكون إلا مضرة فتأمله(1/98)
فإن قيل فقد يتحرك بما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين فيكون حكم حركته حكم ذلك الفعل
قيل حركته بها عند الحاجة إليها راجحة وعند عدم الحاجة إليها مرجوحة لا تفيده فتكون عليه لا له
فإن قيل فإذا كان الفعل متساوي الطرفين كانت حركة اللسان التي هي الوسيلة إليه كذلك إذ الوسائل تابعة للمقصود في الحكم
قيل لا يلزم ذلك فقد يكون الشيء مباحا بل واجبا ووسيلته مكروهة كالوفاء بالطاعة المنذورة هو واجب مع أن وسيلته وهو النذر مكروه منهى عنه وكذلك الحلف المكروه مرجوح مع وجوب الوفاء به أو الكفارة وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه ويباح له الإنتفاع بما أخرجته له المسألة وهذا كثير جدا فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة تكره أو تحرم لأجلها وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه
فصل وأما العبوديات الخمس على الجوارح فعلى خمس وعشرين مرتبة أيضا
إذ الحواس خمسة وعلى كل حاسة خمس عبوديات
فعلى السمع وجوب الإنصات والإستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه من
استماع الإسلام والإيمان وفروضهما وكذلك استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام واستماع الخطبة للجمعة في أصح قولي العلماء
ويحرم عليه استماع الكفر والبدع إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة من رده أو الشهادة على قائله أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك وكإستماع أسرار من يهرب عنك بسره ولا يحب أن يطلعك عليه ما لم يكن متضمنا لحق لله يجب القيام به أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه
وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن إذا لم تدع إليه حاجة من شهادة أو معاملة أو استفتاء أو محاكمة أو مداواة ونحوها
وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو كالعود والطنبور واليراع ونحوها ولا يجب عليه سد أذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات فحينئذ يجب لتجنب سماعها وجوب سد الذرائع(1/99)
ونظير هذا المحرم لا يجوز له تعمد شم الطيب وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في مشامه لم يجب عليه سد أنفه
ونظير هذا نظرة الفجاءة لا تحرم على الناظر وتحرم عليه النظرة الثانية إذا تعمدها
وأما السمع المستحب فكاستماع المستحب من العلم وقراءة القرآن وذكر الله واستماع كل ما يحبه الله وليس بفرض
والمكروه عكسه وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه والمباح ظاهر
وأما النظر الواجب فالنظر في المصحف وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الإعيان التي يأكلها أو ينفقها أو يستمتع بها والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها ونحو ذلك
والنظر الحرام النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا وبغيرها إلا لحاجة كنظر الخاطب والمستام والمعامل والشاهد والحاكم والطبيب وذي المحرم
والمستحب النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانا وعلما والنظر في المصحف ووجوه العلماء الصالحين والوالدين والنظر في آيات الله المشهودة ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته
والمكروه فضول النظر الذي لا مصلحة فيه فإن له فضولا كما للسان فضولا وكم قاد فضولها إلى فضول عز التلخص منها وأعيى دواؤها وقال بعض السلف كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام
والمباح النظر الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ولا منفعة
ومن النظر الحرام النظر إلى العورات وهي قسمان
عورة وراء الثياب وعورة وراء الأبواب
ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة ففقأ عينه لم يكن عليه شيء وذهبت هدرا بنص رسول في الحديث المتفق على صحته وإن ضعفه بعض الفقهاء لكونه لم يبلغه النص أو تأوله
وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح النظر لأجله كعورة له هناك ينظرها أو ريبة هو مأمور أو مأذون له في الإطلاع عليها(1/100)
وأما الذوق الواجب فتناول الطعام والشراب عند الإضطرار إليه وخوف الموت فإن تركه حتى مات مات عاصيا قاتلا لنفسه قال الإمام أحمد وطاووس من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار
ومن هذا تناول الدواء إذا تيقن النجاة له من الهلاك على أصح القولين وإن ظن الشفاء به فهل هو مستحب مباح أو الأفضل تركه فيه نزاع معروف بين السلف والخلف
والذوق الحرام كذوق الخمر والسموم القاتلة والذوق الممنوع منه للصوم الواجب
وأما المكروه فكذوق المشتبهات والأكل فوق الحاجة وذوق الطعام الفجاءة وهو الطعام الذي تفجأ آكله ولم يرد أن يدعوك إليه وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها وفي السنن أن رسول الله نهى عن طعام المتبارين وذوق طعام من يطعمك حياء منك لا بطيبة نفس
والذوق المستحب أكل ما يعينك على طاعة الله عز وجل مما أذن الله فيه والأكل مع الضيف ليطيب له الأكل فينال منه غرضه والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها أو المستحب
وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها للأمر به عن الشارع
والذوق المباح ما لم يكن فيه إثم ولا رجحان
وأما تعلق العبوديات الخمس بحاسة الشم فالشم الواجب كل شم تعين طريقا للتمييز بين الحلال والحرام كالشم الذي تعلم به هذه العين هل هي خبيثة
أو طيبة وهل هي سم قاتل أو لا مضرة فيه أو يميز به بين ما يملك الإنتفاع به وما لا يملك ومن هذا شم المقوم ورب الخبرة عند الحكم بالتقويم وشم العبيد ونحو ذلك
وأما الشم الحرام فالتعمد لشم الطيب في الإحرام وشم الطيب المغصوب والمسروق وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات خشية الإفتتان بما وراءه
وأما الشم المستحب فشم ما يعينك على طاعة الله ويقوي الحواس ويبسط النفس للعلم والعمل ومن هذا هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك ففي صحيح مسلم عن النبي من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه طيب الريح خفيف المحمل / ح /(1/101)
والمكروه كشم طيب الظلمة وأصحاب الشبهات ونحو ذلك
والمباح مالا منع فيه من الله ولا تبعة ولا فيه مصلحة دينية ولا تعلق له بالشرع
وأما تعلق هذه الخمسة بحاسة اللمس فاللمس الواجب كلمس الزوجة حين يجب جماعها والأمة الواجب إعفافها
والحرام لمس ما لا يحل من الأجنبيات
والمستحب إذا كان فيه غض بصره وكف نفسه عن الحرام وإعفاف أهله
والمكروه لمس الزوجة في الإحرام للذة وكذلك في الإعتكاف وفي الصيام إذا لم يأمن على نفسه
ومن هذا لمس بدن الميت لغير غاسله لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له ولهذا يستحب ستره عن العيون وتغسيله في قميصه في أحد القولين ولمس فخذ الرجل إذا قلنا هي عورة
والمباح مالم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية
وهذه المراتب أيضا مرتبة على البطش باليد والمشي بالرجل وأمثلتها لا تخفى
فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله واجب وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف والصحيح وجوبه ليمكنه من أداء دينه ولا يجب لإخراج الزكاة وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر والأقوى في الدليل وجوبه لدخوله في الإستطاعة وتمكنه بذلك من أداء النسك والمشهور عدم وجوبه
ومن البطش الواجب إعانة المضطر ورمي الجمار ومباشرة الوضوء والتيمم
والحرام كقتل النفس التي حرم الله قتلها ونهب المال المعصوم وضرب من لا يحل ضربه ونحو ذلك وكأنواع اللعب المحرم بالنص كالنرد أو ما هو أشد تحريما منه عند أهل المدينة كالشطرنج أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره أو دونه عند بعضهم ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفا أو نسخا إلا مقرونا بردها ونقضها وكتابة الزور والظلم والحكم الجائر والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم ولا سيما أن كسبت عليه مالا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وكذلك كتابة المفتى على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله إلا أن يكون مجتهدا مخطئا فالإثم موضوع عنه(1/102)
وأما المكروه فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام وكتابة مالا فائدة في كتابته ولا منفعة فيه في الدنيا والآخرة
والمستحب كتابة كل ما فيه منفعة في الدين أو مصلحة لمسلم والإحسان بيده بأن يعين صانعا أو يصنع لأخرق أو يفرغ من دلوه في دلو المستسقى أو يحمل له على دابته أو يمسكها حتى يحمل عليها أو يعاونه بيده فيما يحتاج له ونحو ذلك ومنه لمس الركن بيده في الطواف وفي تقبيلها بعد اللمس قولان والمباح مالا مضرة فيه ولا ثواب
وأما المشي الواجب فالمشي إلى الجمعات والجماعات في أصح القولين لبضعة
وعشرين دليلا مذكورة في غير هذا الموضع والمشي حول البيت للطواف الواجب والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه والمشي إلى صلة رحمه وبر والديه والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر
والحرام المشي إلىمعصية الله وهو من رجل الشيطان قال تعالى وأجلب عليهم بخيلك ورجلك قال مقاتل استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس
وكذلك تتعلق هذه الأحكام الخمس بالركوب أيضا
فواجبه في الركوب في الغزو والجهاد الحج الواجب
ومستحبه في الركوب المستحب من ذلك ولطلب العلم وصلة الرحم وبر الوالدين وفي الوقوف بعرفة نزاع هل الركوب فيه أفضل أم على الأرض والتحقيق أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة من تعليم للمناسك واقتداء به وكان أعون على الدعاء ولم يكن فيه ضرر على الدابة
وحرامه الركوب في معصية الله عز وجل
ومكروهه الركوب للهو واللعب وكل ما تركه خير من فعله
ومباحه الركوب لما لم يتضمن فوت أجر ولا تحصيل وزر
فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء القلب واللسان والسمع والبصر والأنف والفم واليد والرجل والفرج والاستواء على ظهر الداب
أهـ { مدارج السالكين حـ 1 صـ 3 ــ صـ 122 }
فائدة بديعة تفسير اهدنا الصراط المستقيم(1/103)
قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم الفاتحة 6 7 فيها عشرون مسألة
أحدها ما فائدة البدل في الدعاء والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان والبدل القصد به بيان الإسم الأول
الثانية ما فائدة تعريف الصراط المستقيم باللام وهلا أخبر عنه بمجرد اللفظ دونها كما قال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم الشورى 52
الثالثة ما معنى الصراط ومن أي شيء اشتقاقه ولم جاء على وزن فعال ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن الكريم بهذا اللفظ
وفي سورة الأحقاف ذكر بلفظ الطريق فقال يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم الأحقاف 30
الرابعة ما الحكمة في إضافته إلى قوله تعالى الذين أنعمت عليهم بهذا اللفظ ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول صراط النبيين والصديقين فلم عدل إلى لفظ المبهم دون المفسر
الخامسة ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ الذي مع صلتها دون أن يقال المنعم عليهم وهو أخصر كما قال المغضوب عليهم وما الفرق
السادسة لم فرق بين المنعم عليهم والمغضوب عليهم فقال في أهل النعمة الذين أنعمت وفي أهل الغضب المغضوب بحذف الفاعل
السابعة لم قال اهدنا الصراط المستقيم فعدى الفعل بنفسه ولم يعده بإلى كما قال تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقال تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم الأنعام 87
الثامنة أن قوله تعالى الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم يقتضي أن نعمته مختصة بالأولين دون المغضوب عليهم ولا الضالين
وهذا حجة لمن ذهب إلى أنه لا نعمة له على كافر فهل هذا استدلال صحيح أم لا
التاسعة أن يقال لم وصفهم بلفظ غير وهلا قال تعالى لا المغضوب عليهم كما قال والضالين وهذا كما تقول مررت بزيد لا عمرو وبالعاقل لا الأحمق(1/104)
العاشرة كيف جرت غير صفة على الموصوف وهي لا تتعرف بالإضافة وليس المحل محل عطف بيان إذ بابه الإعلام ولا محل لذلك إذ المقصود في باب البدل هو الثاني والأول توطئة وفي باب الصفات المقصود الأول والثاني بيان وهذا شأن هذا الموضع فإن المقصود ذكر المنعم عليهم ووصفهم بمغايرتهم معنى الغضب والضلال
الحادية عشرة إذا ثبت ذلك في البدل فالصراط المستقيم مقصود الإخبار عنه بذلك وليس في نية الطرح فكيف جاء صراط الذين أنعمت عليهم بدلا منه وما فائدة البدل هنا
الثانية عشرة أنه قد ثبت في الحديث الذي رواه الترمذي والإمام أحمد وابن أبي حاتم تفسير المغضوب عليهم بأنهم اليهود والنصارى بأنهم الضالون // حسن // فما وجه هذا التقسيم والإختصاص وكل من الطائفتين ضال مغضوب عليه
الثالثة عشرة لم قدم المغضوب عليهم في اللفظ على الضالين
الرابعة عشرة لم أتى في أهل الغضب بصيغة مفعول المأخوذة من فعل ولم يأت في أهل الضلال بذلك فيقال المضلين بل أتى فيهم بصيغة فاعل المأخوذة من فعل
الخامسة عشرة ما فائدة العطف ب لا هنا ولو قيل المغضوب عليهم والضالين لم يختل الكلام وكان أوجز
السادسة عشرة إذ قد عطف بها فيأتي العطف بها مع الواو للمنفى نحو ما قام زيد ولا عمرو وكقوله تعالى ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج التوبة 91 إلى قوله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم التوبة 92 وأما بدون الواو فبابها الإيجاب نحو مررت بزيد لا عمرو
السابعة عشرة هل الهداية هنا هداية التعريف والبيان أو هداية التوفيق والإلهام
الثامنة عشرة كل مؤمن مأمور بهذا الدعاء أمرا لازما لا يقوم غيره مقامه ولا بد منه وهذا إنما نسأله في الصلاة بعد هدايته فما وجه السؤال لأمر حاصل وكيف يطلب تحصيل الحاصل(1/105)
التاسعة عشرة ما فائدة الإتيان بضمير الجمع في اهدنا والداعي يسأل ربه لنفسه في الصلاة وخارجها ولا يليق به ضمير الجمع ولهذا يقول رب اغفر لي وارحمني وتب علي
العشرون ما حقيقة الصراط المستقيم الذي يتصوره العد وقت سؤاله
فهذه أربع مسائل حقها أن تقدم أولا ولكن جر الكلام إليها بعد ترتيب المسائل الست عشرة
الجواب بعون الله وتعليمه أنه لا علم لأحد من عباده إلا ما علمه ولا قوة له إلا بإعانته
فائدة البدل في الدعاء
لقد وردت الآية في معرض التعليم للعباد والدعاء حق الداعي أن يستشعر عند دعائها ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به إذ الدعاء مخ العبادة والمخ لا يكون إلا في عظم والعظم في لحم ودم فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء وجب أن يكون الطلب ممزوجا بالثناء فمن ثم جاء لفظ الطلب للهداية والرغبة فيها مشوبا بالخير تصريحا من الداعي بمعتقده وتوسلا منه بذلك الإعتقاد الصحيح إلى ربه فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده أن صراط الحق هو الصراط المستقيم وأنه صراط الذين اختصهم بنعمته وحباهم بكرامته
فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا والداعي يجب عليهم اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه فلذلك أبدل وبين لهم ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان ففي ضمن هذا الدعاء المهم الإخبار بفائدتين جليلتين
إحداهما فائدة الخبر والفائدة الثانية فائدة لازم الخبر فأما فائدة الخبر فهي الإخبار عنه بالإستقامة وأنه الصراط المستقيم الذي نصبه لأهل نعمته وكرامته وأما فائدة لازم الخبر فإقرار الداعي بذلك وتصديقه وتوسله بهذا الإقرار إلى ربه فهذه أربع فوائد(1/106)
الدعاء بالهداية إليه والخبر عنه بذلك والإقرار والتصديق لشأنه والتوسل إلى المدعو إليه بهذا التصديق وفيه فائدة خامسة وهي أن الداعي إنما أمر بذلك لحاجته إليه وأن سعادته وفلاحه لا تتم إلا به فهو مأمور بتدبير ما يطلب وتصور معناه فذكر له من أوصافه ما إذا تصور في خلده وقام بقلبه كان أشد طلبا له وأعظم رغبة فيه وأحرص على دوام الطلب والسؤال له فتأمل هذه النكت البديعة
فصل تعريف الصراط باللام
وأما المسألة الثانية وهي تعريف الصراط باللام اعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره ألا ترى أن قولك جالس فقيها أو عالما ليس كقولك جالس الفقيه أو العالم ولا قولك أكلت طيبا كقولك أكلت الطيب ألا ترى إلى قوله أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ثم قال ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق // رواه البخاري ومسلم // فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة وأدخلها على اسم الرب تعالى ووعده وكلامه
فإذا عرفت هذا فلو قال اهدنا صراطا مستقيما لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى صراط ما مستقيم على الإطلاق وليس المراد ذلك بل المراد الهداية إلى الصراط المعين الذي نصبه الله تعالى لأهل نعمته وجعله طريقا إلى رضوانه وجنته وهو دينه الذي لا دين له سواه فالمطلوب أمر معين في الخارج والذهن لا شيء مطلق منكر واللام هنا للعهد العلمي الذهني وهو أنه طلب الهداية إلى سر معهود قد قام في القلوب معرفته والتصديق به وتميزه عن سائر طرق الضلال فلم يكن بد من التعريف
فإن قيل لم جاء منكرا في قوله لنبيه ويهديك صراطا مستقيما الفتح 2 وقوله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم الشورى 52 وقوله تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم الأنعام 87 وقوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم الأنعام 161(1/107)
فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو أنها ليست في مقام الدعاء والطلب وإنما هي في مقام الإخبار من الله تعالى عن هدايته إلى صراط مستقيم وهداية رسوله إليه ولم يكن للمخاطبين عهد به ولم يكن معروفا لهم فلم يجيء معرفا بلام العهد المشيرة إلى معروف في ذهن المخاطب قائم في خلده ولا تقدمه في اللفظ معهود تكون اللام معروفة إليه وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين أعني أن يكون لها معهود ذهني أو ذكر لفظي وإذ لا واحد منهما في هذه المواضع فالتنكير هو الأصل
وهذا بخلاف قوله اهدنا الصراط المستقيم فإنه لما تقرر عند المخاطبين أن لله
صراطا مستقيما هدي إليه أنبياءه ورسله وكان المخاطب سبحانه المسئول من هدايته عالما به دخلت اللام عليه فقال اهدنا الصراط المستقيم وقال السهيلي إن قوله تعالى ويهديك صراطا مستقيما نزلت في صلح الحديبية وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه وكان الله تعالى عما يقولون ورسوله أعلم فأنزل الله على رسوله هذه الآية فلم يرد صراطا مستقيما في الدين وإنما أراد صراطا في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تبارك وتعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم أي تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم
ولو قال في هذا الموطن إلى الصراط المستقيم لجعل للكفر وللضلال حظا من الإستقامة إذ الألف واللام تنبيء أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصلة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر أو ما قرب به في الوهم ولا يكون أحق به إلا أن يكون في الآخر طرف منه وغير خاف ما في هذين الجوابين من الضعف والوهن
أما قوله أن المراد بقوله ويهديك صراطا مستقيما في الحرب والمكيدة فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتن الله به على رسوله وأخبر النبي أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا وما فيها ومتى سمى الله الحرب والمكيدة صراطا مستقيما(1/108)
وهل فسر هذه الآية أحد من السلف أو الخلف بذلك بل الصراط المستقيم ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمره أن يخبر بأن الله تعالى هداه إليه في قوله قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ثم فسره بقوله تعالى دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين الأنعام 161 ونصب دينا هنا على البدل من الجار والمجرور أي هداني دينا قيما أفتراه يمكنه ههنا أن يقول إن الحرب والمكيدة فهذا جواب فاسد جدا
وتأمل ما جمع الله سبحانه لرسوله في آية الفتح من أنواع العطايا وذلك خمسة أشياء أحدها الفتح المبين والثاني مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر والثالث هدايته الصراط المستقيم والرابع إتمام نعمته عليه والخامس إعطاء النصر العزيز وجمع سبحانه له بين الهدى والنصر لأن هذين الأصلين بهما كمال السعادة والفلاح فإن الهدى هو العلم بالله تعالى ودينه والعمل بمرضاته وطاعته فهو العلم النافع والعمل الصالح والنصر والقدرة التامة على تنفيذ دينه
فالحجة والبيان والسيف والسنان فهو النصر بالحجة واليد وقهر القلوب المخالفين له بالحجة وقهر أبدانهم باليد وهو سبحانه كثيرا ما يجمع بين هذين الأصلين إذ بهما
تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله كقوله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله التوبة 33 في موضعين في سورة براءة وفي سورة الصف
وقال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط الحديد 25 فهذا الهدى ثم قال وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد فهذا النصر فذكر الكتاب الهادي والحديد الناصر
وقال تعالى ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان آل عمران 1 4 فذكر إنزال الكتاب الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحق والباطل(1/109)
وسر اقتران النصر بالهدى أن كلا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانا كما قال تعالى إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يون التقى الجمعان الأنفال 41 فذكر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان وهو يوم بدر وهو اليوم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم
ومن هذا قوله تعالى ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الأنبياء 48 فالفرقان نصره له على فرعون وقومه والضياء والذكر التوراة هذا هو معنى الآية ولم يصب من قال إن الواو زائدة وإن ضياء منصوب على الحال كما بينا فساده في الأمالي المكية فبين أن آية الفتح تضمنت الأصلين الهدى والنصر وأنه لا يصح فيها غير ذلك البتة
وأما جوابه الثاني عن قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم بأنه لو عرف لجعل للكفر والضلال حظا من الإستقامة فما أدري من أين جاء له هذا الفهم مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع رحمه الله تعالى وما هي إلا كبوة جواد ونبوة صارم
أفترى قوله تعالى وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم الصافات 117 118 يفهم منه أن لغيره حظا من الإستقامة وما ثم غيره إلا طرق الضلال وإنما الصراط المستقيم واحد وهو ما هدى الله تعالى إليه أنبياءه ورسله أجمعين وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال أنه يفهم منه أن لغيره حظا من الإستقامة بل يقال تعريفه ينبيء
أن لا يكون لغيره حظ من الإستقامة فإن التعريف في قوة الحصر فكأنه قيل الذي لا صراط مستقيم سواه وفهم هذا الإختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة فتأمله هنا وفي نظائره فصل
بيان اشتقاق الصراط وأما المسألة الثالثة وهي اشتقاق الصراط فالمشهور(1/110)
أنه من صرطت الشيء أصرطه إذا بلعته بلعا سهلا فسمي الطريق صراطا لأنه يسترط المارة فيه والصراط ما جمع خمسة أوصاف أن يكون طريقا مستقيما سهلا مسلوكا واسعا موصلا إلى المقصود فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطا ولا الصعب المشتق ولا المسدود غير الموصول ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك قال جرير
أمير المؤمنين على صراط ... إذا أعوج الموارد مستقيم
وبنوا الصراط على زنة فعال لأنه مشتمل على سالكه اشتمال الحلق على الشيء المسروط وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء والغطاء والفراش والكتاب إلى سائر الباب
يأتي لثلاثة معان أحدها المصدر كالقتال والضراب والثاني المفعول نحو الكتاب والبناء والغراس والثالث أنه يقصد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها كالخمار والغطاء والسداد لما يخمر به ويغطى ويسد به فهذا آلة محضة والمفعول هو الشيء المخمر والمغطى والمسدود
ومن هذا القسم الثالث إله بمعنى مألوه وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن أنهم قالوا لقومهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم الأحقاف 30 وتعبيرهم عنه ههنا بالطريق فيه نكتة بديعة وهي أنهم قدموا قبله ذكر موسى وأن الكتاب الذي سمعوه مصدقا لما بين يديه من كتاب موسى وغيره فكان فيه كالنبأ عن رسول الله في قوله لقومه ما كنت بدعا من الرسل أي لم أكن أول رسول بعث إلى أهل الأرض بل قد تقدمت رسل من الله إلى الأمم وإنما بعثت مصدقا لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان فقال مؤمنوا الجن إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق(1/111)
مستقيم أي إلى سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله وإنه ليس بدع كما قال في أول السورة نفسها فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ الطريق لأنه فعيل بمعنى مفعول أي مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه فذكر الطريق ههنا إذا أولى لأنه أدخل في باب الدعوة والتنبيه على تعين أتباعه والله أعلم ثم رأيت هذا المعنى بعينه قد ذكره السهيلي فوافق فيه الخاطر الخاطر فصل إضافة الصراط إلى الموصول المبهم
وأما المسألة الرابعة وهي إضافته إلى الموصول المبهم دون أن يقول صراط النبيين والمرسلين ففيه ثلاث فوائد
إحداها إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا فإن استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط فبه صاروا من أهل النعمة وهذا كما يعلق الحكم بالصلة دون الإسم الجامد لما فيه من الإنعام باستحقاق ما علق عليها من الحكم بها وهذا كقوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم البقرة 274 والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم الأحقاف 13 وهذا الباب مطرد فالإتيان بالإسم موصولا على هذا المعنى من ذكر الإسم الخاص
الفائدة الثانية إشارة إلى أن نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هدى إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه فالسائل مستشعر سؤاله الهداية وطلب الإنعام من الله عليه والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول يتضمن الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه والثاني يتضمن الطلب والإرادة وأن تكون منه
الفائدة الثالثة أن الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم فكان في الإتيان بالإسم العام من الفائدة أن المسئول الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين(1/112)
وهذا أجل مطلوب وأعظم مسئول ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيرا وقرنه بأنفاسه فإنه لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه
ولما كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضا متكررا في اليوم والليلة لا يقوم
غيره مقامه ومن ثم يعلم تعين الفاتحة في الصلاة وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها فصل
قال أنعمت عليهم ولم يقل المنعم عليهم
وأما المسألة الخامسة وهي أنه قال الذين أنعمت عليهم ولم يقل المنعم عليهم كما قال المغضوب عليهم فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد وفيه فوائد عديدة
إحداها أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله
فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال المغضوب عليهم وقال في الإحسان الذين أنعمت عليهم
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين الشعراء 78 80 فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى ولما جاء إلى ذكر المرض قال وإذا مرضت ولم يقل أمرضني وقال فهو يشفين
ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا الجن 10 فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول
ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة فأردت أن أعيبها فأضاف العيب إلى نفسه وقال في الغلامين فأراد ربك أن يبلغا أشدهما الكهف 82(1/113)
ومنه قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم البقرة 187 فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال وأحل الله البيع وحرم الربا البقرة 275 لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل
ومنه حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير المائدة 3 وقوله قل
تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا الأنعام 151 إلى آخرها
ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم النساء 33 إلى آخرها ثم قال وأحل لكم ما وراء ذلكم النساء 24 وتأمل قوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم النساء 16 كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع وقال في حق المؤمنين حرمت عليكم الميتة والدم
الفائدة الثانية أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله أنعمت عليهم من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون البقرة 152
الفائدة الثالثة أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال أنعمت عليهم أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه وهذا حقيقة العبودية(1/114)
واليهود قد غضب الله عليهم فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم فحذف فاعل الغضب وقال المغضوب عليهم لما كان للمؤمنين نصيب من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإن لله وحده فتأمل هذه النكت البديعة
الفائدة الرابعة أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الإلتفات والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والإقتصار عليها وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى فإن قولك الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا فتأمل ذلك
فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الإلتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدم فصل تعدية الفعل بنفسه
وأما المسألة السابعة وهي تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف إلى فجوابها أن فعل الهداية يتعدى بنفسه تارة وبحرف إلى تارة وباللام تارة والثلاثة في القرآن
فمن المعدى بنفسه هذه الآية وقوله ويهديك صراطا مستقيما ومن المعدى ب إلى قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ومن المعدى باللام قوله في قول أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا الأعراف 43 وقوله تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الإسراء 9(1/115)
والفروق لهذه المواضع تدق جدا عن أفهام العلماء ولكن نذكر قاعدة تشير إلى الفرق وهي أن الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن لا يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو رغبت عنه ورغبت فيه وعدلت إليه وعدلت عنه وملت إليه وعنه وسعيت إليه وسعيت به وأن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق نحو قصدت إليه وقصدت له وهديته إلى كذا وهديته لكذا وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر
وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدى به معناه
هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن
وهذا نحو قوله تعالى عينا يشرب بها عباد الله الإنسان 6 فإنهم يضمنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون في ذلك دليل على الفعلين
أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الإختصار وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها
ومنه قوله في السحاب شربن بماء البحر حتى روين ثم ترفعن وصعدن وهذا أحسن من أن يقال يشرب منها فإنه لا دلالة فيه على الري وأن يقال يروى بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم فإذا قال يشرب بها دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء فتأمله
ومن هذا قوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه الحج 25 وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء ولكن ضمن معنى يهم فيه بكذا وهو أبلغ من الإرادة فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه(1/116)
ويكفي المثالان المذكوران فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عدي ب إلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية ومتى عدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الإختصاص والتعيين فإذا قلت هديته لكذا فهم معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته ونحو هذا وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعرف والبيان والإلهام
فالقائل إذا قال اهدنا الصراط المسقيم هو طالب من الله أن يعرفه إياه ويبينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه فجرد الفعل من الحرف وأتى به مجردا معدى بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها ولو عدي بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معنى الحرف فتأمله فإنه من دقائق اللغة وأسرارها فصل تخصيص أهل السعادة بالهداية
وأما المسألة الثامنة وهي أنه خص أهل السعادة بالهداية دون غيرهم فهذه مسألة اختلف الناس فيها وطال الحجاج من الطرفين وهي أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا
فمن ناف محتج بهذه وبقوله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا النساء 69 فخص هؤلاء بالإنعام فدل على أن غيرهم غير منعم عليه
ولقوله لعباده المؤمنين ولأتم نعمتي عليكم البقرة 150 وبأن الإنعام ينافي الإنتقام والعقوبة فأي نعمة على من خلق للعذاب الأبدي(1/117)
ومن مثبت محتج بقوله وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إبراهيم 34 وقوله لليهود يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم البقرة 40 وهذا خطاب لهم في حال كفرهم وبقوله في سورة النحل التي عدد فيها نعمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون النحل 81 83 وهذا نص صريح لا يحتمل صرفا واحتجوا بأن البر والفاجر والمؤمن والكافر كلهم يعيش في نعمة الله وكل أحد مقر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته وهذا معلوم بالإضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابر وجحد حق الله تعالى وكفر بنعمته
وفصل الخطاب في المسألة أن النعمة المطلقة مختصة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها سواهم ومطلق النعمة عام للخليقة كلهم برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فالنعمة المطلقة التامة هي المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم فهذه غير مشتركة ومطلق النعمة عام مشترك فإذا أراد النافي سلب النعمة المطلقة للكافر أخطأ وإن أراد إثبات مطلق النعمة أصاب وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع ويتبين أن كل واحد من الفريقين معه خطأ وصواب والله الموفق للصواب
وأما قوله تعالى يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم ولهذا يعددها واحدة واحدة بأن أنجاهم من آل فرعون وأن فرق بهم البحر وأن وعد موسى أربعين ليلة فضلوا بعده ثم تاب عليهم وعفا عنهم وبأن ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من نعمه التي يعددها عليهم(1/118)
وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم فأمرهم أن يذكروها ليدعوهم ذكرهم لها إلى طاعته والإيمان برسله والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته وكانت نعمته على آبائهم نعمة منه عليهم تستدعي منهم شكرا فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي وتكذيبكم له ومعاداتكم إياه وهذا لا يدل على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم والله أعلم
فصل غير مكان لا
وأما المسألة التاسعة وهي أنه قال غير المغضوب ولم يقل لا المغضوب عليهم فيقال لا ريب أن لا يعطف بها بعد الإيجاب كما تقول جاءني زيد لا عمرو وجاءني العالم لا الجاهل وأما غير فهي تابع لما قبلها وهي صفة ليس إلا كما سيأتي
وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف فتقول لو أخرج الكلام مخرج العطف وقيل صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما هو مقتضى العطف فإنك إذا قلت جاءني العالم لا الجاهل لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم وأما الإتيان بلفظ غير فهي صفة لما قبلها فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين
أحدهما أنهم منعم عليهم والثاني أنهم غير مغضوب عليهم فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم فإنه يتضمن صفتين ثبوتية وهي كونهم منعما عليهم وصفة سلبية وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب وأنهم مغايرون لأهله(1/119)
ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المنعم عليهم ولم تكن صفة منصوبة على الإستثناء لأنه يزول منها معنى الوصفية المقصود وفيها فائدة أخرى وهي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المنعم عليهم دون أهل الإسلام فكأنه قيل لهم المنعم عليهم غيركم لا أنتم وقيل للمسلمين المغضوب عليهم غيركم لا أنتم فالإتيان بلفظة غير في هذا السياق أحسن وأدل على إثبات المغايرة المطلوبة فتأمله
وتأمل كيف قال المغضوب عليهم ولا الضالين ولم يقل اليهود والنصارى مع أنهم هم الموصوفون بذلك تجريدا لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم ولم يكونوا منهم بسبيل لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضال فتبارك من أودع كلامه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد
فصل جريان غير صفة على المعرفة
وأما المسألة العاشرة وهي جريان غير صفة على المعرفة وهي لا تتعرف بالإضافة ففيه ثلاثة أوجه
أحدها أن غير هنا بدل لا صفة وبدل النكرة من المعرفة جائز وهذا فاسد من وجوه ثلاثة
أحدها أن باب البدل المقصود فيه الثاني والأول توطئة له ومهاد أمامه وهو المقصود بالذكر فقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا آل عمران 97 المقصود هو أهل الإستطاعة خاصة وذكر الناس قبلهم توطئة وقولك أعجبني زيد علمه إنما وقع الإعجاب على علمه وذكرت صاحبه توطئة لذكره(1/120)
وكذا قوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه البقرة 217 المقصود إنما هو السؤال عن القتال في الشهر الحرام لا عن نفس الشهر وهذا ظاهر جدا في بدل البعض وبدل الإشتمال ويراعى في بدل الكل من الكل ولهذا سمي بدلا إيذانا بأنه المقصود فقوله لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة المقصود لنسفعن بالناصبة الكاذبة الخاطئة وذكر المبدل منه توطئة لها وإذا عرف هذا فالمقصود هنا ذكر المنعم عليهم وإضافة الصراط إليهم ومن تمام هذا المقصود وتكميله الإخبار بمغايرتهم للمغضوب عليهم فجاء ذكر غير المغضوب مكملا لهذا المعنى ومتمما ومحققا لأن أصحاب الصراط المسئول هدايته هم أهل النعمة فكونهم غير مغضوب عليهم وصف محقق وفائدته فائدة الوصف المبين للموصوف المكمل له وهذا واضح
الوجه الثاني أن البدل يجري مجرى توكيد المبدل وتكريره وتثنيته ولهذا كان في تقدير تكرار العامل وهو المقصود بالذكر كما تقدم فهو الأول بعينه ذاتا ووصفا وإنما ذكر بوصف آخر مقصود بالذكر كقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ولهذا يحسن الإقتصار عليه دون الأول ولا يكون مخلا بالكلام
ألا ترى أنك لو قلت في غير القرآن لله حج البيت على من استطاع إليه السبيل لكان كاملا مستقيما لا خلل فيه ولو قلت في دعائك رب اهدني صراط من أنعمت عليه من عبادك لكان مستقيما وإذا كان كذلك فلو قدر الإقتصار على غير وما في حيزها لاختل الكلام وذهب معظم المقصود منه إذ المقصود إضافة الصراط إلى الذين أنعم الله عليهم لا إضافته إلى غير المغضوب عليهم بل أتى بلفظ غير زيادة في وصفهم والثناء عليهم فتأمله
الوجه الثالث أن غير لا يعقل ورودها بدلا وإنما ترد استثناء أو صفة أو حالا(1/121)
وسر ذلك أنها لم توضع مستقلة بنفسها بل لا تكون إلا تابعة لغيرها ولهذا قلما يقال جاءني غير زيد ومررت بغير عمرو والبدل لا بدل أن يكون مستقلا بنفسه كما تبين أنه المقصود ونكتة الفرق أنك في باب البدل قاصد إلى الثاني متوجه إليه قد جعلت الأول سلما ومرقاة إليه فهو موضع قصدك ومحط إرادتك
وفي باب الصفة بخلاف ذلك إنما أنت قاصد الموصوف موضح له بصفته فجعل هذه النكتة معيارا على باب البدل والوصف ثم زن بها غير المغضوب عليهم هل يصح أن يكون بدلا أو وصفا
الجواب الثاني أن غير ههنا صح جريانه صفة على المعرفة لأنها موصولة والموصول مبهم غير معين ففيه رائحة من النكرة لإبهامه فإنه غير دال على معين فصلح وصفه ب غير لقربه من النكرة وهذا جواب صاحب الكشاف
فإن قلت كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وإن أضيف إلى المعارف قلت الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه فهو كقوله
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
ومعنى قوله لا توقيت فيه أي لا تعيين لواحد من واحد كما تعين المعرفة بل هو مطلق في الجنس فجرى مجرى النكرة واستشهاده بالبيت معناه أن الفعل نكرة وهو يسبني وقد أوقعه صفة للئيم المعرفة باللام لكونه غير معين فهو في قوة النكرة فجاز أن ينعت بالنكرة وكأنه قال على لئيم يسبني وهذا استدلال ضعيف فإن قوله يسبني حال منه لا وصف والعامل فيه فعل المرور المعني أمر على اللئيم سابا لي أي أمر عليه في هذه الحال فأتجاوزه ولا أحتفل بسبه(1/122)
الجواب الثالث وهو الصحيح أن غير ههنا قد تعرفت بالإضافة فأن المانع لها من تعريفها شدة إبهامها أو عمومها في كل مغاير للمذكور فلا يحصل بها تعيين ولهذا تجري صفة على النكرة فتقول رجل غيرك يقول كذا ويفعل كذا فتجري صفة للنكرة مع إضافتها إلى المعرفة ومعلوم أن هذا الإبهام يزول لوقوعها بين متضادين يذكر أحدهما ثم تضيفها إلى الثاني فيتعين بالإضافة ويزول الإبهام الذي يمنع تعريفها بالإضافة كما قال
نحن بنو عمرو الهجان الأزهر ... النسب المعروف غير المنكر
أفلا تراه أجرى غير المنكر صفة على النسب كما أجرى عليه المعرف لأنهما صفتان معينتان فلا إبهام في غير لأن مقابلها المعروف وهو معرفة وضده المنكر متميز متعين كتعين المعرف أعني تعين الجنس
وهكذا قوله صراط الذين أنعمت عليهم فالمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم فإذا كان الأول معرفة كانت غير معرفة لإضافتها إلى محصل متميز غير مبهم فاكتسب منه التعريف
وينبغي أن تتفطن ههنا لنكتة لطيفة في غير تكشف لك حقيقة أمرها ف أين تكون معرفة وأين تكون نكرة وهي أن غيرا هي نفس ما تكون تابعة له وضد ما هي مضافة إليه فهي واقعة على متبوعها وقوع الإسم المرادف على مرادفه فإن المعرف هو تفسير غير المنكر والمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم
هذا حقيقة اللفظة فإذا كان متبوعها نكرة لم تكن إلا نكرة وإن أضيفت كما إذا قلت رجل غيرك فعل كذا وكذا وإذا كان متبوعها معرفة لم تكن إلا معرفة كما إذا قيل المحسن غير المسيء محبوب معظم عند الناس والبر غير الفاجر مهيب والعادل غير الظالم مجاب الدعوة فهذا لا تكون فيه غير إلا معرفة ومن ادعى فيها التنكير هنا غلط وقال ما لا دليل عليه إذ لا إبهام فيها بحال فتأمله(1/123)
فإن قلت عدم تعريفها بالإضافة له سبب آخر وهي أنها بمعنى مغاير اسم فاعل من غاير كمثل بمعنى مماثل وشبه بمعنى مشابه وأسماء الفاعلين لا تعرف بالإضافة وكذا ما ناب عنها قلت اسم الفاعل إنما لا يتعرف بالإضافة إذا أضيف إلى معموله لأن الإضافة في تقدير الإنفصال نحو هذا ضارب زيد غدا وليست غير بعاملة فيما بعدها عمل اسم الفاعل في المفعول حتى يقال الإضافة في تقدير الإنفصال بل إضافتها إضافة محضة كإضافة غيرها من النكرات
ألا ترى أن قولك غيرك بمنزلة قولك سواك ولا فرق بينهما والله أعلم فصل إخراج صراط مخرج البدل
وأما المسألة الحادية عشرة وهي ما فائدة إخراج الكلام في قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم مخرج البدل مع أن الأول في نية الطرح
فالجواب أن قولهم الأول في البدل في نية الطرح كلام لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه بل البدل نوعان نوع يكون الأول فيه في نية الطرح وهو بدل البعض من الكل وبدل الإشتمال لأن المقصود هو الثاني لا الأول وقد تقدم
ونوع لا ينوي فيه طرح الأول وهو بدل الكل من الكل بل يكون الثاني بمنزلة التذكير والتوكيد وتقوية النسبة مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه من الفائدة المتجددة الزائدة على الأول فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار بحصول وصف المبدل للمبدل منه
فإنه لما قال اهدنا الصراط المستقيم فكأن الذهن طلب المعرفة ما إذا كان هذا الصراط مختصا بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله فقال صراط الذين أنعمت عليهم وهذا كما إذا دللت رجلا على طريق لا يعرفها وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها فأنت تقول هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك ثم تزيد ذلك عنده توكيدا وتقوية فتقول وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة(1/124)
أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدرا زائدا على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة فإن النفوس مجبولة على التأسي والمتابعة فإذا ذكر لها من تتأسى به في سلوكها أنست واقتحمتها فتأمله فصل تفسير المغضوب عليهم و الضالين
وأما المسألة الثانية عشرة وهي ما وجه تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى مع تلازم وصفي الغضب والضلال
فالجواب أن يقال هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى فإن كل مغضوب عليه ضال وكل ضال مغضوب عليه لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع
أما اليهود فقال تعالى في حقهم بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله
بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين البقرة 90 وفي تكرار هذا الغضب هنا أقول
أحدها أنه غضب متكرر في مقابلة تكرر كفرهم برسول الله والبغي عليه ومحاربته فاستحقوا بكفرهم غضبا وبالبغي والصد عنه غضبا آخر
ونظيره قوله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب فالعذاب الأول بكفرهم والعذاب الذي زادهم إياه بصدهم الناس عن سبيله
القول الثاني أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح
القول الثالث أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح والغضب الثاني بكفرهم بمحمد
والصحيح في الآية أن التكرار هنا ليس المراد به التثنية التي تشفع الواحد بل المراد غضب بعد غضب بحسب تكرر كفرهم وإفسادهم وقتلهم الأنبياء وكفرهم بالمسيح وبمحمد ومعاداتهم لرسل الله إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضبا على حدته(1/125)
وهذا كما في قوله فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين الملك 3 4 أي كرة بعد كرة لا مرتين فقط
وقصد التعدد في قوله فباءوا بغضب على غضب أظهر ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة وتحريفهم وتبديلهم يستدعي غضبا وتكذيبهم الأنبياء يستدعي غضبا آخر وقتلهم إياهم يستدعي غضبا آخر وتكذبيهم المسيح وطلبهم قتله ورميهم أمه بالبهتان العظيم يستدعي غضبا وتكذبيهم النبي يستدعي غضبا ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبا وصدهم من أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبا فهم الأمة الغضبية أعاذنا الله من غضبه فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر وكانوا أحق بهذا الإسم والوصف من النصارى
وقال تعالى في شأنهم قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت المائدة 60 فهذا غضب مشفوع باللعنة والمسخ وهو أشد ما يكون من الغضب
وقال تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون المائدة 78 80(1/126)
وأما وصف النصارى بالضلال ففي قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل المائدة 77 فهذا خطاب للنصارى لأنه في سياق خطابه معهم بقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إلى قوله وضلوا عن سواء السبيل المائدة 72 77 فوصفهم بأنهم قد ضلوا أولا ثم أضلوا كثيرا وهم أتباعهم فهذا قبل مبعث النبي محمد حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلوا أتباعهم فلما بعث النبي ازدادوا ضلالا آخر بتكذيبهم له وكفرهم به فتضاعف الضلال في حقهم هذا قول طائفة منهم الزمخشري وغيره وهو ضعيف فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع فوصفهم بثلاث صفات
إحداها أنهم قد ضلوا من قبلهم والثانية أضلوا أتباعهم والثالثة أنهم ضلوا عن سواء السبيل فهذه صفات لأسلافهم الذين نهي هؤلاء عن اتباع أهوائهم فلا يصح أن يكون وصفا للموجودين في زمن النبي لأنهم هم المنهيون أنفسهم لا المنهي عنهم فتأمله
وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحق وهي نظير الآية التي تقدمت في تكرار الغضب في حق اليهود ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من اليهود ووجه تكرار هذا الضلال أن الضلال قد أخطأ نفس مقصوده فيكون ضالا فيه فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده ويعبد من لا ينبغي أن يعبده وقد يصيب مقصودا حقا لكن يضل في طريق طلبة والسبيل الموصلة إليه فالأول ضلال في الغاية والثاني ضلال في الوسيلة ثم إذا دعا غيره إلى ذلك فقد أضله
وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه وزعموا أن إلههم بشر يأكل ويشرب ويبكي وأنه قتل وصلب وصفع فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به وضلوا عن السبيل الموصلة إليه فلا اهتدوا إلى المطلوب ولا إلى الطريق الموصل إليه ودعوا أتباعهم إلى ذلك فضلوا عن(1/127)
الحق وعن طريقه وأضلوا كثيرا فكانوا أدخل في الضلال من اليهود فوصفوا بأخص الوصفين
والذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة فخافوا أن يذهب بالإسلام فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق فإنهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء
ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة ومن عدم إرادته والعمل بها أخرى يتركب منها فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غير عليه بعد معرفته فلم يكن ضلالا محضا وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوبا عليهم ضالين
ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق والبغي يمنعه من إرادته كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفا وبيانا وإرشادا وإلهاما وتوفيقا وإعانة فيعلمه ويعرفه ثم يجعله مريدا له قاصدا لاتباعه فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على عمد وعلم والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال(1/128)
كان السلف يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى وهذا كما قالوا فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكفر واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم وتلبيس الحق بالباطل فهذا شبهه باليهود ظاهر
وأما من فسد من العباد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلة الربوبية وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الإتحاد فشبهه بالنصارى ظاهر
فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشبهين غاية البعد ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين إنه قريب مجيب فصل تقديم المغضوب عليهم على الضالين
وأما المسألة الثالثة عشرة وهو تقديم المغضوب عليهم على الضالين فلوجوه
أحدها أنهم متقدمون عليهم بالزمان
الثاني أنهم كانوا هم الذين يلون النبي من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة والنصارى كانت ديارهم نائية عنه ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور
الثالث أن اليهود أغلظ كفرا من النصارى ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم(1/129)
الرابع وهو أحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الإزدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين فقولك الناس منعم عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم أحسن من قولك منعم عليه وضال فصل اسم المفعول في المغضوب واسم الفاعل في الضال
وأما المسألة الرابعة عشرة وهي أنه أتى في أهل الغضب باسم المفعول وفي الضالين باسم الفاعل فجوابهما ظاهر فإن أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوب عليهم وأما أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا
الضلال واكتسبوه ولهذا استحقوا العقوبة عليه ولا يليق أن يقال ولا المضلين مبنيا للمفعول لما في رائحته من إقامة عذرهم وأنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم بل فعل فيهم
ولا حجة في هذا للقدرية فإنا نقول إنهم هم الذين ضلوا وإن كان الله أضلهم بل فيه رد على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلا إلا على جهة المجاز لا الحقيقة فتضمنت الآية الرد عليهم
كما تضمن قوله اهدنا الصراط المستقيم الرد على القدرية ففي الآية إبطال قول الطائفتين والشهادة لأهل الحق أنهم هم المصيبون وهم المثبتون للقدر توحيدا وخلقا والقدرة لإضافة أفعال العباد إليهم عملا وكسبا وهو متعلق الأمر والعمل كما أن الأول متعلق الخلق والقدرة فاقتضت الآية إثبات الشرع والقدر والمعاد والنبوة فإن النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه فالمنعم عليهم رسله وأتباعهم ليس إلا وهدى أتباعهم إنما يكون على أيديهم فاقتضى إثبات النبوة بأقرب طريق وأبينهما وأدلها على عموم الحاجة وشدة الضرورة إليها(1/130)
وأنه لا سبيل للعبد أن يكون من المنعم عليهم إلا بهداية الله له ولا تنال هذه الهداية إلا على أيدي الرسل وأن هذه الهداية لها ثمرة وهي النعمة التامة المطلقة في دار النعيم ولخلافها ثمرة وهي الغضب المقتضي للشفاء الأبدي فتأمل كيف اشتملت هذه الآية مع وجازتها واختصارها على أهم مطالب الدين وأجلها والله الهادي إلى سواء السبيل وهو أعلم فصل زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه
وأما المسألة الخامسة عشرة وهي ما فائدة زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه ففي ذلك أربع فوائد
أحدها أن ذكرها تأكيد للنفي الذي تضمنه غير فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف عليها ب لا مع الواو فهو في قوة لا المغضوب عليهم ولا الضالين أو غير المغضوب عليهم وغير الضالين
الفائدة الثانية أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كل نوع بمفرده فلو لم
يذكر لا وقيل غير المغضوب عليهم والضالين أوهم أن المراد ما غاير المجموع المركب من النوعين لا م ؤا غاير كل نوع بمفرده فإذا قيل ولا الضالين كان صريحا في أن المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء
وبيان ذلك أنك إذا قلت ما قام زيد وعمرو فإنما نفيت القيام عنهما ولا يلزم من ذلك نفيه عن كل واحد منهما بمفرده
الفائدة الثالثة رفع توهم أن الضالين وصف للمغضوب عليهم وأنهما صنف واحد وصفوا بالغضب والضلال ودخل العطف بينهما كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض نحو قوله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون المؤمنون 1 3 إلى آخرها فإن هذه صفات المؤمنين ومثل قوله سبح اسم ربك الأعلى الذين خلق فسوى والذي قدر فهدى الأعلى 1 3 ونظائره
فلما دخلت لا علم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر وكانت لا أولى بهذا المعنى من غير لوجوه
أحدها أنها أقل حروفا
الثاني التفادي من تكرار اللفظ
الثالث الثقل الحاصل بالنطق ب غير مرتين من غير فصل إلا بكلمة مفردة ولا ريب أنه ثقيل على اللسان(1/131)
الرابع أن لا إنما يعطف بها بعد النفي فالإتيان بها مؤذن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم كما نفى عنهم الضلال وغير وإن أفهمت هذا فلا أدخل في النفي منها وقد عرف بهذا جواب المسألة السادسة عشرة وهي أن لا إنما يعطف بها في النفي فصل معنى الهداية
فالمسألة السابعة عشرة وهي أن الهداية هنا من أي أنواع الهدايات فاعلم أن أنواع الهداية أربعة
أحدها الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى طه 50 أي أعطى كل شيء صورته التي لا
يشتبه فيها بغيره وأعطى كل عضو شكله وهيئته وأعطى كل موجود خلقه المختص به ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال
وهذه هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره وهداية الجمال المسخر لما خلق له فله هداية تليق به كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها
وكذلك كل عضو له هداية تليق به فهدى الرجلين للمشي واليدين للبطش والعمل واللسان للكلام والأذن للإستماع والعين لكشف المرئيات وكل عضو لما خلق له وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الإزدواج والتناسل وتربية الولد وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه مراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو فتبارك الله رب العالمين
وهدى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومن الأبنية ثم تسلك سبل ربها مذللة لها لا تستعصي عليها ثم تأوي إلى بيوتها وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والإئتمام به أين توجه بها ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة البناء ومن تأمل بعض هدايته المثبوتة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم(1/132)
وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر وأول وهلة وأحسن طريق وأخصرها وأبعدها من كل شبهة فإنه لم يهمل هذه الحيوانات سدى ولم يتركها معطلة بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود الذي كرمه وفضله على كثير من خلقه مهملا وسدى معطلا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته بل يتركه معطلا لا يأمره ولا ينهاه ولا يثبه ولا يعاقبه وهل هذا إلا مناف لحكمته ونسبته له مما لا يليق بجلاله
ولهذا أنكر ذلك على من زعمه ونزه نفسه عنه وبين أنه يستحيل نسبة ذلك إليه وأنه يتعالى عنه فقال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق المؤمنون 115 116 فنزه نفسه عن هذا الحسبان فدل على أنه مستقر بطلانه في الفطر السليمة والعقول المستقيمة وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل وأنه مما تظاهر عليه العقل والشرع وكما هو أصح الطريقين في ذلك
ومن فهم هذا فهم سر اقتران قوله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون الأنعام 38
بقوله تعالى وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون الأنعام 37 وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة وأن من لم يهمل أمر كل دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه بل جعلها أمما وهداها إلى غاياتها ومصالحها وكيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم فهذه أحد أنواع الهداية وأعمها(1/133)
النوع الثاني هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر وطريقي النجاة والهلاك وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام فإنها سبب وشرط لا موجب ولهذا ينبغي الهدى معها كقوله تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فصلت 17 أي بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا ومنها قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم الشورى 52
النوع الثالث هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للإهتداء فلا يتخلف عنها وهي المذكورة في قوله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فاطر 8 وفي قوله إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل النحل 37 وفي قول النبي من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له // رواه مسلم وأحمد والبيهقي // وفي قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت القصص 56 فنفى عنه هذه الهداية وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
النوع الرابع غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما قال تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم يونس 9 وقال أهل الجنة فيها الحمد لله الذي هدانا لهذا الأعراف 43 وقال تعالى عن أهل النار احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم الصافات 22 23
إذا عرف هذا فالهداية المسئولة في قوله الصراط المستقيم إنما تتناول المرتبة الثانية والثالثة خاصة فهي طلب التعريف والبيان والإرشاد والتوفيق والإلهام طلب التعريف والبيان والتوفيق
فإن قيل كيف يطلب التعريف والبيان وهو حاصل له وكذلك الإلهام والتوفيق
قلنا لقد أجيب عنها بأن المراد التثبيت ودوام الهداية واعلم أن العبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد سبعة أمور هو محتاج إليها حاجة لا غنى له عنها(1/134)
الأمر الأول معرفته في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوبا للرب تعالى مرضيا له فيؤثره وكونه مغضوبا له مسخوطا عليه فيجتنبه فإن نقص من هذا العلم والمعرفة شيء نقص من الهداية التامة بحسبه
الأمر الثاني أن يكون مريد الجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازما عليه ومريدا لترك جميع ما نهى الله عازما على تركه بعد خطوره بالبال مفصلا وعازما على تركه من حيث الجملة مجملا فإن نقص من إرادته لذلك شيء نقص من الهدى التام بحسب ما نقص من الإرادة
الأمر الثالث أن يكون قائما به فعلا وتركا فإن نقص من فعله شيء نقص من هداه بحسبه فهذه ثلاثة هي أصول في الهداية ويتبعها ثلاثة هي من تمامها وكمالها
أحدها أمور هدي إليها جملة ولم يهتد إلى تفاصيلها فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها
الثاني أمرو هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها لتكمل له هدايتها
الثالث الأمور التي هدي إليها تفصيلا من جميع وجوهها فهو محتاج إلى الإستمرار إلى الهداية والدوام عليها فهذه أصول تتعلق بما يعزم على فعله وتركه
الأمر السابع يتعلق بالماضي وهو أمور وقعت منه على غير جهة الإستقامة فهو محتاج إلى تداركها بالتوبة منها وتبديلها بغيرها وإذا كان كذلك فإنما يقال كيف يسأل الهداية وهي موجودة له ثم يجاب عن ذلك بأن المراد التثبيت والدوام عليها
إذا كانت هذه المراتب حاصلة له بالفعل فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال تثبيت ودوام فأما إذا كان ما يجهله أضعاف ما يعلمه وما لا يريده من رشده أكثر مما يريده ولا سبيل له إلى فعله إلا بأن يخلق الله فاعليه فيه فالمسئول هو أصل الهداية على الدوام تعليما وتوفيقا وخلقا للإرادة فيه وإقدارا له وخلقا للفاعلية وتثبيتا له على ذلك فعلم أنه ليس أعظم ضرورة منه إلى سؤال الهداية أصلها وتفصيلها علما وعملا والتثبيت عليها والدوام إلى الممات(1/135)
وسر ذلك أن العبد مفتقر إلى الهداية في كل نفس في جميع ما يأتيه ويذره أصلا وتفصيلا وتثبيتا ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم وأن يثبت قلوبنا على دينه فصل الإتيان بالضمير في قوله اهدنا
أما المسألة التاسعة عشرة وهي الإتيان بالضمير في قوله اهدنا الصراط ضمير جمع فقد قال بعض الناس في جوابه إن كل عضو من أعضاء العبد وكل حاسة ظاهرة وباطنة مفتقرة إلى هداية خاصة به فأتى بصيغة الجمع تنزيلا لكل عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه وعرضت هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه فاستضعفه جدا
وهو كما قال فإن الإنسان اسم للجملة لا لكل جزء من أجزائه وعضو من أعضائه والقائل إذا قال اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني سائل من الله ما يحصل لجملته ظاهره وباطنه فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألة تخصه يفرد لها لفظه
فالصواب أن يقال هذا مطابق لقوله إياك نعبد وإياك نستعين الفاتحة 5 والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته فأتى به بصيغة ضمير الجمع أي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية
وهذا كما يقول العبد للملك المعظم شأنه نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك فيكون هذا أحسن وأعظم موقعا عند الملك من أن يقول أنا عبدك ومملوكك ولهذا لو قال أنا وحدي مملوكك استدعى مقته فإذا قال أنا وكل من في البلد مماليكك وعبيدك وجند لك كان أعظم وأفخم لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدا وأنا واحد منهم وكلنا مشتركون في عبوديتك والإستعانة بك وطلب الهداية منك فقد تضمن ذلك من الثناء على الرب بسعة مجده وكثرة عبيده وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظ الإفراد فتأمله(1/136)
وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ونحو دعاء آخر البقرة وآخر آل عمران وأولها وهو أكثر أدعية القرآن الكريم
فصل الصراط المستقيم
وأما المسألة العشرون وهي ما هو الصراط المستقيم فنذكر فيه قولا وجيزا فإن الناس قد تنوعت عباراتهم فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته وحقيقته شيء واحد وهو طريق الله الذي نصه لعباده على ألسن رسله وجعله موصلا لعباده إليه ولا طريق لهم إليه سواه بل الطرق كلها مسدودة إلا هذا وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة فلا يشرك به أحدا في عبوديته ولا يشرك برسوله أحدا في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول
وهذا معنى قول بعض العارفين إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين صدق محبته وحسن معاملته وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأي شيء فسر به الصراط فهو داخل في هذين الأصلين ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته
الأول يحصل بالتحقيق بشهادة أن لا إله إلا الله
والثاني يحصل بالتحقيق بشهادة أن محمدا رسول الله وهذا هو الهادي ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل له وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به
فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها وهي معنى قول من قال علوم وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مشكاة النبوة ومعنى قول من قال متابعة رسول الله ظاهرا وباطنا علما وعملا ومعنى قول من قال الإقرار لله بالوحدانية والإستقامة على أمره(1/137)
وأما ما عدا هذا من الأقوال كقول من قال الصلوات الخمس وقول من قال حب أبي بكر وعمر وقول من قال هو أركان الإسلام الخمس التي بني عليها فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع لا تفسير مطابق له بل هي جزء من أجزائه وحقيقته الجامعة ما تقدم والله أعلم فائدة بدل البعض وبدل المصدر
في بدل البعض من الكل وبدل المصدر من الإسم وهما جميعا يرجعان في المعنى
والتحصيل إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة إلا أن البدل في هذين الموضعين لا بد من إضافته إلى ضمير المبدل منه بخلاف بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة
أما اتفاقهم في المعنى فإنك إذا قلت رأيت القوم أكثرهم أو نصفهم فإنما تكلمت بالعموم وأنت تريد الخصوص وهو كثير شائع فأردت بعض القوم وجعلت أكثرهم أو نصفهم تبيينا لذلك البعض وأضفته إلى ضمير القوم كما كان الإسم المبدل مضافا إلى القوم فقد آل الكلام إلى أنك أبدلت شيئا من شيء وهما لعين واحدة
وكذلك بدل المصدر من الإسم لأن الإسم من حيث كان جوهرا لا يتعلق به المدح والذم والإعجاب والحب والبغض إنما متعلق ذلك ونحوه صفات وأعراض قائمة به
فإذا قلت نفعني عبد الله علمه دل أن الذي نفعك منه صفة وفعل من أفعاله ثم بينت ذلك الوصف فقلت علمه أو إرشاده أو رويته فأضفت ذلك إلى ضمير الإسم كما كان الإسم المبدل منه مضافا إليه في المعنى فصار التقدير نفعني صفة زيد أو خصلة من خصاله ثم بينتها بقولك علمه أو إحسانه أو لقاؤه فآل المعنى إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة
وإذا تقرر هذا فلا يصح في بدل الإشتمال أن يكون الثاني جوهرا لأنه لا يبدل جوهر من عرض ولا بد من إضافته إلى ضمير الإسم لأنه بيان لما هو مضاف إلى ذلك الإسم في التقدير والعجب من الفارسي يقول في قوله تعالى النار ذات الوقود البروج 5 أنها بدل من الأخدود بدل اشتمال والنار جوهر قائم بنفسه ثم ليست مضافة إلى ضمير الأخدود وليس فيها شرط من شرائط الإشتمال(1/138)
وذهل أبو علي عن هذا وترك ما هو أصح في المعنى وأليق بصناعة النحو وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فكأنه قيل أصحاب الأخدود أخدود النار ذات الوقود فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة كما قال الشاعر
رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ...
على رواية الجر في ثدي أم أراد لبان ثدي فحذف المضاف
أهـ { بدائع الفوائد ؛ـ 2 صـ 248 ــ صـ 277 }
سورة البقرة
قوله تعالى { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة(1/139)
الباب الخامس عشر في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة والحائل بين الكافر وبين الإيمان وان ذلك مجعول للرب تعالى قال تعالى {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وقال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقال تعالى وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم وقال كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وقال ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون وقال أفلا يتدبرون القآن أم على قلوب أقفالها وقال لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وقد دخل هذه الآيات ونحوها طائفتا القدرية والجبرية فحرفها القدرية بأنواع من التحريف المبطل لمعانيها وما أريد منها وزعمت الجبرية أن الله أكرهها على ذلك وقهرها عليه وأجبرها من غير فعل منها ولا إرادة ولا اختيار ولا كسب البتة بل حال بينها وبين الهدى ابتداء من غير ذنب ولا سبب من العبد يقتضي ذلك بل أمره وحال مع أمره بينه وين الهدى فلم ييسر إليه سبيلا ولا أعطاه عليه قدره ولا مكنه منه بوجه وأراد بعضهم بل أحب له الضلال والكفر والمعاصي ورضيه منه فهدى أهل السنة والحديث واتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(1/140)
قالت القدرية لا يجوز حمل هذه الآيات على أنه منعهم من الإيمان وحال بينهم وبينه إذ يكون لهم الحجة على الله ويقولون كيف يأمرنا بأمر ثم يحول بيننا وبينه ويعاقبنا عليه وقد منعنا من فعله وكيف يكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه وهل هذا إلا بمثابة من أمر عبده بالدخول من باب ثم سد عليه الباب سدا محكما لا يمكنه الدخول معه البتة ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول وبمنزلة من أمره بالمشي إلى مكان ثم قيده بقيد لا يمكنه معه نقل قدمه ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي وإذا كان هذا قبيحا في حق المخلوق الفقير المحتاج فكيف ينسب إلى الرب تعالى مع كمال غناه وعلمه وإحسانه ورحمته قالوا وقد كذب الله سبحانه الذين قالوا قلوبنا غلف وفي أكنة وأنها قد طبع عليها وذمهم على هذا القول فكيف ينسب إليه تعالى ولكن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بهداه الذي بعث به رسله حتى صار ذلك الإعراض والنفار كالاف والطبيعة والسجية أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وصار هذا وقرا في آذانهم وختما على قلوبهم وغشاوة على أعينهم فلا يخلص إليها الهدى وإنما أضاف الله تعالى ذلك إليه لأن هذه الصفة قد صارت في تمكنها وقوة ثباتها كالخلقة التي خلق عليها العبد قالوا ولهذا قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا(1/141)
يكسبون وقال بل طبع الله عليها بكفرهم وقال فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ولعمر الله أن الذي قاله هؤلاء حقه أكثر من باطله وصحيحه أكثر من سقيمه ولكن لم يوفوه حقه وعظموا الله من جهة وأخلوا بتعظيمه من جهة فعظموه بتنزيهه عن الظلم وخلاف الحكمة وأخلوا بتعظيمه من جهة التوحيد وكمال القدرة ونفوذ المشيئة والقرآن يدل على صحة ما قالوه في الران والطبع والختم من وجه وبطلانه من وجه وأما صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم وجزاء على كفرهم وأعراضهم عن الحق بعد أن عرفوه كما قال تعالى فلما أزاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وقال كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون وقال ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وقد اعترف بعض القدرية بأن ذلك خلق الله سبحانه ولكنه عقوبة على كفرهم وإعراضهم السابق فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده ويثيب على الهدى بهدى بعده كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها ويثيب على الحسنة بحسنة مثلها وقال تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا آن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر ومن الفرقان الهدى الذي يفرق به بين الحق والباطل وقال في ضد ذلك فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا وقال في قلوبهم مرض فزادهم اله مرضا وقال ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء حق والقرآن دل عليه وهو موجب العدل والله سبحانه ماض في العبد حكمه عدل في عبده قضاؤه فإنه إذا دعى عبده إلى معرفته ومحبته وذكره وشكره فأبى العبد إلا إعراضا وكفرا قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره وصده عن الإيمان به وحال بين قلبه(1/142)
وبين قبول الهدى وذلك عدل منه فيه وتكون عقوبته بالختم والطبع والصد عن الإيمان كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار كما قال كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم أنهم لصالو الجحيم فحجابه عنهم إضلال لهم وصد عن رؤيتهم وكمال معرفته كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدها عن الإيمان وكذلك عقوبته لهم بصدهم عن السجود له يوم القيامة مع الساجدين هو جزاء امتناعهم من السجود له في الدنيا وكذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا ولكن أسباب هذه الجرايم في الدنيا كانت مقدورة لهم واقعة باختيارهم وإرادتهم وفعلهم فإذا وقعت عقوبات لم تكن مقدورة بل قضاء جار عليهم ماض عدل فيهم وقال تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ومن ههنا ينفتح للعبد باب واسع عظيم النفع جدا في قضاء الله المعصية والكفر والفسوق على العبد وإن ذلك محض عدل فيه وليس المراد بالعدل ما يقوله الجبرية أنه الممكن فكل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل والظلم هو الممتنع لذاته فهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب الكلام في الأسباب والحكم ولاالمراد به ما تقوله القدرية النفاة أنه إنكار عموم قدرة الله ومشيئته على أفعال عباده وهدايتهم وإضلالهم وعموم مشيته لذلك وأن الأمر إليهم لا إليه وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ماض في حكمك عدل في قضائك كيف ذكر العبد في القضاء مع الحكم النافذ وفي ذلك رد لقول الطائفتين القدرة والجبرية فإن العدل الذي أثبتته القدرية مناف للتوحيد معطل(1/143)
لكمال قدرة الرب وعموم مشيئته والعدل الذي أثبته الجبرية مناف للحكمة والرحمة ولحقيقة العدل والعدل الذي هو اسمه وصفته ونعته سبحانه خارج عن هذا وهذا ولم يعرفه إلا الرسل واتباعهم ولهذا قال هود عليه الصلاة والسلام لقومه إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فأخبر عن عموم قدرته ونفوذ مشيئته وتصرفه في خلقه كيف شاء ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم وقال أبو إسحاق أي هو سبحانه وأن كانت قدرته تنالهم بما شاء فإنه لا يشاء إلا العدل وقال ابن الأنباري لما قال هو آخذ بناصيتها كان في معنى لا يخرج من قبضته وأنه قاهر بعظيم سلطانه لكل دابة فاتبع قوله أن ربي على صراط مستقيم قال وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا فلان على طريقة حسنة وليس ثم طريق ثم ذكر وجها آخر فقال لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل دابة أتبع هذا قوله أن ربي على صراط مستقيم أي لا تخفى عليه مشيئته ولا يعدل عنه هارب فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه كما قال إن ربك بالمرصاد(1/144)
قلت فعلى هذا القول الأول يكون المراد أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل ومجازات المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ولا يظلم مثقال ذرة ولا يعاقب أحدا بما لم يجنه ولا يهضمه ثواب ما عمله ولا يحمل عليه ذنب غيره ولا يأخذ أحدا بجريرة أحد ولا يكلف نفسا ما لا تطيقه فيكون من باب له الملك وله الحمد ومن باب ماض في حكمك عدل في قضاؤك ومن باب الحمد لله رب العالمين آي كما أنه رب العالمين المتصرف فيهم بقدرته ومشيئته فهو المحمود على هذا التصرف وله الحمد على جميعه وعلى القول الثاني المراد به التهديد والوعيد وأن مصير العباد إليه طريقهم عليه ولا يفوته منهم أحد كما قال تعالى قال هذا صراط على مستقيم قال الفراء يقول مرجعهم إلي فأجازيهم كقوله أن ربك لنا بالمرصاد قال وهذا كما تقول في الكلام طريقك علي وأنا على طريقك لمن أوعدته وكذلك قال الكلبي والكسائي ومثل قوله وعلى الله قصد السبيل على إحدى القولين في الآية وقال مجاهد الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه ومنها أي ومن السبيل ما هو جائر عن الحق ولو شاء لهداكم أجمعين فأخبر عن عموم مشيئته وأن طريق الحق عليه موصلة إليه فمن سلكها فإليه يصل ومن عدل عنها فإنه يضل عنه والمقصود أن هذه الآيات تتضمن عدل الرب تعالى وتوحيده والله يتصرف في خلقه بمكله وحمده وعدله وإحسانه فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وشرعه وقدره وثوابه وعقابه يقول الحق ويفعل العدل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل فهذا العدل والتوحيد الذين دل عليهما القرآن لا يتناقضان وأما توحيد أهل القدر والجبر وعدلهم فكل منهما يبطل الآخر ويناقضه(1/145)
فصل ومن سلك من القدرية هذه الطريق فقد توسط بين الطائفتين لكنه يلزمه الرجوع إلى مثبت القدر قطعا وألا تناقض أبين تناقض فإنه إذا زعم أن الضلال والطبع والختم والقفل والوقر وما يحول بين العبد وببين الإيمان مخلوق لله وهو واقع بقدرته ومشيئته فقد أعطى أن أفعال العباد مخلوقة وأنها واقعة بمشيئته فلا فرق بين الفعل الابتدائي والفعل الجزائي إن كان هذا مقدور الله واقعا بمشيئته والآخر كذلك وإن لم يكن ذاك مقدورا ولا يصح دخوله تحت المشيئة فهذا كذلك والتفريق بين النوعين تناقض محض وقد حكى هذا التفريق عن بعض القدرية أبو القاسم الأنصاري في شرحه
الإرشاد فقال ولقد اعترف بعض القدرية بأن الختم والطبع توابع غير أنها عقوبات من الله لأصحاب الجرائم قال وممن صار إلى هذا المذهب عبد الواحد بن زيد البصري وبكر ابن أخته قال وسبيل المعاقبين بذلك سبيل المعاقبين بالنار وهؤلاء قد بقي عليهم درجة واحدة وقد تحيزوا إلى أهل السنة والحديث
فصل وقالت طائفة منهم الكافر هو الذي طبع على قلب نفسه في الحقيقة وختم على قلبه والشيطان ايضا فعل ذلك ولكن لما كان الله سبحانه هو الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك نسب الفعل إليه لإقراره للفاعل على ذلك لأنه هو الذي فعله(1/146)
قال أهل السنة والعدل هذا الكلام فيه حق وباطل فلا يقبل مطلقا ولا يرد مطلقا فقولكم أن الله سبحانه أقدر الكافر والشيطان على الطبع والختم كلام باطل فإنه لم يقدره إلا على التزيين والوسوسة والدعوة إلى الكفر ولم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتة وهو أقل من ذلك وأعجز وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهداية شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل الأسباب التي إذا فعلها ختم الله على قلبه وسمعه وطبع عليه كما يدعوه إلى الأسباب التي إذا فعلها عاقبه الله بالنار فعقابه بالنار كعقابه بالختم والطبع وأسباب العقاب فعله وتزيينها وتحسينها فعل الشيطان والجميع مخلوق لله
وأما ما في هذا الكلام من الحق فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع والختم على قلبه فلولا أقدار الله له على ذلك لم يفعله وهذا حق لكن القدرية لم توف هذا الموضوع حقه وقالت أقدره قدرة تصلح للضدين فكان فعل أحدهما باختياره ومشيئته التي لا تدخل تحت مقدور الرب وإن دخلت قدرته الصالحة لهما تحت مقدروه سبحانه فمشيئته واختياره وفعله غير واقع تحت مقدور الرب وهذا من أبطل الباطل فإن كل ما سواه تعالى مخلوق وله داخل تحت قدرته واقع بمشيئته ولو لم يشأ لم يكن
قلت القدرية لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى التذكر وكان ذلك مقارنا لا يراد الله سبحانه حجته عليهم أضيفت أفعالهم إلى الله لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم(1/147)
قال أهل السنة هذا من أمحل المحال آن يضيف الرب إلى نفسه أمر ألا يضاف إليه البتة لمقارنته ما هو من فعله من المعلوم أن الضد يقارن الضد فالشر يقارن الخير والحق يقارن الباطل والصدق يقارن الكذب وهل يقال أن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبه من الإيمان والطاعة وأنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملائكة فإن قيل قد ينسب الشيء الى الشيء لمقارنته له وإن لم يكن له فيه تأثير كقوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهو يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ومعلوم أن السورة لم تحدث لهم زيادة رجس بل قارن زيادة رجسهم نزولها فنسب إليها قيل لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما وهما أحداث السورة الرجس والثاني مقارنته لنزولها بل ههنا أمر ثالث وهو أن السورة لما أنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها والتصديق والإذعان لأوامرها ونواهيها والعمل بما فيها فوطن المؤمنون أنفسهم على ذلك فازدادوا إيمانا بسببها فنسبت زيادة الإيمان إليها إذ هي السبب في زيادته وكذب بها الكافرون وجحدوها وكذبوا من جاء بها ووطنوا أنفسهم على مخالفة ما تضمنته وإنكاره فازدادوا بذلك رجسا فنسب إليها إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك(1/148)
الزيادة فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى الله عند دعوتهم إلى الإيمان وتدبر آياته على أن أفعالهم القبيحة لا تنسب إلى الله سبحانه وإنما هي منسوبة إليهم والمنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة المتضمنة للغايات المحمودة والحكم المطلوبة والختم والطبع القفل والإضلال أفعال حسنة من الله وضعها في أليق المواضع بها إذ لا يليق بذلك المحل الخبيث غيرها والشرك والكفر والمعاصي والظلم أفعالهم القبيحة التي لا تنسب إلى الله فعلا وإن نسبت إليه خلقا فخلقها غيرها والخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول والقضاء غير المقضي والقدر غير المقدور وستمر بك هذه المسألة مستوفاة إن شاء الله في باب اجتماع الرضاء بالقضاء وسخط الكفر والفسوق والعصيان إن شاء الله
قالت القدرية لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى الإيمان لهم الا بالقسر والإلجاء ولم تقتض حكمته تعالى أن يقسرهم على الإيمان لئلا تزول حكمة التكليف عبر عن ترك الألجاء والقسر بالختم والطبع إعلاما لهم بأنهم انتهوا في الكفر والإعراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر وتلك الغاية في وصف لجاجهم وتماديهم في الكفر(1/149)
قال أهل السنة هذا كلام باطل فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء بل إيمان اختيار وطاعة كما قال تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا وإيمان القسر والإلجاء لا يسمى إيمانا ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة ولا يسمى ذلك إيمانا لأنه عن الجاء واضطرار قال تعال ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمى هدى وكذلك قوله أفلم ييأس الذين امنواأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا فقولكم لم يبق طري إلى الإيمان إلا بالقسر باطل فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يرهم الله إياه وهو مشيئته وتوفيقه والهامة وإمالة قلوبهم إلى الهدى وإقامتها على الصراط المستقيم وذلك أمر لا يعجز عنه رب كل شيء ومليكه بل هو القادر عليه كقدرته على خلقه ذواتهم وصفاتهم ودرائهم ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم كما منع السفل خصائص العلو ومنع الحار خصائص البارد ومنع الخبيث خصائص الطيب ولا يقال فلم فعل هذا فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته ومن مقتضيات أسمائه وصفاته وهل يليق بحكمته أن يسوي بين الطيب والخبيث والحسن والقبيح والجيد والرديء ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين وتنويع المخلوقات وأخلاقها
فقول القائل لم خلق الرديء والخبيث واللئيم سؤال جاهل بأسمائه وصفاته وملكه وربوبيته وهو سبحانه فرق بين خلقه أعظم تفريق وذلك من كمال قدرته وربوبيته فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن ومنه ما لا يقبل شيئا منه وبين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلاق العليم وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له والقابل والمقبول والقبول كله مفعوله ومخلوقه وأثر فعله وخلقه وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية ولم يهتدوا إليه وبالله التوفيق(1/150)
قالت القدرية الختم والطبع هو شهادته سبحانه عليهم بأنهم لا يؤمنون وعلى أسماعهم وعلى قلوبهم
قال أهل السنة هذا هو قولكم بأن الختم والطبع هو الإخبار عنهم بذلك وقد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية وأنه لا يقال في لغة من لغات الأمم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه وأن عليه ختما أنه قد طبع على قلبه وختم عليه بل هذا كذب على اللغات وعلى القرآن وكذلك قول من قال أن ختمه على قلوبهم اطلاعه على ما فيها من الكفر وكذلك قول من قال أنه إحصاؤه
عليهم حتى يجازيهم به وقول من قال أنه أعلامها بعلامة تعرفها بها الملائكة وقد بينا بطلان ذلك بما فيه كفاية(1/151)
قالت القدرية لا يلزم من الطبع والختم والقفل آن تكون مانعة من الأيمان بل يجوز أن يجعل الله فيهم ذلك من غير آن يكون منعهم من الإيمان بل يكون ذلك من جنس الغفلة والبلادة والغشا في البصر فيورث ذلك إعراضا عن الحق وتعاميا عنه ولو أنعم النظر وتفكر وتدبر لما آثر على الإيمان غيره وهذا الذي قالوه يجوز آن يكون في أول الأمر فإذا تمكن واستحكم من القلب ورسخ فيه امتنع معه الإيمان ومع هذا فهو أثر فعله وإعراضه وغفلته وإيثاره وشهوته وكبره على الحق والهدى فلما تمكن فيه واستحكم صار صفة راسخة وطبعا وختما وقفلا ورانا فكان مبداه غير حائل بينهم وبين الإيمان والإيمان ممكن معه لو شاؤا لآمنوا مع مبادئ تلك الموانع فلما استحكمت لم يبق إلى الإيمان سبيل ونظير هذا أن العبد يستحسن ما يهواه فيميل إليه بعض الميل ففي هذه الحال يمكن صرف الداعية له إذ الأسباب لم تستحكم فإذا استمر على ميله واستدعى أسبابه واستمكنت لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى والمحبة فيطبع على قلبه ويختم عليه فلا يبقى فيه محل لغير ما يهواه ويحبه وكان الانصراف مقدورا له في أول المر فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورا له كما قال الشاعر ... تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يطق ... رأى لجة ظنها موجة ... فلما تمكن منها غرق ... فلو أنهم بادروا في مبدأ الأمر إلى مخالفة الأسباب الصادة عن الهدى لسهل عليهم ولما استعصى عليهم ولقدروا عليه ونظير ذلك المبادرة إلى إزالة العلة قبل استحكام أسبابها ولزومها للبدن لزوما لا ينفك منها فإذا استحكمت العلة وصارت كالجزء من البدن عز على الطبيب استنقاذ العليل منها ونظير ذلك المتوحل في حمأة فإنه ما لم يدخل تحتها فهو قادر على التخلص فإذا توسط معظمها عز عليه وعلى غيره انقاذه فمبادئ الأمور مقدورة للعبد فإذا استحكمت أسبابها وتمكنت لم يبق الأمر مقدور له فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه من أنفع الأشياء في باب القدر والله الموفق(1/152)
للصواب والله سبحانه جاعل ذلك كله وخالقه فيهم بأسباب منهم وتلك الأسباب قد تكون أمورا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها فلا يشاء سبحانه أن يخلق للعبد أسباب الهدى فيبقى على العدم الأصلي وإن أراد من عبده الهداية فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه فإذا لم يرد سبحانه من نفسه ذلك لم تحصل الهداية
فصل ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان بأن يفك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل ذلك الختم والطابع والقفل ويهديه بعد ضلاله ويعلمه بعد جهله ويرشده بعد غيه ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر لم يمتنع آن يمحوها ويكتب عليه السعادة والإيمان وقرا قارئ عند عمر بن الخطاب افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وعنده شاب فقال اللهم عليها أقفالها ومفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك فعرفها له عمر وزادته عنده خيرا وكان عمر يقول في دعائه اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت فالرب تعالى فعال لما يريد لا حجر عليه وقد ضل ههنا فريقان القدرية حيث زعمت أن ذلك ليس مقدورا للرب ولا يدخل تحت فعله إذ لو كان مقدورا له ومنعه العبد لناقض جوده ولطفه والجبرية حيث زعمت أنه سبحانه إذا قدر قدرا أو علم(1/153)
شيئا فإنه لا يغيره بعد هذا ولا يتصرف فيه بخلاف ما قدره وعلمه والطائفتان حجرت على كل من لا يدخل تحت حجر أحد أصلا وجميع خلقه تحت حجره شرعا وقدرا وهذه المسألة من أكبر مسائل القدر وسيمر بك إن شاء الله في باب المحو والإثبات ما يشفيك فيها والمقصود انه مع الطبع والختم والقفل لو تعرض العبد أمكنه فك ذلك الختم والطابع وفتح ذلك القفل يفتحه من بيده مفاتيح كل شيء وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه وإن كان فك الختم وفتح القفل غير مقدور له كما آن شرب الدواء مقدور له وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور فإذا استحكم به المرض وصار صفة لازمة له لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء وإن كان غير مقدور له ولكن لما ألف العلة وساكنها ولم يحب زوالها ولا آثر ضدها عليها مع معرفته بما بينها وبين ضدها من التفاوت فقد سد على نفسه باب الشفاء بالكلية والله سبحانه يهدي عبده إذا كان ضالا وهو يحسب انه على هدى فإذا تبين له الهدى لم يعدل عنه لمحبته وملاءمته لنفسه فإذا عرف الهدى فلم يحبه ولم يرض به وآثر عليه الضلال مع تكرار تعريفه منفعة هذا وخيره ومضرة هذا وشره فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية فلو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده هداه وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه وأنه ان لم يهده الله فهو ضال وسأل الله أن يقبل بقلبه وأن يقيه شر نفسه وفقه وهداه بل لو علم الله منه كراهية لما هو عليه من الضلال وأنه مرض قاتل إن لم يشفه منه أهلكه لكانت كراهته وبغضه إياه مع كونه مبتلي به مكن أسباب الشفاء والهداية ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال محبته له ورضاه به وكراهته الهدى والحق فلو أن المطبوع على قلبه المختوم عليه كره ذلك ورغب إلى الله في فك ذلك عنه وفعل مقدوره لكان هداه أقرب شيء إليه ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك وسؤال الرب فكه وفتح قلبه(1/154)
فصل فإن قيل فإذا جوزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبة وجزاء على الجرايم الإعراض والكفر السابق على فعل الجرائم
قيل هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس ويظنون بالله سبحانه خلاف موجب أسمائه وصفاته والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أن الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الرب سبحانه بعبده من اول وهلة حين أمره بالإيمان آو بينه له وإنما فعله بعد تكرار الدعوة منه سبحانه والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منهم والمبالغة في الكفر والعناد فحينئذ يطبع على قلوبهم ويختم عليها فلا تقبل الهدى بعد ذلك والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع بل كان اختيارا فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية فتأمل هذا المعنى في قوله إن الذين كفروا سواء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ومعلوم أن هذا ليس حكما يعم جميع الكفار بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفارا قبل ذلك ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير وبعضهم بالطمس على أعينهم فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة وقد يعاقب به إلى وقت ثم يعافي عبده ويهديه كما يعاقب بالعذاب كذلك(1/155)
فصل وههنا عدة أمور عاقب بها لكفار بمنعهم عن الإيمان وهي الختم والطبع والأكنة والغطاء والغلاف والحجاب والوقرة والغشاوه والران والغل والسد والقفل والصمم والبكم والعمي والصد والصرف والشد على القلب والضلال والإغفال والمرض وتقليب الأفئدة والحول بين المرء وقلبه وإزاغة القلوب والخذلان والأركاس والتثبيط والتزيين وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها فتبقى على الموت الأصلي وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية وجعل القلب قاسيا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته وجعل الصدر ضيفا حرجا لا يقبل الإيمان وهذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب كالختم والطبع والقفل والأكنة والإغفال والمرض ونحوها ومنها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى كالصمم والوقر ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشا ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي وهو نتيجة البكم القلبي فإذا بكم القلب بكم اللسان ولا تصغ إلى قول من يقول أن هذه مجازات واستعارات فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله وكان هذا القائل حقيقة الفعل عنده أن يكون من حديد والختم أن يكون بشمع أو طين والمرض أن يكون حمى ينافض أو قولنج أو غيرهما من أمراض البدن والموت هو مفارقة الروح للبدن ليس إلا والعمى ذهاب ضوء العين الذي تبصر به وهذه الفرقة من أغلظ الناس حجابا فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى محلها كانت بحسب تلك المحال فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه وكذلك الختم والطابع الذي عليه هو بالنسبة إليه كالختم والطابع الذي على الباب والصندوق ونحوهما وكذلك نسبة الصمم والعمى إلى الأذن والعين وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته بل هذه الأمور ألزم للقلب منها للبدن فلو قيل أنها حقيقة في ذلك مجاز في الأجسام المحسوسة لكان مثل قول هؤلاء وأقوى منه وكلاهما باطل فالعمى في الحقيقة والبكم والموت والقفل(1/156)
للقلب ثم قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والمعنى أنه معظم العمى وأصله وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم إنما الربا في السيئة وقوله إنما الماء من الماء وقوله ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس وقوله ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي لا يجد ما يعنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه وقوله ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ولم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء وأحق ممن يسمونه بها فهكذا قوله لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقريب من هذا قوله ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله وباليوم الآخر الآية وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمي حقيقة وهكذا جميع ما نسب إليه ولما كان القلب ملك الأعضاء وهي جنوده وهو الذي يحركها ويستعملها والإرادة والقوى والحركة الاختيارية تنبعث كانت هذه الأمثال أصلا وللأعضاء تبعا فلنذكر هذه الأمور مفصلة ومواقعها في القرآن فقد تقدم الختم قال الأزهري وأصله التغطية وختم البذر في الأرض إذ غطاه قال أبو إسحاق معنى ختم وطبع في اللغة واحد وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه فلا يدخله شيء كما قال تعالى أم على قلوب أقفالها وكذلك قوله طبع الله على قلوبهم قلت الختم والطبع يشتركان فيما ذكر ويفترقان في معنى آخر وهو أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة فهو تأثير لازم لا(1/157)
يفارق وأما الأكنة ففي قوله تعالى وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وهي جمع كنان كعنان وأعنة وأصله من الستر والتغطية ويقال كنة وأكنة وكنان بمعنى واحد بل بينهما فرق فأكنة إذا ستره وأخفاه كقوله تعالى أو أكننتم في أنفسكم وكنة إذا صانه وحفظه كقوله بيض مكنون ويشتركان في الستر والكنان ماأكن الشيء وستره وهو كالغلاف وقد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فذكروا غطاء القلب وهي الأكنة وغطاء الأذن وهو الوقر وغطاء العين وهو الحجاب والمعنى لا نفقه كلامك ولا نسمعه ولا نراك والمعنى إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول ولا يراك قال ابن عباس قلوبنا في أكنة مثل الكنانة التي فيها السهام وقال مجاهد كجعبة النبل وقال مقاتل عليها غطاء فلا نفقه ما تقول
فصل وأما الغطاء فقال تعالى وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء من ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا وهذا يتضمن معنيين أحدهما أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته والثاني أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به وهذا الغطاء للقلب أولا ثم يسري منه إلى العين(1/158)
فصل وأما الغلاف فقال تعالى وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم وقد اختلف في معنى قولهم قلوبنا غلف فقالت طائفة المعنى قلوبنا أوعية للحكمة والعلم فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به أو لا تحتاج إليك وعلى هذا فيكون غلف جمع غلاف والصحيح قول أكثر المفسرين أن المعنى قلوبنا لا تفقه ولا تفهم ما تقول وعلى هذا فهو جمع أغلف كأحمر وحمر وقال أبو عبيدة كل شيء في غلاف فهو أغلف كما يقال سيف أغلف وقوس أغلف ورجل أغلف غير مختون قال ابن عباس وقتادة ومجاهد على قلوبنا غشاوة فهي في أوعية فلا تعي ولا تفقه ما تقول وهذا هو الصواب في معنى الآية لتكرر نظائره في القرآن كقولهم قلوبنا في أكنة وقوله تعالى كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى ونظائر ذلك وأما قول من قال هي أوعية للحكمة فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة وليس له في القرآن نظير يحمل عليه ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل قلبي غلاف وقلوب المؤمنين العالمين غلف أي أوعية للعلم والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء فلا يلزم من كون القلب غلافا أن يكون داخله العلم والحكمة وهذا ظاهر جدا فإن قيل فالإضراب ببل على هذا القول الذي قويتموه ما معناه وأما على القول الآخر فظاهر آي ليست قلوبكم محلا للعلم والحكمة بل مطبوع عليها قيل وجه الإضراب في غاية الظهور وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه فكيف تقوم به عليه الحجة وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف فهم معذورون في عدم الإيمان فاكذبهم الله وقال بل طبع الله عليها بكفرهم وفي الآية الأخرى بل لعنهم الله بكفرهم فاخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم وآثروه على الإيمان فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة والمعنى لم نخلق قلوبهم غلفا لا تعي ولا تفقه ثم نأمرهم(1/159)
بالإيمان وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها
فصل وأما الحجاب ففي قوله تعالى حكاية عنهم ومن بيننا وبينك حجاب وقوله فإذا قرأت
القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا على أصح القولين والمعنى جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به ويبينه قوله وجعلنا على قلوبهم أكنة آن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فأخبر سبحانه أن ذلك جعله فالحجاب يمنع رؤية الحق والأكنة تمنع من فهمه والوقر يمنع من سماعه وقال الكلبي الحجاب ههنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه ووصفه بكونه مستورا فقيل بمعنى ساتر وقيل على النسب أي ذو ستر والصحيح أنه على بابه أي مستورا عن الإبصار فلا يرى ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت والنسب في مفعول لم يشتق من فعله كمكان مهول أي ذي هول ورجل مرطوب أي ذي رطوبة فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب ومجروح ومستور(1/160)
فصل وأما الران فقد قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال أبو عبيدة غلب عليها والخمر ترين على عقل السكران والموت يرون على الميت فيذهب به ومن هذا حديث اسيفع جهينة وقول عمر فأصبح قدرين به أي غلب عليه وأحاط به الرين وقال أبو معاذ النحوي الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين والإقفال أشد من الطبع وهو أن يقفل على القلب وقال الفراء كثرت الذنوب والمعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها وقال أبو إسحاق ران غطى يقال ران على قلبه الذنب يرين رينا أي غشيه قال والرين كالغشاء يغشى القلب ومثله الغين قلت أخطأ أبو إسحاق فألغين ألطف شيء وأرقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ليغان على قلبي وأني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة وأما الرين والران فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها وقال مجاهد هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب وقال مقاتل غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال الترمذي هذا حديث صحيح وقال عبد الله بن مسعود كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم فكان سبب الران منهم وهو خلق الله فيهم فهو خالق السبب ومسببه لكن السبب باختيار العبد والمسبب خارج عن قدرته واختياره(1/161)
فصل وأما الغل فقال تعالى لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون قال الفراء حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله وقال أبو عبيدة منعناهم عن الإيمان بموانع ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان فإن قيل فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب فكيف ذكر الغل الذي في العنق قيل لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب كقوله تعالى وكل إنسان ألزمناه(1/162)
طائره في عنقه ومن هذا قولهم انما في عنقك وهذا في عنقك ومن هذا قوله ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق ومن هذا قال الفراء أنا جعلنا في أعناقهم أغلالا حبسناهم عن الإنفاق قال أبو إسحاق وإنما يقال للشيء اللازم هذا في عنق فلان أي لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق قال أبو علي هذا مثل قولهم طوقتك كذا وقلدتك كذا ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق قلت ومن هذا قولهم قلدت فلانا حكم كذا وكذا كأنك جعلته طوقا في عنقه وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها قال الحسن هي الشدائد التي كانت في العبادة كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وتتبع العروق من اللحم وقال ابن قتيبة هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلها أغلا لأن التحريم يمنع كما يقبض الغل اليد وقوله فهي إلى الأذقان قالت طائفة الضمير يعود إلى الأيدي وإن لم تذكر لدلالة السياق عليها قالوا لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد ولذلك سمي جامعة وعلى هذا فالمعنى فأيديهم او فايمنهم مضمومة الى أذقانهم هذا قول الفراء والزجاج وقالت طائفة الضمير يرجع إلى الأغلال وهذا هو الظاهر وقوله فهي إلى الأذقان أي واصلة وملزوزة إليها فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن وقوله فهم مقمحون قال الفراء والزجاج المقمح هو الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر يقال أقمح البعير رأسه وقمح وقال الأصمعي بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب قال الأزهري لما غلت أيديهم إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل الرافعة رؤوسها انتهى فإن قيل فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى(1/163)
والإيمان قيل أحسن وجه وأبينه فإن الغل إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا يستطيع له حركة ثم أكد هذا المعنى والحبس بقوله وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا قال ابن عباس منعهم من الهدى لما سبق في علمه والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم ومثلها بأحسن تمثيل وأبلغه وذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم وضمت أيديهم إليها وجعلوا بين السدين لا يستطيعون النفوذ من بينمها وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة وجدت هذا المثل مطابقا له أتم مطابقة وانه قد حيل بينه وبين الإيمان كما حيل بين هذا وبين التصرف والله المستعان
فصل وأما القفل فقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها قال ابن عباس يريد على قلوب هؤلاء أقفال وقال مقاتل يعني الطبع على القلب وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج الذي قد ضرب عليه قفل فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان والقرآن وتأمل تنكير القلب وتعريف الأقفال فإن تنكير القلوب يتضمن
إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة ولو قال أم على القلوب أقفالها لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة وفي قوله أقفالها بالتعريف نوع تأكيد فإنه لو قال اقفال لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الاسم فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها والله أعلم(1/164)
فصل وأما الصمم والوقر ففي قوله صم بكم عمي وقوله أولئك الذين لعنهم الله فاصمهم وأعمى أبصارهم وقوله ولقد درأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل وأولئك هم الغافلون وقوله والذين لا يؤمنون بالآخرة في آذانهم وقر وهو عليهم عمي أولئك ينادون من مكان بعيد قال ابن عباس في آذانهم صمم عن استماع القرآن وهو عليهم عمي أعمى الله قلوبهم فلا يفقهون أولئك ينادون من مكان بعبد مثل البهيمة التي لا تفهم الادعاء ونداء وقال مجاهد بعيد من قلوبهم وقال الفراء تقول للرجل الذي لا يفهم كذلك أنت تنادي من مكان بعيد قال وجاء في التفسير كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون انتهى والمعنى أنهم لا يسمعمون ولا يفهمون كما أن من دعى من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم
فصل وأما البكم فقال تعالى صم بكم عمي والبكم جمع أبكم وهو الذي لا ينطق والبكم نوعان بكم القلب وبكم اللسان كما أن النطق نطقان نطق القلب ونطق اللسان وأشدهما بكم القلب كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق ولا تنطق به ألسنتهم والعلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب من سمعه وبصره وقلبه وقد عليهم سدت هذه الأبواب الثلاثة فسد السمع بالصمم والبصر بالعمى اوالقلب بالبكم ونظيره قوله تعالى لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها وقد جمع سبحانه بين الثلاثة في قوله وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله فإذا أراد سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره وإذا أراد ضلالة أصمه وأعماه وأبكمه وبالله التوفيق(1/165)
فصل وأما الغشاوة فهو غطاء العين كما قال تعالى وجعل على بصره غشاوة وهذا الغطاء سري اليها من غطاء القلب فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر فالعين مرآة القلب تظهر ما فيه وأنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا أو أبغضت كلامه ومجالسته تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته فتلك أثر البغض والإعراض عنه وغلظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العشاء غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى
فصل وأما الصد فقال تعالى وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول حملا على زين وقرأ الباقون وصد بفتح الصاد ويحتمل وجهين أحدهما أعرض فيكون لازما والثاني يكون صد غيره فيكون متعديا والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في المياه الدنيا ربنا ليضلوا عن
سبيلك ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما فهذا الشد على القلب هو الصد والمنع ولهذا قال ابن عباس يريدا منعها والمعنى قسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان وهذ ا مطابق لما في التوراة إن الله سبحانه قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسى قلبه فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر وهذا الشد والتقسية من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه جعله عقوبة لهم على كفرهم واعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب ولهذا كان محمودا عليه فهو حسن منه وأقبح شيء منهم فإنه عدل منه وحكمة وهو ظلم منهم وسفه فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غنى عليم يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما والمقضى المقدر يكون ظلما وجورا وسفها وهو فعل جاهل ظالم سفيه(1/166)
فصل وأما الصرف فقال تعالى وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره لأنهم ليسوا أهلا له فالمحل غير صالح ولا قابل فإن صلاحية المحل بشيئين حسن فهم وحسن قصد وهؤلاء قلوبهم لا تفقه وقصودهم سيئة وقد صرح سبحانه بهذا في قوله ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به والمؤمنون لم يحصل لهم ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص وهو الكبر والتولي والإعراض فالأول مانع من الفهم والثاني مانع من الإنقياد والإذعان فإفهام سيئة وقصود ردية وهذه نسخة الضلال وعلم الشقاء كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح وقصد صالح والله المستعان وتأمل قوله سبحانه ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو عادة عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول فلم ينلهم الإقبال والإذعان فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه فلا يمكنه من الإقبال عليه ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبة بأن جعله داعيا إلى كل معصية فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية(1/167)
وفروعها صغيرها وكبيرها وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق فمن عقاب السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فإن قيل فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى فإنى يصرفون وأنى يؤفكون وقال فما لهم عن التذكرة معرضين فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم قيل هم دائرون بين عدله وحجته عليهم فمكنهم وفتح لهم الباب ونهج لهم الطريق وهيأ لهم الأسباب فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ودعاهم على السنة رسلة وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر والنافع والضار وأسباب
الردي وأسباب الفلاح وجعل لهم أسماعا وأبصارا فآثروا الهوى على التقوى واستحبوا العمى على الهدى وقالوا معصيتك آثر عندنا من طاعتك والشرك أحب إلينا من توحيدك وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم وانصرفت عن طاعته ومحبته فهذا عدله فيهم وتلك حجته عليهم فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياره فسده عليهم اضطرارا فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوه ومكنهم فيما ارتضوه وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون فلا أقبح من فعلهم ولا أحسن من فعله ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ولأنشأهم على غير هذه النشأة ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل والنور والظلمة والنافع والضار والطيب والخبيث والملائكة والشياطين والشاء والذياب ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها ومشيئتها وكل ذلك جار على وفق حكمته وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما أن هو إلا كنقرة عصفور من البحر(1/168)
فصل وأما الإغفال فقال تعالى ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا سئل أبو العباس ثعلب عن قوله أغفلنا قلبه عن ذكرنا فقال جعلناه غافلا قال ويكون في الكلام أغفلته سميته غافلا ووجدته غافلا قلت الغفل الشيء الفارغ والأرض الغفل التي لا علامة بها والكتاب الغفل الذي لا شكل عليه فأغفلناه تركناه غفلا عن الذكر فارغا منه فهو ابقاء له على العدم الأصلي لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر فبقي غافلا فالغفلة وصفه والإغفال فعل الله فيه بمشيئته وعدم مشيئته لتذكره فكل منهما مقتض لغفلته فإذا لم يشأ له التذ كر لم يتذكر وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر فإن قيل فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها قيل القرآن قد نطق بهذا وبهذا قال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وقال ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ومن يرد أن يضله فإن قيل فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر إن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه فيبقى على العدم الأصلي فإذا أضيف إليه كان من باب إضافة الشيء إلى دليله فعدم السبب دليل على عدم المسبب وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه وتفريطه في أمره قال مجاهد كان أمره فرطا أي ضياعا وقال قتادة أضاع أكبر الضيعة وقال السدة هلاكا وقال أبو الهيثم أمر فرط أي متهاون به مضيع والتفريط تقديم العجز قال أبو اسحاق من قدم العجز في أمر إضاعه وأهلكه قال الليث الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقول كل أمر فلان فرط قال الفراء فرطا متروكا يفرط فيما لا ينبغي التفريط فيه واتبع مالا ينبغي اتباعه وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه(1/169)
فصل وأما المرض فقال تعالى في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقال فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقال ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ومرض القلب خروج عن صحته واعتداله فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره فمرضه إما بالشك فيه وإما بإيثار غيره عليه فمرض
المنافقين مرض شك وريب ومرض العصاة مرض غي وشهوة وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا قال ابن الأنباري أصل المرض في اللغة الفساد مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله ومرضت بالمرض تغيرت وفسدت قالت ليلى الأخيلية ... إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها ... وقال آخر ... ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ... لفقد الحسين والبلاد اقشعرت ... والمرض يدور على أربعة أشياء فساد وضعف ونقصان وظلمة ومنه مرض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه ولم يبالغ وعين مريضة النظر أي فاترة ضعيفة وريح مريضة إذا هب هبوبها كما قال ... راحت لأربعك الرياح مريضة ... أي لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها وقال ابن الأعرابي أصل المرض النقصان ومنه بدن مريض أي ناقص القوة وقلب مريض ناقص الدين ومرض في حاجتي إذا نقصت حركته وقال الأزهري عن المنذري عن بعض أصحابه المرض أظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها قال والمرض الظلمة وأنشد ... وليلة مرضت من كل ناحية ... فما يضيء لها شمس ولا قمر ... هذا أصله في اللغة ثم الشك والجهل والحيرة والضلال وإرادة الغي وشهوة الفجور في القلب تعود إلى هذه الأمور الأربعة فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض فيعاقبه الله بزيادة المرض لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها(1/170)
فصل وأما تقليب الأفئدة فقال تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون وهذا عطف على أنها إذا جاءت لا يؤمنون أي نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون واختلف في قوله كما لم يؤمنوا به أول مرة فقال كثير من المفسرين المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة قال ابن عباس في رواية عطاء عنه ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي قال وهذا كقوله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وقال آخرون المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم وهذ معنى حسن فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التلعيل كقوله وأحسن كما أحسن الله إليك وقوله كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم والذ ي حسن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر والتقليب تحويل الشيء من وجه إلى وجه وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية ووصولهم إليها كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم لأنهم رأوها عيانا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها فإذا لم يؤمنوا كان تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك وروى الترمذي من حديث أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب(1/171)
القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء قال هذا حديث حسن وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلي بن زياد عن الحسن قال قالت عائشة رضي الله تعالى عنها دعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله دعوة كثيرا ما تدعو بها قال إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه وقوله ونذرهم في طغيانهم يعمهون قال ابن عباس أخذلهم وأدعهم في ضلالهم يتمادون
فصل وأما إزاغة القلوب فقال تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال عن عباده المؤمنين أنهم سألوه ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وأصل الزيغ الميل ومنه زاغت الشمس إذا مالت فأزاغه القلب إمالته وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال والزيغ يوصف به القلب والبصر كما قال تعالى وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وقال قتادة ومقاتل شخصت فرقا وهذا تقريب للمعنى فإن الشخوص غير الزيغ وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا يطرق ومنه شخص بصر الميت ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الأحزاب وقال الكلبي مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم وقال الفراء زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيرة تنظر إليه قلت القلب إذا امتلأ رعبا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المخوف فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابلة(1/172)
فصل وأما الخذلان فقال تعالى إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وأصل الخذلان الترك والتخلية ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها خذول قال محمد بن إسحاق في هذه الآية إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك وإن يخذلك فلن ينصرك الناس أي لا تترك أمري للناس وارفض الناس لأمري والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها بل يصنع له ويلطف به ويعينه ويدفع عنه ويكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلاك ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس فإن تولاه الله لم ظفر به عدوه وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة فإن قيل فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه قيل لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها وقد رآها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي(1/173)
الذئاب قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة سمعت ابن أبي الدنيا يقول أن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حمد بن سعيد القطان ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه أن قوما كانوا في سفر فكان فهم رجل يمر بالطائر فيقول أتدرون ما تقول هؤلاء فيقولون لا فيقول تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو فقال أتدرون ما تقول هذه الشاة قلنا لا قال تقول للسخلة إلحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان قال فانتهينا إلى الراعي فقلنا له ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا قال نعم ولدت سخلة عام أول فأكلها الذئب بهذا المكان ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ويحنو عنقه إليها فقال أتدرون ما يقول هذا البعير قلنا لا قال فانه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه قال فانتهينا إليهم فقلنا يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه قال فأناخوا البعير وحطوا عنه فإذا هو كما قال فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت وقد حذر الله سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مره وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه ويبيت معه ويصبح وقال الشيطان لما قضى الأمر آن الله عدوكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم
فصل وأما الأركاس فقال تعالى
{ فمالكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا }(1/174)
قال الفراء أركسهم ردهم إلى الكفر وقال أبو عبيدة يقال ركست الشيء وأركسته لغتان إذا رددته والركس قلب الشيء على رأسه أورد أوله على آخره والارتكاس الارتداد قال أمية ... فاركسوا في حميم النار إنهم ... كانوا عصاة وقالوا الإفك الزورا ... ومن هذا يقال للروث الركس لأنه رد إلى حال النجاسة ولهذا المعنى سمي رجيعا والركس والنكس والمركوس والمنكوس بمعنى واحد قال الزجاج أركسهم نكسهم وردهم والمعنى أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه فيهم وعدله وإن كان أركاسه كان بسبب كسبهم وأعمالهم كما قال بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فهذا توحيده وهذا عدله لا ما تقوله القدرية المعطلة من أن التوحيد إنكار الصفات والعدل والتكذيب بالقدر
فصل وأما التثبيط فقال تعالى ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين والتثبيط رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله قال ابن عباس يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج وقال في رواية أخرى حبسهم قال مقاتل واوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد فقال إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فلما تركوا الإيمان به بلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله ولم يستعدوا له ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه فإن من لم يرفع به وبرسوله أو كتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب(1/175)
خلقه إليه وأكرمهم عليه ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها بل بدلها كفرا فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا و الخبال الفساد و الاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف قال ابن عباس ما زادوكم الا خبالا عجزا و جبنا يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم و تعظيمهم في صدورهم ثم قال ولا وضعوا خلالكم أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد قال ابن عباس يريد ضعفوا شجاعتكم يعني بالتفريق بينهم لتفريق الكلمة فيجبنوا عن العدو وقال الحسن لا وضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين وقال الكلبي ساروا بينكم يبغونكم العيب قال لبيد ... أرانا موضعين لختم عيب ... وسحر بالطعام وبالشراب ... أي مسرعين ومنه قول عمر بن أبي ربيعة ... تبا لهن بالعرفان لما عرفني ... وقلن أمرؤ باغ أكل وأوضعا ... أي اسرع حتى كلت مطيته يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم قال قتادة وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم وقال ابن إسحاق وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم ومعناه على هذا القول وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم قلت فتضمن سماعين معنى مستجيبين وقال مجاهد وابن زيد والكلبي المعنى وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم أي جواسيس والقول هو الأول كما قال تعالى سماعون للكذب أي قابلون له ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين فان النافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها وأرصد بينهم عيونا(1/176)
له فالقول قول قتادة وابن إسحاق أعلم فإن قيل انبعاثهم إلى طاعته طاعة له فكيف يكرهها وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم عليه قيل هذا سؤال له شأن وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح وكل ممكن فهو جائز عليه ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم وثبطوها عن الخروج وفعلوا ما لا يريد ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله قالوا وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غيره أن يكره هو سبحانه انبعاثهم فإنه أمرهم به قالوا وكيف يأمرهم بما يكرهه ولا يخفى على من نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن فالجواب الصحيح أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة له وللمؤمنين وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا(1/177)
الوجه بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه فكان مكروها له من هذا الوجه ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم وهذا الخروج المكروه له ضدان أحدهما الخروج المرضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه والثاني التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذاالضد فيقول للسائل قعودهم مبغوض له ولكن ههنا أمران مكروهان له سبحانه وأحدهما أكره له من الآخر لأنه أعظم مفسدة فإن قعودهم مكروه له وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين فتأمل هذا لموضع فإن قلت فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه وهو الذي خرج عليه المؤمنون قلت قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غيرأهله فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله وليس كل محل يصلح لذلك ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته فإن قلت وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة قلت يأباه كمال ربوبيته وملكه وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويضاع ويوحد ويعبد ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم(1/178)
وتخصيصهم بفضله وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الإحاطة بها ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر
فصل وأما التزيين فقال تعالى وكذلك زينا لكل أمة عملهم وقال أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وقال وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فأضاف التزيين إليه منه سبحانه خلقا ومشيئة وحذف فاعله تارة ونسبة إلى سببه ومن أجراه على يده تارة وهذا التزيين سبحانه حسن إذ هو ابتلاء واختبار بعيد ليتميز المطيع منهم من العاصي والمؤمن من الكافر كما قال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عملا وهو من الشيطان قبيح وأيضا فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته وإيثار سيء العمل على حسنه فإنه لا بد أن يعرفه سبحانه الشيء من الحسن فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زينه سبحانه له وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه فربما رآه حسنا عقوبة له فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه وهو حجة الله عليه فإذا تمادى في غيه وظلمه ذهب
ذلك النور فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالة وبالتعريف الأول فتزيين الرب تعالى عدل وعقوبته حكمة وتزيين الشيطان إغواء وظلم وهو السبب الخارج عن العبد والسبب الداخل فيه حبه وبغضه وإعراضه والرب سبحانه خالق الجميع والجميع واقع بمشيئته وقدرته ولو شاء لهدى خلقه أجمعين والمعصوم من عصمه الله والمخذول من خذله الله ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
أهـ { شفاء العليل حـ1 صـ 85 ـ صـ 104 }(1/179)
قوله تعالى { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت من حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون }
شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق فأوقدوا النار تضيء لهم الطريق فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار وبقوا في الظلمات لا يبصرون قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث فإن الهدي يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب مما يسمعه باذنه ويراه بعينه ويعقله بقلبه وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى فلا تسمع قلوبهم شيئا ولا تبصره ولا تعقل ما ينفعها وقيل لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل والقولان متلازمان
وقال في صفتهم فهم لا يرجعون لأنهم قد رأوا في ضوء النهار وأبصروا الهدى فلما طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا وقال سبحانه وتعالى ذهب الله بنورهم ولم يقل ذهب نورهم وفيه سر بديع وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى فإن الله تعالى مع المؤمنين وإن الله مع الصابرين وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون فذهاب الله بذلك النور انقطاع لمعيته التي خص بها أولياءه فقطعها بينه وبين المنافقين فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم فليس لهم نصيب من قوله لا تحزن إن الله معنا ولا من كلا إن معي ربي سيهدين
وتأمل قوله تعالى أضاءت من حوله كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا ولو اتصل ضوؤها به ولابسه لم يذهب ولكنه كان ضوءه مجاورة لا ملابسة ومخالطة وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به حجة من الله قائمة وحكمة بالغة تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده(1/180)
وتأمل قوله تعالى ذهب الله بنورهم ولم يقل بنارهم ليطابق أول الآية فإن النار فيها إشراق وإحراق فذهب بما فيها من الإشراق وهو النور وأبقى عليهم ما فيها من الاحراق وهو النارية
وتأمل كيف قال بنورهم ولم يقل بضوئهم مع قوله فلما أضاءت ما حوله لأن الضوء هو زيادة في النور فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم وأنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم وايضا فإن الله تعالى سمى كتابه نورا ورسوله نورا ودينه نورا وهداه نورا ومن أسمائه النور والصلاة نور فذهابه سبحانه بنورهم ذهاب بهذا كله
وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين كيف طابق هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها وبدل الهدى في مقابلتها وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور فبدلوا الهدى والنور وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة فيا لها من تجارة ما أخسرها وصفقة ما أشد غبنها
وتأمل كيف قال الله تعالى ذهب الله بنورهم فوحده ثم قال وتركهم في ظلمات فجمعها فإن الحق واحد وهو صراط الله المستقيم الذي لا صراط يوصل إليه سواه وهو عبادته وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله لا بالأهواء والبدع وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق بخلاف طرق الباطل فإنها متعددة متشعبة ولهذا يفرد سبحانه الحق ويجمع الباطل كقوله تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين(1/181)
كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات وقال تعالى وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فجمع سبل الباطل ووحد سبيل الحق ولا يناقض هذا قوله تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد وصراطه المستقيم فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد وسبيل واحد وهو سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها
وقد صح عن النبي أنه خط خطا مستقيما وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله تعالى وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصكم به لعلكم تتقون وقد قيل إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام ويكون بمنزلة قول الله تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويكون قوله تعالى ذهب الله بنورهم مطابقا لقوله تعالى أطفأها الله ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه هو تركهم في ظلمات الحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه ولا يبصرون سبيلا بل هم صم بكم عمي وهذا التقدير وإن كان حقا ففي كونه مرادا بالآية نظر فإن السياق إنما قصد لغيره ويأباه قوله تعالى فلما أضاءت ما حوله وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا ويأباه قوله تعالى ذهب الله بنورهم وموقد نار الحرب لا نور له ويأباه قوله تعالى وتركهم في ظلمات لا يبصرون وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر
قال الحسن رحمه الله هو المنافق أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر
ولهذا قال فهم لا يرجعون أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه وقال تعالى في حق الكفار صم بكم عمي فهم لا يعقلون فسلب العقل عن الكفار إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان وسلب الرجوع عن المنافقين لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان(1/182)
فصل في تفسير قوله تعالى أو كصيب من السماء
ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلا آخر مائيا فقال تعالى أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله من النور والحياة بنصيب المستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها وذهب نوره وبقي في الظلمات حائرا تائها لا يهتدي سبيلا ولا يعرف طريقا وبنصيب أصحاب الصيب وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من علو إلى أسفل فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ونصيب المنافقين من هذا الهدي بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق ولا نصيب له فيما وراء ذلك مما هو المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد والشجر والدواب وإن تلك الظلمات التي فيه وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب
فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الاحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد وتعطيل مسافر عن سفره وصانع عن صنعته ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام
وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب وهذه حال أكثر الخلق إلا من صحت بصيرته فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق والتعرض لاتلاف المهجة والجراحات الشديدة وملامة اللوام ومعاداة من يخاف معاداته لم يقدم عليه لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة والغايات التي اليها تسابق المتسابقون وفيها تنافس المتنافسون(1/183)
وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر ومفارقة الأهل والوطن ومقاساة الشدائد وفراق المألوفات ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته فإنه لا يخرج إليه ولا يعزم عليه وحال هؤلاء حال ضعيف البصيرة والايمان الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد والزواجر والنواهي والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه والناس كلهم صبيان العقول إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق ويعلم أنه حياة الوجود
وقال الزمخشري لقائل أن يقول شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من تشبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيب الكفرة من الاقراع من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق والمعنى أو كمثل ذوي صيب والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا
قال والصحيح الذي عليه علماء أهل البيان لا يتخطونه إن المثلين جميعا من جهة التمثلات المتركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه فيه وهذا القول الفصل والمذهب الجزل بيانه أن العرب تأخذ شيئا فرادى معزولا بعضها من بعض لم تأخذ هذا بحجزة ذاك(1/184)
فشبهها بنظائرها كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية حاصله من مجموع أشياء قد تضامنت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها قوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة وتساوي الحالين عند من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأحمال ولا يشعر ذلك إلا بما يريد فيه من الكد والتعب وكقوله تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء هذا النبات فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالافراد غير منوط بعضها ببعض وتصييرها شيئا واحدا فلا
وكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة فشبه حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق
قال فإن قلت أي المثلين أبلغ قلت الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذلك أخر وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ
قلت قال شيخنا الناس في الهدى الذي بعث الله تعالى به رسوله أربعة أقسام قد اشتملت عليهم هذه الآيات من أول السورة إلى ههنا
بيان أقسام الناس في الهدى القسم الأول من هؤلاء
القسم الأول قبلوه باطنا وظاهرا وهم نوعان
أحدهما أهل الفقه فيه والفهم والتعليم وهم الأئمة الذين عقلوا عن الله تعالى كتابه وفهموا مراده وبلغوه إلى الأمة واستنبطوا أسراره
وكنوزه فهؤلاء مثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فرعى الناس فيه ورعت أنعامهم وأخذوا من ذلك الكلأ الغذاء والقوت والدواء وسائر ما يصلح لهم(1/185)
النوع الثاني حفظوه وضبطوه وبلغوا ألفاظه إلى الأمة فحفظوا عليهم النصوص وليسوا من أهل الاستنباط والنفقة في مراد الشارع فهم أهل حفظ وضبط وأداء لما سمعوه والأولون أهل فهم وفقه واستنباط وإثارة لدفائنه وكنوزه وهذا النوع الثاني بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فوردوه وشربوا منه وسقوا منه أنعامهم وزرعوا به
فصل في القسم الثاني من هؤلاء أيضا
القسم الثاني من رده ظاهرا وباطنا وكفر به ولم يرفع به رأسا وهؤلاء أيضا نوعان
أحدهما عرفه وتيقن صحته وأنه حق ولكن حمله الحسد والكبر وحب الرياسة والملك والتقدم بين قومه على جحده ودفعه بعد البصيرة واليقين
النوع الثاني أتباع هؤلاء الذين يقولون هؤلاء ساداتنا وكبراؤنا وهم أعلم منا بما يقبلونه وما يردونه ولنا أسوة بهم ولا نرغب بأنفسنا عن أنفسهم ولو كان حقا لكانوا هم أهله وأولى بقبوله وهؤلاء بمنزلة الدواب والأنعام يساقون حيث يسوقهم راعيهم وهم الذين قال الله عز وجل فيهم إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار وقال تعالى فيهم يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا(1/186)
السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا وقال تعالى فيهم وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال فيهم هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار أي سننتموه لنا وشرعتموه قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار فقولهم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار أي داخلوها كما دخلناها ومقاسون عذابها كما نقاسيه فأجابهم الأتباع وقالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا
وفي الضمير قولان
أحدهما أنه ضمير الكفر والتكذيب ورد قول الرسل صلوات الله وسلامه عليهم واستبدال غيره به والمعنى أنتم زينتم لنا الكفر ودعوتمونا اليه وحسنتموه لنا وقيل على هذا القول إنه قول الأمم المتأخرين للمتقدمين والمعنى على هذا أنتم شرعتم لنا تكذيب الرسل ورد ما جاءوا به والشرك بالله سبحانه وتعالى أي بدأتم به وتقدمتمونا اليه فدخلتم النار قبلنا فبئس القرار أي بئس المستقر والمنزل
والقول الثاني أن الضمير في قوله أنتم قدمتموه لنا ضمير العذاب وصلي النار والقولان متلازمان وهما حق
وأما القائلون ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار فيجوز أن يكون الاتباع دعوا على سادتهم وكبرائهم وأئمتهم به لأنهم
الذين حملوهم عليه ودعوهم اليه ويجوز أن يكون جميع أهل النار سألوا ربهم أن يزيد من سن لهم الشرك وتكذيب الرسل صلى الله عليهم وسلم ضعفا وهم الشياطين
فصل في القسم الثالث من هؤلاء أيضا
القسم الثالث الذين قبلوا ما جاء به الرسول وآمنوا به ظاهرا وجحدوه وكفروا به باطنا وهم المنافقون الذين ضرب لهم هذان المثلان بمستوقد النار وبالصيب وهم أيضا نوعان(1/187)
أحدهما من أبصر ثم عمي وعلم ثم جهل وأقر ثم أنكر وآمن ثم كفر فهؤلاء رؤوس أهل النفاق وساداتهم وأئمتهم ومثلهم مثل من استوقد نارا ثم حصل بعدها على الظلمة
والنوع الثاني ضعفاء البصائر الذين أعشى بصائرهم ضوء البرق فكاد أن يخطفها لضعفها وقوته وأصم أذنهم صوت الرعد فهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق ولا يقربون من سماع القرآن والايمان بل يهربون منه ويكون حالهم حال من يسمع الرعد الشديد فمن شدة خوفه منه يجعل أصابعه في أذنه وهذه حال كثير من خفافيش البصائر في كثير من نصوص الوحي وإذا وردت عليه مخالفة لما تلقاه عن أسلافه وذوي مذهبه ومن يحسن به الظن ورآها مخالفة لما عنده عنهم هرب من النصوص وكره من يسمعه إياها ولو أمكنه لسد أذنيه عند سماعها ويقول دعنا من هذه ولو قدر لعاقب من يتلوها ويحفظها وينشرها ويعلمها فإذا ظهر له منها ما يوافق ما عنده مشى فيها وانطلق فإذا جاءت بخلاف ما عنده أظلمت عليه فقام حائرا لا يدري أين يذهب ثم يعزم له التقليد وحسن الظن برؤسائه وسادته على اتباع ما قالوه دونها ويقول مسكين الحال هم أخبر بها مني وأعرف(1/188)
فيا لله العجب أو ليس أهلها والذابون عنها والمنتصرون لها والمعظمون لها والمخالفون لأجلها آراء الرجال المقدمون لها على ما خالفها أعرف بها أيضا منك وممن اتبعته فلم كان من خالفها وعزلها عن اليقين وزعم أن الهدى والعلم لا يستفاد منها وأنها أدلة لفظية لا تفيد شيئا من اليقين ولا يجوز أن يحتج بها على مسألة واحدة من مسائل التوحيد والصفات ويسميها الظواهر النقلية ويسمى ما خالفها القواطع العقلية فلما كان هؤلاء أحق بها وأهلها وكان أنصارها والذابون عنها والحافظون لها هم أعداؤها ومحاربوها ولكن هذه سنة الله في أهل الباطل إنهم يعادون الحق وأهله وينسبونهم إلى معاداته ومحاربته كالرافضة الذين عادوا أصحاب النبي بل وأهل بيته ونسبوا أتباعه وأهل سنته إلى معاداته ومعاداة أهل بيته وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون
والمقصود أن هؤلاء المنافقين قسمان أئمة وسادة يدعون إلى النار وقد مردوا على النفاق وأتباع لهم بمنزلة الأنعام والبهائم فأولئك زنادقة مستبصرون وهؤلاء زنادقة مقلدون فهؤلاء أصناف بني آدم في العلم والإيمان ولا يجاوز هذه السنة اللهم إلا من أظهر الكفر وأبطن الايمان كحال المستضعف بين الكفارالذي تبين له الاسلام ولم يمكنه المهاجرة بخلاف قومه ولم يزل هذا الضرب في الناس على عهد رسول الله وبعده وهؤلاء عكس المنافقين من كل وجه
وعلى هذا فالناس إما مؤمن ظاهرا وباطنا وإما كافرا ظاهرا وباطنا أو مؤمن ظاهرا كافر باطنا أو كافر ظاهرا مؤمن باطنا والأقسام الأربعة قد اشتمل عليها الوجود وقد بين القرآن أحكامها فالأقسام الثلاثة الأول ظاهرة وقد اشتمل عليها أول سورة البقرة
فصل في القسم الرابع من هؤلاء أيضا(1/189)
وأما القسم الرابع ففي قوله تعالى فلولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لهم تعلموهم أن تطؤهم فهؤلاء كانوا يكتمون إيمانهم في قومهم ولا يتمكنون من إظهاره ومن هؤلاء مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه ومن هؤلاء النجاشي الذي صلى عليه رسول الله فإنه كان ملك النصارى بالحبشة وكان في الباطن مؤمنا وقد قيل إنه وأمثاله الذين عناهم الله عز وجل بقوله وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا وقوله تعالى من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين فإن هؤلاء ليس المراد بهم التمسك باليهودية والنصرانية بعد محمد قطعا فإن هؤلاء قد شهد لهم بالكفر وأوجب لهم النار فلا يثنى عليهم بهذا الثناء وليس المراد به من آمن من أهل الكتاب ودخل في جملة المؤمنين وباين قومه فإن هؤلاء لا يطلق عليهم إنهم من أهل الكتاب إلا باعتبار ما كانوا عليه وذلك الاعتبار قد زال بالاسلام واستحدثوا اسم المسلمين والمؤمنين وإنما يطلق الله سبحانه هذا الاسم على من هو باق على دين أهل الكتاب هذا هو المعروف في القرآن كقوله تعالى يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم يا أهل
الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ونظائره
ولهذا قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك والحسن وقتادة أن قوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم أنها نزلت في النجاشي زاد الحسن وقتادة وأصحابه(1/190)
وذكر ابن جرير في تفسيره من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة عن ابن المسيب عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال اخرجوا فصلوا على أخيكم فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال هذا النجاشي أصحمة فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية
والمقصود أن الأقسام الأربعة قد ذكرها الله تعالى في كتابه وبين أحكامها في الدنيا وأحكامها في الآخرة وقد تبين أن أحد الأقسام من آمن ظاهرا وكفر باطنا وأنهم نوعان رؤساؤهم وساداتهم وأتباعهم ومقلدوهم وعلى هذا فأصحاب المثل الأول الناري شر من أصحاب المثل الثاني المائي كما يد السياق عليه
وقد يقال وهو أولى أن المثلين لسائر النوع وإنهم قد جمعوا بين مقتضى المثل الأول من الانكار بعد الاقرار والحصول في الظلمات بعد النور وبين مقتضى المثل الثاني من ضعف البصيرة في القرآن وسد الآذان عند سماعه والاعراض عنه فإن المنافقين فيهم هذا وهذا وقد يكون الغالب على فريق منهم المثل الأول وعلى فريق منهم المثل الثاني
فصل في بيان ما اشتمل عليه المثلان المتقدمان
وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة
منها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه وتصديق جازم كان ما معه من النور كالمستعار
ومنها أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها فإذا ذهبت مادة الإيمان طفيء كما تطفأ النار بفراغ مادتها(1/191)
ومنها أن الظلمة نوعان ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور وظلمة حادثة بعد النور وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة فمثلت حاله بحال المستوقد للنار الذي حصل في الظلمة بعد الضوء وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط
ومنها أن في هذا المثل إيذانا وتنبيها على حالهم في الآخرة وأنهم يعطون نارا ظاهرا كما كان نورهم في الدنيا ظاهرا ثم يطفأ ذلك النور أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله ويبقون في الظلمة على الجسر لا يستطيعون العبور فإنه لا يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح وإلا ذهب الله تعالى به أحوج ما كان اليه صاحبه فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار وبحالتهم يوم القيامة عندما يقسم ومن ههنا يعلم السر في قوله تعالى ذهب الله بنورهم ولم يقل أذهب الله نورهم فإن أردت زيادة بيان وإيضاح فتأمل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
وقد سئل عن الورود فقال نجيء نحن يوم القيامة على تل فوق الناس قال فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول ثم يأتينا ربنا تبارك وتعالى بعد ذلك فيقول من تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال فينطلق بهم فيتبعونه ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله تعالى ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فينجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ثم كذلك ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بفناء الجنة ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء وذكر باقي الحديث(1/192)
فتأمل قوله فينطلق فيتبعونه ويعطى كل إنسان منهم نورا المنافق والمؤمن ثم تأمل قوله تعالى ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وتأمل حالهم إذا طفئت أنوارهم فبقوا في الظلمة وقد ذهب المؤمنون في نور إيمانهم يتبعون ربهم عز وجل
وتأمل قوله في حديث الشفاعة لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع كل مشرك إلهه الذي كان يعبده والموحد الحقيق بأن يتبع الاله الحق الذي كان كل معبود سواه باطل وتأمل قوله تعالى يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون وذكر هذه الآية في حديث الشفاعة في هذا الموضع وقوله في الحديث فيكشف عن ساقه وهذه الاضافة يتبين المراد بالساق المذكور في الآية وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه بعد هذا وذلك يفتح لك بابا من أسرار التوحيد وفهم القرآن ومعاملة الله سبحانه وتعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحده ولم يشركوا به شيئا هذه المعاملة التي عامل بمقابلتها
أهل الشرك حيث ذهبت كل أمة مع معبودها فانطلق بها واتبعته إلى النار وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه فسبحان الله رب العالمين الذي قرت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا اليهم
ومنها أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة التي هي الضلال والحيرة التي ضدها الهدى والمثل الثاني متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن فلا هدى ولا أمن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
قال ابن عباس وغيره من السلف مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة خائفا متحيرا كذلك المنافقون باظهار كلمة الايمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف(1/193)
قال مجاهد إضاءة النار لهم إقبالهم إلى المسلمين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة وقد فسرت تلك الإضاءة وذهاب النور بأنها في الدنيا وفسرت بالبرزخ وفسرت بيوم القيامة والصواب أن ذلك شأنهم في الدور الثلاثة فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جوزوا في البرزخ وفي القيامة بمثل حالهم جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد فإن المعاد يعود على العبد فيه ما كان حاصلا له في الدنيا ولهذا يسمى يوم الجزاء ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى
ومن كان مستوحشا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ يوم المعاد أعظم وأشد ومن قرت عينه به في هذه الحياة الدنيا
قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث فيموت العبد على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه ويعود عليه عمله بعينه فينعم به ظاهرا وباطنا فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم وقوة القلب واستبشاره وحياته وانشراحه واغتباطه ما هو أفضل النعيم وأجله وأطيبه وألذه وهل نعيم إلا طيب النفس وفرح القلب وسروره وانشراحه واستبشاره هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه وبلوغه مرتبة الاحسان فيه وبحسب تنوعه فمن تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا وكان مزيده بتنوعها والابتهاج بها والالتذاذ هناك على حسب مزيده من الأعمال وتنوعه فيها من هذه الدار(1/194)
وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثرا وجزاء ولذة وألما يخصه لا يشبه أثر الآخر وجزاه ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة وآلام أهل النار وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم وأخذ منها بنصيب كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها ولا ألم من ضرب في كل مسخوط لله بنصيب وعقوبته كألم من ضرب بسهم واحد من مساخطه
وقد أشار النبي إلى أن كمال ما يستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا فرأى قنوا من حشف معلقا في المسجد للصدقة فقال إن صاحب هذا يأكل الحشف يوم القيامة فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها وهذا الباب يفتح لك أبوابا عظيمة من فهم المعاد وتفاوت الناس في أحواله وما يجري فيه من الأمور فمنها خفة حمل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره فإنه بحسب خفة وزره وثقله إن خف خف وإن ثقل ثقل
ومنها استظلاله بظل العرش أو ضحاؤه للحر والشمس إن كان له من الأعمال الصالحة الخالصة والايمان مما يظله في هذه الدار من حر الشرك والمعاصي والظلم استظل هناك في ظل أعماله تحت عرش الرحمن وإن كان ضاحيا هنا للمعاصي والمخالفات والبدع والفجور ضحى هناك للحر الشديد
ومنها طول وقوفه في الموقف ومشقته عليه وتهوينه عليه إن طال وقوفه في الصلاة ليلا ونهارا لله وتحمل لأجله المشاق في مرضاته وطاعته خف عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه وإن آثر الراحة هنا والدعة والبطالة والنعمة طال عليه الوقوف هناك واشتدت مشقته عليه وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا فمن سبح الله ليلا طويلا لم يكن ذلك اليوم ثقيلا عليه بل كان أخف شيء عليه(1/195)
ومنها أن ثقل ميزانه هناك بحسب تحمل ثقل عمل الحق في هذه الدار لا بحسب مجرد كثرة الأعمال وإنما يثقل الميزان باتباع الحق والصبر عليه وبذله إذا سئل وأخذه إذا بذل كما قال الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما واعلم أن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وله حق بالنهار لا يقبله بالليل واعلم أنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقل ذلك عليهم ولا يستضيء به غيره ولا يمشي أحدا إلا في نور نفسه إن كان له نور مشى في نوره وإن لم يكن له نور أصلا لم ينفعه نور غيره ولما كان المنافق في الدنيا قد حصل له نور ظاهر غير مستمر ولا متصل بباطنه ولا له مادة من الإيمان أعطي في الآخرة نورا ظاهرا لا مادة له ثم يطفأ عنه أحوج ما كان إليه
ومنها أن مشيهم على الصراط في السرعة والبطء بحسب سرعة سيرهم وبطئه على صراط الله المستقيم في الدنيا فأسرعهم سيرا هنا أسرعهم هناك وأبطأهم هنا أبطأهم هناك واشدهم ثباتا على الصراط المستقيم هنا أثبتهم هناك ومن خطفته كلاليب الشهوات والشبهات والبدع المضلة هنا خطفته الكلاليب التي كأنها شوك السعدان هناك ويكون تأثير كلاليب الشهوات والشبهات والبدع فيه هاهنا فناج مسلم ومخدوش مسلم ومخردل أي مقطع بالكلاليب مكردس في النار كما أثر فيهم تلك الكلاليب في الدنيا جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد(1/196)
والمقصود أن الله تبارك وتعالى ضرب لعباده المثلين المائي والناري في سورة البقرة وفي سورة الرعد وفي سورة النور لما تضمن المثلان من الحياة والاضاءة فالمؤمن حي القلب مستنيره والكافر والمنافق ميت القلب مظلمه وقال الله تعالى أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس الآية وقال تعالى وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات فجعل من اهتدى بهداه واستنار بنوره بصيرا حيا في ظل يقيه من حر الشبهات والضلال والبدع والشرك مستنيرا بنوره والآخر أعمى ميتا في حر الكفر والشرك والضلال منغمسا في الظلمات وقال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان الآية
وقد اختلفوا في مفسر الضمير من قوله تعالى ولكن جعلناه نورا فقيل هو الايمان لكونه أقرب المذكورين وقيل هو الكتاب فإنه النور الذي هدى به عباده
قال شيخنا والصواب أنه عائد على الروح المذكور في قوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا الآية فسمى وحيه روحا(1/197)
لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة ومن عدمها فهو ميت لا حي والحياة الأبدية السرمدية في دار النعيم هي ثمرة حياة القلب بهذا الروح الذي أوحى إلى رسوله فمن لم يحيا به في الدنيا فهو ممن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا وأعظم الناس حياة في الدور الثلاث دار الدنيا ودار البرزخ ودار الجزاء أعظمهم نصيبا من الحياة بهذه الروح وسماه روحا في غير موضع من القرآن كقوله تعالى رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن انذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون وسماه نورا لما يحصل به من استنارة القلوب وإضاءتها وكمال الروح بهاتين الصفتين بالحياة والنور ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم والاهتداء بما بعثوا به وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم وإلا فالروح ميتة مظلمة وإن كان العبد مشارا إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام في البحوث فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله وجعله نورا يهدي به من يشاء من عباده وراء ذلك كله فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها وحقها من باطلها وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال ويميز النقد الذي عليه سكة أهل المدينة النبوية الذي لا يقبل الله عز وجل ثمنا لجنته سواه من النقد الذي عليه سكة جنكسخان ونوابه من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة وكل من اتخذ لنفسه سكة وضربا ونقدا يروجه بين العالم فهذه الأثمان كلها زيوف لا يقبل الله سبحانه وتعالى في ثمن جنته شيئا منها بل ترد على عاملها أحوج ما يكون اليها وتكون من الأعمال التي قدم الله تعالى عليها فجعلها هباء منثورا ولصاحبها نصيب وافر من قوله تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين(1/198)
أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله عز وجل أو على غير سنة رسول الله وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم فاتبعوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال والانتصار لهم وفهم ما قالوه وبثه في المجالس والمحاضر وأعرضوا عما جاء به الرسول صفحا ومن به رمق منهم يعيره أدنى التفات طلبا للفضيلة وإما تجريد اتباعه وتحكيمه وتفريغ قوى النفس في طلبه وفهمه وعرض آراء الرجال عليه ورد ما يخالفه منها وقبول ما وافقه ولا يلتفت إلى شيء من آرائهم وأقوالهم إلا إذا أشرقت عليها شمس الوحي وشهد لها بالصحة فهذا أمر لا تكاد ترى أحدا منهم يحدث به نفسه فضلا عن أن يكون أخيته ومطلوبه وهذا الذي لا ينجي سواه فوارحمتا لعبد شقي في طلب العلم واستفرغ فيه قواه واستعد فيه أوقاته وآثره على ما الناس فيه والطريق بينه وبين رسول الله مسدود وقلبه عن المرسل سبحانه وتعالى وتوحيده والانابة إليه والتوكل عليه والتنعم بحبه والسرور بقربه مطرود ومصدود وقد طاف عمره كله على أبواب المذاهب فلم يفز إلا بأخس المطالب سبحان الله إن هي والله إلا فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها وحيرت العقول عن طرق قصدها تربى فيه الصغير وهرم عليه الكبير فظنت خفافيش الأبصار أنها الغاية التي تسابق إليها المتسابقون والنهاية التي تتنافس فيها المتنافسون وهيهات أين الظلام من الضياء وأين الثرى من كوكب الجوزاء وأين الحرور من الظلال وأين طريقة أصحاب اليمين من طريقة أصحاب الشمال وأين القول الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم وأين العلم(1/199)
الذي سنده محمد بن عبد الله عن جبرائيل صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين سبحانه وتعالى من الخوض الخرص الذي سنده شيوخ الضلال من الجهمية والمعتزلة وفلاسفة المشائين بل أين الآراء التي أعلى درجاتها أن تكون عند الضرورة سائغة الاتباع إلى النصوص النبوية الواجب على كل مسلم تحكيمها والتحاكم اليها في موارد النزاع وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحض على النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر وأين الأقوال والآراء التي إذا مات أنصارها والقائمون بها فهي من جملة الأموات إلى النصوص التي لا تزول إلا إذا زالت الأرض والسموات
لقد استبان والله الصبح لمن له عينان ناظرتان وتبين الرشد من الغي لمن له اذنان واعيتان لكن عصفت على القلوب أهوية البدع والشبهات والآراء المختلفات فأطفأت مصابيحها وتحكمت فيها أيدي الشهوات فاغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها وران عليها كسبها وتقليدها لآراء الرجال فلم تجد حقائق القرآن والسنة فيها منقذا وتمكنت فيها اسقام الجهل والتخليط فلم تنتفع معها بصالح الغذاء واعجبا جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تقبل الاغتذاء بكلام الله تعالى ونص نبيه المرفوع واعجبا كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ فيها والصواب وعجزت عن الاهتداء بمطالع الأنوار ومشارقها من السنة والكتاب فأقرت بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من مشكاة السنة والقرآن ثم تلقته من رأي فلان ورأي فلان
سبحان الله ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس الهدى من مشكاتها من الكنوز والذخائر وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر قنعوا بأقوال استنبطوها بمعاول الآراء فكرا وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فاتخذوا الأجل ذلك القرآن مهجورا درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهدة عندهم فليسوا يعمرونها(1/200)
ووقعت أعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها وأفلت كواكبه من آفاقهم فليسوا يبصرونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يثبتونها خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التحريف بالتأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم المخذولة كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فعاملوها بغير ما يليق بها من الاجلال والاكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز(1/201)
قال مالك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز أنزلوا النصوص منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان حرموا والله الوصول بخروجهم عن منهج الوحي وتضييع الأصول وتمسكوا باعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها وتقطعت بهم أسبابهم أحوج ما كانوا اليها حتى إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه وقدموا على ما قدموه وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا ويا عظم المصيبة عندما تبين بوارق آماله وأمانيه خلبا وغرورا فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه سبحانه وتعالى يوم تبلى السرائر وما عذر من نبذ كتاب الله وسنة رسوله وراء ظهره في يوم لا ينفع فيه الظالمين المعاذر أفيظن المعرض عن كتاب الله وسنة رسوله أن ينجو غدا بآراء الرجال ويخلص من مطالبة الله تعالى له بكثرة البحوث والجدال أو ضروب الأقيسة وتنوع الأشكال أو بالشطحات والمشارات وأنواع الخيال هيهات والله لقد ظن أكذب الظن ومنى نفسه أبين المحال وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله تعالى على غيره وتزود التقوى وأتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم واستمسك من التوحيد واتباع الرسول بالعروة الوثقة التي لا انفصام لها والله سميع عليم
قوله تعالى { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون }(1/202)
فتأمل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة وقدر ما بشرك به وضمنه لك على أسهل شيء عليك وأيسره وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه والأزواج جمع زوج والمرأة زوج للرجل وهو زوجها هذا هو الأفصح وهو لغة قريش وبها نزل القرآن كقوله أسكن أنت وزوجك الجنة ومن العرب من يقول زوجة وهو نادر لا يكادون يقولونه وأما المطهرة فإن جرت صفة على الواحد فيجرى صفة على جمع التكسير إجراء له مجرى جماعة كقوله تعالى مساكن طيبة وقرى ظاهرة ونظائره والمطهرة من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر وكل أذى يكون من نساء الدنيا فظهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة وطهر لسانها من الفحش والبذاء وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ قال عبد الله بن المبارك ثنا شعبة عن قتادة عن أبي نظرة عن أبي سعيد عن النبي لهم فيها أزواج مطهرة قال من الحيض والغائط والنخامة والبصاق وقال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس مطهرة لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن وقال ابن عباس أيضا مطهرة من القذر والأذى وقال مجاهد لا يبلن ولا يتغوطن ولا يمذين ولا يمنين ولا يحضن ولا يبصقن ولا يتنخمن ولا يلدن وقال قتادة مطهرة من الإثم والأذى طهرهن الله سبحانه من كل بول وغائط وقذر ومأثم وقال عبد الرحمن بن زيد المطهرة التي لا تحيض وأزواج الدنيا لسن بمطهرات ألا تراهن يدمين ويتركن الصلاة والصيام قال وكذلك خلقت حواء حتى عصت فلما عصت قال الله إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما دميت هذه الشجرة وقال تعالى إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس واستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا(1/203)
يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم ربهم عذاب الجحيم فجمع لهم بين حسن المنزل وحصول الأمن فيه من كل مكروه واشتماله على الثمار والأنهار وحسن اللباس وكمال العشرة لمقابلة بعضهم بعضا وتمام اللذة بالحور العين ودعائهم بجميع أنواع الفاكهة مع أمنهم من انقطاعها ومضرتها وغائلتها وختام ذلك أعلمهم بأنهم لا يذوقون فيها هناك موتا والحور جمع حوراء وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء شديدة سواد العين وقال زيد بن أسلم الحوراء التي يحار فيها الطرف وعين حسان الأعين وقال مجاهد الحوراء التي يحار فيها الطرف من رقة الجلد وصفاء اللون وقال الحسن الحوراء شديدة بياض العين شديدة سواد العين واختلف في اشتقاق هذه اللفظة فقال ابن عباس الحور في كلام العرب البيض وكذلك قال قتادة الحور البيض وقال مقاتل الحور البيض الوجوه وقال مجاهد الحور العين التي يحار فيهن الطرف باديا مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون وهذا من الإتفاق وليست اللفظة مشتقة من الحيرة وأصل الحور البياض والتحوير التبييض والصحيح أن الحور مأخوذ من الحور في العين وهو شدة بياضها مع قوة سوادها فهو يتضمن الأمرين وفي الصحاح الحور شدة بياض العين في شدة سوادها امرأة حوراء بينة الحور وقال أبو عمرو الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر وليس في بني آدم حور وإنما قيل للنساء حور العين لأنهن شبهن بالظباء والبقر وقال الأصمعي ما أدري ما الحور في العين قلت خالف أبو عمرو أهل اللغة في اشتقاق اللفظة ورد الحور إلى السواد والناس غيره إنما ردوه إلى البياض أو إلى بياض في سواد والحور في العين معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما واكتساب كل واحد منهما الحسن من الآخر عين حوراء إذا اشتد بياض أبيضها وسواد أسودها ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد والعين جمع عيناء وهي(1/204)
العظيمة العين من النساء ورجل أعين إذا كان ضخم العين وامرأة عيناء
والجمعت والجمع عين والصحيح أن العين اللاتي جمعت أعينهن صفات الحسن والملاحة قال مقاتل العين حسان الاعين ومن محاسن المرأة اتساع عينها في طول و ضيق العين في المرأة من العيون و إنما يستحب الضيق منها في أربعة مواضع فيها وخرق أذنها وانفها وما هنالك ويستحب السعة منها في أربعة مواضع ووجهها وصدرها وكأهلها وهو ما بين كتفيها وجبهتها ويستحسن البياض منها في أربعة مواضع لونها وفرقها وثغرها وبياض عينها ويستحب السواد منها في أربعة مواضع عينها وحاجبها وهدبها وشعرها ويستحب الطول منها في أربعة قوامها وعنقها وشعرها وبنانها ويستحب القصر منها في أربعة وهي معنوية لسانها ويدها ورجلها وعينها فتكون قاصر الطرف قصيرة الرجل واللسان عن الخروج وكثرة الكلام قصيرة اليد عن تناول ما يكره الزوج وعن بذله وتستحب الرقة منها في أربعة خصرها وفرقها وحاجبها وانفها فصل(1/205)
وقوله تعالى وزوجناهم بحور عين قال أبو عبيدة جعلناهم أزواجا كما يزوج النعل بالنعل جعلناهم اثنين اثنين وقال يونس قرناهم بهن وليس من عقد التزويج قال والعرب لا تقول تزوجت بها و إنما تقول تزوجتها قال بن نصر هذا والتنزيل يدل على ما قاله يونس وذلك قوله تعالى فلما قضى زيدا منها وطرا زوجناكها ولو كان على تزوجت بها لقال زوجناك بها وقال ابن سلام تميم تقول تزوجت امرأة وتزوجت بها وحكها الكسائي أيضا وقال الأزهري تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة وليس من كلامهم تزوجت بامرأة وقوله تعالى وزوجناهم بحور عين أي قرناهم وقال الفراء هي لغة في ازدشنؤة قال الواحدي وقال أبي عبيدة في هذا احسن لانه جعله من التزويج الذي هو بمعنى جعل الشيء زوجا لا بمعنى عقد النكاح ومن هذا يجوز أن يقال كان فردا فزوجته بآخر كما يقال شفعته بآخر و إنما تمتنع الباء عند من يمنعها إذا كان بمعنى عقد التزويج قلت ولا يمتنع أن يراد الأمران معا فلفظ التزويج يدل على النكاح كما قال مجاهد أنكحناهم الحور ولفظ الباء تدل على الاقتران والضم وهذا ابلغ من حذفها والله اعلم وقال تعالى فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان وصفهن سبحانه بقصر الطرف في ثلاثة مواضع(1/206)
أحدها هذا والثاني قوله تعالى في الصافات وعندهم قاصرات الطرف عين والثالث قوله تعالى في ص وعندهم قاصرات الطرف أتراب والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم وقيل قصرن طرف أزواجهن كلهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن وهذا صحيح من جهة المعنى واما من جهةاللفظ فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل لحسان الوجوه واصله قاصر طرفهن أي لبس بطامح متعد قال آدم حدثنا ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله قاصرات الطرف قال يقول قاصرات الطرف على أزواجهن فلا يبغين غير أزواجهن قال آدم وحدثنا المبارك بن فضلة عن الحسن قال قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم والله ما هن متبرجات ولا متطلعات وقال منصور عن مجاهد قصرن أبصارهن وقلوبهن و أنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم وفي تفسير سعيد عن قتادة قال وقصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم و أما الأتراب فجمع ترب وهو لذة الإنسان قال أبو عبيدة و أبو إسحاق أقران أسنانهن واحدة قال ابن عباس وسائر المفسرين مستويات على سن واحد وميلاد واحد وبنات ثلاث وثلاثين سنة وقال مجاهد أتراب أمثال قال إسحاق هن في غاية الشباب والحسن وسمي سن الإنسان وقرنه تربه لانه مس تراب الأرض معه في وقت واحد والمعنى من الأخبار باستواء أسنانهن أنهن ليس فيهن عجائز قد فات حسنهن ولا ولائد لا يقطن الوطء بخلاف الذكور فان فيهم الولدان وهم الخدم وقد اختلف في مفسر الضمير في قوله فيهن فقالت طائفة مفسره الجنتان وما حوتاه من القصور والغرف والخيام وقالت طائفة مفسره الفرش المذكورة في قوله متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وفي بمعنى على وقوله تعالى لم يطمثهن انس قبلهن ولا جان قال أبو عبيدة لم يمسهن يقال ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه وقال يونس تقول العرب هذا جمل ما طمثه حبل قط أي ما مسه وقال الفراء الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية والطمث هو الدم وفيه لغتان طمث يطمث(1/207)
ويطمث قال الليث طمثت الجارية إذا افتر عتها والطامث في لغتهم هي الحائض قال أبو الهيثم يقال للمرأة طمثت تطمث إذا أدميت بالافتضاض وطمثت على فعلت تطمث إذا حاضت أول ما تحيض فهي طامث وقال في قول الفرزدق
خرجن إلى لم يطمثن قبلي ... وهن اصح من بيض النعام
أي لم يمسسن قال المفسرون لم يطأهنولم يغشهن يجاملهم ولم يغشين ولم يجامعن هذه ألفاظهم وهم مختلفون في هؤلاء فبعضهم يقول هن اللواتي أنشئن في الجنة من حورها وبعضهم يقول يعني نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر ابكارا كما وصفن قال الشعبي نساء من نساء الدنيا لم يمسسن منذ انشئن خلقا وقال مقاتل لأنهن خلقن في الجنة وقال عطاء عن ابن عباس هن الآدميات اللاتي متن أبكارا وقال الكلبي لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه انس ولا جان قلت ظاهر القران أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا وانما هن من الحور حور العين و أما نساء الدنيا فقد طمثهن الإنس ونساء الجن قد طمثهن الجن والاية تدل على ذلك قال أبو إسحاق وفي الآية دليل على أن الجن يغشي كما أن الأنس يغشى ويدل على أنهن الحور اللاتي خلقن في الجنة انه سبحانه جعلهن مما أعده الله في الجنة لأهلها من الفاكهة والثمار و الأنهار والملابس وغيرها ويدل عليه أيضا الآية التي بعدها وهي قوله تعالى حور مقصورات في الخيام ثم قال لم يطمثن انس قبلهم ولا جان قال الإمام احمد والحور العين لا يمتن عند النفخة للصور لأنهن خلقن للبقاء وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور أن مؤمن الجن في الجنة كما أن كافرهم في النار وبوب عليه البخاري في صحيحه فقال باب ثواب الجن وعقابهم ونص عليه غير واحد من السلف قال ضمرة بن حبيب وقد سئل هل للجن ثواب فقال نعم وقرا هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على احليله فجامع معه والضمير في قوله قبلهم للمعنيين بقوله متكئين وهم أزواج هؤلاء النسوة(1/208)
وقوله كأنهم الياقوت والمرجان قال الحسن وعامة المفسرين أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان شبههن في صفاء اللون وبياضه وبالياقوت والمرجان ويدل عليه ما قاله عبد الله ان المرأة من النساء أهل الجنة لتلبس عليها سبعين حلة من حرير فيرى بياض ساقيها من ورائهن ذلك بان الله يقول كأنهن الياقوت والمرجان إلا وان الياقوت حجر لو جعلت فيه سلكا ثم استصفيته نظرت إلى السلك من وراء الحجر فصل
وقال تعالى في وصفهن حور مقصورات في الخيام المقصورات المحبوسات
قال أبو عبيدة خدرن في الخيام وكذلك قال مقاتل وفيه معنى آخر وهو ان يكون المراد أنهن محبوسات على أزواجهن لا يرون غيرهم وهم في الخيام وهذا معنى قول من قال قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم ولا يطمحن إلى من سواهم وذكره الفراء قلت وهذا معنى قاصرات الطرف ولكن أولئك قاصرات بأنفسهن وهؤلاء مقصورات وقوله في الخيام على هذا القول صفة لحور أي هن في الخيام وليس معمولا لمقصورات وكأن ارباب هذا القول فسروا بان يكن محبوسات في الخيام وليس لا تفارقنها إلى الغرف والبساتين و أصحاب القول الأول يجيبون عن هذا بان الله سبحانه وصفهن بصفات النساء المخدرات المصونات وذلك اجمل في الوصف ولا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين كما أن النساء الملوك ودونهم من النساء المخدرات المصونات لا يمنعن ان يخرجن في سفر و غيره إلى منتزه وبستان ونحوه فوصفهن اللازم لهن القصر في البيت ويعرض لهن مع الخدم الخروج إلى البساتين ونحوها و أما مجاهد فقال مقصورات قلوبهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ وقد تقدم وصف النسوة الأول بكونهن قاصرات الطرف وهؤلاء بكونهن مقصورات والوصفان لكلا النوعين فانهما صفتا كمال فتلك الصفة قصر الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج وهذه الصفة قصر الرجل على التبرج والبروز والظهور للرجال فصل(1/209)
وقال تعالى فيهن خيرات حسان فالخيرات جمع خيرة وهي مخففة من خيره كسيدة ولينة وحسان جمع حسنة فهن خيرات الصفات والاخلاق والشيم وحسان الوجوه قال وكيع حدثنا سفيان عن جابر عن القاسم عن ابي بزة عن ابي عبيدة عن مسروق عن عبد الله قال لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة اربعة ابواب يدخل عليها في كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك لا ترحات ولا ذفرات ولا بخرات ولا صماحات فصل
وقال تعالى انا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا وأترابا لاصحاب اليمين أعاد الضمير إلى النساء ولم يجر لهن ذكر لان الفرش دلت عليهن اذ هي محلهن(1/210)
155 - وقيل الفرش في قوله وفرش مرفوعة كناية عن النساء كما يكنى عنهن بالقوارير و الأزر وغيرها ولكن قوله مرفوعة يأبى هذا إلا أن يقال المراد رفعة القدر وقد تقدم تفسير النبي للفرش وارتفاعها فالصواب أنها الفرش نفسها ودلت على النساء لأنها محلهن غالبا قال قتادة وسعيد بن جبير خلقناهن خلقا جديدا وقال ابن عباس يريد نساء الآدميات وقال الكلبي ومقاتل يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط يقول تعالى خلقناهن بعد الكبر والهرم وبعد الخلق الأول في الدنيا ويؤيد هذا التفسير حديث انس المرفوع هن عجائزكم العمش الرمض رواه الثوري عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عنه ويؤيده ما رواه يحيى الحماني حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد عن عائشة أن رسول دخل عليها وعندها عجوز فقال من هذه فقالت إحدى خالاتي قال إما انه لا يدخل الجنة العجوز فدخل على العجوز من ذلك ما شاء الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم انا أنشأناهن إنشاء خلقا آخر يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا واول من يكسى ابراهيم خليل الله ثم قرا النبي صلى الله عليه وسلم انا انشاناهن انشاء قال ادم بن ابي اياس حدثنا شيبان عن الزهري عن جابر الجعفي عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله انا أنشأناهن إنشاء قال يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا قال ادم وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة العجز فبكت عجوز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبروها انها يومئذ ليست بعجوز انها يومئذ شابة ان الله عز وجل يقول انا أنشأناهن إنشاء وقال ابن ابي شيبة حدثنا احمد بن طارق حدثنا مسعدة بن اليسع حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن سعيد ابن المسيب عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم إن الجنة(1/211)
لا يدخلها عجوز فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة فقال صلى الله عليه وسلم أن ذلك كذلك إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا وذكر مقاتل قولا آخر وهو اختيار الزجاج إنهن الحور العين التي ذكرهن قيل انشأهن الله عز
156 - وجل لأوليائهم لهم يقع عليهن ولادة والظاهر أن المراد أنشأهن الله تعالى في الجنة إنشاء ويدل عليه وجوه أحدها انه قد قال في حق السابقين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب إلى قوله كأمثال اللؤلؤ المكنون فذكر سردهم و آنيتهم وشرابهم وفاكهتهم وطعامهم و أزواجهم والحور العين ثم ذكر أصحاب الميمنة وطعامهم وشرابهم وفراشهم ونساءهم والظاهر انهن مثل نساء من قبلهم خلقن في الجنة الثاني أنه سبحانه قال أنشأناهن إنشاء وهذا ظاهر انه إنشاء أول لا ثان لانه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثاني يقيده بذلك كقوله وان عليه النشأة الأخرى وقوله ولقد علمتم النشأة الأولى الثالث إن الخطاب بقوله وكنتم أزواجا إلى آخر للذكور و الإناث و النشأة الثانية أيضا عامة للنوعين وقوله انا أنشأناهن إنشاء ظاهره اختصاصهن بهذا الإنشاء و تأمل تأكيده بالمصدر والحديث لا يدل على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف بل يدل على مشاركتهن للحور العين في هذه الصفات المذكورة فلا يتوهم انفراد الحور العين عنهن بما ذكر من الصفات بل هي احق به منهن فالانشاء واقع على الصنفين والله اعلم وقوله عربا جمع عروب وهن المتحببات إلى ازواجهن قال ابن الاعرابي العروب من النساء المطيعة لزوجها المتحببة اليه وقال ابو عبيدة العروب الحسنة التبعل قلت يريد حسن مواقعها وملاطفتها لزوجها عند الجماع وقال المبرد هي العاشقة لزوجها وانشد للبيد
وفي الحدوج عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشي دونها البصر(1/212)
وذكر لمفسرون في تفسير العرب انهن العواشق المتحببات الغنجات الشكلات المتعشقات الغلمات المغنوجات كل ذلك من الفاظهم وقال البخاري في صحيحه عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر وتسميها أهل مكة العربة وأهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة والعرب والمتحببات إلى ازواجهن هكذا ذكره في كتاب بدء الخلق وقال في كتاب التفسير في سورة الواقعة عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر تسميها أهل مكة العربة و أهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة قلت فجمع سبحانه بين حسن صورتها وحسن عشرتها وهذا غاية ما يطلب من النساء وبه تكمل لذة الرجل بهن وفي قوله لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان إعلام بكمال اللذة بهن فان لذة الرجل بالمرأة التي لم يطاها سواه
لها فضل على لذته بغيرها وكذلك هي أيضا
أهـ { حادى الأرواح حـ صـ 149 ـ صـ157 }
فصل
وأما الأزواج فجمع زوج وقد يقال زوجة والأول أفصح وبها جاء القرآن
قال تعالى يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة البقرة 35
وقال تعالى في حق زكريا عليه السلام وأصلحنا له زوجه الأنبياء 90
ومن الثاني قول ابن عباس رضي الله عنهما في عائشة رضي الله عنها إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة
وقال الفرزدق
وإن الذي يبغي ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقد يجمع على زوجات وهذا إنما هو جمع زوجة وإلا فجمع زوج أزواج
قال تعالى هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون يس 56
وقال تعالى أنتم وأزواجكم تحبرون الزخرف 70
وقد وقع في القرآن الإخبار عن أهل الإيمان بلفظ الزوج مفردا وجمعا كما تقدم
وقال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم الأحزاب 6
وقال تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك الأحزاب 59
والإخبار عن أهل الشرك بلفظ المرأة
قال تعالى تبت يدا أبي لهب إلى قوله وامرأته حمالة الحطب المسد 1 4(1/213)
وقال تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط التحريم 10 فلما كانتا مشركتين أوقع عليهما اسم المرأة وقال في فرعون وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون التحريم 11 لما كان هو المشرك وهي مؤمنة لم يسمها زوجا له
وقال في حق آدم اسكن أنت وزوجك الجنة
وقال للنبي إنا أحللنا لك أزواجك الأحزاب 50
وقال في حق المؤمنين ولهم فيها أزواج مطهرة البقرة 25
فقالت طائفة منهم السهيلي وغيره إنما لم يقل في حق هؤلاء الأزواج لأنهن لسن بأزواج لرجالهم في الآخرة ولأن التزويج حلية شرعية وهو من أمر الدين فجرد الكافرة منه كما جرد منها امرأة نوح وامرأة لوط
ثم أورد السهيلي على نفسه قول زكريا عليه السلام وكانت امرأتي عاقرا مريم 5
وقوله تعالى عن إبراهيم فأقبلت امرأته في صرة الذاريات 29
وأجاب بأن ذكر المرأة أليق في هذه المواضع لأنه في سياق ذكر الحمل والولادة فذكر المرأة أولى به لأن الصفة التي هي الأنوثة هي المقتضية للحمل والوضع لا من حيث كانت زوجا
قلت ولو قيل إن السر في ذكر المؤمنين ونسائهم بلفظ الأزواج أن هذا اللفظ مشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران كما هو المفهوم من لفظه فإن الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان أو المتساويان ومنه قوله تعالى احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الصافات 22
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أزواجهم أشباههم ونظراؤهم
وقاله الإمام أحمد أيضا
ومنه قوله تعالى وإذا النفوس زوجت التكوير 7 أي قرن بين كل شكل وشكله في النعيم والعذاب
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الآية الصالح مع الصالح في الجنة والفاجر مع الفاجر في النار
وقاله الحسن وقتادة والأكثرون
وقيل زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين وأنفس الكافرين بالشياطين وهو راجع إلى القول الأول(1/214)
قال تعالى ثمانية أزواج الأنعام 143 ثم فسرها من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين الأنعام 143 144 فجعل الزوجين هما الفردان من نوع واحد
ومنه قولهم زوجا خف وزوجا حمام ونحوه
ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى قطع المشابهة والمشاكلة بين الكافر والمؤمن
قال تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة الحشر 20
وقال تعالى في حق مؤمني أهل الكتاب وكافرهم ليسوا سواء من أهل الكتاب الآية آل عمران 113 وقطع المقارنة سبحانه بينهما في أحكام الدنيا فلا يتوارثان ولا يتناكحان ولا يتولى أحدهما صاحبه فكما انقطعت الوصلة بينهما في المعنى انقطعت في الاسم فأضاف فيها المرأة بلفظ الأنوثة المجرد دون لفظ المشاكلة والمشابهة
وتأمل هذا المعنى تجده أشد مطابقة لألفاظ القرآن ومعانيه ولهذا وقع على المسلمة امرأة الكافر وعلى الكافرة امرأة المؤمن لفظ المرأة دون الزوجة تحقيقا لهذا المعنى والله أعلم
وهذا أولى من قول من قال إنما سمى صاحبة أبي لهب امرأته ولم يقل لها زوجته لأن أنكحة الكفار لا يثبت لها حكم الصحة بخلاف أنكحة أهل الإسلام فإن هذا باطل بإطلاقه اسم المرأة على امرأة نوح وامرأة لوط مع صحة ذلك النكاح
وتأمل في هذا المعنى في آية المواريث وتعليقه سبحانه التوارث بلفظ الزوجة دون المرأة كما في قوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم النساء 12 إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب فلا يقع بينهما التوارث
وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين
أهـ { جلاء الأفهام صـ 229 ـ صـ 233 }
الباب الثاني في اختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم عليه الصلاة(1/215)
والسلام وأهبط منها هل هي جنة الخلد أو جنة أخرى غيرها في موضع عال من الأرض قال منذر أبن سعيد في تفسير قوله تعالى أسكن أنت وزوجك الجنة فقالت طائفة أسكن الله آدم جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة وقال آخرون هي جنة غيرها جعلها الله له وأسكنه إياها ليست جنة الخلد قال وهذا قول تكثر الدلائل الشاهدة له والموجبة للقول به وقال أبو الحسن الماوردي في تفسيره واختلف الناس في الجنة التي أسكناها على قولين أحدهما أنها جنة الخلد الثاني أنها جنة أعدها الله تعالى لهما وجعلها ابتلاء وليست هي جنة الخلد التي جعلها دار جزاء ومن قال بهذا اختلفوا فيه قولين أحدهما أنها في السماء لأنه أهبطهما منها وهذا قول الحسن الثاني أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار وهذا قول أبن بحر وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام والله اعلم بصواب ذلك هذا كلامه وقال ابن الخطيب في تفسيره المشهور واختلفوا في الجنة المذكورة في هذه الآية هل كانت في الأرض أو في السماء وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب وجنة الخلد أو جنة أخرى فقال ابو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصبهاني هذه الجنة في الأرض وجملا الأهباط على الأنتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله أهبطوا مصرا واحتجا عليه بوجوده القول الثاني وهو قول الجبائي أن تلك الجنة التي كانت في السماء السابعة والقول الثالث وهو قول جمهور أصحابنا أن هذه الجنة هي دار الثواب وقال أبو القاسم الراغب في تفسيره واختلف في الجنة التي أسكنها آدم فقال بعض المتكلمين كان بستانا جعله الله تعالى له امتحانا ولم يكن جنة المآوى وذكر بعض الاستدلال على القولين وممن ذكر الخلاف أيضا أبو عيسى الرماني في تفسيره واختار أنها جنة الخلد ثم قال والمذهب الذي إخترناه قول الحسن وعمرو وواصل واكثر أصحابنا وهو قول أبي علي وشيخنا(1/216)
أبي بكر وعليه أهل التفسير وأختار أبن الخطيب التوقف في المسألة وجعله قولا رابعا فقال والقول الرابع أن لكل ممكن والإدلة متعارضة فوجب التوقف وترك القطع قال منذر بن سعيد والقول
بإنها جنة في الأرض ليست جنة الخلد قول أبي حنيفة وأصحابه قال وقد رأيت أقواما نهضوا لمخالفتنا في جنة آ4دم عليه السلام بتصويب مذهبهم من غير حجة إلا الدعاوي والأماني ما أتوا بحجة من كتاب ولا سنة ولا اثر عن صاحب ولا تابع ولا تابع التابع ولا موصولا ولا شاذا مشهورا وقد أوجدناهم أن فقيه العراق ومن قال بقوله قالوا أن جنة آدم ليست جنة الخلد وهذه الدواوين مشحونة من علومهم ليسوا عند أحد من الشاذين بل بين رؤساء المخالفين وإنما قلت هذا ليعلم اني لا انصر مذهب أبي حنيفة وإنما أنصر ما قام لي عليه الدليل من القرآن والسنة هذا أبن زيد المالكي يقول في تفسيره سألت أبن نافع عن الجنة أمخلوقة هي فقال السكوت عن الكلام في هذا أفضل وهذا أبن عيينة يقول في قوله عز وجل إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى قال يعني في الأرض وابن نافع وامام وأبن عيينة امام وهو لا يأتوننا بمثلهما ولا من يضاد قوله لهما وهذا ابن قتيبة ذكر في كتاب المعارف بعد ذكره خلق الله لآدم وزوجه قال ثم تركتهما وقال أثمروا واكثروا وأملؤا الأرض وتسلطوا على انوان البحور وطير السماء والأنعام وعشب الأرض وشجرها وثمرها فأخبر ان في الرض خلقه وفيها امره ثم قال ونصب الفردوس فانقسم على أربعة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات ثم ذكر الحية فقال وكانت أعظم دواب البر فقالت للمراة أنكالا تموتان إن أكلتما من هذه الشجرة ثم قال بعد كلام ثم اخرجه من مشرق جنة عدن إلى الأرض التي منها أخذ ثم قال قال وهب وكان مهبطه حين أهبط من جنة عدن في شرقي أرض الهند قال واحتمل قابيل أخاه حتى اتى به واديا من اودية اليمن في شرقي عدن فكمن فيه وقال غيره فيما نقل أبو صالح عن أبن عباس في قوله أهبطوا هو كما يقال هبط(1/217)
فلان أرض كذا وكذا قال منذر بن سعيد فهذا وهب بن منبه يحكي أن آدم عليه السلام خلق في الأرض وفيها سكن وفيها نصب له الفردوس وإنه كان بعدن وإن أربعة أنهار أنقسمت من ذلك النهر الذي كان يسمى فردوس آدم وتلك الأنهار بقيت في الأرض لاختلاف بين المسلمين في ذلك فاعتبروا يا اولي الألباب وأخبر ان الحية التي كلمت آدم كانت من أعظم دواب البر ولم يقل من أعظم دواب السماء فهم يقولون إن الجنة لم تكن في الأرض وإنما كانت فوق السماء السابعة ثم قال وأخرجه من مشرق جنة عدن وليس في جنة المآوى مشرق ولا مغرب لأنه
لا شمس فيها ثم قال وأخرجه إلى الأرض التي اخذ منها يعني أخرجه من الفردوس الذي نصب له في عدن في شرقي أرض الهند وهذه الأخبار التي حكى ابن قتيبة إنما تنبئ عن أرض اليمن وعن عدن وهي من أرض اليمن وأخبر أن الله نصب الفردوس لآدم عليه السلام بعدن ثم أكد ذلك بأن قال أربعة الأنهار التي ذكرناها منقسمة عن النهر الذي كان يسمى فردوس آدم قال منذر وقال ابن قتيبة عن ابن منبه عن أبي هريرة قال واشتهى آدم عند موته قطفا من الجنة التي كان فيها بزعمهم على ظهر السماء السابعة وهو في الأرض فخرج أولاده يطلبون ذلك له حتى بلغتهم الملائكة موته فأولاد آدم كانوا مجانين عندكم إن كان ما نقله إبن قتيبة حقا يطلبون لابيهم ثمر جنة الخلد في الأرض قال ونحن لم نقل غير ما قال هؤلاء ولو كانت جنة الخلد فيها ونحن استدللنا من القرآن وغيرنا قطع وادعى بما ليس له عليه برهان فهذا ذكر بعض أقوال من حكى الخلاف في هذه المسئلة ونحن نسوق حجج الفريقين إن شاء الله تعالى ونبين لهم ما لهم وما عليهم
الباب الثالث في سياق حجج من اختار أنها جنة الخلد التي يدخلها الناس(1/218)
يوم القيامة قالوا قولنا هذا هو الذي فطر الله عليه الناس صغيرهم وكبيرهم لم يخطر بقلوبهم سواه وأكثرهم لا يعلم في ذلك نزاعا قالوا وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبي حازم عن أبي هريرة وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة قالا قال رسول الله يجمع الله تعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم وذكر الحديث قالوا وهذا يدل على أن الجنة التي أخرج منها هي بعينها التي يطلب منه أن يستفتحها وفي الصحيحين حديث احتجاج آدم وموسى وقول موسى أخرجتنا ونفسك من الجنة ولو كانت في الأرض فهم قد خرجوا من بساتين فلم يخرجوا من الجنة وكذلك قول آدم للمؤمنين يوم القيامة وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم وخطيئته لم تخرجهم من جنات الدنيا قالوا وقد قال تعالى في سورة البقرة وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما(1/219)
كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فهذا يدل على أن هبوطهم كان من الجنة إلى الأرض من وجهين أحدهما من لفظة اهبطوا فإنه نزول من علو إلى اسفل والثاني قوله ولكم في الأرض مستقر عقب قوله اهبطوا فدل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض ثم أكد هذا بقوله في سورة الأعراف قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ولو كانت الجنة في الأرض لكانت حياتهم فيها قبل الأخراج وبعد قالوا وقد وصف سبحانه جنة آدم بصفات لا تكون إلا في جنة الخلد فقال إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنت لا تظمأ فيها ولا تضحى وهذا لا يكون في الدنيا أصلا فأن الرجل ولو كان أطيب منازلها لا بد أن يعرض له شيء من ذلك وقابل سبحانه بين الجوع والظمأ والعرى والضحى فإن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر والظمأ حر الباطن والضحى حر الظاهر فنفى عن سكانها ذل الظاهر والباطن وحر الظاهر والباطن وذلك احسن من المقابلة بين الجوع والعطش والعري والضحى وهذا شأن ساكن جنة الخلد قالوا وأيضا فلو كانت تلك الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فإن آدم كان يعلم إن الدنيا منقضية فانية وإن ملكها يبلى قالوا وأيضا هذه القصة في سورة البقرة ظاهرة جدا في أن الجنة التي اخرج منها فوق السماء فإنه سبحانه قال وإذا قلنا للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم فهذا اهباط آدم وحواء وإبليس من الجنة فلهذا أتى فيه بضمير الجمع وقد قيل إن الخطاب لهما وللحية وهذا ضعيف جدا إذ لا ذكر للحية في شيء من قصة آدم ولا في السياق(1/220)
ما يدل عليها وقيل الخطاب لآدم وحواء وأتى فيه بضمير الجمع كقوله وكنا لحكمهم شاهدين وهما داود وسليمان وقيل لآدم وحواء وذريتهما وهذه الأقوال ضعيفة غير الأول لأنها قول لا دليل عليه بين ما يدل اللفظ على خلافه فثبت أن إبليس داخل في هذا الخطاب وانه من
المهبطين فإذا تقرر هذا فقد ذكر سبحانه الإهباط ثانيا بقوله قلنا إهبطوا منها جميعا فأما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والظاهر أن هذا الأهباط الثاني في غير الأول وهو اهباط من السماء إلى الأرض والأول اهباط من الجنة وحينئذ فتكون الجنة التي اهبط منها أولا فوق السماء جنة الخلد وقد ظن الزمخشري أن قوله اهبطوا منها جميعا خطاب لآدم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما قال والدليل عليه قوله تعالى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو قال ويدل على ذلك قوله فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم ومعنى قوله بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم بعضا وهذا الذي اختاره أضعف الأقوال في الاية فإن العداوة التي ذكرها الله تعالى إنما هي بين آدم وإبليس وذريتهما كما قال الله تعالى إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وهو سبحانه قد أكد أمر العداوة بين الشيطان والإنسان واعاد وأبدى ذكرها في القرآن لشدة الحاجة إلى التحرز من هذا العدو وأما آدم وزوجته فإنه إنما أخبر في كتابه أنه خلقها ليسكن إليها وجعل بينهما مودة ورحمة فالمودة والرحمة بين الرجل وامرأته والعداوة بين الإنسان والشيطان وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس وهو ثلاثة فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام دون جميعه مع أن اللفظ والمعنى يقتضيه فلم يصنع الزمخشري شيئا وأما قوله تعالى في سورة طه قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو وهذا خطاب لآدم(1/221)
وحواء وقد جعل بعضهم لبعض عداوا فالضمير في قوله اهبطا منها أما أن يرجع إلى آدم وزوجته أو إلى آدم وإبليس ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له وعلى هذا فلعداوة المذكورة للمتخاطبين بالاهباط وهما آدم وإبليس فالأمر ظاهر وأما على الأول فتكون الآية قد اشتملت على أمرين أحدهما أمره تعالى لا لآدم وزوجه بالهبوط والثاني إخباره بالعداوة بين آدم وزوجته وبين إبليس ولهذا أتى الضمير الجمع في الثاني دون الأول ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى إن هذا عدو لك ولزوجك وقال للذرية إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير(1/222)
الجمع دون التثنية وأما الاهباط فتارة يذكره بلفظ الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة بلفظ الأفراد كقوله في سورة الأعراف قال اهبط منها وكذلك في سورة ص وهذا لإبليس وحده وحيث ورد بصيغة الجمع فهو لآدم وزوجه وإبليس إذ مدار القصة عليهم وحيث ورد بلفظ التثنية فأما أن يكون لآدم وزوجه اذهما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية وإما أن يكون لآدم وإبليس اذ هما أبوا الثقلين وأصلا الذرية فذكر حالهما ومآل أمرهما ليكون عظة وعبرة لأولادهما وقد حكيت القولين في ذلك والذي يوضح أن الضمير في قوله اهبطا منها جميعا لآدم وإبليس إن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم دون زوجه فقال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا وهذا يدل على أن المخاطب بالاهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا فإن المقصود إخبار الله تعالى للثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر فذكر أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط وقد اخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم وأخبر أنه اهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة فعلم أن حكم الزوجة كذلك وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريده إلى ذكر أبي الأنس وأمهم فتأمله(1/223)
وبالجملة فقوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ظاهر في الجمع فلا يسوغ حمله على الأثنين في قوله اهبطا من غير موجب قالوا وأيضا فالجنة جاءت معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله أسكن أنت وزوجك الجنة ونظائره ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها الأجنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة كالمدينة والنجم والبيت والكتاب ونظائرها فحيث ورد لفظها معرفا انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين وأما أن أريد به جنة غيرها فإنها تجيء منكرة أو مقيدة بالإضافة أو مقيدة من السياق بما يدل على أنها جنة في الأرض فالأول كقوله جنتين من أعناب والثاني كقوله ولولا إذ دخلت جنتك والثالث كقوله أنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة قالوا مما يدل على أن جنة آدم هي جنة المآوى ما روى هوذة بن خليفة عن عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري قال إن الله تعالى لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة وعلمه صنعة كل شيء
فثماركم هذه من ثمار الجنة غير إن هذه تتغير وتلك لا تتغير قالوا وقد ضمن الله سبحانه وتعالى له إن تاب إليه وأناب أن يعيده إليها كما روى المنهال عن سعيد أبن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال يا رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال أي رب ألم تنفخ في من روحك قال بلى قال أي رب ألم تسكني جنتك قال بلى قال أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال أرأيت أن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال بلى قال فهو قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وله طرق عن ابن عباس وفي بعضها كان آدم قال لربه إذا عصاه رب أن أنا تبت وأصلحت فقال له ربه إني راجعك إلى الجنة فهذا بعض ما احتج به القائلون بأنها جنة الخلد ونحن نسوق حجج الآخرين
الباب الرابع في سياق حجج الطائفة التي قالت ليست جنة الخلد وإنما هي(1/224)
جنة في الأرض قالوا هذا قول تكثر الدلائل الموجبة للقول به فنذكر بعضها قالوا قد أخبر الله سبحانه على لسان جميع رسله أن جنة الخلد أنما يكون الدخول إليها يوم القيامة ولم يأت زمن دخولها بعد وقد وصفها الله سبحانه وتعالى لنا في كتابة بصفاتها ومحال أن يصف الله سبحانه وتعالى شيئا بصفته ثم يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي وصفه بها قالوا فوجدنا الله تعالى وصف الجنة التي اعدت للمتقين بإنها دار المقامة فمن دخلها أقام بها ولم يقم آدم بالجنة التي دخلها ووصفها بإنها جنة الخلد وآدم لم يخلد فيها ووصفها بأنها دار ثواب وجزاء لا دار تكليف وأمر ونهى ووصفها بأنها دار سلامة مطلقة لا دار ابتلاء وامتحان وقد ابتلى آدم فيها بأعظم الابتلاء ووصفها بأنها دار لا يعصي الله فيها أبدا وقد عصى آدم ربه في جنته التي دخلها ووصفها بأنها ليست دار خوف ولا حزن وقد حصل للأبوين فيها من الخوف والحزن ما حصل وسماها دار السلام ولم يسلم فيها الأبوان من الفتنة ودار القرار ولم يستقر فيها وقال في داخلها وما هم منها بمخرجين وقد اخرج منها الأبوان وقال لا يمسهم فيها نصب وقد ند فيها آدم هاربا فارا وطفق يخصف ورق الجنة على نفسه وهذا النصب بعينه وأخبر أنه لالغو فيها ولا تأثيم وقد سمع فيها آدم لغو إبليس وإثمه وأخبر أنه لا يسمع فيها لغو ولا كذاب وقد سمع فيها آدم عليه السلام كذب(1/225)
إبليس وقد سماها الله سبحانه وتعالى مقعد صدق وقد كذب فيها إبليس وحلف على كذبه وقد قال تعالى للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ولم يقل إني جاعل في جنة المأوى فقالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ومحال أن يكون هذا في جنة المأوى وقد أخبر الله تعالى عن إبليس إنه قال لآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فإن كان الله سبحانه وتعالى قد اسكن آدم جنة الخلد والملك الذي لا يبلى فكيف لم يرد عليه ويقول له كيف تدلني على شيء أنا فيه وقد أعطيته ولم يكن الله سبحانه وتعالى قد اخبر آدم إذ أسكنه الجنة أنه فيها من الخالدين ولو علم أنها دار الخلد لما ركن إلى قول إبليس ولا مال إلى نصيحته ولكنه لما كان في غير دار خلود غره بما أطعمه فيه من الخلد قالوا ولو كان أدم أسكن جنة الخلد وهي دار القدس التي لا يسكنها إلا طاهر مقدس فكيف توصل إليها إبليس الرجس النجس المذموم المدحور حتى فتن فيها أدم عليه السلام ووسوس له وهذه الوسوسة إما أن تكون في قلبه وإما أن تكون في أذنه وعلى التقديرين فكيف توصل اللعين إلى دخول دار المتقين وأيضا فبعد أن قيل له اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها أيفسح له أن يرقى إلى جنة المأوى فوق السماء السابعة بعد السخط عليه والأبعاد له والزجر والطرد بعتوه واستكباره وهل هذا يلائم قوله فما يكون لك أن تتكبر فيها فإن كانت مخاطبته لآدم بما خاطبه به وقاسمه عليه ليست تكبرا فما التكبر بعد هذا فإن قلتم فلعل وسوسته وصلت إلى الأبوين وهو في الأرض وهما فوق السماء في عليين فهذا غير معقول لغة ولا حسا ولا عرفا وإن زعمتم انه دخل في بطن الحية حتى أوصل إليهما الوسوسة فأبطل وأبطل إذ كيف يرتقي بعد الاهباط إلى أن يدخل الجنة ولو في بطن الحية وإذا قلتم إنه دخل في قلوبهما ووسوس إليهما فالمحذور قائم وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى حكى مخاطبته لهما كلاما سمعاه شفاها فقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة(1/226)
وهذا دليل على مشاهدته لهما وللشجرة ولما كان آدم خارجا من الجنة وغير ساكن فيها قال الله تعالى له ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ولم يقل عن هذه الشجرة فعندما قال لهما ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة لما أطعمها في ملكها والخلود في مقرها أتى باسم الإشارة بلفظ الحضور تقريبا لها وإحضارا لها عندهما وربهما تعالى قال لهما ألم أنهكما عن
تلكما الشجرة ولما اراد إخراجهما منها فأتى باسم الإشارة بلفظ البعد والغيبة كأنهما لم يبق لهما من الجنة حتى ولا مشاهدة الشجرة التي نهيا عنها وأيضا فإنه سبحانه قال إليه يصعد الكلم الطيب ووسوسة اللعين من اخبث الكلم فلا تصعد إلى محل القدس قال منذر وقد روى عن النبي أن آدم عليه السلام نام في جنته وجنة الخلد لا نوم فيها بالنص وإجماع المسلمين فإن النبي سئل أيتام أهل الجنة في الجنة قال لا النوم أخو الموت والنوم وفاة وقد نطق به القرآن والوفاة تقلب حال ودار السلام مسلمة من تقلب الأحوال والنائم ميت أو كالميت قلت الحديث الذي أشار إليه المعروف أنه موقوف من رواية أبن أبي نجيح عن مجاهد قال خلقت حواء من قصيري آدم وهو نائم وقال أسباط عن السدي أسكن آدم عليه السلام الجنة وكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليها فنام نومه فاستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها ما انت قالت امرأة قال ولم خلقت قالت لتسكن إلى وقال ابن إسحاق عن ابن عباس ألقى الله على آدم عليه السلام السنة ثم اخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما وآدم نائم لم يهب من نومته حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء فسواها امرأة يسكن إليها فلما كشف عنه السنة وهب من نومته رآها إلى جنبه فقال لحمي ودمي وروحي فسكن إليها قالوا ولا نزاع إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم في الأرض ولم يذكر في موضع واحد أصلا أنه نقله إلى السماء بعد ذلك ولو كان قد نقله ذلك إلى السماء لكان هذا أولى بالذكر لأنه من اعظم الآيات(1/227)
ومن اعظم النعم عليه فإنه كان معراجا ببدنه وروحه من الأرض إلى فوق السموات قالوا وكيف ينقله سبحانه ويسكنه فوق السماء وقد اخبر ملائكته أنه جاعله في الأرض خليفة وكيف يسكنه دار الخلد التي من دخلها خلد فيها ولا يخرج منها قال تعالى وما هم فيها بمخرجين قالوا ولم يكن معنا في المسألة إلا أن الله سبحانه أهبط إبليس من السماء حين امتنع من السجود لآدم عليه السلام وهذا أمر تكوين لا يمكن وقوع خلافه ثم أدخل آدم عليه السلام والجنة بعد هذا فإن الأمر بالسجود كان عقب خلقه من غير فصل فلو كانت الجنة فوق السموات لم يكن لإبليس سبيل إلى صعوده(1/228)
إليها وقد أهبط منها وأما تلك التقادير التي قدرتموها فتكلفات ظاهرة كقول من قال يجوز أن يصعد إليها صعودا عارضا لا مستقرا وقول من قال أدخلته الحية وقول من قال دخل في أجوافها وقول من قال يجوز أن تصل وسوسته إليها وهو في الأرض وهما فوق السماء ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الشديد والتكلف البعيد وهذا بخلاف قولنا فإنه سبحانه لما أهبطه من ملكوت السماء حيث لم يسجد لآدم عليه السلام أشرب عداوته فلما أسكنه جنته حسده عدوه وسعى بكيده وغروره في إخراجه منها والله أعلم وقالوا ومما يدل على أن جنة آدم لم تكن جنة الخلد التي وعد المتقون أن الله سبحانه لما خلقه أعلمه أن لعمره أجلا ينتهي إليه وأنه لم يخلقه للبقاء كما روى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله لما خلق الله آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فحمد الله بأذنه فقال ربه يرحمك الله يا آدم أذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقال السلام عليكم قالوا وعليك السلام الخ ثم رجع إلى ربه فقال إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم فقال الله له ويداه مقبوضتان أختر أيهما شئت فقال أخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته فقال يا رب ما هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فإذا كل إنسان مكتوب بين عينيه عمره فأذا فيهم رجل أضوؤهم قال يا رب من هذا قال هذا ابنك داود قد كتبت له عمرا أربعين سنة قال يا رب زده في عمره قال ذلك الذي كتبت له قال اي رب فاني قد جعلت له من عمري ستين سنة قال أنت وذلك قال ثم اسكن الجنة ما شاء الله ثم اهبط منها فكان آدم عليه السلام يعد لنفسه قال فأتاه ملك الموت فقال له آدم قد عجلت قد كتبت إلى ألف سنة قال بلى ولكنك جعلت لأبنك داود ستين سنة فجحد فجحدت ذريته ونسي فنسيت ذريته قال فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقد روى من غير وجه عن ابي هريرة قالوا فهذا صريح في أن آدم(1/229)
عليه السلام لم يخلق في دار البقاء التي لا يموت من دخلها وإنما خلق في دار الفناء التي جعل الله تعالى لها ولسكانها أجلا معلوما وفيها اسكن فإن قيل فإذا كان آدم عليه السلام قد علم أن له عمرا مقدرا وأجلا ينتهي إليه وإنه ليس من الخالدين فكيف لم يعلم كذب إبليس في قوله هل أدلك على شجرة الخلد وقوله أو تكونا من الخالدين فالجواب من وجهين أحدهما أن الخلد لا يستلزم الدوام والبقاء بل هو المكث
الطويل كما سيأتي الثاني أن إبليس لما حلف له وغره وأطعمه في الخلود نسي ما قدر له من عمره قالوا وأيضا فمن المعلوم الذي لا ينازع فيه مسلم أن الله سبحانه خلق آدم عليه السلام من تربة هذه الأرض وأخبر أنه خلقه من سلالة من طين وأنه خلقه من صلصال من حمأ مسنون فقيل هو الذي له صلصلة لبيسة وقيل هو الذي تغيرت رائحته من قولهم صل اللحم إذا تغير والحمأ الطين الأسود المتغير والمسنون المصبوب وهذه كلها أطوار للتراب الذي هو مبدؤه الأول كما أخبر عن أطوار خلق الذرية من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم يخبر سبحانه وتعالى أنه رفعه من الأرض إلى فوق السموات لا قبل التحليق ولا بعده فأين الدليل الدال على إصعاد مادته أو إصعاده هو بعد خلقه وهذا ما لا دليل لكم عليه ولا هو لازم من لوازم ما اخبر الله به وقالوا من المعلوم أن ما فوق السموات ليس بمكان للطين الأرضي المتغير الرائحة الذي قد انتن من تغيره وإنما محل هذه الأرض التي هي محل المتغيرات الفاسدات وأما ما فوق الأفلاك فلا يلحقه تغير ولا نتن ولا فساد ولا استحالة فهذا أمر لا يرتاب فيه العقلاء قالوا وقد قال الله تعالى وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ فأخبر سبحانه أن عطاء جنة الخلد غير مجذوذ قالوا فإذا جمع ما أخبر به سبحانه من أنه خلقه من الأرض وجعله خليفة في الأرض وإن إبليس وسوس إليه في مكانه الذي أسكنه فيه بعد ان أهبطه من(1/230)
السماء بامتناعه من السجود له وانه أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة وان دار الخلد دار جزاء وثواب على الامتحان والتكاليف وإنه لا لغو فيها ولا تأثيم ولا كذاب وأن من دخلها لا يخرج منها ولا ييأس ولا يحزن ولا يخاف ولا ينام وان الله حرمها على الكافرين وإبليس رأس الكفر فإذا جمع ذلك بعضه إلى بعض وفكر فيه المنصف الذي رفع له علم الدليل فشمر إليه بنفسه عن حضيض التقليد تبين له الصواب والله الموفق فلو لم يكن في المسألة إلا أن الجنة ليست دار تكليف وقد كلف الله سبحانه الأبوين بينهما عن الأكل من الشجرة فدل على أنها دار تكليف لا جزاء وخلد فهذا أيضا بعض ما احتجت به هذه الفرقة على قولها والله أعلم
الباب الخامس في جواب أرباب هذا القول لأصحاب القول الأول قالوا أما
قولكم إن قولنا هو الذي فطر الله عليه عباده بحيث لا يعرفون سواه فالمسألة سمعية لا تعرف إلا بأخبار الرسل ونحن وأنتم أنما تلقينا هذا من القرآن لا من(1/231)
المعقول ولا من الفطرة فالمتبع فيه ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ونحن نطالبكم بصاحب واحد أو تابع أو أثر صحيح او حسن بأنها جنة الخلد التي أعدها الله للمؤمنين بعينها ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا وقد اوجدناكم من كلام السلف ما يدل على خلافه ولكن لما وردت الجنة مطلقة في هذه القصة ووافقت أسم الجنة التي اعدها الله لعباده في أطلاقها وبعض اوصافها فذهب كثير من الأوهام إلى أنها هي بعينها فإن أردتم بالفطرة هذا القدر لم يفدكم شيئا وإن أردتم أن الله فطر الخلق على ذلك كما فطرهم على حسن العدل وقبح الظلم وغير ذلك من الأمور الفطرية فدعوى باطلة ونحن إذا رجعنا إلى فطرنا لم نجد علمها بذلك كعلمها بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات وأما استدلالكم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه وقول آدم وهل أخرجكم منها إلا خطيئة أبيكم فأنما يدل على تأخر آدم عليه السلام عن الاستقباح للخطيئة التي قد تقدمت منه في دار الدنيا وأنه بسبب تلك الخطيئة حصل له الخروج من الجنة كما في اللفظ الآخر أني نهيت عن أكل الشجرة فأكلت منها فأين في هذا ما يدل على أنها جنة المأوى بمطابقة أو تضمن أو استلزام وكذلك قول موسى له أخرجتنا ونفسك من الجنة فإنه لم يقل له أخرجتنا من جنة الخلد وقولكم أنهم خرجوا إلى بساتين من جنس الجنة التي في الأرض فاسم الجنة وأن أطلق على تلك البساتين فبينها وبين جنة آدم ما لا يعلمه إلا الله وهي كالسجن بالنسبة إليها واشتراكهما في كونهما في الأرض لا ينفي تفاوتهما أعظم تفاوت في جميع الأشياء وأما استدلالكم بقوله تعالى وقلنا أهبطوا عقيب إخراجهم من الجنة فلفظ الهبوط لا يستلزم النزول من السماء إلى الأرض غايته أن يدل على النزول من مكان عال إلى أسفل منه وهذا غير منكر فإنها كانت جنة في أعلى الأرض فاهبطوا منها إلى الأرض وقد بينا أن الأمر كان لآدم عليه السلام وزوجه وعدوهما فلو كانت الجنة في السماء لما كان عدوهما متمكنا منها بعد(1/232)
اهباطه الأول لما أبى السجود لآدم عليه السلام فالآية أيضا من أظهر الحجج عليكم ولا تغني عنكم وجوه التعسفات والتكلفات التي قدرتموها وقد تقدمت وأما قوله تعالى ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فهذا لا يدل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض فإن الأرض اسم جنس وكانوا في أعلاها وأطيبها وأفضلها في محل لا يدركهم فيه جوع ولا عرى ولا ظمأ ولا ضحى فاهبطوا إلى أرض يعرض فيها ذلك كله وفيها حياتهم وموتهم وخروجهم من القبور والجنة التي اسكناها لم تكن دار نصب ولا تعب ولا أذى والأرض التي اهبطوا إليها هي محل التعب
والنصب والأذى وأنواع المكاره وأما قولكم إنه سبحانه وتعالى وصفها بصفات لا تكون في الدنيا فجوابه أن تلك الصفات لا تكون في الأرض التي أهبطوا إليها فمن أين لكم أنها لا تكون في الأرض التي اهبطوا منها وأما قولكم إن آدم عليه السلام كان يعلم إن الدنيا منقضية فانية فلو كانت الجنة فيها لعلم كذب إبليس في قوله هل أدلك على شجرة الخلد فجوابه من وجهين أحدهما أن اللفظ أنما يدل على الخلد وهو أعم من الدوام الذي ى انقطاع له فإنه في اللغة المكث الطويل ومكث كل شيء بحسبه ومنه قولهم رجل مخلد إذا أسن وكبر ومنه قولهم لاثا في الصخور خوالد لطول بقائها بعد دروس الاطلال قال الارمادا هامدا دفعت ... عنه الرياح خوالد الفحم
ونظير هذا أطلاقهم القديم على ما تقادم عهده وإن كان له أول كما قال تعالى كالعرجون القديم وإنك لفي ضلالك القديم وأفك قديم وقد أطلق تعالى الخلود في النار على عذاب بعض العصاة كقاتل النفس واطلقه النبي على قاتل نفسه(1/233)
الوجه الثاني أن العلم بانقطاع الدنيا ومجئ الآخرة أنما يعلم الوحي ولم يتقدم لآدم عليه الصلاة والسلام نبوة يعلم بها ذلك وهو وأن نباه الله سبحانه وتعالى وأوحى إليه وأنزل عليه صحفا كما في حديث أبي ذر لكن هذا بعد اهباطه إلى الأرض بنص القرآن قال تعالى اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى وكذلك في سورة البقرة قلنا أهبطوا منها جميعا فأما يأتينكم مني هدى الآية
وإما قولكم أن الجنة وردت معرفة باللام التي للعهد فتنصرف إلى جنة الخلد فقد وردت معرفة باللام غير مراد بها جنة الخلد قطعا كقوله تعالى إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين وقولكم أن السياق ها هنا دل على أنها جنة في الأرض قلنا والأدلة التي ذكرناها دلت على أن جنة آدم عليه السلام في الأرض فلذلك صرنا إلى موجبها إذ لا يجوز تعطيل دلالة الدليل الصحيح
وإما استدلالكم بأثر أبي موسى أن الله أخرج آدم عليه السلام من الجنة وزوده من ثمارها فليس فيه زيادة على ما دل عليه القرآن إلا تزوده منها وهذا لا يقتضي أن تكون جنة الخلد
وقولكم أن هذه تتغير وتلك لا تتغير فمن أين لكم أن الجنة التي اسكنها آدم كان التغير يعرض لثمارها كما يعرض لهذه الثمار وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال لولا بنو إسرائيل لم يخبز اللحم أي لم يتغير ولم ينتن وقد أبقى سبحانه وتعالى
في هذا العالم طعام العزير وشرابه مائة سنة لم يتغير(1/234)
وأما قولكم أن الله سبحانه وتعالى ضمن لآدم عليه السلام أن تاب أن يعيده إلى الجنة فلا ريب أن الأمر كذلك ولكن ليس يعلم أن الضمان إنما يتناول عوده إلى تلك الجنة بعينها بل إذا أعاده إلى جنة الخلد فقد وفى سبحانه بضمانه حق الوفاء ولفظ العود لا يستلزم الرجوع إلى عين الحالة الأولى ولا زمانها ولا مكانها بل ولا إلى نظيرها كما قال شعيب لقومه قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وقد جعل الله سبحانه المظاهر عائدا بإرادته الوطء ثانيا أو بنفس الوطء أو بالإمساك وكل منها غير الأول لا عينه فهذا ما أجابت به هذه الطائفة لمن نازعها
الباب السادس في جواب من زعم أنها جنة الخلد عما احتج به منازعوهم(1/235)
قالوا أما قولكم إن الله سبحانه أخبر أن جنة الخلد إنما يقع الدخول إليها يوم القيامة ولم يأت زمن دخولها بعد فهذا حق في الدخول المطلق الذي هو دخول استقرار ودوام وأما الدخول العارض فيقع قبل يوم القيامة وقد دخل النبي الجنة ليلة الإسراء وأرواح المؤمنين والشهداء في البرزخ في الجنة وهذا غير الدخول الذي اخبر الله به في يوم القيامة فدخول الخلود إنما يكون يوم القيامة فمن أين لكم أن مطلق الدخول لا يكون في الدنيا وبهذا خرج الجواب عن استدلالكم بكونها دار المقامة ودار الخلد قالوا وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة وأنها لم توجد في جنة آدم عليه السلام من العرى والنصب والحزن واللغو والكذب وغيرها فهذا كله حق لا ننكره نحن ولا أحد من أهل الإسلام ولكن هذا إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة كما يدل عليه سياق الآيات كلها فإن نفي ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها وهذا لا ينفي أن يكون فيها بين أبوي الثقلين ما حكاه الله سبحانه وتعالى من ذلك ثم يصير الأمر عند دخول المؤمنين إياها إلى ما أخبر الله عنها فلا تنافي بين الأمرين وأما قولكم أنها دار جزاء وثواب لا دار تكليف وقد كلف الله سبحانه آدم بالنهي عن الأكل من تلك الشجرة فدل على أن تلك الجنة دار تكليف لا دار خلود فجوابه من وجهين
أحدهما أنه إنما تمتنع أن تكون دار تكليف إذا دخلها المؤمنين يوم القيامة فحينئذ ينقطع التكليف واما وقوع التكليف فيها دار الدنيا فلا دليل على
امتناعه البتة كيف وقد ثبت عن النبي أنه قال دخلت البارحة الجنة فرأيت امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن أنت الحديث وغيره ممتنع أن يكون فيها من يعمل بأمر الله ويعبد الله قبل يوم القيامة بل هذا هو الواقع فإن من فيها الآن مؤتمرون بأوامر من قبل ربهم لا يتعدونها سواء سمى ذلك تكليفا أو لم يسم(1/236)
الوجه الثاني أن التكليف لم يكن بالأعمال التي يكلف بها الناس في الدنيا من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها وإنما كان حجرا عليهما في شجرة واحدة من جملة أشجارها إما واحدة بالعين أو بالنوع وهذا القدر لا يمتنع وقوعه في دار الخلد كما أن كل واحد محجور عليه أن يقرب أهل غيره فيها فإن أردتم بكونها ليست دار تكليف امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الأوقات فلا دليل عليه وإن أردتم أن تكاليف الدنيا منتفعة عنها فهو حق ولكن لا يدل على مطلوبكم
وأما استدلالكم بنوم آدم فيها والجنة لا ينام أهلها
فهذا أن ثبت النقل بنوم آدم فإنما ينفي النوم عن أهلها يوم دخول الخلود حيث لا يموتون وأما قبل ذلك فلا
وأما استدلالكم بقصة وسوسة إبليس له بعد اهباطه وإخراجه من السماء فلعمر الله أنه لمن أقوى الأدلة وأظهرها على صحة قولكم وتلك التعسفات لدخوله الجنة وصعوده إلى السماء بعد اهباط الله له منها لا يرتضيها منصف ولكن لا يمتنع أن يصعد ألى هنالك صعودا عارضا لتمام الابتلاء والامتحان الذي قدره الله تعالى وقد أسبابه وإن لم يكن ذلك المكان مقعدا له مستقرا كما كان وقد اخبر الله سبحانه عن الشياطين أنهم كانوا قبل مبعث رسول الله يقعدون من السماء مقاعد للسمع فيستمعون الشيء من الوحي وهذا صعود إلى هناك ولكنه صعود عارض لا يستقرون في المكان الذي يصعدون إليه مع قوله تعالى اهبطوا بعضكم لبعض عدو فلا تنافي بين هذا الصعود وبين الأمر بالهبوط فهذا محتمل والله اعلم
وأما استدلالكم بأن الله سبحانه أعلم آدم عليه السلام مقدار أجله وما ذكرتم من الحديث وتقرير الدلالة منه فجوابه أن إعلامه بذلك لا ينافي إدخاله جنة الخلد وإسكانه فيها مدة
وأما أخباره سبحانه إن داخلها لا يموت وإنه لا يخرج منها فهذا يوم القيامة
وأما احتجاجكم بكونه خلق من الأرض فلا ريب في ذلك ولكن من أين لكم أنه كمل خلقه فيها وقد جاء في بعض الآثار أن الله(1/237)
سبحانه ألقاه على باب الجنة أربعين صباحا فجعل إبليس يطوف به ويقول لأمر ما خلقت فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك فقال لئن سلطت عليه لأهلكنه ولئن سلط على لا عصينه مع أن قوله سبحانه وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض يدل على أنه كان معهم في السماء حيث أنبأهم بتلك الأسماء وإلا فهم لم ينزلوا كلهم إلى الأرض حتى سمعوا منه ذلك ولو كان خلقه قد كمل في الأرض لم يمتنع أن يصعده سبحانه الى السماء لأمر دبره وقدره ثم يعيده إلى الأرض فقد اصعد المسيح إلى السماء ثم ينزله إلى الأرض قبل يوم القيامة وقد اسرى ببدن رسول الله وروحه إلى فوق السموات فهذا جواب القائلين بأنها جنة الخلد لمنازعيهم والله أعلم
الباب السابع في ذكر شبه من زعم أن الجنة لم تخلق بعد قالوا لو
كانت الجنة مخلوقة الآن لوجب اضطرار أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل ما فيها ويموت لقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه و كل نفس ذائقة الموت فتموت الحور العين التي فيها والولدان وقد أخبر سبحانه أن الدار دار خلود ومن فيها مخلدون لا يموتون فيها وخبره سبحانه لا يجوز عليه خلف ولا نسخ
قالوا وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أبن مسعود قال قال رسول الله لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقريء أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال هذا حديث حسن غريب
وفيه أيضا من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي أنه قال من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة قال هذا حديث حسن صحيح
قالوا فلو كانت الجنة مخلوقة مفروغا منها لم تكن قيعانا ولم يكن لهذا الغرس معنى(1/238)
قالوا وقد قال تعالى عن امرأة فرعون إنها قالت رب إبني لي عندك بيتا في الجنة ومحال أن يقول قائل لمن نسج له ثوبا أو بنى له بيتا انسج لي ثوبا وأبن لي بيتا وأصرح من هذا قول النبي من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة متفق عليه وهذه جملة مركبة من شرط وجزاء تقتضي وقوع الجزاء بعد الشرط باع جمأ
أهل العربية وهذا ثابت عن النبي من رواية عثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعمرو بن عنبسة قالوا وقد جاءت آثار بأن الملائكة تغرس فيها وتبني للعبد ما دام يعمل فإذا فتر فتر الملك عن العمل
قالوا وقد روى ابن حبان في صحيحه والأمام أحمد في مسنده من حديث أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله إذا قبض الله ولد العبد قال يا ملك الموت قبضت ولد عبدي قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده قال نعم قال فما قال قال حمدك واسترجع قال إبنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد وفي المسند من حديثه أيضا قال قال رسول الله من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة سوى الفريضة بنى الله له بيتا في الجنة قالوا وليس هذا من أقوال أهل البدع والاعتزال كما زعمتم فهذا ابن مزين قد ذكر في تفسيره عن ابن نافع وهو من أئمة السنة أنه سئل عن الجنة أمخلوقة هي فقال السكوت عن هذا أفضل والله أعلم
الباب الثامن في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة قد تقدم في الباب
الأول من ذكر الأدلة الدالة على وجود الجنة الآن ما فيه كفاية فنقول ما تعنون بقولكم إن الجنة لم تخلق بعد أتريدون أنها الآن عدم محض لم تدخل إلى الوجود بعد بل هي بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور فهذا قول باطل يرده المعلوم بالضرورة من الأحاديث الصريحة الصحيحة التي تقدم بعضها وسيأتي بعضها وهذا قول لم يقله أحد من السلف ولا أهل السنة وهو باطل قطعا(1/239)
أم تريدون أنها لم تخلق بكمالها وجميع ما اعد الله فيها لأهلها وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئا بعد شيء وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أمورا أخر فهذا حق لا يمكن رده وادلتكم هذه إنما دلت على هذا القدر وحديث ابن مسعود الذي ذكرتموه وحديث أبي الزبير عن جابر صريحان في أن أرضها مخلوقة وأن الذكر ينشىء الله سبحانه لقائله منه غراسا في تلك الأرض وكذا بناء البيوت فيها بالأعمال المذكورة والعبد كلما وسع في أعمال البر وسع له في الجنة وكلما عمل خيرا غرس له به هناك غراس وبنى له بناء وأنشيء له من عمله أنواع مما يتمتع به فهذا القدر لا يدل على إن الجنة لم تخلق بعد ولا يسوغ اطلاق ذلك وأما احتجاجكم بقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه فإنما أتيتم من عدم فهمكم معنى الآية واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظيرا احتجاج إخوانكم بها على فنائهما(1/240)
وخرابهما وموت أهلهما فلا انتم وفقتم لفهم معناها ولا إخوانكم وإنما وفق لفهم معناها السلف وأئمة الإسلام ونحن نذكر بعض كلامهم في الآية قال البخاري في صحيحه يقال كل شيء هالك إلا وجهه إلا ملكه ويقال إلا ما أريد به وجهه وقال الأمام أحمد في رواية ابنه عبد الله فأما السماء والأرض فقد زالتا لأن أهلهما صاروا إلى الجنة وإلى النار وأما العرش فلا يبيد ولا يذهب لأنه سقف الجنة والله سبحانه وتعالى عليه فلا يهلك ولا يبيد وأما قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه فذلك أن الله سبحانه وتعالى أنزل كل من عليها فان فقالت الملائكة هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء فأخبر الله تعالى عن أهل السموات وأهل الأرض أنهم يموتون فقال كل شيء هالك يعني ميت إلا وجهه لأنه حي لا يموت فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت انتهى كلامه وقال في رواية أبي العباس أحمد بن جعفر ابن يعقوب الاصطخري ذكره أبو الحسين في كتاب الطبقات قال قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروتها المعروفين بها والمقتدى بهم فيها من لدن أصحاب نبينا إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وساق أقوالهم إلى ان قال وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها و خلقهما الله عز وجل وخلق الخلق لهما ولا يفنيان ولا يفنى ما فيهما أبدا فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل كل شيء هالك إلا وجهه وبنحو هذا من متشابه القرآن قيل له كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة ولا عند النفخة ولا أبدا لأن الله عز وجل خلقهن للبقاء لا للفناء ولم يكتب عليهن الموت فمن قال(1/241)
خلاف هذا فهو مبتدع وقد ضل عن سواء السبيل وخلق سبع سموات بعضها فوق بعض وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض وبين الأرض العليا والسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام والماء فوق السماء العليا السابعة وعرش الرحمن عز وجل فوق الماء وأن الله عز وجل على العرش والكرسي موضع قدميه وهو يعلم ما في السموات والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى وما في قعر البحر ومنبت كل
شعرة وشجرة وكل زرع وكل نبات ومسقط كل ورقة وعدد كل كلمة وعدد الحصا والتراب والرمل ومثاقيل الجبال و أعمال العباد وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم ويعلم كل شيء لا يخفى عليه من ذلك شيء وهو على العرش فوق السماء السابعة ودونه حجب من نار ونور وظلمة وما هو أعلم بها فإن احتج مبتدع ومخالف بقول الله عز وجل ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وقوله وهو معكم أينما كنتم وقوله إلا هو معهم أينما كانوا وقوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ونحو هذا من متشابه القرآن فقل إنما يعني بذلك العلم لأن الله عز وجل على العرش فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان وقال في رواية أبي جعفر الطائي محمد بن عوف بن سفيان الحمصي قال الخلال حافظ أمام في زمانه معروف بالتقدم في العلم والمعرفة كان أحمد بن حنبل يعرف له ذلك ويقبل منه ويسأله عن الرجال من أهل بلده قال أملي على احمد بن حنبل فذكر رسالة في السنة ثم قال في اثنائها وأن الجنة والنار مخلوقتان قد خلقتا كما جاء الخبر قال النبي صلى دخلت الجنة فرأيت فيها قصرا ورأيت الكوثر واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها كذا وكذا فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب برسول الله وبالقرآن كافر بالجنة والنار يستتاب فإن تاب وإلا قتل(1/242)
وقال في رواية عبندوس بن مالك العطار وذكر رسالة في السنة قال فيها والجنة والنار مخلوقتان قد خلقتا كما جاء عن رسول الله أطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها كذا وكذا وأطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها كذا وكذا فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب بالقرآن وأحاديث رسول الله ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار فتأمل هذه الأبواب وما تضمنته من النقول والمباحث والنكت والفوائد التي لا تظفر بها في غير هذا الكتاب البتة ونحن اختصرنا الكلام في ذلك ولو بسطناه لقام منه سفر ضخم والله المستعان وعليه التكلان وهو الموفق للصواب
أهـ { حادى الأرواح صـ 19 ـ صـ 37 }
قوله تعالى { قلانا اهبطوا منها جميعا }(1/243)
وقد ظن الزمخشري أن قوله اهبطوا منها جميعا خطاب لآدم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما قال والدليل عليه قوله تعالى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو قال ويدل على ذلك قوله فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم ومعنى قوله بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم بعضا وهذا الذي اختاره أضعف الأقوال في الاية فإن العداوة التي ذكرها الله تعالى إنما هي بين آدم وإبليس وذريتهما كما قال الله تعالى إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وهو سبحانه قد أكد أمر العداوة بين الشيطان والإنسان واعاد وأبدى ذكرها في القرآن لشدة الحاجة إلى التحرز من هذا العدو وأما آدم وزوجته فإنه إنما أخبر في كتابه أنه خلقها ليسكن إليها وجعل بينهما مودة ورحمة فالمودة والرحمة بين الرجل وامرأته والعداوة بين الإنسان والشيطان وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس وهو ثلاثة فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام دون جميعه مع أن اللفظ والمعنى يقتضيه فلم يصنع الزمخشري شيئا وأما قوله تعالى في سورة طه قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو وهذا خطاب لآدم وحواء وقد جعل بعضهم لبعض عداوا فالضمير في قوله اهبطا منها أما أن يرجع إلى آدم وزوجته أو إلى آدم وإبليس ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له وعلى هذا فلعداوة المذكورة للمتخاطبين بالاهباط وهما آدم وإبليس فالأمر ظاهر وأما على الأول فتكون الآية قد اشتملت على أمرين أحدهما أمره تعالى لا لآدم وزوجه بالهبوط والثاني إخباره بالعداوة بين آدم وزوجته وبين إبليس ولهذا أتى الضمير الجمع في الثاني دون الأول ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى إن هذا عدو لك ولزوجك وقال للذرية إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وتأمل كيف اتفقت المواضع التي(1/244)
فيها ذكر العداوة على ضمير
الجمع دون التثنية وأما الاهباط فتارة يذكره بلفظ الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة بلفظ الأفراد كقوله في سورة الأعراف قال اهبط منها وكذلك في سورة ص وهذا لإبليس وحده وحيث ورد بصيغة الجمع فهو لآدم وزوجه وإبليس إذ مدار القصة عليهم وحيث ورد بلفظ التثنية فأما أن يكون لآدم وزوجه اذهما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية وإما أن يكون لآدم وإبليس اذ هما أبوا الثقلين وأصلا الذرية فذكر حالهما ومآل أمرهما ليكون عظة وعبرة لأولادهما وقد حكيت القولين في ذلك والذي يوضح أن الضمير في قوله اهبطا منها جميعا لآدم وإبليس إن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم دون زوجه فقال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا وهذا يدل على أن المخاطب بالاهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا فإن المقصود إخبار الله تعالى للثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر فذكر أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط وقد اخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم وأخبر أنه اهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة فعلم أن حكم الزوجة كذلك وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريده إلى ذكر أبي الأنس وأمهم فتأمله(1/245)
وبالجملة فقوله اهبطوا بعضكم لبعض عدو ظاهر في الجمع فلا يسوغ حمله على الأثنين في قوله اهبطا من غير موجب قالوا وأيضا فالجنة جاءت معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله أسكن أنت وزوجك الجنة ونظائره ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها الأجنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة كالمدينة والنجم والبيت والكتاب ونظائرها فحيث ورد لفظها معرفا انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين وأما أن أريد به جنة غيرها فإنها تجيء منكرة أو مقيدة بالإضافة أو مقيدة من السياق بما يدل على أنها جنة في الأرض فالأول كقوله جنتين من أعناب والثاني كقوله ولولا إذ دخلت جنتك والثالث كقوله أنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة قالوا مما يدل على أن جنة آدم هي جنة المآوى ما روى هوذة بن خليفة عن عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري قال إن الله تعالى لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة وعلمه صنعة كل شيء
فثماركم هذه من ثمار الجنة غير إن هذه تتغير وتلك لا تتغير قالوا وقد ضمن الله سبحانه وتعالى له إن تاب إليه وأناب أن يعيده إليها كما روى المنهال عن سعيد أبن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال يا رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال أي رب ألم تنفخ في من روحك قال بلى قال أي رب ألم تسكني جنتك قال بلى قال أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال أرأيت أن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال بلى قال فهو قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وله طرق عن ابن عباس وفي بعضها كان آدم قال لربه إذا عصاه رب أن أنا تبت وأصلحت فقال له ربه إني راجعك إلى الجنة فهذا بعض ما احتج به القائلون بأنها جنة الخلد
أهـ { حادى الأرواح صـ19 ـ صـ25 }(1/246)
قوله تعالى : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين البقرة : 94 قلت : هذه الآية فيها للناس كلام معروف قالوا : إنها معجزة للنبي أعجز بها اليهود ودعاهم إلى تمني الموت وأخبر : أنهم لا يتمنونه أبدا وهذا علم من أعلام نبوته إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا
وقالت طائفة : لما ادعت اليهود : أن لهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس وأنهم أبناؤه وأحباؤه وأهل كرامته كذبهم الله في دعواهم وقال : إن كنتم صادقين فتمنوا الموت لتصلوا إلى الجنة دار النعيم فإن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه ثم أخبر سبحانه : أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الأوزار والذنوب الحائلة بينهم وبين ما قالوه فقال : ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم البقرة : 95 وقالت طائفة منهم محمد بن إسحاق وغيره هذه من جنس آية المباهلة وأنهم لما عاندوا ودفعوا الهدى عيانا وكتموا الحق : دعاهم إلى أمر يحكم بينهم وبينه وهو أن يدعوا بالموت على الكاذب المفتري و التمني سؤال ودعاء فتمنوا الموت وادعوا به على المبطل الكاذب المفتري
وعلى هذا فليس المراد : تمنوه لأنفسكم خاصة كما قاله أصحاب القولين الأولين بل معناه : ادعوا بالموت وتمنوه للمبطل وهذا أبلغ في إقامة الحجة وبرهان الصدق وأسلم من أن يعارضوا رسول الله بقولهم : فتمنوه أنتم أيضا إن كنتم محقين أنكم أهل الجنة لتقدموا على ثواب الله وكرامته كانوا أحرص شيء على معارضته فلو فهموا منه ما ذكره أولئك لعارضوه بمثله
وأيضا فإنا نشاهد كثيرا منهم يتمنى الموت لضره وبلائه وشدة حاله ويدعو به وهذا بخلاف تمنيه والدعاء به على الفرقة الكاذبة فإن هذا لا يكون أبدا ولا وقع من أحد منهم في حياة النبي ألبتة وذلك لعلمهم بصحة نبوته وصدقه وكفرهم به حسدا وبغيا فلا يتمنوه أبدا لعلمهم أنهم هم الكاذبون وهذا القول : هو الذي نختاره والله أعلم بما أراد من كتابه(1/247)
أ هـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 276 ـ صـ 277 }
وقوله تعالى بمثل ما آمنتم به وليس له مثل والجواب من أوجه
الأول أن المراد به التبكيت والمعنى حصلوا دينا آخر مثله وهو لا يمكن الثاني أن المثل صلة الثالث أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف ولا تحريف فإن آمنوا بالتوراة من غير تصحيف ولا تحريف فقد اهتدوا الرابع أن المراد أن آمنوا بمثل ما صرتم به مؤمنين روى ابن جرير أن ابن عباس قال قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم به قال عبد الجبار ولا يجوز ترك القراءة المتواترة
أ هـ { بدائع الفوائد حـ 4 صـ 308 }
قوله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فأخبر أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية فإن أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية بخلاف ند المحبة فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم ثم قال والذين آمنوا أشد حبا لله وفي تقدير الآية قولان
أحدهما والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله
والثاني والذين آمنوا أشد حبا لله من محبة المشركين في الأنذار فإن محبة المؤمنين خالصة ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها والمحبة الخالصة أشد من المشتركة والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى يحبونهم كحب الله فإن فيها قولان
أحدهما يحبونهم كما يحبون الله فيكون قد أثبت لهم محبة الله ولكنها محبة يشركون فيها مع الله أندادا
والثاني أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول ويقول إنما ذموا بأن أشركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له(1/248)
وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم وهذا أصح القولين
وقيل الباء بمعنى عن والمعنى ثم الذين كفروا عن ربهم يعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره وهذا ليس بقوي إذ لا تقول العرب عدلت بكذا أي عدلت عنه وإنما جاء هذا في فعل السؤال نحو سألت بكذا أي عنه كأنهم ضمنوه اعتنيت به واهتممت ونحو ذلك
وقال تعالى إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وهي تسمى آية المحبة قال أبو سليمان الداراني لما ادعت القلوب محبة الله أنزل الله لها محنة قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
قال بعض السلف ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحنة قل إن كنتم تحبون الله فايتبعوني يحببكم الله
وقال يحبكم الله إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها فدليلها وعلامتها اتباع الرسول وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم فما لم تحصل المتابعة فليست محبتكم له حاصلة ومحبته لكم منتفية
أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 13 ـ صـ 14 }(1/249)
هذا قلب المؤمن توحيد الله وذكر رسوله مكتوبان فيه لا يتطرق اليهما محو ولا ازالة ولما كانت كثرة ذكر الشيء موجبة لدوام محبته ونسيانه سببا لزوال محبته أو اضعافها وكان سبحانه هو المستحق من عبادة نهاية الحب مع نهاية التعظيم بل الشرك الذي لا يغفره الله تعالى هو أن يشرك به في الحب والتعظيم فيحب غيره ويعظم من المخلوقات غيره كما يحب الله تعالى ويعظمه قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دونه الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا اشد حبا لله البقرة 165 فأخبر سبحانه أن المشرك يحب الند كما يحب الله تعالى وان المؤمن اشد حبا لله من كل شيء وقال أهل النار في النار تالله أن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين الشعراء 97 98 ومن المعلوم انهم إنما سووهم به سبحانه في الحب والتأله والعبادة وألا فلم يقل أحد قط أن الصنم أو غيره من الانداد مساو لرب العالمين في صفاته وفي افعاله وفي خلق السماوات والأرض وفي خلق عباده أيضا وانما كانت السوية في المحبة والعبادة
واضل من هؤلاء واسوأ حالا من سوى كل شيء بالله سبحانه في الوجود وجعله وجود كل موجود كامل أو ناقص فإذا كان الله قد حكم بالضلال والشقاء لمن سوى بينه وبين الاصنام في الحب مع اعتقادههم تفاوت ما بين الله وبين خلقه في الذات والصفات والافعال فكيف بمن سوى الله بالموجودات في جميع ذلك وزعم انه ما عبد غير الله في كل معبود
أهـ { جلاء الأفهام صـ 305 ـ صـ 306 }
قوله تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون فتضمن هذا المثل ناعقا أي مصوتا بالغنم وغيرها ومنعوقا به وهو الدواب فقيل الناعق العابد وهو الداعي للصنم والصنم المنعوق به المدعو وإن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره(1/250)
واستشكل صاحب الكشاف وجماعة معه هذا القول وقالوا قوله إلا دعاء ونداء لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء
وقد أجيب عن هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة
أحدها أن إلا زائدة والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء قالوا وقد ذكر ذلك الأصمعي في قول الشاعر ... حراجيح ما تنفك إلا مناخة أي ما تنفك مناخة وهذا جواب فاسد فإن إلا لا تزاد في الكلام
الجواب الثاني أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء لا في خصوصيات المدعو
الجواب الثالث أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه هو في دعاء ونداء وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء
وقيل المعنى ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت فالراعي هو داعي الكفار والكفار هم البهائم المنعوق بها
قال سيبويه المعنى ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به وعلى قوله فيكون المعنى ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها
ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب وأن تجعله من التشبيه المفرق فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء وإن جعلته من التشبيه المفرق فالذين كفروا بمنزلة البهائم ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم
أهـ { إعلام الموقعين حـ1 صـ218 }
قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون }(1/251)
وفي ضمن هذا الخطاب ما هو كالجواب لسؤال مقدر أن إعدام هذه البنية الشريفة وإيلام هذه النفس وإعدامها في مقابلة إعدام المقتول تكثير لمفسدة القتل فلأية حكمة صدر هذا ممن وسعت رحمته كل شيء وبهرت حكمته العقول فتضمن الخطاب جواب ذلك بقوله تعالى ولكم في القصاص حياة وذلك لأن القاتل إذا توهم أنه يقتل قصاصا بمن قتله كف عن القتل وارتدع وآثر حب حياته ونفسه فكان فيه حياة له ولمن أراد قتله ومن وجه آخر وهو أنهم كانوا إذا قتل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم قتلوا به كل من وجدوه من عشيرة القاتل وحيه وقبيلته وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما يعم ضرره وتشتد مؤنته فشرع الله تعالى القصاص وأن لا يقتل بالمقتول غير قاتله ففي ذلك حياة عشيرته وحيه وأقاربه ولم تكن الحياة في القصاص من حيث أنه قتل بل من حيث كونه قصاصا يؤخذ القاتل وحده بالمقتول لا غيره فتضمن القصاص الحياة في الوجهين وتأمل ما تحت هذه الألفاظ الشريفة من الجلالة والإيجاز والبلاغة والفصاحة والمعنى العظيم فصدر الآية بقوله لكم المؤذن بأن منفعة القصاص مختصة بكم عائدة إليكم فشرعه إنما كان رحمة بكم وإحسانا إليكم فمنفعته ومصلحته لكم لا لمن لا يبلغ العباد ضره ونفعه ثم عقبه بقوله في القصاص إيذانا بأن الحياة الحاصلة إنما هي في العدل وهو أن يفعل به كما فعل والقصاص في اللغة المماثلة وحقيقته راجعة إلى الاتباع ومنه قوله تعالى وقالت لأخته قصيه أي اتبعي أثره ومنه قوله فارتدا على آثارهما قصصا أي يقصان الأثر ويتبعانه ومنه قص الحديث واقتصاصه لأنه يتبع بعضه بعضا في الذكر فسمى جزاء الجاني قصاصا لأنه يتبع أثره فيفعل به كما فعل وهذا أحد ما يستدل به على أن يفعل بالجاني كما فعل فيقتل بمثل ما قتل به لتحقيق معنى القصاص
أ هـ { مفتاح دار السعادة حـ 2 صـ 102 ـ صـ 103 }(1/252)
قوله تعالى فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم البقرة 187 فروى شعبة عن الحكم عن مجاهد قال هو الولد وقاله الحكم وعكرمة والحسن البصري والسدي والضحاك
وأرفع ما فيه ما رواه محمد بن سعد عن أبيه حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قال هو الولد وقال ابن زيد هو الجماع وقال قتادة ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم وعن ابن عباس رواية أخرى قال ليلة القدر والتحقيق أن يقال لما خفف الله عن الأمة بإباحة الجماع ليلة الصوم إلى طلوع الفجر وكان المجامع يغلب عليه حكم الشهوة وقضاء الوطر حتى لا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك أرشدهم سبحانه إلى أن يطلبوا رضاه في مثل هذه اللذة ولا يباشروها بحكم مجرد الشهوة بل يبتغوا بها ما كتب الله لهم من الأجر
والولد الذي يخرج من أصلابهم يعبد الله لا يشرك به شيئا ويبتغوا ما أباح الله لهم من الرخصة بحكم محبته لقبول رخصه فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ومما كتب لهم ليلة القدر وأمروا أن يبتغوها لكن يبقى أن يقال فما تعلق ذلك بإباحة مباشرة أزواجهم فيقال فيه إرشاد إلى أن لا يشغلهم ما أبيح لهم من المباشرة عن طلب هذه الليلة التي هي خير من ألف شهر فكأنه سبحانه يقول اقضوا وطركم من
نساءكم ليلة الصيام ولا يشغلكم ذلك عن ابتغاء ما كتب الله لكم من هذه الليلة التي فضلكم الله بها والله أعلم
أهـ { تحفة المودود صـ 3 }
قوله تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون }(1/253)
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد فان العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والمحبوب قد يأتي بالمكروه لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب فان الله يعلم منها مالا يعلمه العبد وأوجب له ذلك أمورا منها أنه لا انفع له من امتثال الأمر وان شق عليه في الابتداء لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح وان كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهى وان هويته نفسه ومالت إليه وإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب وخاصة العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبه من الألم العظيم والشر الطويل فنظر الجاهل لا يجاوز المباديء إلى غاياتها والعاقل الكيس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل فكلما دعنه لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفض إلى العافية والشفاء وكلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤول اعند الغاية فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك وإذا قوى يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة(1/254)
ومن أسرار هذه الآية إنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له لما يرجو فيه من حسن العاقبة ومنها أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم فلعل مضرته وهلاكه فيه وهولا يعلم فلا يختار على ربه شيئا بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك ومنها انه إذا فوض إلى ربه ورضى بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه ومنها أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منه في عقبة وينزل في أخرى ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه فلو رضى باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه لأنه مع اختياره لنفسه ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في
المقدور العطف عليه اللطف به فيصير بين عطفه ولطفه فعطفه يقيه ما يحذره ولطفه يهون عليه ما قدره إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة فان السبع لا يرضى بأكل الجيف
أهـ { الفوائد صـ 128 }
قوله تعالى { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} البقرة 226 227 فختم حكم الفيء الذي هو الرجوع والعود إلى رضى الزوجة والإحسان إليها بأنه غفور رحيم يعود على عبده بمغفرته ورحمته إذا رجع إليه والجزاء من جنس العمل فكما رجع إلى التي هي أحسن رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم فإن الطلاق لما كان لفظا يسمع ومعنى يقصد عقبه باسم السميع للنطق به العليم بمضمونه(1/255)
أهـ { جلاء الأفهام 109 }
قوله تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو اكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم البقرة 235
فلما ذكر سبحانه وتعالى التعريض بخطبة المرأة الدال على أن المعرض في قلبه رغبة فيها ومحبة لها وأن ذلك يحمله على الكلام الذي يتوصل به إلى نكاحها ورفع الجناح عن التعريض وانطواء القلب على ما فيه من الميل والمحبة ونفي مواعدتهن سرا فقيل هو النكاح والمعنى لا تصرحوا لهن بالتزويج إلا أن تعرضوا تعريضا وهو القول المعروف وقيل هو أن يتزوجها في عدتها سرا فإذا انقضت العدة أظهر العقد ويدل على هذا قوله ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله وهو انقضاء العدة ومن رجح القول الأول قال دلت الآية على إباحة التعريض بنفي الجناح وتحريم التصريح بنفي المواعدة سرا وتحريم عقد النكاح قبل انقضاء العدة فلو كان معنى مواعدة السر هو إسرار العقد كان تكرارا ثم عقب ذلك بقوله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه أن تتعدوا ما حد لكم فإنه مطلع على ما تسرون وما تعلنون ثم قال واعلموا أن الله غفور حليم لولا مغفرته وحلمه لعنتم غاية العنت فإنه سبحانه مطلع عليكم يعلم ما في قلوبكم ويعلم ما تعملون فإن وقعتم في شيء مما نهاكم عنه فبادروا إليه بالتوبة والاستغفار فإنه الغفور الحليم
وهذه طريقة القرآن يقرن بين أسماء الرجاء وأسماء المخافة كقوله تعالى اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور(1/256)
رحيم المائدة 98 وقال أهل الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور سبأ 34 لما صاروا إلى كرامته بمغفرته ذنوبهم وشكره إحسانهم قالوا إن ربنا لغفور شكور وفي هذا معنى التعليل أي بمغفرته وشكره وصلنا إلى دار كرامته فإنه غفر لنا السيئات وشكر لنا الحسنات وقال تعالى ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما النساء 147 فهذا جزاء لشكرهم أي إن شكرتم ربكم شكركم وهو عليم بشكركم لا يخفى عليه من شكره ممن كفره
والقرآن مملوء من هذا والمقصود التنبيه عليه وأيضا فإنه سبحانه يستدل بأسمائه على توحيده ونفي الشرك عنه ولو كانت أسماء لا معنى لها لم تدل على ذلك كقول هارون لعبدة العجل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن طه 90
وقوله سبحانه في القصة إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما طه 98
وقوله تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم البقرة 163
وقوله سبحانه في آخر سورة الحشر هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون الحشر 22 23 فسبح نزه نفسه عن شرك المشركين به عقب تمدحه بأسمائه الحسنى المقتضية لتوحيده واستحالة إثبات شريك له
أهـ { جلاء الأفهام صـ109 ـ 110 }(1/257)
قوله تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون } فصدر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب وهو الاستفهام المتضمن لمعنى الطلب وهو أبلغ في الطلب من صيغة الأمر والمعنى هل أحد يبذل هذا القرض الحسن فيجازى عليه أضعافا مضاعفة وسمي ذلك الإنفاق قرضا حسنا حثا للنفوس وبعثا لها على البذل لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوعت له نفسه بذله وسهل عليه إخراجه فإن علم أن المستقرض ملي وفي محسن كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه وينميه له ويثمره حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجرا آخر من غير جنس القرض وأن ذلك الأجر حظ عظيم وعطاء كريم فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشح أو عدم الثقة بالضمان وذلك من ضعف إيمانه ولهذا كانت الصدقة برهانا لصاحبها وهذه الأمور كلها تحت هذه الألفاظ التي تضمنتها الآية فإنه سماه قرضا وأخبر أنه هو المقترض لا قرض حاجة ولكن قرض إحسان إلى المقرض واستدعاء لمعاملته وليعرف مقدار الربح فهو الذي أعطاه ماله واستدعى منه معاملته به ثم أخبر عما يرجع إليه بالقرض وهو الأضعاف المضاعفة ثم أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة وهو الأجر الكريم وحيث جاء هذا القرض في القرآن قيده بكونه حسنا وذلك يجمع أمورا ثلاثة أحدها أن يكون من طيب ماله لا من رديئه وخبيثه الثاني أن يخرجه طيبة به نفسه ثابتة عند بذله ابتغاء مرضاة الله الثالث أن لا يمن به ولا يؤذي فالأول يتعلق بالمال والثاني يتعلق بالمنفق بينه وبين الله والثالث بينه وبين الآخذ
أهـ { طريق الهجرتين 473 }
وقال تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم }(1/258)
وحتى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا }
وهذه الآية كأنها كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرض ومثل سبحانه بهذا المثل إحضارا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التي غيبت في الأرض فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي من الحبة الواحدة فينضاف الشاهد العياني إلى الشاهد الإيماني القرآني فيقوى إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه الآية على سنابل وهي من جموع الكثرة إذ المقام مقام تكثير وتضعيف وجمعها على سنبلات في قوله تعالى وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات فجاء بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير وقوله تعالى والله يضاعف لمن يشاء قيل المعنى والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق بل يختص برحمته من يشاء وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه ولصفات المنفق وأحواله في شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع وقيل والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة واختلف في تفسير الآية فقيل مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة وقيل مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة ليطابق الممثل للممثل به فههنا أربعة أمور منفق ونفقة وباذر وبذر فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه فذكر من شق الممثل المنفق إذ المقصود ذكر حاله وشأنه وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها وذكر من شق الممثل به البذر إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان وهذا كثير في أمثال القرآن بل عامتها ترد على هذا النمط ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها وهما الواسع والعليم فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة(1/259)
ولا يضيق عنها عطاؤه فإن المضاعف واسع العطاء واسع الغنى واسع الفضل ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه ثم قال تعالى الذين
ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون هذا بيان للقرض الحسن ما هو وهو أن يكون في سبيله أي في مرضاته والطريق الموصلة إليه ومن أنفعها سبيل الجهاد وسبيل الله خاص وعام والخاص جزء من السبيل العام وأن لا يتبع صدقته بمن ولا أذى فالمن نوعان أحدهما من بقلبه من غير أن يصرح به بلسانه وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان شهود منة الله عليه في إعطائه المال وحرمان غيره وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه فلله المنة عليه من كل وجه فكيف يشهد قلبه منة لغيره والنوع الثاني أن يمن عليه بلسانه فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأنه أوجب عليه حقا وطوقه منة في عنقه فيقول أما أعطيتك كذا وكذا ويعدد أياديه عنده قال سفيان يقول أعطيتك فما شكرت وقال عبدالرحمن بن زياد كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه وكانوا يقولون إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها وإذا أسديت إليكم صنيعة فلا تنسوها وفي ذلك قيل
وإن امرأ أهدى إلي صنيعة ... وذكرنيها مرة لبخيل
وقيل صنوان من منح سائله ومن ومن منع نائله وضن وحظر الله على عباده المن بالصنيعة واختص به صفة لنفسه لأن من العباد تكدير وتعبير ومن الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير وأيضا فإنه هو المنعم في نفس الأمر والعباد وسائط فهو المنعم على عبده في الحقيقة وأيضا(1/260)
فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يمن عليه ولا تصلح العبودية والذل إلا لله وأيضا فالمنة أن يشهد المعطي أنه هو رب الفضل والإنعام وأنه ولي النعمة ومسديها وليس ذلك في الحقيقة إلا الله وأيضا فالمان بعطائه يشهد نفسه مترفعا على الآخذ مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته ولا ينبغي ذلك للعبد وأيضا فإن المعطي قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى فبقي عوض ما أعطى عند الله فأي حق بقي له قبل الآخذ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلما بينا وادعى أن حقه في قلبه ومن هنا والله أعلم بطلت صدقته بالمن فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله وعوض تلك الصدقة عنده فلم يرض به ولاحظ العوض من الأخذ والمعاملة عنه فمن عليه بما أعطاه أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له فتأمل هذه النصائح من الله لعباده ودلالته على ربوبيته وإلهيته وحده وأنه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته وإلهيته لا إله غيره ولا رب سواه ونبه بقوله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى على أن المن والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه ولم يحصل له مقصود الإنفاق ولو أتى بالواو وقال ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لأوهمت تقييد ذلك بالحال وإذا كان المن والأذى المتراخي مبطلا لأثر الإنفاق مانعا من الثواب فالمقارن أولى وأحرى وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاء فقال لهم أجرهم عند ربهم وقرنه بالفاء في قوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم فإن الفاء الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشرط والجزاء وأنه مستحق بما تضمنه المبتدأ من الصلة أو الصفة(1/261)
فلما كان هنا يقتضي بيان حصر المستحق للجزاء دون غيره جرد الخبر عن الفاء فإن المعنى أن الذي ينفق ماله لله ولا يمن ولا يؤذي هو الذي يستحق الأجر المذكور لا الذي ينفق لغير الله ويمن ويؤذي بنفقته فليس المقام مقام شرط وجزاء بل مقام بيان للمستحق دون غيره وفي الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرا وعلانية فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وجد من ليل أو نهار وعلى أي حالة وجد من سر وعلانية فإنه سبب للجزاء على كل حال فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار ولا نفقة النهار إلى الليل ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر ولا بنفقة السر وقت العلانية فإن نفقته في أي وقت وعلى أي حال وجدت سبب لأحره وثوابه فتدبر هذه الأسرار في القرآن فلعلك لا تظفر بها تمر بك في التفاسير والمنة والفضل لله وحده لا شريك له
ثم قال تعالى قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم فأخبر أن القول المعروف وهو الذي تعرفه القلوب ولا تنكره والمغفرة وهي العفو عمن أساء إليك خير من الصدقة بالأذى فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة فهما نوعان من أنواع الإحسان والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقرونة بما يبطلها ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة ويدخل في المغفرة مغفرته للسائل إذا وجد منه بعض الجفوة والأذى له بسبب رده فيكون عفوه عنه خيرا من أن يتصدق عليه ويؤذيه هذا على المشهور من القولين في الآية والقول الثاني أن المغفرة من الله أي مغفرة لكم من الله بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من صدقة يتبعها أذى وفيها قول ثالث أي مغفرة وعفو من السائل إذا رد وتعذر المسؤول خير من(1/262)
أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى وأوضح الأقوال هو الأول ويليه الثاني والثالث ضعيف جدا لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسؤول لا للسائل الآخذ والمعنى أن قول المعروف له والتجاوز والعفو خير لك من أن تتصدق عليه وتؤذيه ثم ختم الآية بصفتين مناسبتين لما تضمنته فقال والله غني حليم وفيه معنيان أحدهما أن الله غني عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم وإنما الحظ الأوفر لكم في الصدقة فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى فكيف يمن بنفقته ويؤذي مع غنى الله التام عنها وعن كل ما سواه ومع هذا فهو حليم إذ لم يعاجل المان بالعقوبة وفي ضمن هذا الوعيد والتحذير والمعنى الثاني أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة فكيف يؤذي أحدكم بمنه وأذاه مع قلة ما يعطي ونزارته وفقره ثم قال الله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين تضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة وهذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في أول هذه الرسالة فلا حاجة إلى إعادته وقد يقال إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها إلا أنه ليس في الفظ ما يدل على(1/263)
هذا التقييد والسياق يدل على إبطالها به مطلقا وقد يقال تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان فإن الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله ويجاب عن هذا بجوابين أحدهما أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل وهي حال المرائي والمان المؤذي في أن كل واحد منهما يحبط العمل الثاني أن الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل لأنه فعال من الرؤية التي صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيا وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا ومتراخيا وتراخيه أكثر من مقارنته وقوله كالذي ينفق إما أن يكون المعنى كإبطال الذي ينفق فيكون شبه الإبطال بالإبطال أو المعنى لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق وقوله فمثله أي مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته كمثل صفوان وهو الحجر الأملس وفيه قولان أحدهما أنه واحد والثاني جمع صفوة عليه تراب فأصابه وابل وهن المطر الشديد فتركه صلدا وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر بالحجر لشدته وصلاته وعدم الانتفاع به وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدا فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله وفيه معنى آخر وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت(1/264)
سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه كما أن تحت التراب حجرا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه فلا ينبت ولا يخرج شيئا ثم قال ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية إحداهما طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية وهذا حال أكثر المنفقين والآفة الثانية ضعف نفسه وتقاعسها وترددها هل يفعل أم لا فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله والآفة الثانية تزول بالتثبيت فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل وهذا هو صدقها وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة وهي البستان الكثير الأشجار فهو مجتن بها أي مستتر ليس قاعا فارغا والجنة بربوة وهو المكان المرتفع فإنها أكمل من الجنة التي بالوهاد والحضيض لأنها إذا ارتفعت كانت بدرجة الأهوية والرياح وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها فكانت أنضج ثمرا وأطيبه وأحسنه وأكثره فإن الثمار تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الماء والشراب فقال تعالى أصابها وابل وهو المطر الشديد العظيم القدر فأدت ثمرتها وأعطت بركتها فأخرجت ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل(1/265)
فهذا حال السابقين المقربين فإن لم يصبها وابل فطل فهو دون الوابل فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها فتكتفي في إخراج بركتها بالطل وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة وهم درجات عند الله فأصحاب الوابل أعلاهم درجة وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وأصحاب الطل مقتصدوهم فمثل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة بالوابل والطل وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاء ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم فهي زاكية عند الله نامية مضاعفة
واختلف في الضعفين فقيل ضعفا الشيء مثلاه زائدا عليه وضعفه مثله وقيل ضعفه مثلاه وضعفاه ثلاثة أمثاله وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفا زاد مثلا والذي حمل هذا القائل ذلك فراره من استواء دلالة المفرد والتثنية فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه فإذا زاد إلى المثل صار مثلين وهما الضعف فلو قيل لها ضعفان لم يكن فرق بين المفرد والمثنى فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعاف ثلاثة أمثاله مضافة إلى الأصل ومثله وعليه يدل قوله تعالى فآتت أكلها ضعفين أي مثلين وقوله تعالى يضاعف لها العذاب ضعفين أي مثلين ولهذا قال في الحسنات نؤتها أجرها مرتين وأما ما توهموه من استواء دلالة المفرد والتثنية فوهم منشاؤه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل وليس كذلك بل المثل له اعتباران إن اعتبر وحده فهو ضعف وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان والله أعلم واختلف في رافع قوله فطل فقيل هو مبتدأ خبره(1/266)
محذوف أي وطله يكفيها وقيل خبر مبتدأه محذوف فالذي يرويها ويصيبها طل والضمير في أصابها إما أن يرجع إلى الجنة أو إلى الربوة وهما متلازمان ثم قال تعالى أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون قال الحسن هذا مثل قل والله من يعقله من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا وفي صحيح البخاري عن عبيد بن عمير قال سأل عمر يوما أصحاب النبي فيم هم يرون هذه الآيات نزلت أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل الآية قالوا الله أعلم فغضب عمر فقال قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر قم يا ابن أخي ولا تحقر بنفسك قال ابن عباس ضربت مثلا لعمل قال عمر أي عمل قال ابن عباس لعمل قال عمر لرجل عمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله فقوله تعالى أيود أحدكم أخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري وهو ! من النفي والنهي وألطف موقعا كما ترى غيرك يفعل فعلا قبيحا فتقول لا يفعل هذا عاقل لا يفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة وقال تعالى أيود أحدكم بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام كما تقول أيفعل هذا(1/267)
أحد فيه خير وهو أبلغ في الإنكار من أن يقول أيودون وقوله أيود أبلغ في الإنكار من لو قيل أيريد لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها وقوله تعالى أن تكون له جنة من نخيل وأعناب خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعا فإن منهما القوت والغذاء والدواء والشراب والفاكهة والحلو والحامض ويؤكلان رطبا يابسا منافعهما كثيرة جدا وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما فرجحت طائفة النخيل ورجحت طائفة العنب وذكرت كل طائفة حججا لقولها فذكرناها في غير هذا الموضع وفصل الخطاب أن هذا يختلف باختلاف البلاد فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر فالأرض التي يكون فيها سلطان النخيل لا يكون العنب بها طائلا ولا كثيرا لأنه أنما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السبخة فينمو فيها ويكثر وأما النخيل فنموه وكثرته في الأرض الحارة السبخة وهي لا تناسب العنب فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها والله أعلم والمقصود أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها فالجنة المشتملة عليهما من أفضل الجنان ومع هذا فالأنهار تجري تحت هذه الجنة وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها ومع ذلك فلم تعدم شيئا من أنواع الثمار المشتهاة بل فيها من كل الثمرات ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب و فيها من كل الثمرات ونظير هذا قوله تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما(1/268)
بنخل وجعلنا بينهما زرعا إلى قوله تعالى وكان له ثمر وقد قيل إن الثمار هنا وفي آية البقرة 266 المراد بها المنافع والأموال والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها لقوله هنا له فيها من كل الثمرات ثم قال تعالى فأصابها أي الجنة إعصار فيه نار فاحترقت وفي وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها وما ذلك إلا ثمار الجنة ثم قال تعالى وأصابه الكبر هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته وتعلق قلبه بها من وجوه أحدها أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها الثاني أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه الثالث أن له ذرية فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته الرابع أنهم ضعفاء فهم كل عليه لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم الخامس أن نفقتهم عليه لضعفهم وعجزهم وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة لخطرها في نفسها وشدة حاجته وذريته إليها فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار وهي الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيه نار مرت بتلك الجنة فأحرقتها وصيرتها رمادا فصدق والله الحسن هذا مثل قل من يعقله من الناس ولهذا نبه سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعالى كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه(1/269)
فهكذا العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده من ذكر مجرد الطبقات لم نذكرها ولكنها من أهم المهم والله المستعان الموفق لمرضاته فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية ولهذا استحق اسم الجهل فكل من عصى الله فو جاهل
فإن قيل الواو في قوله تعالى وأصابه الكبر واو الحال أم واو العطف وإذا كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها قلت فيه وجهان أحدهما أنه واو الحال اختاره الزمخشري والمعنى أيود أحدكم أن تكون له جنة شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته والثاني أن تكون للعطف على المعنى فإن فعل التمني وهو قوله أيود أحدكم لطلب الماضي كثيرا فكان المعنى أيود لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر فجرى عليها ما ذكر وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان بالصفوان الذي عليه التراب فإنه لم ينبت شيئا أصلا بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصا بنيته لله ثم عرض له ما أبطل ثوابه بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهرها ثم(1/270)
سلط عليها الإعصار الناري فأحرقها فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ثم احترق والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورحمة ثم قال يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون أضاف سبحانه الكسب إليهم وإن كان هو الخالق لأفعالهم لأنه فعلهم القائم بهم وأسند الإخراج إليه لأنه ليس فعلا لهم ولا هو مقدور لهم فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف مفعوله الذي لا قدرة لهم عليه إليه ففي ضمنه الرد على من سوى بين النوعين وسلب قدرة العبد وفعله وتأثيره عنها بالكلية وخص سبحانه هذين النوعين وهما الخارج من الأرض والحاصل بكسب التجارة دون غيرهما من المواشي إما بحسب الواقع فإنهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما وإما لأنهما أصول الأموال وما عداهما فعنهما يكون ومنهما ينشأ فإن الكسب تدخل فيه التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة والخارج من الأرض يتناول حبها وثمارها وركازها ومعدنها وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض فكان ذكرهما أهم ثم قال ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء للفقير ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم بل عن اتفاق إذا كان هو الحاضر إذ ذاك أو كان ماله من جنسه فإن هذا لم يتيمم الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما من الله عليه وموقع(1/271)
قوله منه تنفقون موقع الحال أي لا تقصدوه منفقين منه ثم قال ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه أي لو كنتم أنتم المستحقين له وبذل لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولهم أغمض فلان عن بعض حقه ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر وحقيقته من إغماض الجفن فكأن الرائي لكراهته له لا يملأ عينه منه بل يغمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضا ومنه قول الشاعر
لم يفتنا بالوتر قوم واللضي ... م رجال يرضون بالإغماض
وفيه معنيان أحدهما كيف تبذلون لله وتهدون له مالا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له والله أحق من يخير له خيار الأشياء وأنفسها والثاني كيف تجعلون له ما تكروهو لأنفسكم وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما فقال واعلموا أن الله غني حميد فغناه وحمده يأبى قبول الرديء فإن قبل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها وأما الغني عنه الشريف القدر الكامل الأوصاف فإنه لا يقبله ثم قال تعالى الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل والداعي إلى البذل والإنفاق وبيان ما يدعوه إليه داعي البخل وما يدعو إليه داعي الإنفاق وبيان ما يدعو به داعي(1/272)
الأمرين فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم وهذا هو الداعي الغالب على الخلق فإنه يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه داعيا يقول له متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه وإمساكه خير لك حتى لا تبقى مثل الفقير فغناك خير لك من غناه فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا البخل فهذا وعده وهذا أمره وهو الكاذب في وعده الغار الفاجر في أمره فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون فإنه يدلي من يدعوه بغروره ثم يورده شر الموارد كما قال
دلاهم بغرور ثم أوردهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار
هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه ولا محبة في بقائه غنيا بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه فيستوجب منه الحرمان وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرةفهذا وعد الله وذاك وعد الشيطان فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء وهو الواسع العليم وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الإسمين فإنه واسع العطاء عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله فيعطي هذا بفضله ويمنع هذا بعدله وهو بكل شيء عليم فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده وتلك الأمثال نضربها للناس وما
يعقلها إلا العالمون وتأمل ختم هذه السورة التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام الأغنياء وأحوالهم وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام(1/273)
القسم الأول محسن وهم المتصدقون فذكر جزاءهم ومضاعفته وما لهم في قرض أموالهم للمليء الوفي ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد استوائها وكمالها من المن والأذى وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداء من الرياء ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأطيبها ولا يتيمموا أردأها وخبيثها ثم حذرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش وأخبر أن استجابتهم لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم وأخبر أن هذا من حكمته التي يؤتيها من يشاء من عباده وأن من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا أوتي ما هو خير وأفضل من الدنيا كلها لأنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة فقال تعالى قل متاع الدنيا قليل وقال تعالى ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فدل على أن ما يؤتيه عبده من حكمته خير من الدنيا وما عليها ولا يعقل هذا كل أحد بل لا يعقله إلا من له لب وعقل ذكي فقال تعالى وما يذكر إلا أولو الألباب ثم أخبر أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من نذر فإنه يعلمه فلا يضيع لديه بل يعلم ما كان لوجهه ويكل جزاء من عمل لغيره إلى من عمل له فإنه ظالم لنفسه وما له من نصير ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم وأنه يثيبهم عليها إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون(1/274)
خالصة لوجهه فقال إن تبدوا الصدقات فنعماهي أي فنعم شيء هي وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر بها الإخفاء فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها فلا يؤخر صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر وهذه كانت حال الصحابة ثم قال وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة ولم يقل وإن تخفوها فهو خير لكم فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش وبناء قنطرة وإجراء نهر أو غير ذلك وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد الستر عليه وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءاة وطلبهم المحمدة من الناس وكان إخفاؤها للفقير خيرا من إظهارها بين الناس ومن هذا مدح النبي صدقة السر وأثنى على فاعلها وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم فإنه بما تعملون خبير ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما نفعه لأنفسهم يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها وإن نفقة المؤمنين إنما تكون ابتغاء وجهه خالصا
لأنها صادرة عن إيمانهم وأن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة ولا يظلم منها مثقال ذرة وصدر هذا الكلام بأن الله هو الهادي الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته وأنه ليس على رسوله هداهم بل عليه إبلاغهم وهو سبحانه الذي يوفق من يشاء لمرضاته(1/275)
ثم ذكر المصرف الذي توضع فيه الصدقة فقال تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا فوصفهم بست صفات إحداها الفقر الثانية حبسهم أنفسهم في سبيله تعالى وجهاد أعدائه ونصر دينه وأصل الحصر المنع فمنعوا أنفسهم من تصرفها في أشغال الدنيا وقصروها على بذلها لله في سبيله الثالثة عجزهم عن الأسفار للتكسب والضرب في الأرض هو السفر قال تعالى علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وقال تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الرابعة شدة تعففهم وهو حسن صبرهم وإظهارهم الغنى حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من تعففهم وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم الخامسة أنهم يعرفون بسيماهم وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم الله بها وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنهم أغنياء لأن الجاهل له ظاهر الأمر والعارف هو المتوسم المتفرس الذي يعرف الناس بسيماهم فالمتوسمون خواص المؤمنين كما قال تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين السادسة تركهم مسألة الناس فلا
يسألونهم والإلحاف هو الإلحاح والنفي متسلط عليهما معا أي لا يسألون ولا يلحفون فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف وهذا كقوله على لاحب لا يهتدي لمناره أي ليس فيه منار فيهتدي به وفيه كالتنبيه على أن المذموم من السؤال هو سؤال الإلحاف فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم فهذه ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غير حقيقته وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها ومن يعرفهم أعززه والله يختص بتوفيقه من يشاء فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم(1/276)
القسم الثاني الظالمون وهم ضد هؤلاء وهم الذين يذبحون المحتاج المضطر فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له وهم أهل الربا فذكرهم تعالى بعد هذا فقال يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم والمعلق على شرط منتف عند انتفائه ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده وهي محاربة المرابي لله ورسوله فقال تعالى فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ففي ضمن هذا الوعيد أن المرابي محارب لله ورسوله قد آذنه الله بحربه ولم يجىء هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا وقطع الطريق والسعي في الأرض بالفساد لأن كل واحد منهما مفسد في الأرض قاطع الطريق على الناس هذا بقهره لهم وتسلطه عليهم وهذا بامتناعه من
تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله وآذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله ثم قال وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه وقد عاقدتم عليه فإنما لكم رؤوس أموالكم لا تزدادون عليها فتظلمون الآخذ ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة وإن تصدقتم عليه وابرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم فإن أبت نفوسكم وشحت بالعدل الواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوما ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه فذكر سبحانه المحسن وهو المتصدق ثم عقبه بالظالم وهو المرابي(1/277)
ثم ذكر العادل في آية التداين فقال تعالى يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين الآية ولولا أن هذه الآية تستدعي سفرا وحدها لذكرت بعض تفسيرها والغرض إنما هو التنبيه والإشارة وقد ذكر أيضا العادل وهو آخذ رأس ماله من غريمه لا بزيادة ولا نقصان ثم ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة التي هي من كنز تحت عرشه والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابا مفردا والمقصود ذكر طبقات الخلائق في الدار الآخرة ولنعد إلى المقصود فإن هذا من سعي القلم ولعله أهم مما نحن بصدده فهذه الطبقات الأربع من طبقات الأمة هم أهل الإحسان والنفع المتعدي وهم العلماء وأئمة العدل وأهل الجهاد وأهل الصدقة وبذل الأموال في مرضاة الله فهؤلاء ملوك الآخرة وصحائف
حسناتهم متزايدة تملى فيها الحسنات وهم في بطون الأرض ما دامت آثارهم في الدنيا فيا لها من نعمة ما أجلها وكرامة ما أعظمها يختص الله بها من يشاء من عباده
الطبقة الثامنة من فتح الله له بابا من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة والحج والعمرة وقراءة القرآن والصوم والاعتكاف والذكر ونحوها مضافا إلى أداء فرائض الله عليه فهو جاهد في تكثير حسناته وإملاء صحيفته وإذا عمل خطيئة تاب إلى الله منها فهذا على خير عظيم وله ثواب أمثاله من أعمال الآخرة ولكن ليس له إلا عمله فإذا مات طويت صحيفته فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضا عند الله(1/278)
الطبقةالتاسعة طبقة أهل النجاة وهي طبقة من يؤدي فرائض الله ويترك محارم الله مقتصرا على ذلك لا يزيد عليه ولا ينقص منه فلا يتعدى إلى ما حرم الله عليه ولا يزيد على ما فرض عليه هذا من المفلحين بضمان رسول الله لمن أخبره بشرائع الإسلام فقال والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال أفلح إن صدق وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على الله تكفير سيئاتهم إذا أدوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه قال تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما وصح عنه أنه قال الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما لم تغش كبيرة فإن غشي أهل هذه الطبقة كبيرة وتابوا منها توبة نصوحا لم يخرجوا من طبقتهم فكانوا بمنزلة من لا ذنب له فتكفير الصغائر يقع بشيئين أحدهما الحسنات الماحية والثاني اجتناب الكبائر وقد نص عليها سبحانه وتعالى في كتابه فقال تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات وقال تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
الطبقة العاشرة طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم وغشوا كبائر ما نهى الله عنه ولكن رزقهم الله التوبة النصوح قبل الموت فماتوا على توبة صحيحة فهؤلاء ناجون من عذاب الله إما قطعا عند قوم وإما رجاء وظنا عند آخرين وهم موكولون إلى المشيئة ولكن نصوص القرآن والسنة تدل على نجاتهم وقبول توبتهم وهو وعد وعدهم الله إياه والله لا يخلف الميعاد فإن قيل فما الفرق بين أهل هذه الطبقة والتي قبلها فإن الله إذا كفر عنهم سيئاتهم وأثبت لهم بكل سيئة حسنة كانوا قبلهم أو أرجح قيل قد تقدم الكلام على هذه المسألة بما فيه كفاية فعليك بمعاودته هناك وكيف يستوي عند الله من أنفق عمره في طاعته ولم يغش كبيرة(1/279)
ومن لم يدع كبيرة إلا ارتكبها وفرط في أوامره ثم تاب فهذا غايته أن تمحى سيئاته ويكون لا له ولا عليه وأما أن يكون هو من قبله سواء أو أرجح منه فكلا الطبقةالحادية عشرة
طبقة أقوام خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فعملوا حسنات وكبائر ولقوا الله مصرين عليها غير تائبين منها لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم فإذا وزنت بها ورجحت كفة الحسنات فهؤلاء أيضا ناجون فائزون قال تعالى والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون قال حذيفة وعبدالله بن مسعود وغيرهما من الصحابة يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف وهذه الموازنة تكون بعد قصاص واستيفاء المظلومين حقوقهم من حسناته فإذا بقي شيء منها وزن هو وسيئاته
أهـ { طريق الهجرتين صـ 474 ـ صـ 494 }
سورة آ ل عمران
قوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم }
التوحيد تنزيه الله عز وجل عن الحدث وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون بما أشاروا به في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب بالعلل
قلت التوحيد أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى قال تعالى لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال هود لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال صالح لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال شعيب لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت(1/280)
فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل ولهذا قال النبي لرسوله معاذ ابن جبل رضي الله عنه وقد بعثه إلى اليمن إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وحده فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة وذكر الحديث وقال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم
فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال النبي من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة فهو أول واجب وآخر واجب فالتوحيد أول الأمر وآخره
قوله التوحيد تنزيه الله عن الحدث هذا الحد لا يدل على التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وينجو به العبد من النار ويدخل به الجنة ويخرج من الشرك فإنه مشترك بين جميع الفرق وكل من أقر بوجود الخالق سبحانه أقر به فعباد الأصنام والمجوس والنصارى واليهود والمشركون على اختلاف نحلهم كلهم ينزهون الله عن الحدث ويثبتون قدمه حتى أعظم الطوائف على الإطلاق شركا وكفرا وإلحادا وهم طائفة الاتحادية فإنهم يقولون هو الوجود المطلق وهو قديم لم يزل وهو منزه عن الحدث ولم تزل المحدثات تكتسي وجوده تلبسه وتخلعه
والفلاسفة الذين هم أبعد الخلق عن الشرائع وما جاءت به الأنبياء يثبتون واجب الوجود قديما منزها عن الحدث
والمشركون عباد الأصنام الذين يعبدون معه آلهة أخرى يثبتون قديما منزها عن الحدث
فالتنزيه عن الحدث حق لكن لا يعطي إسلاما ولا إيمانا ولا يدخل في شرائع الأنبياء ولا يخرج من نحل أهل الكفر ومللهم ألبتة وهذا القدر لا يخفى على شيخ الإسلام ومحله من العلم والمعرفة محله(1/281)
ومع هذا فقد سئل سيد الطائفة الجنيد عن التوحيد فقال هو إفراد القديم عن المحدث والجنيد أشار إلى أنه لا تصح دعوى التوحيد ولا مقامه ولا حاله ولا يكون العبد موحدا إلا إذا أفرد القديم عن المحدث فإن كثيرا
ممن ادعى التوحيد لم يفرده سبحانه من المحدثات فإن من نفى مباينته لخلقه فوق سمواته على عرشه وجعله في كل مكان بذاته لم يفرده عن المحدث بل جعله حالا في المحدثات مخالفا لها موجودا فيها بذاته وصوفية هؤلاء وعبادهم هم الحلولية الذين يقولون إن الله عز وجل يحل بذاته في المخلوقات وهم طائفتان طائفة تعم الموجودات بحلوله فيها وطائفة تخص به بعضها دون بعض
قال الأشعري في كتاب المقالات هذه حكاية قول قوم من النساك وفي الأمة قوم ينتحلون النسك يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا ندري لعله ربنا
قلت وهذه الفرقة طائفتان إحداهما تزعم أنه سبحانه يحل في الصورة الجميلة المستحسنة والثانية تزعم أنه سبحانه يحل في الكمل من الناس وهم الذين تجردت نفوسهم عن الشهوات واتصفوا بالفضائل وتنزهوا عن الرذائل والنصارى تزعم أنه حل في بدن المسيح وتدرع به والاتحادية تزعم أنه وجود مطلق أكتسته الماهيات فهو عين وجودها
فكل هؤلاء لم يفردوا القديم عن المحدث
فصل وهذا الإفراد الذي أشار إليه الجنيد نوعان أحدهما إفراد في
الاعتقاد والخبر وذلك نوعان أيضا أحدهما إثبات مباينة الرب تعالى للمخلوقات وعلوه فوق عرشه من فوق سبع سموات كما نطقت به الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها وأخبرت به جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم والثاني إفراده سبحانه بصفات كماله وإثباتها له على وجه التفصيل كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسله منزهة عن التعطيل والتحريف والتمثيل والتكييف والتشبيه بل تثبت له سبحانه(1/282)
حقائق الأسماء والصفات وتنفي عنه فيها مماثلة المخلوقات إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وفي هذا النوع يكون إفراده سبحانه بعموم قضائه وقدره لجميع المخلوقات أعيانها وصفاتها وأفعالها وأنها كلها واقعة بمشيئته وقدرته وعلمه وحكمته فيباين صاحب هذا الإفراد سائر فرق أهل الباطل من الاتحادية والحلولية والجهمية الفرعونية الذين يقولون ليس فوق السموات رب يعبد ولا على العرش إله يصلى له ويسجد والقدرية الذين يقولون إن الله لا يقدر على أفعال العباد من الملائكة والإنس والجن ولا على أفعال سائر الحيوانات بل يقع في ملكه مالا يريد ويريد مالا يكون فيريد شيئا لا يكون ويكون شيء بغير إرادته ومشيئته والله سبحانه أعلم
فصل والنوع الثاني من الإفراد إفراد القديم عن المحدث بالعبادة من
التأله والحب والخوف والرجاء والتعظيم والإنابة والتوكل والاستعانة وابتغاء الوسيلة إليه فهذا الإفراد وذلك الإفراد بهما بعثت الرسل وأنزلت الكتب وشرعت الشرائع ولأجل ذلك خلقت السموات والأرض والجنة والنار وقام سوق الثواب والعقاب فتفريد القديم سبحانه عن المحدث في ذاته وصفاته وأفعاله وفي إرادته وحده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والاستعانة والحلف به والنذر له والتوبة إليه والسجود له والتعظيم والإجلال وتوابع ذلك ولذلك كانت عبارة الجنيد عن التوحيد عبارة سادة مسددة
فشيخ الإسلام إن أراد ما أراد أبو القاسم فلا إشكال وإن أراد أن ينزه الله سبحانه عن قيام الأفعال الاختيارية به التي يسميها نفاة أفعاله حلول الحوادث ويجعلون تنزيه الرب تعالى عنها من كمال التوحيد بل هو أصل التوحيد عندهم فكأنه قال التوحيد تنزيه الرب تعالى عن حلول الحوادث(1/283)
وحقيقة ذلك أن التوحيد عندهم تعطيله عن أفعاله ونفيها بالكلية وأنه لا يفعل شيئا ألبتة فإن إثبات فاعل من غير فعل يقوم به ألبتة محال في العقول والفطر ولغات الأمم ولا يثبت كونه سبحانه ربا للعالم مع نفي ذلك أبدا فإن قيام الأفعال به هو معنى الربوبية وحقيقتها ونافى هذه المسألة ناف لأصل الربوبية جاحد لها رأسا
وإن أراد تنزيه الرب تعالى عن سمات المحدثين وخصائص المخلوقين فهو حق ولكنه تقصير في التعبير عن التوحيد فإن إثبات صفات الكمال أصل التوحيد ومن تمام هذا الإثبات تنزيهه سبحانه عن سمات المحدثين وخصائص المخلوقين وقد استدرك عليه الاتحادي في هذا الحد فقال شهود التوحيد يرفع الحدوث أصلا ورأسا فلا يكون هناك وجودان قديم ومحدث فالتوحيد هو أن لا يرى مع الوجود المطلق سواه والله سبحانه أعلم
فصل وقد تقسمت الطوائف التوحيد وسمى كل طائفة باطلهم توحيدا
فأتباع أرسطوا وابن سينا والنصير الطوسي عندهم التوحيد إثبات وجود مجرد عن الماهية والصفة بل هو وجود مطلق لا يعرض لشيء من الماهيات ولا يقوم به وصف ولا يتخصص بنعت بل صفاته كلها سلوب وإضافات فتوحيد هؤلاء هو غاية الإلحاد والجحد والكفر وفروع هذا التوحيد إنكار ذات الرب والقول بقدم الأفلاك وأن الله لا يبعث من في القبور وأن النبوة مكتسبة وأنها حرفة من الحرف كالولاية والسياسة وأن الله لا يعلم عدد الأفلاك ولا الكواكب ولا يعلم شيئا من الموجودات المعينة ألبتة وأنه لا يقدر على قلب شيء من أعيان العالم ولا شق الأفلاك ولا خرقها وأنه لا حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي ولا جنة ولا نار فهذا توحيد هؤلاء
وأما الاتحاديه فالتوحيد عندهم أن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه(1/284)
وأنه سبحانه هو عين وجود كل موجود وحقيقته وماهيته وأنه آية كل شيء وله فيه آية تدل على أنه عينه وهذا عند محققيهم من خطإ التعبير بل هو نفس الآية ونفس الدليل ونفس المستدل ونفس المستدل عليه فالتعدد بوجود اعتبارات وهمية لا بالحقيقة والوجود فهو عندهم عين الناكح وعين المنكوح وعين الذابح وعين المذبوح وعين الآكل وعين المأكول وهذا عندهم هو السر الذي رمزت إليه هوامس الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية كما قاله محققهم وعارفهم ابن سبعين
ومن فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه مؤمنون كاملوا الإيمان عارفون بالله على الحقيقة ومن فروعه أن عباد الأصنام على الحق والصواب وأنهم إنما عبدوا عين الله سبحانه لا غيره ومن فروعه أن الحق أن لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية ولا فرق بين الماء والخمر والزنا والنكاح الكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة وإنما المحجوبون عن هذا السر قالوا هذا حرام وهذا حلال نعم هو حرام عليكم لأنكم في حجاب عن حقيقة هذا التوحيد ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا الطريق على الناس وبعدوا عليهم المقصود والأمر وراء ما جاءوا به ودعوا إليه
وأما الجهمية فالتوحيد عندهم إنكار علو الله على خلقه بذاته واستوائه على عرشه وإنكار سمعه وبصره وقوته وحياته وكلامه وصفاته وأفعاله ومحبته ومحبة العباد له فالتوحيد عندهم هو المبالغة في إنكار التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه(1/285)
وأما القدرية فالتوحيد عندهم هو إنكار قدر الله وعموم مشيئته للكائنات وقدرته عليها ومتأخروهم ضموا إلى ذلك توحيد الجهمية فصار حقيقة التوحيد عندهم إنكار القدر وإنكار حقائق الأسماء الحسنى والصفات العلى وربما سموا إنكار القدر والكفر بقضاء الرب وقدره عدلا وقالوا نحن أهل الوأما الجبرية فالتوحيد عندهم هو تفرد الرب تعالى بالخلق والفعل وأن العباد غير فاعلين على الحقيقة ولا محدثين لأفعالهم ولا قادرين عليها وأن الرب تعالى لم يفعل لحكمة ولا غاية تطلب بالفعل وليس في المخلوقات قوى وطبائع وغرائز وأسباب بل ما ثم إلا مشيئة محضة ترجح مثلا على مثل بغير مرجح ولا حكمة ولا سبب ألبتة
وأما صاحب المنازل ومن سلك سبيله فالتوحيد عندهم نوعان أحدهما غير موجود ولا ممكن وهو توحيد العبد ربه فعندهم
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
والثاني توحيد صحيح وهو توحيد الرب لنفسه وكل من ينعته سواه فهو ملحد فهذا توحيد الطوائف ومن الناس إلا أولئك والله سبحانه أعلم
فصل وأما التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه فوراء ذلك
كله وهو نوعان توحيد في المعرفة والإثبات وتوحيد في المطلب والقصد
فالأول هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعلوه فوق سمواته على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح كما في أول سورة الحديد وسورة طه وآخر سورة الحشر وأول سورة تنزيل السجدة وأول سورة آل عمران وسوة الإخلاص بكمالها وغير ذلك
النوع الثاني مثل ما تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون وقوله قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الآية وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها وأول سورة يونس ووسطها وآخرها وأول سورة الأعراف وآخرها وجملة سورة الأنعام وغالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد
عدل والتوحيد(1/286)
بل نقول قولا كليا إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره فهي حقوق التوحيد ومكملاته وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم ف الحمد لله توحيد رب العالمين توحيد الرحمن الرحيم توحيد مالك يوم الدين توحيد إياك نعبد توحيد وإياك نستعين توحيد اهدنا الصراط المستقيم توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين فارقوا التوحيد ولذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد وشهد له به ملائكته وأنبياؤه ورسله قال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام
فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد والرد على جميع هذه الطوائف والشهادة يبطلان أقوالهم ومذاهبهم وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية
فتضمنت هذه الآية أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به وعبارات السلف في شهد تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار قال مجاهد حكم وقضى وقال الزجاج بين وقالت طائفة أعلم وأخبر وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها(1/287)
فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وقوله وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه فلها أربع مراتب فأول مراتبها علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته وثانيها تكلمه بذلك ونطقه به وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم به مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها وثالثها أن يعلم غيره بما شهد به ويخبره به ويبينه له ورابعها أن يلزمه بمضمونها ويأمره به
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربعة علم الله سبحانه بذلك وتكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه به وأمرهم وإلزامهم به
أما مرتبة العلم فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به قال الله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال النبي على مثلها فاشهد وأشار إلى الشمس
وأما مرتبة التكلم والخبر فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به وإن لم يتلفظ بالشهادة قال تعالى قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم وقال تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم قال النبي عدلت شهادة الزور الإشراك بالله وشهادة الزور هي قول الزور كما قال تعالى واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به وعند نزول هذه الآية قال رسول الله عدلت شهادة الزور الإشراك بالله \ ح \ فسمى قول الزور شهادة وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم فشهادة المرء على نفسه هي إقراره على نفسه وفي الحديث الصحيح في قصة ماعز الأسلمي فلما شهد على نفسه أربع مرات
رجمه رسول الله وقال تعالى قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين(1/288)
وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة كما هو مذهب مالك وأهل المدينة وظاهر كلام أحمد ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك وقد قال ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة والعشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة بل قال أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة الحديث
وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد دخل في الإسلام وشهد شهادة الحق ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة وأنه قد دخل في قوله حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وفي لفظ آخر حتى يقولوا لا إله إلا الله فدل على أن مجرد قولهم لا إله إلا الله شهادة منهم وهذا أكثر من أن تذكر شواهده من الكتاب والسنة فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه والله أعلم
فصل وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان إعلام بالقول وإعلام
بالفعل وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر تارة يعلمه بقوله وتارة بفعله ولهذا كان من جعل دارا مسجدا وفتح بابها لكل من دخل إليها وأذن بالصلاة فيها معلما أنها وقف وأن لم يتلفظ به وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار معلما له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله وكذلك بالعكس وكذلك شهادة الرب
جل جلاله وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة وبفعله تارة أخرى فالقول هو ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه ومما قد علم بالاضطرار أن جميع الرسل أخبروا عن الله أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو وأخبر بذلك وأمر عباده أن يشهدوا به وشهادته سبحانه أن لا إله إلا هو معلومة من جهة كل من بلغ عنه كلامه(1/289)
وأما بيانه وإعلامه بفعله فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة كما يستعمل فيه لفظ الدلالة والإرشاد والبيان فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره كما يبينه الشاهد والمخبر بل قد يكون البيان بالفعل أظهر وأبلغ وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا وكلاما لقيامه مقامه وأدائه مؤداه كما قيل
وقالت له العينان سمعا وطاعة ... وحدرتا بالدر لما يثقب
وقال الآخر
شكا إلي جملي طول السرى ... صبرا جميلي فكلانا مبتلى
وقال الآخر
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني
ويسمى هذا شهادة أيضا كما في قوله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله فهي شهادة بكفرهم وهم شاهدون على أنفسهم بما شهدت به
والمقصود أن الله سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه فإن دلالتها إنما هي بخلقه وجعله ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية فتتطابق شهادة القول وشهادة الفعل كما قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أي أن القرآن حق فأخبر
أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية الكلامية وهذه الشهادة الفعلية قد ذكرها غير واحد من أئمة العربية والتفسير قال ابن كيسان شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو
فصل وأما المرتبة الرابعة وهي الأمر بذلك والإلزام به وإن كان مجرد(1/290)
الشهادة لا يستلزمه لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده به كما قال تعالى وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وقال تعالى وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد وقال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وقال تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر وقال الله سبحانه وتعالى ولا تدع مع الله إلها آخر والقرآن كله شاهد بذلك
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل وإثباتها أظلم الظلم فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الإلهية لغيره وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات كما إذا رأيت رجلا يستفتى أو يستشهد أو يستطب من ليس أهلا لذلك ويدع من هو أهل له فتقول هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب المفتي فلان والشاهد فلان والطبيب فلان فإن هذا أمر منك ونهي
وأيضا فإن الأدلة قد دلت على أنه سبحانه وحده المستحق للعبادة فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم فإذا شهد سبحانه أنه لا إله إلا هو تضمنت شهادته الأمر والإلزام بتوحيده
وأيضا فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية فيقال للجملة الخبرية قضية وحكم وقد حكم فيها بكيت وكيت قال تعالى ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين مالكم كيف تحكمون فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكما وقال في موضع آخر أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون لكن هذا حكم لا الزام الإلزام معه والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو متضمن للإلزام والله سبحانه أعلم(1/291)
فصل وقوله تعالى قائما بالقسط القسط هو العدل فشهد الله سبحانه أنه
قائم بالعدل في توحيده وبالوحدانية في عدله والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب وموافقة الحكمة
فهذا توحيد الرسل وعدلهم إثبات الصفات والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وإثبات القدر والحكم والغايات المطلوبة المحمودة بفعله وأمره لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية الذي هو إنكار الصفات وحقائق الأسماء الحسنى وعدلهم الذي هو التكذيب بالقدر أو نفي الحكم والغايات والعواقب الحميدة التي يفعل الله لأجلها ويأمر وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته يتضمن أمورا
أحدها أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق وإنكارها وجحودها أعظم الظلم على الإطلاق فلا أعدل من التوحيد ولا أظلم من الشرك فهو سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة قولا وفعلا حيث شهد بها وأخبر وأعلم عباده وبين لهم تحقيقها وصحتها وألزمهم بمقتضاها وحكم
به وجعل الثواب والعقاب عليها وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها فالدين كله من حقوقها والثواب كله عليها والعقاب كله على تركها(1/292)
وهذا هو العدل الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة فأوامره كلها تكميل لها وأمر بأداء حقوقها ونواهيه كلها صيانة لها عما يهضمها ويضادها وثوابه كله عليها وعقابه كله على تركها وترك حقوقها وخلقه السموات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها وهي الحق الذي خلقت به وضدها هو الباطل والعبث الذي نزه نفسه عنه وأخبر أنه لم يخلق به السموات والأرض قال تعالى ردا على المشركين المنكرين لهذه الشهادة وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وقال تعالى حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون وقال وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق وقال أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون وقال وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ماخلقناهما إلا بالحق وهذا كثير في القرآن والحق الذي خلقت به السموات والأرض ولأجله هو التوحيد وحقوقه من الأمر والنهي والثواب والعقاب فالشرع والقدر والخلق والأمر والثواب والعقاب قائم بالعدل والتوحيد صادر عنهما وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى قال تعالى حكاية عن نبيه هود إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله فهو يقول الحق ويفعل العدل وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل
لكلماته وهو السميع العليم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل(1/293)
فالصراط المستقيم الذي عليه ربنا تبارك وتعالى هو مقتضى التوحيد والعدل قال تعالى وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فهذا مثل ضربه الله لنفسه وللصنم فهو سبحانه الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم والصنم مثل العبد الذي هو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير
والمقصود أن قوله تعالى قائما بالقسط هو كقوله إن ربي على صراط مستقيم وقوله قائما بالقسط نصب على الحال وفيه وجهان أحدهما أنه حال من الفاعل في شهد الله والعامل فيها الفعل والمعنى على هذا شهد الله حال قيامه بالقسط أنه لا إله إلا هو والثاني أنه حال من قوله هو والعامل فيها معنى النفي أي لا إله إلا هو حال كونه قائمة بالقسط وبين التقديرين فرق ظاهر فإن التقدير الأول يتضمن أن المعنى شهد الله متكلما بالعدل مخبرا به آمرا به فاعلا له مجازيا به أنه لا إله إلا هو فإن العدل يكون في القول والفعل والمقسط هو العادل في قوله وفعله فشهد الله قائما بالعدل قولا وفعلا أنه لا إله إلا هو وفي ذلك تحقيق لكون هذه الشهادة شهادة عدل وقسط وهي أعدل شهادة كما أن المشهود به أعدل شيء(1/294)
وأصحه وأحقه وذكر ابن السائب وغيره في سبب نزول الآية ما يشهد بذلك وهو أن حبرين من أحبار الشأم قدما على النبي فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي قالا له أنت محمد قال نعم وأحمد قال نعم قالا نسألك عن شهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك قال سلاني قالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت شهد الله أنه لا إله إلا هو الآية وإذا كان القيام بالقسط يكون في القول والفعل كان المعنى أنه كان سبحانه يشهد وهو قائم بالعدل عالم به لا بالظلم فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا فإنها تضمنت أنه هو الذي يستحق العبادة وحده دون غيره وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء وأن الذين أشركوا به غيره هم الضالون الأشقياء فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة وجزاء المشركين بالنار كان هذا من تمام موجب الشهادة وتحقيقها وكان قوله قائما بالقسط تنبيها على جزاء الشاهد بها والجاحد لها والله أعلم
فصل وأما التقدير الثاني وهو أن يكون قوله قائما حالا مما بعد إلا
فالمعنى أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل فهو وحده المستحق الإلهية مع كونه قائما بالقسط قال شيخنا وهذا التقدير أرجح فإنه يتضمن أن الملائكة وأولي العلم يشهدون له بأنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط
قلت مراده أنه إذا كان قوله قائما بالقسط حالا من المشهود به فهو كالصفة له فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها كان كلاهما مشهودا به فيكون الملائكة وأولوا العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط كما شهدوا بأنه لا إله إلا هو والتقدير الأول لا يتضمن ذلك فإنه إذا كان التقدير شهد الله قائما بالقسط أنه لا إله إلا هو والملائكة
وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو كان القيام بالقسط حالا من اسم الله وحده(1/295)
وأيضا فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة
فإن قيل فإذا كان حالا من هو فهلا اقترن به ولم فصل بين صاحب الحال وبينها بالمعطوف فجاء متوسطا بين صاحب الحال وبينها
قلت فائدته ظاهرة فإنه لو قال شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة وأولو العلم لأوهم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله قائما بالقسط ولا يحسن العطف لأجل الفصل وليس المعنى على ذلك قطعا وإنما المعنى على خلافه وهو أن قيامه بالقسط مختص به كما أنه مختص بالإلهية فهو وحده الإله المعبود المستحق العبادة وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل
قوله لا إله إلا هو ذكر محمد بن جعفر أنه قال الأولى وصف وتوحيد والثانية رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلا هو ومعنى هذا أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادته هو وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي فيكون شاهدا هو أيضا
وأيضا فالأولى خبر عن الشهادة بالتوحيد والثانية خبر عن نفس التوحيد وختم بقوله العزيز الحكيم فتضمنت الآية توحيده وعدله وعزته وحكمته فالتوحيد يتضمن ثبوت صفات كماله ونعوت جلاله وعدم المماثل له فيها وعبادته وحده لا شريك له والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها وتنزيلها منازلها وأنه لم يخص شيئا منها إلا بمخصص اقتضى ذلك وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة ولا يمنع من يستحق العطاء وإن كان هو الذي جعله مستحقا والعزة تتضمن كمال قدرته وقوته وقهره والحكمة
تتضمن كمال علمه وخبرته وأنه أمر ونهى وخلق وقدر لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد(1/296)
فاسمه العزيز يتضمن الملك واسمه الحكيم يتضمن الحمد وأول الآية يتضمن التوحيد وذلك حقيقة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وذلك أفضل ما قاله رسول الله والنبيون من قبله والحكيم الذي إذا أمر بأمر كان حسنا في نفسه وإذا نهى عن شيء كان قبيحا في نفسه وإذا أخبر بخبر كان صدقا وإذا فعل فعلا كان صوابا وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره وهذا الوصف على الكمال لا يكون إلا لله وحده
فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة الدلالة على وحدانيته المنافية للشرك وعدله المنافي للظلم وعزته المنافية للعجز وحكمته المنافية للجهل والعيب ففيها الشهادة له بالتوحيد والعدل والقدرة والعلم والحكمة ولهذا كانت أعظم شهادة
ولا يقوم بهذه الشهادة على وجهها من جميع الطوائف إلا أهل السنة وسائر طوائف أهل البدع لا يقومون بها فالفلاسفة أشد الناس إنكارا وجحودا لمضمونها من أولها إلى آخرها وطوائف الاتحادية هم أبعد خلق الله عنها من كل وجه وطائفة الجهمية تنكر حقيقتها من وجوه
منها أن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة له واشتياقا إليه وإنابة وعندهم أن الله لا يحب ولا يحب
ومنها أن الشهادة كلامه وخبره عما شهد به وهو عندهم لا يقول ولا يتكلم ولا يشهد ولا يخبر
ومنها أنها تتضمن مباينته لخلقه بذاته وصفاته وعند فرعونيهم أنه لا يباين الخلق ولا يحايثهم وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد
وعند حلوليتهم أنه حال في كل مكان بذاته حتى في الأمكنة التي يستحي من ذكوها فهؤلاء مثبتة الجهمية وأولئك نفاتهم
ومنها أن قيامه بالقسط في أفعاله وأقواله وعندهم أنه لم يقم ولا يقوم به فعل ولا قول ألبتة وأن قوله مخلوق من بعض المخلوقات وفعله هو المفعول المنفصل وأما أن يكون له فعل يكون به فاعلا حقيقة فلا(1/297)
ومنها أن القسط عندهم لا حقيقة له بل كل ممكن فهو قسط وليس في مقدوره ما يكون ظلما وقسطا بل الظلم عندهم هو المحال الممتنع لذاته والقسط هو الممكن فنزه الله سبحانه نفسه على قولهم عن المحال الممتنع لذاته الذي لا يدخل تحت القدرة
ومنها أن العزة هي القوة والقدرة وعندهم لا يقوم به صفة ولا له صفة وقدرة تسمى قدرة وقوة
ومنها أن الحكمة هي الغاية التي يفعل لأجلها وتكون هي المطلوبة بالفعل ويكون وجودها أولى من عدمها وهذا عندهم ممتنع في حقه سبحانه فلا يفعل لحكمة ولا غاية بل لا غاية لفعله ولا أمره وما ثم إلا محض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل
ومنها أن الإله هو الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى وهو الذي يفعل بقدرته ومشيئته وحكمته وهو الموصوف بالصفات والأفعال المسمى بالأسماء التي قامت بها حقائقها ومعانيها وهذا لا يثبته على الحقيقة إلا أتباع الرسل وهم أهل العدل والتوحيد
فصل فالجهمية والمعتزلة تزعم أن ذاته لا تحب ووجهه لا يرى ولا يلتذ
بالنظر إليه ولا تشتاق القلوب إليه فهم في الحقيقة منكرون الإلهية
والقدرية تنكر دخول أفعال الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوان تحت قدرته ومشيئته وخلقه فهم منكرون في الحقيقة لكمال عزته وملكه
والجبرية تنكر حكمته وأن يكون له في أفعاله وأوامره غاية يفعل ويأمر لأجلها فهم منكرون في الحقيقة لحكمته وحمده
وأتباع ابن سينا والنصير الطوسي وفروخهما ينكرون أن يكون ماهية غير الوجود المطلق وأن يكون له وصف ثبوتي زائد على ماهية الوجود فهم في الحقيقة منكرون لذاته وصفاته وأفعاله لا يتحاشون من ذلك
والاتحادية أدهى وأمر فإنهم رفعوا القواعد من الأصل وقالوا ما ثم وجود خالق ووجود مخلوق بل الخلق المشبه هو عين الحق المنزه كل ذلك من عين واحدة بل هو العين الواحدة(1/298)
فهذه الشهادة العظيمة كل هؤلاء هم بها غير قائمين وهي متضمنة لإبطال ما هم عليه ورده كما تضمنت إبطال ما عليه المشركون ورده وهي مبطلة لقول طائفتي الشرك والتعطيل ولا يقوم بهذه الشهادة إلا أهل الإثبات الذين يثبتون لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات ويعبدونه وحده لا يشركون به شيئا
فصل وإذا كانت شهادته سبحانه تتضمن بيانه للعباد ودلالتهم وتعريفهم
بما شهد به وإلا فلو شهد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها لم ينتفعوا ولم يقم عليهم بها الحجة كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها
لم ينتفع بها أحد ولم تقم بها حجة وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة السمع والبصر والعقل
أما السمع فبسمع آياته المتلوة القولية المتضمنة لإثبات صفات كماله ونعوت جلاله وعلوه على عرشه فوق سبع سمواته وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده تكلما وتكليما حقيقة لا مجازا(1/299)
وفي هذا إبطال لقول من قال إنه لم يرد من عباده ما دلت عليه آياته السمعية من إثبات معانيها وحقائقها التي وضعت لها ألفاظها فإن هذا ضد البيان والإعلام ويعود على مقصود الشهادة بالإبطال والكتمان وقد ذم الله من كتم شهادة عنده من الله وأخبر أنه من أظلم الظالمين فإذا كانت عند العبد شهادة من الله تحقق ما جاء به رسوله من أعلام نبوته وتوحيد الرسل وأن إبراهيم وأهل بيته كانوا على الإسلام كلهم وكتم هذه الشهادة كان من أظلم الظالمين كما فعله أعداء رسول الله من اليهود الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبنائهم فكيف يظن بالله سبحانه أنه كتم شهادة الحق التي يشهد بها الجهمية والمعتزلة والمعطلة ولا يشهد بها لنفسه ثم يشهد لنفسه بما يضادها ويناقضها ولا يجامعها بوجه ما سبحانك هذا بهتان عظيم فإن الله سبحانه شهد لنفسه بأنه استوى على العرش وبأنه القاهر فوق عباده وبأن ملائكته يخافونه من فوقهم وأن الملائكة تعرج إليه بالأمر وتنزل من عنده به وأن العمل الصالح يصعد إليه وأنه يأتي ويجيء ويتكلم ويرضى ويغضب ويحب ويكره ويتأذى ويفرح ويضحك وأنه يسمع ويبصر وأنه يراه المؤمنون بأبصارهم يوم لقائه إلى غير ذلك مما شهد به لنفسه وشهد له به رسله وشهدتوشهدت له الجهمية بضد ذلك وقالوا شهادتنا أصح وأعدل من شهادة النصوص فإن النصوص تضمنت كتمان الحق وإظهار خلافه
فشهادة الرب تعالى تكذب هؤلاء أشد التكذيب وتتضمن أن الذي
شهد به قد بينه وأوضحه وأظهره حتى جعله في أعلى مراتب الظهور والبيان وأنه لو كان الحق فيما يقوله المعطلة والجهمية لم يكن العباد قد انتفعوا بما شهد به سبحانه فإن الحق في نفس الأمر عندهم لم يشهد به لنفسه والذي شهد به لنفسه وأظهره وأوضحه فليس يجوز بحق ولا يجوز أن يستفاد منه الحق واليقين(1/300)
وأما آياته العيانية الخلقية والنظر فيها والاستدلال بها فإنها تدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية وآيات الرب هي دلائله وبراهينه التي بها يعرفه العباد وبها يعرفون أسماءه وصفاته وتوحيده وأمره ونهيه فالرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به وهو آياته القولية ويستدلون على ذلك بمفعولاته التي تشهد على صحة ذلك وهي آياته العيانية والعقل يجمع بين هذه وهذه فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة وهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامته للحجة لم يبعث نبيا من الأنبياء إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به قال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وقال تعالى قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير وقال تعالى وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وقال تعالى وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير
حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود عليه السلام حتى قال له قومه يا هود ما جئتنا ببينة ومع هذا فبينته من أظهر البينات وقد أشار إليها بقوله إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون
من دونه فيكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهذا من أعظم الآيات أن رجلا واحدا يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب غير جزع ولا فزع ولا خوار بل واثق مما قاله جازم به قد أشهد الله أولا على براءته من دينهم ومما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه معلم لقومه أنه وليه وناصره وأنه غير مسلطهم عليه(1/301)
ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتها
ثم أكد عليهم ذلك بالاستهانة بهم واحتقارهم وازدرائهم وأنهم لو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه ثم يعاجلونه ولا يمهلونه وفي ضمن ذلك أنهم أضعف وأعجز وأقل من ذلك وأنكم لو رمتموه لانقلبتم بغيظكم مكبوتين مخذولين
ثم قرر دعوته أحسن تقرير وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده وأنه على صراط مستقيم فلا يخذل من توكل عليه وآمن به ولا يشمت به أعدائه ولا يكون معهم عليه فإن صراطه المستقيم الذي هو عليه في قوله وفعله يمنع ذلك ويأباه
وتحت هذا الخطاب أن من صراطه المستقيم أن ينتقم ممن خرج عنه وعمل بخلافه وينزل به بأسه فإن الصراط المستقيم هو العدل الذي عليه الرب تعالى ومنه انتقامه من أهل الشرك والإجرام ونصره أولياءه ورسله على أعدائهم وأنه يذهب بهم ويستخلف قوما غيرهم ولا يضره ذلك شيئا وأنه القائم سبحانه على كل شيء حفظا ورعاية وتدبيرا وإحصاء
فأي آية وبرهان دليل أحسن من آيات الأنبياء وبراهينهم وأدلتهم وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان وأظهرها لهم غاية الإظهار
بقوله وفعله وفي الصحيح عنه أنه قال ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة(1/302)
ومن أسمائه تعالى المؤمن وهو في أحد التفسيرين المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه وشهد لهم بأنهم صادقون بالدلائل التي دل بها على صدقهم قضاء وخلقا فإنه سبحانه أخبر وخبره الصدق وقوله الحق أنه لا بد أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق فقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أي القرآن فإنه هو المتقدم في قوله قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به ثم قال أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حق ووعده أن يرى العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل وهو شهادته سبحانه على كل شيء فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له عليم بتفاصيله وهذا استدلال بأسمائه وصفاته والأول استدلال بقوله وكلماته والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته
فإن قلت قد فهمت الاستدلال بكلماته والاستدلال بمخلوقاته فبين لي كيفية الاستدلال بأسمائه وصفاته فإن ذلك أمر لا عهد لنا به في تخاطبنا وكتبنا
قلت أجل هو لعمر الله كما ذكرت وشأنه أجل وأعلى فإن الرب تعالى هو المدلول عليه وآياته هي الدليل والبرهان
فاعلم أن الله سبحانه في الحقيقة هو الدال على نفسه بآياته فهو الدليل لعباده في الحقيقة بما نصبه لهم من الدلالات والآيات وقد أودع في الفطر التي لم تتنجس(1/303)
بالتعطيل والجحود أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته وأنه الموصوف بكل كمال المنزه عن كل عيب ونقص فالكمال كله والجمال والجلال والبهاء والعزة والعظمة والكبرياء كله من لوازم ذاته يستحيل أن يكون على غير ذلك فالحياة كلها له والعلم كله له والقدرة كلها له والسمع والبصر والإرادة والمشيئة والرحمة والغنى والجود والإحسان والبر كله خاص له قائم به وما خفي على الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه بل لا نسبة لما عرفوه من ذلك إلى ما لم يعرفوه
ومن كماله المقدس اطلاعه على كل شيء وشهادته عليه بحيث لا يغيب عنه وجه من وجوه تفاصيله ولا ذرة من ذراته باطنا وظاهرا ومن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به وأن يعيدوا معه غيره وأن يجعلوا معه إلها آخر وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه ثم ينصره على ذلك ويؤيده ويعلي كلمته ويرفع شأنه ويجيب دعوته ويهلك عدوه ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة ما تعجز عن مثله قوى البشر وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر ساع في الأرض بالفساد
ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء وقدرته على كل شيء وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء ومن ظن ذلك به وجوزه عليه فهو من أبعد الخلق من معرفته وإن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة
والقرآن مملوء من هذه الطريق وهي طريق الخاصة بل خاصة الخاصة هم الذين يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله
وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك فيبديه ويعبده لمن له فهم وقلب واع عن الله قال الله تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل(1/304)
لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين أفلا تراه كيف يخبر سبحانه أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه وقال تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ههنا انتهى جواب الشرط ثم أخبر خبرا جازما غير متعلق أنه يمحو الله الباطل ويحق الحق وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره ولا عرفه كما ينبغي ولا عظمه كما يستحق فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة وهذا في القرآن كثير جدا يستدل بكماله المقدس وأوصافه وجلاله على صدق رسله وعلى وعده ووعيده ويدعو عباده إلى ذلك كما يستدل بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك كما في قوله هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون وأضعاف أضعاف ذلك في القرآن
ويستدل سبحانه بأسمائه وصفاته على بطلان ما نسب إليه من الأحكام والشرائع الباطلة وأن كماله المقدس يمنع من شرعها كقوله وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون وقوله عقيب ما نهى عنه وحرمه من الشرك والظلم والفواحش والقول عليه بلا علم كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها فأعلمك أن ما كان سيئة في نفسه فهو يكرهه وكماله يأبى أن يجعله شرعا له ودينا فهو سبحانه يدل عباده بأسمائه وصفاته على ما يفعله ويأمر به وما يحبه ويبغضه ويثيب عليه ويعاقب عليه ولكن هذه الطريق لا يصل إليها(1/305)
إلا خاصة الخاصة فلذلك كانت طريقة الجمهور الدلالات بالآيات المشاهدة فإنها أوسع وأسهل تناولا والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض ويرفع درجات من يشاء وهو العليم الحكيم
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه مالم يجتمع في غيره فإنه هو الدعوة والحجة وهو الدليل والمدلول عليه وهو الشاهد والمشهود له وهو الحكم والدليل وهو الدعوة والبينة قال الله تعالى أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه أي من ربه وهو القرآن وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله على رسوله يكفي عن كل آية ففيه الحجة والدلالة على أنه من الله وأن الله سبحانه أرسل به رسوله وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة وينجبه من العذاب ثم قال قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض فإذا كان الله سبحانه عالما بجميع الأشياء كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها فإنها شهادة بعلم تام محيط بالمشهود به فيكون الشاهد به أعدل الشهداء وأصدقهم وهو سبحانه يذكر علمه عند شهادته وقدرته وملكه عند مجازاته وحكمته عند خلقه وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسوله وحلمه عند ذكر ذنوب عباده ومعاصيهم وسمعه عند ذكر دعائهم ومسألته وعزته وعلمه عند قضائه وقدره
فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابه وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب
فصل ومن هذا قوله تعالى ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله
شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب فاستشهد على رسالته(1/306)
بشهادة الله له ولا بد أن تعلم هذه الشهادة وتقوم بها الحجة على المكذبين له وكذلك قوله قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وكذلك قوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا وكذلك قوله يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين وقوله تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين وقوله والله يعلم أنك لرسوله وقوله محمد رسول الله فهذا كله شهادة منه لرسوله قد أظهرها وبينها وبين صحتها غاية البيان بحيث قطع العذر بينه وبين عباده وأقام الحجة عليهم فكونه سبحانه شاهدا لرسوله معلوم بسائر أنواع الأدلة عقليها ونقليها وفطريها وضروريها ونظريها
ومن نظر في ذلك وتأمله علم أن الله سبحانه شهد لرسوله أصدق الشهادة وأعدلها وأظهرها وصدقه بسائر أنواع التصديق بقوله الذي أقام البراهين على صدقه فيه وبفعله وإقراره وبما فطر عليه عباده من الإقرار بكماله وتنزيهه عن القبائح وعما لا يليق به وفي كل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة ويزيل به العذر ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة والظفر والتأييد ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال والعقوبات المعجلة الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا فيظهره ظهورين ظهورا بالحجة والبيان والدلالة وظهورا بالنصر والظفر والغلبة والتأييد حتى يظهره على مخالفيه ويكون منصورا
وقوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون فما فيه من الخبر عن علم الله الذي لا يعلمه غيره من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله كما قال في الآية الأخرى أم يقولون افتراه قل فاتوا(1/307)
بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا انما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون وليس المراد مجرد الإخبار بأنه أنزله وهو معلوم له كما يعلم سائر الأشياء فإن كل شيء معلوم له من حق وباطل وإنما المعنى أنزله مشتملا على علمه فنزوله مشتملا على علمه هو آية كونه من عنده وأنه حق وصدق ونظير هذا قوله قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض ذكر ذلك سبحانه تكذيبا وردا على من قال افتراه
فصل ومن شهادته أيضا ما أودعه في قلوب عباده من التصديق الجازم
واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه ووحيه فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته بل ذلك يوقع أعظم الريب والشك وتدفعه الفطر والعقول السليمة كما تدفع الفطر التي فطر عليها الحيوان الأغذية الخبيثة الضارة التي لا تغذى كالأبوال والأنتان فإن الله سبحانه فطر القلوب على قبول الحق والانقياد له والطمأنينة به والسكون إليه ومحبته وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه والريبة به وعدم السكون إليه ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه ولما سكنت إلا إليه ولا اطمأنت إلا به ولا أحبت غيره ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن فإن كل من تدبره أوجب له تدبره علما ضروريا ويقينا جازما أنه حق وصدق بل أحق كل حق وأصدق كل صدق وأن الذي جاء به أصدق خلق الله وأبرهم وأكملهم علما وعملا ومعرفة كما قال تعالى أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فلو رفعت الأقفال عن القلوب(1/308)
لباشرتها حقائق القرآن واستنارت فيها مصابيح الإيمان وعلمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية من الفرح والألم والحب والخوف أنه من عند الله تكلم به حقا وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فقال لا فقال له وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وقوله ويرى الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به وقوله ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وقوله أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى وقوله ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب يعني أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية بل الله هو الذي يهدي ويضل ثم نبههم على أعظم آية وأجلها وهي طمأنينة قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله فقال الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله أي بكتابه وكلامه ألا بذكر الله تطمئن القلوب فطمأنينة القلوب الصحيحة والفطر السليمة به وسكونها إليه من أعظم الآيات إذ يستحيل في العادة أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل فإن قيل فلم لم يذكر الله سبحانه شهادة رسله مع الملائكة فيقول شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة والرسل وهم أعظم شهادة من أولي العلم
قيل في ذلك عدة فوائد
إحداها أن أولي العلم أعم من الرسل والأنبياء فيدخلون هم وأتباعهم
وثانيها أن في ذكر أولي العلم في هذه الشهادة وتعليقها بهم ما يدل على أنها من موجبات العلم ومقتضايته وأن من كان من أولي العلم فإنه يشهد(1/309)
بهذه الشهادة كما يقال إذا طلع الهلال واتضح فإن كل من كان من أهل النظر يراه وإذا فاحت رائحة ظاهرة فكل من كان من أهل الشم يشم هذه الرائحة قال تعالى وبرزت الجحيم لمن يرى أي كل من له رؤية يراها حينئذ عيانا ففي هذا بيان أن من لم يشهد له الله سبحانه بهذه الشهادة فهو من أعظم الجهال وإن علم من أمور الدنيا مالم يعلمه غيره فهو من أولي الجهل لا من أولي العلم وقد بينا أنه لم يقم بهذه الشهادة ويؤديها على وجهها إلا أتباع الرسل أهل الإثبات فهم أولو العلم وسائر من عداهم أولو الجهل وإن وسعوا القول وأكثروا الجدال
ومنها الشهادة من الله سبحانه لأهل هذه الشهادة أنهم أولو العلم فشهادته لهم أعدل وأصدق من شهادة الجهمية والمعطلة والفرعونية لهم بأنهم جهال وأنهم حشوية وأنهم مشبهة وأنهم مجسمة ونوابت ونواصب فكفاهم أصدق الصادقين لهم بأنهم من أولي العلم إذ شهدوا له بحقيقة ما شهد به لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل واثبتوا له حقيقة هذه الشهادة ومضمونها وخصومهم نفوا عنه حقائقها وأثبتوا له ألفاظها ومجازاتها
فصل وفي ضمن هذه الشهادة الإلهية الثناء على أهل العلم الشاهدين
بها وتعديلها فإنه سبحانه قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته واستشهد بهم جل وعلا على أجل مشهود به وجعلهم حجة على من أنكر هذه الشهادة كما يحتج بالبينة على من أنكر الحق فالحجة قامت بالرسل على الخلق وهؤلاء نواب الرسل وخلفاؤهم في إقامة حجج الله على العباد
فصل وقد فسرت شهادة أولي العلم بالإقرار وفسرت بالتبيين والإظهار
والصحيح أنها تتضمن الأمرين فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام وهم(1/310)
شهداء الله على الناس يوم القيامة قال الله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وقال تعالى هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأخبر أنه جعلهم عدولا خيارا ونوه بذكرهم قبل أن يوجدهم لما سبق في علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة فمن لم يقم بهذه الشهادة علما وعملا ومعرفة وإقرارا ودعوة وتعليما وإرشادا فليس من شهداء الله والله المستعان
قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام اختلف المفسرون هل هو كلام مستأنف أو داخل في مضمون هذه الشهادة فهو بعض المشهود به
وهذا الاختلاف مبني على القراءتين في كسر إن فتحها فالأكثرون على كسرها على الاستئناف وفتحها الكسائي وحده والوجه هو الكسر لأن الكلام الذي قبله قد تم فالجملة الثانية مقررة مؤكدة لمضمون ما قبلها وهذا أبلغ في التقرير وأذهب في المدح والثناء ولهذا كان كسر إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم أحسن من الفتح وكان الكسر في قول الملبي لبيك إن الحمد والنعمة لك أحسن من الفتح
وقد ذكر في توجيه قراءة الكسائي ثلاثة أوجه
أحدها أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين فهي واقعة على أن الدين عند الله الإسلام وهو المشهود به ويكون فتح أنه من قوله أنه لا إله إلا هو على إسقاط حرف الجر أي بأنه لا إله إلا هو وهذا توجيه الفراء وهو ضعيف جدا فإن المعنى على خلافه وأن المشهود به هو نفس قوله أنه لا إله إلا هو فالمشهود به أن وما في حيزها والعناية إلى هذا صرفت وبه حصلت
ولكن لهذا القول مع ضعفه وجه وهو أن يكون المعنى شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام والإسلام هو توحيده سبحانه فتضمنت الشهادة توحيده وتحقيق دينه أنه الإسلام لا غيره(1/311)
الوجه الثاني أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين معا كلاهما مشهود به على تقدير حذف الواو وإرادتها والتقدير وأن الدين عنده الإسلام فتكون جملة استغنى فيها عن حرف العطف بما تضمنت من ذكر المعطوف عليه كما وقع الاستغناء عنها في قوله ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم فيحسن ذكر الواو وحذفها كما حذفت هنا وذكرت في قوله ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم
الوجه الثالث وهو مذهب البصريين أن يجعل أن الثانية بدلا من الولى والتقدير شهد الله أن الدين عند الله الإسلام وقوله أنه لا إله إلا هو توطئة للثانية وتمهيد ويكون هذا من البدل الذي الثاني فيه نفس الأول فإن الدين الذي هو نفس الإسلام عند الله هو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها ولك أن تجعله على هذا الوجه من باب بدل الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد
فإن قيل فكان ينبغي على هذه القراءة أن يقول إن الدين عند الله الإسلام لأن المعنى شهد الله أن الدين عنده الإسلام فلم عدل إلى لفظ الظاهر
قيل هذا يرجح قراءة الجمهور وأنها أفصح وأحسن ولكن يجوز إقامة الظاهر مقام المضمر وقد ورد في القرآن وكلام العرب كثيرا فإن الله تعالى قال واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب وقال واتقوا الله إن الله غفور رحيم وقال تعالى والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين قال ابن عباس افتخر المشركون بآبائهم فقال كل فريق لا دين إلا دين آبائنا وما كانوا عليه فأكذبهم الله تعالى
فقال إن الدين عند الله الإسلام يعني الذي جاء به محمد وهو دين الأنبياء من أولهم إلى آخرهم ليس لله دين سواه ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين(1/312)
وقد دل قوله إن الدين عند الله الإسلام على أنه دين جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه قال أول الرسل نوح فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين وقال إبراهيم وإسماعيل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقال يعقوب لبنيه عند الموت ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك إلى قوله ونحن له مسلمون وقال موسى لقومه إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وقال تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون وقالت ملكة سبأ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين
فالإسلام دين أهل السموات ودين أهل التوحيد من أهل الأرض لا يقبل الله من أحد دينا سواه فأديان أهل الأرض ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان فدين الرحمن هو الإسلام والتي للشيطان اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة ودين المشركين
فهذا بعض ما تضمنته هذه الآية العظيمة من أسرار التوحيد والمعارف ولا تستطل الكلام فيها فإنه أهم من الكلام على كلام صاحب المنازل فلنرجع إلى شرح كلامه وبيان ما فيه
قال وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون إلى ما أشاروا إليه
من هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل
يريد أن التوحيد هو الغاية المطلوبة من جميع المقامات والأعمال والأحوال فغايتها كلها التوحيد وإنما كلام العلماء والمحققين من أهل السلوك كله لقصد تصحيحه وهذا بين من أول المقامات إلى آخرها فإنها تشير إلى تصحيحه وتجريده(1/313)
وقوله وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل يريد أن تجريد التوحيد لا علة معه إذ لو كان معه علة تصحبه لم يجرد فتجرده ينفي عنه العلل بالكلية بخلاف ما سواه من المقامات والأحوال فإن العلل تصحبها وعندهم أن علل المقامات لا تزول بتجريد التوحيد مثاله أن علة مقام التوكل أن يشهد متوكلا ومتوكلا عليه ومتوكلا فيه ويشهد نفس توكله وهذا كله علة في مقام التوكل فإنه لا يصح له مقامه إلا بأن لا يشهد مع الوكيل الحق الذي يتوكل عليه غيره ولا يرى توكله عليه سببا لحصول المطلوب ولا وسيلة إليه
وفيه علة أخرى أدق من هذه عند أرباب الفناء وهي أن المتوكل قد وكل أمره إلى مولاه والتجأ إلى كفايته وتدبيره له والقيام بمصالحه قالوا وهذا في طريق الخاصة عمي عن التوحيد ورجوع إلى الأسباب لأن الموحد قد رفض الأسباب ووقف مع المسبب وحده والمتوكل وإن رفض الأسباب فإنه واقف مع توكله فصار توكله بدلا من تلك الأسباب التي رفضها فهو متعلق بما رفضه
وتجريد التوكل عندهم وحقيقته هو تخليص القلب من علة التوكل وهو أن يعلم أن الله سبحانه فرغ من الأسباب وقدرها وهو سبحانه يسوق المقادير إلى المواقيت فالمتوكل حقيقة عندهم هو من أراح نفسه من كد النظر ومطالعة السبب سكونا إلى ما سبق له من القسم مع استواء الحالين عنده وهو أن يعلم
أن الطلب لا ينفع والتوكل لا يجمع ومتى طالع بتوكله عرضا كان توكله مدخولا وقصده معلولا فإذا خلص من رق هذه الأسباب ومطالعة العوارض ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الرب سبحانه كفاه تعالى كل مهم كما أوحى الله تعالى إلى موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد
وهذا الكلام وأمثاله بعضه صواب وبعضه خطأ وبعضه محتمل(1/314)
فقوله إن التوكل في طريق الخاصة عمى عن التوحيد ورجوع إلى الأسباب خطأ محض بل التوكل حقيقة التوحيد ولا يتم التوحيد إلا به وقد تقدم في باب التوكل بيان ذلك وأنه من مقامات الرسل وهم خاصة الخاصة وإنما المتحذلقون المتنطعون جعلوه من مقامات العامة ولا أخص ممن أرسل الله واصطفى ولا أعلى من مقاماتهم
وقوله إنه رجوع إلى الأسباب يقال بل هو قيام بحق الأمر فإن الله سبحانه اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها وجعل التوكل والدعاء من أقرب الأسباب التي تحصل المقصود فالتوكل امتثال لأمر الله وموافقة لحكمته وعبودية القلب له فكيف يكون مصحوب العلل وكيف يكون من مقامات العامة
وقوله لأن الموحد قد رفض الأسباب كلها يقال له هذا الرفض لا يخرج عن الكفر تارة والفسق تارة والتقصير تارة فإن الله أمر بالقيام بالأسباب فمن رفض ما أمره الله أن يقوم به فقد ضاد الله في أمره وكيف يحل لمسلم أن يرفض الأسباب كلها
فإن قلت ليس المراد رفض القيام بها وإنما المراد رفض الوقوف معها
قلت وهذا أيضا غير مستقيم فإن الوقوف مع الأسباب قسمان
وقوف مأمور به مطلوب وهو أن يقف معها حيث أوقفه الله ورسوله فلا يتعدى حدودها ولا يقصر عنها فيقف معها مراعاة لحدودها وأوقاتها وشرائطها وهذا الوقوف لا تتم العبودية إلا به(1/315)
ووقوف معها بحيث يعتقد أنها هي الفاعلة المؤثرة بنفسها وأنها تنفع وتضر بذاتها فهذا لا يعتقده موحد ولا يحتاج أن يحترز منه من يتكلم في المعرفة والسلوك نعم لا ينقطع بها عن رؤية المسبب ويعتقدها هي الغاية المطلوبة منه بل هي وسيلة توصل إلى الغاية ولا تصل إلى الغاية المطلوبة بدونها فهذا حق لكن لا يجامع رفضها والاعراض عنها بل يقوم بها معتقدا أنها وسيلة موصلة إلى الغاية فهي كالطريق الحسي الذي يقطعه المسافر إلى مقصده فإن قيل له ارفض الطريق ولا تلتفت إليها انقطع عن المسير بالكلية وإن جعلها غايته ولم يقصد بالسير فيها وصوله إلى مقصد معين كان معرضا عن الغاية مشتغلا بالطريق وإن قيل له التفت إلى طريقك ومنازل سيرك وراعها وسر فيها ناظرا إلى المقصود عاملا على الوصول إليه فهذا هو الحق
وقوله المتوكل وإن رفض الأسباب واقف مع توكله
فيقال إن وقف مع توكله امتثالا لأمر الله وأداء لحق عبوديته معتقدا أن الله هو الذي من عليه بالتوكل وأقامه فيه وجعله سببا موصلا له إلى مطلوبه فنعم الوقوف وقف وما أحسنه من وقوف وإن وقف معه اعتقادا أن بنفس توكله وعمله يصل مع قطع النظر عن فضل ربه وإعانته ومنه عليه بالتوكل فهو وقوف منقطع عن الله
وقوله إن التوكل بدل من الأسباب التي رفضها فالمتوكل متنقل من سبب إلى سبب يقال له إن كانت الأسباب التي رفضها غير مأمور بها فالتوكل المجرد خير منها وإن كانت مأمورا بها فرفضه لها إلى التوكل معصية وخروج عن الأمر
نعم للتوكل ثلاث علل إحداها أن يترك ما أمر به من الأسباب استغناء بالتوكل عنها فهذا توكل عجز وتفريط وإضاعة لا توكل عبودية وتوحيد كمن يترك الأعمال التي هي سبب النجاة ويتوكل في حصولها ويترك القيام بأسباب
الرزق من العمل والحراثة والتجارة ونحوها ويتوكل في حصوله ويترك طلب العلم ويتوكل في حصوله فهذا توكله عجز وتفريط كما قال بعض السلف لا تكن ممن يجعل توكله عجزا وعجزه توكلا(1/316)
العلة الثانية أن يتوكل في حظوظه وشهواته دون حقوق ربه كمن يتوكل في حصول مال أو زوجة أو رياسة وأما التوكل في نصرة دين الله وإعلاء كلمته وإظهار سنة رسوله وجهاد أعدائه فليس فيه علة بل هو مزيل للعلل
العلة الثالثة أن يرى توكله منه ويغيب بذلك عن مطالعة المنة وشهود الفضل وإقامة الله له في مقام التوكل وليس مجرد رؤية التوكل علة كما يظنه كثير من الناس بل رؤية التوكل وأنه من عين الجود ومحض المنة ومجرد التوفيق عبودية وهي أكمل من كونه يغيب عنه ولا يراه فالأكمل أن لا يغيب بفضل ربه عنه ولا به عن شهود فضله كما تقدم بيانه
فهذه العلل الثلاث هي التي تعرض في مقام التوكل وغيره من المقامات وهي التي يعمل العارفون بالله وأمره على قطعها وهكذا الكلام في سائر علل المقامات وإنما ذكرنا هذا مثالا لما يذكر من عللها وقد أفرد لها صاحب المنازل مصنفا لطيفا وجعل غالبها معلولا والصواب أن عللها هذه الثلاثة المذكورة أن يترك بها ما هو أعلى منها وأن يعلقها بحظه والانقطاع بها عن المقصود وأن لا يراها من عين المنة ومحض الجود وبالله التوفيق
قوله والتوحيد على ثلاثة أوجه الوجه الأول توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والوجه الثاني توحيد الخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق والوجه الثالث توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة
فيقال لا ريب أن أهل التوحيد يتفاوتون في توحيدهم علما ومعرفة وحالا تفاوتا لا يحصيه إلا الله فأكمل الناس توحيدا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والمرسلون منهم أكمل في ذلك وأولو العزم من الرسل أكمل(1/317)
توحيدا وهم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وأكملهم توحيدا الخليلان محمد وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهما فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما ومعرفة وحالا ودعوة للخلق وجهادا فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل ودعوا إليه وجاهدوا الأمم عليه ولهذا أمر الله سبحانه نبيه أن يقتدي بهم فيه كما قال سبحانه بعد ذكر إبراهيم ومناظرته أباه وقومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته ثم قال أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها كافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله أن يقتدى بهم
ولما قاموا بحقيقته علما وعملا ودعوة وجهادا جعلهم الله أئمة للخلائق يهدون بأمره ويدعون إليه وجعل الخلائق تبعا لهم يأتمون بأمرهم وينتهون إلى ما وقفوا بهم عنده وخص بالسعادة والفلاح والهدى أتباعهم وبالشقاء والضلال مخالفيهم وقال لإمامهم وشيخهم إبراهيم خليله إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين أي لا ينال عهدي بالإمامة مشرك ولهذا أوصى نبيه محمدا أن يتبع ملة إبراهيم وكان يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين فملة إبراهيم التوحيد ودين محمد ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله وفطرة الإسلام هي ما فطر الله عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له والاستسلام له عبودية وذلا وانقيادا وإنابة
فهذا هو توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء
قال تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين(1/318)
فقسم سبحانه الخلائق قسمين سفيها لا أسفه منه ورشيدا فالسفيه من رغب عن ملته إلى الشرك والرشيد من تبرأ من الشرك قولا وعملا وحالا فكان قوله توحيدا وعمله توحيدا وحاله توحيدا ودعوته إلى التوحيد وبهذا أمر الله سبحانه جميع المرسلين من أولهم إلى آخرهم قال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعلمون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي أي هذا الكتاب الذي أنزل علي وهذه كتب الأنبياء كلهم هل وجدتم في شيء منها اتخاذ آلهة مع الله أم كلها ناطقة بالتوحيد آمرة به وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت والطاغوت اسم لكل ما عبدوه من دون الله فكل مشرك إلهه طاغوته
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على ما ذكره صاحب المنازل في التوحيد فقال بعد أن حكى كلامه إلى آخره أما التوحيد الأول الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل من أولهم إلى آخرهم ونزلت به الكتب كلها وبه أمر الله الأولين والآخرين وذكر الآيات الواردة بذلك(1/319)
ثم قال وقد أخبر الله عن كل رسول من الرسل انه قال لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وهذه أول دعوة الرسل وآخرها قال النبي أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وقال من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة والقرآن مملوء من هذا التوحيد والدعوة إليه وتعليق النجاة والسعادة في الآخرة به وحقيقته إخلاص الدين كله لله والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء وهو أن تثبت إلهية الحق تعالى في قلبه وتنفي إلهية ما سواه فتجمع بين النفي والإثبات فالنفي هو الفناء والإثبات هو البقاء وحقيقته أن تفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وكذلك بموالاته وسؤاله والاستغناء به والتوكل عليه ورجائه ودعائه والتفويض إليه والتحاكم إليه واللجإ إليه والرغبة فيما عنده قال تعالى قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وقال تعالى أفغير الله أبتغي حكما وقال تعالى قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء وقال تعالى قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين وقال تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له الآية وقال تعالى فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وقال تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا وقال تعالى ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه وقال تعالى قل أرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل كاشفات ضره أو أرادني(1/320)
برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون وقال وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله وقال تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين الخالص وقال عن أصحاب الكهف قالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا وقال عن صاحب يس ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون وقال تعالى أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وقال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون وقال تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز وقال تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا
وهذا في القرآن كثير بل هو أكثر من أن يذكر وهو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وذروة سنامه وقطب رحاه وأمرنا تعالى أن نتأسى بإمام هذا التوحيد في نفيه وإثباته كما قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وقال تعالى واتل عليهم نبأ إبرهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين(1/321)
قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباءكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين وإذا تدبرت القرآن من أوله إلى آخره رأيته يدور على هذا التوحيد وتقريره وحقوقه
قال شيخنا والخليلان هم أكمل خاصة الخاصة توحيدا ولا يجوز أن يكون في الأمة من هو أكمل توحيدا من نبي من الأنبياء فضلا عن الرسل فضلا عن أولي العزم فضلا عن الخليلين وكمال هذا التوحيد أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء يحب من أحب وما أحب ويبغض من أبغض وما أبغض ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي ويأمر بما يأمر به وينهى عما نهي عنه
فصل قوله وهذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد قد تبين أن هذا
توحيد خاصة الخاصة الذي لا شيء فوقه ولا أخص منه وأن الخليلين أكمل الناس فيه توحيدا فليهن العامة نصيبهم منه
قوله يصح بالشواهد أي بالأدلة والآيات والبراهين وهذا مما يدل على كماله وشرفه أن قامت عليه الأدلة ونادت عليه الشواهد وأوضحته الآيات والبراهين وما عداه فدعاوي مجردة لا يقوم عليها دليل ولا تصح بشاهد فكل توحيد لا يصح بشاهد فليس بتوحيد فلا يجوز أن يكون توحيدا أكمل من التوحيد الذي يصح بالشواهد والآيات وتوحيد القرآن من أوله إلى آخره كذلك
قوله هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم(1/322)
فنعم لعمر الله ولظهوره وجلائه أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وأمر الله به الأولين والآخرين من عباده وأما الرمز والإشارة والتعقيد الذي لا يكاد أن يفهمه أحد من الناس إلا بجهد وكلفة فليس مما جاءت به الرسل ولا دعوا إليه فظهور هذا التوحيد وانجلاؤه ووضوحه وشهادة الفطر والعقول به من أعظم الأدلة أنه أعلى مراتب التوحيد وذروة سنامه ولذلك قوي على نفي الشرك الأعظم فإن الشيء كلما عظم لا يدفعه إلا العظيم فلو كان شيء أعظم من هذا التوحيد لدفع الله به الشرك الأعظم ولعظمته وشرفه نصبت عليه القبلة وأسست عليه الملة ووجبت به الذمة وانفصلت به دار الكفر من دار الإسلام وانقسم به الناس إلى سعيد وشقي ومهتد وغوي ونادت عليه الكتب والرسل
قوله وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال يعني هو مستتر في قلوب أهله وإن كان أكثرهم لا يحسن الاستدلال عليه تقريرا وإيضاحا وجوابا عن المعارض ودفعا لشبه المعاند ولا ريب أن أكثر الناس لا يحسنون ذلك وهذا قدر زائد على وجود التوحيد في قلوبهم فما كل من وجد شيئا وعلمه وتيقنه أحسن أن يستدل عليه ويقرره ويدفع الشبه القادحة فيه فهذا لون ووجوده لون ولكن لا بد مع ذلك من نوع استدلال قام عنده وإن لم يكن على شروط الأدلة التي ينظمها أهل الكلام وغيرهم وترتيبها فهذه ليست شرطا في التوحيد لا في معرفته والعلم به ولا في القيام به عملا وحالا فاستدلال كل أحد بحسبه ولا يحصى أنواع الاستدلال ووجوهه ومراتبه إلا الله فلكل قوم هاد ولكل علم صحيح ويقين دليل يوجبه وشاهد يصح به وقد لا يمكن صاحبه التعبير عنه عجزا وعيا وإن عبر عنه فقد لا يمكنه التعبير عنه باصطلاح أهل العلم وألفاظهم وكثيرا ما يكون الدليل الذي عرف به الحق أصح من كثير من أدلة المتكلمين ومقدماتها وأبعد عن الشبه وأقرب تحصيلا للمقصود وإيصالا إلى المدلول عليه
بل من استقرأ أحوال الناس رأى أن كثيرا من أهل الإسلام أو أكثرهم(1/323)
أعظم توحيدا وأكثر معرفة وأرسخ إيمانا من أكثر المتكلمين وارباب النظر والجدال ويجد عندهم من أنواع الأدلة والآيات التي يصح بها إيمانهم ما هو أظهر وأوضح وأصح مما عند المتكلمين وهذه الآيات التي ندب الله عباده إلى النظر فيها والاستدلال بها على توحيده وثبوت صفاته وأفعاله وصدق رسله هي آيات مشهودة بالحس معلومة بالعقل مستقرة في الفطر لا يحتاج الناظر فيها إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم ألبتة وكل من له حس سليم وعقل يميز به يعرفها ويقر بها وينتقل من العلم بها إلى العلم بالمدلول وفي القرآن ما يزيد على عشرات ألوف من هذه الآيات البينات ومن لم يحفظ القرآن فإنه إذا سمعها وفهمها وعقلها انتقل ذهنه منها إلى المدلول أسرع انتقال وأقر به
وبالجملة فما كل من علم شيئا أمكنه أن يستدل عليه ولا كل من أمكنه الاستدلال عليه يحسن ترتيب الدليل وتقريره والجواب عن المعارض والشواهد التي ذكرها هي الأدلة كالاستدلال بالمصنوع على الصانع والمخلوق على الخالق وهذه طريقة القرآن الذي لا توحيد أكمل من توحيده
قوله بعد أن يسلموا من الشبهة والحيرة والريبة الشبهة الشكوك التي توقع في اشتباه الحق بالباطل فيتولد عنها الحيرة والريبة وهذا حق فإن هذا التوحيد لا ينفع إن لم يسلم قلب صاحبه من ذلك وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به فيسلم من الشبه المعارضة لخبره والإرادات المعارضة لأمره بل ينقاد للخبر تصديقا واستيقانا وللطلب إذعانا وامتثالا
قوله بصدق شهادة صححها قبول القلب أي سلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة تواطأ عليها القلب واللسان فصحت شهادتهم بقبول قلوبهم لها واعتقادهم صحتها والجزم بها بخلاف شهادة المنافق التي لم يقبلها قلبه ولم يواطئ عليها لسانه(1/324)
قوله وهو توحيد العامة الذي يصح بالشواهد قد عرفت أن هذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب واتفقت عليه الشرائع ثم بين مراده بالشواهد أنها الرسالة والصنائع فقال والشواهد الأدلة على التوحيد والرسالة أرشدت إليها وعرفت بها ومقصوده أن الشواهد نوعان آيات متلوة وهي الرسالة وآيات مرئية وهي الصنائع
قوله ويجب بالسمع ويوجد بتبصير الحق وينمو على مشاهد الشواهد
هذه ثلاث مسائل إحداها ما يجب به والثانية ما يوجد به والثالثة ما ينمو به
فأما المسألة الأولى فاختلف فيها الناس فقالت طائفة يجب بالعقل ويعاقب على تركه والسمع مقرر لما وجب بالعقل مؤكد له فجعلوا وجوبه والعقاب على تركه ثابتين بالعقل والسمع مبين ومقرر للوجوب والعقاب وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم من أتباع الأئمة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين
وقالت طائفة لا يثبت بالعقل لا هذا ولا هذا بل لا يجب بالعقل فيها شيء وإنما الوجوب بالشرع ولذلك لا يستحق العقاب على تركه وهذا قول الأشعرية ومن وافقهم على نفي التحسين والتقبيح والقولان لأصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة
والحق أن وجوبه ثابت بالعقل والسمع والقرآن على هذا يدل فإنه يذكر الأدلة والبراهين العقلية على التوحيد ويبين حسنه وقبح الشرك عقلا وفطرة ويأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك ولهذا ضرب الله سبحانه الأمثال وهي الأدلة العقلية وخاطب العباد بذلك خطاب من استقر في عقولهم وفطرهم حسن التوحيد ووجوبه وقبح الشرك وذمه والقرآن مملوء بالبراهين العقلية الدالة على ذلك كقوله ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وقوله(1/325)
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وقوله يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعواله إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز إلى أضعاف ذلك من براهين التوحيد العقلية التي أرشد إليها القرآن ونبه عليها
ولكن ههنا أمر آخر وهو أن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع كما دل عليه قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقوله وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقوله ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون فهذا يدل على أنهم ظالمون قبل إرسال الرسل وأنه لا يهلكهم بهذا الظلم قبل إقامة الحجة عليهم فالآية رد على الطائفتين معا من يقول إنه لا يثبت الظلم والقبح إلا بالسمع ومن يقول إنهم معذبون على ظلمهم بدون السمع فالقرآن يبطل قول هؤلاء وقول هؤلاء كما قال تعالى ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فأخبر أن ما قدمت أيديهم قبل إرسال الرسل سبب لإصابتهم بالمصيبة ولكن لم يفعل سبحانه ذلك قبل إرسال الرسول الذي يقيم به حجته عليهم كما قال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس(1/326)
على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة وقوله أن تقول نفس يا حسري على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الخاسرين إلى قوله بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وهذا في القرآن كثير يخبر أن الحجة إنما قامت عليهم بكتابه ورسوله كما نبههم بما في عقولهم وفطرهم من حسن التوحيد والشكر وقبح الشرك والكفر
وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة في كتاب مفتاح دار السعادة وذكرنا هناك نحوا من ستين وجها تبطل قول من نفى القبح العقلي وزعم أنه ليس في الأفعال ما يقتضي حسنها ولا قبحها وأنه يجوز أن يأمر الله بعين ما نهى عنه وينهى عن عين ما أمر به وأن ذلك جائز عليه وإنما الفرق بين المأمور والمنهي بمجرد الأمر والنهي لا بحسن هذا وقبح هذا وأنه لو نهى عن التوحيد والإيمان والشكر لكان قبيحا ولو أمر بالشرك والكفر والظلم والفواحش لكان حسنا وبينا أن هذا القول مخالف للعقول والفطر والقرآن والسنة
والمقصود الكلام على قول الشيخ ويجب بالسمع وأن الصواب وجوبه بالسمع والعقل وإن اختلفت جهة الإيجاب فالعقل يوجبه بمعنى اقتضائه لفعله وذمه على تركه وتقبيحه لضده والسمع يوجبه بهذا المعنى ويزيد إثبات العقاب على تركه والإخبار عن مقت الرب تعالى لتاركه وبغضه له وهذا قد يعلم بالعقل فإنه إذا تقرر قبح الشيء وفحشه بالعقل وعلم ثبوت كمال الرب جل جلاله بالعقل أيضا اقتضى ثبوت هذين الأمرين علم العقل بمقت الرب تعالى لمرتكبه وأما تفاصيل العقاب وما يوجبه مقت الرب منه فإنما يعلم بالسمع(1/327)
واعلم أنه إن لم يكن حسن التوحيد وقبح الشرك معلوما بالعقل مستقرا في الفطر فلا وثوق بشيء من قضايا العقل فإن هذه القضية من أجل القضايا البديهيات وأوضح ما ركب الله في العقول والفطر ولهذا يقول سبحانه عقيب تقرير ذلك افلا تعقلون أفلا تذكرون وينفي العقل عن أهل الشرك ويخبر عنهم بأنهم يعترفون في النار أنهم لم يكونوا يسمعون ولا يعقلون وأنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل وأخبر عنهم أنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون وأخبر عنهم إن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئا وهذا إنما يكون في حق من خرج عن موجب العقل الصريح والفطرة الصحيحة ولو لم يكن في صريح العقل ما يدل على ذلك لم يكن في قوله تعالى انظروا واعتبروا وسيروا في الأرض فانظروا فائدة فإنهم يقولون عقولنا لا تدل على ذلك وإنما هو مجرد إخبارك فما هذا النظر والتفكر والاعتبار والسير في الأرض وما هذه الأمثال المضروبة والأقيسة العقلية والشواهد العيانية أفليس في ذلك أظهر دليل على حسن التوحيد والشكر
وقبح الشرك والكفر مستقر في العقول والفطر معلوم لمن كان له قلب حي وعقل سليم وفطرة صحيحة قال تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون وقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وقال تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وقال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون وقال تعالى قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون وقال تعالى ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون(1/328)
ومن بعض الأدلة العقلية ما أبقاه الله تعالى من آثار عقوبات أهل الشرك وآثار ديارهم وما حل بهم وما أبقاه من نصر أهل التوحيد وإعزازهم وجعل العاقبة لهم قال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وقال في ثمود فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون وقال في قوم لوط إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون وقال تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين وإن كان أصحاب الأيلة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين وقال تعالى في قوم لوط وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعلقون وهو سبحانه يذكر في سورة الشعراء ما أوقع بالمشركين من أنواع العقوبات ويذكر إنجاءه لأهل التوحيد ثم يقول إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم فيذكر شرك هؤلاء الذين استحقوا به الهلاك وتوحيد هؤلاء الذين استحقوا به النجاة ثم يخبر أن في ذلك آية وبرهانا للمؤمنين ثم يذكر مصدر ذلك كله وأنه عن أسمائه وصفاته فصدور هذا الإهلاك عن عزته وذلك الإنجاء عن رحمته ثم يقرر في آخر السورة نبوة رسوله بالأدلة العقلية أحسن تقرير ويجيب عن شبه المكذبين له أحسن جواب وكذلك تقريره للمعاد الدله العقلية والحسية فضرب الأمثال والأقيسة فدلالة القرآن سمعية عقلية
قوله تعالى { قل اللهم مالك الملك }
لا خلاف أن لفظة اللهم معناها يا الله ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب فلا يقال اللهم غفور رحيم بل يقال اللهم اغفر لي وارحمني
واختلف النحاة في الميم المشددة من آخر الاسم فقال سيبويه زيدت عوضا من حرف النداء ولذلك لا يجوز عنده الجمع بينهما في اختيار الكلام فلا يقال يا اللهم إلا فيما ندر كقول الشاعر
إني إذا ما حدث ألما ... أقول يا اللهم يا اللهما(1/329)
ويسمى ما كان من هذا الضرب عوضا إذ هو في غير محل المحذوف فإن كان في محله سمي بدلا كالألف في قام وباع فإنها بدل عن الواو والياء ولا يجوز عنده أن يوصف هذا الاسم أيضا فلا يقال يا اللهم الرحيم ارحمني ولا يبدل منه
والضمة التي على الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد وفتحت
الميم لسكونها وسكون الميم التي قبلها وهذا من خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف وبقطع همزة وصله في النداء وتفخيم لامه وجوبا غير مسبوقة بحرف إطباق هذا ملخص مذهب الخليل وسيبويه
وقيل الميم عوض عن جملة محذوفة والتقدير يا الله أمنا بخير أي اقصدنا ثم حذف الجار والمجرور وحذف المفعول فبقي في التقدير يا الله أم ثم حذفوا الهمزة لكثرة دوران هذا الاسم في الدعاء على ألسنتهم فبقي يا اللهم وهذا قول الفراء وصاحب هذا القول يجوز دخول يا عليه ويحتج بقول الشاعر
وما عليك أن تقولي كلما صليت أو سبحت ... يا اللهما اردد علينا شيخنا مسلما
وبالبيت المتقدم وغيرهما
ورد البصريون هذا بوجوه
أحدها أن هذه تقادير لا دليل عليها ولا يقتضيها القياس فلا يصار إليها بغير دليل
الثاني أن الأصل عدم الحذف فتقدير هذه المحذوفات الكثيرة خلاف الأصل
الثالث أن الداعي بهذا قد يدعو بالشر على نفسه وعلى غيره فلا يصح هذا التقدير فيه
تجمع بين يا واللهم ولو كان أصله ما ذكره الفراء لم يمتنع الجمع بل كان استعماله فصيحا شائعا والأمر بخلافه
الخامس أنه لا يمتنع أن يقول الداعي اللهم أمنا بخير ولو كان التقدير كما ذكره لم يجز الجمع بينهما لما فيه من الجمع بين العوض والمعوض
السادس أن الداعي بهذا الاسم لا يخطر ذلك بباله وإنما تكون غايته مجردة إلى المطلوب بعد ذكر الاسم
السابع أنه لو كان التقدير ذلك لكان اللهم جملة تامة يحسن السكوت عليها لاشتمالها على الاسم المنادى وفعل الطلب وذلك باطل(1/330)
الثامن أنه لو كان التقدير ما ذكره لكتب فعل الأمر وحده ولم يوصل بالاسم المنادى كما يقال يا الله قه ويا زيد عه ويا عمرو فه لأن الفعل لا يوصل بالاسم الذي قبله حتى يجعلا في الخط كلمة واحدة هذا لا نظير له في الخط وفي الاتفاق على وصل الميم باسم الله دليل على أنها ليست بفعل مستقل
التاسع أنه لا يسوغ ولا يحسن في الدعاء أن يقول العبد اللهم أمني بكذا بل هذا مستكره اللفظ والمعنى فإنه لا يقال اقصدني بكذا إلا لمن كان يعرض له الغلط والنسيان فيقول له اقصدني وأما من لا يفعل إلا بإرادته ولا يضل ولا ينسى فلا يقال اقصد كذا
العاشر أنه يسوغ استعمال هذا اللفظ في موضع لا يكون بعده دعاء كقوله في الدعاء اللهم لك الحمد وإليك
المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك
وقوله اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك
وقوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء آل عمران 26 الآية
وقوله تعالى قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون الزمر 46
وقول النبي في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي فهذا كله لا يسوغ فيه التقدير الذي ذكروه والله أعلم(1/331)
وقيل زيدت الميم للتعظيم والتفخيم كزيادتها في زرقم لشديد الزرقة وابنم في الابن وهذا القول صحيح ولكن يحتاج إلى تتمة وقائله لحظ معنى صحيحا لا بد من بيانه وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه ومخرجها يقتضي ذلك وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى كما هو مذهب أساطين العربية وعقد له أبو الفتح بن جني بابا في الخصائص وذكره عن سيبويه واستدل عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى ثم قال ولقد كنت برهة يرد علي اللفظ لا أعلم موضوعه وآخذ معناه من قوة لفظه ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه فحكيت لشيخ الإسلام هذا عن ابن جني فقال وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف والمتوسطة للمتوسط فيقولون عز يعز بفتح العين إذا صلب وأرض عزاز صلبة ويقولون عز يعز بكسرها إذا امتنع والممتنع فوق الصلب فقد يكون الشيء صلبا ولا يمتنع على كاسره ثم يقولون عزه يعزه إذا غلبه قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام وعزني في الخطاب ص 23 والغلبة أقوى من الامتناع إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه متحصنا من عدوه ولا يغلب غيره فالغالب أقوى من الممتنع فأعطوه أقوى
الحركات والصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أضعف الحركات والممتنع المتوسط بين المرتبتين فأعطوه حركة الوسط(1/332)
ونظير هذا قولهم ذبح بكسر أوله للمحل المذبوح وذبح بفتح أوله لنفس الفعل ولا ريب أن الجسم أقوى من العرض فأعطوا الحركة القوية للقوي والضعيفة للضعيف وهو مثل قولهم نهب ونهب بالكسر للمنهوب وبالفتح للفعل وكقولهم ملء وملء بالكسر لما يملأ الشيء وبالفتح للمصدر الذي هو الفعل وكقولهم حمل وحمل فبالكسر لما كان قويا مرئيا مثقلا لحامله على ظهره أو رأسه أو غيرهما من أعضائه والحمل بالفتح لما كان خفيفه غير مثقل لحامله كحمل الحيوان وحمل الشجرة به أشبه ففتحوه وتأمل كونهم عكسوا هذا في الحب والحب فجعلوا المكسور الأول لنفس المحبوب ومضمومه للمصدر إيذانا بخفة المحبوب على قلوبهم ولطف موقعه في أنفسهم وحلاوته عندهم وثقل حمل الحب ولزومه للمحب كما يلزم الغريم غريمه ولهذا يسمى غراما ولهذا كثر وصفهم لتحمله بالشدة والصعوبة وإخبارهم بأن أعظم المخلوقات وأشدها من الصخر والحديد ونحوهما لو حمله لذاب ولم يستقل به كما هو كثير في أشعار المتقدين والمتأخرين وكلامهم فكان الأحسن أن يعطوا المصدر هنا الحركة القوية والمحبوب الحركة التي هي أخف منها ومن هذا قولهم قبض بسكون وسطه للفعل وقبض بتحريكه للمقبوض والحركة أقوى من السكون والمقبوض أقوى من المصدر ونظيره سبق بالسكون للفعل وسبق بالفتح للمال المأخوذ في هذا العقد وتأمل قولهم دار دورانا وفارت القدر
فورانا وغلت غليانا كيف تابعوا بين الحركات في هذه المصادر لتتابع حركة المسمى فطابق اللفظ المعنى وتأمل قولهم حجر وهواء كيف وضعوا للمعنى الثقيل الشديد هذه الحروف الشديدة ووضعوا للمعنى الخفيف هذه الحروف الهوائية التي هي من أخف الحروف
وهذا أكثر من أن يحاط به وإن مد الله في العمر وضعت فيه كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى(1/333)
ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن ورقة طبع ولا تتأتى مع غلظ القلوب والرضى بأوائل مسائل النحو والتصريف دون تأملها وتدبرها والنظر إلى حكمة الواضع ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدق على أكثر العقول وهذا باب ينبه الفاضل على ما وراءه ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور النور 40 وانظر إلى تسميتهم الغليظ الجافي بالعتل والجعظري والجواظ كيف تجد هذه الألفاظ تنادي على ما تحتها من المعاني وانظر إلى تسميتهم الطويل بالعشنق وتأمل اقتضاء هذه الحروف ومناسبتها لمعنى الطويل وتسميتهم القصير بالبحتر وموالاتهم بين ثلاث فتحات في اسم الطويل وهو العشنق وإتيانهم بضمتين بينهما سكون في البحتر كيف يقتضي اللفظ الأول انفتاح الفم وانفراج آلات النطق وامتدادها وعدم ركوب بعضها بعضا وفي اسم البحتر الأمر بالضد
وتأمل قولهم طال الشيء فهو طويل وكبر فهو كبير فإن زاد طوله قالوا طوالا وكبارا فأتوا بالألف التي هي أكثر مدا وأطول من الياء في المعنى الأطول فإن زاد كبر الشيء وثقل موقعه من النفوس ثقلوا اسمه فقالوا كبارا بتشديد الباء
ولو أطلقنا عنان القلم في ذلك لطال مداه واستعصى على الضبط فلنرجع إلى ما جرى الكلام بسببه فنقول الميم حرف شفهي يجمع الناطق به شفتيه فوضعته العرب علما على الجمع فقالوا للواحد أنت فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا أنتم وقالوا للواحد الغائب هو فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا هم وكذلك في المتصل يقولون ضربت وضربتم وإياك وإياكم وإياه وإياهم ونظائره نحو به وبهم ويقولون للشيء الأزرق أزرق فإذا اشتدت زرقته واستحكمت قالوا زرقم ويقولون للكبير الاست ستهم(1/334)
وتأمل الألفاظ التي فيها الميم كيف تجد الجمع معقودا بها مثل لم الشيء يلمه إذا جمعه ومنه لم الله شعثه أي جمع ما تفرق من أموره ومنه قولهم دار لمومة أي تلم الناس وتجمعهم ومنه أكلا لما الفجر 19 جاء في تفسيرها يأكل نصيبه ونصيب صاحبه وأصله من اللم وهو الجمع كما يقال لفه يلفه ومنه ألم بالشيء إذا قارب الاجتماع به والوصول إليه ومنه اللمم وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر ومنه الملمة وهي النازلة التي تصيب العبد ومنه اللمة وهي الشعر الذي قد اجتمع وتقلص حتى جاوز شحمة الأذن ومنه تم الشيء وما تصرف منها ومنه بدر التم إذا كمل واجتمع نوره ومنه التوأم للولدين المجتمعين في بطن ومنه الأم وأم الشيء أصله الذي تفرع منه فهو الجامع له وبه سميت مكة أم القرى والفاتحة أم القرآن واللوح المحفوظ أم الكتاب
قال الجوهري أم الشيء أصله ومكة أم القرى وأم
مثواك صاحبة منزلك يعني التي تأوي إليها وتجتمع معها وأم الدماغ الجلدة التي تجمع الدماغ ويقال لها أم الرأس وقوله تعالى في الآيات المحكمات هن أم الكتاب آل عمران 7 والأمة الجماعة المتساوية في الخلقة والزمان قال تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم الأنعام 38
وقال النبي لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها
ومنه الإمام الذي يجتمع المقتدون به على اتباعه ومنه أم الشيء يؤمه إذا اجتمع قصده وهمه إليه ومنه رم الشيء يرمه إذا أصلحه وجمع متفرقة
قيل ومنه سمي الرمان لاجتماع حبه وتضامه
ومنه ضم الشيء يضمه إذا جمعه
ومنه هم الإنسان وهمومه وهي إرادته وعزائمه التي تجتمع في قلبه
ومنه قولهم للأسود أحم وللفحمة السوداء حممة وحمم رأسه إذا اسود بعد حلقه كل هذا لأن السواد لون جامع للبصر لا يدعه يتفرق ولهذا يجعل على عيني الضعيف البصر لوجع أو غيره شيء أسود من شعر أو خرقة ليجمع عليه بصره فتقوى القوة
الباصرة وهذا باب طويل فلنقتصر منه على هذا القدر(1/335)
وإذا علم هذا من شأن الميم فهم ألحقوها في آخر هذا الاسم الذي يسأل الله سبحانه به في كل حاجة وكل حال إيذانا بجميع أسمائه وصفاته فالسائل إذا قال اللهم إني أسألك كأنه قال أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بأسمائه وصفاته فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه كلها كما قال النبي في الحديث الصحيح ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن // إسناده صحيح //
فالداعي مندوب إلى أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته كما في الاسم الأعظم اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم // إسناده صحيح //
وهذه الكلمات تتضمن الأسماء الحسنى كما ذكر في غير هذا الموضع
والدعاء ثلاثة أقسام أحدها أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الأعراف 180
والثاني أن تسأله بحاجتك وفقرك وذلك فتقول أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير ونحو ذلك
والثالث أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحدا من الأمرين فالأول أكمل من الثاني والثاني أكمل من الثالث فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل
وهذه عامة أدعية النبي(1/336)
وفي الدعاء الذي علمه صديق الأمة رضي الله عنه ذكر الأقسام الثلاثة فإنه قال في أوله ظلمت نفسي ظلما كثيرا وهذا حال السائل ثم قال وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وهذا حال المسؤول ثم قال فاغفر لي فذكر حاجته وختم الدعاء باسمين من الأسماء الحسنى تناسب المطلوب وتقتضيه
وهذا القول الذي اخترناه جاء عن غير واحد من السلف قال الحسن البصري اللهم مجمع الدعاء وقال أبو رجاء
العطاردي إن الميم في قوله اللهم فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى وقال النضر بن شميل من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه
وقد وجه طائفة هذا القول بأن الميم هنا بمنزلة الواو الدالة على الجمع فإنها من مخرجها فكأن الداعي بها يقول يا الله الذي اجتمعت له الأسماء الحسنى والصفات العلى قال ولذلك شددت لتكون عوضا عن علامتي الجمع وهي الواو والنون في مسلمون ونحوه
وعلى الطريقة التي ذكرناها أن نفس الميم دالة على الجمع لا يحتاج إلى هذا
يبقى أن يقال فهلا جمعوا بين يا وبين هذه الميم على المذهب الصحيح
فالجواب أن القياس يقتضي عدم دخول حرف النداء على هذا الاسم لمكان الألف واللام منه وإنما احتملوا ذلك فيه لكثرة استعمالهم دعاءه واضطرارهم إليه واستغاثتهم به فإما أن يحذفوا الألف واللام منه وذلك لا يسوغ للزومهما له وإما أن يتوصلوا إليه ب أي وذلك لا يسوغ لأنها لا يتوصل بها إلا إلى نداء اسم الجنس المحلى بالألف واللام كالرجل والرسول والنبي وأما في الأعلام فلا فخالفوا قياسهم في هذا الاسم لمكان الحاجة فلما أدخلوا الميم المشددة في آخره عوضا عن جميع الأسماء جعلوها عوضا عن حرف النداء فلم يجمعوا بينهما والله أعلم
أهـ { جلاء الأفهام صـ 143 ـ صـ 152 }(1/337)
قوله اركعي مع الراكعين ولم يقل اسجدي مع الساجدين فإنما عبر بالسجود عن الصلاة وأراد صلاتها في بيتها لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها ثم قال لها اركعي مع الراكعين أي صلي مع المصلين في بيت المقدس ولم يرد أيضا الركوع وحده دون أجزاء الصلاة ولكنه عبر بالركوع عن الصلاة كما تقول ركعت ركعتين وأربع ركعات يريد الصلاة لا الركوع بمجرده فصارت الآية متضمنة لصلاتين صلاتها وحدها عبر عنها بالسجود لأن السجود أفضل حالات العبد وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها ثم صلاتها في المسجد عبر عنها بالركوع لأنه في الفضل دون السجود وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها وهذا نظم بديع وفقه دقيق وهذه نبذ تسير بك إلى ما وراءها ترشدك وأنت صحيح وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركوع السجود
وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود الحج 26 بدأ بالطائفين للرتبة والقرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين وجمعهم جمع السلامة لأن جمع السلامة أدل على لفظ الفعل الذي هو علة تعلق بها حكم التطهير ولو كان مكان الطائفين الطواف لم يكن في هذا اللفظ من بيان قصد الفعل ما في قوله للطائفين ألا ترى أنك تقول تطوفون كما تقول طائفون فاللفظان متشابهان
أهـ { بدائع الفوائد حـ63 }
قال تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون قال قتادة كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل فاقترعوا عليها بسهامهم أيهم يكفلها فقرع زكريا وكان زوج أختها فضمها إليه
وروى نحوه عن مجاهد وقال ابن عباس لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى وهم يكتبون الوحي فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها وهذا متفق عليه بين أهل التفسير
وقال تعالى وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين يقول تعالى فقارع فكان من المغلوبين(1/338)
فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا
وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه
وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فسارعوا إليه فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها فليستهما عليها
أهـ { الطرق الحكمية صـ365 ـ صـ366 }
قال الله تعالى : كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
فتضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا في إبطال النسخ فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه
ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم اسرائيل وملته وأن الذي كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلالا لبني إسرائيل وهذا محض النسخ(1/339)
وقوله تعالى : من قبل أن تنزل التوراة أي كانت حلالا لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك ثم قال تعالى : قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوارة عليكم أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة وإذا كان إنما حرم هذا وحده وكان ما سواه حلالا له ولبنيه وقد حرمت التوراة كثيرا منه ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع والحجر على الله تعالى في نسخها
فتأمل هذا الموضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين وما وردوه
وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة من المناكح والذبائح والأفعال والأقوال وذلك نسخ لحكم البراءة الأصلية فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب إذ هذا شأن كل الشرائع وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى فيجعله حراما أو تحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا وأما رفع البراءة والاستصحاب فلم ينكره أحد من أهل الملل
ثم يقال لهذه الأمة الغضبية : هل تقرون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة
فيقال لهم : فهل رفعت التوراة شيئا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا
فإن قالوا : لم ترفع شيئا من أحكام تلك الشرائع فقد جاهروا بالكذب
والبهت وإن قالوا : قد رفعت بعض الشرائع المتقدمة فقد أقروا بالنسخ قطعا
وأيضا فيقال للأمة الغضبية : هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى عليه السلام فإن قالوا : نعم قلنا : أليس في التوراة أن من مس عظم ميت أو وطيء قبرا أو حضر حضر ميتا عند موته فإنه يصير من النجاسة بحال لا مخرج له منها إلا برماد البقرة التي كان الإمام الهاروني يحرقها فلا يمكنهم إنكار ذلك فيقال لهم : فهل أنتم اليوم على ذلك(1/340)
فإن قالوا : لا نقدر عليه فيقال لهم : لم جعلتم أن من مس العظم والقبر والميت طاهرا يصلح للصلاة والذي في كتابكم خلافه
فإن قالوا : لأنا عدمنا أسباب الطهارة وهي رماد البقرة وعدمنا الإمام المطهر المستغفر
فيقال لهم : فهل أغناكم عدمه عن فعله أو لم يغنكم
فإن قالوا : أغنانا عدمه عن فعله
قيل لهم : قد تبدل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر
فيقال : وكذلك يتبدل الحكم الشرعي بنسخه لمصلحة النسخ فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشيء يكون مصلحة في وقت دون وقت وفي شريعة دون أخرى كما كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة في شريعة آدم عليه السلام
ثم صار مفسدة في سائر الشرائع وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحة في شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله وفي سائر الشرائع ثم صار مفسدة في شريعة موسى عليه السلام وأمثال ذلك كثيرة
وإن منعتم مراعاة المصالح في الأحكام ومنعتم تعليلها بها فالأمر حينئذ أظهر
فإنه سبحانه يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء والتحليل والتحريم تبع لمجرد مشيئته لا يسأل عما يفعل وإن قلتم : لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطهور الذي كان عليه أسلافنا فقد أقررتم بأنكم الأنجاس أبدا ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة
فإن قالوا : نعم الأمر كذلك
قيل لهم : فإذا كنتم أنجاسا على مقتضى أصولكم فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالا تخرجون فيه إلى حد لو أن أحدكم لمس ثوبه ثوب المرأة نجستموه مع ثوبه
فإن قلتم : ذلك من أحكام التوراة
قيل لكم : ليس في التوراة أن ذلك يراد به الطهارة فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم والنجاسة التي أنتم عليها لا ترتفع بالغسل فهي إذا أشد من نجاسة الحيض
ثم إنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم ولا تنحسون من لمسها ولا الثوب الذي تلمسه فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة(1/341)
فصل قالت الأمة الغضبية : التوراة قد حظرت أمورا كانت مباحة من
قبل ولم تأت بإباحة محظور والنسخ الذي ننكره ونمنع منه : هو ما أوجب إباحة محظور لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها فإذا جاء من أباحه علمنا بإباحة المفسدة : أنه غير نبي بخلاف تحريم ما كان مباحا فإنا نكون متعبدين بتحريمه
قالوا : وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة مع أنه إنما حرم لما فيه من المفسدة
فهذه النكتة هي التي تعتمد عليها الأمة الغضبية ويتلقاها خالف منهم عن سالف
والمتكلمون لم يشفوهم في جوابها وإنما أطالوا معهم الكلام في رفع البراءة الأصلية بالشرائع وفي نسخ الإباحة بالتحريم
ولعمر الله إنه بما يبطل شبهتهم لأن رفع البراءة الأصلية ورفع الإباحة بالتحريم : هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابي أو الشرعي بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره ولا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم أو تغيير التحريم بالإباحة
والشبهة التي عرضت لهم في أحد الموضعين هي بعينها في الموضع الآخر فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته إذ لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة باباحته فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجب قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة كما كان إباحته في الشريعة الأولى هو المصلحة فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة في الشريعة الأولى إباحة المفاسد وحاشا لله تضمن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريم المصالح وكلاهما باطل قطعا
فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومن تقدمه يستبيحه فجائز أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورا(1/342)
وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هي التي ردت بها الأمة الغضبية نبوة سيدنا محمدصلى الله عليه وسلم هي بعينها رد بها أسلافهم نبوة المسيح وتوارثوها كافرا عن كافر وقالوا لمحمدصلى الله عليه وسلم كما قال أسلافهم للمسيح : لا نقر بنبوة من غير شريعة التوراة
فيقال لهم : فكيف أقررتم لموسى بالنبوة وقد جاء بتغيير بعض شرائع من تقدمه فإن قدح ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح في موسى فلا تقدحون في نبوتهما بقادح
إلا ومثله في نبوة موسى سواء كما أنكم لا تثبتون نبوة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمدصلى الله عليه وسلم فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول أو يكون المسيح رسولا ومحمدصلى الله عليه وسلمليس برسول
ويقال للأمة الغضبية أيضا : لا يخلو المحرم إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته بحيث تمنع إباحته في زمان من الأزمنة وإما أن يكون تحريمه لما تضمنه من المفسدة في زمان دون زمان ومكان دون مكان وحال دون حال
فإن كان الأول لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء عليهم السلام
وإن كان الثاني ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال فيكون الشيء الواحد حراما في ملة دون ملة وفي وقت دون وقت وفي مكان دون مكان وفي حال دون حال وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حراما على إبراهيم ونوح وسائر النبيين
وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبي وفي كل شريعة(1/343)
وإذا كان الرب تعالى لا حجر عليه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ويبتلي عباده بما يشاء ويحكم ولا يحكم عليه فما الذي يحيل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة ثم ينهى أمة أخرى عنه أو يحرم محرما على أمة ويبيحه لأمة أخرى
بل أي شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين بحسب المصلحة وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض [ ]
فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء ويثبت
فهكذا أحكامه الدينية الأمرية ينسخ منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم : أن يعارض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى وتدفع نبوته وتجحد رسالته : بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم وبالله التوفيق يضل من يشاء ويهدي من يشاء
ومن العجب أن هذه الامة الغضبية تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم
فمن ذلك : أنهم يقولون في صلاتهم ما ترجمته هكذا : اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل
ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا : أردد حكامنا كالأولين ومسراتنا كالابتداء وابن أو رشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا بابتنائها سبحانك ياباني يورشليم
فهذا قولهم في صلاتهم مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك ولكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم(1/344)
وكذلك صيامهم كصوم إحراق بيت المقدس وصوم أحصا وصوم كدليا التي جعلوها فرضا لم يصمها موسى ولا يوشع بن نون وكذلك صوم صلب هامان ليس شيء من ذلك في التوراة وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم
هذا مع أن في التوراة ما ترجمته لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا ولا تنقصوا منه شيئا وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا هم مجمعون على تعطيلها وإلغائها فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام أو باجتهاد
علمائهم وعلى التقادير الثلاث فقد بطلت شبهتهم في إنكار النسخ ثم من العجب أن أكبر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول والعمل بها إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وأمرائهم وقد اتفقوا على تعطيل الرجم للزاني وهو نص التوراة وتعطيل أحكام كثيرة منصوصة في التوراة ومن تلاعب الشيطان بهم
أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالا وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه
وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم كما تكبر إبليس أن يسجد لأدم ورأى أن ذلك يغض منه ثم رضي أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق
وكما أبى عباد الأصنام أن يكون النبي المرسل إليهم بشرا ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجرا
وكما نزهت النصارى بتاركتهم عن الولد والصاحبة ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى الله سبحانه وتعالى وكما نزهت الفرعونية من الجهمية الرب سبحانه أن يكون مستويا على عرشه لئلا يلزم الحصر ثم جعلوه سبحانه في الآبار والحانات وأجواف الحيوانات
أهـ { إغاثة اللهفان حـ 2 صـ 321 ـ صـ325 }(1/345)
قوله تعالى { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون }
هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون به وجه الله وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته
واختلف في الصر فقيل البرد الشديد وقيل النار قاله ابن عباس قال ابن الأنباري وإنما وصفت النار بأنها صر لتصريتها عند الالتهاب وقيل الصر الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها والأقوال الثلاثة متلازمة فهو برد شديد محرق يبسه للحرث كما تحرقه النار وفيه صوت شديد
وفي قوله أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها
أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 123 ـ صـ 224 }
قوله تعالى {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده}(1/346)
وأما الخذلان فقال تعالى {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} وأصل الخذلان الترك والتخلية ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها خذول قال محمد بن إسحاق في هذه الآية إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك وإن يخذلك فلن ينصرك الناس أي لا تترك أمري للناس وارفض الناس لأمري والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها بل يصنع له ويلطف به ويعينه ويدفع عنه ويكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلاك ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس فإن تولاه الله لم ظفر به عدوه وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة فإن قيل فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه قيل لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها وقد رآها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي الذئاب قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة سمعت ابن أبي الدنيا يقول أن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حمد بن(1/347)
سعيد
القطان ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه أن قوما كانوا في سفر فكان فهم رجل يمر بالطائر فيقول أتدرون ما تقول هؤلاء فيقولون لا فيقول تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو فقال أتدرون ما تقول هذه الشاة قلنا لا قال تقول للسخلة إلحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان قال فانتهينا إلى الراعي فقلنا له ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا قال نعم ولدت سخلة عام أول فأكلها الذئب بهذا المكان ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ويحنو عنقه إليها فقال أتدرون ما يقول هذا البعير قلنا لا قال فانه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه قال فانتهينا إليهم فقلنا يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه قال فأناخوا البعير وحطوا عنه فإذا هو كما قال فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت وقد حذر الله سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مره وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه ويبيت معه ويصبح وقال الشيطان لما قضى الأمر آن الله عدوكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أني كفرت بما أشركتموني من قبل أن الظالمين لهم عذاب أليم
أهـ { شفاء العليل صـ 100 ـ صـ 101 }
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون }(1/348)
فأمرهم بالصبر وهو حال الصابر في نفسه والمصابرة وهى حاله في الصبر مع خصمه والمرابطة وهى الثبات واللزوم والاقامة على الصبر والمصابرة فقد يصبر العبد ولا يصابر وقد يصابر ولا يرابط وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى وأن الفلاح موقوف عليها فقال واتقوا الله لعلكم تفلحون فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذى يخاف هجوم العدو منه في الظاهر فهى لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن مملكته
أهـ { عدة الصابرين صـ 17 }
سورة النساء
قوله تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } النساء 3
قال الشافعي إن لا تكثر عيالكم فدل على أن قلة العيال أولى قيل قد قال الشافعي رحمه الله ذلك وخالفه جمهور المفسرين من السلف والخلف وقالوا معنى الآية ذلك أدنى أن لا تجوروا ولا تميلوا فانه يقال عال الرجل يعول عولا إذا مال وجار ومنه عول الفرائض لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص ويقال عال يعيل عيلة إذا احتاج قال تعالى وان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء الله التوبة 28 وقال الشاعر
وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل أي متى يحتاج ويفتقر
وأما كثرة العيال فليس من هذا ولا من هذا ولكنه من أفعل يقال أعال الرجل يعيل إذا كثر عياله مثل ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر هذا قول أهل اللغة
قال الواحدي في بسيطه ومعنى تعولوا تميلوا وتجوروا عن جميع أهل التفسير واللغة وروي ذلك مرفوعا روت عائشة رضي الله عنها عن النبي في قوله ذلك أن لا تعولوا قال أن لا تجوروا وروي أن لا تميلوا قال وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي وأبي مالك وعكرمة والفراء والزجاج وابن قتيبة وابن الأنبا ري(1/349)
قلت ويدل على تعين هذا المعنى من الآية وان كان ما ذكره الشافعي رحمه الله لغة حكاها الفراء عن الكسائي أنه قال ومن الصحابة
من يقول عال يعول إذا كثر عياله قال الكسائي وهو لغة فصيحة سمعتها من العرب لكن يتعين الأول لوجوه
أحدها أنه المعروف في اللغة الذي لا يكاد يعرف سواه ولا يعرف عال يعول إذا كثر عياله إلا في حكاية الكسائي وسائر أهل اللغة على خلافه
الثاني أن هذا مروي عن النبي ولو كان من الغرائب فانه يصلح للترجيح
الثالث أنه مروي عن عائشة وابن عباس ولم يعلم لهما مخالف من المفسرين وقد قال الحاكم أبو عبد الله تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع
الرابع أن الأدلة التي ذكرناها على استحباب تزوج الولود وأخبار النبي أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة يرد هذا التفسير
الخامس أن سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون الظلم والجور فيه إلى غيره فإنه قال في أولها وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع النساء 4 فدلهم سبحانه
على ما يتخلصون به من ظلم اليتامى وهو نكاح ما طاب لهم من النساء البوالغ وأباح لهم منه ثم دلهم على ما يتخلصون به من الجور والظلم في عدم التسوية بينهن فقال فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم النساء 4 ثم أخبر سبحانه أن الواحدة وملك اليمين أدنى إلى عدم الميل والجور وهذا صريح في المقصود
السادس أنه لا يلتئم قوله فان خفتم ألا تعدلوا في الأربع فانكحوا واحدة أو تسروا ما شئتم بملك اليمين فان ذلك أقرب إلى أن لا تكثر عيالكم بل هذا أجنبي من الأول فتأمله
السابع أنه من الممتنع أن يقال لهم إن خفتم أن ألا تعدلوا بين الأربع فلكم أن تتسروا بمائة سرية وأكثر فانه أدنى أن لا تكثر عيالكم(1/350)
الثامن أن قوله ذلك أدنى ألا تعولوا تعليل لكل واحد من الحكمين المتقدمين وهما نقلهم من نكاح اليتامى إلى نكاح النساء البوالغ ومن نكاح الأربع إلى نكاح الواحدة أو ملك اليمين ولا يليق تعليل ذلك بعلة العيال
التاسع أنه سبحانه قال فان خفتم ألا تعدلوا ولم يقل وان خفتم أنا تفتقروا أو تحتاجوا ولو كان المراد قلة العيال لكان الأنسب أن يقول ذلك
العاشر أنه سبحانه إذا ذكر حكما منهيا عنه وعلل النهي بعلة أو أباح شيئا وعلل عدمه بعلة فلا بد أن تكون العلة مصادفة لضد الحكم المعلل وقد علل سبحانه إباحة نكاح غير اليتامى والاقتصار على الواحدة أو ما ملك اليمين بأنه أقرب إلى عدم الجور ومعلوم أن كثرة العيال لا تضاد عدم الحكم المعلل فلا يحسن التعليل به
أهـ { تحفة المودود صـ 5 ـ صـ 6 }
قوله تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما }
فنفى سبحانه وتعالى التسوية بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين ثم أخبر عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة ثم أخبر عن تفضيلهم عليهم درجات(1/351)
وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من الناس من جهة أن القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدون بدرجات إن كانوا هم القاعدين الذي فضل عليهم أولو الضرر فيكون المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقا وعلى هذا فما وجه استثناء أولي الضرر من القاعدين وهم لا يستوون والمجاهدين أصلا فيكون حكم المستثني والمستثنى منه واحدا فهذا وجه الإشكال ونحن نذكر ما يزيل الإشكال بحمد الله فاختلف القراء في إعراب غير فقرىء رفعا ونصبا وهما في السبعة وقرىء بالجر في غير السبعة وهي قراءة أبي حيوة فأما قراءة النصب فعلى الاستثناء لأن غيرا يعرب في الاستثناء إعراب الاسم الواقع بعد إلا وهو النصب هذا هو الصحبح وقالت طائفة إعرابها نصب على الحال أي لايستوي القاعدون غير مضرورين أي لا يستوون في حال صحتهم هم والمجاهدون والاستثناء أصح فإن غير لا تكاد تقع حالا في كلامهم إلا مضافة إلى نكرة كقوله تعالى فمن اضطر غير باغ وقوله عز وجل في أول المائدة أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وقوله تعالى مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى فإن أضيفت إلى معرفة كانت تابعة لما قبلها كقوله تعالى صراط الذين أنعمت عيهم غير المغضوب عليهم ولو قلت مرحبا بالوفد غير الخزايا ولا الندامى لجرت غير هذا هو المعروف من كلامهم والكلام في عدم تعرف غير بالإضافة وحسن وقوعها إذ ذاك حالا له مقام آخر وأما الرفع فعلى النعت للقاعدين هذا هو الصحيح وقال أبو إسحاق وغيره هو خبر مبتدأ محذوف تقديره الذين هم غير أولي الضرر والذي حمله على هذا ظنه أن غيرا لا تقبل التعريف بالإضافة فلا تجري صفة للمعرفة وليس مع من ادعى ذلك حجة يعتمد عليها سوى أن غيرا توغلت في الإبهام فلا تتعرف بما يضاف إليه وجواب هذا أنها إذا دخلت بين متقابلين لم يكن فيها إبهام لتعيينها ما تضاف إليه وأما قراءة الجر ففيها وجهان أيضا أحدهما وهو الصحيح أنه نعت للمؤمين والثاني وهو قول المبرد أنه بدل منه(1/352)
بناء على أنه نكرة فلا تنعت به المعرفة وعلى الأقوال كلها فهو مفهوم معنى الاستثناء وإن نفي التسوية غير مسلط على ما أضيفت إليه غيره وقوله فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة هو مبين لمعنى نفي المساواة قالوا والمعنى فضل الله المجاهد على القاعد من اولي الضرر درجة واحدة لامتيازه عنه بالجهاد بنفسه وماله ثم أخبر سبحانه وتعالى أن الفريقين كليهما موعود بالحسنى فقال وكلا وعد الله الحسنى أي المجاهد والقاعد المضرور لاشتراكهما في الإيمان قالوا وفي هذا دليل على تفضيل الغني المنفق على الفقير لأن الله أخبر أن المجاهد بماله ونفسه أفضل من القاعد وقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس وأما الفقير فنفى عنه الحرج بقوله ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه فأين مقام من حكم له بالتفضيل إلى مقام من نفى عنه الحرج قالوا فهذا حكم القاعد من أولي الضرر والمجاهد وأما القاعد من غير أولي الضرر فقال تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما وقوله درجات قيل هو نصب على البدل من قوله أجرا عظيما وقيل تأكيد له وإن كان بغير لفظه لأنه هو في المعنى قال قتادة كان يقال الإسلام درجة والهجرة في الإسلام درجة والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة وقال ابن زيد الدرجات التي فضل الله بها المجاهد على القاعد سبع وهي التي ذكرها الله تعالى إذ يقول تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم طمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين فهذه خمس ثم قال ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم به عمل صالح فهاتان اثنتان وقيل الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة والصحيح إن الدرجات هي المذكورة في حديث ابي(1/353)
هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي أنه قال من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإن حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها قالوا يا رسول الله أفلا نخبر الناس بذلك قال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة قالوا وجعل سبحانه وتعالى التفضيل الأول بدرجة فقط وجعله ههنا بدرجات ومغفرة ورحمة وهذا يدل على أنه يفضل على غير أولي الضرر فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه
ولكن بقي أن يقال إذا كان المجاهدون من القاعدين مطلقا لزم أن لا يستوي مجاهد وقاعد مطلقا فلا يبقى في تقييد القاعدين بكونهم من غير أولي الضرر فائدة فإنه لا يستوي المجاهدون والقاعدون من أولي الضرر ايضا وأيضا فإن القاعدين المذكورين في الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولي الضرر لا القاعدون الذين هم أولو الضرر فإنهم لم يذكر حكمهم في الآية بل استثناهم وبين أن التفضيل على غيرهم فاللام في القاعدين للعهد والمعهود هم غير أولي الضرر لا المضرورون وأيضا فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد كما ثبت عن النبي أنه قال إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحا مقيما وقال إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر وعلى هذا فالصواب أن يقال الآية(1/354)
دلت على أن القاعدين عن الجهاد من غير أولي الضرر لا يستوون هم والمجاهدون وسكت عن حكمهم بطريقب منطوقها ولا يدل مفهومها على مساواتهم للمجاهدين بل هذا النوع منقسم إلى معذور من أهل الجهاد غلبه عذره وأقعده عنه ونيته جازمة لم يتخلف عنها مقدورها وإنما أقعده العجز فهذا الذي تقتضيه أدلة الشرع أن له مثل أجر المجاهد وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفي التسوية وهذا لأن قاعدة الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل أو مقدمات الفعل نزل صاحبه في الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام كما دل عليه قوله إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه وفي الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبي أنه قال إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي في ماله ربه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأحسن المنازل وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته وهما في الأجر سواء وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو لا يتقي في ماله ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأسوأ المنازل عند الله وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواي فأخبر أن وزر الفاعل والناوي الذي ليس مقدوره إلا بقوله دون فعله سواء لأنه أتى بالنية ومقدوره التام وكذلك أجر الفاعل والناوي الذي اقترن قوله بنيته وكذلك المقتول الذي اقترن قوله بنيته وكذلك المقتول الذي سل السيف وأراد به قتل أخيه المسلم فقتل نزل منزلة القاتل لنيته التامة التي اقترن بها مقدورها من السعي والحركة ومثل هذا قوله من دل على خير فله مثل أجر فاعله فإنه بدلالته ونيته نزل منزلة الفاعل ومثله من دعا إلى هدى فله مثل أجور من اتبعه ومن دعا إلى ضلالة عليه من(1/355)
الوزر مثل آثام من اتبعه لأجل نيته واقتران مقدورها بها من الدعوة ومثله إذا جاء المصلي إلى المسجد ليصلي جماعة فأدركهم وقد صلوا فصلى وحده كتب له مثل أجر صلاة الجماعة بنيته وسعيه كما جاء مصرحا به في حديث مروي ومثل هذا من كان له ورد يصليه من الليل فنام ومن نيته أن يقوم
إليه فغلب عينه نوم كتب له أجر ورده وكان نومه عليه صدقة ومثله
المريض والمسافر إذا كان له عمل يعمله فشغل عنه المرض والسفر كتب له مثل عمله وهو صحيح مقيم ومثله من سأل الله الشهادة بصدق بغله الله سبحانه وتعالى منازل الشهداء ولو مات على فراشه ونظائر ذلك كثيرة والقسم الثاني معذور ليس من نيته الجهاد ولا هو عازم عليه عزما تاما فهذا لا يستوي هو والمجاهد في سبيل الله بل قد فضل الله المجاهدين عليه وإن كان معذورا لأنه لا نية له تلحقه بالفاعل التام كنية أصحاب القسم الأول وقد قال النبي في حديث عثمان بن مظعون إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته فلما كان القسم المعذور فيه هذا التفصيل لم يجز أن يساوي بالمجاهد مطلقا ولا ينفي عنه المساواة مطلقا(1/356)
ودلالة المفهوم لا عموم لها فإن العموم إنما هو من أحكام الصيغ العامة وعوارض الألفاظ والدليل الموجب للقول بالمفهوم لا يدل على أن له عموما يجب اعتباره فإن أدلة المفهوم ترجع إلى شيئين أحدهما التخصيص والآخر التعليل فأما التخصيص فهو أن تخصيص الحكم بالمذكور يقتضي نفي الحكم عما عداه وإلا بطلت فائدة التخصيص وهذا لا يقتضي العموم وسلب حكم المنطوق عن جميع صور المفهوم لأن فائدة التخصيص قد تحصل بانقسام صور المفهوم إلى ما يسلب الحكم عن بعضها ويثبت لبعضها ثبوت تفصيل فيه فيثبت له حكم المنطوق على وجه دون وجه إما بشرط لا تجب مراعاته في المنطوق وإما في وقت دون وقت بخلاف حكم المنطوق فإنه ثابت أبدا ونحو ذلك من فوائد التخصيص وإذا كانت فائدة التخصيص حاصلة بالتفصيل والانقسام فدعوى لزوم العموم من التخصيص دعوى باطلة فإثباته مجرد التحكم وأما التعليل فإنهم قالوا ترتيب الحكم على هذا الوصف المناسب له يقتضي نفي الحكم عما عداه وإلا لم يكن الوصف المذكور علة وهذا أيضا لا يستلزم عموم النفي عن كل ما عداه وإنما غايته اقتضاؤه نفي الحكم المرتب على ذلك الوصف عن الصور المنفي عنها الوصف وأما نفي الحكم جملة فلا يجوز ثبوته بوصف آخر وعلة أخرى فإن الحكم الواحد بالنوع يجوز تعليله بعلل مختلفة وفي الواحد بالعين كلام ليس هذا موضعه ومثال هذا ما نحن فيه لأن قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون لا يدل على مساواة المضرورين المجاهدين مطلقا من حيث الضرورة بل إن ثبتت المساواة فإنها معللة بوصف آخر وهي النية الجازمة والعزم التام والضرر المانع من الجهاد في ذلك الحال لا يكون مانعا من المساواة في الأجر والله أعلم
أهـ { طريق الهجرتين صـ 528 ـ صـ 536 }(1/357)
قوله تعالى { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } النساء : 113 وقال عن المسيح عليه السلام : ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل آل عمران : 48 الحكمة في كتاب الله نوعان : مفردة ومقترنة بالكتاب فالمفردة : فسرت بالنبوة وفسرت بعلم القرآن قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي علم القرآن : ناسخة ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله
وقال الضحاك : هي القرآن والفهم فيه وقال مجاهد : هي القرآن والعلم والفقه وفي رواية أخرى عنه : هي الإصابة في القول والفعل وقال النخعي : هي معاني الأشياء وفهمها وقال الحسن : الورع في دين الله كأنه فسرها بثمرتها ومقتضاها وأما الحكمة المقرونة بالكتاب : فهي السنة كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة وقيل : هي القضاء بالوحي وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر
وأحسن ما قيل في الحكمة : قول مجاهد ومالك : إنها معرفة الحق والعمل به والإصابة في القول والعمل وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان و الحكمة حكمتان : علمية وعملية فالعلمية : الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا قدرا وشرعا و العلمية كما قال صاحب المنازل : وهي وضع الشيء في موضعه قال : وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : أن تعطي كل شيء حقه ولا تعديه حده ولا تعجله عن وقته ولا تؤخره عنه(1/358)
لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها شرعا وقدرا ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاثة بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره ولا تتعدى بها حدها فتكون متعديا مخالفا للحكمة ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة ولا تؤخرها عنه فتفوتها وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض وتعدي الحق : كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد وتعجيلها عن وقتها : كحصاده قبل إدراكه وكماله
وكذلك ترك الغذاء والشراب واللباس : إخلال بالحكمة وتعدي الحد المحتاج إليه : خروج عنها أيضا وتعجيل ذلك قبل وقته : إخلال بها وتأخيره عن وقته : إخلال بها فالحكمة إذا : فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي والله تعالى أورث الحكمة آدم وبنيه فالرجل الكامل : من له إرث كامل من أبيه ونصف الرجل كالمرأة له نصف ميراث والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى وأكمل الخلق في هذا : الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأكملهم أولو العزم وأكملهم محمد ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى عليه وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة كما قال تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم النساء : 113 وقال تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون البقرة : 151
فكل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة وكل خلل في الوجود وفي العبد فسببه : الإخلال بها فأكمل الناس : أوفرهم منها نصيبا وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال : أقلهم منها ميراثا ولها ثلاثة أركان : العلم والحلم والأناة وآفاتها وأضدادها : الجهل والطيش والعجلة فلا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول والله أعلم
أهـ {مدارج السالكين حـ صـ 478 ـ صـ 480 }
سورة المائدة(1/359)
قال الله تعالى { وتعاونوا على
البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }
وكل منهما إذا أفرد تضمن الآخر فكل إثم عدوان إذ هو فعل ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر الله به فهو عدوان على أمره ونهيه وكل عدوان إثم فإنه يأثم به صاحبه ولكن عند اقترانهما فهما شيئان بحسب متعلقهما ووصفهما
فالإثم ما كان محرم الجنس كالكذب والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة
فالعدوان تعدى ما أبيح منه إلى القدر المحرم والزيادة كالإعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه إما بأن يتعدى على ماله أو بدنه أو عرضه فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها فهذا كله عدوان وتعد للعدل
وهذا العدوان نوعان عدوان في حق الله وعدوان في حق العبد وعدوان في حق العبد فالعدوان في حق الله كما إذا تعدى ما أباح الله له من الوطء الحلال في الأزواج والمملوكات إلى ما حرم عليه من سواهما كما قال تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وكذلك تعدى ما أبيح له من زوجته وأمته إلى ما حرم عليه منها كوطئها في حيضها أو نفاسها أو في غير موضع الحرث أو في إحرام أحدهما أو صيامه الواجب ونحو ذلك(1/360)
وكذلك كل من أبيح له منه قدر معين فتعداه إلى أكثر منه فهو من العدوان كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر فتناول الكأس كلها أو أبيح له نظرة الخطبة والسوم والشهادة والمعاملة والمداواة فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور فتعدى المباح إلى القدر المحظور وحام حول الحمى المحوط المحجور فصار ذا بصر حائر وقلب عن مكانه طائر أرسل طرفه رائدا يأتيه بالخبر فخامر عليه وأقام في تلك الخيام فبعث القلب في آثاره فلم يشعر إلا وهو أسير يحجل في قيوده بين تلك الخيام فما أقلعت لحظات ناظره حتى تشحط بينهن قتيلا وما برحت تنوشه سيوف تلك الجفون حتى جندلته تجديلا هذا خطر العدوان وما أمامه أعظم وأخطر وهذا فوت الحرمان وما حرمه من فوات ثواب من غض طرفه لله عز وجل أجل وأكبر سافر الطرف في مفاوز محاسن المنظور إليه فلم يربح إلا أذى السفر وغرر بنفسه في ركوب تلك البيداء وما عرف أن راكبها على أعظم الخطر يا لها من سفرة لم يبلغ المسافر منها ما نواه ولم يضع فيها عن عاتقه عصاه حتى قطع عليه فيها الطريق وقعد له فيها الرصد على كل نقب ومضيق لا يستطيع الرجوع إلى وطنه والإياب ولا له سبيل إلى المرور والذهاب يرى هجير الهاجرة من بعيد فيظنه برد الشراب حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وتيقن أنه كان مغرورا بلامع السراب تالله ما استوت هذه الذلة وتلك اللذة في القيمة فيشتريها بها العارف الخبير ولا تقاربا في المنفعة فيتحير بينهما البصير ولكن على العيون غشاوة فلا تفرق بين مواطن السلامة ومواضع العثور والقلوب تحت أغطية الغفلات راقدة فوق فرش الغرور فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
ومن أمثلة العدوان تجاوز ما أبيح من الميتة للضرورة إلى ما لم يبح منها إما بأن يشبع وإنما أبيح له سد الرمق على أحد القولين في مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة(1/361)
وأباح مالك له الشبع والتزود إذا احتاج إليه فإذا استغنى عنها وأكلها واقيا لماله وبخلا عن شراء المذكى ونحوه كان تناولها عدوانا قال تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم قال قتادة والحسن لا يأكلها من غير اضطرار ولا يعدو شبعه وقيل غير باغ غير طالبها وهو يجد غيرها ولا عاد أي لا يتعدى ما حد له منها فيأكل حتى يشبع ولكن سد الرمق وقال مقاتل غير مستحل لها ولا متزود منها
وقيل لا يبغى بتجاوز الحد الذي حد له منها ولا يتعدى بتقصيره عن تناوله حتى يهلك فيكون قد تعدى حد الله بمجاوزته أو التقصير عنه فهذا آثم وهذا آثم وقال مسروق من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار وهذا أصح القولين في الآية وقال ابن عباس وأصحابه والشافعي غير باغ على السلطان ولا عاد في سفره فلا يكون سفر معصية وبنوا على ذلك أن العاصي بسفره لا يترخص
والقول الأول أصلح لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها إذ الآية لا تعرض فيها للسفر بنفي ولا إثبات ولا للخروج على الإمام ولا هي مختصة بذلك ولا سيقت له وهي عامة في حق المقيم والمسافر والبغي والعدوان فيها يرجعان إلى الأكل المقصود بالنهي لا إلى أمر خارج عنه لا تعلق له بالأكل ولأن نظير هذا قوله تعالى في الآية الأخرى فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فهذا هو الباغي العادي والمتجانف للإثم المائل إلى القدر الحرام من أكلها وهذا هو الشرط الذي لا يباح له بدونه ولأنها إنما أبيحت للضرورة فتقدرت الإباحة بقدرها وأعلمهم أن الزيادة عليها بغي وعدوان وإثم فلا تكون الإباحة للضرورة سببا لحله والله أعلم
والإثم والعدوان هما الإثم والبغي المذكوران في سورة الأعراف مع أن البغي غالب استعماله في حقوق العباد والإستطالة عليهم(1/362)
وعلى هذا فإذا قرن البغي بالعدوان كان البغي ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والإبتداء بالأذى والعدوان تعدى الحق في استيفائه إلى أكبر منه فيكون البغي والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله
فههنا أربعة أمور حق لله وله حد وحق لعباده وله حد فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما رواءهما أو التقصير عنهما فلا يصل إليهما
أهـ { مدارج السالكين حـ 1 صـ268 ـ صـ 271 }(1/363)
قوله تعالى { اليوم اكملت لكم دينكم }الاية وتأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال والنعمة التي اسبغها عليهم بالتمام إيذانا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل ولا شيء خارجا عن الحكمة بوجه بل هو الكامل في حسنه وجلالته ووصف النعمة بالتمام إيذانا بدوامها واتصالها وأنه لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها بل يتمها لهم بالدوام في هذه الدار وفي دار القرار وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة وحسن اقتران الكمال بالدين وإضافة الدين اليهم إذ هم القائمون به المقيمون له وأضاف النعمة اليه إذ هو وليها ومسديها والمنعم بها عليهم فهي نعمته حقا وهم قابلوها واتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص وأنه شيء خصوا به دون الامم وفي إتمام النعمة بعلى المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والاحاطة فجاء اتممت في مقابلة أكملت وعليكم في مقابلة لكم ونعمتي في مقابلة دينكم واكد ذلك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله ورضيت لكم الاسلام دينا وكان بعض السلف الصالح يقول ياله من دين لو ان له رجالا وقد ذكرنا فصلا مختصرا في دلالة خلقه على وحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله وأسمائه الحسنى واردنا ان نختم به القسم الاول من الكتاب ثم راينا ان نتبعه فصلا في دلالة دينه وشرعه على وحدانيته وعلمه وحكمته ورحمته وسائر صفات كماله إذ هذا من أشرف العلوم التي يكتسبها العبد في هذه الدار ويدخل بها الى الدار الاخرة وقد كان الاولى بنا الامساك عن ذلك لان ما يصفه الواصفون منه وتنتهي اليه علومهم هو كما يدخل الرجل اصبعه في اليم ثم ينزعها فهو يصف البحر بما يعلق على إصبعه من البلل وأين ذلك من البحر فيظن السامع ان تلك الصفة احاطت بالبحر وإنما هي صفة ما علق بالاصبع منه وإلا فالأمر اجل وأعظم وأوسع من ان تحيط عقول البشر بأدنى جزء منه وماذا عسى ان يصف به الناظر الى قرص الشمس من ضوئها وقدرها وحسنها وعجائب صنع الله فيها ولكن قد رضى الله من عباده(1/364)
بالثناء عليه وذكر آلائه وأسمائه وصفاته وحكمته وجلاله مع انه لايحصى ثناء عليه ابدا بل هو كما اثنى على نفسه فلا يبلغ مخلوق ثناء عليه تبارك وتعالى ولا وصف كتابه ودينه بما ينبغي له بل لا يبلغ احد من الامة ثناء على رسوله كما هو اهل ان يثني عليه بل هو فوق ما يثنون به عليه ومع هذا ان الله تعالى يحب ان يحمد ويثني عليه وعلى كتابه ودينه ورسوله فهذه مقدمة اعتذار بين يدي القصور والتقصير من راكب هذا البحر الاعظم والله عليم بمقاصد العباد دنياهم وهو اولى بالعذر والتجاوز
أهـ { مفتاح دار السعادة صـ313 }(1/365)
والنعمة نعمتان نعمة مطلقة ونعمة مقيدة فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد وهي نعمة الإسلام والسنة وهي التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها ومن خصهم بها وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة وأصحابها أيضا هم المعنيون بقول الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فأضاف الدين إليهم إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم والدين تارة يضاف إلى العبد وتارة يضاف إلى الرب فيقال الاسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد دينا سواه ولهذا يقال في الدعاء اللهم انصر دينك الذي أنزلت من السماء ونسب الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة مع إضافتها إليه لأنه هو وليها ومسديها إليهم وهم محل محض النعمة قابلين لها ولهذا يقال في الدعاء المأثور للمسلمين واجعلهم مثنين بها عليك قابليها وأتممها عليهم وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم فقال أكملت لكم دينكم وكان الاكمال في جانب الدين والتمام في جانب النعمة واللفظتان وإن تقاربتا وتواخيتا فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني ويطلق على الأعيان والذوات ولكن باعتبار صفاتها وخواصها كما قال النبي وآله كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وقال عمر بن عبد العزيز إن للإيمان حدودا وفرائض وسننا وشرائع فمن استملكها فقد استكمل الإيمان وأما التمام فيكون في الأعيان والمعاني ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعان وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن كما كانت اضافة الدين إليهم(1/366)
والنعمة اليه أحسن والمقصود أن هذه النعمة هي النعمة المطلقة وهي التي اختصت بالمؤمنين وإذا قيل ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح
النعمة المقيدة
والنعمة الثانية النعمة المقيدة كنعمة الصحة والغنى وعافية الجسد وتبسط الجاه وكثرة الولد والزوجة الحسنة وأمثال هذه فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر والمؤمن والكافر وإذا قيل لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو حق فلا يصح اطلاق السلب والايجاب إلا على وجه واحد وهو أن النعمة المقيدة لما كانت استدراجا للكافر
ومآلها إلى العذاب والشقاء فكأنها لم تكن نعمة وإنما كانت بلية كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك فقال تعالى فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا أي ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها فقد أنعمت عليه وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبارا ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته من غير فضيلة أكون قد أهنته بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب(1/367)
فإن قيل كيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله فأكرمه فأثبت له الإكرام ثم أنكر عليه قوله ربي أكرمن وقال كلا أي ليس ذلك إكراما مني وإنما هو ابتلاء فكأنه أثبت له الاكرام ونفاه قيل الاكرام المثبت غير الاكرام المنفي وهما من جنس النعمة المطلقة والمقيدة فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق وكذلك أيضا إذا قيل إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة ولكنه رد نعمة الله وبدلها فهو بمنزلة من أعطى ما لا يعيش به فرماه في البحر كما قال تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وقال تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فهدايته إياهم نعمة منه عليهم فبدلوا نعمة الله وآثروا عليها الضلال فهذا فصل النزاع في مسألة هل لله على الكافر نعمة أم لا وأكثر اختلاف الناس من جهتين إحداهما اشتراك الألفاظ وإجمالها والثانية من جهة الاطلاق والتفصيل
فصل في أن النعمة المطلقة هي التي يفرح بها في الحقيقة
وهذه النعمة المطلقة هي التي يفرح بها في الحقيقة والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه وهو لا يحب الفرحين قال الله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته الاسلام والسنة وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما وكلما كان أرسخ فيهما كان قبله أشد فرحا حتى إن القلب إذا باشر روح السنة ليرقص فرحا أحزن ما يكون الناس
أهـ { اجتماع الجيوش الإسلامية صـ 3 ـ صـ 6 }
سورة الأنعام
قوله تعالى { وللبسنا عليهم ما يلبسون }(1/368)
إن المشركين قالوا تعنتا في كفرهم لولا أنزل عليه ملك يعنون ملكا نشاهده ونراه يشهد له ويصدقه وإلا فالملك كان ينزل عليه بالوحي من الله فأجاب الله تعالى عن هذا وبين الحكمة في عدم إنزال الملك على الوجه الذي اقترحوه بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا ولم يؤمنوا ويصدقوه لعوجلوا بالعذاب كما جرت واستمرت به سنته تعالى مع الكفار في آيات الاقتراح إذا جاءتهم ولم يؤمنوا بها فقال ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ثم بين سبحانه أنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لما حصل به مقصودهم لأنه إن أنزله في صورته لم يقدروا على التلقي عنه إذ البشر لا يقدرون على مخاطبة الملك ومباشرته وقد كان النبي وهو أقوى الخلق إذا نزل عليه الملك كرب لذلك وأخذه البرحاء وتحدر منه العرق في اليوم الشاتي وإن جعله في صورة رجل حصل لهم لبس هل هو رجل أم ملك فقال تعالى ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم في هذه الحال ما يلبسون على أنفسهم حينئذ فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك
أهـ { مدارج السالكينحـ 2 صـ 353 }
قوله تعالى ولو ترى اذ وقفوا على النار قالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون(1/369)
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا فراجع أقوالهم تجدها لا تشفى عليلا ولا تروى غليلا ومعناها أجل وأعظم مما فسروها به ولم يتفطنوا لوجه الاضراب ببل ولا للأمر الذى بدا لهم وكانوا يخفونه وطنوا أن الذى بدا لهم العذاب فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله ما كانوا يخفون من قبل قد روا مضافا محذوفا وهو خبر ما كانوا يخفون من قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه ولما علموا أن هذا وارد عليهم قالوا ان القوم فى بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذى أخفوه قال الواحدى وعلى هذا أهل التفسير ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا فإن السياق والاضراب ببل والاخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين لا يلتئم بهذا الذى ذكروه فتأمله
وقالت طائفة منهم الزجاج بل بدا للاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير وفيه من التكلف ما ليس بخاف واجود من هذا ما فهمه المبرد من الآية قال كأن كفرهم لم يكن باديا لهم اذ خفيت عليهم مضرته ومعنى كلامه أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله فكأنه كان خفيا عنهم لم تظهر لهم حقيقته فلما عاينو العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره قال وهذا كما تقول لمن كنت حدثته فى أمر قبل وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك وقد كان ظاهرا له قبل هذا ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذى كانوا ينادون به على رءوس الاشهاد ويدعون اليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد وقتل النفوس والسعى فى الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه(1/370)
فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون الى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك وأنهم ليس فى طبائعهم وسجاياهم الايمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله وأخبر أنهم كاذبون فى زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الاضراب ببل وتبين معنى الذى بدا لهم والذى كانوا يخفونه والحامل لهم على قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا فى الدنيا على باطل وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم بل تواصوا بكتمانه فلم يكن الحامل لهم على تمنى الرجوع والايمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل وأن الرسل على الحق فعاينوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالايمان ولعادوا الى الكفر والتكذيب فإنهم لم يتمنوا الايمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل وانما تمنوا لما عاينوا العذاب الذى لا طاقة لهم باحتماله وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد فى عدوله عنه فقيل له ان اطلع عليه وليه عاقبك وهو يعلم ذلك ويكابر ويقول بل محبته ومعاشرته هى الصواب فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاوده بعد معاينة العقوبة بل بعد أن مسته وأنهكته فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ولو رد لعاد لما نهى عنه(1/371)
وتأمل مطابقة الاضراب لهذا المعنى وهو نفى قولهم انا لو رددنا لآمنا وصدقنا لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق أى ليس كذلك بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه فلم يظهر لكم شئ لتكونوا عالمين به لتعذروا بل ظهر لكم ما كان معلوما وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه والله أعلم
ولا تستطل هذا الفضل المعترض فى أثناء هذه المسألة فلعله أهم منها وأنفع وبالله التوفيق
أهـ { عدة الصابرين صـ 198 }
قوله تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون }(1/372)
وهذا عطف على أنها إذا جاءت لا يؤمنون أي نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون واختلف في قوله كما لم يؤمنوا به أول مرة فقال كثير من المفسرين المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة قال ابن عباس في رواية عطاء عنه ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي قال وهذا كقوله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وقال آخرون المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم وهذ معنى حسن فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التلعيل كقوله وأحسن كما أحسن الله إليك وقوله كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم والذ ي حسن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر والتقليب تحويل الشيء من وجه إلى وجه وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية ووصولهم إليها كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم لأنهم رأوها عيانا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها فإذا لم يؤمنوا كان تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أن قلوب بني آدم كلها بين(1/373)
إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك وروى الترمذي من حديث أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء قال هذا حديث حسن وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلي بن زياد عن الحسن قال قالت عائشة رضي الله تعالى عنها دعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله دعوة كثيرا ما تدعو بها قال إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه وقوله ونذرهم في طغيانهم يعمهون قال ابن عباس أخذلهم وأدعهم في ضلالهم يتمادون
أهـ شفاء العليل صـ 99 }
سورة الأعراف
قوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون}(1/374)
وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها لا تستحسنها العقول فتعلق التحريم بها لفحشها فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشتق يدل على أنه هو العلة المقتضية له وهذا دليل في جميع هذه الآيات التي ذكرناها فدل على أنه حرمها لكونها فواحش وحرم الخبيث لكونه خبيثا وأمر بالمعروف لكونه معروفا والعلة يجب أن تغاير المعلول فلو كان كونه فاحشة هو معنى كونه منهيا عنه وكونه خبيثا هو معنى كونه محرما كانت العلة عين المعلول وهذا محال فتأمله وكذا تحريم الإثم والبغي دليل على أن هذا وصف ثابت له قبل التحريم ومن هذا قوله تعالى ولا تقربوا الزنا أنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا فعلل النهي في الموضعين بكون المنهي عنه فاحشة ولو كان جهة كونه فاحشة هو النهي لكان تعليلا للشيء بنفسه ولكان بمنزلة أن يقال لا تقربوا الزنا فإنه يقول لكم لا تقربوه أو فإنه منهي عنه وهذا محال من وجهين أحدهما أنه يتضمن إخلاء الكلام من الفائدة والثاني أنه تعليل للنهي بالنهي ومن ذلك قوله تعالى ولو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولا ولم ينزل عليهم كتابا فقطع هذه الحجة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا أن يصيبوا بها المصيبة ولكنه سبحانه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل وهذا هو فصل الخطاب(1/375)
وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى لعدم جمعهما بين هذين الأمرين فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي وأحسنوا في رد ذلك عليهم واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلا على انتفاء القبح واستواء الأفعال في أنفسها وأحسنوا في رد هذا عليهم فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصواب وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله ولا الظفر عليه أصلا فانه موافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له مخالف في باطلها منكر له وليس مع النفاة قط دليل واحد صحيح على نفي الحسن والقبح العقليين وإن الأفعال المتضادة كلها في نفس الأمر سواء لا فرق بينها إلا بالأمر والنهي وكل أدلتهم على هذا باطلة كما سنذكرها ونذكر بطلانها إن شاء الله تعالى وليس مع المعتزلة دليل واحد صحيح قط يدل على إثبات العذاب على مجرد القبح العقلي قبل بعثة الرسل وأدلتهم على ذلك كلها باطلة كما سنذكرها ونذكر بطلانها إن شاء الله تعالى ومما يدل على ذلك أيضا أنه سبحانه يحتج على فساد مذهب من عبد غيره بالأدلة العقلية التي تقبلها الفطر والعقول ويجعل ما ركبه في العقول من حسن عبادة الخالق وحده وقبح عبادة غيره من أعظم الأدلة على ذلك وهذا في القرآن أكثر من أن يذكر ههنا ولولا أنه مستقر في العقول والفطر حسن عبادته وشكره وقبح عبادة غيره وترك شكره لما احتج عليهم بذلك أصلا وإنما كانت الحجة في مجرد الأمر وطريقة القرآن صريحة في هذا
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ3 صـ2 }
بسم الله الرحمن الرحيم فصل دعاء العبادة ودعاء المسألة(1/376)
قوله عز وجل {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين }
هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويرادبه مجموعهما وهما متلازمان فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضرر ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا
وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وقوله تعالى ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك وقوله تعالى قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم وقوله تعالى أفتعبدون من دون الله ما لاينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله وقوله تعالى واتل عليهم نبأإبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذا تدعون أو ينفعونكم أو يضرون وقوله تعالى واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر القاصر والمتعدي فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم
وهذا في القرآن كثير بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة ويدعي خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان(1/377)
فعل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة وعلى هذا فقوله تعالى إذا سألك عبادى عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان يتناول نوعي الدعاء وبكل منهما فسرت الآية قيل أعطيه إذا سألني وقيل أثيبه إذا عبدني والقولان متلازمان وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقة ومجازه بل هذا استعمال له في حقيقةته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا فتأمله فإنه موضع عظيم النفع قل من يفطن له وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من هذا القبيل ومثال ذلك قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل فسر بالزوال وفسر الدلوك بالغروب وحكيا قولين في كتب التفسير وليسا بقولين بل اللفظ يتناولهما معا فإن الدلوك هو الميل ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهى فمبدأه الزوال ومنتهاه الغروب فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار لا يتناول المشترك لمعنييه ولا اللفظ لحقيقته ومجازه
ومثاله أيضا ما تقدم من تفسير الغاسق بالليل والقمر وإن ذلك ليس باختلاف بل يتناولهما لتلازمهما فإن القمر آية الليل ونظائره كثيرة
ومن ذلك قوله عز وجل قل ما يعبأبكم ربي لولا دعاؤكم قيل لولا دعاؤكم إياه وقيل دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول وعلى الأول مضافا إلى الفاعل وهو الأرجح من القولين وعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر أي ما يعبأبكم ربي لولا أنكم تعبدونه وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه
ومن ذلك قوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستحب لكم فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ولهذا عقبة بقوله إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين الدعاء هو العبادة
فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا وقد روى سفيان عن منصور عن ذر يسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله يقول على المنبر
إن الدعاء هو العبادة(1/378)
ثم قرأ ادعوني أستحب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين رواه الترمذي // صحيح // وقال حديث حسن صحيح
وأما قوله تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وقوله إن يدعون من دونه إلا إناثا وقوله وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة
أحدها أنهم قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم
الثاني أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في مواضع أخرى بأنه العبادة كقوله وقيل لهم أينما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون وقوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم وقوله قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما تعبدون وهو كثير في القرآن فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها
الثالث أنهم إنما كانوا يعبدونها ويتقربون بها إلى الله فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة وقوله تعالى فادعوا الله مخلصين له الدين هو دعاء العبادة والمعنى اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره
وأما قول إبراهيم الخليل إن ربي لسميع الدعاء فالمراد بالسمع هنا السمع الخاص وهو سمع الإجابة والقبول لا السمع العام لأنه سميع لكل مسموع وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء وإجابته للطلب فهو سميع لهذا وهذا وأما قول زكريا ولم أكن بدعائك رب شقيا فقد قيل إنه دعاء المسألة
والمعنى إنك عودتني إجابتك وإسعافك ولم تشقني بالرد والحرمان فهو توسل(1/379)
إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه كما حكى أن رجلا سأل رجلا وقال أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا وكذا فقال مرحبا بمن توسل إلينا بنا وقضي حاجته وهذا ظاهر ههنا ويدل عليه أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد وجعله وسيلة إلى ربه فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده من قضاء حوائجه إلى ما سأله قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
فأما قوله تعالى قل ادعوا الله او ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى فهذا الدعاء المشهور وأنه دعاء المسألة وهو سبب النزول قالوا كان النبي يدعوا ربه فيقول مرة
يا لله
ومرة
يا رحمن
فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعوا إليهين فأنزل الله تعالى هذه الآية قال ابن عباس سمع المشركون النبي في سجوده يا رحمن يا رحيم فقالوا هذا يزعم أنه يدعوا واحدا وهو يدعوا مثنى مثنى فأنزل الله هذه الآية قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن
وقيل إن الدعاء ههنا الدعاء ههنا بمعنى التسمية كقولهم دعوت ولدي سعيدا وادعه بعبد الله ونحوه والمعنى سموا الله أو أو سموا الرحمن فالدعاء ههنا بمعنى التسمية وهذا قول الزمخشري
والذي حمله على هذا قوله أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى فإن المراد بتعدده معنى أي وعمومها ههنا تعدد الأسماء ليس إلا والمعنى أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى إما الله إما الرحمن فله الأسماء الحسنى أي فللمسمي سبحانه الأسماء الحسنى والضمير في له يعود إلى المسمى فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في الداء في هذه الآية على التسمية وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المرادبالدعاء في الآية وليس هو عين المراد بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في تدعوا معنى تسموا فتأمله(1/380)
والمعنى أيا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم والله أعلم
وأما قوله تعالى إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة والمعنى إنا كنا من قبل نخلص له العبادة وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب
وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها أي لن نعبد غيره وكذلك قوله تعالى أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين
وأما قوله تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوا فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون فهذا من دعاء المسألة يبكتهم الله عز وجل ويخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم وليس المراد اعبدوهم
وهو نظير قوله تعالى ويوم يقول نادوا شركائى الذي زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة وأنها هل نقلت عن مسماها في اللغة فصارت حقيقة شرعية منقولة أو استعملت في هذه العبادة مجازا للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائط وعلى ما قررناه ولا حاجة إلى شيء عبادة وثناء أو دعاء طلب ومسألة وهو في الحالين داع فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء فتأمله إخفاء الدعاء
إذا عرفت هذا فقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية فإنه يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه وإسراره قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى
يقول ادعوا ربكم تضرعا وخفية وأن الله تعالى ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله فقال إذ نادي ربه نداء خفيا وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة(1/381)
أحدها أنه أعظم إيمانا لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي وليس كالذي قال أن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا
ثانيها أنه أعظم في الأدب والتعظيم ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات وإنما تخفض عندهم الأصوات ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع وصوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به
ثالثها أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسره وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوله بالنطق فقلبه سائل طالب مبتهل ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا
رابعها أنه أبلغ في الأخلاص
خامسها أنه أبلغ في جمعه القلب على الله تعالى في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته فكلما خفض صوته كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى
سادسها وهو من النكت السرية البديعة جدا أنه دال على قرب صاحبه من الله وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه فيسألة مسألة مناجاة للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد
ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله إذ نادى ربه نداء خفيا فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه وإنه أقرب إليه من كل قريب وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه
ولله المثل الأعلى سبحانه وقد أشار النبي هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث
الصحيح لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال(1/382)
اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان
وقد جاء أن سبب نزولها أن الصحابة قالوا يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله عز وجل وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان
وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء وإنما يسأل مسألة القريب المناجي لا مسألة البعيد المنادي وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ليس قربا عاما من كل أحد فهو قريب من داعيه وقريب من عابده
وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه بل هو قرب خاص من الداعي والعابد كما قال النبي راويا عن ربه تبارك وتعالى
من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا
// رواه البخاري ومسلم //
فهذا قربه من عابده وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعى إذا دعان وقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب
وأما قربة تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر وشأن آخر كما قد ذكرناه في كتاب التحف المكية على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدا لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب وإياك ثم إياك أن تعبر عنه بغير العبارة النبوية أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل قدم بعد ثبوتها وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح وقابلهم من غلط حجابه فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوف فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا(1/383)
وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهولاء في كتاب التحفة أكثر من مائة طريق والمقصود ههنا الكلام علي هذه الآية
سابعها أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه وهذانظير من يقرأويكرر رافعا صوته فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته
ثامنها أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات فإن الداعي إذاأخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية والخبيثة من الجن والأنس فشوشت عليه ولا بد ومانعته وعارضته ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء لكفى ومن له تجربة يعرف هذا فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة
تاسعها إن أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له
وقد قال يعقوب ليوسف لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار فأصبح يقلب كفيه ولهذا يوصى العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم كما أنشد بعضهم في ذلك
من سارروه فأبدي السر مجتهدا ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ... وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يأمنون مذيعا بعض سرهم ... حاشا ودادهم من ذلكم حاشا
والقوم أعظم شيء كتمانا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به وجمعية القلب عليه ولا سيما للمبتدىء والسالك فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث لا(1/384)
يخشي عليه من العواصف فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به لم يبال وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله
وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله فهو من أعظم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء والستر عن أعين الحاسدين وهذه فائدةشريفة نافعة
عاشرها أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه فهو ذكر وزيادة كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي
أفضل الدعاء الحمد لله // حسن // فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض لأن الحمد يتضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب فالحامد طالب لمحبوبه فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما فتأمل هذا الموضع ولا تحتاج إلى ما قيل ان الذاكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحا بالسؤال فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض كما قال أمية بن إبي الصلت
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب وهو طلب المحب فهو دعاء حقيقة بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه
قال مجاهد وابن جريج أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح وقد تقدم حديث أبي موسى كنا مع النبي في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال
يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا اقرب إلى أحدكم من عنق راحلته(1/385)
// رواه البخاري ومسلم // وتأمل كيف قال في آية الذكر واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة وفي آية الدعاء ادعوا ربكم تضرعا وخفية فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل والتمسكن والانكسار وهو روح الذكر والدعاء وخص الدعاء الخفيه لما ذكرنا من الحكم وغيرها
اقتران محبة الله بالخوف منه
وخص الذكر بالخفيه لحاجة الذاكر إلى الخوف فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد فمن أكثر من ذكر الله تعالى أثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره لأنها توجب الإدلال والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات وقالوا المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل ولقد حدثني رجل إنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة فقال له الشيخ أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه فقال له بلى فقال له فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم أو كما قال وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه فقال له هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعى حفظ قلبه أو كما قال
فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها وهو يظن أنه من الخاصة أنواع العبادة
وسبب هذا اقتران الخوف من الله تعالى بحبه وإرادته ولهذا قال بعض السلف من عبد الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجي ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن(1/386)
وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف فهذه طريقة عبادة وأوليائه وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات ويقول المحب لا يضره ذنب
وصنف بعضهم في ذلك مصنفا وذكر فيه أثرا مكذوبا إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب وهذا كذب قطعا مناف للإسلام فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن
ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ وأما عن رسول الله فمعاذ الله
من ذلك فله محمل وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب لأن الإصرارعلى الذنب مناف لكونه محبا لله وإذا لم يصر على الذنب بل بادر إلى التوبة النصوح منه فإنه يمحو أثره ولا يضر الذنب وكلما أذنب وتاب إلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره فهذا المعنى صحيح والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب
فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق وتركت تركب التعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها فما حفظت حدود الله ومحارمه ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته فمتى خلا القلب عن هذه الثلاثة فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضغف إيمانه بحسبه اقتران الخيفة والخفية بالذكر والدعاء(1/387)
فتأمل أسرار القرآن الكريم وحكمته في هذا الاقتران فإنه قال اذكر ربك في نفسك فلم يحتج بعدها أن يقول خفية وقال في الدعاء وادعوه خوفا وطمعا فلم يحتج أن يقول في الأول ادعوا ربكم تضرعا وخيفة فانتظمت كل واحدة من الآيتين للخيفة والخفية والتضرع أحسن انتظام ودلت على ذلك أكمل دلالة وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء لأن الدعاء مبني عليه فإن الداعي ما لم يطمع في سؤله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبة إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه كما تقدم فذكر في كل آية ما هو اللائق بها والأولى بها من الخوف والطمع فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين فصل المقصود بقوله إنه لا يحب المعتدين
وقوله تعالى إنه لا يحب المعتدين قيل المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء
كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك وقد روى أبو داود في سنته من حديث حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بنى سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله
يقول إنه سيكون في هذه الآمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء أنواع الاعتداء في الدعاء
وعلى هذا فالاعتداء بالدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يساله تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب أو يسأله أن يطلعه على غيبه أو يساله أن يجعله من المعصومين أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة ولا أمة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء فكل سؤال يناقض حكمه الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء(1/388)
قال ابن جريح من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء والنداء في الدعاء والصياح وبعد فالآية أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء في الدعاء مرادا بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء دعاء كان أو غيره كما قال ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وعلى هذا فيكون قد أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان وهم الذين يدعون معه غيره فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا فإن أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله أنه لا يحب المعتدين ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع بل دعاء مدل كالمستغني بما عنده المدل على ربه به وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد
ومن الاعتداء أن تعبده بما لم يشرعه وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه فإن هذا اعتداء في دعاء الثناء والعبادة وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب
وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين أحدهما محبوب للرب تبارك وتعالى مرض له وهو الدعاء تضرعا وخفية
الثاني مكروه له مبغوض مسخوط وهو الاعتداء فأمر بما يحبه الله وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو ابلغ طرق الزجر والتحذير وهو أنه لا يحب فاعله ومن لم يحبه الله فأي خير يناله وفي قوله إنه لا يحب المعتدين عقب قوله ادعو ربكم تضرعا وخفية دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم فقسمت الآية الناس إلى قسمين داع لله تضرعا وخفية ومعتد بترك ذلك فصل الإفساد في الأرض بالمعاصي والدعاء لغير الله(1/389)
وقوله تعالى ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها قال أكثر المفسرين لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في ألأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره قال تعالى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس وقال عطية في الآية ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم
وقال غير واحد من السلف إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم وتقول اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والأتباع لرسوله ليس إلا وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه وبالأمر بتوحيده ونهي عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله
ومن تدبير أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله وكل شر في العالم وفتنة وبلا وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله
ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي حق غيره عموما وخصوصا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فصل تكرار الأمر بالدعاء(1/390)
وقوله تعالى وادعوا خوفا وطمعا إنما كرر الأمر بالدعاء لما ذكر معه من الخوف والطمع فأمر أولا بدعائه تضرعا وخفية ثم أمر بأن يكون الدعاء أيضا خوفا وطمعا وفصل بين الجملتين إحداهما خبرية ومتضمنة للنهي وهي قوله إنه لا يحب المعتدين والثانية طلبية وهي قوله ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها والجملتان مقررتان مقويتان للجملة الأولى مؤكدتان لمضمونها
ثم لما ثم تقريرها تقدم وبيان ما يضادها ويناقضها أمر بدعائه خوفا وطمعا ثم قرر ذلك وأكد مضمونة بجملة خبرية وهي إن رحمة الله قريب من المحسنين فتعلق هذه الجملة بقوله وادعواه خوفا وطمعا كتعلق قوله إنه لا يحب المعتدين بقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية
ولما كان قوله تعالى وادعوه خوفا وطمعا مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان وهي الحب والخوف والرجاء عقبها بقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين أي إنما ينال من دعاة خوفا وطمعا فهو المحسن والرحمة قريب منه لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة
ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابله الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله إنه لا يحب المعتدين وجوب انتصاب قوله خوفا وطمعا
إن انتصاب قوله تضرعا وخفية وخوفا وطمعا قيل هو على الحال أي ادعوه متضرعين مخفين خائفين طامعين وهذا هو الذي رجحه السهيلي وغيره وقيل هو نصب على المفعول له وهذا قول كثير من النحاة وقيل هو نصب على المصدر وفيه على هذا تقديران أحدهما أنه منصوب بفعل مقدر من لفظ المصدر
والمعنى تضرعوا إليه تضرعا واخفوا خفية الثاني أنه منصوب بالفعل المذكور نفسه لأنه في معنى المصدر فإن الداعي متضرع في حصول مطلوبة خائف من فواته فكأنه قال تضرعوا تضرعا 2
والصحيح في هذا أنه منصوب على الحال والمعنى عليه فإن المعنى ادعوا ربكم متضرين إليه خائفين طامعين ويكون وقوع المصدر موقع الإسم على حد قوله ولكن البر من آمن بالله وقولهم رجل عدل ورجل صوم قال الشاعر
فإنما هي إقبال وإبار ...(1/391)
وهو أحسن من أن يقال ادعوه متضرعين خائفين والذي حسنه أن المأمور به هنا شيئان الدعاء الموصوف المقيد بصفة معينة وهي صفة التضرع والخوف والطمع فالمقصود تقييد المأمور به بتلك الصفة وتقييد الموصوف الذي هو صاحبها بها فأتى بالحال على لفظ المصدر لصلاحيته لأن يكون صفة للفاعل وصفة للفعل المأمور به فتأمل هذه النكتة فإنك إذا قلت اذكر ربك تضرعا فإنك تريد اذكره متضرعا إليه واذكره ذكر تضرع فأنت مريد للأمرين معا ولذلك إذا قلت ادعه طمعا أي ادعه دعاء طمع وادعه طامعا في فضله وكذلك إذا قلت ادعه رغبة ورهبة كقوله تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا كان المراد ادعه راغبا وراهبا وادعه دعاء رغبة ورهبة
فتأمل هذا الباب تجده كذلك فأتى فيه بالمصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال ومما يدل على هذا أنك تجد مثل هذا صالحا وقوعه جوابا لكيف فإذا قيل كيف أدعوه قيل تضرعا وخفية وتجد اقتضاء كيف لهذا أشد من اقتضاء لم ولو كان مفعولا له لكان جوابا ل لم ولا تحسن هنا ألا ترى أن المعنى ليس عليه فإنه لا يصح أن يقال لم أدعوه فيقول تضرعا وخفية وهذا واضح ولا هو انتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل لما ذكرناه من صلاحيته جوابا ل كيف
وبالجملة فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال بل الإتيان بالحال ههنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر مع زيادة فائدة الحال فهو أتم معنى ولا تنافي بينهما والله أعلم
فصل حق العبد الرحمة وواجبه الإحسان(1/392)
وقوله تعالى إن رحمة الله قريب من المحسنين فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من الله هو رحمته ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفا وطمعا فقرب مطلوبكم منكم وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه منكم وهو الإحسان الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم فإن الله تعالى هو الغني الحميد وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم
وقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله ودلالة بمفهومه فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بتعليله وإيمانه على أن هذا القرب مستحق بالإحسان فهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة
وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان لأن الجزاء من جنس العمل فكما أحسنوا بأعماهلم أحسن إليهم برحمته
وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسن بعدت عنه الرحمة بعدا ببعد وقربا بقرب فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته والله سبحانه يحب المحسنين وببغض من ليس من المحسنين ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه
والإحسان ههنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابه وحياء ومحبة وخشية فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال
أن تعبد الله كأنك تراه // رواه مسلم الترمذي والنسائي وغيرهم // وإذا كان هذا هو الإحسان فرحمه الله قريب من صاحبه فإن الله إنما يرحم أهل توحيده المؤمنين به(1/393)
وإنما كتب رحمته للذين ويتقون الزكاة والذين هم بأياتنا يؤمنون والذين يتبعون رسوله فهؤلاء هم أهل الرحمة كما أنهم هم المحسنون
وكما أحسنوا جوزوا بالإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه قال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال قرأ رسول الله هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم قال هل تدرون ما قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة // ضعيف // فصل الرحمة مؤنته وقريب مذكر
وأما الإخبار عن الرحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله قريب وهو مذكر ففيه اثنا عشر مسلكا نذكرها ونبين ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب
المسلك الأول أن فعيلا على ضربين احدهما يأتي بمعنى فاعل كقدير وسميع وعليم والثاني يأتي بمعنى مفعول كقتيل وجريح وكف خضيب وطرف كحيل وشعر دهين كله بمعنى مفعول
فإذا أتى بمعنى فاعل فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون المذكر
كجميل وجميلة وشريف وشريفة وصبيح وصبيه وصبي وصبية ومليح ومليحة فطويل وطويلة ونحوه
وإذ أتى بمعنى مفعول فلا يخلو إما أن يكون يصحب الموصوف كرجل قتيل وامرأة قتيل أو يفرد عنه فإن صحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث كرجل قتيل وامرأة قتيل وإن لم يصحب الموصوف فإنه يؤنث إذا جرى على المؤنث نحو قتيلة بني فلان
ومنه قوله تعالى حرمت عليكم الميتة إلى قوله والنطيحة هذا حكم فعيل وفعول قريب منه لفظا ومعنى فإنهما مشتبهان في الوزن والدلالة على المبالغة وورودها بمعنى فاعل ومفعول(1/394)
ولما كان فعيل أخف استغنى به عن فاعل في المضاعف كجليل وعزيز وذليل كراهية منهم لثقل التضعيف إذ قالوا جالل وعازز وذالل فأتوا بفعيل مفصولا فيه بين المثلين بالياء الساكنة ولم يأتوا في هذا بفعولا لأن فعيلا أخف منه ولخفته أيضا اطرد بناؤه من فعل كشريف وظريف وجميل ونبيل وليس لفعول بناء يطرد منه ولخفته أيضا كان في أسماء الله تعالى أكثر من فعول فإن الرحيم والقدير والحسيب والجليل والرقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرؤوف والغفور والشكور والصبور والودود والعفو ولا يعرف إلا هذه الألفاظ الستة
وإذا ثبت التشابه بين وفعيل فعول فيما ذكرنا وكانوا قد خصوا فعولا الذي بمعنى فاعل بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث وشركوا بينهما في لفظ المذكر فقالوا رجل صبور وشكور وامرأة صبور وشكور ونظائرهما وأما عدو وعدوة فشاذ
فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كرجل ملولة وفروقة وامراة كذلك وإن كان فعول في معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كحلوبة وركوبة فإذا تقر فقريب في الآية هو فعيل بمعنى فاعل وليس المراد أنه بمعنى قارب بل بمعنى اسم الفاعل العام فكان حقه أن يكون بالتاء ولكنهم أجروه مجرى فعيل بمعنى مفعول فلم يلحقوه التاء كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقه التاء كما قالوا خصلة حميدة وفعله ذميمة بمعنى محموده ومذمومة فحملا على جميلة وشريفة في لحاق التاء فحملوا قريبا على امرأة قتيل وكف خضيب وعين كحيل في عدم إلحاق التاء حملا لكل من البابين على الآخر
ونظيره قوله تعالى قال من يحيى العظام وهي رميم فحمل
رميما وهي بمعنى فاعل على امرأة قتيل وبابه فهذا المسلك هو من أقوى مسالك النحاة وعليه يعتمدون وقد اعترض عليه بثلاثة اعتراضات(1/395)
أحدها أن ذلك يستلزم التسوية بين اللازم والمتعدي فإن فعيلا بمعنى مفعول بابه الفعل المتعدى وفعيلا بمعنى فاعل بابه الفعل اللازم لأنه غالب ما يأتي من فعل المضموم العين فلو جرى على أحدهما حكم الآخر لكان ذلك تسوية بين اللازم والمتعدي وهو ممتنع
الاعتراض الثاني إن هذا أن ادعى على وجه العموم فباطل وإن ادعى على سبيل الخصوص فما الضابط وما الفرق بين ما يسوغ فيه هذا الاستعمال وما لا يسوغ
الاعتراض الثالث أن العرب قد نطقت في فعيل بالتاء وهو بمعنى مفعول وجردته من التاء وهو بمعنى فاعل قال جرير يرثي خالته
نعم القرين وكنت علق مضنه ... وأرى بنعق بلية الأحجار
فجرد القرين من التاء وهو بمعنى فاعل وقال
فسقاك حيث حللت غير فقيدة ... هزج الرواح وديمة لا تقلع
فقرن فقيدة بالتاء وهو فعيل بمعنى مفعول أي غير مفقودة وقال الفرزدق
فداويته عامين وهي قريبة ... أراها وتدنوا لي مرار وأرشف
ويقولون امرأة فتين وسريح وهريت فجردوه عن التاء وهو بمعنى فاعل وقالوا امرأة فروك وهلوك ورشوف وأنوف فجردوه وهو بمعنى فاعل كصبور وقالوا امرأة عروب فجردوه وهو بمعنى فاعل أيضا ودعوى أن التاء ههنا للمبالغة لا دليل عليها فقد رأيت اشتراك فعول وفعيل في الاقتران بالتاء والتجرد منها فدعوى أصالة المجرد منهما وشذوذ المقرون مقابلة بمثلها ومع مقابلها قياس اللغة في اقتران المؤنث وتجريد المذكور
وأما ما استشهدتم به من قوله تعالى من يحيى العظام وهي رميم فهو على وفق قياس العربية فإن العظام جمع عظيم وهو مذكر ولكن جمعه جمع تكسير وجمع التكسير يجوز أن يراعى فيه تأنيث الجماعة وباعتباره قال وهي ولم يقل وهو ويراعى فيه معنى الواحد وباعتبار قال رميم كما يقال عظم رميم مع أن رميما يطلق على جمع المذكر مفردا وجمعا قال جرير
إلى المهلب جذ الله دابرهم ... أمسو رميما فلا أصل ولا طرف
فهذا الاعتراض على هذا المسلك فصل(1/396)
المسلك الثاني أن قريبا في الآية من باب تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى كقول الشاعر
أرى رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضم إلى كشحيه مخضبا
فكف مؤنث ولكن تأويله بمعنى عضو وطرف فذكر صفته فكذلك تؤل الرحمة وهي مؤنثة بالإحسان فيذكر خبرها قالوا وتأويل الرحمة أولى من تأويل الكف بعضو لوجهين
أحدهما أن الرحمة معنى قائم بالرحم والإحسان هو بر المرحوم ومعنى القرب في البر من المحسنين أظهر منه في الرحمة
الثاني أن ملاحظة الإحسان بالرحمة الموصوفة بالقرب من المحسنين هو مقابلة للإحسان الذي صدر منهم وباعتبار المقابلة ازداد المعنى قوة واللفظ جزالة حتى كأنه قال إن إحسان الله قريب من أهل الإحسان كما قال تعالى هل جزاء الإحسان إلاالإحسان فذكر قريبا ليفهم منه أنه صفة لمذكر وهو الإحسان فيفهم المقابلة المطلوبة قالوا ومن تأويل المؤنث بمذكر ماأنشده الفراء
وقائع في مضر تسعة ... وفي وائل كانت العاشرة
فتأول الوقائع وهي مؤنثة بأيام الحرب المذكرة فأنث العدد الجاري عليها فقال تسعة ولولا هذا التأويل لقال تسع لأن الوقائع مؤنثة قالوا وإذا جاز تأويل المذكر بمؤنث في قول من قال جاءته كتابي أي صحيفتي وفي قول الشاعر
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
أي ما هذه النصيحة مع أنه حمل أصل على فرغ فلأن يجوز تأويل مؤنث بمذكر لكونه حمل فرع على أصل أولى وأحرى وهذا وجه جيد وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين
أحدهما أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه لجاز أن يقال كلمتني زيد أكرمتني عمرو وكلمني هند وأكرمني زينب تأويلا لزيد وعمرو بالنفس والجثة وتأويلا لهند وزينب بالشخص والشيخ وهذا باطل وهذا الاعتراض غير لازم فإنهم لم يدعوا اطراد ذلك وإنما ادعوا أنه مما يسوغ أن يستعمل وفرق بين ما يسوغ في بعض الأحيان وبين ما يطرد كرفع الفاعل ونصب المفعول وهم لم يدعوا أنه من القسم الثاني(1/397)
ثم إن هذا الاعتراض مردود بكل ما يسوغ استعماله بمسوغ وهو غير مطرد وهو أكثر من أن يذكر ههنا ولا ينكره نحوى أصلا وهل هذا إلا اعتراض على قواعد العربية بالتشكيكات والمناقضات وأهل العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك فلو أنهم قالوا يجوز تاويل كل مؤنث بمذكر يوافقه وبالعكس لصح النقض وأنما قالوا يسوغ أحيانا تاويل أحدهما بالآخر لفائدة يتضمنها التأويل كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرحمة بالإحسان
الاعتراض الثاني أن حمل الرحمة على الإحسان إما أن يكون حملا على حقيقتة أو مجازة وهما ممتنعان فإن الرحمة والإحسان متغايران لا يلزم من أحدهما وجود الآخر لأن الرحمة قد توجد وافرة في حق من لا يتمكن من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها وقد يوجد الإحسان ممن لا رحمة في طباعة كالملك القاسي فإنه قد يحسن إلى بعض أعدائه وغيرهم لمصلحة ملكه مع أنه لا رحمة عنده وإذا تبين انفكاك أحدهما عن الآخر لم يجز إطلاقه عليه لا حقيقة ولا مجازا
أما الحقيقة فظاهر وأما المجاز فإن شرطه خطور المعنى المجازي بالبال ليصح انتقال الذهن إليه فإذا كان منفكا عن الحقيقة لم يخطر بالذهن وهذا الاعتراض أفسد من الذي قبله وهو من باب التعنت والمناكدة
وأين هذا من قول أكثر المتكلمين ولعل هذا المعترض منهم أنه لا معنى
للرحمة غائبا إلا الإحسان المحض وأما الرقة التي في الشاهد فلا يوصف الله تعالى بها وإنما رحمته مجرد إحسانه ومع أنا لا نرتضي هذا القول بل تثبت لله تعالى الرحمة حقيقة كما أثبتها لنفسه منزهة مبراة عن خواص صفات المخلوقين كما نقوله في سائر صفاته من إرادته وسمعه وبصره وعلمه وحياته وعلمه وحياته وسائر صفات كماله فلم نذكره إلا لنبين فساد اعتراض هذا المعترض على قول أئمته(1/398)
ومن قال بقوله من المتكلمين ثم نقول الرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته استلزام الخاص للعام فكما يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته يستحيل وجودها
وأما قضية الأم العاجزة فإنها وإن لم تكن تقدر على الإحسان بالفعل فهي محسنة بالإرادة فرحمتها لا تنفك عن إرادتها التامة للإحسان التي يقترن بها مقدورها إما بدعاء وإما بأيثار بما تقدر عليه ونحو ذلك فتخلف بعض الإحسان الذي لا تقدر عليه عن رحمتها لا يخرج رحمتها عن استلزامها للإحسان المقدور وهذا واضح وأما الملك القاسي إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون رحمة فهذا لأن الإحسان أعم من الرحمة والأعم لا يستلزم الأخص وهم لم يدعوا ذلك فلا يلزمهم وأيضا فإن الإحسان قد يقال إنه يستلزم الرحمة وما فعله الملك المذكور فليس بإحسان في الحقيقة وإن كانت صورته صورة الإحسان وبالجملة فالعنت والمناكدة على هذا الاعتراض أبين من أن يتكلف معه رده وإبطاله فصل
المسلك الثالث أن قريبا في الآية من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف فكأنه قال إن مكان الرحمة قريب من المحسنين ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره ومن ذلك قول الشاعر حسان
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردي يصفق بالرحيف السلسل
فقال يصفق بالياء وبردى هي مؤنث لأنه أراد ماء بردى ومنه قول النبي وقد
أخذ بيديه ذهبا وحريرا فقال
هذان حرام على ذكور أمتي
// صحيح // فقال حرام بالإفراد والمخبر عنه مثنى كأنه قال استعمال هذين حرام وهذا المسلك ضعيف جدا لأن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لا يسوغ ادعاؤه مطلقا وإلا لالتبس الخطاب وفسد التفاهم وتعطلت الأدلة إذ ما من لفظ أمر أو نهي أو خبر متضمن مأمورا به ومنهيا عنه ومخبرا إلا ويمكن على هذا أن يقدر له لفظ مضاف يخرجه عن تعلق الأمر والنهي والخبرية(1/399)
فيقول الملحد في قوله ولله على الناس حج البيت أي معرفة حج البيت وكتب عليكم الصيام أي معرفة الصيام وإذا فتح هذا الباب فسد التخاطب وتعطلت الأدلة وإنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة كما إذا قيل اكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها فحذف المضاف لا يلبس وكذلك إذا قلت أكل فلان كبد فلان إذا أكل ماله فإن المفهوم أكل ثمرة كبده فحذف المضاف هنا لا يلبس ونظائره كثيرة
وليس منه واسأل القرية وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم للسكان في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه من الشراب والذنوب للدلو الملآن ماء النهر والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره
ثم إنهم لكثرة استعمالهم لهذه اللفظه ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة وعلى المسكن تارة بحسب سياق الكلام وبساطه وإنما يفعلون هذا حيث لا لبس فيه فلا إضمار في ذلك ولا حذف فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه
وإذا عرفت هذا فقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين ليس في اللفظ ما يدل على إرادة موضع ولا مكان أصلا فلا يجوز دعوى إضماره بل دعوى إضمار خطأ قطعا لأنه يتضمن الإخبار بأن المتكلم أراد المحذوف ولم ينص على إرادته دليلا لا صريحا ولا لزوما فدعوى المدعي أنه أراده دعوى باطلة وأما قوله بردى يصفق فليس أيضا من باب حذف المضاف بل اراد ببردى النهر وهو مذكر فوصفه بصفة المذكر فقال يصفق فلم يذكر بناء على حذف المضاف وإنما ذكر بناء على أن بردى المراد به النهر
فإن قلت فلا بد من حذف مضاف لأنهم إنما يسقون ماء بردى لا نفس النهر قلت هذا وإن كان مراد الشاعر فلم يلزم منه صحة ما ادعاه من أنه ذكر يصفق باعتبار الماء المحذوف فإن تذكيره إنما يكون باعتبار إرادة النهر وهو مذكر فلا يدل على ما ادعوه
وأما قوله هذان حرام(1/400)
ففي إفراد الخبر سر بديع جدا وهو التنبيه والإشارة على أن كل واحد منهما بمفرده موصوف بأنه حرام فلو ثنى الخبر لم يكن فيه تنبيه على هذا المعنى فلهذا أفرد الخبر فكأنه قال وكل واحد من هذين حرام فدل إفراد الخبر على إرادة الإخبار عن كل واحد واحد بمفرده فتأمله فإنه من بديع اللغة وقد تقدم بيانه في هذا التعليق في مسألة كلا وكلتا وإن قولهم كلاهما قائم بالافراد لا يدل على أن كلا مفرد كما ذهب إليه البصريون بل هو مثنى حقيقة وإنما أفردوا الخبر للدلالة على أن الإخبار عن كل واحد منهما بالقيام وقد قررنا ذلك هناك بما فيه كفاية فصل
المسلك الرابع أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامة كأنه قال إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين أو لطف قريب أو بر قريب ونحو ذلك وحذف الموصوف كثير فمنه قول الشاعر
قامت تبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذل من ليس له ناصر
المعنى تركتني شخصا أو إنسانا ذا غربة ولولا ذلك لقالت تركتني ذات غربة ومنه قول الآخر
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ... فراقك لم أبخل وأنت صديق
أراد وأنت شخص أو إنسان صديق وعلى هذا المسلك حمل سيبويه قولهم للمرأة حائض وطالق وطال فقال كأنهم قالوا شيء حائض وشيء طامث وهذا المسلك أيضا ضعيف لثلاثة أوجه
أحدها أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقاومة إنما يحسن بشرطين أن تكون الصفة خاصة يعلم ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره
الثاني أن تكون الصفة قد غلب استعمالها مفردة على الموصوف كالبر والفاجر(1/401)
والعالم والجاهل والمتقي والرسول والنبي ونحو ذلك مما غلب استعمال الصفة فيه مجردة عن الموصوف فلا يكاد يجيء ذكر الموصوف معها كقوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم وقوله إن المتقين في جنات وعيون وقوله إن المتقين في جنات وعيون وقوله إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وقوله والكافرون هم المظالمون وهو كثير جدا في القرآن وكلام العرب وبدون ذلك لا يحسن الاقتصار على الصفة فلا يحسن أن تقول جاءني طويل ورأيت جميلا أو قبيحا وأنت تريد جاءني رجل طويل ورأيت
رجلا جميلا أو قبيحا ولا تقول سكت في قريب تريد في مكان قريب مع دلالة السكنى على المكان
الثاني إن الشيء أعم المعلومات فإنه يشمل الواجب والممكن فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلام بها فضلا عن أن يكون بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة فأي فصاحة وبلاغة في قول القائل في حائض وطامث وطالق شيء حائض وشيء طامث وشىء طالق وهو لو صرح بهذا لاستهجنه السامع فكيف يقدر في الكلام مع أنه لا يتضمن فائدة أصلا إذ كونه شيئا أمر معلوم عام لا يدل على مدح ولا ذم ولا كمال ولا نقصان
وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوى الاعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره
وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا بالجر أنه قسم ومثل قول بعضهم في قوله تعالى وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به(1/402)
ومثل قول بعضهم في قوله تعالى لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة إن
المقيمين مجرور بواو القسم ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفة والمعهود من معانية فإن نسبة معانية إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله
الوجه الثالث أن طالقا وحائضا وطامثا إنما حذفت تاؤه لعدم الحاجة إليها فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكر والمؤنث في محل اللبس فإذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث فلا لبس فلا حاجة إلى التاء هذا هو الصواب في ذلك وهو المذهب الكوفي
فإن قلت هذا خلاف مذهب سيبويه
قلت فهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين هذه طريقة الخفافيش فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين ابدا وقليل ما هم(1/403)
ولا ريب أن أبا بشر رحمة الله ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره فهو المصلى في هذا المضمار ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب وإن لا حق إلا ما قاله وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه والمبرزون منهم ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال الكلام به
ولا تنس قوله في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه والوجه إلى الضمير ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك فسيبويه رحمة الله ممن يؤخذ من قوله ويترك وأما أن نعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا وسنفرد إن شاء الله كتابا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه وبيان الراجح من ذلك وبالله التوفيق والتأييد
فإن قلت يكفي في رد ما اخترتموه في طامث وحائض وطالق من المذهب الكوفي قوله تعالى يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت فهذا وصف يختص به الإناث وقد جاء بالتاء قلت ليس في هذا ولله الحمد رد لهذا المذهب ولا إبطال له فإن دخول التاء ههنا يتضمن فائدة لا تحصل بدونها فتعين الإتيان بها وهي أن المراد بالمرضعة فاعلة الرضاع فالمراد الفعل لا مجرد الوصف ولو أريد الوصف المجرد بكونها من أهل الإرضاع لقيل مرضع كحائض وطامث
ألا ترى إلى قوله يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار // صحيح // فإن المراد به الموصوفة بكونها من أهل الحيض لا من يجري دمها فالحائض والمرضع وصف عام يقال على من لها ذلك وصفا وإن لم يكن قائما بها ويقال على من قام بها بالفعل فأدخلت التاء ههنا إيذانا بأن المراد من تفعل الرضاع فإنها تذهل عما ترضعه لشدة هول زلزلة الساعة وأكد هذا المعنى بقوله عما أرضعت فعلم أن المراد المرضعة التي ترضع بالفعل لا بالقوة والتهيؤ وترجيح هذا المذهب له موضع غير هذا فصل
المسلك الخامس أن هذا من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني كقول الشاعر(1/404)
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وقال الآخر
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
وقال الآخر
بغي النفوس معيدة نعماءها ... نقما وإن عمهت وطال غرورها
فأنت في الأول السور المضاف إلى المدينة وفي الثاني المر المضاف إلى الرياح وفي الثالث البغي المضاف إلى النفوس لتأنيث المضاف إليه مع أن التذكير أصل والتأنيث فرع فحمل الأصل على الفرع فلأن يجوز تذكير المؤنث لإضافته إلى غير مؤنث أولى لأنه حمل للفرع على الأصل
ومن الأول أيضا قول الشاعر
وتشرق بالأمر الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
فأنث الصدر لإضافته إلى القناة وأنشدني بعض أصحابنا لأبي محمد بن حزم في هذا المعنى بإسناد لا يحضرني
تجنب صديقا مثل ما واحذرالذي ... تراه كعمرو بين عرب وأعجم
فإن صديق السوء يردي وشاهدي ... كما شرقت صدر القناة من الدم
ومنه قول النابغة الذبياني
حتى استغن بأهل الملح ضاحية ... يركضن قد قلقت عقد الأطانيب
وهذا المسلك وإن كان قد ارتضاه غير واحد من الفضلاء فليس بقوي لأنه إنما يعرف
ومنه قول لبيد
فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت أقدامها مجيئه في الشعر ولا يعرف في الكلام الفصيح منه إلا النادر كقولهم ذهبت بعض أصابعه والذي قواه ههنا شدة اتصال المضاف بالمضاف إليه وكونه جزؤه حقيقة فكأنه قال ذهبت إصبع وإصبعان من أصابعه وحمل القرآن على المكثور الذي خلافه أفصح منه ليس بسهل فصل
المسلك السادس إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الأخ لكونه تبعا له ومعنى من معانيه فإذا ذكر أغنى عن ذكره لأنه يفهم منه
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين فاستغنى عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى والله ورسوله أحق أن يرضوه(1/405)
المعنى والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله إذ إرضاؤه هو ارضاء رسوله فلم يحتج أن يقول يرضوهما فعلى هذا يكون الأصل في الآية إن الله قريب من المحسنين وإن رحمة الله قريبة من المحسنين فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسي تعبيرا أحسن من هذا وهومسلك لطيف المنزع دقيق على الأفهام وهو من أسرار القرآن والذي ينبغي أن يعبر عنه به أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه لأن الصفة لا تفارق موصوفها فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين
وقد تقدم في أول الآية أن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله بإجابته وذكرنا شواهد ذلك وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرب من ربه بالإحسان وأن من تقرب منه شبرا تقرب الله منه ذراعا ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم وقربة يستلزم قرب رحمته ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة
وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين قربة وقرب رحمته ولو قال إن رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم لأن قربة تعالى أخص من قرب رحمته والأعم لا يسلتزم الأخص بخلاف قربة فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته فلا تستهن بهذا المسلك فإن له شأنا وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به وإنما أراد أن الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين كاف عن الإخبار عن قرب رحمته منهم(1/406)
فهو مسلك سابع في الآية وهو المختار وهو من أليق ما قيل فيها وإن شئت قلت قربة تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضا قريب منهم وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على الإطلاق وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربة تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها فكان في
العدول عن قريب إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا بالله تعالى فصل
المسلك الثامن إن الرحمة مصدر والمصادر كما لا تثنى ولا تجمع فحقها أن لا تؤنث وهذا المسلك ضعيف جدا فإن الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون وقوله فيما حكى عنه رسوله إن رحمتي غلبت أو سبقت غضبي // رواه البخاري ومسلم والترمذي // ولو كان حذف التاء من الرحمة لكونها مصدرأ والمصادر لا حظ للتأنيث فيها لم يعد عليها الضمير إلا مذكرا وكذلك ما كان من المصادر بالتاء كالقدرة
والإرادة والحكمة والهمة ونظائرها وفي بطلان ذلك دليل على بطلان هذا المسلك
المسلك التاسع أن القريب يراد به شيئان
أحدهما النسب والقرابة فهذا بالتاء تقول فلانه قريبة لي
والثاني قرب المكان وهذا بلا تاء تقول جلست فلانه قريبا مني ولا تقول قريبة منى وهذا مسلك الفراء رحمة الله وجماعة وهو أيضا ضعيف فإن هذا إنما هو إذا كان لفظ القريب ظرفا فإنه يذكر كما قال تقول جلست المرأة مني قريبا فأما إذا كان اسما محضا فلا فصل(1/407)
المسلك العاشر أن تأنيث الرحمة لما كان غير حقيقي ساغ فيه حذف التاء كما تقول طلع الشمس وطلعت وهذا المسلك أيضا فاسد فإن هذا إنما يكون إذا أسند الفعل إلى ظاهر المؤنث
فإما إذا أسند إلى ضميره فلا بد من التاء كقولك الشمس طلعت وتقول الشمس طالعة ولا تقول طالع لأن في الصفة ضميرها فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء
فصل
المسلك الحادي عشر أن القريبا مصدر لا وصف وهو بمنزلة النقيض فجرد من التاء لأنك إذا أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء ولهذا تقول امرأة عدل ولا تقول عدلة وامرأة صوم وصلاة وصدق وبر ونظائره وهذا المسلك من أفسد ما قيل عن القريب فإنه لا يعرف استعماله مصدرا أبدا وإنما هو وصف والمصدر هو القرب لا القريب فصل
المسلك الثاني عشر إن فعيلا وفعولا مطلقا يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي كما قال امرؤ القيس
يرهرهه رودة رخصة ... كخرعوبة البانة المنقطر
قطيع القيام فتور الكلام ... تفتر عن ذي عزوب خصر
وقال أيضا
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
وقال جرير
أتنفعك الحياة وأم عمرو ... قريب لا تزور ولا تزار
وقال جرير أيضا
كأن لم نحارب يا بثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق
وقال أيضا
دعون الهون ثم ارتهن قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق
قالوا وشواهد ذلك كثيرة
وفي هذا المسلك غنية عن تلك التعسفات والتأويلات وهذا المسلك ضعيف أيضا ومما رده أبو عبد الله بن مالك فقال هذا القول ضعيف لأن قائله إما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع وغيره يستحق ما يستحقه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد وإما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع خاصة محمول على فعول
فالأول مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في ظريفة وشريفة وأشباههما(1/408)
وزنا ودلالة ولذلك احتاج علماؤهم أن يقولوا في قوله تعالى وما كانت أمك بغيا وقوله ولم أك بغيا أن الأصل هو يغوى على فعول فلذلك لم تلحقه التاء ثم أعل بإبدال الواو ياء والضمة كسرة فصار لفظه كلفظ فعيل ولو كان فعيلا أصلا للحقته التاء فقيل الم أك بغية
والثاني أيضا مردود لأن لفعيل على فعول من المزايا ما لايليق به أن يكون تبعا له بل العكس أولى أن يكون فعولا تبعا لفعيل ولأنه يتضمن حمل فعيل على فعول وهما مختلفان لفظا ومعنى أما اللفظ فظاهر وأما المعنى فلأن قريبا لا مبالغة فيه لأنه يوصف به كل ذي قرب وإن قل وفعول لا بد فيه من المبالغة
وأيضا فإن الدال على المبالغة لا بد أن يكون له بنية لا مبالغة فيها ثم يقصد به المبالغة فتتغير بنيته كضارب وضروب وعالم وعليم وقريب ليس كذلك فلا مبالغة فيه وأما بيت امرؤ القيس فلا حجة فيه لوجوه
أحدها أنه نادر فلا حكم له فلا كثرت صوره ولا جاء على الأصل كاستجوذ واستوثق البعير واغيمت السماء واغور واحول وما كان كذلك فلا حكم له
الثاني أن يكون قد أراد قطيعة القيام ثم حذف التاء للإضافة فإنها تجوز بحذفها عند الفراء وغيره وعليه حمل قوله تعالى وإقام الصلاة أي إقامتها لأن المعروف في ذلك إنما هو لفظ الإقامة ولا يقال إقام دون إضافة كما لا يقال أراد في أرادة ولا أقال في إقالة لأنهم جعلوا هذه التاء عوضا عن ألف إفعال أو عينه لأن أصل إقامة أقوام فنقلت حركة العين إلى الفاء فانقلبت ألفا فالتقت ألفان فحذفت إحداهما فجاءوا بالتاء عوضا فلزمت إلا مع الإضافة فإن حذفها جائز عند قوم قياسا وعند أخرين سماعا ومثلها في اللزوم تاء عدة وزنة وأصلهما وعد ووزن فحذفت الواو وجعلت التاء عوضا منها فلزمت وقد تحذف للإضافة كقول الشاعر
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا(1/409)
أي أخلفوك عدة الأمر فحذف التاء وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء ولو ارادوا الخروج لأعدوا له عدة بالهاء أي عدته فحذف التاء
الثالث أن يكون فعيل في قوله قطيع القيام بمعنى مفعول لأن صاحب المحكم حكى أنه قال مبينا على قطعه وأقطعه إذا بكته وأقطعه إذا بكته وقطع هو فهو قطيع القول فقطيع على هذا بمعنى مقطوع أي مبكت فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفا للقياس وإن جعل قطيعا مبنيا على قطع كسريع من سرع فحقه على ذلك أن يلحقه التاء عند جريه على
المؤنث إلا أنه شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول فأجرى مجراه فهذا تمام اثنى عشر مسلكا في هذه الآية اصحها المسلك المركب من السادس والسابع وباقيها ضعيف وواه ومحتمل
والمبتدىء والمقلد لا يدرك هذه الدقائق والفاضل المنصف لا يخفى عليه قويها من ضعيفها وليكن هذا آخر الكلام على الآية والله أعلم فائدة تقسيم الخب إلى مفرد وجمله
خبر المبتدأ إما مفرد وإما جملة فإن كان جملة فإما أن يكون نفس المبتدأأو غيره فإن كان نفس المبتدأ لم يحتج إلى رابط يربطها به إذ لا رابط أقوى من اتحادهما نحو قولي الحمد لله
وإن كانت غير المبتدأ فلا بد فيها من رابط يربطها بالمبتدأ لئلا يتوهم استقلالها وانقطاعها عن المبتدأ لأن الجملة كلام قائم تام بنفسه وذلك الرابط لا يتعين أن يكون ضميرا بل يجوز أن يكون ضميرا وهو الأكثر واسم إشارة كقوله تعالى ولباس التقوى ذلك خيرا وقوله والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ونظائره كثيرة
واسما ظاهرا قائما مقام الضمير كقوله تعالى والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين(1/410)
وقد يستغني عن الضمير إذا علم الرابط وعدم الاستقلال بالسياق وباب هذا التفصيل بعد الجملة ففيه يقع الاستغناء عن الضمير كثيرا كقولك المال لهؤلاء لزيد درهم ولعمرو درهمان ولخالد ثلاثة ومثله الناس واحد في الجنة وواحد في النار ولا حاجة إلى تقدير ضمير رابط محذوف تقديره لزيد منه درهم وواحد منهم في الجنة
فإن تفصيل المبتدأبالجملة بعده رابط أغنى عن الضمير فتأمله ومثله السمن منوان بدرهم وهذا بخلاف قولك زيد عمرو مسافر فإنه لا رابط بينهما بوجه فلذلك يحتاج أن يقول في حاجته ونحو ذلك ليفيد الإخبار
هذا حكم الجملة وأما المفردا فقد اشتهر على ألسنة النحاة أنه إن كان مشتقا فلا بد من ضمير يربطه بالمبتدأوإن كان جامدا لم يحتج إلى ضمير
وبعضهم يتكلف تأويله بالمشتق وهذا موضع لا بد من تحريره فنقول الخبر المفرد لما كان نفس المبتدأكان اتحادهما أعظم رابط يمكن فلا وجه لاشتراط الرابط بعد هذا أصلا فإن المخاطب يعرف أن الخبر مسند لى المبتدأوأنه هو نفسه ومن هنا يعلم غلط المنطقيين في قولهم إنه لا بد من الرابط إما مضمرا وإما مظهرا وهذا كلام من هو بعيد من تصور المعاني وارتباطها بالألفاظ ولا تستنكر هذه العبارة في حق المنطقيين فإنهم من أفسد الناس تصورا ولا يصدق بهذا إلا من عرف قوانين القوم وعرف ما فيها من التخبيط والفساد
وأما إن كان الخبر اسما مشتقا مفردا فلا بد فيه من ضمير ولكن ليس الجالب لذلك الضمير ربطه بالمبتدأبل الجالب له أن المشتق كالفعل في المعنى فلا بد له من فاعل ظاهر أو مضمر
فإن قيل وما الذي يدل على أن في الفعل ضميرا حتى يكون في ثانية ضمير فإذا قلت زيد قام فإن هذا اللفظ لا ضمير فيه يستمع فدعوى تحمله للضمير دعوى محضة(1/411)
قيل الذي يدل على أن فيه الضمير تأكيدهم له وعطفهم عليه وإبدالهم منه كقولك في التأكيد إن زيدا سيقوم نفسه برفع نفس وفي العطف كقوله تعالى سيصلى نارا ذات لهب وامرأته فامرأته رفع عطفا على الضمير في سيصلى وفي الإبدال قولك إن زيدا يعجبني علمه على أن يكون علمه بدل اشتمال لا فاعل فإذا كان المشتق مفردا كان الضمير الذي فيه فعلا كان أو اسما نحو زيد يذهب وزيد ذاهب
وأما في التثنية والجمع فلا يكون ضميرا إلا في الأفعال نحو يذهبان ويذهبون وأما في الأسماء فإنه لا يكون فيها إذا ظهر إلا علامة لا ضميرا نحو ذاهبان وذاهبون فهما في الاسم حرفان وفي الفعل اسمان برهان ذلك انقلابهما في الاسم ياء في التثنية والجمع كما ينقلبان فيما لا يحتمل ضميرا كزيدين والزيدين ولو كان ضميرا ك هما في الفعل لبقيا على لفظ واحد كما تقول في الفعل هؤلاء رجال يذهبون ومررت برجال يذهبون ورأيت رجالا يذهبون وكذلك في التثنية سواء فلا يتغير لفظ الواو لأنها فاعل وليست علامة إعراب الفعل فثبت بهذا صحة دعوى النحاة على العرب أن الضمير المستتر في الإسم المشتق لا يظهر في تثنية ولا جمع
وأن الضمير المستتر في الفعل يظهر في التثنية والجمع ولولا الدليل الذي ذكرناه لما
عرف هذا أبدا لأن العرب لم تشافهنا بهذا مشافهة ولا أفصحت عن هذا القدر في هذا ونحوه إلا باستقراء كلامها والتتبع لأنحائها ومقاصدها الموصل إلى غرائب هذه اللغة وأسرارها وحكمها
فإن قيل فقد عرفنا صحة ذلك فما هي الحكمة التي من أجلها فرقوا بين المواطنين فجعلوها ضمائر في الأفعال وحروفا في الأسماء(1/412)
قيل في ذلك حكمة بديعة وهي أن الأسماء لما كان أصلها الإعراب كانت أحوج إلى علامة إعراب منها إلى علامة إضمار والأفعال أصلها البناء ولم يكن لها بد من الفاعل ضرورة فكانت احوج إلى علامة إضمار الفاعلين منها إلى علامة إعراب مع أن هذه العلامة في الأسماء علامة تثنية وجمع وحروف إعراب أيضا والأفعال لا تثنى ولا تجمع إذ هي مشتقة من المصدر وهو لا يثنى ولا يجمع لأنه يدل على القليل والكثير بلفظ واحد هذه علة النحاة
وفيه علة أخرى هي أصح من هذه وألطف وأدق قد تقدمت في أول هذا التعليق وإذا ثبت أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع وعلامة التثنية والجمع حروف إعراب فلا يكون الواو والألف إلا علامة إضمار ولا يكون في الأسماء وإن احتملت الضمائر إلا علامة تثنية وجمع وحروف إعراب على قول سيبويه أي محل الأعراب أو هي الأعراب نفسها على قول قطرب وغيره بمنزلة الحركات في المفرد أو دليل إعراب على قول أبي الحسن الأخفش وأبي العباس المبرد فصل حكم الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا
هذا حكم الخبر إذا كان مفردا أو جملة فأما إذا كان واقعا موقع الخبر وليس هو نفسه خبرا كالظرف والمجرور فإنه واقع موقع مشتق متحمل للضمير وهو إما مفرد وإما جملة
وأكثر النحاة يقدرونه بمفرد مشتق نظرا إلى أن الأصل في الخبر أن يكون مفردا فتقديره كذلك موافق للأصل وأيضا فإنما قدر لضرورة صحة الكلام فإن الظرف والمجرور ليس هو نفس المبتدأ وما قدر للضرورة لا يتعدى به ما تقتضيه الضرورة وهي تزول بالمفرد فتقدير الجملة مستغنى عنه مع أنه خلاف الأصل(1/413)
وأيضا فإنه قدر للتعلق وهذا التعلق يكفي فيه المفرد وأيضا فإنه يقع في موضع لا يصح فيه تقدير الجملة كقولك أما عندك فزيد وأما في الدار فعمر فإن أما لا يليها إلا اسم مفرد فإذا تعين المفرد ههنا يرجح في الباقي ليجري الباب على سنن واحد ولا ينتقض هذا بوقوعه في صلة الموصول كقولك جاءني الذي في الدار إذ يتعين تقدير الجملة لأن كلامنا في التقدير في باب الخبر لا في التقدير في سائر الأبواب كالصلة والصفة والحال ولا يلزم من تعين الجملة في التقدير في الصلة تعينها ولا ترجيحها في باب المبتدأ
وسأل أبو الفتح بن جني أبا علي عن هذه المسألة فلم يراجعه بجواب شاف أكثر من أن قال له تقدير الاسم ههنا أولى لأن خبر المبتدأ في أغلب أحواله اسم
وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال الجار هنا لا يتصور تعليقه بفعل محض إذ الفعل المحض ما دل على حدث وزمان ودلالته على الزمان ببنيته فإذا لم يكن له وجود في اللفظ لم يكن له بنية تدل على الزمان مع أن الجار لا تعلق له بالزمان ولا يدل عليه إنما هو في أصل وضعه لتقييد الحدث وجره إلى الإسم على وجه ما من الإضافة فلا تعلق له إلا بالحدث والحدث الذي هو المصدر لا يمكن تقديره ههنا لأنه خبر المبتدأ والمبتدأ ليس هو الحدث فبطل أن يكون التقدير زيد استقرار في الدار
وبطل أيضا بما تقدم أن يكون التقدير زيد استقر في الدار ألا ترى أن يقبح أن يقال زيد في الدار أمس أو أول من أمس
وإذا بطل القسمان أعنى إضمار المصدر والفعل لم يبق إلا القسم الثالث وهو إضمار اسم الفاعل فتتضح الفائدتان
أحدهما أن يكون خبرا عن المبتدأويضمر فيه ما يعود عليه إذ لا يمكن ذلك في المصدر(1/414)
والثانية أن يصبح تعلق الجار به إذ مطلوبة الحدث واسم الفاعل متضمن للحدث لا للزمان إذا عرف هذا فلا يصح ارتفاع الاسم بعد الظرف والمجرور بالاستقرار على أنه فاعل وإن كان في موضع خبر أو نعت وإنما يرتفع بالابتداء كما يرتفع في قولك قائم زيد بالابتداء لا بقائم خلافا للأخفش فإذا قلت في الدار زيد فارتفاع زيد بالابتداء لا بالاستقرار
اسم الفاعل
فإن قلت إليس إذا قلت زيد قائم أبوه ورأيت رجلا قائما أبوه ومررت برجل
قائم أبوه فترفع الاسم بقائم إذا كان معتمدا على مبتدأأو منعوت أو ذي حال وكذلك إذا كان قبله استفهام أو نفي نحو أقائم زيد وما قائم زيد
قيل اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل ومعناه فإذا اقترن به ألف الاستفهام أو قرينة من القرائن التي ذكرت التي يقوي بها معنى الفعل عمل عمل الفعل بخلاف قائم زيد فإنه لا قرينة معه تقتضي أن يعمل عمل الفعل فحمل على أصله من الابتداء والخبر
فإن قيل فهلا قلت إن الظرف والمجرور إذا اعتمد كما يعتمد اسم الفاعل أنه يرفع الاسم كما هو معزى إلى سيبويه
فإذا قلت زيد في الدار أبوه كان أبوه مرفوعا بالظرف كما إذا قلت زيد قائم أبوه قلت قد توهم قوم أن هذا مذهب سيبويه وأنك إذا قلت مررت برجل معه صقر أن صقرا مرفوعا بالظرف لاعتماده على الموصوف وكنا نظن ذلك زمانا حتى تبين أن هذا ليس بمذهبه وأنه غلط عليه وقد بين أبو سعيد السيرافي مراد سيبويه من كلامه وشرح وجه الغلط عليه بما فيه كفاية فراجعه في كتابه(1/415)
والفرق بين الظرف وبين اسم الفاعل ما تقدم أن اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل ومعناه فإذا اعتمد أن اقترنت به قرينة جانب الفعلية فيه فعمل عمل الفعل وأما الظرف فلا لفظ للفعل فيه إنما هو معنى يتعلق به الفعل ويدل عليه ولم يكن في قوة القرينة التي يعتمد عليها أن تجعله كالفعل كما لم يكن في قوته إذا كان ملفوظا به دون قرينة أن يكون كالفعل فإذا اجتمع الاعتماد المقوي لمعنى الفعل مع اللفظ المشتق من الفعل عمل الاسم حينئذ عمل الفعل
ووجه آخر من الفرق بين المسألتين أنك إذا قلت مررت برجل قائم أبوه فالقيام لا محالة مسند إلى الأب في المعنى وهو في اللفظ جار على رجل والكلام له لفظ معنى فقائم في اللفظ جار عل ما قبله وفي المعنى مسند إلى ما بعده وأما الظرف والمجرور فليس كذلك إنما هو معنى يتعلق به الجار وذلك المعنى مسند إلى الاسم المرفوع وخبر عنه فصح أنه مبتدأ والمجرور خبر عنه والجملة في موضع نعت أو خبر
فإن قيل فليزمكم إذا قدمتم الظرف في موضع الخبر وقدرتم فيه ضميرا يعود على المبتدأ أن تجيزوا في الدار نفسه زيد وفيها أجمعون إخوتك وهذا لا يجوزه أحد وفي هذا حجة للأخفش ولمن قال بقوله في أن رفع الاسم بالظرف
قيل إنما قبح توكيد المضمر إذا كان الظرف خبرا مقدما لأن الظرف في الحقيقة ليس(1/416)
هو الحامل للضمير إنما هو متعلق بالاسم الحامل للضمير وذلك الاسم غير موجود في اللفظ حتى يقال إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى وإذا لم يكن ملفوظا به فهو في المعنى والرتبة بعد المبتدأوالمجرور المقدم قبل المبتدأ دال عليه والدال على الشيء غير الشيء فلذلك قبح فيها أجمعون الزيدون لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد ولذلك صح تقديم خبر إن على اسمها إذا كان ظرفا لأن الظرف ليس هو الخبر في الحقيقة إنما هو متعلق بالخبر والخبر منوي في موضعه مقدر في مكانه ولذلك لم ينكسر أصل الخليل في منعه تقديم خبر المبتدأ مع كثرة هذا النحو في الكلام أعني في الدار زيد ولذلك عدل سيبويه في قولهم فيها قائما رجل ولمية موحشا طلل إلى أن جعل الحال من النكرة ولم يجعلها حالا من الضمير الذي في الخبر لأن الخبر مؤخر في النية وهو العامل في الحال وهو منوي والحال لا يتقدم على العامل المنوي فهذا كله مما يبين أن الظرف والمجرور ليس هو الخبر في الحقيقة ولا الحامل للضمير ولا العامل في شيء من الأشياء لا في حال ولا في ظرف ولا في فاعل
ومن جهة المفعول أن الدار إذاانفردت بلفظها لم يصح أن تكون خبرا عن زيد ولا عاملة ولا حاملة للضمير وكذلك في ومن وسائر حروف الجر لو انفردت لم يكن فيها شيء من ذلك فقد وضح أن الخبر غيرها وأنها واقعة موقعة والله أعلم
فإن قيل فما تقول فيما حكاه الزجاج عن بعض النحاة أنك إذا قلت قائم زيد أن قائما مبتدأوزيد فاعل به سد مسد الخبر
قيل هذا وإن كان قد جوزه بعض النحاة فهو فاسد في القياس لأن اسم الفاعل اسم محض واشتقاقه من الفعل لا يوجب له عمل الفعل كمسجد ومرقد ومروحة ومغرفة(1/417)
ولكن إنما يعمل إذا تقدم ما يطلب الفعل أو كان في موضع لا تدخل عليه العوامل اللفظية نحو النعت والخبر والحال فيقوى حينئذ معنى الفعل فيه ويعضد هذامن السماع أنهم لم يحكوا قائم الزيدان وذاهب إخوتك عن العرب إلا على الشرط الذي ذكرنا ولو وجد الأخفش ومن قال بقوله سماعا لاحتجوا به على الخليل وسيبويه فإذا لم يكن مسموعا وكان بالقياس مدفوعا فأخرى به أن يكون باطلا ممنوعا
فإن قلت فما تصنع في قول الشاعر
خبير بني لهب فلا تك ملغيا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت
فهذا صريح في أن خبير مبتدأوبنو لهب فاعل به وفي قول الآخر
فخير نحن عند الناس منكم ... إذا الداعي المثوب قال يالا
قلت أما البيت الأول فعلى شذوذه وندرته لا يعرف قائله ولم يعرف أن متقدمي النحاة وأئمتهم استشهدوا به وما كان كذلك فإنه لا يحتج به باتفاق على أنه لو صح أن قائله حجة عند العرب لاحتمل أن يكون المبتدأ محذوفا مضافا إلى بني لهب وأصله كل بني لهب خبير وكل يخبر عنها بالمفرد كما تقدم في أول التعليق ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فاستحق إعرابه
ويدل على إرادة العموم عجز البيت وهو قوله فلا تك ملغيا مقالة لهبي أفلا ترى كيف يعطي هذا الكلام أن كل واحد من بني لهب خبير فلا تلغ مقالة لهبي وكذلك البيت الثاني فلا متعلق فيه أصلا لأن أفعل التفضيل إذا وقع خبرا عن غيره وكان مقترنا بمن كان مفردا على كل حال نحو الزيدون خير من العمرين فصل وجوه اسم الفاعل
إذا ثبت هذا فيجوز في اسم الفاعل إذا اعتمد على ماقبله أو كان معه قرينة مقتضية للفعل وبعده اسم مرفوع وجهان
أحدهما أن يكون خبرا مقدما والاسم بعده مبتدأ وأن يكون مبتدأوالمرفوع بعده فاعل نحو أقائم زيد وما قائم عمرو ونحوه إلا أن يمنع مانع من ذلك وذلك في ثلاث مسائل
أحدها قولك زيد قائم أخواه فإن هذا يتعين فيه أن يكون أخواه فاعلا بقائم ولا يجوز أن يكون أخواه مبتدأ وقائم الخبر لعدم المطابقة(1/418)
الثانية قولك زيد قائمان أخواه فإن هذا يتعين فيه على الأفصح أن يكون مبتدأ وخبرا لو كان من باب الفعل والفاعل لقلت قائم أخواه كما تقول قام أخواه
الثالثة قولك زيد قائم أنت إليه وزيد قائم هو إذا كان الفاعل ضميرا منفصلا فإن هذا لا يكون إلا مبتدأوخبرا لأن الضمير المنفصل لا يكون فاعلا مع اتصاله بعامله إنما يكون فاعلا إذا لم يمكن اتصاله نحو ما قائم إلا أنت ونحو الضار به هو
فإذا عرفت ذلك فقوله في حديث المبعث أو مخرجي هم // رواه البخاري ومسلم والترمذي // فمخرجي
يتعين أن يكون خبرا مقدما وهم مبتدألأن الرواية اتفقت على تشديد مخرجي وكان أصله مخرجون لي فحذف اللام وأضيف مخرجون إلى الياء فسقط نون الجمع لأنها تسقط للإضافة فصار مخرجوي فاجتمع الواو والياء والسابق منهما ساكن فقلبت الواو ياء فصار مثلان فأدغم أحدهما في الآخر فجاء مخرجي
ومثله ضاربي ومكرمي ولو أن لصفة ههنا رافعة للضمير لكانت مفردة وكان يقول أو مخرجي هم بالتخفيف كما تقول أضاربي إخوتك ولو جعلته مبتدأ خيرا لقلت أضاربي بالتشديد والله أعلم
فان قلت ما هم بمخرجي تعين التشديد ليس إلا لأن الفاعل لا يتقدم فلو خففت لكانت المسألة من باب الفعل والفاعل والفاعل لا يتقدم عامله وإن أخرت الضمير جاز لك الوجهان كما تقدم ظروف الزمان والإخبار عن الجثة(1/419)
قولهم ظروف الزمان لا تكون إخبار عن الجثة ليس على إطلاقه بل فيه تفصيل يعرف من العلة في منع ذلك والعلة أن الزمان لما كان عبارة عن أوقات الحوادث وكانوا محتاجين إلى تقييد حوادثهم بأزمنة تقارنها معلومة عن المتكلم والمخاطب كما يقدرونها بالإماكن التي تقع فيها جعل الله سبحانه وتعالى حركات الشمس والقمر وما يحدث بسببها من الليل والنهار والشهور وألاعوام معيارا يعلم به العباد مقادير حوادث أفعالهم وتاريخها ومعيارها لشدة حاجتهم إلى ذلك في الآجال كالعدد والإجارات والسلم والديون المؤجلة ومعرفة مواقيت الحج والصيام وغيرها فصارت حركة الشمس والقمر تاريخا وتقييدا ومعيار للأفعال والحياة والموت والمولد وغير ذلك
فالزمان إذا عبارة عن مقارنة حادث لحادث مقارنة الحادث من الحركة العلوية للحادث من حركات العباد ومعيارا له ولهذا سماه النحاة ظرفا لأنه مكيال ومعيار يعلم به مقدار الحركة والفعل وتقدمه وتأخره وقربه وبعده وطوله وقصره وانقطاعه ودوامه
فإذا أخبرت أن فعلك قارن ذلك الحادث المعلوم من حركة الشمس والقمر يوقت له ويقيد به فسمي وقتا وهو في الأصل مصدر وقت الشيء أوقته حددته وقدرته حتى لو أمكن أن يقيد ويؤرخ بما يقارن الفعل من الحوادث غير الزمان استغنى عن الزمان نحو قمت عند خروج الأمير وعند قدوم الحاج وعند موت فلان لكن ذلك لا يشترك في علمه ومعرفته كالاشتراك في معرفة يوم الجمعة وشهر رمضان ونحوه ولا
يطرد مع أنه أيضا توقيت وتاريخ بالزمان في الحقيقة فإن قولك عند خروج الأمير وقدوم الحاج إنما تريد به هذه الأوقات والأزمنة ولكن المعلوم عند جميع المخاطبين إنما هي أجزاء الزمان كالشهر والسنة واليوم وأبعاض ذلك
وإذا عرف ذلك فلا معنى لقولك زيد اليوم وعمرو غدا لأن الجثث ليست بأحداث فتحتاج إلى تقييدها بما يقارنها وإلى تاريخها بحدث معها فما ليس بحدث لا معنى لتقييده بالحدث الذي هو الزمان(1/420)
وعلى هذا فإذا أردت حدوث الجثة ووجودها فهو أيضا حادث فيجوز أن يخبر عنه بالزمان إذا كان الزمان يسع مدتها تقول نحن في المائة الثامنة وكان الأوزاعي في المائة الثانية والإمام أحمد في المائة الثالثة ونحو هذا
وعلى هذا إذا قلت الليلة الهلال صح ولا حاجة بك إلى تكليف إضمار الليلة طلوع الهلال فإن المراد حدوث هلال ذلك الشهر فجرى مجرى الأحداث وكذلك تقول الورد في ايار وتقول الرطب في شهر كذا وكذا ومنه قول الشاعر
أكل عام نعم يحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه
ومثله قولك البدر ليلة رابع عشرة ولا حاجة إلى تكلف طلوع البدر بل لا يصح هذا التقدير لأن السائل إذا سألك أي وقت البدر فإنه لم يسألك عن الطلوع إذ هو لا يجهله وإنما يسألك عن ذات البدر ونفسه فقولك هو ليلة أربع عشرة تريد به أن ليلة أربع عشرة هي ليلة كونه بدرا لا ليلة طلوعه فتأمله
وعلى هذا فلا يسوغ هذا الاستعمال حتى يكون الزمان يسع ما قيدته به من الحدث والجثة التي في معناه فلو كان الزمان أضيق من ذلك لم يجز التقييد به لأن الوقت لا يكون أقل من المؤنث فلا تقول نحن في يوم السبت وإن صح أن تقول نحن في المائة الثامنة ولا تقول الحجاج في يوم الخميس وتقول الحجاج في زمن بني أمية والله اعلم إشكالات إعرابية
قوله عز وجل إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وقال تعالى سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم وقوله تعالى سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون مما أشكل إعرابه على فحول العربية واختلفت أقوالهم في ذلك
فقال صاحب الكشاف سواء اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وقوله تعالى في أربعة أيام سواء للسائلين بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لأن وأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع رفع على الفاعلية(1/421)
كأنه قيل إن للذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول إن زيدا مختصم أخوه وابن عمه أو يكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبرا مقدما بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن
فإن قلت الفعل أبدا خبر لا مخبر عنه فكيف صح الإخبار عنه في هذا الكلام
قلت هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعني وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا
من ذلك قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل والهمزة وأم مجردتان بمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا
قال سيبويه جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك اللهم اغفر لنا أيتها العصابة يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن إما الإنذار وإما عدمه ولكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين
قلت هذا قوله وقول طائفة من النحاة وقد اعترض على ما ذكراه بأنه يلزم القائل به أن يجيز سواء قمت أم قعدت دون أن تقول علي أو عليك وأنه يجيز سيان أذهب زيد أم جلس ويتفقان أقام زيد أم قعد وما كان نحو هذا مما لا يجوز في الكلام ولا روي عن أحد لأن التقدير الذي قدروه منطبق على هذا
وقالت طائفة أخري سواء ههنا مبتدأوالجملة الاستفهامية في موضع الخبر وإنما قالوا هذا وإن كان سواء نكرة لأن الجملة لا تكون في موضع المبتدأأبدا ولا في موضع الفاعل وأورد عليهم أن الجملة إذا وقعت خبرا فلا بد فيها من ضمير يعود على المبتدأفأين الضمير العائد على سواء ههنا فأجابوا عن هذا بأن سواء وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في المعنى خبر لأن المعنى سواء عليهم الإنذار وعدمه(1/422)
قالوا ولا يلزم أن يعود من المبتدأضمير على الخبر فلما كان سواء خبر في المعنى دون اللفظ روعي المعنى
ونظير هذا قولهم ضربي زيدا قائما فإنه لم يعد على ضربي ضمير من الحال التي سدت مسد الخبر لأن معناه اضرب زيدا أو ضربت زيدا والفعل لا يعود عليه ضمير فكذلك ما هو في معناه وقوته
ونظيره أيضا أقائم أخوك لان اخوك وإن سد مسد الخبر فإنه فاعل في المعنى وقائم معناه معنى الفعل الرافع للفاعل فروعيت هذه المعاني في هذه المواضع وهجر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى وبقي حكم الابتداء مقتضيا للرفع لفظا والمبتدأ متضمن لمعنى يخالف معنى الابتداء فحكم لذلك المعنى فلم يعد على اللفظ ضمير وحكم للفظ المبتدأ بحكم الابتداء فارتفع
فهذا قول هذه الطائفة الأخرى واعترض عليه بعد الاعتراف بحسنه وقوته بأن العرب لم تنطق بمثل هذا في سواء حتى قرنته بالضمير المجرور ب على نحو سواء عليكم وسواء عليهم وسواء علي فإن طردوا ما أصلوه في سواء سواء قرن ب على أم لم يقرن فليس كذلك وإن خصوه بالمقرون ب على فلم يبينوا سر اختصاصه بذلك
وقالت طائفة ثالثة منهم السهيلي وهذا لفظه لما كانت العرب لا تقول سيان أقمت أم قعدت ولا مثلان ولا شبيهان ولا يقولون ذلك إلا في سواء مع المجرور ب على وجب البحث عن السر في ذلك وعن مقصد القوم في هذا الكلام وعن المساواة بين أي شيء هي وفي أي الصفات هي من الأسمين الموصوفين بالتساوى فوجدنا معنى الكلام ومقصوده إنما هو تساوي عدم المبالاة بقيام أو قعود أو إنذار أو ترك إنذار ولو أرادوا المساواة في صفة موجودة في الذات لقالوا سواء الإقامة والشخوص كما يقولون سواء زيد وعمرو
وسيان ومثلان يعنى استواءهما في صفة ذاتيهما فإذا أردت أن تسوى بين أمرين في عدم المبالاة وترك الالتفات لهما وأنهما قد هانا عليك وخفا عليك(1/423)
قلت سواء علي أفعل أم لم يفعل كما تقول لا أبالي أفعل أم لم يفعل لأن المبالاة فعل من افعال القلب وأفعال القلب تلغي إذا وقعت بعدها الجمل المستفهم عنها أو المؤكد باللام تقول لا أدرى أقام زيد أم قعد وقد وقعت بعدها ليقومن زيد ولكن لا تلغى هذه الأفعال القلبية حتى يذكر فاعلها في اللفظ أو في المعنى فتكون حينئذ في موضع المفعول بالعلم ثم قال
فصل إعراب سواء عليهم أأنذرتهم
فإذا ثبت هذا ف سواء مبتدأ في اللفظ وعلى وعليكم أو عليهم مجرور في اللفظ وهو فاعل في المعنى المضمون من مقصود الكلام إذ قولك سواء علي في معنى لا أبالي وفي أبالي فاعل وذلك الضمير الفاعل هو المجرور ب على في المعنى لان الأمرين إنما استويا عليك في عدم المبالاة فإن لم تبال بهما لم تلتفت بقلبك إليهما وإذا لم تلتفت فكأنك قلت لا أدري أقمت أم قعدت
فلما صارت الجملة الاستفهامية في معنى المفعول لفعل من افعال القلب لم يلزم أن يكون فيها ضمير يعود على ما قبلها إذ لبس قبلها في الحقيقة إلا معنى فعل يعمل فيها من المفعول ضمير على عاملة ولولا قولك علي وعليكم ما قوى ذلك المعنى ولا عمل في الجملة ولكن لما تعلق الجارية صار في حكم المنطوق به وصار المجرور هو الفاعل في المعنى كالفاعل في علمت ودريت وباليت
ألا ترى كيف صار المجرور في قولهم له صوت غراب بمنزلة الفاعل في يصوت حتى كأنك نطقت بيصوت فنصب صوت غراب لذلك
وإذا قلت عليه نوح الحمام رفعت نوح الحمام لأن الضمير المخفوض ب على ليس هو الفاعل الذي ينوح كما كان في قولك له صوت صوت غراب
وكذلك المجرور في سواء عليهم هوالفاعل الذي في قولك لا يبالون ولا يلتفتون إذ المساواة إنما هي في عدم المبالاة والالتفات والمتكلم لا يريد غير هذا فصار الفاعل مذكورا والمبالاة مفعوله مقصوده فوقعت الجملة الاستفهامية مفعولا لها(1/424)
قال ونظير هذه المسألة حذو القذة بالقذه قوله تعالى ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الأيات ليسجننه حتى حين فبدا فعل ماض فلا بد له من فاعل والجملة المؤكدة باللام لا تكون في موضع فاعل أبدا وإنما تكون في موضع المفعول ب علمت وأن لم يكن في اللفظ علموا ففي اللفظ ما هو معناه لأن قولهم بدا ظهر للقلب لا للعين
وإذا ظهر الشيء للقلب فقد علم والمجرور من قوله لهم هو الفاعل فلما حصل معنى العلم وفاعله مقدما على الجملة المؤكدة باللام صارت الجملة مفعولا لذلك العلم كما تقول علمت ليقومن زيد ولام الابتداء وألف الاستفهام يكون قبلها أفعال القلب ملغاة
فكذلك سواء عليهم أأنذرتهم رفعت الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من أفعال القلب وبعد فاعله كما تقدم بيان ذلك حين قدرناه بقولك لا يبالون فالواو في يبالون هو الفاعل والضمير في عليهم هو الفاعل في المعنى
إلا ترى كيف اختص ب على من بين حروف الجر لأن المعنى إذا كان يرجع إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمران وصار أخف شيء على من لا يبالهما ويلتفت إليهما فتأمله تجد المعاني صحيحة والفوائد كثيرة مزدحمة تحت هذا اللفظ الوجيز
فلذلك نبت عنه كثير من الأفهام حتى تناقضت عليهم الأصول التي اصلوها واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التي التزموها مع ما غاب عنهم من فوائد هذه الآيات وإعجازها وسمانه هذه الكلمات على إيجازها ثم قال فصل الاستفهام مع أم
فإن قيل ما بال الاستفهام في هذه الجملة والكلام خبر محض
قلنا الاستفهام مع أم يعطي معنى التسوية فإذا قلت أقام زيد أم قعد فقد سويت بينهما في علمك فهذا جواب فيه مقنع(1/425)
وإما التحقيق في الجواب فأن تقول الف الاستفهام لم يخلع منها ما وضعت له ولا عزلت عنه وإنما معناه علمت أقام زيد أم قعد أي علمت ما كنت أقول فيه هذا القول واستفهم عنه بهذا اللفظ فحكيت الكلام كما كان كما كان ليعلم المخاطب ما كان مستفهما عنه معلوم كما تقول قام زيد فترفعه لأنه فاعل ثم تقول ما قام زيد فيبقى الكلام كما كان وتبقى الجملة محكية على لفظها لتدل على أنه ما كان خبرا متوهما عند المخاطب فهو الذي نغى بحرف النفي
ولهذا نظائر يطول ذكرها فكذلك قوله سواء عليهم أأنذرتهم لما لم يبالوا بالإنذار ولا نفعهم ولا ذخل في قلوبهم منه شيء صار في حكم المستفهم عنه أكان أم لم يكن فلا تسمى الألف ألف التسوية كما فعل بعضهم ولكن ألف الاستفهام بالمعنى الذي وضعت له ولم يزل عنه مجىء أنذرتهم و أدعوتهم بلفظ الماضي
فإن قيل فلم جاء بلفظ الماضي أعني أنذرتهم وكذلك أدعوتموهم أم أنتم
صامتون وأقام زيد أم قعد ولم يجىء بلفظ الحال ولا المستقبل فالجواب من وجهين
أحدهما أن في الكلام معنى الشرط والشرط يقع بعد المستقبل بلفظ الماضي تقول إن قام زيد غذا قمت وههنا يتعذر ذلك المعنى كأنك قلت إن قام زيد أو قعد لم أباله ولا ينتفع القوم إن أنذرتهم أم لم تنذرهم فلذلك جاء بلفظ الماضي
وقد قال الفارسي قولا غير هذا ولكنه قريب منه في اللفظ قال إن ألف الاستفهام تضارع إن التي للجزاء لأن الاستفهام واجب كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عدم المشروط فهذه العبارة فاسدة من وجوه يطول ذكرها ولو رأي المعنى الذي قدمناه لكان أشبه
على أنه عندي مدخول أيضا لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال خاصة دون الحال والماضي وقوله سواء عليكم أدعوتموهم وسواء عليهم أأنذرتهم لا تختص بالاستقبال بل المساواة في عدم المبالاة موجودة في كل حال بل هي أظهر في فعل الحال ولا يقع بعد حرف الشرط فعل حال بوجه(1/426)
والتحقيق في الجواب أن تقول قد أصلنا في نتائج الفكر أصلا وهو أن الفعل لم يشتق من المصدر مضافا إلا ليدل على كون الاسم مخبرا عنه أعني الفاعل الذي كان المصدر مضافا إليه ولم تختلف أبنيته بعدما اشتق من المصدر إلا لاختلاف أحوال الحدث من مضي أو استقبال فإن كان قصد المتكلم أن لا يقيد الحدث بزمان دون زمان ولا بحال استقبال دون حال مضي بل يجعله مطلقا جاء بلفظ الماضي الذي لا زوائد فيه ليكون أخف على اللسان وأقرب إلى لفظ الحدث المشتق منه ألا ترى أنهم يقولون لا أفعله ما لاح برق وما طار طائر بلفظ الماضي خاصة لما أرادوا مدة مطلقة غير مقيدة وأنه لا يفعل هذا الشيء في مدة لوح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك فلم يجاوزوا لفظ الماضي لأنهم لا يريدون استقبالا ولا حالا على الخصوص
فإن قلت ولا يريدون أيضا ماضيا فكيف جاء بلفظ الماضي
قلنا قد قرن معه لا أكلمه ولا أفعله فدل على أن قوله ما لاح برق لا يريد به لوحا قد انقضى وانقطع إنما يريد مقارنة الفعل المنفي للفعل الآخر في المدة على الإطلاق والدوام فليس في قوله ما لاح برق إلا معنى اللوح خاصة غير أنه ترك لفظ المصدر ليكون البرق مخبرا عنه كما تقدم فمتى أردت هذا ولم ترد تقييدا بزمان فلفظ الماضي أحق وأولى
وكذلك قوله تعالى سواء عليهم أأنذرتهم أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه فاشتق من الإنذار الفعل ليدل على أن المخاطب فاعل الإنذار وترك الفعل بلفظ الماضي لأنه مطلق في الزمان كله وأن القوم لم يبالوا بهذا ولا هم في حال مبالاة فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع معنى إذ ليس المراد تقييد الفعل بوقت ولا تخصيصه بحال
فإن قلت لفظ الماضي يخصصه بالانقطاع(1/427)
قلت حدث حديثين امرأة وفيما قدمناه ما يغني عن الجواب مع ما في قوله سواء عليهم أأنذرتهم من ثبوت هذه الصفة فيهم وحصولها في الحال وفي المآل فلا تقول سواء ثوباك أو غلاماك إذا كان الاستواء فيما مضى وهما الآن مختلفان فهذه القرينة تنفي الانقطاع الذي يتوهم في لفظ المضي كما كان لفظ الحال في قولك لا أكلمه ما دامت السموات والأرض بنفي الانقطاع المتوهم في دام وإذا انتفى الانقطاع وانتفت الزوائد الأربع بقي الحدث مطلقا غير مقيد في المسألتين جميعا فتأمل هذا تجده صحيحيا فصل واو الثمانية
الكلام على واو الثمانية قولهم إن الواو تأتي للثمانية ليس عليه دليل مستقيم وقد ذكروا ذلك في مواضع فلنتكلم عليها واحدا واحدا
الموضع الأول قوله تعالى التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فقيل الواو في والناهون واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة وذكروا في الآية وجوها آخر
منها أن هذا من التفنن في الكلام أن يعطف بعضه ويترك عطف بعضه
ومنها أن الصفات التي قبل هاتين الصفتين صفات لازمة متعلقة بالعامل وهاتان الصفتان متعديتان متعلقتان بالغير فقطعتا عما قبلهما بالعطف
ومنها أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وكل هذه الأجوبة غير سديدة وأحسن ما يقال فيها أن الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغايرها في نفسها
وللإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها وتارة لا يتوسطها العاطف لاتحاد موصوفها وتلازمها في نفسها وللإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة وتارة يتوسط العاطف بين بعضها ويحذف مع بعض بحسب هذين المقامين(1/428)
فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف وإن أريد الجمع بين الصفات أوالتنبيه على تغايرها حسن إدخال حرف العطف فمثال ألأول التائبون العابدون الحامدون وقوله مسلمات مؤمنات قانتات تائبات
ومثال الثاني قوله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن وتأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول فأتي بالواو في الوصفين الأولين وحذفها في الوصفين الآخرين لأن غفران الذنب وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما فمن غفر الذنب قبل التوب فكان في عطف أحدهما على الآخر مايدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمه
أحدهما يتعلق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة
والثاني يتعلق بالإحسان والإقبال على الله تعالى والرجوع إليه وهو التوبة فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة
وحسن العطف ههنا هذا التغاير الظاهر وكلما كان التغاير أبين كان العطف أحسن ولهذا جاء العطف في قوله هو الأول والآخر والظاهر والباطن وترك في قوله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وقوله الخالق الباريء المصور وأما شديد العقاب ذي الطول فترك العطف بينهما لنكته بديعة وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه وأنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول وطوله لا ينافى شدة عقابه بل هما مجتمعان له بخلاف الأول والآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية ولهذا فسرها النبي بقوله أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء فأوليته أزليته وآخريته أبديته
فإن قلت فما تصنع بقوله والظاهر والباطن فإن ظهوره تعالى ثابت مع بطونه فيجتمع في حقه الظهور والبطون والنبي الظاهر بأنه الذي ليس فوقه شيء والباطن بأنه الذي ليس دونه شيء وهذا العلو والفوقية مجامع لهذا القرب والدنو والإحاطة(1/429)
قلت هذا سؤال حسن والذي حسن دخوله الواو ههنا أن هذه الصفات متقابلة متضادة وقد عطف الثاني منها على الأول للمقابلة التي بينهما والصفتان الأخريان كالأوليين في المقابلة ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأول فكما حسن العطف بين الأوليين حسن بين الأخريين
فإذا عرف هذا فالآية التي نحن فيها يتضح بما ذكرناه معنى العطف وتركه فيها لأن كل صفة لم تعطف على ما قبلها فيها كان فيه تنبيه على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد فلم يحتج إلى عطف فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهما متلازمان مستمدان من مادة واحدة حسن العطف ليتبين أن كل وصف منهما قائم على حدته مطلوب تعيينه لا يكتفي فيه بحصول الوصف الآخر بل لا بد أن يظهر أمره بالمعروف بصريحة ونهيه عن المنكر بصريحة وأيصا فحسن العطف ههنا ما تقدم من التضاد فلما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضدين أحدهما طلب الإيجاد والآخر طلب الإعدام كانا كالنوعين المتغايرين المتضادين فحسن لذلك العطف
الموضع الثاني قوله تعالى عسى ربه إن طلقكن أن بيدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات إلى قوله تعالى ثيبات وأبكارا فقيل هذه واو الثمانية لمجيئها بعد الوصف السابع وليس كذلك ودخول الواو ههنا متعين لأن الأوصاف التي قبلها المراد اجتماعها في النساء وأما وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكن اجتماعهما فتعين العطف لأن المقصود أنه يزوجه بالنوعين الثيبات والأبكار
الموضع الثالث قوله تعالى سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قيل المراد إدخال الواو ههنا لأجل الثمانية وهذا يحتمل أمرين أحدهما هذا والثاني أن يكون دخول الواو ههنا إيذانا بتمام كلامهم عند قولهم سبعة ثم ابتدأ قوله وثامنهم كلبهم وذلك يتضمن تقرير قولهم سبعة كما إذا قال لك زيد فقيه فقلت ونحوي وهذا اختيار السهيلي(1/430)
وقد تقدم الكلام عليه وأن هذا إنما يتم إذا كان قوله وثامنهم كلبهم ليس داخلا في المحكي بالقول والظاهر خلافه والله أعلم
الموضع الرابع قوله تعالى وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها فأتى بالواو لما كانت أبواب الجنة ثمانية وقال في النار حتى أذا جاءونا فتحت أبوابها لما كانت سبعة وهذا في غاية البعد ولا دلالة في اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها بل هذامن باب حذف الجواب لنكتة بديعة وهي أن تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها ففتحت في وجوههم لأنه أبلغ في مفاجأة المكروه
وأما الجنة فلما كانت ذات الكرامة وهي مأدبة الله وكان الكريم إذا دعا أضيافه إلى داره شرع لهم أبوابها ثم استدعاهم إليها مفتحة الأبواب أتى بالواو العاطفة ههنا الدالة على أنها جاءوها بعدما فتحت أبوابها وحذف الجواب تفخيما لشأنه وتعظيما لقدرة كعادتهم في حذف الأجوبة وقد أشبعنا الكلام على هذا فيما تقدم والله اعلم فصل اتصال لولا بضمير متصل
مذهب سيبويه أن لولا إذا اتصل بها الضمير المتصل نحو لولا ه ولولاك كان مجرورا وخالفه الأخفش وقال الأخفش والكوفيون هذه الضمائر مما وقع المضمر المتصل موقع المنفصل كما وقع المنفصل موقع المتصل في قولهم ما أنا كأنت ولا أنت كأنا وقد وقع المتصل موقع المنفصل في قوله
وما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... أن لا يجاورنا إلاك ديار
وقال المبرد بقول الكوفيين فأما حجة سيبويه فهي الاستعمال قال الشاعر
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بإجرامه من قلة النيق منهوي
وقال الآخر
لولاك هذا العام لم أحجج ...
وقال آخر
لولاك لم يعرض لأحسابنا حسن ...
واحتج سيبويه على أن الضمير هنا مجرور بأن هذه الضمائر التي هي الهاء والكاف والياء إما أن تكون ضمائر نصب أو ضمائر جر ومحال أن تكون ضمائر رفع ولا يجوز أن تكون ضمائر نصب لأن الحروف إذا اتصل بها ياء المتكلم وكانت في موضع(1/431)
نصب اتصل بها نون الوقاية نحو إني وأنني وكأني وكأنني فإن أدى ذلك إلى اجتماع مثلين جاز حذف نون الوقاية فيقال إني وكأني ولكني فلو كانت الياء ضمير نصب لقالوا لولاني كما قالوا ليتني ولم يات ذلك فتعين أن تكون ضمير جر فإذا ثبت هذا في الياء فكذلك في الكاف والهاء
وأما الكوفيين فاحتجوا بأن الظاهر لا يقع بعد هذه الحروف إلا مرفوعا فكذلك المضمر وقد وجد ذلك في المنفصل فيكون المتصل كذلك ولكن هذه الضمائر المتصلة وقعت موقع الضمائرالمنفصلة كما يقع المنفصل موقع المتصل فهما يتعاقبان ويتعاوضان فقالوا ما أنا كأنت فأوقعوا الرفع موقع ضمير الجر فلذلك قالوا لولاك فأوقعوا ضمير الجر موقع ضمير الرفع فالتغيير وقع في الصيغة لا في الإعراب قالوا وقد ثبت أن لولا لا تعمل في الظاهر فكيف تعمل في المضمر
وإجاب البصريون عن هذا بأن الأصل أن الضمائر لا يقع بعضها موقع بعض إلا للضرورة في الشعر وبأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجهين
أحدهما إيقاع المتصل موقع المنفصل
والثاني إيقاع المجرور موقع المرفوع وهذا تغيير مرتين فالتغينير في لولا بكونها حرف جر في هذا الموضع أسهل قالوا وأما عملها في المضمر خاصة فليس بمستنكر عمل العامل في بعض الأسماء دون بعض فهذه لدن لا تعمل إلا في غدوة وحدها فإذا كان العامل يعمل في بعض الظاهرات دون بعض وهي جنس واحد فلأن يعمل في المضمر دون الظاهر وهما جنسان أولى وقد رد بعض النحاة هذا الاستعمال جملة وقال هو لحن واختلف على المبرد فقيل إن هذا مذهبه وقيل إن مذهبه قول الكوفيين والله اعلم فصل مذهب النحاة في المستثنى
اختلف في المستثنى من أي شيء هو مخرج فذهب الكسائي إلي أنه مخرج من المستثنى منه وهو المحكوم عليه فقط
فإذا قلت جاء القوم إلا زيدا فزيدا مخرج من القوم فكأنك أخبرت عن القوم
الذين ليس فيهم زيد بالمجي وأما هو فلم تخبر عنه بشيء بل سلبت الإخبار عنه لا أنك أخبرت عنه بسلب المجيء(1/432)
والفرق بين الأمرين واضح وعلى قوله فالإسناد وقع بعد الإخراج وذهب الفراء إلى أنه مخرج من الحكم نفسه
وذهب الأكثرون إلى أنه مخرج منهما معا فله اعتباران أحدهما كونه مستثنى وبهذا الاع4تبار هو مخرج من الاسم المستثنى منه والثاني كونه محكوما عليه بضد حكم المستثنى منه وبهذا الاعتبار هو مخرج من حكمه والتحقيق في ذلك أنه مخرج من الاسم المقيد بالحكم فهو مخرج من اسم مقيد لا مطلق الاحتجاج لكل مذهب
ونذكر هنا ما احتج به لهذه المذاهب وما تعقب به على الاحتجاج
احتج الكسائي بقوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي ووجه الاستدلال أن الاستثناء لو كان مخرجا من الحكم لكان قوله أبي تكرار لأنه قد علم بالاستثناء وأجيب عن هذا بأنه تأكيد واعترض على هذا الجواب بأن المعاني المستفادة من الحروف لا تؤكد فلا يقال ما قام زيد نفيا وهل قام عمرو استفهاما ولكن قام زيد استدراكا ونحوه لأن الحرف وضع على الاختصار ولهذا عدل عن الفعل إليه فتأكيده بالفعل ينافي المقصود بوضعه
والتحقيق في الجواب أن ابي أفاد معنى زائدا وهو ان عدم سجوده استند إلى إبانه وهو أمر وجودي اتصف به نشأعنه الذنب فلم يكن ترك سجوده لعجز ولا لسهو ولا لغفلة بل كان إباء واستكبارا
ومعلوم أن هذا لا يفهم من مجرد الاستثناء وإنما المفهوم منه عدم سجوده وأما الحامل على عدم السجود فلا يدل الاستثناء عليه فصرح بذكره ونظير هذا الاحتجاج والاعتراض والتقدير سواء قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين فإن نفي كونه من الساجدين أخص من نفي السجود عنه لأن نفي الكون يقتضي نفي الأهلية والاستعداد فهو أبلغ في الذم من أن يقال لم يسجد ثم الذي يدل على بطلان هذا المذهب وجوه
منها أنه لو كان ما بعد إلا سكوتا عن حكمه لم يكن قولنا لا إله إلاالله توحيدا واللازم باطل فالملزوم مثله والمقدمتان ظاهرتان(1/433)
ومنها أن الاستئناء المنقطع لا يتصور الإخراج فيه من الاسم لعدم دخوله فيه فكذلك المتصل
ومنها أنه لو كان الإخراج من الاسم وحده لما صح الاستثناء من مضمون الجملة كقولك زيد أخوك إلا أنه ناء عنك وعمرو صديقك إلا أنه يواد عدوك ونحو هذا
ومنها أنه لا يوجد في كلام العرب قام القوم إلا زيدا فإنه قام ولو كان الإخراج من الاسم وحده والمستثنى مسكوت عنه لجار إثبات القيام له كما جاز نفيه عنه فإن السكوت عن حكمه لا يفيد نفي القيام عنه ولا إثباته فلا يكون واحد منهما مناقضا للاسئثناء
وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب مخرج من الحكم لا من الاسم وكذلك الباب كله ومأجيب عن ذلك بأن المستثنى داخل مع الاسم المحكوم عليه تقديرا إذ يقدر ألأول شاملا بوجه ليصح الاستثناء ولمن نصر قول الكسائي أيضا أن يجيب بهذا الجواب
وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب الجمهور أن الإخراج من الاسم والحكم معا فالاسم المستثنى مخرج من المستثنى منه وحكمه مخرج من حكمه وأن الممتنع إخراج الاسم المستثنى من المستثنى منه مع دخوله تحته في الحكم فإنه لا يعقل الإخراج حينئذ البتة فإنه لو شاركه في حكمه لدخل معه في الحكم والاسم جميعا فكان استثناؤه غير معقول ولا يقال إن معنى الاستثناء أن المتكلم تارك للإخبار عنه بنفي أو إثبات مع احتمال كل واحد منهما لأنا نقول هذا باطل من وجوه عديدة
منها أنك اذا قلت ما قام إلا زيد وما ضربت إلا عمرا وما مررت إلا بزيد ونحوه من الاستثناءات المفرغات لم يشك أحد في أنك أثبت هذه الأحكام لما بعد إلا كما أنك سلبتها عن غيره بل إثباتها للمستثني أقوى من سلبها عن غيره
ويلزم من قال إن حكم المستثنى مسكوت عنه أن لا يفهم من هذا إثبات القيام والضرب والمرور لزيد وهو باطل قطعا(1/434)
ومنها أنه لو كان مسكوتا عنه لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله لأنه على هذا التقدير الباطل لم يثبت الإلهية لله وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص فدلالتها على الإثبات أعظم من دلالة قولنا الله إله ولا يستريب أحد في هذا البتة
ومنها أنه لو ادعى عليه بمائة درهم فقال له عندي مائة إلا ثلاثة دراهم فإنه
ناف لثبوت المستثنى في ذمته ولو كان ساكتا عنه لكان قد أقر بالبعض ونكل عن الجواب عن البعض وهذا لم يقله عاقل ولو كان حكم المستثنى السكوت لكان هذا ناكلا
ومنها أن المفهوم من هذا عند أهل التخاطب نفي الحكم عن المستثنى وإثباته للمستثنى منه ولا فرق عندهم بين فهم هذا النفي وذلك الإثبات البتة وذلك جرى عندهم مجرى فهم الأمر والنهي النفي والاستفهام وسائر معاني الكلام فلا يفهم سامع من قول الله عز وجل فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما أنه أخبر عن تسع مائة عام وخمسين عاما وسكت عن خمسين فلم يخبر عنها بشيء ولا يفهم أحد قط إلا أن الخمسين لم يلبثها فيهم
وكذلك قوله تعالى قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين لا يفهم منها إلا أن المخلصين لا يتمكن من إغوائهم وكذلك سائر الاستثناءات
ومنها أن القائل إذا قال قام القوم إلا زيدا لم يكن كلامه صدقا إلا بقيامهم وعدم قيام زيد ولهذا من أراد تكذيبه قال له كذبت بل قام زيد ولو كان زيد مسكوتا عنه لم يكن هذا تكذيبا له والعقلاء قاطبة يعدونه تكذيبا ويعدون خبره كاذبا حيث يعدون الإخبار بخلاف ما الشيء عليه كذبا(1/435)
إذ عرف هذا فبه بنحل الإشكال الذي أورده بعض المتاخرين على الاستثناء وقال الاستثاء مشكل التعقل قال لأنك إذا قلت جاء القوم إلا زيدا فإما أن يكون زيد داخلا في القوم أم لا فإن كان غير داخل لم يستقم الاستثناء لأنه إخراج وإخراج ما لم يدخل غير معقول وإن كان داخلا فيهم لم يستقم إخراجه للتناقض لأنك تحكم عليه بحكمين متناقضين
ولهذه الشبهة قال القاضي وموافقوه إن عشرة إلا ثلاثة مرادف لسبعة فهما اسمان ركبا مع الحرف وجعلا بإزاء هذا العدد فإن أراد القاضي أن المفهوم منهما واحد فصحيح وإن أراد التركيب النحوى فباطل والجواب عن هذا الإشكال أنه لا يحكم بالنسب إلا بعد كمال ذكر المفردات فالإسناد إنما وقع بعد الإخراج فالقائل إذا قال قام القوم إلا زيد ا فها هنا خمسة أمور
أحدها القيام بمفردة الثاني القوم بمفردهم الثالث زيد بمفرده الرابع النسبة بين المفردين الخامس الأداة الدالة على سلب النسبة عن زيد فزيد دخل في
القوم على تقدير عدم الإسناد وخرج منهم على تقدير الإسناد ثم أسند بعد إخراجه فدخوله وخروجه باعتبارين غير متنافيين فإنه دخل باعتبار الإفراد وخرج باعتبار النسبة فهو من القوم غير محكوم عليهم وليس من القوم المقيدين بالحكم عليهم هذا إيضاح هذا الإشكال وحله والله الموفق فصل جعل المستثني تابعا لما قبله
المستثني إذا جعل تابعا لما قبله فمذهب البصريين أنه بدل وقد نص عليه سيبويه ومذهب الكوفيين أنه عطف فأما القول بالبدل فعليه إشكالان
أحدهما أنه لو كان بدلا لكان بدل بعض إذ يمتنع أن يكون بدل كل من كل وبدل البعض لا بد فيه من ضمير يعود على المبدل منه نحو قبضت المال نصفه(1/436)
الثاني أن حكم البدل حكم المبدل منه لأنه تابع يشارك متبوعه في حكمه وحكم المستثنى ههنا مخالف لحكم المستثى منه فكيف يكون بدلا وأجيب عن الأول بأن إلا وما بعدها من تمام الكلام الأول وإلا قرينة مفهمة أن الثاني قد كان تناوله الأول فمعلوم أنه بعض الأول فلا يحتاج فيه إلى رابط بخلاف قبضت المال نصفه
وأجيب عنه أيضا بأن البدل في الاستثناء قسم على حدته ليس من تلك الأبدال التي تبينت في غير الاستثناء وأجيب عنه أيضا بأن البدل في الاستثناء إنما المراعى فيه وقوعه مكان المبدل منه فإذا قلت ما قام أحد إلا زيد ف إلا زيد هو البدل وهو الذي يقع موقع أحد فليس زيد وحده بدلا من أحد فإلا زيد هو الأحد الذي نفيت عنه القيام فقولك إلا زيد هو بيان ألأحد الذي عنيت وعلى هذا فالبدل في الاستثناء أشبه ببدل الشيء من الشيء من بدل البعض من الكل
وأما الإشكال الثاني فقال السيرافي مجيبا عنه هو بدل منه في عمل العامل فيه وتخافهما بالنفي والإيجاب لا يمنع البدلية لأن مذهب البدلية أن يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه
وتتخالف الصفة والموصوف نفيا وإثباتا نحو مررت برجل لا كريم ولا لبيب
ومعنى هذا الجواب أنه إنما يشترط في البدل أن يحل محل الأول في العامل خاصة وأما أن يكون حكمهما واحدا فلا
وأما القول الكوفي أنه عطف فإنهم جعلوا إلا من حروف العطف في هذا الباب خاصة والحامل لهم على ذلك وجود المخالفة المذكورة(1/437)
قال ثعلب كيف يكون بدلا وهو موجب ومتبوعة منفي والعطف توجد فيه المخالفة في المعنى كالمعطوف ب بل ولكن وهذا ممكن خال من التكلف ولا يقال إنه يستلزم الاشتراك في الحروف وهو مذهب ضعيف لأنا نقول ليس هذا من الاشتراك في الحروف فإن إلا للإخراج على بابها وإنما سموا هذا النوع من الإخراج عطفا على نحو تسميتهم الإخراج ب بل ولكن عطفا والاشتراك المردود قول من يقول إن إلا تكون بمعنى الواو لكن قد رد قولهم بالعطف بأن إلا لو كانت عاطفة لم تباشر العامل في نحو ما قام إلا زيد لأن حروف العطف لا تلي العوامل ويجاب عن هذا بأن إلا التي باشرت العامل ليست هي العاطفة فليس ههنا عطف ولا بدل البتة وإنما الكلام فيما إذا كان ما بعد إلا تابعا لما قبلها
قال ابن مالك ولمقوي العطف أن يقول تخالف الصفة والموصوف كلا تخالف لأن نفي الصفتين إثبات لضديهما فإذا قلت مررت برجل لا كريم ولا شجاع فكأنك قلت بخيل جبان وليس كذلك تخالف المستثني والمستثنى منه فإن جعل زيد بدلا من أحد إذا قيل ما فيها أحد إلا زيد يلزم منه عدم النظير إذ لا يدل في غير محل النزاع إلا وتعلق العامل به مساو لتعلقه بالمبدل منه والأمر فيما قام أحد إلا زيد بخلاف ذلك فيضعف كونه بدلا إذ ليس في الإبدال ما يشبهه وإن جعل معطوفا لم يلزم من ذلك مخالف المعطوفات بل يكون نظير المعطوف ب لا وبل ولكن فكان جعله معطوفا أولى من جعله بدلا قلت ويقوى العطف أيضا أنك تقول لا أحد في الدار إلا عبد الله فعبد الله لا يصح أن يكون بدلا من أحد فإنه لا يحل محله(1/438)
فإن قيل هذا جائز على توهم ما فيها أحد إلا عبد الله إذ المعنى واحد فأمكن أن يحل أحدهما محل الأخر قيل هذا كاسمه وهم والحقائق لا تبني على الأوهام وأجاب ابن عصفور عن هذا بأن قال لا يلزم أن يحل عبد الله محل أحد الواقع بعد لا لأن المبدل إنما يلزم أن يكون على نية تكرار العامل وقد حصل ذلك كله في هذه المسألة وأمثالها ألا ترى أن عبد الله بدل من موضع لا أحد فيلزم أن يكون العامل فيه الابتداء كما أن العامل في موضع لا أحد الابتداء
وبلا شك أنك إذا أبدلته منه كان مبتدا في التقدير وخبره محذوف وكذلك حرف النفي لدلالة ما قبله عليه والتقدير لا أحد فيها إلا عبد الله ثم حذف ذلك وعللوه بعدم صحة حلول الثاني محل الأول فدل على أنه مشترط
أهـ { بدائع الفوائد حـ 3 صـ 513 ـ صـ 569 }(1/439)
قوله تعالى { وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه إلى بلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون فأخبر سبحانه أنهما إحياءان وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه ثم ذكر قياسا آخر أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها ومنها ما تكون أرضا خبيثة لا تخرج نباتها إلا نكدا أي قليلا غير منتفع به فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة فشبه سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض بحصول الحياة بهذا وهذا وشبه القلوب بالأرض إذا هي محل الأعمال كما أن الأرض محل النبات وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تخرج نباتها به إلا قليلا لا ينفع وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله وتدبره بان أثره عليه فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فينبت من كل زوج كريم والمعرض عن الوحي عكسه والله الموفق
أهـ { إلام الموقعين حـ 1 صـ 165 ـ صـ 166 }
قوله تعالى { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }
فهذا صريخ في أن الحلال كان طيبا قبل حله وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس الحل والتحريم لوجهين اثنين أحدهما أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فقال(1/440)
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم فلو كان الطيب والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل فإنه بمنزلة أن يقال يحل لهم ما بحل ويحرم عليهم ما يحرم وهذا أيضا باطل فإنه لا فائدة فيه وهو الوجه الثاني فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل فكساه بأحلاله طيبا آخر فصار منشأ طيبه من الوجهين معا فتأمل هذا الموضع حق محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين أن ترد بخلاف ما وردت به وأن الله تعالى يتنزه عن ذلك كما يتنزه عن سائر مالا يليق به
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 2 صـ 6 ، 7 }
قوله تعالى { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون }(1/441)
فشبه سبحانه من أتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات وأوضعها قدرا وأخسها نفسا وهمته لا تتعدى بطنه وأشدها شرها وحرصا ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض بتشمم ويستروح حرصا وشرها ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم الطري والعذرة أحب إليه من الحلوى وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره لحرصه وبخله وشرهه ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال زرية نبحه وحمل عليه كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خطمه بالأرض وخضع له ولم يرفع إليه رأسه(1/442)
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى قال ابن جريج الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع قلت مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عنها وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء وإذا عطش أكل الثرى من العطش وإن كان فيه صبر على الجوع وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا وذلك لشدة حرصه فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث فهكذا مشبهه شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهف فإن حملت عليه(1/443)
الموعظة والنصيحة فهو يلهف وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف قال مجاهد وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به وقال ابن عباس إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يهتد إلى خير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث وقال الحسن هو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع وعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك وقال عطاء ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه وقال أبو محمد بن قتيبة كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا ا لكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته وقال إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث ونظيره قوله سبحانه وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعنى فمنها قوله آتيناه آياتنا فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه فأضافها إلى نفسه ثم قال فانسلخ منها أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه ومنها قوله سبحانه فأتبعه الشيطان أي لحقه وأدركه كما قال في قوم فرعون فأتبعوهم مشرقين وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء ومنها أنه سبحانه قال ولو شئنا لرفعناه بها فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم فإن هذا كان من العلماء وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به(1/444)
فنعوذ بالله من علم لا ينفع وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسا فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه والمعنى لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه قال ابن عباس ولو شئنا لرفعناه بعمله بها وقالت طائفة الضمير في قوله لرفعناه عائد على الكفر والمعنى لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا قال مجاهد وعطاء لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه وهذا المعنى حق والأول هو مراد الآية وهذا من لوازم المراد وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها وقوله ولكنه أخلد إلى الأرض قال سعيد بن جبير ركن إلى الأرض وقال مجاهد سكن وقال مقاتل رضي بالدنيا وقال أبو عبيدة لزمها وأبطأ والمخلد من الرجال هو الذي يبطيء مشيته ومن الدواب التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته وقال الزجاج خلد وأخلد وأصله من الخلود وهو الدوام والبقاء ويقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به قال مالك بن نويرة ... بأبناء حي من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا ...
قلت ومنه قوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون أي قد خلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون وهم على سن واحد أبدا وقيل هم المقرطون في آذانهم والمسورون في أيديهم وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها وذلك أمارة التخليد على ذلك السن فلا تنافي بين القولين وقوله واتبع هواه قال الكلبي اتبع مسافل الأمور وترك معاليها وقال أبو روق اختار الدنيا على الآخرة وقال عطاء أراد الدنيا وأطاع شيطانه وقال ابن دريد كان هواه مع القوم يعني الذين حاربوا موسى وقومه وقال يمان اتبع امرأته لأنها هي التي حملته على ما فعل(1/445)
فإن قيل الاستدراك بلكن يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها أو ينفي ما أثبت كما تقول لو شئت لأعطيته لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته فالاستدراك يقتضي ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ أو لم نرفع فكيف استدرك بقوله ولكنه أخلد إلى الأرض بعد قوله ولو شئنا لرفعناه بها
قيل هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله ولو شئنا لرفعناه بها أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات من إيثار الله ومرضاته على هواه ولكنه آثر الدنيا وأخلد إلى الأرض واتبع هواه
وقال الزمخشري المعنى لو لزم آياتنا لرفعناه بها فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل ولو لزمها لرفعناه بها قال ألا ترى إلى قوله ولكنه أخلد فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون ولو شئنا في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال لو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ فهذا منه شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا فأين قوله ولو شئنا من قوله ولو لزمها ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله وهو الحق بطل أصله وقوله إن مشيئة الله تابعة للزومه الآيات من أفسد الكلام وأبطله بل لزومه لآياته تابع لمشيئة الله فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة وسبب لا مسبب وموجب مقتض لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده ولم لم يشأ امتنع وجوده
أهـ { إلام الموقعين حـ 1 صـ 197 ـ صـ 203 }
قوله تعالى { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها }(1/446)
فجعل علة السكون أنها منه ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أن لا يستحسن الأنقص من الصور ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فلضل غيره ولا يجد محيدا لقلبه عنه ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه فعلمنا أنه شيء في ذات النفس وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب وتلك تفنى بفناء سببها
أهـ { روضة المحبين صـ 86
سورة الأنفال
قوله تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن
الله رمى }
قلت اعتقد جماعة أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه وإضافته إلى الرب تعالى وجعلوا ذلك أصلا في الجبر وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده وهذا غلط منهم في فهم القرآن فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال فيقال ما صليت إذ صليت وما صمت إذ صمت وما ضحيت إذ ضحيت ولا فعلت كل فعل إذ فعلته ولكن الله فعل ذلك فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها أو رميه وحده تناقضوا فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية
وبعد فهذه الآية نزلت في شأن رميه المشركين يوم بدر بقبصة من الحصباء فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ فكان منه مبدأ الرمي وهو الحذف ومن الله سبحانه وتعالى نهايته وهو الإيصال فأضاف إليه رمى الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته ونظير هذا قوله في الآية نفسها فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ثم قال وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فأخبره أنه هو وحده هو الذي تفرد بقتلهم ولم يكن ذلك بكم أنتم كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم ولم يكن ذلك من رسوله ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة كدفع المشركين وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه به وهو خير الناصرين(1/447)
أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 273 ـ صـ 274 }
قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه واليه تحشرون }
فتضمنت هذه الآية أمورا أحدها ان الحياة النافعة انما تحصل بالاستجابة لله ورسوله فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وان كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا فهؤلاء هم الأحياء وان ماتوا وغيرهم أموات وان كانوا احياء الأبدان ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول فان كان ما دعا اليه ففيه الحياة فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول قال مجاهد لما يحيكم يعني للحق وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة وقال السدى هو الاسلام أحياهم به بعد موتهم بالكفر وقال ابن اسحق وعروة بن الزبير واللفظ له لما يحيكم يعنى للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل وقواكم بعد الضعف ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم وهذه كل عبارات عن حقيقة واحدة وهى القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا قال الواحدى والأكثرون على ان معنى قوله لما يحيكم هو الجهاد وهو قول ابن اسحق واختيار أكثر أهل المعاني قال الفراء اذا دعاكم الي احياء أمركم بجهاد عدوكم يريد ان أمرهم انما يقوى بالحرب والجهاد فلو تركوا لجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم قلت الجهاد من أعظم ما يحيهم به فى الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة أما في الدنيا فان قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد وأما في البرزخ فقد قال تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وأما في الآخرة فان حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم ولهذا قال ابن قتيبة لما يحيكم يعني الشهادة وقال بعض المفسرين(1/448)
لما يحيكم يعني الجنة فانها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمة الطيبة
حكاة أبو علي الجرجاني والآية تتناول هذا كله فان الايمان والاسلام والقرآن والجهاد يحي القلوب الحياة الطيبة وكمال الحياة في الجنة والرسول داع الي الايمان والى الجنة فهو داع الى الحياة في الدنيا والآخرة والانسان مضطر الى نوعين من الحياة حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره ومتي نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل والغى والرشاد والهوى والضلال فيختار الحق علي ضده فتفيده هذه الحياة قوة التميز بين النافع والضار في العلوم والارادات والأعمال وتفيده قوة الايمان والارادة والحب للحق وقوة البغض والكراهة للباطل فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة كما ان البدن الحى يكون شعوره واحساسه بالنافع والمؤلم أتم ويكون ميله الي النافع ونفرته عن المؤلم أعظم فهذا بحسب حياة البدن وذاك بحساب حياة القلب فاذا بطلت حياته بطل تمييزه وان كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع علي الضار كما ان الانسان لا حياة له حتي ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه فيصير حيا بذلك النفخ وان كان قبل ذلك من جملة الأموات فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول من الروح الذي ألقى اليه قال تعالى
ينزل الملائكة بالروح من أمره علي من يشاء من عباده وقال يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده وقال وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا لايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فاخبر أن وحيه روح ونور فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول(1/449)
الملكي فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له احدى الحياتين وفاتته الأخرى الأخرى قال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها فجمع له بين النور والحياة كما جمع لمن أعرض عن كتابة بين الموت والظلمة قال ابن عباس وجميع المفسرين كان كافرا ضالا فهديناه
وقوله وجعلنا له نورا يمشي به في الناس يتضمن امورا احدها انه يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل فضلوا ولم يهتدوا للطريق وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها وثانيها انه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم الى النور وثالثها انه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط اذا بقى اهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم
وقوله(1/450)
واعلموا ان الله يحؤل بين المرء وقلبه المشهور في الآية انه يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الايمان ويحول بين اهل طاعته وبين معصيته وبين اهل معصيته وبين طاعته وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين وفي الآية قول آخر ان المعنى انه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافيه فهو بينه وبين قلبه ذكره الواحدي عن قتادة وكان هذا انسب بالسياق لأن الاستجابة اصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب فان الله سبحانه بين العبد وبين قلبه فيعلم هل استجاب له قلبه وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه وعلي القول الأول فوجه المناسبة انكم ان تثاقلتم عن الاستجابة و أبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانة فيكون كقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقوله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقوله فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب وان استجاب بالجوارح وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة وبين القدر والايمان به فهي كقوله لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن الا أن يشاء الله رب العالمين وقوله فمن شاء ذكره وما يذكرون الا أن يشاء الله والله أعلم
أهـ { الفوائد صـ 88 ـ صـ 91 }
قوله تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] أي : الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد
وهنا تقديران أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لـ من على الكاف المجرورة ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية
والثاني : أن تكون الواو واو مع وتكون من في محل نصب عطفا على الموضع فإن حسبك في معنى كافيك أي : الله يكفيك ويكفي من اتبعك كما تقول العرب : حسبك وزيدا درهم قال الشاعر :(1/451)
( إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند )
وهذا أصح التقديرين
وفيها تقدير ثالث : أن تكون من في موضع رفع بالإبتداء أي : اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله
وفيها تقدير رابع وهو خطأ من جهة المعنى وهو أن تكون من موضع رفع عطفا على اسم الله ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك وهذا وإن قاله بعض الناس فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه فإن الحسب و الكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة قال الله تعالى : { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين }
[ الأنفال : 62 ] ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } [ آل عمران : 173 ]
ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله ؟ ! هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ونظير هذا قوله تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } [ التوبة : 59 ] فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله كما قال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } [ الحشر : 59 ] وجعل الحسب له وحده فلم يقل : وقالوا : حسبنا الله ورسوله بل جعله خالص حقه كما قال تعالى : { إنا إلى الله راغبون } [ التوبة : 59 ] ولم يقل : وإلى رسوله بل جعل الرغبة إليه وحده كما قال تعالى :(1/452)
{ فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب } [ الإنشراح : 7 ، 18 ] فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده كما أن العبادة والتقوى والسجود لله وحده والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى ونظير هذا قوله تعالى : { أليس الله بكاف عبده } [ الزمر : 36 ]
فالحسب : هو الكافي فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية ؟ ! والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ها هنا
أهـ { زاد المعاد حـ1 صـ 5 }
سورة التوبة
قوله تعالى {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين }
والتثبيط رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله قال ابن عباس يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج وقال في رواية أخرى حبسهم قال مقاتل واوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد فقال إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فلما تركوا الإيمان به بلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله ولم يستعدوا له ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه فإن من لم يرفع به وبرسوله أو كتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب(1/453)
خلقه إليه وأكرمهم عليه ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها بل بدلها كفرا فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا و الخبال الفساد و الاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف قال ابن عباس ما زادوكم الا خبالا عجزا و جبنا يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم و تعظيمهم في صدورهم ثم قال ولا وضعوا خلالكم أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد قال ابن عباس يريد ضعفوا شجاعتكم يعني بالتفريق بينهم لتفريق الكلمة فيجبنوا عن العدو وقال الحسن لا وضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين وقال الكلبي ساروا بينكم يبغونكم العيب قال لبيد ... أرانا موضعين لختم عيب ... وسحر بالطعام وبالشراب ... أي مسرعين ومنه قول عمر بن أبي ربيعة ... تبا لهن بالعرفان لما عرفني ... وقلن أمرؤ باغ أكل وأوضعا ... أي اسرع حتى كلت مطيته يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم قال قتادة وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم وقال ابن إسحاق وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم ومعناه على هذا القول وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم قلت فتضمن سماعين معنى مستجيبين وقال مجاهد وابن زيد والكلبي المعنى وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم أي جواسيس والقول هو الأول كما قال تعالى سماعون للكذب أي قابلون له ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين فان النافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها وأرصد بينهم عيونا(1/454)
له فالقول قول قتادة وابن إسحاق أعلم فإن قيل انبعاثهم إلى طاعته طاعة له فكيف يكرهها وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم عليه قيل هذا سؤال له شأن وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح وكل ممكن فهو جائز عليه ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم وثبطوها عن الخروج وفعلوا ما لا يريد ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله قالوا وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غيره أن يكره هو سبحانه انبعاثهم فإنه أمرهم به قالوا وكيف يأمرهم بما يكرهه ولا يخفى على من نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن فالجواب الصحيح أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة له وللمؤمنين وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا(1/455)
الوجه بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه فكان مكروها له من هذا الوجه ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم وهذا الخروج المكروه له ضدان أحدهما الخروج المرضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه والثاني التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذاالضد فيقول للسائل قعودهم مبغوض له ولكن ههنا أمران مكروهان له سبحانه وأحدهما أكره له من الآخر لأنه أعظم مفسدة فإن قعودهم مكروه له وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين فتأمل هذا لموضع فإن قلت فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه وهو الذي خرج عليه المؤمنون قلت قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غيرأهله فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله وليس كل محل يصلح لذلك ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته فإن قلت وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة قلت يأباه كمال ربوبيته وملكه وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويضاع ويوحد ويعبد ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم(1/456)
وتخصيصهم بفضله وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الإحاطة بها ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر
أهـ { شفاء العليل صـ 101 ـ صـ 103 }
قوله تعالى { وصل عليهم }
في بيان معنى الصلاة على النبي
وأصل هذه اللفظة في اللغة يرجع إلى معنيين
أحدهما الدعاء والتبريك
والثاني العبادة فمن الأول قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم التوبة 103 وقوله تعالى في حق المنافقين ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره التوبة 84 وقول النبي إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب فإن كان صائما فليصل فسر بهما قيل فليدع لهم بالبركة وقيل يصلي عندهم بدل أكله وقيل إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء
والدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة والعابد داع كما أن السائل داع وبهما فسر قوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم غافر 60 قيل أطيعوني أثبكم وقيل سلوني أعطكم وفسر بهما قوله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان البقرة 186
والصواب أن الدعاء يعم النوعين وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض سبأ 22 وقوله تعالى والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون النحل 20 وقوله تعالى قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم الفرقان 77(1/457)
والصحيح من القولين لولا أنكم تدعونه وتعبدونه أي أي شيء يعبأ بكم لولا عبادتكم إياه فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل وقال تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا الأعراف 55 56 وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه ورسله إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا الأنبياء 90 وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى ودعوى الاختلاف في مسمى الدعاء وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية هل هو منقول عن موضعه في اللغة فيكون حقيقة شرعية أو مجازا شرعيا
فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة وهو الدعاء والدعاء دعاء عبادة ودعاء مسألة والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة فهو في صلاة حقيقية لا مجازا ولا منقولة لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها كالدابة والرأس ونحوهما فهذا غايته تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه ولهذا لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي والله أعلم
فصل
هذه صلاة الآدمي وأما صلاة الله سبحانه على عبده فنوعان عامة وخاصة
أما العامة فهي صلاته على عباده المؤمنين قال تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته الأحزاب 43 ومنه دعاء النبي بالصلاة على آحاد المؤمنين كقوله اللهم صل على آل أبي أوفى وفي حديث آخر أن امرأة قالت له صل علي وعلى زوجي قال صلى الله عليك وعلى زوجك وسيأتي ذكر هذا الحديث وما شابهه إن شاء الله تعالى
النوع الثاني صلاته الخاصة على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد
فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال
أحدها أنها رحمته قال إسماعيل حدثنا نصر بن علي حدثنا محمد بن سواء عن جويبر عن الضحاك قال صلاة الله رحمته وصلاة الملائكة الدعاء // سنده ضعيف //(1/458)
وقال المبرد أصل الصلاة الرحم فهي من الله رحمة ومن الملائكة رقة واستدعاء للرحمة من الله وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين
والقول الثاني أن صلاة الله مغفرته قال إسماعيل ثنا محمد بن أبي بكر ثنا محمد بن سواء عن جويبر عن الضحاك هو الذي يصلي عليكم قال صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الدعاء // ضعيف جدا //
وهذا القول من جنس الذي قبله وهما ضعيفان لوجوه
أحدها أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته فقال تعالى وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون البقرة 157 فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى ذلك تغايرهما هذا أصل العطف وأما قولهم
وألفى قولها كذبا ومينا
فهو شاذ نادر لا يحمل عليه أفصح الكلام مع أن المين أخص من الكذب
الوجه الثاني أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين وأما رحمته فوسعت كل شيء فليست الصلاة مرادفة للرحمة لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمرتها ومقصودها وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن والرسول يفسر اللفظة بلازمها وجزء معناها كتفسير الريب بالشك والشك جزء مسمى الريب وتفسير المغفرة بالستر وهو جزء مسمى المغفرة وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان وهو لازم الرحمة ونظائر ذلك كثيرة قد ذكرناها في أصول التفسير
الوجه الثالث أنه لا خلاف في جواز الترحم على المؤمنين واختلف السلف والخلف في جواز الصلاة على الأنبياء على ثلاثة أقوال سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى فعلم أنهما ليسا بمترادفين
الوجه الرابع أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من أوجبها إذا قال اللهم ارحم محمدا وآل محمد وليس الأمر كذلك(1/459)
الوجه الخامس أنه لا يقال لمن رحم غيره ورق عليه فأطعمه أو سقاه أو كساه إنه صلى عليه ويقال إنه قد رحمه
الوجه السادس أن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه فيجد في قلبه له رحمة ولا يصلي عليه
الوجه السابع أن الصلاة لا بد فيها من كلام فهي ثناء من المصلي على من يصلي عليه وتنويه به وإشارة لمحاسنه ومناقبه وذكره
ذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة // سنده قابل للتحسن //
وقال إسماعيل في كتابه حدثنا نصر بن علي حدثنا خالد بن يزيد عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية إن الله وملائكته يصلون على النبي الأحزاب 56 قال صلاة الله عز وجل ثناؤه عليه وصلاة الملائكة عليه الدعاء
الوجه الثامن أن الله سبحانه فرق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعهما في فعل واحد فقال إن الله وملائكته يصلون على النبي وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة وإنما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه ولا يقال الصلاة لفظ مشترك ويجوز أن يستعمل في معنييه معا لأن في ذلك محاذير متعددة
أحدها أن الاشتراك خلاف الأصل بل لا يعلم انه وقع في اللغة من واضع واحد كما نص على ذلك أئمة اللغة منهم المبرد وغيره وإنما يقع وقوعا عارضا اتفاقيا بسبب تعدد الواضعين ثم تختلط اللغة فيقع الاشتراك
الثاني أن الأكثرين لا يجووزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز وما حكي عن
الشافعي رحمه الله من تجويزه ذلك فليس بصحيح عنه وإنما أخذ من قوله إذا أوصى لمواليه وله موال من فوق ومن أسفل تناول جميعهم فظن من ظن أن لفظ المولى مشترك بينهما وأنه عند التجرد يحمل عليهما وهذا ليس بصحيح فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة فالشافعي في ظاهر مذهبه وأحمد يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ وهو عنده عام متواطئ لا مشترك(1/460)
واما ما حكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال في مفاوضة جرت له في قوله أو لامستم النساء وقد قيل له قد يراد بالملامسة المجامعة قال هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا فهذا لا يصح عن الشافعي ولا هو من جنس المألوف من كلامه وإنما هذا من كلام بعض الفقهاء المتأخرين وقد ذكرنا على إبطال استعمال اللفظ المشترك في معنييه معا بضعة عشر دليلا في مسألة القرء في - كتاب التعليق على الأحكام -
فإذا كان معنى الصلاة هو الثناء على الرسول والعناية به وإظهار شرفه وفضله وحرمته كما هو المعروف من هذه اللفظة لم يكن لفظ الصلاة في الآية مشتركا محمولا على معنييه بل قد يكون مستعملا في معنى واحد وهذا هو الأصل وسنعود إلى هذه المسألة إن شاء الله تعالى في الكلام على تفسير قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي الأحزاب 56
الوجه التاسع أن الله سبحانه أمر بالصلاة عليه عقب إخباره بأنه وملائكته يصلون عليه والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته
يصلون على رسوله فصلوا أنتم عليه فأنتم أحق بأن تصلوا عليه وتسلموا تسليما لما نالكم ببركة رسالته ويمن سفارته من شرف الدنيا والآخرة ومن المعلوم أنه لو عبر عن هذا المعنى بالرحمة لم يحسن موقعه ولم يحسن النظم فينقض اللفظ والمعنى فإن التقدير يصير إلى أن الله وملائكته ترحم ويستغفرون لنبيه فادعوا أنتم له وسلموا وهذا ليس مراد الآية قطعا بل الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه فهي تتضمن الخبر والطلب وسمي هذا السؤال والدعاء منا نحن صلاة عليه لوجهين
أحدهما أنه يتضمن ثناء المصلي عليه والإشادة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة لذلك من الله تعالى فقد تضمنت الخبر والطلب(1/461)
والوجه الثاني أن ذلك سمي منا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به وضد هذا في لعنة أعدائه الشانئين لما جاء به فإنها تضاف إلى الله وتضاف إلى العبد كما قال تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون البقرة 159 فلعنة الله تعالى لهم تتضمن ذمه وإبعاده وبغضه لهم ولعنة العبد تتضمن سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك بمن هو أهل للعنته
وإذا ثبت هذا فمن المعلوم أنه لو كانت الصلاة هي
الرحمة لم يصح أن يقال لطالبها من الله مصليا وإنما يقال له مسترحما له كما يقال لطالب المغفرة مستغفرا له ولطالب العطف مستعطفا ونظائره ولهذا لا يقال لمن سأل الله المغفرة لغيره قد غفر له فهو غافر ولا لمن سأله العفو عنه قد عفا عنه وهنا قد سمي العبد مصليا فلو كانت الصلاة هي الرحمة لكان العبد راحما لمن صلى عليه وكان قد رحمه برحمة ومن رحم النبي مرة رحمه الله بها عشرا وهذا معلوم البطلان
فإن قيل ليس معنى صلاة العبد عليه رحمته وإنما معناها طلب الرحمة له من الله قيل هذا باطل من وجوه
أحدها أن طلب الرحمة مطلوب لكل مسلم وطلب الصلاة من الله يختص رسله صلوات الله وسلامه عليهم عند كثير من الناس كما سنذكره إن شاء الله تعالى
الثاني أنه لو سمي طالب الرحمة مصليا لسمي طالب المغفرة غافرا وطالب العفو عافيا وطالب الصفح صافحا ونحوه
فإن قيل فأنتم قد سميتم طالب الصلاة من الله مصليا
قيل إنما سمي مصليا لوجود حقيقة الصلاة منه فإن حقيقتها الثناء وإرادة الإكرام والتقريب وإعلاء المنزلة وهذا حاصل من صلاة العبد لكن العبد يريد ذلك من الله عز وجل والله سبحانه وتعالى يريد ذلك من نفسه أن يفعله برسوله(1/462)
وأما على الوجه الثاني وأنه سمي مصليا لطلبه ذلك من الله فلأن الصلاة نوع من الكلام الطلبي والخبري والإرادة وقد وجد ذلك من المصلي بخلاف الرحمة والمغفرة فإنها أفعال لا تحصل من الطالب وإنما تحصل من المطلوب منه والله أعلم
الوجه العاشر أنه قد ثبت عن النبي في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا وأنه سبحانه وتعالى قال له إنه من صلى عليك من أمتك مرة صليت عليه بها عشرا وهذا موافق للقاعدة المستقرة في الشريعة أن الجزاء من جنس العمل فصلاة الله على المصلي على رسوله جزاء لصلاته هو عليه ومعلوم أن صلاة العبد على رسول الله ليست هي رحمة من العبد لتكون صلاة الله عليه من جنسها وإنما هي ثناء على الرسول وإرادة من الله تعالى أن يعلي ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا والجزاء من جنس العمل فمن أثنى على رسول جزاه الله من جنس عمله بأن يثني عليه ويزيد تشريفه وتكريمه فصح ارتباط الجزاء بالعمل ومشاكلته له ومناسبته له كقوله من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة
ومن سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار // حديث صحيح // ومن صلى على النبي مرة صلى الله عليه بها عشرا ونظائره كثيرة
الوجه الحادي عشر أن أحدا لو قال عن رسول الله رحمه الله أو قال رسول الله رحمه الله بدل لبادرت الأمة إلى الإنكار عليه وسموه مبتدعا غير موقر للنبي ولا مصل عليه ولا مثن عليه بما يستحقه ولا يستحق أن يصلي الله عليه بذلك عشر صلوات ولو كانت الصلاة من الله الرحمة لم يمتنع شيء من ذلك(1/463)
الوجه الثاني عشر أن الله سبحانه وتعالى قال لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا النور 63 فأمر سبحانه ألا يدعى رسوله بما يدعو الناس بعضهم بعضا بل يقال يا رسول الله ولا يقال يا محمد وإنما كان يسميه باسمه وقت الخطاب الكفار وأما المسلمون فكانوا يخاطبونه يا رسول الله وإذا كان هذا في خطابه فهكذا في مغيبه لا ينبغي أن يجعل ما يدعى به له من جنس ما يدعو به بعضنا لبعض بل يدعى له بأشرف الدعاء وهو الصلاة عليه ومعلوم أن الرحمة يدعى بها لكل مسلم بل ولغير الآدمي من الحيوانات كما في دعاء الاستسقاء اللهم ارحم عبادك وبلادك وبهائمك
الوجه الثالث عشر أن هذه اللفظة لا تعرف في اللغة الأصلية بمعنى الرحمة أصلا والمعروف عند العرب من معناها
إنما هو الدعاء والتبريك والثناء قال
وإن ذكرت صلى عليها وزمزما ...
أي برك عليها ومدحها ولا تعرف العرب قط صلى عليه بمعنى الرحمة فالواجب حمل اللفظة على معناها المتعارف في اللغة
الوجه الرابع عشر أنه يسوغ بل يستحب لكل أحد أن يسأل الله تعالى أن يرحمه فيقول اللهم ارحمني
كما علم النبي الداعي أن يقول اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني فلما حفظها قال أما هذا فقد ملأ يديه من الخير
ومعلوم أنه لا يسوغ لأحد أن يقول اللهم صل علي بل الداعي بهذا معتد في دعائه والله لا يحب المعتدين بخلاف سؤال الرحمة فإن الله تعالى يحب أن يسأله عبده مغفرته ورحمته فعلم أنه ليس معناهما واحدا
الوجه الخامس عشر أن أكثر المواضع التي تستعمل فيها الرحمة لا يحسن أن تقع فيها الصلاة كقوله تعالى ورحمتي وسعت كل شيء الأعراف 156
وقوله إن رحمتي سبقت غضبي
وقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين الأعراف 56
وقوله وكان بالمؤمنين رحيما الأحزاب 43
وقوله إنه بهم رؤوف رحيم التوبة 117
وقول النبي لله ارحم بعباده من الوالدة بولدها
وقوله ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء // الحديث صحيح //
وقوله من لا يرحم لا يرحم(1/464)
وقوله لا تنزع الرحمة إلا من شقي // سنده حسن //
وقوله والشاة إن رحمتها رحمك الله // إسناده صحيح //
فمواضع استعمال الرحمة في حق الله وفي حق العباد لا يحسن أن تقع الصلاة في كثير منها بل في أكثرها فلا يصح تفسير الصلاة بالرحمة والله أعلم
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الله وملائكته يصلون على النبي قال يباركون عليه وهذا لا ينافي تفسيرها بالثناء وإرادة التكريم والتعظيم فإن التبريك من الله يتضمن ذلك ولهذا قرن بين الصلاة عليه والتبريك عليه وقالت الملائكة لإبراهيم رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت هود 73
وقال المسيح وجعلني مباركا أينما كنت مريم 31
قال غير واحد من السلف معلما للخير أينما كنت وهذا جزء المسمى فالمبارك كثير الخير في نفسه الذي يحصله لغيره تعليما وإقدارا ونصحا وإرادة واجتهادا ولهذا يكون العبد مباركا لأن الله بارك فيه وجعله كذلك والله تعالى متبارك لأن البركة كلها منه فعبده مبارك وهو المتبارك تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الفرقان 1 وقوله تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الملك 1 وسنعود إلى هذا المعنى عن قريب إن شاء الله تعالى
وقد رد طائفة من الناس تفسير الصلاة من الله بالرحمة بأن قال الرحمة معناها رقة الطبع وهي مستحيلة في حق الله سبحانه وتعالى كما أن الدعاء منه سبحانه مستحيل وهذا الذي
قاله هذا عرق عرق جهمي ينضح من قلبه على لسانه وحقيقته إنكار رحمة الله جملة وكان جهم يخرج إلى الجذمي ويقول أرحم الراحمين يفعل هذا إنكارا لرحمته سبحانه(1/465)
وهذا الذي ظنه هذا القائل هو شبهة منكري صفات الرب سبحانه وتعالى فإنهم قالوا الإرادة حركة النفس لجلب ما ينفعها ودفع ما يضرها والرب تعالى يتعالى عن ذلك فلا إرادة له والغضب غليان دم القلب طلبا للانتقام والرب منزه عن ذلك فلا غضب له وسلكوا هذا المسلك الباطل في حياته وكلامه وسائر صفاته وهو من أبطل الباطل فإنه أخذ في مسمى الصفة خصائص المخلوق ثم نفاها جملة عن الخالق وهذا في غاية التلبيس والإضلال فإن الخاصة التي أخذها في الصفة لم يثبت لها لذاتها وإنما يثبت لها بإضافتها إلى المخلوق الممكن ومعلوم أن نفي خصائص صفات المخلوقين عن الخالق لا يقتضي نفي أصل الصفة عنه سبحانه ولا إثبات أصل الصفة له يقتضي إثبات خصائص المخلوق له كما أن ما نفي عن صفات الرب تعالى من النقائص والتشبيه لا يقتضي نفيه عن صفة المخلوق ولا ما ثبت لها من الوجوب والقدم والكمال يقتضي ثبوته للمخلوق ولا إطلاق الصفة على الخالق والمخلوق وهذا مثل الحياة والعلم فإن حياة العبد تعرض لها الآفات المضادة لها من المرض والنوم والموت وكذلك علمه يعرض له النسيان والجهل المضاد له وهذا محال في حياة الرب وعلمه فمن نفى علم الرب وحياته لما يعرض فيهما للمخلوق فقد أبطل وهو نظير نفي من نفى رحمة الرب وعلمه فمن نفى رحمة الرب عنه لما يعرض في رحمة المخلوق من رقة
الطبع وتوهم المتوهم أنه لا تعقل رحمة إلا هكذا نظير توهم المتوهم أنه لا يعقل علم ولا حياة ولا إرادة إلا مع خصائص المخلوق(1/466)
وهذا الغلط منشؤه إنما هو توهم صفة المخلوق المقيدة به أولا وتوهم أن إثباتها لله هو مع هذا القيد وهذان وهمان باطلان فإن الصفة الثابتة لله مضافة إليه لا يتوهم فيها شيء من خصائص المخلوقين لا في لفظها ولا في ثبوت معناها وكل من نفى عن الرب تعالى صفة من صفاته لهذا الخيال الباطل لزمه نفي جميع صفات كماله لأنه لا يعقل منها إلا صفة المخلوق بل ويلزمه نفي ذاته لأنه لا يعقل من الذوات إلا الذوات المخلوقة
ومعلوم أن الرب سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء منها وهذا الباطل قد التزمه غلاة المعطلة وكلما أوغل النافي في نفيه كان قوله أشد تناقضا وأظهر بطلانا ولا يسلم على محك العقل الصحيح الذي لا يكذب إلا ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كما قال تعالى سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين الصافات 159 فنزه سبحانه وتعالى عما يصفه به كل أحد إلا المخلصين من عباده وهم الرسل ومن تبعهم كما قال في الآية الأخرى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين الصافات 180 182 فنزه نفسه عما يصفه به الواصفون وسلم على المرسلين لسلامة ما وصفوه به من كل نقص وعيب وحمد نفسه إذ هو الموصوف بصفات الكمال التي يستحق لأجلها الحمد ومنزه عن كل نقص ينافي كمال حمده
أهـ { جلاء الأفهام صـ 155 ـ صـ 170 }
قوله تعالى {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون }(1/467)
فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره لأنهم ليسوا أهلا له فالمحل غير صالح ولا قابل فإن صلاحية المحل بشيئين حسن فهم وحسن قصد وهؤلاء قلوبهم لا تفقه وقصودهم سيئة وقد صرح سبحانه بهذا في قوله ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به والمؤمنون لم يحصل لهم ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص وهو الكبر والتولي والإعراض فالأول مانع من الفهم والثاني مانع من الإنقياد والإذعان فإفهام سيئة وقصود ردية وهذه نسخة الضلال وعلم الشقاء كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح وقصد صالح والله المستعان وتأمل قوله سبحانه ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو عادة عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول فلم ينلهم الإقبال والإذعان فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه فلا يمكنه من الإقبال عليه ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبة بأن جعله داعيا إلى كل معصية فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها صغيرها(1/468)
وكبيرها وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق فمن عقاب السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فإن قيل فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى فإنى يصرفون وأنى يؤفكون وقال فما لهم عن التذكرة معرضين فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم قيل هم دائرون بين عدله وحجته عليهم فمكنهم وفتح لهم الباب ونهج لهم الطريق وهيأ لهم الأسباب فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ودعاهم على السنة رسلة وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر والنافع والضار وأسباب الردي وأسباب الفلاح وجعل لهم أسماعا وأبصارا فآثروا الهوى على التقوى واستحبوا العمى على الهدى وقالوا معصيتك آثر عندنا من طاعتك والشرك أحب إلينا من توحيدك وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم وانصرفت عن طاعته ومحبته فهذا عدله فيهم وتلك حجته عليهم فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياره فسده عليهم اضطرارا فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوه ومكنهم فيما ارتضوه وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون فلا أقبح من فعلهم ولا أحسن من فعله ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ولأنشأهم على غير هذه النشأة ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل والنور والظلمة والنافع والضار والطيب والخبيث والملائكة والشياطين والشاء والذياب ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها ومشيئتها وكل ذلك جار على وفق حكمته وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما أن هو إلا كنقرة عصفور من البحر
أهـ { شفاء العليل صـ92 }
سورة يونس(1/469)
قوله تعالى { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون }
شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر فيغتر به ويظن أنه قادر عليها مالك لها فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة فتصبح كأن لم تكن قبل فيخيب ظنه وتصبح يداه صفرا منها فكذا حال الدنيا والواثق بها سواء وهذا من أبلغ التشبيه والقياس ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال والله يدعو إلى دار السلام فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا فعم بالدعوة إليها وخص بالهداية من يشاء فذاك عدله وهذا فضله
أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 182 ـ صـ 183 }
فإن قيل فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار يونس 31 وبين قوله في سورة سبأ قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله سبأ 24(1/470)
قيل هذا من أدق هذه المواضع وأغمضها وألطفها فرقا فتدبر السياق تجده نقيضا لما وقع فإن الآيات التي في يونس سيقت مساق الإحتجاج عليهم بما أقروا به ولم يمكنهم إنكاره من كون الرب تعالى هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم ومدبر أمورهم وغيرها ومخرج الحي من الميت والميت من الحي فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الإحتجاج به عليهم إن فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له شركاء لا يملكون شيئا من هذا ولا يستطيعون فعل شيء منه ولهذا قال بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى فسيقولون الله يونس 31 أي لا بد أنهم يقرون بذلك ولا يجحدونه فلا بد أن يكون المذكور مما يقرون به
والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها بالحس ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى تنتهي إليهم ولم يصل علمهم إلى هذا فأفردت لفظ السماء هنا فإنه لا يمكنهم إنكار مجيء الرزق منها لا سيما والرزق ههنا إن كان هو المطر فمجيئه من السماء التي هي السحاب فإنه يسمى سماء لعلوه وقد أخبر سبحانه أنه بسط السحاب في السماء بقوله الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء الروم 48 والسحاب إنما هو مبسوط في جهة العلو لا في نفس الفلك وهذا معلوم بالحس فلا يلتفت إلى غيره فلما انتظم هذا بذكر الإحتجاج عليهم لم يصلح فيه إلا إفراد السماء لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح ولا بد من الوحي الذي به الحياة الحقيقية الأبدية وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية
فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف والموارد الربانية والتنزلات الإلهية وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرزق ولكن القوم لم يكونوا مقرين به فخوطبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم بحيث لا يمكنهم إنكاره(1/471)
وأما الآية التي في سورة سبأ فلم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماوات ولهذا أمر رسوله بأن يتولى الجواب فيها ولم يذكر عنهم أنهم المجيبون المقرون فقال قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله ولم يقل سيقولون الله فأمر تعالى نبيه أن يجيب بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السماوات السبع وأما الأرض فلم يدع السياق إلى جمعها في واحدة من الإثنين إذ يقر به كل أحد مؤمن وكافر وبر وفاجر إفراد الرياح وجمعها
ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة فحيث كانت في سياق الرحمة أتت مجموعة وحيث وقعت في سياق العذاب أتت مفردة وسر ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهاب والمنافع وإذا هاجت منها ريح أنشأ لها ما يقابلها ما يكسر سورتها ويصدم حدتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويرد سورتها فكانت في الرحمة ريحا
وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد وحمام واحد لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها حتى تنتهي إلى حيث أمرت لا يرد سورتها ولا يكسر شرتها فتمتثل ما أمرت به وتصيب ما أرسلت إليه ولهذا وصف سبحانه الريح التي أرسلها على عاد بأنها عقيم فقال أرسلنا عليهم الريح العقيم الذاريات 41 وهي التي لا تلقح ولا خير فيها والتي تعقم ما مرت عليه(1/472)
ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله في سورة يونس هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف يونس 22 فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد سيرها فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب دفعا لتوهم أن تكون ريحا عاصفة بل هي مما يفرح بها لطيبها فلينزه الفطن بصيرته في هذه الرياض المونقة المعجبة التي ترقص القلوب لها فرحا ويتغذى بها عن الطعام والشراب والحمد لله الفتاح العليم
فمثل هذا الفصل يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر فإنه يشرف بك على أسرار عجائب تجتنيها من كلام الله والله الموفق للصواب
أهـ [ بدائع الفوائد حـ1 صـ 117 ـ صـ 119 }
قال الله تعالى بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون
تصدير الباب بهذه الآية في غاية الحسن فإن الله تعالى أمر عباده بالفرح بفضله ورحمته وذلك تبع للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة فإن من فرح بما يصل إليه من جواد كريم محسن بر يكون فرحه بمن أوصل ذلك إليه أولى وأحرى
ونذكر ما في هذه الآية من المعنى ثم نشرح كلام المصنف
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم فضل الله الإسلام ورحمته القرآن فجعلوا رحمته أخص من فضله فإن فضله الخاص عام على أهل الإسلام ورحمته بتعليم كتابه لبعضهم دون بعض فجعلهم مسلمين بفضله وأنزل إليهم كتابه برحمته قال تعالى وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فضل الله القرآن ورحمته أن جعلنا من أهله
قلت يريد بذلك أن ههنا أمرين
أحدهما الفضل في نفسه والثاني استعداد المحل لقبوله كالغيث يقع على الأرض القابلة للنبات فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له والله أعلم(1/473)
والفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب ونيل المشتهى فيتولد من إدراكه حالة تسمى الفرح والسرور كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب فإذا فقده تولد من فقده حالة تسمى الحزن والغم وذكر سبحانه الأمر بالفرح بفضله وبرحمته عقيب قوله يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة فأخبر سبحانه أن ما آتى عباده من الموعظة التي هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب وشفاء الصدور المتضمن لعافيتها من داء الجهل والظلمة والغي والسفه وهو أشد ألما لها من أدواء البدن ولكنها لما ألفت هذه الأدواء لم تحس بألمها وإنما يقوى إحساسها بها عند المفارقة للدنيا فهناك يحضرها كل مؤلم محزن وما آتاها من ربها الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه وحياة الروح به والرحمة التي تجلب لها كل خير ولذة وتدفع عنها كل شر ومؤلم
فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها أي هذا هو الذي ينبغي أن يفرح به ومن فرح به فقد فرح بأجل مفروح به لا ما يجمع أهل الدنيا منها فإنه ليس بموضع للفرح لأنه عرضة للآفات ووشيك الزوال ووخيم العاقبة وهو طيف خيال زار الصب في المنام ثم انقضى المنام وولى الطيف وأعقب مزاره الهجران
وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين مطلق ومقيد
فالمطلق جاء في الذم كقوله تعالى لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وقوله إنه لفرح فخور
والمقيد نوعان أيضا مقيد بالدنيا ينسي صاحبه فضل الله ومنته فهو مذموم كقوله حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون
والثاني مقيد بفضل الله وبرحمته وهو نوعان أيضا فضل ورحمة بالسبب وفضل بالمسبب فالأول كقوله قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون والثاني كقوله فرحين بما آتاهم الله من فضله(1/474)
فالفرح بالله وبرسوله وبالإيمان وبالسنة وبالعلم وبالقرآن من أعلى مقامات العارفين قال الله تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون
وقال والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك
فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له وإيثاره له على غيره فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته له ورغبته فيه فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله له ولا يحزنه فواته
فالفرح تابع للمحبة والرغبة
والفرق بينه وبين الاستبشار أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله والاستبشار يكون به قبل حصوله إذا كان على ثقة من حصوله ولهذا قال تعالى فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم
والفرح صفة كمال ولهذا يوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها كفرحه بتوبة التائب أعظم من فرحة الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها واليأس من حصولها
والمقصود أن الفرح أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته والفرح والسرور نعيمه والهم والحزن عذابه والفرح بالشيء فوق الرضى به فإن الرضى
طمأنينة وسكون وانشراح والفرح لذة وبهجة وسرور فكل فرح راض وليس كل راض فرحا ولهذا كان الفرح ضد الحزن والرضى ضد السخط والحزن يؤلم صاحبه والسخط لا يؤلمه إلا إن كان مع العجز عن الانتقام والله أعلم
أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 97 ـ صـ 99 }
قوله تعالى { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوء لقومكما بمصر بيوتا } وقوله
تعالى { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين }(1/475)
هو من أحسن النظم وأبدعه فإنه ثنى أولا إذ كان موسى وهارون هما الرسولان المطاعان ويجب على بنى إسرائيل طاعة كل واحد منهما سواء وإذا تبوءا البيوت لقومهما فهم تبع لهما ثم جمع الضمير فقال وأقيموا الصلاة لأن إقامتها فرض على الجميع ثم وحده في قوله وبشر المؤمنين أن موسى هو الأصل في الرسالة وأخوه ردءا ووزيرا وكما أرسلا برسالة واحدة كانا رسولا واحدا كقوله تعالى إني رسول رب العالمين فهذا الرسول هو الذي قيل له وبشر المؤمنين
أهـ { بدائع الفوائد حـ4 صـ 10 ـ صـ 11 }
سورة هود
قوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }
الخبت في أصل اللغة : المكان المنخفض من الأرض وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ المخبتين وقالا : هم المتواضعون وقال مجاهد : المخبت المطمئن إلى الله عز وجل قال : والخبت : المكان المطمئن من الأرض وقال الأخفش : الخاشعون وقال إبراهيم النخعي : المصلون المخلصون وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا
وهذه الأقوال تدور على معنيين : التواضع والسكون إلى الله عز وجل ولذلك عدي بإلى تضمينا لمعنى الطمأنينة والإنابة والسكون إلى الله تعالى(1/476)
قال صاحب المنازل : هو من أول مقامات الطمأنينة يعني بمقامات الطمأنينة كالسكينة واليقين والثقة بالله ونحوها فالإخبات : مقدمتها ومبدؤها قال : وهو ورود المأمن من الرجوع والتردد لما كان الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد الذي هو نوع غفلة وإعراض والسالك مسافر إلى ربه سائر إليه على مدى أنفاسه لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفسه يصحبه شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة فى أول مناهله فيرويه مورده ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر فإذا ورد ذلك الماء : زال عنه التردد وخاطر الرجوع كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره وجد في السير
قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : أن تستغرق العصمة الشهوة وتستدرك الإرادة الغفلة ويستهوي الطلب السلوة
المريد السالك : تعرض له غفلة عن مراده تضعف إرادته وشهوة تعارض إرادته فتصده عن مراده ورجوع عن مراده وسلوة عنه
فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة فتستغرق عصمته شهوته
والعصمة هي الحماية والحفظ و الشهوة الميل إلى مطالب النفس و الاستغراق للشيء الاحتواء عليه والإحاطة به
يقول : تغلب عصمته شهوته وتقهرها وتستوفي جميع أجزائها فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة : فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة ونزوله أول منازلها وخلاصه في هذا المنزل من تردد الخواطر بين الإقبال والإدبار والرجوع والعزم إلى الاستقامة والعزم الجازم والجد في السير وذلك علامة السكينة
وتستدرك إرادته غفلته و الإرادة عند القوم : هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله و المريد هو الذي خرج من وطن طبعه ونفسه وأخذ في السفر إلى الله والدار الآخرة فإذا نزل في منزل الإخبات أحاطت إرادته بغفلته فاستدركها واستدرك بها فارطها(1/477)
وأما استهواء طلبه لسلوته فهو قهر محبته لسلوته وغلبتها له بحيث تهوي السلوة وتسقط كالذي يهوى في بئر وهذا علامة المحبة الصادقة : أن تقهر فيه وارد السلوة وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدا
فالحاصل : أن عصمته وحمايته : تقهر شهوته وإرادته تقهر غفلته ومحبته تقهر سلوته
قال : الدرجة الثانية : أن لا ينقض إرادته سبب ولا يوحش قلبه عارض ولا يقطع عليه الطريق فتنة
هذه ثلاثة أمور أخرى تعرض لصادق الإرادة : سبب يعرض له ينقض عزمه وإرادته ووحشة تعرض له في طريق طلبه ولا سيما عند تفرده وفتنة تخرج عليه تقصد قطع الطريق عليه
فإذا تمكن من منزل الإخبات اندفعت عنه هذه الآفات لأن إرادته إذا قويت وجد به السير : لم ينقضها سبب من أسباب التخلف و النقض هو الرجوع عن إرادته والعدول عن جهة سفره
ولا يوحش أنسه بالله في طريقه عارض من العوارض الشواغل للقلب والجواذب له عمن هو متوجه إليه
و العارض هو المخالف كالشيء الذي يعترضك في طريقك فيجيء في عرضها ومن أقوى هذه العوارض : عارض وحشة التفرد فلا يلتفت إليه كما قال بعض الصادقين : انفرادك في طريق طلبك : دليل على صدق الطلب وقال آخر : لا تستوحش فى طريقك من قلة السالكين ولا تغتر بكثرة الهالكين
وأما الفتنة التى تقطع عليه الطريق : فهي الواردات التي ترد على القلوب تمنعها من مطالعة الحق وقصده فإذا تمكن من منزل الإخبات وصحة الإرادة والطلب : لم يطمع فيه عارض الفتنة
وهذه العزائم لا تصح إلا لمن أشرق على قلبه أنوار آثار الأسماء والصفات وتجلت عليه معانيها وكافح قلبه حقيقة اليقين بها
وقد قيل : من أخذ العلم من عين العلم ثبت ومن أخذه من جريانه أخذته أمواج الشبه ومالت به العبارات واختلفت عليه الأقوال
قال : الدرجة الثالثة : أن يستوي عنده المدح والذم وتدوم لائمته لنفسه ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته(1/478)
أعلم أنه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها : ارتفعت همته وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم فلا يفرح بمدح الناس ولا يحزن لذمهم وهذا وصف من خرج عن حظ نفسه وتأهل للفناء في عبودية ربه وصار قلبه مطرحا لأشعة أنوار الأسماء والصفات وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه والوقوف عند مدح الناس وذمهم : علامة انقطاع القلب وخلوه من الله وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه
أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 3 ـ صـ 7 }
قوله تعالى مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون فإنه سبحانه ذكر الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء وسمعه أصم عن سماع الأصوات والفريق الآخر بصير القلب سميعه كبصير العين وسميع الأذن فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله هل يستويان مثلا
أهـ { إلام الموقعين حـ1 صـ 183 }
قوله تعالى { ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما فى أنفسهم }(1/479)
أن أتباع الرسل الذين صدقوهم وآثروا الله والدار الآخرة على قومهم وأصحابهم قد أودع الله قلوبهم سرا من أسرار معرفته ومحبته والإيمان به خفي على أعداء الرسل فنظروا إلى ظواهرهم وعموا عن بواطنهم فازدروهم واحتقروهم وقالوا للرسل اطرد هؤلاء عنك حتى نأتيك ونسمع منك وقالوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا فقال نوح عليه السلام لقومه ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين قال الزجاج المعنى إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعوني في بادي الرأي وظاهره فليس على أن أطلع على ما في أنفسهم فإذا رأيت من يوحد الله عملت على ظاهره ورددت علم ما في نفوسهم إلى الله وهذا معنى حسن
والذي يظهر من الآية أن الله يعلم ما في أنفسهم إذ أهلهم لقبول دينه وتوحيده وتصديق رسله والله سبحانه وتعالى عليم حكيم يضع العطاء في مواضعه وتكون هذه الآية مثل قوله تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين فإنهم أنكروا أن يكون الله سبحانه أهلهم للهدى والحق وحرمه رؤساء الكفار وأهل العزة والثروة منهم كأنهم استدلوا بعطاء الدنيا على عطاء الآخرة فأخبر الله سبحانه أنه أعلم بمن يؤهله لذلك لسر عنده من معرفة قدر النعمة
ورؤيتها من مجرد فضل المنعم ومحبته وشكره عليها وليس كل أحد عنده هذا السر فلا يؤهل كل أحد لهذا العطاء
أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 106 }
قوله تعالى {إنى توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم }(1/480)
فأخبر عن عموم قدرته تعالى وأن الخلق كلهم تحت تسخيره وقدرته وانه آخذ بنواصيهم فلا محيص لهم عن نفوذ مشيئته وقدرته فيهم ثم عقب ذلك بالأخبار عن تصرفه فيهم وأنه بالعدل لا بالظلم وبالإحسان لا بالإساءة وبالصلاح لا بالفساد فهو يأمرهم وينهاهم إحسانا إليهم وحماية وصيانة لهم ولا حاجة إليهم ولا بخلا عليهم بل جودا وكرما ولطفا وبرا ويثيبهم إحسانا وتفضلا ورحمة لا لمعاوضة واستحقاق منهم ودين واجب لهم يستحقونه عليه ويعاقبهم عدلا وحكمة لا تشفيا ولا مخافة ولا ظلما كما يعاقب الملوك وغيرهم بل هو على الصراط المستقيم وهو صراط العدل والإحسان في أمره ونهيه وثوابه وعقابه * فتأمل ألفاظ هذه الآية وما جمعته من عموم القدرة وكمال الملك ومن تمام الحكمة والعدل والإحسان وما تضمنته من الرد على الطائفتين فأنها من كنوز القرآن ولقد كفت وشفت لمن فتح عليه بفهمها فكونه تعالى على صراط مستقيم ينفى ظلمه للعباد وتكليفه إياهم ما لا يطيقون وينفى العيب من أفعاله وشرعه ويثبت لها غاية الحكمة والسداد ردا على منكري ذلك وكون كل دابة تحت قبضته وقدرته وهو آخذ بناصيتها ينبغي أن لا يقع في ملكه من أحد المخلوقات شيء بغير مشيئته وقدرته وأن من ناصيته بيد الله وفي قبضته لا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه ولا يفعل إلا بأقداره ولا يشاء إلا بمشيئته تعالى ردا على منكري ذلك من القدرية فالطائفتان ما وفوا الآية معناها ولا قدروها حق قدرها فهو سبحانه على صراط مستقيم في عطائه ومنعه وهدايته واضلاله وفي نفعه وضره وعافيته وبلائه واغناه وإفقاره وإعزازه وإذلاله وانعامه وانتقامه وثوابه وعقابه وإحيائه وإماتته وأمره ونهيه وتحليله وتحريمه وفي كل ما يخلق وكل ما يأمر به وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 2 صـ 84 ـ صـ 85 }
سورة يوسف(1/481)
قوله تعالى { وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين }
وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر
أحدها قولهن امرأة العزيز تراود فتاها ولم يسموها باسمها بل ذكروها بالوصف الذي ينادى عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها
الثاني أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها
الثالث أن الذي تراوده مملوك لا حر وذلك أبلغ في القبح الرابع أنه فتاها الذي هو في بيتها وتحت كنفها فحكمه حكم أهل البيت بخلاف من طلب ذلك من الأجنبي البعيد
الخامس أنها هي المراودة الطالبة
السادس أنها أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها
السابع أن في ضمن هذا أنه أعف منها وأبر وأوفى حيث كانت هي المراودة الطالبة وهو الممتنع عفافا وكرما وحياء وهذا غاية الذم لها
الثامن أنهن أتين بفعل المرادودة بصيغة المستقبل الدالة على الإستمرار والوقوع حالا واستقبالا وأن هذا شأنها ولم يقلن راودت فتاها وفرق بين قولك فلان أضاف ضيفا وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام ويحمل الكل فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته
التاسع قولهن إنا لنراها في ضلال مبين أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الإستقباح فنسبن الإستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه ولا يحسن معاونتها عليه(1/482)
العاشر أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط والطلب المفرط فلم تقتصد في حبها ولا في طلبها أما العشق فقولهن قد شغفها حبا أي وصل حبه إلى شغاف قلبها وأما الطلب المفرط فقولهن تراود فتاها والمراودة الطلب مرة بعد مرة فنسبوها إلى شدة العشق وشدة الحرص على الفاحشة فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه فهيأت لهن متكأ ثم أرسلت إليهن فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن وقيل إنها جملته وألبسته أحسن ما تقدر عليه وأخرجته عليهن فجأة فلم يرعهن إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة فراعهن ذلك المنظر البهي وفي أيديهن مدى يقطعن بها ما يأكلنه فدهشن حتى قطعن أيديهن وهن لا يشعرن وقد قيل إنهن أبن أيديهن والظاهر خلاف ذلك وإنما تقطيعهن أيديهن جرحها وشقها بالمدى لدهشهن بما رأين
فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي وكانت هذه في النساء غاية في المكر
أهـ { إاثة اللهفان صـ383 }
قوله تعالى { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } يوسف 4 وإنما عبدوا مسمياتها
والجواب : أنه كما قلتم إنما عبدوا المسميات ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها وليس لها من الألوهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها وهذا كمن سمى قشور البصل لحما وأكلها فيقال ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه وكمن سمى التراب خبزا وأكله يقال ما أكلت إلا اسم الخبز بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه وما الحكمة ثم إلا مجرد الإسم فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى
أهـ { بدائع الفوائد حـ 1 صـ19 }
قوله تعالى { وما أبرىء نفسى }
فإن قيل فكيف قال وقت ظهور براءته وما أبرىء نفسى }(1/483)
قيل هذا قد قاله جماعة من المفسرين وخالفهم في ذلك آخرون أجل منهم وقالوا إن هذا من قول امرأة العزيز لا من قول يوسف عليه السلام والصواب معهم لوجوه أحدها أنه متصل بكلام المرأة وهو قولها الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرىء نفسي ومن جعله من قوله فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل عليه في اللفظ بوجه والقول في مثل هذا لا يحذف لئلا يوقع في اللبس فإن غايته أن يحتمل الأمرين فالكلام الأول أولى به قطعا الثاني أن يوسف عليه السلام لم يكن حاضرا وقت مقالتها هذه قبل كان في السجن لما تكلمت بقولها الآن حصحص الحق والسياق صريح في ذلك فإنه لما أرسل الملك إليه يدعوه قال للرسول ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن فأرسل إليهم الملك وأحضرهن وسألهن وفيهن امرأته فشهدن ببراءته ونزاهته في غيبته ولم يمكنهن إلا قول الحق فقال النسوة حاش لله ما علمنا عليه من سوء وقالت امرأة العزيز أنا روادته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فإن قيل لكن قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين الأحسن أن يكون من كلام يوسف عليه السلام أي إنما كان تأخيري عن الحضور مع رسوله ليعلم الملك أني لم أخنه في امرأته في حال غيبته وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ثم إنه قال وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي إن ربي غفور رحيم وهذا من تمام معرفته بربه ونفسه فإنه لما أظهر براءته ونزاهته مما قذف به أخبر عن حال نفسه وأنه لا يزكيها ولا يبرئها فإنها أمارة بالسوء لكن رحمة ربه وفضله هو الذي عصمه فرد الأمر إلى الله بعد أن أظهر برءته قيل هذا وإن كان قد قاله طائفة فالصواب أنه من تمام كلامها فإن الضمائر كلها في نسق واحد يدل عليه وهو قول النسوة ما علمنا عليه من سوء وقول امرأة(1/484)
العزيز أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فهذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر ثم اتصل بها قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب فهذا هو
المذكور أولا بعينه فلا شيء يفصل الكلام عن نظمه ويضمر فيه قول لا دليل عليه فإن قيل فما معنى قولها ليعلم أني لم أخنه بالغيب قيل هذا من تمام الاعتذار قرنت الاعتذار بالاعتراف فقالت ذلك أي قولي هذا وإقراري ببراءته ليعلم أني لم أخنه بالكذب عليه في غيبته وإن خنته في وجهه في أول الأمر فالآن يعلم أني لم أخنه في غيبته ثم اعتذرت عن نفسها بقولها وما أبرىء نفسى ثم ذكرت السبب الذي لأجله لم تبرىء نفسها وهي أن النفس أمارة بالسوء فتأمل ما أعجب أخر هذه المرأة أقرت بالحق واعتذرت عن محبوبها ثم اعتذرت عن نفسها ثم ذكرت السبب الحامل لها على ما فعلت ثم ختمت ذلك بالطمع في مغفرة الله ورحمته وأنه إن لم يرحم عبده وإلا فهو عرضة للشر فوازن بين هذا وبين تقدير كون هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام لفظا ومعنى وتأمل ما بين التقديرين من التفاوت ولا يستبعد أن تقول المرأة هذا وهي على دين الشرك فإن القوم كانوا يقرون بالرب سبحانه وتعالى وبحقه وإن أشركوا معه غيره ولا تنس قول سيدها لها في أول الحال واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين
أهـ { روضة المحبين صـ 342 ـ صـ 345 }
قوله تعالى عن يوسف نبيه أنه قال
أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستلام للرب وإظهار الافتقار إليه والبراءة من موالاة غيره سبحانه وكون الوفاة على الإسلام اجل غايات العبد وان ذلك بيد الله لا بيد العبد والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء
أهـ { الفوائد صـ 201 }
قوله تعالى {قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني }(1/485)
قال الفراء وجماعة ومن اتبعني معطوف على الضمير في ادعو يعني ومن اتبعني يدعو الى الله كما ادعو وهذا قول الكلبي قال حق على كل من اتبعه ان يدعو الى ما دعا اليه ويذكر بالقرآن والموعظة ويقوى هذا القول من وجوه كثيرة قال ابن الانباري ويجوز ان يتم الكلام عند قوله الى الله ثم يبتديء بقوله على بصيرة انا ومن اتبعني فيكون الكلام على قوله جملتين اخبر في اولاهما انه يدعو الى الله وفي الثانية بانه من اتباعه على بصيرة والقولان متلازمان فلا يكون الرجل من اتباعه حقا حتى يدعو الى ما دعا اليه وقول الفراء احسن واقرب الى الفصاحة والبلاغة واذا كانت الدعوة الى الله اشرف مقامات العبد واجلها وافضلها فهي لا تحصل الا بالعلم الذي يدعو به واليه بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم الى حد يصل اليه السعي ويكفي هذا في شرف العلم ان صاحبه يحوز به هذا المقام والله يؤتي فضله من يشاء
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 162 }
سورة الرعد
قوله تعالى { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد }الرعد 8
قال ابن عباس وما تغيض الأرحام ما تنقص عن تسعة أشهر وما تزداد وما تزيد عليها ووافقه على هذا أصحابه كمجاهد وسعيد ابن جبير وقال مجاهد أيضا إذا حاضت المرأة على ولدها كان ذلك نقصانا من الولد وما تزداد قال إذا زادت على تسعة أشهر كان ذلك تماما لما نقص من ولدها وقال أيضا الغيض ما رأت الحامل من الدم في حملها وهو نقصان من الولد والزيادة ما زاد على التسمة أشهر وهو تمام النقصان
وقال الحسن ما تغيض الأرحام ما كان من سقط وما تزداد المرأة تلد لعشرة أشهر وقال عكرمة تغيض الأرحام الحيض بعد الحمل فكل يوم رأت فيه الدم حاملا ازداد به في الأيام طاهرا فما حاضت يوما إلا ازدادت في الحمل يوما
وقال قتادة الغيض السقط وما تزداد فوق التسعة أشهر(1/486)
وقال سعيد بن جبير إذا رأت المرأة الدم على الحمل فهو الغيض للولد فهو نقصان في غذاء الولد وزيادة في الحمل تغيض وتزداد فعلان متعديان مفعولهما محذوف وهو العائد على ما الموصولة والغيض النقصان ومنه وغيض الماء هود 44 وضده الزياده والتحقيق في معنى الآية أنه يعلم مدة الحمل وما يعرض فيها من الزيادة والنقصان فهو العالم بذلك دونكم كما هو العالم بما تحمل كل أنثى هل هو ذكر أو أنثى
وهذا أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله كما في الصحيح عنه مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله لا يعلم متى تجيء الساعة إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يجيء الغيث إلا الله ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله
فهو سبحانه المنفرد بعلم ما في الرحم وعلم وقت إقامته فيه وما يزيد من بدنه وما ينقص وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه كالسقط والتام ورؤية الدم وانقطاعه والمقصود ذكر مدة إقامة الحمل في البطن وما يتصل بها من زيادة ونقصان
أهـ { تحفة المودود صـ 89 }
قوله تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال }(1/487)
شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات وشبه القلوب بالأودية فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير فسالت أودية بقدرها واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتمل غثاء وزبدا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فيتكدر بها شاربه وهي من تمام نفع الدواء فإنه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يشاركها وهكذا يضرب الله الحق والباطل ثم ذكر المثل الناري فقال ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاء فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يستقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم كذلك يستقر في قرار القبل وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما و يعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما والله الموفق
أهـ { إلام الموقعين حـ 2 صـ 181 ـ صـ 182 }(1/488)
شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي انزله من السماء لما يحصل لكل واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم ثم شبه القلوب بالاودية فقلب كبير يسع علما كثيرا كواد عظيم يسع ماء كثيرا وقلب صغيرا إنما يسع علما قليلا كواد صغير إنما يسع ماء قليلا فقال فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا هذا مثل ضربة الله تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته فإنه يستخرج منها زبد الشبهات البالطة فيطفو على وجه القلب كما يستخرج السيل من الوادي زبدا يعلو فقوق الماء وأخبر سبحانه انه راب يطفو ويعلو على الماء لايستقر في ارض الوادي كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب وطفت فلا تستقر فيه بل تجفى وترمى فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه والناس من الهدى ودين الحق كما يستقر في الوادي الماء الصافي ويذهب الزبد جفاء وما يعقل عن الله امثاله إلا العالمون ثم ضرب سبحانه لذلك مثلا آخر فقال ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية او متاع زبد مثله يعني أن مما يوقد عليه بنو آدم من الذهب والفضة والنحاس والحديد يخرج منه خبثه وهو الزبد الذي تلقيه النار وتخرجه من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها فإنه يقذف ويلقى به ويستقر الجوهر الخالص وحده وضرب سبحانه مثلا بالماء لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة ومثلا بالنار لما فيها من الاضاءة والاشراف والاحراق فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الارض بالماء وتحرق خبثها وشبهاتها وشهواتها وسخائمها كما تحرق النار ما يلقى فيها وتميز جيدها من زبدها كما تميز النار الخبث من الذهب والفضة والنحاس ونحوه منه فهذا بعض ما في هذا المثل العظيم من العبر والعلم قال الله تعالى وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون
أهـ { مفتاح دار السعادة حأ 1 صـ 162ـ صـ 163 }(1/489)
قوله تعالى { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } الرعد : 28 وقال تعالى : 0 يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي الفجر : 2730 الطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه ومنه الأثر المعروف : الصدق طمأنينة والكذب ريبة أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع ويجد عنده سكونا إليه والكذب يوجب له اضطرابا وارتيابا ومنه قوله : البر ما اطمأن إليه القلب أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه وفي ذكر الله ها هنا قولان : أحدهما : أنه ذكر العبد ربه فإنه يطمئن إليه قلبه ويسكن فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله ثم اختلف أصحاب هذا القول فيه
فمنهم من قال : هذا في الحلف واليمين إذا حلف المؤمن على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه واطمأنت ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما ومنهم من قال : بل هو ذكر العبد ربه بينه وبينه يسكن إليه قلبه ويطمئن والقول الثاني : أن ذكر الله ههنا القرآن وهو ذكره الذي أنزله على رسوله به طمأنينة قلوب المؤمنين فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه واضطرابه وقلقه من شكه والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوهام فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به وهذا القول هو المختار وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين الزخرف : 36
والصحيح : أن ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه من أعرض عنه : قيض له شيطانا يضله ويصده عن السبيل وهو يحسب أنه على هدى وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى : ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى طه : 124(1/490)
والصحيح : أنه ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه ولهذا يقول المعرض عنه : رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى طه : 125126
وأما تأويل من تأوله على الحلف : ففي غاية البعد عن المقصود فإن ذكر الله بالحلف يجري على لسان الصادق والكاذب والبر والفاجر والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق ولو لم يحلف ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون فيه ولو حلف وجعل الله سبحانه الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم وجعل الغبطة
والمدحة والبشارة بدخول الجنة لأهل الطمأنينة فطوبى لهم وحسن مآب وفي قوله تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك الفجر : 2728 دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة فهناك ترجع إليه وتدخل في عباده وتدخل جنته وكان من دعاء بعض السلف : اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك
فصل قال صاحب المنازل : الطمأنينة : سكون يقويه أمن صحيح شبيه
بالعيان وبينها وبين السكينة فرقان : أحدهما : أن السكينة صوله تورث خمود الهيبة أحيانا و الطمأنينة سكون أمن في استراحة أنس والثاني : أن السكينة تكون نعتا وتكون حينا بعد حين و الطمأنينة لا تفارق صاحبها الطمأنينة موجب السكينة وأثر من آثارها وكأنها نهاية السكينة
فقوله : سكون يقويه أمن أي سكون القلب مع قوة الأمن الصحيح الذي لا يكون أمن غرور فإن القلب قد يسكن إلى أمن الغرور ولكن لا يطمئن به لمفارقة ذلك السكون له و الطمأنينة لا تفارقه فإنها مأخوذة من الإقامة يقال : اطمأن بالمكان والمنزل : إذا أقام به
وسبب صحة هذا الأمن المقوى للسكون : شبهه بالعيان بحيث لا يبقي معه شيء من مجوزات الظنون والأوهام بل كأن صاحبه يعاين ما يطمئن به فيأمن به اضطراب قلبه وقلقه وارتيابه(1/491)
وأما الفرقان اللذان ذكرهما بينها وبين السكينة فحاصل الفرق الأول : أن السكينة تصول على الهيبة الحاصلة في القلب فتخمدها في بعض الأحيان فيسكن القلب من انزعاج الهيبة بعض السكون وذلك في بعض الأوقات
فليس حكما دائما مستمرا وهذا يكون لأهل الطمأنينة دائما ويصحبه الأمن والراحة بوجود الأنس فإن الاستراحة في السكينة قد تكون من الخوف والهيبة فقط والاستراحة في منزل الطمأنينة تكون مع زيادة أنس وذلك فوق محرد الأمن وقدر زائد عليه
وحاصل الفرق الثاني : أن الطمأنينة ملكة ومقام لا يفارق و السكينة تنقسم إلى سكينة هي مقام ونعت لا يزول وإلى سكينة تكون وقتا دون وقت هذا حاصل كلامه والذي يظهر لي في الفرق بينهما أمران سوى ما ذكر : أحدهما : أن ظفره وفوزه بمطلوبه الذي حصل له السكينة بمنزلة من واجهه عدو يريد هلاكه فهرب منه عدوه فسكن روعه والطمأنينة بمنزلة حصن رآه مفتوحا فدخله وأمن فيه وتقوى بصاحبه وعدته فللقلب ثلاثة أحوال أحدها : الخوف والاضطراب والقلق من الوارد الذي يزعجه ويقلقه الثاني : زوال ذلك الوارد الذي يزعجه ويقلقه عنه وعدمه الثالث : ظفره وفوزه بمطلوبه الذي كان ذلك الوارد حائلا بينه وبينه
وكل منهما يستلزم الآخر ويقارنه فالطمأنينة تستلزم السكينة ولا تفارقها وكذلك بالعكس لكن استلزام الطمأنينة للسكينة أقوى من استلزام السكينة للطمأنينة الثاني : أن الطمأنينة أعم فإنها تكون في العلم والخبر به واليقين والظفر بالمعلوم ولهذا اطمأنت القلوب بالقرآن لما حصل لها الإيمان به ومعرفته والهداية به في ظلم الآراء والمذاهب واكتفت به منها وحكمته عليها وعزلتها وجعلت له الولاية بأسرها كما جعلها الله فبه خاصمت وإليه حاكمت وبه صالت وبه دفعت الشبه
وأما السكينة : فإنها ثبات القلب عند هجوم المخاوف عليه وسكونه
وزوال قلقه واضطرابه كما يحصل لحزب الله عند مقابلة العدو وصولته والله سبحانه أعلم(1/492)
فصل قال : وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : طمأنينة القلب بذكر
الله وهي طمأنينة الخائف إلى الرجاء والضجر إلى الحكم والمبتلى إلى المثوبة
قد تقدم أن الطمأنينة بذكر الله بكلامه وكتابه ولا ريب أن الذي ذكره في هذه الدرجة : هو من جملة الطمأنينة بذكره وهي أهم من ذلك فذكر طمأنينة الخائف إلى الرجاء فإن الخائف إذا طال عليه الخوف واشتد به وأراد الله عز وجل أن يريحه ويحمل عنه : أنزل عليه السكينة فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمأن به وسكن لهيب خوفه وأما طمأنينة الضجر إلى الحكم
فالمراد بها : أن من أدركه الضجر من قوة التكاليف وأعباء الأمر وأثقاله ولا سيما من أقيم مقام التبليغ عن الله ومجاهدة أعداء الله وقطاع الطريق إليه فإن ما يحمله ويتحمله فوق ما يحمله الناس ويتحملونه فلابد أن يدركه الضجر ويضعف صبره فإذا أراد الله أن يريحه ويحمل عنه : أنزل عليه سكينته فاطمأن إلى حكمه الديني وحكمه القدري ولا طمأنينة له بدون مشاهدة الحكمين وبحسب مشاهدته لهما تكون طمأنينته فإنه إذا اطمأن إلى حكمه الديني علم أنه دينه الحق وهو صراطه المستقيم وهو ناصره وناصر أهله وكافيهم ووليهم
وإذا اطمأن إلى حكمه الكوني : علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأنه ما يشاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا وجه للجزع والقلق إلا ضعف اليقين والإيمان فإن المحذور والمخوف : إن لم يقدر فلا سبيل إلى وقوعه وإن قدر فلا سبيل إلى صرفه بعد أن أبرم تقديره فلا جزع حينئذ لا مما قدر ولا مما لم يقدر نعم إن كان له في هذه النازلة حيلة فلا ينبغي أن يضجر عنها وإن لم يكن
فيها حيلة فلا ينبغي أن يضجر منها فهذه طمأنينة الضجر إلى الحكم وفي مثل هذا قال القائل :
ما قد قضى يا نفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر(1/493)
وتحققي أن المقدر كائن ... يجري عليك حذرت أم لم تحذري وأما طمأنينة المبتلى إلى المثوبة فلا ريب أن المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه واطمأن بمشاهدة العوض وإنما يشتد به البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب وقد تقوى ملاحظة العوض حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمة ولا تستبعد هذا فكثير من العقلاء إذا تحقق نفع الدواء الكريه فإنه يكاد يلتذ به وملاحظته لنفعه تغيبه عن تألمه بمذاقه أو تخففه عنه والعمل المعول عليه : إنما هو على البصائر والله أعلم
فصل قال : الدرجة الثانية : طمأنينة الروح في القصد إلى الكشف وفي
الشوق إلى العدة وفي التفرقة إلى الجمع
طمأنينة الروح أن تطمئن في حال قصدها ولا تلتفت إلى ما وراءها والمراد بالكشف : كشف الحقيقة لا الكشف الجزئي السفلي وهو ثلاث درجات : كشف عن الطريق الموصل إلى المطلوب وهو الكشف عن حقائق الإيمان وشرائع الإسلام وكشف عن المطلوب المقصود بالسير : وهو معرفة الأسماء والصفات ونوعي التوحيد وتفاصيله ومراعاة ذلك حق رعايته وليس وراء ذلك إلا الدعاوى والشطح والغرور وقوله : وفي الشوق إلى العدة
يعني أن الروح تظهر في اشتياقها إلى ما وعدت به وشوقت إليه فطمأنينتها بتلك العدة : تسكن عنها لهيب اشتياقها وهذا شأن كل مشتاق إلى محبوب وعد بحصوله إنما يحصل لروحه الطمأنينة بسكونها إلى وعد اللقاء وعلمها بحصول الموعود به قوله وفي التفرقة إلى الجمع
أي وتطمئن الروح في حال تفرقتها إلى ما اعتادته من الجمع بأن توافيها روحه فتسكن إليه وتطمئن به كما يطمئن الجائع الشديد الجوع إلى ما عنده من الطعام ويسكن إليه قلبه وهذا إنما يكون لمن أشرف على الجمع من وراء حجاب رقيق وشام برقه فاطمأن بحصوله وأما من بينه وبينه الحجب الكثيفة : فلا يطمئن به
فصل قال : الدرجة الثالثة : طمأنينة شهود الحضرة إلى اللطف وطمأنينة
الجمع إلى البقاء وطمأنينة المقام إلى نور الأزل(1/494)
هذه الدرجة الثالثة تتعلق بالفناء والبقاء فالواصل إلى شهود الحضرة : مطمئن إلى لطف الله و حضرة الجمع يريدون بها الشهود الذاتي فإن الشهود عندهم مراتب بحسب تعلقه فشهود الأفعال : أول مراتب الشهود ثم فوقه : شهود الأسماء والصفات ثم فوقه : شهود الذات الجامعة إلى الأفعال والأسماء والصفات والتجلي عند القوم : بحسب هذه الشهود الثلاثة
فأصحاب تجلي الأفعال : مشهدهم توحيد الربوبية وأصحاب تجلي الأسماء والصفات : مشهدهم توحيد الإلهية : وأصحاب تجلي الذات : يغنيهم به عنهم وقد يعرض لبعضهم بحسب قوة الوارد وضعف المحل عجز عن القيام والحركة فربما عطل بعض الفروض وهذا له حكم أمثاله من أهل العجز والتفريط والكاملون منهم قد يفترون في تلك الحال عن الأعمال الشاقة ويقتصرون على الفرائض وسننها وحقوقها ولا يقعد بهم ذلك الشهود والتجلي عنها ولا يؤثرون
عليه شيئا من النوافل والحركات التي لم تعرض عليهم ألبتة وذلك في طريقهم رجوع وانقطاع وأكمل من هؤلاء : من يصحبه ذلك في حال حركاته ونوافله فلا يعطل ذرة من أوراده والله سبحانه قد فاوت بين قوى القلوب أشد من تفاوت قوى الأبدان وفي كل شيء له آية وصاحب هذا المقام آية من آيات الله لأولي الألباب والبصائر
والمقصود : أنه لولا طمأنينته إلى لطف الله لمحقه شهود الحضرة وأفناه جملة فقد خر موسى صعقا لما تجلى ربه للجبل وتدكدك الجبل وساخ في الأرض من تجليه سبحانه هذا ولا يتوهم متوهم أن الحاصل في الدنيا للبشر كذلك ولا قريب منه أبدا وإنما هي المعارف واستيلاء مقام الإحسان على القلب فقط(1/495)
وإياك وترهات القوم وخيالاتهم ورعوناتهم وإن سموك محجوبا فقل : اللهم زدني من هذا الحجاب الذي ما وراءه إلا الخيالات والترهات والشطحات فكليم الرحمن وحده مع هذا لم تتجل الذات له وأراه ربه تعالى أنه لا يثبت لتجلي ذاته لما أشهده من حال الجبل وخر الكليم صعقا مغشيا عليه لما رأى ما رأى من حال الجبل عند تجلي ربه له ولم يكن تجليا مطلقا قال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور وقال عبدالله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سمع الخياط حتى صار دكا وقال السدي : ما تجلى إلا قدر الخنصر
و في مستدرك الحاكم من حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه أن النبي قرأ هذه الآية وقال : هكذا ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل وإسناده على شرط مسلم ولما حدث به حميد عن ثابت استعظمه بعض أصحابه وقال : تحدث بهذا فضرب بيده في صدره وقال : يحدث به ثابت عن أنس عن رسول الله وتنكره أنت ولا أحدث به فإذا شهد لك المخدوعون بأنك محجوب عن ترهاتهم وخيالاتهم فتلك الشهادة لك بالاستقامة فلا تستوحش منها وبالله التوفيق وهو المستعان
فصل وأما طمأنينة الجمع إلى البقاء فمشهد شريف فاضل وهو مشهد الكمل
فإن حضرة الجمع تعفي الآثار وتمحو الأغيار وتحول بين الشاهد وبين رؤية القلب للخلق فيرى الحق سبحانه وحده قائما بذاته ويرى كل شيء قائم به متوحدا في كثرة أسمائه وأفعاله وصفاته ولا يرى معه غيره ولا يشهده عكس حال من يشهد غيره ولا يشهده وليس الشأن في هذا الشهود فإن صاحبه في مقام الفناء فإن لم ينتقل منه إلى مقام البقاء وإلا انقطع انقطاعا كليا ففي هذا المقام : إن لم يطمئن إلى حصول البقاء وإلا عطل الأمر وخلع ربقة العبودية من عنقه فإذا اطمأن إلى البقاء طمأنينة من يعلم أنه لا بد له منه وإن لم يصحبه وإلا فسد وهلك كان هذا من طمأنينة الجمع إلى البقاء والله أعلم(1/496)
فصل وأما طمأنينة المقام إلى نور الأزل فيريد به : طمأنينة مقامه إلى
السابقة التي سبق بها في الأزل فلا تتغير ولا تتبدل ولهذا قال : طمأنينة المقام ولم يقل : طمأنينة الحال فإن الحال يزول ويحول ولو لم يحل لما سمى حالا بخلاف المقام
فإذا اطمأن إلى السابقة والحسنى التي سبقت له من الله في الأزل كان هذا طمأنينة المقام إلى الأزل وهذا هو شهود أهل البقاء بعد الفناء والله أعلم
أهـ { مدارج السالكين حـ2 صـ 512 ـ صـ 520 }
سورة إبراهيم
قوله تعالى { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد }
فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه فلذلك قال لا يقدرون مما كسبوا على شيء لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء فلا يرون له أثرا من ثواب ولا فائدة نافعة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لشرعه والأعمال أربعة فواحد مقبول وثلاثة مردودة فالمقبول الخالص الصواب فالخالص أن يكون لله لا لغيره والصواب أن يكون مما شرعه الله على لسان رسوله والثلاثة مردودة ما خالف ذلك(1/497)
وفي تشبيهها بالرماد سر بديع وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا فكانت الأعمال التي لغير الله وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها وينشىء الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار
فصل كلمة التوحيد وأثرها في نفس المؤمن
ومنها قوله تعالى { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون }
فشبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون الكلمة الطيبة هي(1/498)
شهادة أن لا إله إلا الله فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلا الله كشجرة طيبة وهو المؤمن أصلها ثابت قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء وقال الربيع بن أنس كلمة طيبة هذا مثل الإيمان فالإيمان الشجرة الطيبة وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه وفرعه في السماء خشية الله والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقوقها ومراعاتها حق رعايتها(1/499)
فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلاما كثيرا طيبا يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح إلى الكلم الطيب كما قال تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت
والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا وإثباتا متصفا بموجبها قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء وهي مخرجة لثمرتها كل وقت(1/500)
ومن السلف من قال إن الشجرة الطيبة هي النخلة ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح ومنهم من قال هي المؤمن نفسه كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة يعني بالشجرة الطيبة المؤمن ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض وقال عطية العوفي في قوله ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة قال ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله وقال الربيع بن أنس أصلها ثابت وفرعها في السماء قال ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له أصلها ثابت قال أصل عمله ثابت في الأرض وفرعها في السماء قال ذكره في السماء ولا اختلاف بين القولين والمقصود بالمثل المؤمن والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك ومن قال من السلف إنها شجرة في الجنة فالنخلة من أشرف أشجار الجنة
حكمة تشبيه المؤمن بالشجرة
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به ويقتضيه علم الذي تكلم به وحكمته
فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر فكذلك(2/1)
شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل المرضي فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله والإخلاص قائم في القلب والأعمال موافقة للأمر والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار
ومنها أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ص - إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب فجددوا أيمانكم وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم(2/2)
ومنها أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به فإنه يفوته ربح كثير وهو لا يشعر فالمؤمن دائما سعيه في شيئين سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان
فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الوقفة وقلوبنا المخطئة وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار وإلا فلو طهرت منا القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجرت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الخلق وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته
فصل ضرب المثل للكافر
ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلا عرق ثابت ولا فرع عال ولا ثمرة زاكية فلا ظل ولا جنى ولا ساق قائم ولا عرق في الأرض ثابت فلا أسفلها مغدق ولا أعلاها مونق ولا جنى لها ولا تعلو بل تعلي
وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكسبهم وجده كذلك فالخسران الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه
قال الضحاك ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة ولا فيها منفعة كذلك الكافر لا يعمل خيرا ولا يقوله ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة(2/3)
وقال ابن عباس ومثل كلمة خبيثة وهي الشرك كشجرة خبيثة يعني الكافر اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ولا يقبل الله مع الشرك عملا فلا يقبل عمل المشرك ولا يصعد إلى الله فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء يقول ليس له عمل صالح في السماء ولا في الأرض
وقال الربيع بن أنس مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض ولا يصعد إلى السماء
وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم فقال له ما تقول في الكلمة الخبيثة قال ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة
وقوله اجتثت أي استؤصلت من فوق الأرض ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة وأنه يضل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم
وتحت قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة كنز عظيم من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ومن حرمه فقد حرم وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله ولو أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا(2/4)
وقال تعالى لأكرم خلقه إذا يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا وفي الصحيحين من حديث البجلي قال وهو يسألهم ويثبتهم وقال تعالى لرسوله وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك فالخلق كلهم قسمان موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت ومادة التثبيت أصله ومنشأه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد فبهما يثبت الله عبده فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا قال تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا والقول الثابت هو القول الحق والصدق وهو ضد القول الباطل الكذب فالقول نوعان ثابت له حقيقة وباطل لا حقيقة له وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباتا وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته ومهابته ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة
وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به فقال والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل فما منح العبد أفضل من منحة القول الثابت ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي ص - أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر
أهـ { إعلام الموقعين حـ1 صـ 171 ـ صـ 177 }
سورة الحجر
قوله تعالى(2/5)
{ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه }متضمن لكنز من الكنوز وهو أن يطلب كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه وقوله وإن إلى ربك المنتهى متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع فإنه ليس إليه المنتهى وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه فهو غاية كل مطلوب وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه فاجتمع ما يراد منه كله في قوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه واجتمع ما يراد له كله في قوله وان إلى ربك المنتهى فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى
وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ويسكن إلا بالوصول إليه وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد(2/6)
العبد دائما متقلب بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند الأوامر وإلى اللطف عند النوازل وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل فإن كمل القيام بالأوامر ظاهرا وباطنا ناله اللطف ظاهرا وباطنا وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقل نصيبه من اللطف في الباطن فإن قلت وما اللطف الباطن فهو ما يحصل للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع فيستخذى بين يدي سيده ذليلا له مستكينا ناظرا إليه بقلبه ساكنا إليه بروحه وسره قد شغله مشاهدة لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم وقد غيبه عن شهود ذلك معرفته بحسن اختياره له وأنه عبد محض يجري عليه سيده أحكامه رضى أو سخط فإن رضى نال الرضا وإن سخط فحظه السخط فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها
أهـ { الفوائد صـ 303 }
قوله تعالى { إن فى ذلك لآيات للمتوسمين }
قد مدح الله سبحانه وتعالى الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه قال تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين وهم المتفرسون الذين يأخذون بالسيما وهي العلامة
ويقال توسمت فيك كذا أي تفرسته كأنك اخذت من السيما وهي فعلا من السمة وهي العلامة وقال تعالى ولو نشألأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم وقال تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم وفي الترمذي مرفوعا اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين // ضعيف // والله أعلم
أهـ { بدائع الفوائد حـ3 صـ 119 }(2/7)
قال مجاهد رحمه الله : المتفرسين : وقال ابن عباس رضي الله عنهما : للناظرين وقال قتادة : للمعتبرين وقال مقاتل : للمتفكرين ولا تنافي بين هذه الأقوال فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين ومنازلهم وما آل إليه أمرهم : أورثه فراسة وعبرة وفكرة وقال تعالى في حق المنافقين : ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول محمد : 30 فالأول : فراسة النظر والعين والثاني : فراسة الأذن والسمع
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : علق معرفته إياهم بالنظر على المشيئة ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط بل أخبر به خبرا مؤكدا بالقسم فقال : ولتعرفنهم في لحن القول وهو تعريض الخطاب وفحوى الكلام ومغزاه و اللحن ضربان : صواب وخطأ فلحن الصواب نوعان أحدهما : الفطنة ومنه الحديث : ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض والثاني : التعريض والإشارة وهو قريب من الكناية ومنه قول الشاعر :
وحديث ألذه وهو مما ... يشتهي السامعون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا والثالث : فساد المنطق في الإعراب وحقيقته : تغيير الكلام عن وجهه : إما إلى خطإوإما إلى معنى خفي لم يوضع له اللفظ
والمقصود : أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه : أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السيماء المرئية والفراسة تتعلق بالنوعين بالنظر والسماع وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن عن النبي قال : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بور الله ثم تلا قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين الحجر : 75
فصل و الفراسة ثلاثة أنواع : إيمانية وهي المتكلم فيها في هذه
المنزلة وسببها : نور يقذفه الله في قلب عبده يفرق به بين الحق والباطل والحالي والعاطل والصادق والكاذب(2/8)
وحقيقتها : أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة لكن الفريسة فعيلة بمعنى مفعولة وبناء الفراسة كبناء الولاية والإمارة والسياسة وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة قال أبو سعيد الخراز : من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق وتكون مواد علمه مع الحق بلا سهو ولا غفلة بل حكم حق جرى على لسان عبده
وقال الواسطي : الفراسة شعاشع أنوار لمعت في القلوب وتمكن معرفة جملة السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق إياها فيتكلم عن ضمير الخلق وقال الدراني : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب وهي من مقامات الإيمان وسئل بعضهم عن الفراسة فقال : أرواح تتقلب في الملكوت فتشرف على معاني الغيوب فتنطق عن أسرار الخلق نطق مشاهدة لا نطق ظن وحسبان
وقال عمرو بن نجيد : كان شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطىء ويقول : من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام بالمراقبه وظاهره باتباع السنة وتعود أكل الحلال : لم تخطىء فراسته وقال أبو جعفر الحداد : الفراسة أول خاطر بلا معارض فإن عارضه معارض آخر من جنسه فهو خاطر وحديث نفس
وقال أبو حفص النيسابوري : ليس لأحد أن يدعي الفراسة ولكن يتقي الفراسة من الغير لأن النبي قال : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ولم يقل : تفرسوا وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي : إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون وكان الجنيد يوما يتكلم على الناس فوقف عليه شاب نصراني متنكرا فقال : أيها الشيخ ما معنى قول النبي : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه إليه وقال : أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام ويقال في بعض الكتب القديمة : إن الصديق لا تخطىء فراسته(2/9)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : العزيز في يوسف حيث قال لامرأته : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى : استأجره القصص : 26 وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما حيث استخلفه وفي رواية أخرى : وامرأة فرعون حين قالت : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا القصص : 9
وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء : أظنه كذا إلا كان كما قال ويكفي في فراسته : موافقته ربه في المواضع المعروفة
ومر به سواد بن قارب ولم يكن يعرفه فقال لقد أخطأ ظني أو أن هذا كاهن أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية فلما جلس بين يديه قال له ذلك عمر فقال : سبحان الله يا أمير المؤمنين ما استقبلت أحدا من جلسائك
بمثل ما استقبلتني به فقال له عمر رضي الله عنه : ما كنا عليه في الجاهلية أعظم من ذلك ولكن أخبرني عما سألتك عنه فقال : صدقت يا أمير المؤمنين كنت كاهنا في الجاهلية ثم ذكر القصة
وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه صادق الفراسة وقال أنس ابن مالك رضي الله عنه : دخلت على عثمان بن عفان رضي الله عنه وكنت رأيت امرأة في الطريق تأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه : يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه فقلت : أوحي بعد رسول الله فقال : ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة(2/10)
وأصل هذا النوع من الفراسة : من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير فلا تكاد فراسته تخطىء قال الله : أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها الأنعام : 122 كان ميتا بالكفر والجهل فأحياه الله بالإيمان والعلم وجعل له بالقرآن والإيمان نورا يستضيء به في الناس على قصد السبيل ويمشي به في الظلم والله أعلم
فصل الفراسة الثانية : فراسة الرياضة والجوع والسهر والتخلي فإن
النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية وكثير من الجهال
يغتر بها وللرهبان فيها وقائع معلومة وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع ولا عن طريق مستقيم بل كشفها جزئي من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم
وللأطباء فراسة معروفة من حذقهم في صناعتهم ومن أحب الوقوف عليها فليطالع تاريخهم وأخبارهم وقريب من نصف الطب : فراسة صادقة يقترن بها تجربة والله سبحانه أعلم
فصل الفراسة الثالثة : الفراسة الخلقية وهي التي صنف فيها الأطباء
وغيرهم واستدلوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل وبكبره وبسعة الصدر وبعد ما بين جانبيه : على سعة خلق صاحبه واحتماله وبسطته وبضيقه على ضيقه وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها وضعف حرارة قلبه وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة وهو الشكل على شجاعته وإقدامه وفطنته وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه
ومعظم تعلق الفراسة بالعين فإنها مرآة القلب وعنوان ما فيه ثم باللسان فإنه رسوله وترجمانه وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته(2/11)
وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة وبإفراطه في الجعودة على الشر وباعتداله على اعتدال صاحبه
وأصل هذه الفراسة : أن اعتدال الخلقة والصورة : هو من اعتدال المزاج والروح وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال : يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال هذا إذا خليت النفس وطبيعتها
ولكن صاحب الصورة والخلقة المعتدلة يكتسب بالمقارنة والمعاشرة أخلاق من يقارنه ويعاشره ولو أنه من الحيوان البهيم فيصير من أخبث الناس أخلاقا وأفعالا وتعود له تلك طباعا ويتعذر أو يتعسر عليه الانتقال عنها
وكذلك صاحب الخلقة والصورة المنحرفة عن الاعتدال يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقا وأفعالا شريفة تصير له كالطبيعة فإن العوائد والمزاولات تعطي الملكات والأخلاق
فليتأمل هذا الموضع ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيرا فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة وقد تتخلف عنها أحكامها لفوات شرط أو لوجود مانع
وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء : بعينه وأذنه وقلبه فعينه للسيماء والعلامات وأذنه : للكلام وتصريحه وتعريضه ومنطوقه ومفهومه وفحواه وإشاراته ولحنه وإيمائه ونحو ذلك وقلبه للعبور : والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه فيعبر إلى ما وراء ظاهره كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة إلى باطن النقد والاطلاع عليه : هل هو صحيح أو زغل وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل إلى باطن الروح والقلب فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصيرفي ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد وكذلك نقد أهل الحديث فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب فيخرجه ناقدهم كما يخرج الصيرفي الزغل من تحت الظاهر من الفضة
وكذلك فراسة التمييز بين الصادق والكاذب في أقواله وأفعاله وأحواله(2/12)
وللفراسة سببان أحدهما : جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته والثاني : ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطىء للعبد فراسة وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر : كانت فراسته بين بين
وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة وله الوقائع المشهورة وكذلك الشافعي رحمة الله وقيل : إن له فيها تآليف ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة وأن جيوش المسلمين تكسر وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن كلب الجيش وحدته في الأموال : وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة
ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام : أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال له : قل إن شاء الله فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا
وسمعته يقول ذلك قال : فلما أكثروا علي قلت : لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ : أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام قال : وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر
ولما طلب إلى الديار المصرية وأريد قتله بعد ما أنضجت له القدور وقلبت له الأمور : اجتمع أصحابه لوداعه وقالوا : قد تواترت الكتب بأن
القوم عاملون على قتلك فقال : والله لا يصلون إلى ذلك أبدا قالوا : أفتحبس قال : نعم ويطول حبسي ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس سمعته يقول ذلك(2/13)
ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك وقالوا : الآن بلغ مراده منك فسجد لله شكرا وأطال فقيل له : ما سبب هذه السجدة فقال : هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن وقرب زوال أمره فقيل له : متى هذا فقال : لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته فوقع الأمر مثل ما أخبر به سمعت ذلك منه
وقال مرة : يدخل علي أصحابي وغيرهم فأرى في وجوههم وأعينهم أمورالا أذكرها لهم فقلت له أو غيري لو أخبرتهم فقال : أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة وقلت له يوما : لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح فقال : لا تصبرون معي على ذلك جمعة أو قال : شهرا وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ولم يعين أوقاتها وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته والله أعلم
أهـ { مدارج السالكين حـ2 صـ 482 ـ صـ 490 }
سورة النحل
قوله تعالى { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو و من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم }(2/14)
هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه فإن القياس نوعان قياس طرد يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان فالله سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا وليلا ونهارا يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء فكيف يجعلونها شركاء لي ويعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين هذا قول مجاهد وغيره وقال ابن عباس هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء والقول الأول أشبه بالمراد فإنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ثم قال ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموجد كمن رزقه منه رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فهذا ما نبه عليه المثل وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته لا أن الآية اختصت به فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان
أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله
فصل(2/15)
وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي واللساني ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ولا يقضي لك حاجة والله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد فإن أمره بالعدل وهو الحق يتضمن أنه(2/16)
سبحانه عالم به معلم له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل بل أمره وشرعه عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهو المجاورون له عن يمينه على منابر من نور وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما كما في الحديث الصحيح اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك فقضاؤه هو أمره الكوني فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فلا يأمر إلا بحق وعدل وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضي والقدر غير المقدر ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قول رسوله شعيب إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فقوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها نظير قوله ناصيتي بيدك وقوله إن ربي على صراط مستقيم نظير قوله عدل في قضاؤك فالأول ملكه والثاني حمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي يقضى على العبد بما يكون ظالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه ولا ينقصه من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله
قال محمد بن جرير الطبري وقوله إن ربي على صراط مستقيم يقول(2/17)
إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه إن ربي على صراط مستقيم قال الحق وكذلك رواه ابن جريج عنه
وقالت فرقة هي مثل قوله إن ربك لبالمرصاد وهذا اختلاف عبارة فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
وقالت فرقة في الكلام حذف تقديره إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم فقد أصابوا
وقالت فرقة أخرى معنى كونه على صراط مستقيم أن مراد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه فهو حق
وقالت فرقة أخرى معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية وقد فرق شعيب بين قوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وبين قوله إن ربي على صراط مستقيم فهما معنيان مستقلان
فالقول قول مجاهد وهو قول أئمة التفسير ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم ...
وقد قال تعالى من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله وبالله التوفيق
فصل(2/18)
وفي الآية قول ثان مثل الأية سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق
أهـ { إعلام الموقعين حـ1 صـ 191 ـ صـ 196 }
وقال فى مفتاح دار السعادة
فالمثل الأول للصنم وعابديه والمثل الثاني ضربه الله تعالى لنفسه وأنه يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فكيف يسوى بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء فما فعله الرب تبارك وتعالى مع عباده هو غاية الحكمة والإحسان والعدل في اقدارهم واعطائهم ومنعهم وأمرهم ونهيهم فدعوى المدعى أن هذا نظير تخلية السيد بين عبيده وامائه يفجر بعضهم ببعض ويسيء بعضهم بعضا اكذب دعوى وأبطلها والفرق بينهما أظهر وأعظم من أن يحتاج إلى ذكره والتنبيه عليه والحمد لله الغني الحميد فغناه التام فارق وحمده وملكه وعزته وحكمته وعلمه وإحسانه وعدله ودينه وشرعه وحكمه وكرمه ومحبته للمغفرة والعفو عن الجناة والصفح عن المسيئين وتوبة التائبين وصبر الصابرين وشكر الشاكرين الذين يؤثرونه على غيره ويتطلبون مراضيه ويعبدونه وحده ويسيرون في عبيده بسيرة العدل والإحسان والنصائح ويجاهدون أعداءه فيبذلون دماءهم وأموالهم في محبته ومرضاته فيتميز الخبيث من الطيب ووليه من عدوه ويخرج طيبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج فيترتب عليها آثارها المحبوبة للرب تعالى من الثواب والعقاب والحمد لأوليائه والذم لأعدائه
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 2 صـ 85 }
قوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون }(2/19)
فإن قيل فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطانا فكيف نفاه بقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له وقال الشيطان لما قضى الأمر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لى وقال تعالى ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه الا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك
قيل السلطان الذى اثبته له عليهم غير الذى نفاه من وجهين أحدهما أن السلطان الثابت هو سلطان التمكن منهم وتلاعبه بهم وسوقه اياهم كيف أراد بتمكينهم اياه من ذلك بطاعته وموالاته والسلطان الذى نفاه سلطان الحجة فلم يكن لابليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان الثانى أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ولكن هم سلطوه على انفسهم بطاعته ودخولهم في جملة جنده وحزبه فلم يتسلطن عليهم بقوته فإن كيده ضعيف وانما تسلطن عليهم بإرادتهم واختيارهم والمقصود أن من قصد أعظم أوليائه وأحبابه ونصحائه فأخذه وأخذ أولاده وحاشيته وسلمهم إلى عدوه كان من عقوبته أن يسلط عليه ذلك العدو نفسه
أهـ { عدة الصابرين صـ71 }
قوله تعالى {ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن }(2/20)
جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمتسجيب القابل الذكي الذي لا يعاندالحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الامر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي احسن هذا هو الصحيح في معنى هذه الاية لا ما يزعم اسير منطق اليونان ان الحكمة قياس البرهان وهي دعوة الخواص والموعظة الحسنة قياس الخطابة وهي دعوة العوام والمجادلة بالتي هي احسن القياس الجدلي وهو رد شغب المشاغب بقياس جدلي مسلم المقدمات وهذا باطل وهو مبني على أصول الفلسفة وهو مناف لاصول المسلمين وقواعدالدين من وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 193 }
سورة الإسراء
قوله تعالى {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا }
الصدق فى قوله وعمله وحاله فالصدق : فى هذه الثلاثة
فالصدق في الأقوال : استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها والصدق في الأعمال : استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد والصدق في الأحوال : استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به : تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه : ذروة سنام الصديقية سمي الصديق على الإطلاق و الصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ من الصادق
فأعلى مراتب الصدق : مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل(2/21)
وقد أمر الله تعالى رسوله : أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال : وقل : رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا الإسراء : 80 وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال : واجعل لى لسان صدق في الآخرين وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم يونس : 2 وقال : إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر : 5455 فهذه خمسة أشياء : مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق وحقيقة الصدق في هذه الأشياء : هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة
فمدخل الصدق ومخرج الصدق : أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر ومخرج الصدق كمخرجههو وأصحابه في تلك الغزوة
وكذلك مدخلهالمدينة : كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن بالله ولا لله بل كان محادة لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول اللهحصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب : أصابه معهم ما أصابهم فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق وكان بعض السلف إذا خرج من داره : رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك(2/22)
يريد : أن لا يكون المخرج مخرج صدق ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه : بخروجهمن مكة ودخوله المدينة ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه وإلا فمداخله كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته
وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلا آخر إلا بصدق أو بكذب فمخرج كل واحد ومدخله : لا يعدو الصدق والكذب والله
المستعان وأما لسان الصدق : فهو الثناء الحسن عليهمن سائر الأمم بالصدق ليس ثناء بالكذب كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه : وجعلنا لهم لسان صدق عليا مريم : 50 والمراد باللسان ههنا : الثناء الحسن فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا وعبر به عنه
فإن اللسان يراد به ثلاثة معان : هذا واللغة كقوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم إبراهيم : 4 وقوله : واختلاف ألسنتكم وألوانكم الروم : 22 وقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين النحل : 103 ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به القيامة : 16 وأما قدم الصدق : ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة
وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك(2/23)
فمن فسره بها أراد : ما يقدمون عليه ومن فسره بالأعمال وبالنبي : فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم فالثلاثة قدم صدق وأما مقعد الصدق : فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره وأنه حق ودوامه ونفعه وكمال عائدته فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله فهو صدق غير كذب وحق غير باطل ودائم غير زائل ونافع غير ضار وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل ومن علامات الصدق : طمأنينة القلب إليه ومن علامات الكذب : حصول الريبة كما في الترمذي مرفوعا من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما
عنهما عن النبيقال : الصدق طمأنينة والكذب ريبة
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيقال : إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عندالله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عندالله كذابا فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته فلا ينال درجتها كاذب ألبتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه فليس في هؤلاء صديق أبدا وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرمه وتحريم ما لم يحرمه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لم يوجبه وكراهة ما أحبه واستحباب ما لم يحبه كل ذلك مناف للصديقية
وكذلك الكذب معه في الأعمال : بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين والزاهدين المتوكلين وليس في الحقيقة منهم
فلذلك كانت الصديقية : كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرا وباطنا حتى إن صدق المتبايعين يحل البركة في بيعهما وكذبهما يمحق بركة بيعهما كما في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : قال رسول الله : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما : محقت بركة بيعهما(2/24)
فصل في كلمات في حقيقة الصدق قال عبدالواحد بن زيد : الصدق الوفاء
لله بالعمل وقيل : موافقة السر النطق وقيل : استواء السر والعلانية يعني أن الكاذب علانيته خير من سريرته كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه
وقيل : الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة وقيل : كلمة الحق عند من تخافه وترجوه وقال الجنيد : الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد يسبق إلى الذهن خلافه وأن الكاذب متلون لأن الكذب ألوان فهو يتلون بتلونه والصادق مستمر على حالة واحدة فإن الصدق واحد في نفسه وصاحبه لا يتلون ولا يتغير
لكن مراد الشيخ أبي القاسم صحيح غير هذا فإن المعارضات والواردات التي ترد على الصادق لاترد على الكاذب المرائي بل هو فارغ منها فإنه لا يرد عليه من قبل الحق موارد الصادقين على الكاذبين المرائين ولا يعارضهم الشيطان كما يعارض الصادقين فإنه لا أرب له في خربة لا شيء فيها وهذه الواردات توجب تقلب الصادق بحسب اختلافها وتنوعها فلا تراه إلا هاربا من مكان إلى مكان ومن عمل إلى عمل ومن حال إلى حال ومن سبب إلى سبب لأنه يخاف في كل حال يطمئن إليها ومكان وسبب : أن يقطعه عن مطلوبه فهو لا يساكن حالة ولا شيئا دون مطلوبه فهو كالجوال في الآفاق في طلب الغنى الذي يفوق به الأغنياء والأحوال والأسباب تتقلب به وتقيمه وتقعده وتحركه وتسكنه حتى يجد فيها ما يعينه على مطلوبه وهذا عزيز فيها فقلبه في تقلب وحركة
شديدة بحسب سعة مطلوبه وعظمته وهمته أعلى من أن يقف دون مطلبه على رسم أو حال أو يساكن شيئا غيره فهو كالمحب الصادق الذي همته التفتيش على محبوبه وكذا حال الصادق في طلب العلم وحال الصادق في طلب الدنيا فكل صادق في طلب شيء لا يستقر له قرار ولا يدوم على حالة واحدة(2/25)
وأيضا : فإن الصادق مطلوبه رضى ربه وتنفيذ أوامره وتتبع محابه فهو متقلب فيها يسير معها أين توجهت ركائبها ويستقل معها أين استقلت مضاربها فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو ثم في حج ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع ثم في أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو في قيام بسبب فيه عمارة الدين والدنيا ثم في عيادة مريض أو تشييع جنازة أو نصر مظلوم إن أمكن إلى غير ذلك من أنواع القرب والمنافع
فهو في تفرق دائم لله وجمعية على الله لا يملكه رسم ولا عادة ولا وضع ولا يتقيد بقيد ولا إشارة ولا بمكان معين يصلى فيه لا يصلى في غيره وزي معين لا يلبس سواه وعبادة معينة لا يلتفت إلى غيرها مع فضل غيرها عليها أو هي أعلى من غيرها في الدرجة وبعد ما بينهما كبعد ما بين السماء والأرض
فإن البلاء والآفات والرياء والتصنع وعبادة النفس وإيثار مرادها والاشارة إليها : كلها في هذه الأوضاع والرسوم والقيود التي حبست أربابها عن السير إلى قلوبهم فضلا عن السير من قلوبهم إلى الله تعالى فإذا خرج أحدهم عن
رسمه ووضعه وزيه وقيده وإشارته ولو إلى أفضل منه استهجن ذلك ورآه نقصا وسقوطا من أعين الناس وانحطاطا لرتبته عندهم وهو قد انحط وسقط من عين الله
وقد يحس أحدهم ذلك من نفسه وحاله ولا تدعه رسومه وأوضاعه وزيه وقيوده : أن يسعى في ترميم ذلك وإصلاحه وهذا شأن الكذاب المرائي الذي يبدي للناس خلاف ما يعلمه الله من باطنه العامل على عمارة نفسه ومرتبته وهذا هو النفاق بعينه ولو كان عاملا على مراد الله منه وعلى الصدق مع الله : لأثقلته تلك القيود وحبسته تلك الرسوم ولرأى الوقوف عندها ومعها عين الانقطاع عن الله لا إليه ولما بالى أي ثوب لبس ولا أي عمل عمل إذا كان على مراد الله من العبد
فكلام أبي القاسم الجنيد حق كلام راسخ في الصدق عالم بتفاصيله وآفاته ومواضع اشتباهه بالكذب(2/26)
وأيضا فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل والرياء والكذب خفيف كالريشة لا يجد له صاحبه ثقلا ألبتة فهو حامل له في أي موضع اتفق بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله وقال بعضهم : لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره وقال بعضهم : الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف قال الله تعالى : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين البقرة : 94 قلت : هذه الآية فيها للناس كلام معروف قالوا : إنها معجزة للنبي أعجز بها اليهود ودعاهم إلى تمني الموت وأخبر : أنهم لا يتمنونه أبدا وهذا علم من أعلام نبوته إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا
وقالت طائفة : لما ادعت اليهود : أن لهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس وأنهم أبناؤه وأحباؤه وأهل كرامته كذبهم الله في دعواهم وقال : إن كنتم صادقين فتمنوا الموت لتصلوا إلى الجنة دار النعيم فإن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه ثم أخبر سبحانه : أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الأوزار والذنوب الحائلة بينهم وبين ما قالوه فقال : ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم البقرة : 95 وقالت طائفة منهم محمد بن إسحاق وغيره هذه من جنس آية المباهلة وأنهم لما عاندوا ودفعوا الهدى عيانا وكتموا الحق : دعاهم إلى أمر يحكم بينهم وبينه وهو أن يدعوا بالموت على الكاذب المفتري و التمني سؤال ودعاء فتمنوا الموت وادعوا به على المبطل الكاذب المفتري(2/27)
وعلى هذا فليس المراد : تمنوه لأنفسكم خاصة كما قاله أصحاب القولين الأولين بل معناه : ادعوا بالموت وتمنوه للمبطل وهذا أبلغ في إقامة الحجة وبرهان الصدق وأسلم من أن يعارضوا رسول الله بقولهم : فتمنوه أنتم أيضا إن كنتم محقين أنكم أهل الجنة لتقدموا على ثواب الله وكرامته كانوا أحرص شيء على معارضته فلو فهموا منه ما ذكره أولئك لعارضوه بمثله
وأيضا فإنا نشاهد كثيرا منهم يتمنى الموت لضره وبلائه وشدة حاله ويدعو به وهذا بخلاف تمنيه والدعاء به على الفرقة الكاذبة فإن هذا لا يكون أبدا ولا وقع من أحد منهم في حياة النبي ألبتة وذلك لعلمهم بصحة نبوته وصدقه وكفرهم به حسدا وبغيا فلا يتمنوه أبدا لعلمهم أنهم هم الكاذبون وهذا القول : هو الذي نختاره والله أعلم بما أراد من كتابه وقال إبراهيم الخواص : الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه وقال الجنيد : حقيقة الصدق : أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب وقيل : ثلاث لا تخطىء الصادق : الحلاوة والملاحة والهيبة
أهـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 270 ـ صـ 277 }
قوله تعالى { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا }(2/28)
على أصح القولين والمعنى جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به ويبينه قوله وجعلنا على قلوبهم أكنة آن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فأخبر سبحانه أن ذلك جعله فالحجاب يمنع رؤية الحق والأكنة تمنع من فهمه والوقر يمنع من سماعه وقال الكلبي الحجاب ههنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه ووصفه بكونه مستورا فقيل بمعنى ساتر وقيل على النسب أي ذو ستر والصحيح أنه على بابه أي مستورا عن الإبصار فلا يرى ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت والنسب في مفعول لم يشتق من فعله كمكان مهول أي ذي هول ورجل مرطوب أي ذي رطوبة فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب ومجروح ومستور
أهـ { شفاء العليل صـ 93 }
قوله تعالى { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين }(2/29)
ومن ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض فإن القرآن كلهشفاء كما قال في الآية الأخرى فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أشجع في إزالة الداء من القرآن وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال انطلق نفر من أصحاب النبي في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء فقال بعضهم لو أنيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء فاتوهم فقالوا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه فهل عند أحد منكم شيء فقال بعضهم نعم والله إني لأرقى ولكن والله استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم إقتسموا فقال الذي رقالا نفعل حتى نأتي النبي فنذكر له الذي كان فننظر بما يأمرنا فقدموا على رسول الله فذكروا له ذلك فقال وما يدريك إنها رقية ثم قال قد أصبتم اقتسموا وأضربوا لى معكم سهما فقد أثر هذا الدواء في هذا الداء وأزاله حتى كأن لم يكن وهو أسهل دواء وأيسره ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأي لها تأثيرا عجيبا في الشفاء ومكثت بمكة مدة تعتريني أدواء ولا أجد طبيبا ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأري لها تأثيرا عجيبا فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما وكان كثير منهم يبرأ سريعا ولكن ههنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقابها هي في نفسها نافعة شافية ولكن تستدعى قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية فإن عدم(2/30)
تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء لقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول وكذلك القلب إذا أخذ الرقاء والتعاويذ بقبول تام وكان للراقى نفس فعالة وهمة مؤثرة في إزالة الداء وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب ولكن قد يتخلف عنه أثره إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا وإما لحصول المانع من الاجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها
أهـ { الجواب الكافى صـ 3 }
سورة الكهف
قوله تعالى { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا }
فإذا أراد العبد أن يفتدي برجل فلينظر : هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين ؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطا ومعنى الفرط قد فسر بالتضييع أي أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به وبه رشده وفلاحه ضائع قد فرط فيه وفسر بالاسراف أي قد أفرط وفسر بالإهلاك وفسر بالخلاف للحق وكلها أقوال متقاربة والمقصود أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فإن وجده كذلك فليبعد منه وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى عز وجل واتباع السنة وأمره غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه ولا فرق بين الحي والميت إلا بالذكر فمثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت وفي المسند مرفوعا [ أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقال مجنون
أهـ { الوابل الصيب صـ 71 }(2/31)
سئل أبو العباس ثعلب عن قوله أغفلنا قلبه عن ذكرنا فقال جعلناه غافلا قال ويكون في الكلام أغفلته سميته غافلا ووجدته غافلا قلت الغفل الشيء الفارغ والأرض الغفل التي لا علامة بها والكتاب الغفل الذي لا شكل عليه فأغفلناه تركناه غفلا عن الذكر فارغا منه فهو ابقاء له على العدم الأصلي لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر فبقي غافلا فالغفلة وصفه والإغفال فعل الله فيه بمشيئته وعدم مشيئته لتذكره فكل منهما مقتض لغفلته فإذا لم يشأ له التذ كر لم يتذكر وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر فإن قيل فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها قيل القرآن قد نطق بهذا وبهذا قال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وقال ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ومن يرد أن يضله فإن قيل فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر إن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه فيبقى على العدم الأصلي فإذا أضيف إليه كان من باب إضافة الشيء إلى دليله فعدم السبب دليل على عدم المسبب وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه وتفريطه في أمره قال مجاهد كان أمره فرطا أي ضياعا وقال قتادة أضاع أكبر الضيعة وقال السدة هلاكا وقال أبو الهيثم أمر فرط أي متهاون به مضيع والتفريط تقديم العجز قال أبو اسحاق من قدم العجز في أمر إضاعه وأهلكه قال الليث الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقول كل أمر فلان فرط قال الفراء فرطا متروكا يفرط فيما لا ينبغي التفريط فيه واتبع مالا ينبغي اتباعه وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه(2/32)
فصل وأما المرض فقال تعالى في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقال فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقال ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ومرض القلب خروج عن صحته واعتداله فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره فمرضه إما بالشك فيه وإما بإيثار غيره عليه فمرض المنافقين مرض شك وريب ومرض العصاة مرض غي وشهوة وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا قال ابن الأنباري أصل المرض في اللغة الفساد مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله ومرضت بالمرض تغيرت وفسدت قالت ليلى الأخيلية ... إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها ... وقال آخر ... ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ... لفقد الحسين والبلاد اقشعرت ... والمرض يدور على أربعة أشياء فساد وضعف ونقصان وظلمة ومنه مرض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه ولم يبالغ وعين مريضة النظر أي فاترة ضعيفة وريح مريضة إذا هب هبوبها كما قال ... راحت لأربعك الرياح مريضة ... أي لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها وقال ابن الأعرابي أصل المرض النقصان ومنه بدن مريض أي ناقص القوة وقلب مريض ناقص الدين ومرض في حاجتي إذا نقصت حركته وقال الأزهري عن المنذري عن بعض أصحابه المرض أظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها قال والمرض الظلمة وأنشد ... وليلة مرضت من كل ناحية ... فما يضيء لها شمس ولا قمر ... هذا أصله في اللغة ثم الشك والجهل والحيرة والضلال وإرادة الغي وشهوة الفجور في القلب تعود إلى هذه الأمور الأربعة فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض فيعاقبه الله بزيادة المرض لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها
أهـ { شفاء العليل صـ 98 }
قوله تعالى { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه }(2/33)
وهي جمع كنان كعنان وأعنة وأصله من الستر والتغطية ويقال كنة وأكنة وكنان بمعنى واحد بل بينهما فرق فأكنة إذا ستره وأخفاه كقوله تعالى أو أكننتم في أنفسكم وكنة إذا صانه وحفظه كقوله بيض مكنون ويشتركان في الستر والكنان ماأكن الشيء وستره وهو كالغلاف وقد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فذكروا غطاء القلب وهي الأكنة وغطاء الأذن وهو الوقر وغطاء العين وهو الحجاب والمعنى لا نفقه كلامك ولا نسمعه ولا نراك والمعنى إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول ولا يراك قال ابن عباس قلوبنا في أكنة مثل الكنانة التي فيها السهام وقال مجاهد كجعبة النبل وقال مقاتل عليها غطاء فلا نفقه ما تقول
أهـ { شفاء العليل صـ 93 }
قوله تعالى { وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء من ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا }
وهذا يتضمن معنيين أحدهما أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته والثاني أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به وهذا الغطاء للقلب أولا ثم يسري منه إلى العين
أهـ { شفاء العليل صـ 93 }
سورة مريم
قوله تعالى { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و هم في غفلة وهم لا يؤمنون }(2/34)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله يجاء بالموت كأنه كبش املح فيوقف بين الجنة و النار فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرأبون و ينظرون و يقولون نعم هذا الموت ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرأبون و ينظرون ويقولون نعم هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح قال ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت ثم قرا رسول الله و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و هم في غفلة و هم لا يؤمنون متفق عليه و في الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال يدخل اهل الجنة الجنة و يدخل أهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول يا أهل الجنة لا موت و يا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه و عنه قال قال رسول الله إذا صار أهل الجنة إلى الجنة و صار أهل النار إلى النار أتي بالموت حتى يجعل بين النار والجنة ثم ينادى مناد يا أهل الجنة لا موت و يا أهل النار لا موت فيزداد اهل الجنة فرحا و يزداد أهل النار حزنا إلى جهنم و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار أتي بالموت ملبيا فيوقف على السور الذي بين أهل الجنة و أهل النار ثم يقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مبشرين يرجون الشفاعة فيقال لأهل الجنة و أهل النار هل تعرفون هذا فيقول هؤلاء و هؤلاء قد عرفناه هو الموت الذي وكل بنا فيضجع فيذبح ذبحا على السور ثم يقال يا أهل الجنة خلود لا موت و يا أهل النار خلود لا موت رواه النسائي و الترمذي و قال حديث حسن صحيح و هذا الكبش و الإضجاع و الذبح و معاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال و لا تمثيل كما أخطأ فيه بعض الناس خطا قبيحا و قال الموت عرض و العرض لا يتجسم فضلا عن ان يذبح و هذا لا يصح فان الله سبحانه ينشئ من الموت صورة(2/35)
كبش يذبح كما ينشئ من الأعمال صورا معاينة يثاب بها و يعاقب و الله تعالى ينشئ من الأعراض أجساما تكون الأعراض مادة لها و ينشئ من الأجسام أعراضا كما ينشئ سبحانه و تعالى من الأعراض أعراضا و من الأجسام أجساما فالأقسام الأربعة ممكنة مقدوره للرب تعالى و لا يستلزم جمعا بين النقيضين و لا شيئا من المحال و لا حاجة إلى تكلف من قال أن الذبح لملك الموت فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله و رسوله و التأويل
الباطل الذي لا يوجبه عقل و لا نقل و سببه قله الفهم لمراد الرسول من و كلامه فظن هذا القائل أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح و ظن غالط آخر أن العرض يعدم و يزول و يصير مكانه جسم يذبح و لم يهتد الفريقان الى هذا القول الذي ذكرناه و أن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجسام و يجعلها مادة لها كما في الصحيح عنه تجيء البقرة و آل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان الحديث فهذه هي القراءة التي ينشئها الله سبحانه تعالى غمامتين و كذلك قوله في الحديث الآخر أن ما تذكرون من جلال الله من تسبيحه و تحميده و تهليله يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن ذكره احمد و كذلك قوله في حديث عذاب القبر و نعيمه للصورة التي يراها فيقول من أنت فيقول أنا عملك الصالح و أنا عملك السيء و هذا حقيقة لا خيال و لكن الله سبحانه أنشأ له من عمله صورة حسنة و صورة قبيحة و هل النور الذي يقسم بين المؤمنين يوم القيامة إلا نفس إيمانهم أنشأ الله سبحانه لهم منه نورا يسعى بين أيديهم فهذا أمر معقول لو لم يرد به النص فورود النص به من باب تطابق السمع و العقل وقال سعيد عن قتادة بلغنا أن نبي الله قال أن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة و بشارة حسنة فيقول له من أنت فوالله أنى لاراك أمرا الصدق فيقول له أنا عملك فيكون له نورا و قائدا إلى الجنة و أما الكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة وبشارة سيئة فيقول ما(2/36)
انت فوالله اني لاراك امرا السوء فيقول له انا عملك فينطلق به حتى يدخله النار و قال مجاهد مثل ذلك و قال ابن جريج يمثل له عمله في صورة حسنة و ريح طيبة يعارض صاحبه و يبشره بكل خير فيقول له من أنت فيقول أنا عملك فيجعل له نورا بين يديه حتى يدخله الجنة فذلك قوله يهديهم ربهم بإيمانهم و الكافر يمثل له عمله في صورة سيئة و ريح منتنة فيلازم صاحبه و يلاده حتى يقذفه في النار و قال ابن المبارك ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن انه ذكر هذه الآية افما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين قال علموا أن كل نعيم بعده الموت انه يقطعه فقالوا افما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين قيل لا قالوا أن هذا لهو الفوز العظيم و كان يزيد الرقاشي يقول في كلامه أمن أهل الجنة من الموت فطاب لهم العيش و آمنوا من الأسقام فهنا هم في جوار الله طول يبكي حتى تجري دموعه على لحيته
أهـ { حادى الأرواح صـ246 ـ صـ 251 }
سورة طه
قوله تعالى { وأقم الصلاة لذكري } قيل المصدر مضاف إلى الفاعل أي لأذكرك بها وقيل مضاف إلى المذكور أي لتذكروني بها واللام على هذا لام التعليل وقيل : هي اللام الوقتية أي أقم الصلاة عند ذكري كقوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وقوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } وهذا المعنى المراد بالآية لكن تفسيرها به يجعل معناها فيه نظر لأن هذه اللام الوقتية يليها أسماء الزمان والظروف والذكر مصدر إلا أن يقدر زمان محذوف أي عند وقت ذكري وهذا محتمل
والأظهر أنها لام التعليل أي أقم الصلاة لأجل ذكري ويلزم من هذا أن تكون إقامتها عند ذكره وإذا ذكر العبد ربه فذكر الله تعالى سابق على ذكره فإنه لما ذكره ألهمه ذكره فالمعاني الثلاثة حق
أهـ { الوابل الصيب صـ 102 }
قوله تعالى { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى }(2/37)
تأمل قوله تعالى { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى }
كيف قابل الجوع بالعرى والظمأ بالضحى والواقف مع القالب ربما يخيل إليه أن الجوع يقابل بالظمأوالعري بالضحى والداخل إلى بلد المعنى يرى هذا الكلام في اعلى الفصاحة والجلالة لأن الجوع ألم الباطن والعري ألم الظاهر فهما متناسبان في المعني وكذلك الظمأ مع الضحى لأن الظما موجب لحرارة الباطن والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهرا وباطنا
أهـ { بدائع الفوائد حـ3 صـ 330 }
قال تعالى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره
يوم القيامة اعمى لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده اخبر عن حال من اعرض عنه ولم يتبعه فقال ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا أي عن الذكر الذي انزلته فالذكر هنا مصدر مضاف الى الفاعل كقيامي وقراءتي لا الى المفعول وليس المعنى ومن اعرض عن ان يذكرني بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره واحسن من هذا الوجه ان يقال الذكر هنا مضاف إضافة الاسماء لا إضافة المصادر الى معمولاتها والمعنى ومن اعرض عن كتابي ولم يتبعه فإن القرآن يسمى ذكرا قال تعالى وهذا ذكر مبارك انزلناه وقال تعالى ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم وقال تعالى وما هو الا ذكر للعالمين وقال تعالى إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتاب عزيز وقال تعالى إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن وعلى هذا فاضافته كاضافة الاسماء الجوامد التي لا يقصد بها اضافة العامل الىمعموله ونظيره في اضافة اسم الفاعل غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فإن هذه الاضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد وإنما قصد بها قصد الوصف الثابت اللازم وكذلك جرت اوصافا على اعرف المعارف وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو اليه المصير(2/38)
فصل وقوله تعالى فإن له معيشة ضنكا فسرها غير واحد من السلف بعذاب
القبر وجعلوا هذه الاية احد الادلة الدالة على عذاب القبر ولهذا قال ونحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى أي تترك في العذاب كماتركت العمل بآياتنا فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوارونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهذا في البرزخ ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون اشد العذاب فهذا في القيامة الكبرى ونظيره قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون فقول الملائكة اليوم تجزون عذاب الهون المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت ونظيره قوله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق فهذه الاذاقة هي في البرزخ واولها حين الوفاة فإنه معطوف علىقوله يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة الكلام عليه كنظائره وكلاهما واقع وقت الوفاة وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضى الله عنه في قوله تعالى يثبت الله الذين امنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة قال نزلت في عذاب القبر والاحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر والمقصود ان الله سبحانه اخبر ان من اعرض عن ذكره وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى فإن له معيشة ضنكا وتكفل لمن حفظ(2/39)
عهده ان يحييه حياة طيبة ويجزيه اجره في الاخرة فقال تعالى من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فاخبر سبحانه عن فلاح ما تمسك بعهده علماوعملا في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الاخرة باحسن الجزاء وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالاخرة وقال سبحانه ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وانهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون انهم مهتدون فأخبر سبحانه ان من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب اعراضه وعشوه عن ذكره الذي انزله على رسوله فكان عقوبة هذا الاعراض ان قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه وهو يحسب انه مهتد حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاين هلاكه وافلاسه قال يا ليت بيني وبينك بعدالمشرقين فبئس القرين وكل من اعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد ان يقول هذا يوم القيامة فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة إذا كان يحسب انه على هدى كما قال تعالى ويحسبون انهم مهتدون قيل لا عذر لهذا وامثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الاعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو ظن انه مهتد فإنه مفرط باعراضه عن اتباع داعي الهدى فإذا ضل فإنما اتى من تفريطه واعراضه وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول اليها فذاك له حكم آخر والوعيد في القرآن إنما يتناول الاول واما الثاني فإن الله لا يعذب احدا إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى في اهل النار وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال تعالى ان تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين او تقول لو ان الله هداني لكنت من المتقين او تقول حين ترى العذاب لو ان لي(2/40)
كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وهذا كثير في القرآن
فصل وقوله تعالى ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني اعمى
وقد كنت بصيرا اختلف فيه هل هو من عمى البصيرة او من عمى البصر والذين قالوا هو من عمى البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله اسمع بهم وابصر يوم ياتوننا وقوله لقدكنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقوله يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين وقوله لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية(2/41)
في الاخرة كقوله تعالى وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقوله يوم يدعون الى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون افسحر هذا ام انتم لا تبصرون وقوله رأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها والذين رجحوا انه منعمى البصر قالوا السياق لا يدل الا عليه لقوله قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا وهو لم يكن بصيرا في كفره قط بل قد تبين له حينئذ انه كان في الدنيا في عمى عن الحق فكيف يقول وقد كنت بصيرا وكيف يجاب بقوله كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى بل هذا الجواب فيه تنبيه على انه من عمى البصر وانه جوزي من جنس عمله فإنه لما اعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته أعمى الله بصره يوم القيامة وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا فجازاه على عمى بصيرته عمى في الاخرة وعلى تركه ذكره تركه في العذاب وقال تعالى ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم اولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وقد قيل في هذه الاية ايضا انهم عمي وبكم وصم عن الهدى كما قيل في قوله ونحشره يوم القيامة اعمى قالوا لانهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون ومن نصرانه العمى والبكم والصمم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق فهم عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه ولهذا قد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يرون شيئا يسرهم وقال آخرون هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من قبورهم الى الموقف قاموا كذلك ثم انهم يسمعون ويبصرون فيما بعد وهذامروى عن الحسن وقال آخرون هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبو الاسماع والابصار والنطق حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى اخسئوا فيها ولاتكلمون فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون ولا يسمع منهم الا الزفير(2/42)
والشهيق وهذا منقول عن مقاتل والذين قالوا المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم انهم لا حجة لهم ولم يريدوا ان لهم حجة هم عمى عنها بل هم عمىعن الهدى كما كانوا في الدنيا فان العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الاخر وانه عمى البصر فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا ويقر بما كان يجحده في الدنيا فليس هو اعمى عن الحق يومئذ وفصل الخطاب ان الحشر هو الضم والجمع ويراد به تارة الحشر الىموقف القيامةكقوله النبي صلى الله عليه وسلم انكم محشورون الى الله حفاة عراة غرلا وكقوله تعالى وإذا الوحوش حشرت وكقوله تعالى وحشرناهم فلم نغادر منهم احدا ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر فحشر المتقين جمعهم وضمهم الى الجنة
وحشر الكافرين جمعهم وضمهم الى النار قال تعالى يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا وقال تعالى احشروا الذين ظلموا أزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم الى صراط الجحيم فهذا الحشر هو بعدحشرهم الىالموقف وهو حشرهم وضمهم الى النار لانه قد اخبر عنهم انهم قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ثم قال تعالى احشروا الذين ظلموا وازواجهم وهذا الحشر الثاني وعلى هذا فهم ما بين الحشر الاول من القبور الىالموقف والحشر الثاني من الموقف الى النار فعند الحشر الاول يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما فلكل موقف حال يليق به ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته فالقرآن يصدق بعضه بعضا ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 45 ـ صـ 48 }
سورة الأنبياء
قوله تعالى { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين }(2/43)
جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في المتملق له والإقرار له بصفة الرحمة وإنه أرحم الراحمين والتوسل إليه بصفاته سبحانه وشدة حاجته وهو فقره ومتى وجد المبتلى هذا كشف عنه بلواه وقد جرب أنه من قالها سبع مرات ولا سيما مع هذه المعرفة كشف الله ضره
أهـ { الفوائدصـ 321 }
قوله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}
وأصح القولين في قوله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء 107 أنه على عمومه وفيه على هذا التقدير وجهان
أحدهما أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته أما أتباعه فنالوا به كرامة الدنيا والآخرة وأما أعداؤه فالمحاربون له عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة وهم قد كتب عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته وهم أقل شرا بذلك العهد من المحاربين له
وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره وأما الأمم النائية عنه فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته
الوجه الثاني أنه رحمة لكل أحد لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم لكن لم يقبلوها كما يقال هذا دواء لهذا المرض فإذا لم يستعمله المريض لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض
ومما يحمد عليه ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم فإن من نظر في أخلاقه وشيمه علم إنها خير أخلاق الخلق وأكرم شمائل الخلق فإنه كان أعلم الخلق وأعظمهم أمانة وأصدقهم حديثا وأحلمهم وأجودهم وأسخاهم وأشدهم احتمالا وأعظمهم عفوا ومغفرة وكان لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما(2/44)
كما روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال في صفة رسول الله في التوراة محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله وأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا
وأرحم الخلق وأرأفهم بهم وأعظم الخلق نفعا لهم في دينهم ودنياهم وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد وأصبرهم في مواطن الصبر وأصدقهم في مواطن اللقاء وأوفاهم بالعهد والذمة وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه وأشدهم تواضعا واعظمهم إيثارا على نفسه وأشد الخلق ذبا عن أصحابه وحماية
لهم ودفاعا عنهم وأقوم الخلق بما يأمر به وأتركهم لما ينهى عنه وأوصل الخلق لرحمه فهو أحق بقول القائل
برد على الأدنى ومرحمة ... وعلى الأعادي مارن جلد
قال علي رضي الله عنه كان رسول الله أجود الناس صدرا وأصدقهم لهجة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله
فقوله كان اجود الناس صدرا أراد به بر الصدر وكثرة خيره وأن الخير يتفجر منه تفجيرا وأنه منطو على كل خلق جميل وكل خير كما قال بعض أهل العلم ليس في الدنيا كلها محل كان أكثر خيرا من صدر رسول الله قد جمع الخير بحذافيره وأودع في صدره
وقوله أصدق الناس لهجة هذا مما أقر له به أعداؤه المحاربون له ولم يجرب عليه أحد من أعدائه كذبة واحدة قط دع شهادة أوليائه كلهم له به فقد حاربه أهل الأرض بأنواع المحاربات مشركوهم وأهل الكتاب منهم وليس أحد منهم يوما من الدهر طعن فيه بكذبة واحدة صغيرة ولا كبيرة(2/45)
قال المسور بن مخرمة قلت لأبي جهل وكان خالي يا خال هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول مقالته فقال والله يا ابن أختي لقد كان محمد وهو شاب يدعى فينا الأمين فلما وخطه الشيب لم يكن
ليكذب قلت يا خال فلم لا تتبعونه فقال يا ابن أختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف فأطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وأجاروا وأجرنا فلما تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي فمتى نأتيهم بهذه أو كما قال
وقال تعالى يسليه ويهون عليه قول أعدائه قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين الأنعام 33 34
وقوله ألينهم عريكة يعني سهل لين قريب من الناس مجيب لدعوة من دعاه قاض لحاجة من استقضاه جابر لقلب من قصده لا يحرمه ولا يرده خائبا إذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه وتابعهم فيه وإن عزم على أمر لم يستبد دونهم بل يشاورهم ويؤامرهم وكان يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم
وقوله أكرمهم عشرة يعني أنه لم يكن يعاشر جليسا له إلا اتم عشرة وأحسنها وأكرمها فكان لا يعبس في وجهه ولا يغلظ له في مقاله ولا يطوي عنه بشره ولا يمسك عليه فلتات لسانه ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ونحوها بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان ويحتمل غاية الاحتمال فكانت عشرته لهم احتمال أذاهم وجفوتهم جملة لا يعاقب أحدا منهم ولا يلومه ولا يباديه بما يكره من خالطه يقول أنا احب الناس إليه لما يرى من لطفه به وقربه منه وإقباله عليه واهتمامه بأمره وتضحيته له وبذل إحسانه إليه واحتمال جفوته فأي عشرة كانت أو تكون أكرم من هذه العشرة
أهـ { جلاء الأفهام صـ 115 ـ صـ 119 }
سورة الحج
قوله تعالى { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت }(2/46)
المرضع من لها ولد ترضعه والمرضعة من ألقمت الثدي للرضيع وعلى هذا فقوله تعالى يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت أبلغ من مرضع في هذا المقام فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر للرضاعة فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعة لم تذهل عنه إلا لأمر أعظم عندها من اشتغالها بالرضاع
وتأمل رحمك الله تعالى السر البديع في عدوله سبحانه عن كل حامل إلى قوله ذات حمل فإن الحامل قد تطلق على المهيأة للحمل وعلى من هي في أول حملها ومبادئه فإذا قيل ذات حمل لم يكن إلا لمن ظهر حملها وصلح للوضع كاملا أو سقطا كما يقال ذات ولد فأتي في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرضاعة دون التهيؤ لها وأتى في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع والله تعالى أعلم
أهـ { بدائع الفوائد حـ 4 صـ 21 }(2/47)
قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران أحدهما أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة فصور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير في الهوى فتمزق مزقا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه فمنها هبط إلى الأرض وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي تخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه وتؤزه أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء
أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 216 ـ صـ 217 }
قوله تعالى { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز }(2/48)
حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذوه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يصمد إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الآلهة الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه(2/49)
وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء إلا هيتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله ضعف الطالب والمطلوب قيل الطالب العابد والمطلوب المعبود فهو عاجز متعلق بعاجز وقيل هو تسوية بين السالب والمسلوب وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز وعلى هذا فقيل الطالب الإله الباطل والمطلوب الذباب يطلب منه ما استلبه منه وقيل الطالب الذباب والمطلوب الإله فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع فضعف العابد والمعبود والمستلب والمستلب فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه
أهـ { إلام الموقعين حـ 1 صـ 217 ـ صـ 218 }
سورة المؤمنون
قوله تعالى { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } وقال تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها }
والفردوس اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات وأصل الفردوس البستان والفراديس البساتين قال كعب هو البستان الذي فيه الاعناب وقال الليث الفردوس جنة ذات كروم يقال كرم مفردس أي معرش وقال الضحاك هي الجنة الملتفة بالأشجار وهو اختيار المبرد وقال الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب وجمعه الفراديس قال ولهذا سمى باب الفراديس بالشام وانشد لجرير
فقلت للركب إذ جد المسير بنا ... يا بعد من باب الفراديس
وقال مجاهد هذا البستان بالرومية واختاره الزجاج فقال هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية قال وحقيقتة أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين قال حسان وأن ثواب الله كل مخلد ... جنان من الفردوس فيها يخلد
أهـ { حادى الأرواح صـ 159 ـ 160}(2/50)
قوله تعالى { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } المؤمنون91
فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل وحينئذ فلا يرضى بشركة الإله الآخر معه بل إن قدر على قهره وتفرده بالإلهية دونه فعل وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب به كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضا بممالكهم
إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر والعلو عليه فلا بد من أحد أمور ثلاثة
إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه
وإما أن يعلو بعضهم على بعض
وإما أن يكون كلهم تحت قهر إله واحد وملك واحد يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه ويمتنع من حكمهم عليه ولا يمتنعون من حكمه عليهم فيكون وحده هو الإله الحق وهم العبيد المربوبون المقهورون
وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض وجريانه على نظام محكم لا يختلف ولا يفسد من أدل دليل على أن مدبره واحد لا إله غيره كما دل دليل التمانع على أن خالقه واحد لا رب له غيره فذاك تمانع في الفعل والإيجاد وهذا تمانع في العبادة والإلهية فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان يستحيل أن يكون له إلهان معبودان
أهـ { الصواعق المرسلة حـ 1 صـ 99 }
سورة النور
قوله تعالى : { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم }
قال أبي بن كعب : مثل نوره في قلب المسلم(2/51)
وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه من معرفته ومحبته والايمان به وذكره وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم به وجعلهم يمشون به بين الناس وأصله في قلوبهم ثم تقوى مادته فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم بل ثيابهم ودورهم يبصره من هو من جنسهم وسائر الخلق له منكر فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور وصار بإيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا فمنهم من نوره كالشمس وآخر كالقمر وآخر كالنجوم وآخر كالسراج وآخر يعطي نورا على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى إذا كانت هذه حال نوره في الدنيا فأعطى على الجسر بمقدار ذلك بل هو نفس نوره ظهر له عيانا ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا بل كان نوره ظاهرا لا باطنا أعطى نورا ظاهرا مآله إلى الظلمة والذهاب
وضرب الله عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلا بالمشكاة وهي الكوة في الحائط فهي مثل الصدر وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج وحتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه وهي مثل القلب وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافا هي في قلب المؤمن وهي الصفاء والرقة فيرى الحق والهدى بصفائه وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته ويجاهد أعداء الله تعالى ويغلظ عليهم ويشتد في الحق ويصلب فيه بصلابته ولا تبطل صفة منه صفة أخرى ولا تعارضها بل تساعدها وتعاضدها { أشداء على الكفار رحماء بينهم } وقال تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } وقال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وفي اثر القلوب آنية الله تعالى في أرضه فأحبها إليه وأرقها وأصلبها وأصفاها وبازاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيض :
أحدهما : قلب حجري قاس لا رحمة فيه ولا إحسان ولا بر ولا له صفاء يرى به الحق بل هو جبار جاهل : لا علم له بالحق ولا رحمة للخلق(2/52)
وبإزائه قلب ضعيف مائي لا قوة فيه ولا استمساك بل يقبل كل صورة وليس له قوة حفظ تلك الصور ولا قوة التأثير في غيره وكل ما خالطه أثر فيه من قوي وضعيف وطيب خبيث
وفي الزجاجة مصباح وهو النور الذي في الفتيلة وهي حاملته ولذلك النور مادة وهو زيت قد عصر من زيتونة في أعدل الأماكن تصيبها الشمس أول النهار وآخره فزيتها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر حتى إنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار فهذه مادة نور المصباح
وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن هو من شجرة الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة وأبعدها من الانحراف بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها لم تنحرف انحراف النصرانية ولا انحراف اليهودية بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شيء فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن
ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه ثم خالط النار فاشتدت بها اضاءته وقويت مادة ضوء النار به كان ذلك نورا على نور وهكذا المؤمن قلبه مضيئ يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله ولكن لا مادة له من نفسه فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه وخالطت بشاشته فازداد نورا بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة نور على نور فيكاد ينطق بالحق وإن لم يسمع فيه أثر ثم يسمع الأثر مطابقا لما شهدت به فطرته فيكون نورا على نور فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملا ثم يسمع الأثر جاء به مفصلا فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي والفطرة(2/53)
فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة فذكر سبحانه وتعالى نوره في السموات والأرض ونوره في قلوب عباده المؤمنين النور المعقول المشهود بالبصائر والقلوب والنور المحسوس المشهود بالأبصار الذي استنارت به أقطار العالم العلوي والسفلي فهما نوران عظيمان أحدهما أعظم من الآخر وكما أنه إذا فقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره لأن الحيوان إنما يتكون حيث النور ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور لا يعيش فيها حيوان ولا يتكون البته فكذلك أمة فقد فيها نور الوحي والإيمان ميتة وقلب فقد منه هذا النور ميت ولا بد لا حياة له البتة كما لا حياة للحيوان في مكان لا نور فيه
أهـ { الوابل الصيب صـ 736 }
الله سبحانه وتعالى سمى نفسه نورا وجعل كتابه نورا ورسوله نورا ودينه نورا واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ قال الله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم
وقد فسر قوله تعالى الله نور السموات والأرض بكونه منور السموات والأرض وهادي أهل السموات والأرض فنوره اهتدى أهل السموات والأرض وهذا إنما هو فعله وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين أضافة صفة إلى موصوفها وإضافة مفعول إلى فاعله فالأول كقوله عز وجل وأشرقت الأرض بنور ربها فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء ومنه قول النبي في الدعاء المشهور أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت(2/54)
وفي الأثر الآخر أعوذ بوجهك أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات فأخبر أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره
وفي معجم الطبراني والسنة له وكتاب عثمان الدارمي وغيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات والأرض من نور وجهه
وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض وأما من فسرها بأنه منور السموات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفع اليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال سألت رسول الله هل رأيت ربك قال نور أنني أراه فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول معناه كان ثم نور وحال دون رؤيته نور فأنى أراه
قال ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة هل رأيت ربك فقال رأيت نورا وقد اعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال نور أنى أراه على أنها ياء النسب والكلمة كلمة واحدة وهذا خطأ لفظا ومعنى وإنما أوجب لهم هذا الاشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله رأى ربه وكان قوله أني أراه كالانكار للرؤية حاروا في الحديث ورده بعضهم باضطراب لفظه وكل هذا عدول عن موجب الدليل
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له اجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك(2/55)
وشيخنا يقول ليس ذلك بخلاف في الحقيقة فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال إنه رآه عز وجل ولم يقل بعيني رأسه
ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله في الحديث الآخر حجابه النور فهذا النور هو والله أعلم النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه رأيت نورا
فصل في تفسير قوله تعالى مثل نوره
وقوله تعالى مثل نوره كمشكاة فيها مصباح هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن كما قال أبي بن كعب وغيره وقد اختلف في مفسر الضمير في نوره فقيل هو النبي أي مثل نور محمد وقيل مفسره المؤمن أي مثل نور المؤمن والصحيح أنه يعود على الله سبحانه وتعالى والمعنى مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسوله فهذا مع ما تضمنه عود الضمير المذكور وهو وجه الكلام يتضمن التقادير الثلاثة وهو أتم لفظا ومعنى
وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه ويضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله فيضاف إلى الفاعل والقابل ولهذا النور فاعل وقابل ومحل وحال ومادة وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور
كلها على وجه التفصيل فالفاعل هو الله تعالى مفيض الأنوار الهادي لنوره من يشاء والقابل العبد المؤمن والمحل قلبه والحال همته وعزيمته وارادته والمادة قوله وعمله وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم
وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان(2/56)
أحدهما طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ومقابلته بجزء من المشبه به وعلى هذا عامة أمثال القرآن فتأمل صفة المشكاة وهي كوة تنفذ لتكون أجمع للضوء قد وضع فيها المصباح وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها ومادتة من أصفى الأدهان وأتمها وقودا من زيت شجرة في وسط القراح لا شرقية ولا غربية بحيث تصيبها الشمس في أحدى طرفي النهار بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة والآفات إلى الأطراف دونها فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها يكاد يضيء من غير أن تمسه نار فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به
والطريقة الثانية طريقة التشبيه المفصل فقيل المشكاة صدر المؤمن والزجاجة قلبه شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ويتصلب في ذات الله تعالى ويغلظ على أعداء الله تعالى ويقوم بالحق لله تعالى
وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية كما قال بعض السلف القلوب آنية الله في أرضه فأحبها اليه أرقها وأصلبها وأصفاها والمصباح(2/57)
هو نور الإيمان في قلبه والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق وهي مادة المصباح التي يتقد منها والنور على النور نور الفطرة الصحيحة والادراك الصحيح ونور الوحي والكتاب فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه بالأثر ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادقان ويتوافقان فهذا علامة النور على النور عكس من تلاطمت في قلبه أمواج الشبه الباطلة والخيالات الفاسدة من الظنون الجهليات التي يسميها أهلها القواطع العقليات
فهي في صدره كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم انتظام واشتملت عليه أكمل اشتمال فإن الناس قسمان أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول عن الله سبحانه وتعالى وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها فيظنها شيئا له حاصل ينتفع به
وهي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور(2/58)
وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق أصحاب العلم النافع والعمل الصالح الذين صدقوا الرسول في أخباره ولم يعارضوها بالشبهات وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات فلا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين الذين هم في غمرة ساهون ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون أضاء لهم نور الوحي المبين فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون وفي ضلالتهم يتهوكون وفي ريبهم يترددون مغترين بظاهر السراب ممحلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله من الحكمة وفصل الخطاب إن عندهم إلا نخالة الأفكار وزبالة الأذهان التي قد رضوا بها واطمأنوا اليها وقدموها على السنة والقرآن إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أوجبه لهم اتباع الهوى ونخوة الشيطان وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان
أهـ { اجتماع الجيوش الإسلاميةصـ 6 ـ صـ 12 }
قوله تعالى والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور(2/59)
ذكر سبحانه للكافرين مثلين مثلا بالسراب ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان أحدهما من يظن انه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها والسراب لا حقيقة له وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى وتأمل ما تحت قوله يحسبه الظمآن والظمآن الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئا بل خانه أحوج ما كان إليه فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول ولغير الله جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا ووجدوا الله سبحانه ثم فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم(2/60)
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ص - في حديث التجلي يوم القيامة ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب فيقال لليهود ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد عزير ابن الله فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون فيقولون نريد أن تسقينا فيقال لهم اشربوا فيتساقطون وذكر الحديث وهذه حال كل صاحب باطل فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه فإن الباطل لا حقيقة له وهو كاسمه باطل فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير الله أو على غير أمره بطل العمل ببطلان غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى
فصل(2/61)
النوع الثاني أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين وظلمة اتباع الغنى والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين الذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين وهو المثل المائي والمثل الناري وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له وحظهم الظلمات المتراكمة وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعموا عنه بعد أن أبصروه وجحدوه بعد أن عرفوه فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح إلى قوله ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم وهم أهل النور
والضالين هم أصحاب السراب والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة والله أعلم(2/62)
فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع والمثل الثاني لأصحاب العلم الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم وهكذا أمواج الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين يعرف عظمة القرآن وجلالته وأنه تنزيل من حكيم حميد
وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا بل تركهم في على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر أن النبي ص - قال إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحي به قلبه وروحه كما يحي بدنه بالروح التي ينفخها فيه فهما حياتان حياة البدن بالروح وحياة الروح والقلب بالنور ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه كما قال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده وقال يلفني الروح من أمره على من يشاء من عباده وقال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فجعل وحيه روحا ونورا فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ما له من نور
أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 185 ـ 189 }
سورة الفرقان
قوله تعالى { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }(2/63)
فشبه أكثر الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا والأكثرون يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتتجنبه وما ينفعها فتؤثره والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل إليه أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه
أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 189 ـ صـ 190 }
قوله تعالى { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا }
فأخبر تعالى أنه بسط الظل ومده وأنه جعله متحركا تبعا لحركة الشمس ولو شاء لجعله ساكنا لا يتحرك إما بسكون المظهر له والدليل عليه وإما بسبب آخر ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا وهو شيء بعد شيء لم يقبضه جملة فهذا من أعظم آياته الدالة على عظيم قدرته وكمال حكمته فندب الرب سبحانه عباده إلى رؤية صنعته وقدرته وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته ولو شاء لجعله لاصقا بأصل ما هو ظل له من جبل وبناء وشجر وغيره فلم ينتفع به أحد(2/64)
فإن كان الانتفاع به تابعا لمده وبسطه وتحوله من مكان إلى مكان ففي مده وبسطه ثم قبضه شيئا فشيئا من المصالح والمنافع مالا يخفى ولا يحصى فلو كان ساكنا دائما أو قبض دفعة واحدة لتعطلت مرافق العالم ومصالحه به وبالشمس فمد الظل وقبضه شيئا فشيئا لازم لحركة الشمس على ما قدرت عليه من مصالح العالم وفي دلالة الشمس على الظلال ما تعرف به أوقات الصلوات وما مضى من اليوم وما بقي منه وفي تحركه وانتقاله ما يبرد به ما أصابه من حر الشمس وينفع الحيوانات والشجر والنبات فهو من آيات الله الدالة عليه
وفي الآية وجه آخر وهو أنه سبحانه مد الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحى الأرض تحتها فألقت القبة ظلها عليها فلو شاء سبحانه لجعله ساكنا مستقرا في تلك الحال ثم خلق الشمس ونصبها دليلا على ذلك الظل فهو يتبعها في حركتها يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص فهو تابع لها تبعية المدلول لدليله
وفيها وجه آخر وهو أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظلال فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه
وقوله تعالى قبضناه إلينا كأنه يشعر بذلك وقوله قبضا يسيرا يشبه قوله ذلك حشر علينا يسير وقوله قبضناه بصيغة الماضي لا ينافي ذلك كقوله أتى أمر الله والوجه في الآية هو الأول
وهذان الوجهان إن أراد من ذكرهما دلالة الآية عليهما إشارة وإيماء فقريب وإن أراد أن ذلك هو المراد من لفظها فبعيد لأنه سبحانه جعل ذلك آية ودلالة عليه للناظر فيه كما في سائر آياته التي يدعو عباده إلى النظر فيها فلا بد أن يكون ذلك أمرا مشهودا تقوم به الدلالة وتحصل به التبصرة(2/65)
وأبعد من هذا ما تعلق به صاحب المنازل في باب القبض بقبض الظل كما أشار إليه في خطبة كتابه حيث يقول الذي مد ظل التكوين على الخليقة مدا طويلا ثم جعل شمس التمكين لصفوته عليه دليلا ثم قبض ظل التفرقة عنهم إليه قبضا يسيرا فاستعار للتكوين لفظ الظل إعلاما بأن المكونات بمنزلة الظلال في عدم استقلالها بأنفسها إذ لا يتحرك الظل إلا بحركة صاحبه وقوله مدا طويلا إشارة إلى أنه سبحانه لا يزال يخلق شيئا بعد شيء خلقا لا يتناهى لسعة قدرته ووجوب أبديته
ثم إن حقيقة الظل هي عدم الشمس في بقعة ماء لسائر سترها فإنما تتعين تلك الحقيقة بالشمس فكذلك المكون إنما تتعين حقيقته بالمكون له سبحانه وتعالى وشمس التمكين هي التوحيد الجامع لقلوب صفوته عن التفرق في شعاب ظل التكوين ثم قبض ظل التفرقة عنهم إليه قبضا يسيرا أي أخذ ظل التفرقة عنهم أخذا سهلا
فالشيخ أحال باستشهاده بالآية في الباب المذكور على ما تقدم له في الخطبة
ووجه الإشارة بالآية يعلم من قوله ثم قبضناه إلينا والقبض في هذا الباب لم يرد به قبض الإضافة ولهذا قال الشيخ
القبض في هذا الباب أسم يشار به إلى مقام الضنائن الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه
فالقبض نوعان قبض في الأحوال وقبض في الحقائق فالقبض في الأحوال أمر يطرق القلب يمنعه عن الانبساط والفرح وهو نوعان أيضا
أحدهما ما يعرف سببه مثل تذكر ذنب أو تفريط أو بعد أو جفوة أو حدوث ما هو نحو ذلك
والثاني مالا يعرف سببه بل يهجم على القلب هجوما لا يقدر على التخلص منه وهذا هو القبض المشار إليه على ألسنة القوم وضده البسط فالقبض والبسط عندهم حالتان للقلب لا يكاد ينفك عنهما
وقال أبو القاسم الجنيد في معنى القبض والبسط معنى الخوف والرجاء فالرجاء يبسط إلى الطاعة والخوف يقبض عن المعصية(2/66)
فكلهم تكلم في القبض والبسط على هذا المنهج حتى جعلوه أقساما قبض تأديب وقبض تهذيب وقبض جمع وقبض تفريق ولهذا يمتنع صاحبه إذا تمكن منه من الأكل والشرب والكلام وفعل الأوراد والانبساط إلى الأهل وغيرهم
فقبض التأديب يكون عقوبة على غفلة أو خاطر سوء أو فكرة رديئة
وقبض التهذيب يكون إعدادا لبسط عظيم شأنه يأتي بعده فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه والمقدمة له كما كان الغت والغط مقدمة بين يدي الوحي وإعدادا لوروده وهكذا الشدة مقدمة بين يدي الفرج والبلاء مقدمة بين يدي العافية والخوف الشديد مقدمة بين يدي الأمن وقد جرت سنة الله سبحانه أن هذه الأمور النافعة المحبوبة إنما يدخل إليها من أبواب أضدادها
وأما قبض الجمع فهو ما يحصل للقلب حال جمعيته على الله من انقباضه عن العلم وما فيه فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير من اجتمع قلبه عليه وفي هذه الحال من أراد من صاحبه ما يعهده منه من المؤانسة والمذاكرة فقد ظلمه
وأما قبض التفرقة فهو القبض الذي يحصل من تفرق قلبه عن الله وتشتته عنه في الشعاب والأودية فأقل عقوبته ما يجده من القبض الذي يتمنى معه الموت
وأما القبض الذي أشار إليه صاحب المنازل فهو شيء وراء هذا كله فإنه جعله من قسم الحقائق وذلك القبض الذي تقدم ذكره من قسم البدايات ولهذا قال القبض في هذا الباب اسم يشار به إلى مقام الضنائن ومن هنا حسن استشهاده بإشارة الآية لأنه تعالى أخبر عن قبض الظل إليه والقبض في هذا الباب يتضمن قبض القلب عن غيره إليه وجمعيته بعد التفرقة عليه والضنائن جمع ضنينة وهي الخاصة يضن بها صاحبها أي يبخل ببذلها ويصطفيها لنفسه ولهذا قال الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه
أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 293 ـ صـ 296 }
قوله تعالى { وكان الكافر على ربه ظهيرا }(2/67)
هذا من ألطف خطاب القرآن وأشرف معانيه وان المؤمن دائما مع الله علي نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه فهو مع الله علي عدوه الداخل فيه والخارج عنه يحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه كما يكون خواص الملك معه علي حرب اعدائه والبعيدون منه فارغوالكافر مع شيطانه ونفسه وهواه علي ربه وعبارات السلف علي هذه تدور ذكر بن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال عونا للشيطان علي ربه بالعداوة والشرك وقال ليث عن مجاهد قال يظاهر الشيطان علي معصية الله يعينه عليها وقال زيد بن أسلم ظهيرا أي مواليا والمعني أنه يوالي عدوه علي معصيته والشرك به فيكون مع عدوه معينا له علي مساخط ربه
فالمعية الخاصة لتي للمؤمن مع ربه وإله قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه ولهذا صدر الآية بقوله ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة فظاهروا أعداء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه بخلاف وليه سبحانه فانه معه علي نفسه وشيطانه وهواه وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله وبالله التوفيق(2/68)
قوله تعالى والذين اذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا قال مقاتل اذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صما لم يسمعوه وعميانا لم يبصروه ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به وقال ابن عباس لم يكونوا عليها صما وعميانا بل كانوا خائفين خاشعين وقال الكلبي يخرون عليها سمعا وبصرا وقال الفراء اذا تلي عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولي كأنهم لم يسمعوه فذلك الخرور وسمعت العرب تقول قعد يشتمنى كقولك قام يشتمنى واقبل يشتمنى والمعني على ما ذكر لم يصيروا عندها صما وعميانا وقال الزجاج المعني اذا تليت عليهم خروا سجدا وبكيا سامعين مبصرين كما أمروا به وقال ابن قتيبة أي لم يتغافلوا عنها كانهم صم لم يسمعوها وعمى لم يروها قلت ههنا أمران ذكر الخرور وتسليط النفي عليه وهل هو خرور القلب أو خرور البدن
للسجود وهل لمعنى لم كن خرورهم عن صمم وعمه فلهم عليها خرورا بالقلب خضوعا أو بالبدن سجودا أو ليس هناك خرور وعبر به عن القعود
أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة تعلق القلب بغير الله وطاعة القوة الغضبية والقوة الشهوانية وهي الشرك والظلم والفواحش فغاية التعلق بغير الله شرك وان يدعى معه اله آخر وغاية طاعة القوة الغضبية القتل وغاية القوة الشهوانية الزنا ولهذا جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون وهذه الثلاثة يدعو بعضها الى بعض فالشرك يدعو الى الظلم والفواحش كما ان الاخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه قال تعالى(2/69)
كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فالسوء العشق والفحشاء الزنا وكذلك الظلم يدعو الى الشرك والفاحشة فان الشرك اظلم لظلم كما أن أعدل العدل التوحيد فالعدل قرين التوحيد والظلم قرين الشرك ولهذا يجمع سبحانه بينهما أما الاول ففي قوله شهد اللهأنه لا اله الا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط وأما الثاني فكقوله تعالى ان الشرك لظلم عظيم والفاحشة تدعو الى الشرك والظلم ولا سيما اذا قويت ارادتها ولم تحصل الا بنوع من الظلم بالظلم والاستعانة بالسحر والشيطان وقد جمع سبحانه بين الزنا والشرك في قوله
الزاني لا ينكح الا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها الا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فهذه الثلاثة يجر بعضها الى بعض ويامر بعضها ببعض ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيدا وأعظم شركا كان أكثر فاحشة واعظم تعلقا بالصور وعشقا لها ونظير هذا قوله تعالى وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون فاخبر أن ما عنده خير لمن آمن به وتوكل عليه وهذا هو التوحيد ثم قال والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش فهذا اجتناب داعي القوة الشهوانية ثم قال واذا ما غضبوا هم يغفرون فهذا مخالفة القوة الغضبية فجمع بين التوحيد والعفة والعدل التي هي جماع الخير كله
أهـ {الفوائد صـ 79 ـ 83 }
سورة الشعراء
قوله تعالى { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [ الشعراء : 88 ] والسليم هو السالم وجاء على هذا المثال لأنه للصفات كالطويل والقصير والظريف فالسليم القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له كالعليم والقدير وأيضا فإنه ضد المريض والسقيم والعليل(2/70)
وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم والأمر الجامع لذلك : أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه وسلم من تحكيم غير رسوله فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والذل له وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده قالقلب السليم : هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما بل قد خلصت عبوديته لله تعالى : إرادة ومحبة وتوكلا وإنابة وإخباتا وخشية ورجاء وخلص عمله لله فإن أحب أحب في الله وإن أبغض أبغض في الله وإن أعطى أعطى لله وإن منع منع لله ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسولهصلى الله عليه وسلم فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده دون كل أحد في الأقوال والأعمال من أقوال القلب وهي العقائد وأقوال اللسان وهي الخبر عما في القلب وأعمال القلب وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها وأعمال الجوارح فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دقعه وجله هو ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل كما قال تعالى : يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله [ الحجرات : 1 ] أي لا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر قال بعض السلف : ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان : لم وكيف أى لم فعلت وكيف فعلت فالأول سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه : هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم أو استجلاب محبوب عاجل أو دفع مكروه عاجل أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى وابتغاء الوسيلة إليه
ومحل هذا السؤال : أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك أم فعلته لحظك وهواك(2/71)
والثاني : سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك التعبد أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه
فالأول سؤال عن الإخلاص والثاني عن المتابعة فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما
فطريق التخلص من السؤال الأول : بتجريد الإخلاص وطريق التخلص من السؤال الثاني : بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص وهوى يعارض الاتباع فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضمنت له النجاة والسعادة
أهـ { إغاثة اللهفان حـ 1 صـ 7 ـ 8 }
قوله تعالى { تالله أن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين }
وهذه التسوية إنما كانت في الحب والتأله لا في الخلق والقدرة والربوبية وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار بقوله والحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وأصح القولين أن المعنى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيجعلون له عدلا يحبونه ويعبدونه ويعبدونه كما يحبون الله ويعبدونه ويعظمون أمره
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ2 صـ 132 }(2/72)
وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها فتصحيح هذه هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله فحقيق لمن نصح نفسه وأحب سعادتها ونجاتها أن يتيقظ لهذه المسألة علما وعملا وحالا وتكون أهم الأشياء عنده وأجل علومه وأعماله فإن الشأن كله فيها والمدار عليها والسؤال يوم القيامة عنها قال تعالى فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون قال غير واحد من السلف هو عن قول لا إله إلا الله وهذا حق فإن السؤال كله عنها وعن أحكامها وحقوقها وواجباتها ولوازمها فلا يسأل أحد قط إلا عنها وعن واجباتها ولوازمها وحقوقها قال أبو العالية كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون ماذا أجبتم المرسلين فالسؤال عماذا كانوا يعبدون هو السؤال عنها نفسها والسؤال عماذا أجابوا المرسلين سؤال عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها هل سلكوها وأجابوا لما دعوهم إليها فعاد الأمر كله إليها وأمر هذا شأنه حقيق بأن تنعقد عليه الخناصر ويعض عليه بالنواجذ ويقبض فيه على الجمر ولا يؤخذ بأطراف الأنامل ولا بطلب على فضله بل يجعل هو المطلب الأعظم وما سواه إنما يطلب على الفضلة والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه
أهـ { طريق الهجرتين صـ 383 ـ 384 }
سورة النمل
قوله تعالى { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى }
وأما السؤال السابع عشر وهو أن قوله قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى النمل 59 هل السلام من الله تعالى فيكون المأمور به الحمد والوقف التام عليه أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا
فالجواب عنه أن الكلام يحتمل الأمرين ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح فيرجح كونه داخلا في جملة القول بأمور(2/73)
منها اتصاله به وعطفه عليه من غير فاصل وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع ولهذا إذا قلت الحمد لله وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول
ومنها أنه إذا كان معطوفا على المقول كان عطف خبر على خبر وهو الأصل ولو كان منقطعا عنه كان عطفا على جملة الطلب وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب
ومنها أن قوله قل الحمد وسلام على عباده الذين اصطفى ظاهر في أن المسلم هو القائل الحمد لله ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة ولم يقل سلام على عبادي
ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور أحدها مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى كقوله سلام على نوح في العالمين سلام على إبراهيم سلام على موسى وهارون سلام على آل ياسين
ومنها أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم أما الأول فقال تعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين الصافات 181 182 وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله ثم سلامه على رسله(2/74)
وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه ثم سلم على المرسلين وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد وأعظم ما جاءوا به التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض وما خالفه هو الباطل والكذب المحال وهذا المعنى بعينه في قوله قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى كما هو في آخر الصافات
وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره فمنه قوله تعالى قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان الأنبياء 112 وقوله وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين المؤمنون 118 وقوله ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين الأعراف 89 ونظائره كثيرة جدا
وفصل الخطاب في ذلك أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا وتنتظمهما انتظاما واحدا فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه وليس فيه إلا البلاغ والكلام كلام الرب تبارك وتعالى فهو الذي حمد نفسه وسلم على عباده وأمر رسوله بتبليغ ذلك فإذا قال الرسول الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه وسلم به هو على عباده فهو سلام من الله ابتداء ومن المبلغ بلاغا ومن العباد اقتداء وطاعة فنحن نقول كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى(2/75)
ونظير هذا قوله تعالى قل هو الله أحد الإخلاص 1 فهو توحيد منه لنفسه وأمر للمخاطب بتوحيده فإذا قال العبد قل هو الله أحد كان قد وحد الله بما وحد به نفسه وأتى بلفظة قل تحقيقا لهذا المعنى وأنه مبلغ محض قائل لما أمر بقوله والله أعلم
وهذا بخلاف قوله قل أعوذ برب الفلق الفلق 1 و قل أعوذ برب الناس الناس 1 فإن هذا أمر محض بإنشاء الإستعاذة لا تبليغ لقوله أعوذ برب الناس فإن الله لا يستعيذ من أحد وذلك عليه محال بخلاف قوله قل هو الله أحد فإنه خبر عن توحيده وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد فتأمل هذه النكتة البديعة والله المستعان
أهـ { بدائع الفوائد حـ 2 صـ 170 ـ 172 }(2/76)
وكلمة السلام هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية وهي الحمد لله ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ويكون محلها النصب محكيه بالقول ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب وهذا التقدير أرجح وعليه يكون السلام من الله عليهم وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه وتعالى على رسله عليهم السلام وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم ولكن يقال على هذا كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما فلا يحسن أن يقال قم وذهب زيد ولا أخرج وقعد عمرو أو يجاب على هذا بأن جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه وهذا نظير قوله تعالى قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون فقوله تعالى وما تغني الآيات ليس معطوفا علىالقول وهو نظروا بل معطوف على الجملة الكبرى على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى قل رب احكم بالحق وربنبا الرحمن المستعان على ما تصفون وقوله تعالى وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين والمقصود أنه على هذا القول يكون الله سبحانه وتعالى قد سلم على المصطفين من عباده والرسل أفضلهم وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه أخلصهم بخالصة ذكرى الدار وأنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ويكفي في فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه وجعلهم أمناء على رسالته وواسطة بينه وبين عباده وخصهم بأنواع كراماته فمنهم من اتخذه خليلا ومنهم من كلمه تكليما ومنهم من رفعه مكانا عليا على سائرهم درجات ولم يجعل لعباده وصولا إليه إلا من طريقهم ولا دخولا إلى جنته إلا خلفهم ولم يكرم أحدا منهم بكرامة إلا على أيديهم فهم أقرب الخلق إليه وسيلة(2/77)
وأرفعهم عنده درجة وأحبهم إليه وأكرمهم عليه وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على أيديهم وبهم عرف الله وبهم عبد وأطيع بهم حصلت محابه تعالى في الأرض وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم المذكورون في قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق وعليهم تدور الشفاعة حتى يردوها إلى خاتمهم وأفضلهم
أهـ { طريق الهجرتين صـ 453 ـ 456 }
سورة القصص
قوله تعالى { ولو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين }
فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولا ولم ينزل عليهم كتابا فقطع هذه الحجة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا أن يصيبوا بها المصيبة ولكنه سبحانه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل وهذا هو فصل الخطاب(2/78)
وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى لعدم جمعهما بين هذين الأمرين فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي وأحسنوا في رد ذلك عليهم واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلا على انتفاء القبح واستواء الأفعال في أنفسها وأحسنوا في رد هذا عليهم فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصواب وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله ولا الظفر عليه أصلا فانه موافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له مخالف في باطلها منكر له
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 3 صـ 8 }
قوله عز وجل {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون خص سبحانه النهار بذكر البصر لانه محله وفيه سلطان البصر وتصرفه وخص الليل بذكر السمع لان سلطان السمع يكون بالليل وتسمع فيه الحيوانات مالا تسمع في النهار لانه وقت هدوء الاصوات وخمود الحركات وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر والنهار بالعكس فيه قوة سلطان البصر وضعف سلطان السمع فقوله افلا تسمعون راجع إلى قوله قل ارايتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بضياء به وقوله أفلا تبصرون راجع الى قوله قل أرايتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا الى يوم القيامة
أهـ {مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 311 }
سورة العنكبوت(2/79)
قوله تعالى { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون }
فذكر سبحانه أنهم ضعفاء وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا وهو من أوهن البيوت وأضعفها وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا كما قال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به ويتكبر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده وفي القرآن أكثر من ذلك وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده
فإن قيل فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فكيف نفي عنهم علم ذلك بقوله لو كانوا يعلمون
فالجواب أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقدرة فكان الأمر بخلاف ما ظنوه
أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 184 ـ 185 }
قوله تعالى{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر }(2/80)
فقيل : المعنى أنكم في الصلاة تذكرون الله وهو من ذكره ولذكره الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه وهذا يروى عن ابن عباس وسلمان وأبي الدرداء وابن مسعود رضي الله عنهم وذكر ابن أبي الدنيا عن فضيل ابن مرزوق عن عطية { ولذكر الله أكبر } قال : وهو قوله تعالى : { فاذكروني أذكركم } فذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم إياه
وقال ابن زيد وقتادة : معناه : ولذكر الله أكبر من كل شيء وقيل لسلمان : أي الأعمال أفضل ؟ أما تقرأ القرآن { ولذكر الله أكبر } ويشهد لهذا حديث أبي الدرداء المتقدم [ ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ] الحديث
وكان شيخ الإسلام أبو العباس قدس الله روحه يقول : الصحيح أن معنى الآية أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان وأحدهما أعظم من الآخر : فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي مشتملة على ذكر الله تعالى ولما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه سئل : أي العمل أفضل ؟ قال : ذكر الله أكبر وفي السنن عن عائشة عن النبي صلى اله عليه وسلم قال : [ إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى ] رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح
أهـ { الوابل الصيب صـ 763 }
سورة الروم
قوله تعالى { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون }(2/81)
وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم لا يحتاجون فيها إلى غيرهم ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها فقال هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه وقال ابن عباس تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعفولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبيد لي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول
أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 190 ـ191 }
قوله تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون }(2/82)
قال مجاهد اذا ولي الظالم سعى بالظلم والفساد فيحبس بذلك القطر فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ثم قرأ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ثم قال أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر وقال عكرمة ظهر الفساد في البر والبحر أما إني لا أقول لكم بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء وقال قتادة أما البر فاهل العمود وأما البحر فاهل القرى والريف قلت وقد سمي الله تعالى الماء العذب بحرا فقال هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج وليس في العالم بحر حلو واقفا وإنما هي الانهار الجارية والبحر المالح هو الساكن فتسمى القرى التي على المياه الجارية باسم تلك المياه وقال ابن زيد ظهر الفساد في البر والبحر قال الذنوب قلت أراد أن الذنب سبب الفساد الذي ظهر وإن أراد أن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها فيكون قوله ليذيقهم بعض الذي عملوا لام العاقبة والتعليل وعلى الاول فالمراد بالفساد والنقص والشر والالآم التي يحدثها الله فى الارض بمعاصي العباد فكل ما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة كما قال بعض السلف كل ما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة والظاهر والله أعلم إن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها ويدل عليه قوله تعالى ليذيقهم بعض الذي عملوا فهذا حالنا وإنما إذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة ومن تأثير معاصي الله في الارض ما يحل بها من الخسف والزلازل ويمحق بركتها وقد مر رسول الله على ديار ثمود فمنعهم من دخول ديارهم الا وهم باكون ومن شرب مياههم ومن الاستسقاء من أبيارهم حتى أمر أن لا يعلف العجين الذي عجن بمياههم لنواضح الابل لتأثير شؤم المعصية في الماء وكذلك شؤم تأثير الذنوب فى نقص الثمار(2/83)
وما ترى به من الآفات وقد ذكر الامام أحمد فى مسنده فى ضمن حديث قال وجدت في خزائن بعض بني أمية حنطة الحبة بقدر نواة التمرة وهي في صرة مكتوب عليها كان هذا ينبت في زمن من العدل وكثير من هذه الأفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء انهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن وكثير من هذه الآفات التي تصيبها لم يكونوا يعرفونها وإنما حدثت من قرب وأما تأثير الذنوب في الصور والخلق فقد روي الترمذي في جامعه عن النبي انه قال خلق الله آدم وطوله في السماء ستون ذراعا ولم يزل الخلق ينقص حتى الآن فاذا أراد الله أن يطهر الارض من الظلمة والخونة والفجرة ويخرج عبدا من عباده من أهل بيت نبيه فيملأ الارض قسطا كما ملئت جورا ويقتل المسيح اليهود والنصارى ويقيم الدين الذي بعث الله به رسوله وتخرج الارض بركاتها وتعود كما كانت حتى ان العصابة من الناس ليأكلون الرمانة ويستظلون بقحفها ويكون العنقود من العنب وقر بعير ولبن اللقحة الواحدة يكفي الفئام من الناس وهذا لان الارض لما طهرت من المعاصي ظهرت فيها آثار البركة من الله تعالى التي محقتها الذنوب والكفر ولاريب ان العقوبات التي أنزلها الله في الارض بقية آثارها سارية في الارض تطلب ما يشاء كلها من الذنوب التي هي آثار تلك الجرائم التي عذبت بها الامم فهذه الآثار في الارض من آثار العقوبات كما ان هذه المعاصي من آثار الجرائم فتناسب كلمة الله وحكمة الكوني أولا وآخرا وكان العظيم من العقوبة للعظيم من الجناية والأخف للأخف وهذا يحكم سبحانه بين خلقه في دار البرزخ ودار الجزاء وتأمل مقارنة الشيطان ومحله وداره فانه لما قارن العبد واستولى عليه نزعت البركة من عمره وعمله وقوله ورزقه ولما أثرت طاعته في الارض ما أثرت نزعت البركة من كل محل ظهرت فيه طاعته وكذلك مسكنه لما كان الجحيم لم يكن هناك شيء من الروح والرحمة والبركة فصل(2/84)
ومن عقوباتها انها تطفي من القلب نار الغيرة التي هى لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية
لحياة جميع البدن فان الغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كمال يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديث وأشرف الناس وأعلاهم قدر وهمة أشدهم غيرة علي نفسه وخاصته وعموم الناس ولهذا كان النبي أغير الخلق علي الامة والله سبحانه أشد غيرة منه كما ثبت في الصحيح عنه انه قال أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني وفي الصحيح أيضا عنه انه قال في خطبة الكسوف يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو ترني أمته وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب اليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب اليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه فجمع في هذا الحديث بين الغيرة التي أصلها كراهة القبائح وبنضها وبين محبة العذر الذي يوجب كمال العدل والرحمة والاحسان والله سبحانه مع شدة غيرته يحب إن يعتذر اليه عبده ويقبل عذر من اعتذر اليه وانه لايؤاخذ عبده بارتكاب ما يغار من ارتكابه حتى يعذر اليهم ولأجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه إعذارا وإنذارا وهذا غاية المجد والاحسان ونهاية الكمال فان كثيرا ممن تشتد غيرته من المخلوقين تحمله شدة الغيرة على سرعة الايقاع والعقوبة من غير إعذار منه ومن غير قبول العذر ممن إعتذر اليه بل قد يكون له فى نفس الامر عذر ولاتدعه شدة الغيرة ان يقبل عذره وكثير ممن تقبل المعاذير يحمله على قبولها قلة الغيرة حتى يتوسع في طريق المعاذير ويرى عذرا ما ليس بعذر حتى يعذر كثير منهم بالعذر وكل منهما غير ممدوح على الاطلاق وقد صح عن النبي انه قال أن من الغيرة ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله فالتي يبغضها الله الغيرة من غير ريبة وذكر الحديث وانما الممدوح اقتران الغيرة بالعذر فيغار في محل الغيرة(2/85)
ويعذر في موضع العذر ومن كان هكذا فهر الممدوح حقا ولما جمع سبحانه صفات الكمال كلها كان أحق بالمدح من كل أحد ولايبلغ أحد إن يمدحه كما ينبغي له بل هو كما مدح نفسه وأثنى على نفسه فالغيور قد وافق ربه سبحانه في صفة من صفاته ومن وافق الله في صفه من صفاته قادته تلك الصفة اليه بزمامه وأدخلته على ربه وأدنته منه وقربته من رحمته وصيرته محبوبا له فانه سبحانه رحيم يحب الرحماء كريم يحب الكرماء عليم يحب العلماء قوى يحب المؤمن القوي وهو أحب اليه من المؤمن الضعيف حتى يحب أهل الحياء جميل يحب أهل الجمال وتر يحب أهل الوتر ولو لم يكن في الذنوب والمعاصي الا انها توجب لصاحبها ضد هذه الصفات وتمنعه من الاتصاف بها لكفي بها عقوبة فان الخطر تنقلب وسوسة والوسوسة تصير إرادة والارادة تقوي فتصير عزيمة ثم نصير فعلا ثم تصير صفة لازمة وهيئة ثابتة راسخة وحينئذ يتعذر الخروج منهما كما يتعذر عليه الخروج من صفاته القائمة به والمقصود انه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس وقد تضعف في القلب جدا لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره واذا وصل الى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له ويدعوه اليه ويحثه عليه ويسعي له فى تحصيله ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله والجنة عليه حرام وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه لغيره فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فتدفع السوء والفواحش وعدم الغيرة تميت القلب فتموت الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه فاذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلا ولم يجد دافعا فتمكن فكان الهلاك ومثلها مثل صياصي الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وعن(2/86)
ولده فاذا تكسرت طمع فيها عدوه
أهـ { الجواب الكافى صـ 42 ـ 45 }
سورة سبأ
قوله تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } سبأ23 , 22
فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكا للأسباب التي ينفع بها عابده أو شريكا لمالكها أو ظهيرا أو وزيرا ومعاونا له أو وجيها ذا حرمة وقدر يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض فقد يقول المشرك هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له فيقول المشرك قد تكون ظهيرا ووزيرا ومعاونا فقال وماله منهم من ظهير
فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها
وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه
أهـ { الصواعق المرسلة حـ 1 صـ 98 }
سورة فاطر
قوله تعالى { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد }(2/87)
بين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم كما أن كونه غنيا حميدا ذاتي له فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان بل هو ذاتي للفقير فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة كما أن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذاتي فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة وكل ما يذكر ويقرر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك إذا ما بالذات لا يعلل فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته فما يذكر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر لا أسباب له ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون فإن الفلاسفة قالوا علة الحاجة الإمكان والمتكلمون قالوا علة الحاجة الحدوث والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان وكلاهما دليل الحاجة والافتقار وفقر العالم إلى الله سبحانه أمر ذاتي لا يعلل فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته ثم يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلة على هذا الفقر والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه غني حميد فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرا ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلا غنيا كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبدا والرب إلا ربا
إذا عرف هذا فالفقر فقران فقر اضطراري وهو فقر عام لا خروج لبر ولا فاجر عنه وهذا الفقر لا يقتضي مدحا ولا ذما ولا ثوابا ولا عقابا بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقا ومصنوعا(2/88)
والفقر الثاني فقر اختياري هو نتيجة علمين شريفين أحدهما معرفة العبد بربه والثاني معرفته بنفسه فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرا هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام
ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئا ولا يقدر على شيء ولا يملك شيئا ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمرا مشهودا محسوسا لكل أحد ومعلوم أن هذا له من لوازم ذاته وما بالذات دائم بدوامها وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى بل لم يزل عبدا فقيرا بذاته إلى بارئه وفاطره فلما أسبغ عليه نعمته وأفاض عليه رحمته وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرا وباطنا وخلع عليه ملابس إنعامه وجعل له السمع والبصر والفؤاد وعلمه وأقدره وصرفه وحركه ومكنه من استخدام بني جنسه وسخر له الخيل والإبل وسلطه على دواب الماء واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية وحفر الأنهار وغرس الأشجار وشق الأرض وتعلية البناء والتحليل على مصالحه والتحرز والتحفظ لما يؤذيه ظن المسكين أن له نصيبا من الملك وادعى لنفسه ملكا مع الله سبحانه ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج بل كأن ذلك شخصا آخر غيره كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي أن رسول الله بصق يوما في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال قال الله تعالى يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت(2/89)
أتصدق وأنى أوان الصدقة ومن ههنا خذل من
خذل ووفق من وفق فحجب المخذول عن حقيقته ونسي نفسه فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه فطغى وعتا فحقت عليه الشقوة قال تعالى كلا إن الأنسان ليطغى أن رءاه استغنى وقال فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى فأكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين ولهذا كان من دعائه أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك
وكان يدعو يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يعلم
أن قلبه بيد الرحمن عز وجل لا يملك منه شيئا وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاء كيف وهو يتلو قوله تعالى ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا فضرورته إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به وحسب قربه منه ومنزلته عنده وهذا أمر إنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاء ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة وأعظمهم عنده جاها وأرفعهم عنده منزلة لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه وكان يقول لهم أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي إنما أنا عبد وكان يقول لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله
وذكره الله سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته مقام الإسراء ومقام الدعوة ومقام التحدي فقال سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وقال وأنه لما قام عبدالله يدعوه وقال وإن كنتم في ريب مما(2/90)
نزلنا على عبدنا وفي حديث الشفاعة إن المسيح يقول لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله وبكماله مغفرة الله له فتأمل قوله تعالى في الآية أنتم الفقراء إلى الله باسم الله دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر فإنه كما تقدم نوعان فقر إلى ربوبيته وهو فقر المخلوقات بأسرها وفقر إلى ألوهيته وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين وهذا هو الفقر النافع والذي يشير إليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إليه هو الفقر الخاص لا العام وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له وكل أخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير
قال شيخ الإسلام الأنصاري الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها ذما أو مدحا والسلامة منها
طلبا أو تركا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه الدرجة الثانية الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأعمال ويقطع شهود الأحوال ويمحص من أدناس مطالعة المقامات والدرجة الثالثة صحة الاضطرار والوقوع في يد التقطع الوحداني والاحتباس في بيداء قيد التجريد وهذا فقر الصوفية(2/91)
فقوله الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة يعني أن الفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق فيرى نفسه مملوكة لله لا يرى نفسه مالكا بوجه من الوجوه ويرى أعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكا عبدا مستعملا فيما أمره به سيده فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة بموجب العبودية فليس مالكا لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أعماله بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه كرجل اشترى عبدا بخالص ماله ثم علمه بعض الصنائع فلما تعلمها قال له إعمل وأد إلي فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء فلو حصل بيد هذا العبد من الأموال والأسباب ما حصل لم ير له فيها شيئا بل يراه كالوديعة في يده وأنها أموال أستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده مستودعا متصرفا فيها لسيده لا لنفسه كما قال عبدالله ورسوله وخيرته من خلقه والله إني لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فهو متصرف في تلك الخزائن بالأمر المحض تصرف
العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أوامر سيده فالله هو المالك الحق وكل ما بيد خلقه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإمساك(2/92)
وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عز وجل فيبذل أحدهم الشيء رغبة في ثواب الله ورهبة من عقابه وتقربا إليه وطلبا لمرضاته أم يكون البذل والإمساك منهم صادرا عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع ! فيعطي لهواه ويمنع لهواه فيكون متصرفا تصرف المالك لا المملوك فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أو رفعة أو منزلة أو مدح أو حظ من الحظوظ أو الرهبة من فوت شيء من هذه الأشياء وإذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأى نفسه لا محالة مالكا فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسي فقره ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أنما هو مملوك ممتحن في صورة ملك متصرف كما قال تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون وحقيق بهذا الممتحن أن يوكل إلى ما ادكعته نفسه من الإحالات والملكات مع المالك الحق سبحانه فإن من ادعى لنفسه حالة مع الله سبحانه وكل إليها ومن كل إلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب وأغلق عنه باب الفوز والسعادة فإن كل شيء ما سوى الله باطل ومن وكل إلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إلا على الحرمان فكل من تعلق بغير الله انقطع به أحوج ما كان إليه كما قال تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب فالأسباب التي تقطعت بهم هي العلائق التي بغير الله ولغير الله تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها وذلك لأن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أسبابها وبطلت فإن الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها وكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه وكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه وكل سعي لغيره باطل ومضمحل وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال السعي والعمل والكد والخدمة التي يفعلها العبد لمتول أو أمير أو صاحب منصب أو مال فإذا زال ذلك الذي عمل له عدم ذلك العمل وبطل ذلك السعي ولم يبق في يده سوى الحرمان ولهذا يقول الله(2/93)
تعالى يوم القيامة أليس عدلا مني أني أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في الدنيا فيتولى عباد الأصنام والأوثان أصنامهم وأوثانهم فتتساقط بهم في النار ويتولى عابدو الشمس والقمر والنجوم آلهتهم فإذا كورت الشمس وانتثرت النجوم اضمحلت تلك العبادة وبطلت وصارت حسرة عليهم كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقة وأغبنهم يوم معاده فإنه يحال على مفلس كل الإفلاس بل على عدم والموحد حوالته على المليء الكريم فيا بعد ما بين الحوالتين(2/94)
وقوله البراءة من رؤية الملكة ولم يقل من الملكة لأن الإنسان قد يكون فقيرا لا ملكة له في الظاهر وهو عري عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذي الملك والملكوت وقد يكون العبد قد فوض إليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه كما كان سليمان بن داود أوتي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وكذلك الخليل وشعيب والأغنياء من الأنبياء وكذلك أعنياء الصحابة فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة في الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم فلا يرون لها ملكا حقيقيا بل يرون ما في أيديهم لله عارية ووديعة في أيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبد أو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم فوجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره إنما يقدح في فقره رؤيته لملكته فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره وكان كالخازن لسيده الذي ينفذ أوامره في ماله فهذا لو كان بيده من المال أمثال جبال الدنيا لم يضره ومن لم يعاف من ذلك ادعت نفسه الملكة وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق فهو أكبر همه ومبلغ علمه إن أعطي رضي وإن منع سخط فهو عبد الدينار والدرهم يصبح مهموما ويمسي كذلك يبيت مضاجعا له تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء بل يكاد يتلف إذا توهمت نفسه الفقر وقد يؤثر الموت على الفقر والأول مستغن بمولاه المالك الحق الذي بيده خزائن السموات والأرض وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه فما للعبد وما للجزع والهلع وإنما تصرف مالك المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه فله الحكم في ماله إن شاء أبقاه وإن شاء ذهب به وأفناه فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه ويرى تدبيره هو موجب الحكمة فليس لقلبه بالمال تعلق ولا له به اكتراث لصعوده عنه وارتفاع همته إلى المالك الحق فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن(2/95)
كل ما سواه وهو فقير إليه دون ما سواه فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان كما قال تعالى كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى ولم يقل إن استغنى بل جعل الطغيان ناشئا عن رؤيته غنى نفسه ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل بل قال وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وهذا والله أعلم لأنه ذكر موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه وذكر في سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته فإنه لو افتقر إليه لتقرب إليه بما أمره من طاعته فعل المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفة عين ولا يجد بدا من امتثال أوامره ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه أعطاء ما وجب عليه من الأقوال والأعمال وأداء المال وجمع إلى ذلك تكذيبه بالحسنى وهي التي وعد بها أهل الإحسان بقوله للذين
أحسنوا الحسنى وزيادة ومن فسرها بشهادة أن لا إله إلا الله فلأنها أصل الإحسان وبها تنال الحسنى ومن فسرها بالخلف في الإنفاق فقد هضم المعنى حقه وهو أكبر من ذلك وإن كان الخلف جزءا من أجزاء الحسنى والمقصود أن الاستغناء عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره لك عسرى ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه وكلاهما مناف للفقر والعبودية
قوله الدرجة الأولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها ذما أو مدحا والسلامة منها طلبا أو تركا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه فحاصل هذه الدرجة فراغ اليد والقلب من الدنيا والذهول عن الفقر منها والزهد فيها وعلامة فراغ اليد نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا فهو لا يضبط يده مع وجودها شحا وضنا بها ولا يطلبها مع فقدها سؤالا وإلحافا وحرصا فهذا الإعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب إذ لو كان لها في القلب منزلة لكان الأمر بضد ذلك وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إليها
أهـ { طريق الهجرتين صـ 6 ـ 11 }
سورة يس(2/96)
قوله تعالى { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون }
قال الفراء حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله وقال أبو عبيدة منعناهم عن الإيمان بموانع ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان فإن قيل فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب فكيف ذكر الغل الذي في العنق قيل لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب كقوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ومن هذا قولهم انما في عنقك وهذا في عنقك ومن هذا قوله ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق ومن هذا قال الفراء أنا جعلنا في أعناقهم أغلالا حبسناهم عن الإنفاق قال أبو إسحاق وإنما يقال للشيء اللازم هذا في عنق فلان أي لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق قال أبو علي هذا مثل قولهم طوقتك كذا وقلدتك كذا ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق قلت ومن هذا قولهم قلدت فلانا حكم كذا وكذا كأنك جعلته طوقا في عنقه وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها قال الحسن هي الشدائد التي كانت في العبادة كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وتتبع العروق من اللحم وقال ابن قتيبة هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلها أغلا لأن التحريم يمنع كما يقبض الغل اليد وقوله فهي إلى الأذقان قالت طائفة الضمير يعود إلى الأيدي وإن لم تذكر لدلالة السياق عليها قالوا لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد ولذلك سمي جامعة وعلى هذا فالمعنى فأيديهم او فايمنهم مضمومة الى أذقانهم(2/97)
هذا
قول الفراء والزجاج وقالت طائفة الضمير يرجع إلى الأغلال وهذا هو الظاهر وقوله فهي إلى الأذقان أي واصلة وملزوزة إليها فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن وقوله فهم مقمحون قال الفراء والزجاج المقمح هو الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر يقال أقمح البعير رأسه وقمح وقال الأصمعي بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب قال الأزهري لما غلت أيديهم إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل الرافعة رؤوسها انتهى فإن قيل فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان قيل أحسن وجه وأبينه فإن الغل إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا يستطيع له حركة ثم أكد هذا المعنى والحبس بقوله وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا قال ابن عباس منعهم من الهدى لما سبق في علمه والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم ومثلها بأحسن تمثيل وأبلغه وذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم وضمت أيديهم إليها وجعلوا بين السدين لا يستطيعون النفوذ من بينمها وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة وجدت هذا المثل مطابقا له أتم مطابقة وانه قد حيل بينه وبين الإيمان كما حيل بين هذا وبين التصرف والله المستعان
أهـ { شفاء العليل صـ 94}
سورة الصافات
قوله تعالى عن نوح عليه السلام { وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين }الصافات 78 80
وقال تعالى عن إبراهيم خليله {وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم }الصافات 108 و 109(2/98)
وقال تعالى في موسى وهارون { وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون } الصافات 119 و 120
وقال تعالى { سلام على إلياسين } الصافات 130 فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين هو السلام عليهم المذكور
وقد قال جماعة من المفسرين منهم مجاهد وغيره وتركنا عليهم في الآخرين الثناء الحسن ولسان الصدق للانبياء كلهم وهذا قول قتادة أيضا ولا ينبغي أن يحكى هذا قولين للمفسرين كما يفعله من له بحكاية الأقوال بل هما قول واحد فمن قال إن المتروك هو السلام عليهم في الآخرين نفسه فلا ريب أن قوله سلام على نوح جملة في موضع نصب ب تركنا والمعنى أن العالمين يسلمون على نوح ومن بعده من الأنبياء ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن نظر إلى لازم السلام وموجبة وهو الثناء عليهم وما جعل لهم من لسان الصدق الذي لاجله إذا ذكروا سلم عليهم
وقد زعمت طائفة منهم ابن عطية وغيره أن من قال تركنا عليه ثناء حسنا ولسان صدق كان سلام على نوح في العالمين جملة ابتدائية لا محل لها من الاعراب وهو سلام من الله سلم به عليه قالوا فهذا السلام من الله امنة لنوح في العالمين أن يذكره أحد بشر قاله الطبري
وقد يقوي هذا القول انه سبحانه اخبر أن المتروك عليه هو في الآخرين وان السلام عليه في العالمين وبأن ابن عباس رضي الله عنهما قال ابقى الله عليه ثناء حسنا
وهذا القول ضعيف لوجوه
أحدها انه يلزم منه حذف المفعول ل تركنا ولا يبقى في الكلام فائدة على التقدير فإن المعنى يؤول إلى انا تركنا عليه في الآخرين امرا مالا ذكر له في اللفظ لان السلام عند هذا القائل منقطع مما قبله لا تعلق له بالفعل(2/99)
الثاني انه لو كان المفعول محذوفا كما ذكروه لذكره في موضع واحد ليدل على المراد منه حذفه ولم يطرد في جميع من اخبر انه ترك عليه في الآخرين الثناء الحسن وهذه طريقة القرآن بل وكان فصيح أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع اخر لدلالة المذكور على المحذوف واكثر ما تجده مذكورا
وحذفه قليل واما أن يحذف حذفا مطردا ولم يذكره في موضع واحد ولا في اللفظ ما يدل عليه فهذا لا يقع في القرآن
الثالث أن في قراءة ابن مسعود وتركنا عليه في الآخرين سلاما بالنصب وهذا وهذا يدل على أن المتروك هو السلام نفسه
الرابع انه لو كان السلام منقطعا مما قبله لاخل ذلك بفصاحة الكلام وجزالته ولما حسن الوقوف على ما قبله وتأمل هذا بحال السامع إذا سمع قوله وتركنا عليه في الآخرين كيف يجد قلبه متشوقا متطلعا إلى تمام الكلام واجتناء الفائدة منه ولا يجد فائدة الكلام انتهت وتمت ليطمئن عندها بل يبقى طالبا لتمامها وهو المتروك فالوقف على الآخرين ليس بوقف تام
فإن قيل فيجوز حذف المفعول من هذا الباب لان ترك هنا بمعنى اعطى لانه اعطاه ثناءا حسنا ابقاه عليه في الآخرين ويجوز في باب اعطى ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما وقد وقع ذلك في القرآن كقوله انا اعطيناك الكوثر فذكرهما
وقال تعالى فأما من اعطى الليل 5 فحذفهما
وقال تعالى ولسوف يعطيك ربك الضحى فحذف الثاني واقتصر على الأول
وقال يؤتون الزكاة فحذف الأول واقتصر على الثاني قيل فعل الاعطاء فعل مدح فلفظه دليل على أن المفعول المعطى قد ناله عطاء المعطي والاعطاء احسان ونفع وبر فجاز ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما بحسب الغرض المطلوب من الفعل فإن كان المقصود ايجاد ماهية الاعطاء
المخرجة للعبد من البخل والشح والمنع المنافي للاحسان ذكر الفعل مجردا كما قال تعالى فأما من اعطى واتقى ولم يذكر ما أعطى ولا من اعطى وتقول فلان يعطي ويتصدق ويهب ويحسن(2/100)
وقال النبي اللهم لا مانع لما اعطيت ولا معطي لما منعت لما كان المقصود بهذا تفرد الرب سبحانه بالعطاء والمنع لم يكن لذكر المعطى ولا لحظ المعطى معنى بل المقصود أن حقيقة العطاء والمنع اليك لا إلى غيرك بل أنت المتفرد بها لا يشركك فيها أحد فذكر المفعولين هنا يخل بتمام المعنى وبلاغته وإذا كان المقصود ذكرهما ذكرا معا كقوله تعالى انا اعطيناك الكوثر الكوثر 1 فإن المقصود اخباره لرسوله بما خصه به واعطاه اياه من الكوثر ولا يتم هذا إلا بذكر المفعولين وكذا قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا الانسان 8 وإذا كان المقصود أحدهما فقط اقتصر عليه كقوله تعالى ويؤتون الزكاة المقصود به انهم يفعلون هذا الواجب عليهم ولا يهملونه فذكره لانه هو المقصود وقوله عن أهل النار لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين المدثر 43 44 لما كان المقصود الإخبار عن المستحق للاطعام انهم بخلوا عنه ومنعوه حقه من الاطعام وقست قلوبهم عنه كان ذكره هو المقصود دون المطعوم
وتدبر هذه الطريقة في القرآن وذكره للاهم المقصود وحذفه
لغيره يطلعك على باب من ابواب اعجازه وكمال فصاحته
واما فعل الترك فلا يشعر بشيء من هذا ولا يمدح به فلو قلت فلان يترك لم يكن مفيدا فائدة اصلا بخلاف قولك يطعم ويعطي ويهب ونحوه بل لا بد أن تذكر ما يترك ولهذا لا يقال فلان تارك ويقال معط ومطعم ومن اسمائه سبحانه المعطي فقياس ترك على اعطى من افسد القياس و سلام على نوح في العالمين الصافات 79 جملة محكية
قال الزمخشري وتركنا عليه في الآخرين الصافات 78 من الامم هذه الكلمة وهي سلام على نوح يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له وهو من الكلام المحكي كقولك قرأت سورة انزلناها(2/101)
الخامس انه قال سلام على نوح في العالمين فأخبر سبحانه أن هذا السلام عليه في العالمين ومعلوم أن هذا السلام فيهم هو سلام العالمين عليه كلهم يسلم عليه ويثني عليه ويدعو له فذكره بالسلام عليه فيهم واما سلام الله سبحانه وتعالى عليه فليس مقيدا بهم ولهذا لا يشرع أن يسأل الله تعالى مثل ذلك فلا يقال السلام على رسول الله في العالمين ولا اللهم صل وسلم على رسولك في العالمين ولو كان هذا هو سلام الله لشرع أن يطلب من الله على الوجه الذي سلم به
واما قولهم أن الله سلم عليه في العالمين وترك عليه في الآخرين فالله سبحانه وتعالى ابقى على انبيائه ورسله سلاما وثناء حسنا فيمن تأخر بعدهم جزاء على صبرهم وتبليغهم رسالات ربهم
واحتمالهم للاذى من اممهم في الله واخبر أن هذا المتروك على نوح هو عام في العالمين وان هذه التحية ثابتة فيهم جميعا لا يخلون منها فادامها عليه في الملائكة والثقلين طبقا بعد طبق وعالما بعد عالم مجازاة لنوح عليه السلام بصبره وقيامه بحق ربه وبأنه أول رسول ارسله الله إلى أهل الأرض وكل المرسلين بعده بعثوا بدينه كما قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الشورى 13
وقولهم أن هذا قول ابن عباس فقد تقدم أن ابن عباس وغيره إنما ارادوا بذلك أن السلام عليه من الثناء الحسن ولسان الصدق فذكروا معنى السلام عليه وفائدته والله سبحانه اعلم
أهـ { جلاء الأفهام صـ 312 ـ 317 }
قوله تعالى سلام على آل ياسين الصافات 130 فهذه فيها قراءتان إحداهما إلياسين بوزن إسماعيل وفيه وجهان
أحدهما أنه اسم ثان للنبي إلياس وإلياسين كميكال وميكائيل والوجه الثاني أنه جمع وفيه وجهان أحدهما أنه جمع إلياس وأصله إلياسيين بيائين كعبرانيين ثم خففت أحدى اليائين فقيل إلياسين والمراد أتباعه كما حكى سيبويه الأشعرون ومثله الأعجمون
والثاني أنه جمع إلياس محذوف الياء(2/102)
والقراءة الثانية سلام على آل ياسين وفيه أوجه أحدها أن ياسين اسم لأبيه فأضيف إليه الآل كما يقال آل إبراهيم والثاني أن آل ياسين هو إلياس نفسه فيكون آل مضافة إلى يس والمراد بالآل يس نفسه كما ذكر الأولون والثالث انه على حذف ياء النسب فيقال يس واصله ياسيين كما تقدم وآلهم أتباعهم على دينهم
والرابع أن يس هو القرآن وآله هم أهل القرآن
والخامس أنه النبي وآله أقاربه وأتباعه كما سيأتي
وهذه الأقوال كلها ضعيفة والذي حمل قائلها عليها استشكالهم إضافة آل إلى يس واسمه إلياس وإلياسين ورأوها في المصحف مفصولة وقد قرأها بعض القراء آل ياسين فقال طائفة منهم له أسماء يس وإلياسين وإلياس وقالت طائفة يس اسم لغيره ثم اختلفوا فقال الكلبي يس محمد سلم الله على آله وقالت طائفة هو القرآن وهذا كله تعسف ظاهر لا حاجة إليه والصواب والله أعلم في ذلك أن أصل الكلمة آل ياسين كآل إبراهيم فحذفت الألف واللام من أوله لاجتماع الأمثال ودلالة الاسم على موضع المحذوف وهذا كثير في كلامهم إذا اجتمعت الأمثال كرهوا النطق بها كلها فحذفوا منها ما لا إلباس في حذفه وإن كانوا لا يحذفونه في موضع لا تجتمع فيه الأمثال ولهذا لا يحذفون النون من إني وأني وكأني ولكني ولا يحذفونها من ليتني ولما كانت اللام في لعل شبيهة بالنون حذفوا النون معها ولا سيما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجمي وتغييرها له فيقولون مرة إلياسين ومرة إلياس ومرة ياسين وربما قالوا ياس ويكون على إحدى القراءتين قد وقع على المسلم عليه وعلى القراءة الأخرى على آله
وعلى هذا ففصل النزاع بين أصحاب القولين في الآل أن الآل إن أفرد دخل فيه المضاف إليه كقوله تعالى أدخلوا آل فرعون أشد العذاب غافر 46 ولا ريب في دخوله في آله هنا
وقوله تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين الأعراف 130 ونظائره(2/103)
وقول النبي اللهم صل على آل أبي أوفى ولا ريب في دخول أبي أوفى نفسه في ذلك وقوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم هذه أكثر روايات البخاري وإبراهيم هنا داخل في آله ولعل هذا مراد من قال آل الرجل نفسه
وأما إن ذكر الرجل ثم ذكر آله لم يدخل فيهم ففرق بين المجرد والمقرون فإذا قلت أعط لزيد وآل زيد لم يكن زيد هنا داخلا في آله وإذا قلت أعطه لآل زيد تناول زيدا وآله وهذا له نظائر كثيرة قد ذكرناها في غير هذا الموضع وهي أن اللفظ تختلف دلالته بالتجريد والاقتران كالفقير والمسكين هما صنفان إذا قرن بينهما وصنف واحد إذا أفرد كل منهما ولهذا كانا في الزكاة صنفين وفي الكفارات صنف واحد وكالإيمان والإسلام والبر والتقوى والفحشاء والمنكر والفسوق والعصيان ونظائر ذلك كثيرة ولا سيما في القرآن
أهـ { جلاء الأفهام صـ 136 ـ 138 }
سورة { ص }
وتأمل قوله سبحانه { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها
يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب } كيف تجد تحته معنى بديعا وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم بل تبقى مفتحة كما هي وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها كما قال تعالى إنها عليهم مؤصدة أي مطبقة ومنه سمي الباب وصيدا وهي مؤصدة في عمد ممددة قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب(2/104)
قال مقاتل يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاؤا ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت وأيضا إشارة إلى أنها دار أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب كما كانوا يحتجون إلى ذلك في الدنيا وقد اختلف أهل العربية في الضمير العائد من الصفة على الموصوف في هذه الجملة فقال الكوفيون التقدير مفتحة لهم أبوابها والعرب تعاقت بين الألف واللام والإضافة فيقولون مررت برجل حسن العين أي عينه ومنه قوله تعالى فإن الجحيم هي المأوى أي مأواه وقال بعض البصريين التقدير مفتحة لهم الأبواب منها فحذف الضمير وما اتصل به وقال هذا التقدير في العربية أجود من أن يجعل الألف واللام بدلا من الهاء والألف لأن معنى الألف واللام ليس من معنى الهاء والألف في شيء لأن الهاء والألف أسم والألف واللام دخلتا للتعريف ولا يبدل حرف من اسم ولا ينوب عنه قالوا وأيضا لو كانت الألف واللام بدلا من الضمير لوجب أن يكون في مفتحة ضمير الجنات ويكون معنى مفتحة هي ثم أبدل منها الأبواب ولو كان كذلك لوجب نصب الأبواب لكون مفتحة قد رفع ضمير الفاعل فلا يجوز أن يرفع به اسم آخر لامتناع ارتفاع فاعلين بفعل واحد فلما ارتفع الأبواب دل على أن مفتحة خال من ضمير والأبواب مرتفعة به وإذا كان في الصفة ضمير تعين نصب الثاني كما تقول مررت برجل حسن الوجه ولو رفعت(2/105)
الوجه ونونت حسنا لم يجز فالألف واللام إذا للتعريف ليس إلا فلا بد من ضمير يعود على الموصوف الذي هو جنات عدن ولا ضمير في اللفظ فهو محذوف تقديره الأبواب منها وعندي أن هذا غير مبطل لقول الكوفيين فإنهم لم يريدوا بالبدل إلا أن الألف واللام خلف وعوض عن الضمير تغني عنه وإجماع العرب على قولهم حسن الوجه وحسن وجهه شاهد بذلك وقد قالوا أن التنوين بدل من الألف واللام بمعنى أنهما لا يجتمعان وكذلك المضاف إليه يكون بدلا من التنوين والتنوين بدل من الإضافة بمعنى التعاقب والتوارد ولا يريدون بقولهم هذا بدل من هذا أن معنى البدل معنى المبدل منه بل قد يكون في كل منهما معنى لا يكون في الآخر فالكوفيون أرادوا أن الألف واللام في الأبواب أغنت عن الضمير لو قيل أبوابها وهذا صحيح(2/106)
فإن المقصود الربط بن الصفة والموصوف بأمر يجعلها له لا مستقلة فلما كان الضمير عائدا على الموصوف نفي توهم الاستقلال وكذلك لام التعريف فإن كلا من الضمير واللام يعين صاحبه هذا بعين مفسرة وهذا يعين ما دخل عليه وقد قالوا في زيد نعم الرجل إن الألف واللام اغنت عن الضمير والله أعلم وقد أعرب الزمخشري هذه الآية أعرابا اعترض عليه فيه فقال جنات عدن معرفة كقوله جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب وانتصابها على أنها عطف بيان لحسن مآب ومفتحة حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل وفي مفتحة ضمير الجنات والأبواب بدل من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب كقولهم ضرب زيد اليد والرجل وهو من بدل الاشتمال هذا إعرابه فاعترض عليه بأن جنات عدن ليس فيها ما يقتضي تعريفها وأما قوله التي وعد الرحمن عباده فبدل لا صفة وبأن جنات عدن لا يسهل أن تكون عطف بيان لحسن مآب على قوله لأن جريان المعرفة على النكرة عطف بيان لا قائل به فإن القائل قائلان أحدهما أنه لا يكون إلا في المعارف كقول البصريين والثاني أنه يكون في المعارف والنكرات بشرط المطابقة كقول الكوفيين وأبي على الفارسي وقوله أن في مفتحة ضمير الجنات فالظاهر خلافه وأن الأبواب مرتفع به ولا ضمير فيه وقوله أن الأبواب بدل اشتمال فبدل الاشتمال قد صرح هو وغيره أنه لا بد فيه من الضمير وأن نازعهم فيه آخرون ولكن يجوز أن يكون الضمير ملفوظا به وأن يكون مقدرا وهنا لم يلفظ به فلا بد من تقديره أي الأبواب منها فإذا كان التقدير مفتحة لهم هي الأبواب منها كان فيه تكثير للإضمار وتقليله أولى وفي الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد أن رسول الله قال في الجنة ثمانية أبواب باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون وفي الصحيحين من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله من أنفق زوجين في شيء من الأشياء في سبيل الله دعى من أبواب الجنة يا(2/107)
عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل
يدعى أحد من تلك الأبواب كلها فقال نعم وأرجوا أن تكون منهم وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب عن النبي قال ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ او فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء زاد الترمذي بعد التشهد اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين زاد أبو داود والأمام أحمد ثم رفع نظره إلى السماء فقال وعند الأمام أحمد من رواية أنس يرفعه من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال ثلاث مرات اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتح له أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل وعن عتبة بن عبد الله السلمي قال سمعت رسول الله يقول ما من مسلم يتوفى له ثلاثا من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل رواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد عن ابن نمير ثنا إسحق بن سليمان ثنا جرير بن عثمان عن شرحبيل بن شفعة عن عتبة
أهـ { حادى الأرواح صـ 39 ـ 42 }
قوله تعالى { خلقت بيدى }
لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع مفردا ومثنى ومجموعا فالمفرد كقوله بيده الملك الملك1
والمثنى كقوله خلقت بيدي ص75
والمجموع كقوله عملت أيدينا يس71
فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعدى الفعل بالباء إليهما فقال خلقت بيدي ص75
وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء فهذه ثلاثة فروق فلا يحتمل خلقت بيدي ص75(2/108)
من المجاز ما يحتمله عملت أيدينا فإن كل أحد يفهم من قوله عملت أيدينا ما يفهمه من قوله عملنا وخلقنا كما يفهم ذلك من قوله فبما كسبت أيديكم الشورى30
وأما قوله خلقت بيدي ص75
فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى فكيف وقد دخلت عليها الباء فكيف إذا ثنيت
وسر الفرق أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد والمراد الإضافة إليه كقوله
بما قدمت يداك الحج10 فبما كسبت أيديكم الشورى30
وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عدي بالباء إلى يده مفردة أو مثناة فهو ما باشرته يده ولهذا قال عبدالله بن عمرو إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا خلق آدم بيده وغرس جنة الفردوس بيده وذكر الثالثة فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة وقد أخبر النبي أن أهل الموقف يأتونه يوم القيامة فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك فذكروا أربعة أشياء كلها خصائص وكذلك قال
آدم لموسى في محاجته له اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده وفي لفظ آخر كتب لك التوراة بيده وهو من أصح الأحاديث وكذلك الحديث الآخر المشهور أن الملائكة قالوا يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال الله تعالى لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان وهذا التخصيص إنما فهم من قوله خلقت بيدي ص75
فلو كانت مثل قوله مما عملت أيدينا لكان هو والأنعام في ذلك سواء فلما فهم المسلمون أن قوله ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي موجبا له تخصيصا
وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه كانت التسوية بينه وبين قوله أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما يس71
خطأ محضا(2/109)
أهـ { الصواعق المرسلة حـ 1 صـ 38 ـ 39 }
سورة الزمر
قوله تعالى {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعملون }
هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحون والرجل المتشاكس الضيق الخلق فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين
والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليه لمصالحه فهل يستوي هذان العبدان
وهذا من أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون
أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 224 ـ 225 }
قوله تعالى { الله خالق كل شىء }
احتج المعتزلة على مخلوقية القرآن بقوله تعالى خالق كل شيء ونحو ذلك من الآيات فإجاب الأكثرون بأنه عام مخصوص يخص محل النزاع كسائر الصفات من العلم ونحوه
قال ابن عقيل في ألإرشاد ووقع لي أن القرآن لا يتناوله هذا الإخبار ولا يصلح لتناوله قال لأن به حصل عقد ألإعلام بكونه خالقا لكل شيء وما حصل به عقد الإعلام والإخبار لم يكن داخلا تحت الخبر قال ولو أن شخصا قال لا أتكلم اليوم كلاما إلا كان كذبا لم يدخل إخباره بذلك تحت ما اخبر به
قلت ثم تدبرت هذا فوجدته مذكورا في قوله تعالى في قصة مريم فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا وإنما أمرت بذلك لئلا تسأل عن ولدها فقولها فلن أكلم اليوم إنسيا به حصل إخبار بأنها لاتكلم الإنس ولم يكن ما أخبرت به داخلا تحت الخبر وإلا كان قولها هذا مخالفا لنذرها(2/110)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أهـ { بدائع الفوائدحـ 1 صـ 318 }
قوله تعالى { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } فعقب دخولها على الطيب بحرف الفاء الذي يؤذن بأنه سبب للدخول أي بسبب طيبكم قيل لكم ادخلوها
وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب ودار الخبيثين فالله تعالى يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشئ لتراكب بعضه على بعض ثم يجعله في جهنم مع أهله فليس فيها إلا خبيث ولما كان الناس على ثلاث طبقات : طيب لا يشينه خبيث وخبيث لا طيب فيه وآخرون فيهم خبث وطيب دورهم ثلاثة : دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض وهاتان الداران لا تفنيان ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة فإنه لا يبقي في جهنم من عصاة الموحدين أحد فإنه إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة ولا يبقي إلا دار الطيب المحض ودار الخبث المحض
أهـ { الوابل الصيب صـ 793 }
قال الله تعالى(2/111)
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام علوقال في صفة النار حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها بغير واو فقالت طائفة هذه واو الثمانية دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية وأبواب النار سبعة فلم تدخلها الواو وهذا قول ضعيف لا دليل عليه ولا تعرفه العرب ولا أئمة العربية وإنما هو من استنباط بعض المتأخرين وقالت طائفة أخرى الواو زائدة والجواب الفعل الذي بعدها كما هو في الآية الثانية وهذا أيضا ضعيف فإن زيادة الواو غير معروف في كلامهم ولا يليق بأفصح الكلام أن يكون فيه حرف زائد لغير معنى ولا فائدة وقالت طائفة ثالثة الجواب محذوف وقوله وفتحت أبوابها عطف على قوله جاؤها وهذا اختيار أبي عبيدة والمبرد والزجاج وغيرهم قال المبرد وحذف الجواب أبلغ عند أهل العلم قال أبو الفتح بن جني وأصحابنا يدفعون زيادة الواو ولا يجيزونه ويرون أن الجواب محذوف للعلم به(2/112)
بقي أن يقال فما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة وذكره في آية أهل النار فيقال هذا ابلغ في الموضعين فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم فيفجأهم العذاب بغتة فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبه فإنها دار الإهانة والخزى فلم يستأذن لهم في دخولها ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول وأما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم فيقول أنا لها فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا لربه فيدعه ما شاء الله أن يدعه ثم يأذن له في رفع رأسه وان يسأله حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح ابوابها فيشفعه ويفتحها تعظيما لخطرها وأظهارا لمنزلة رسوله وكرامته عليه وإن مثل هذه الدار هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي اولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى ان انتهى إليها وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء فجنة الله غالية بين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار مالا تنال إلا به فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار فليعد(2/113)
يكم طبتم فادخلوها خالدين عنها إلى ما هو أولى به وقد خلق له وهيئ له وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمرا من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم كل زمرة على حده كل مشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم مستبشرين أقوياء القلوب كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير كذلك يؤنس بعضهم بعضا ويفرح بعضهم ببعض وكذلك أصحاب الدار الأخرى يساقون إليها زمرا يلعن بعضهم بعضا ويتأذى بعضهم ببعض وذلك أبلغ في الخزى والفضيحة والهتيكة من أن يساقوا واحدا واحدا فلا تهمل تدبر قوله زمرا وقال خزنة أهل الجنة لأهلها سلام عليكم فبدؤهم بالسلام المتضمن للسلامة من كل شر ومكروه أي سلمتم فلا يلحقكم بعد اليوم ما تكرهون ثم قال لهم طبتم فادخلوها خالدين أي سلامتكم ودخولها بطيبكم فإن الله حرمها إلا على الطيبين فبشروهم بالسلامة والطيب والدخول والخلود وأما أهل النار فإنهم لما انتهوا إليها على تلك الحال من الهم والغم والحزن وفتحت لهم أبوابها وقفوا عليها وزيدوا على ما هم عليه توبيخ خزنتها وتكبيتهم لهم بقولهم ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا فاعترفوا وقالوا بلى فبشروهم بدخولها والخلود فيها وإنها بئس المثوى لهم وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها أدخلوها وقول خزنة النار لأهلها أدخلوا أبواب جهنم تجد تحته سرا لطيفا ومعنى بديعا لا يخفى على المتأمل وهو أنها لما كانت دار العقوبة وأبوابها أفظع شيء وأشده حرا وأعظمه عما يستقبل فيها الداخل من العذاب ما هو أشد منها ويدنوا من الغم والخزي والحزن والكرب بدخول الأبواب فقيل ادخلوا أبوابها صغارا لهم وأذلالا وخزيا ثم قيل لهم لا يقتصر بكم على مجرد دخول الأبواب الفظيعة ولكن وراءها الخلود في النار وأما الجنة فهي دار الكرامة والمنزل الذي أعده الله لأوليائه فبشروا من أول وهلة بالدخول إلى المقاعد والمنازل والخلود فيها وتأمل قوله سبحانه جنات عدن مفتحة لهم(2/114)
الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب كيف تجد تحته معنى بديعا وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم بل تبقى مفتحة كما هي وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها كما قال تعالى إنها عليهم مؤصدة أي مطبقة ومنه سمي الباب وصيدا وهي مؤصدة في عمد ممددة قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب
قال مقاتل يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاؤا ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت وأيضا إشارة إلى أنها دار أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب كما كانوا يحتجون إلى ذلك في الدنيا
أهـ { حادى الأرواح صـ 88 ـ 94 }
قال سبحانه وتعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين فحذف فاعل القول لأنه غير معين بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه فيحمده أهل السموات وأهل الأرض والأبرار والفجار والإنس والجن حتى أهل النار قال الحسن أو غيره لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا وهذا والله أعلم هو السر الذي حذف لأجله الفاعل في قوله قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها وقوله وقيل ادخلا النار مع الداخلين كأن الكون كله نطق بذلك وقاله لهم والله تعالى أعلم بالصواب
أهـ { روضة المحبين صـ 25 }
سورة غافر
قوله تعالى { وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل }(2/115)
قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول حملا على زين وقرأ الباقون وصد بفتح الصاد ويحتمل وجهين أحدهما أعرض فيكون لازما والثاني يكون صد غيره فيكون متعديا والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في المياه الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما فهذا الشد على القلب هو الصد والمنع ولهذا قال ابن عباس يريدا منعها والمعنى قسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان وهذ ا مطابق لما في التوراة إن الله سبحانه قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسى قلبه فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر وهذا الشد والتقسية من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه جعله عقوبة لهم على كفرهم واعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب ولهذا كان محمودا عليه فهو حسن منه وأقبح شيء منهم فإنه عدل منه وحكمة وهو ظلم منهم وسفه فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غنى عليم يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما والمقضى المقدر يكون ظلما وجورا وسفها وهو فعل جاهل ظالم سفيه
أهـ { شفاء العليل صـ 96 }
سورة فصلت
قوله تعالى { فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات }
فلا ريب أن الأيام التي أوقع الله سبحانه فيها العقوبة بأعدائه وأعداء رسله كانت أياما نحسات عليهم لأن النحس أصابهم فيها وإن كانت أيام خير لأوليائه المؤمنين فهي نحس على المكذبين سعد المؤمنين وهذا كيوم القيامة فإنه عسير على الكافرين يوم نحس لهم يسير على المؤمنين يوم سعد لهم قال مجاهد أيام نحسات مشائيم وقال الضحاك معناه شديد أي البرد حتى كان البرد عذابا لهم قال أبو علي وأنشد الاصمعي في النحس بمعنى البرد :
كان سلافة عرضت بنحس ... يحيل شفيفها الماء الزلالا(2/116)
وقال ابن عباس نحسات متتابعات وكذلك قوله إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر وكان اليوم نحسا عليهم لإرسال العذاب عليهم أي لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها بل هذا النحس دائم على هؤلاء المكذبين للرسل ومستمر صفة للنحس لا لليوم ومن ظن أنه صفة لليوم وانه كان يوم أربعاء آخر الشهر وأن هذا اليوم نحس أبدا فقد غلط واخطأ فهم القرآن فان اليوم المذكور بحسب ما يقع فيه وكم لله من نعمة على أوليائه في هذا اليوم وان كان له فيه بلايا ونقم على أعدائه كما يقع ذلك في غيره من الأيام فسعود الأيام ونحوسها إنما هو بسعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الرب ونحوس الأعمال مخالفتها لما جاءت به الرسل واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة ونحس لطائفه كما كان يوم بدر يوم سعد للمؤمنين ويوم نحس على الكافرين فما للكوكب والطالع والقرانات وهذا السعد والنحس وكيف يستنبط علم أحكام النجوم من ذلك ولو كان المؤثر في هذا النحس هو نفس الكوكب والطالع لكان نحسا على العالم فأما أن يقتضي الكوكب كونه نحسا لطائفة سعدا لطائفة فهذا هوالمحال
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 1 صـ 204 ـ 205 }
قوله تعالى { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } فصلت 33
وقال تعالى قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني يوسف 108 وسواء كان المعنى انا ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة أو كان الوقف عند قوله ادعو إلى الله ثم يبتدئ على بصيرة انا ومن اتبعني فالقولان متلازمان فإنه امره سبحانه أن يخبر أن سبيله الدعوة إلى الله فمن دعا إلى الله تعالى فهو على سبيل رسوله وهو على بصيرة وهو من اتباعه ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله ولا هو على بصيرة ولا هو من اتباعه(2/117)
فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين واتباعهم وهم خلفاء الرسل في أممهم والناس تبع لهم والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما انزل اليه وضمن له حفظه وعصمته من الناس وهكذا المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته اياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم لهم وقد أمر النبي بالتبليغ عنه ولو آية ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثا وتبليغ سنته إلى الأمة افضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس واما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه
وهم كما قال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته التي ذكرها ابن وضاح في كتاب الحوادث والبدع له قال الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى
ويصبرون منهم على الاذى ويحيون بكتاب الله أهل العمى كم من قتيل لإبليس قد احيوه وضال تائه قد هدوه بذلوا دماءهم واموالهم دون هلكة العباد فما أحسن اثرهم على الناس واقبح اثر الناس عليهم يقبلونهم في سالف الدهر والى يومنا هذا فما نسيهم ربك وما كان ربك نسيا مريم 64 وجعل قصصهم هدى وأخبر عن حسن مقالتهم فلا تقصر عنهم فإنهم في منزلة رفيعة وان اصابتهم الوضيعة
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا من اوليائه يذب عنها وينطق بعلاماتها فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله
ويكفي في هذا قول النبي لعلي رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم
وقوله من احيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين اصبعيه
وقوله من دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل اجر من تبعه إلى يوم القيامة(2/118)
فمتى يدرك العامل هذا الفضل العظيم والحظ الجسيم بشيء من عمله وانما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فحقيق بالمبلغ عن رسول الله الذي اقامه الله سبحانه في هذا المقام أن يفتتح كلامه بحمد الله تعالى والثناء عليه وتمجيده والاعتراف له بالوحدانية وتعريف حقوقه على العباد ثم بالصلاة على رسول الله وتمجيده والثناء عليه أن يختمه أيضا بالصلاة عليه تسليما
أهـ { جلاء الأفهام صـ 415 ـ 418 }
سورة الشورى
قوله تعالى { يذرؤكم فيه }
قلت وجه تعلقه بإشارة الآية هو أن الله سبحانه يعيشكم فيما خلق لكم من الأنعام المذكورة قال الكلبي يكثركم في هذا التزيج ولولا هذا التزويج لك لم يكثر النسل والمعنى يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعله لكم أزواجا فإن سبب خلقنا وخلق الحيوان بالأزواج والضمير في قوله فيه يرجع إلى الجعل ومعنى الذرء الخلق وهو هنا الخلق الكثير فهو خلق وتكثير فقيل في بمعنى الباء أي يكثركم بذلك وهذا قول الكوفيين والصحيح أنها على بابها والفعل تضمن معنى ينشئكم وهو يتعدى بفي كما قال تعالى وننشئكم فيما لا تعلمون فهذا تفسير الآية
ولما كانت الحياة حياتين حياة الأبدان وحياة الأرواح وهو سبحانه الذي يحيي قلوب أوليائه وأرواحهم بإكرامه ولطفه وبسطه كان ذلك تنمية لها وتكثيرا وذرءا والله أعلم
أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 191 ـ 192 }
قوله تعالى { لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير } الشورى 49 50(2/119)
فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود وأخبر أن ما قدره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه وكفى بالعبد تعرضا لمقته أن يتسخط ما وهبه وبدأ سبحانه بذكر الإناث فقيل جبرا لهن لأجل استثقال الوالدين لمكانهن وقيل وهو أحسن إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان فان الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان
وعندي وجه آخر وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن أي هذا النوع المؤخر عندكم مقدم عندي في الذكر وتأمل كيف نكر سبحانه الإناث وعرف الذكور فجبر نقص الأنوثة بالتقديم وجبر نقص التأخير بالتعريف فإن التعريف تنويه كأنه قال ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم ثم لما ذكر الصنفين معا قدم الذكور إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير والله أعلم بما أراد من ذلك
والمقصود أن التسخط بالإناث من أخلاق الجاهلية الذين ذمهم الله تعالى في قوله وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون النحل 58 59 وقال وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم الزخرف 17 ومن هاهنا عبر بعض المعبرين لرجل قال له رأيت كأن وجهي أسود فقال ألك امرأة حامل قال نعم قال تلد لك أنثى
أهـ { تحفة المودود صـ 6 ـ 7 }(2/120)
قوله عز وجل { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } وقد قيل إن الضمير في ( جعلناه ) عائد إلى الأمر وقيل إلى الكتاب وقيل إلى الإيمان والصواب أنه عائد إلى الروح أي جعلنا ذلك الروح الذي أوحيناه إليك نورا فسماه روحا لما يحصل به من الحياة وجعله نورا لما يحصل به الاشراق والاضاءة وهما متلازمان فحيث وجدت هذه الحياة بهذا الروح وجدت الاضاءة والاستنارة وحيث وجدت الاستنارة والاضاءة وجدت الحياة فمن لم يقبل هذا الروح فهو ميت مظلم كما أن المائي والناري لما يحصل بالماء من الحياة وبالنار من الاشراق والنور كما ضرب ذلك في أول سورة البقرة
أهـ { الوابل الصيب صـ 72 }
سورة الدخان
قوله تعالى { إن المتقين في مقام أمين }
والمقام الأمين موضع الإقامة والأمين الآمن من كل سوء وآفة ومكروه وهو الذي قد جمع صفات الأمن كلها فهو آمن من الزوال والخراب وأنواع النقص واهله آمنون فيه من الخروج والنغص والنكد والبلد الأمين الذي قد أمن من أهله فيه مما يخالف منه سواهم وتأمل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى أن المتقين في مقام أمين وفي قوله تعالى يدعون فيها بكل فاكهة آمنين فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرتها وأمن الخروج منها فلا يخافون ذلك وأمن من الموت فلا يخافون فيها موتا
أهـ { حادى الأرواح صـ 70 }(2/121)
وقال تعالى إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس واستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم ربهم عذاب الجحيم فجمع لهم بين حسن المنزل وحصول الأمن فيه من كل مكروه واشتماله على الثمار والأنهار وحسن اللباس وكمال العشرة لمقابلة بعضهم بعضا وتمام اللذة بالحور العين ودعائهم بجميع أنواع الفاكهة مع أمنهم من انقطاعها ومضرتها وغائلتها وختام ذلك أعلمهم بأنهم لا يذوقون فيها هناك موتا والحور جمع حوراء وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء شديدة سواد العين وقال زيد بن أسلم الحوراء التي يحار فيها الطرف وعين حسان الأعين وقال مجاهد الحوراء التي يحار فيها الطرف من رقة الجلد وصفاء اللون وقال الحسن الحوراء شديدة بياض العين شديدة سواد العين واختلف في اشتقاق هذه اللفظة فقال ابن عباس الحور في كلام العرب البيض وكذلك قال قتادة الحور البيض وقال مقاتل الحور البيض الوجوه وقال مجاهد الحور العين التي يحار فيهن الطرف باديا مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون وهذا من الإتفاق وليست اللفظة مشتقة من الحيرة وأصل الحور البياض والتحوير التبييض والصحيح أن الحور مأخوذ من الحور في العين وهو شدة بياضها مع قوة سوادها فهو يتضمن الأمرين وفي الصحاح الحور شدة بياض العين في شدة سوادها امرأة حوراء بينة الحور وقال أبو عمرو الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر وليس في بني آدم حور وإنما قيل للنساء حور العين لأنهن شبهن بالظباء والبقر وقال الأصمعي ما أدري ما الحور في العين قلت خالف أبو عمرو أهل اللغة في اشتقاق اللفظة ورد الحور إلى السواد والناس غيره إنما ردوه إلى البياض أو إلى بياض في سواد والحور في العين معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما واكتساب كل واحد منهما الحسن من(2/122)
الآخر عين حوراء إذا اشتد بياض أبيضها وسواد أسودها ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد والعين جمع عيناء وهي العظيمة العين من النساء ورجل أعين إذا كان ضخم العين وامرأة عيناء والجمعت والجمع عين والصحيح أن العين اللاتي جمعت أعينهن صفات الحسن والملاحة قال مقاتل العين حسان الاعين ومن محاسن المرأة اتساع عينها في طول و ضيق العين في المرأة من العيون و إنما يستحب الضيق منها في أربعة مواضع فيها وخرق أذنها وانفها وما هنالك ويستحب السعة منها في أربعة مواضع ووجهها وصدرها وكأهلها وهو ما بين كتفيها وجبهتها ويستحسن البياض منها في أربعة مواضع لونها وفرقها وثغرها وبياض عينها ويستحب السواد منها في أربعة مواضع عينها وحاجبها وهدبها وشعرها ويستحب الطول منها في أربعة قوامها وعنقها وشعرها وبنانها ويستحب القصر منها في أربعة وهي معنوية لسانها ويدها ورجلها وعينها فتكون قاصر الطرف قصيرة الرجل واللسان عن الخروج وكثرة الكلام قصيرة اليد عن تناول ما يكره الزوج وعن بذله وتستحب الرقة منها في أربعة خصرها وفرقها وحاجبها وانفها فصل(2/123)
وقوله تعالى وزوجناهم بحور عين قال أبو عبيدة جعلناهم أزواجا كما يزوج النعل بالنعل جعلناهم اثنين اثنين وقال يونس قرناهم بهن وليس من عقد التزويج قال والعرب لا تقول تزوجت بها و إنما تقول تزوجتها قال بن نصر هذا والتنزيل يدل على ما قاله يونس وذلك قوله تعالى فلما قضى زيدا منها وطرا زوجناكها ولو كان على تزوجت بها لقال زوجناك بها وقال ابن سلام تميم تقول تزوجت امرأة وتزوجت بها وحكها الكسائي أيضا وقال الأزهري تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة وليس من كلامهم تزوجت بامرأة وقوله تعالى وزوجناهم بحور عين أي قرناهم وقال الفراء هي لغة في ازدشنؤة قال الواحدي وقال أبي عبيدة في هذا احسن لانه جعله من التزويج الذي هو بمعنى جعل الشيء زوجا لا بمعنى عقد النكاح ومن هذا يجوز أن يقال كان فردا فزوجته بآخر كما يقال شفعته بآخر و إنما تمتنع الباء عند من يمنعها إذا كان بمعنى عقد التزويج قلت ولا يمتنع أن يراد الأمران معا فلفظ التزويج يدل على النكاح كما قال مجاهد أنكحناهم الحور ولفظ الباء تدل على الاقتران والضم وهذا ابلغ من حذفها والله اعلم وقال تعالى فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان وصفهن سبحانه بقصر الطرف في ثلاثة مواضع(2/124)
أحدها هذا والثاني قوله تعالى في الصافات وعندهم قاصرات الطرف عين والثالث قوله تعالى في ص وعندهم قاصرات الطرف أتراب والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم وقيل قصرن طرف أزواجهن كلهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن وهذا صحيح من جهة المعنى واما من جهةاللفظ فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل لحسان الوجوه واصله قاصر طرفهن أي لبس بطامح متعد قال آدم حدثنا ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله قاصرات الطرف قال يقول قاصرات الطرف على أزواجهن فلا يبغين غير أزواجهن قال آدم وحدثنا المبارك بن فضلة عن الحسن قال قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم والله ما هن متبرجات ولا متطلعات وقال منصور عن مجاهد قصرن أبصارهن وقلوبهن و أنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم وفي تفسير سعيد عن قتادة قال وقصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم و أما الأتراب فجمع ترب وهو لذة الإنسان قال أبو عبيدة و أبو إسحاق أقران أسنانهن واحدة قال ابن عباس وسائر المفسرين مستويات على سن واحد وميلاد واحد وبنات ثلاث وثلاثين سنة وقال مجاهد أتراب أمثال قال إسحاق هن في غاية الشباب والحسن وسمي سن الإنسان وقرنه تربه لانه مس تراب الأرض معه في وقت واحد والمعنى من الأخبار باستواء أسنانهن أنهن ليس فيهن عجائز قد فات حسنهن ولا ولائد لا يقطن الوطء بخلاف الذكور فان فيهم الولدان وهم الخدم وقد اختلف في مفسر الضمير في قوله فيهن فقالت طائفة مفسره الجنتان وما حوتاه من القصور والغرف والخيام وقالت طائفة مفسره الفرش المذكورة في قوله متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وفي بمعنى على وقوله تعالى لم يطمثهن انس قبلهن ولا جان قال أبو عبيدة لم يمسهن يقال ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه وقال يونس تقول العرب هذا جمل ما طمثه حبل قط أي ما مسه وقال الفراء الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية والطمث هو الدم وفيه لغتان طمث يطمث(2/125)
ويطمث قال الليث طمثت الجارية إذا افتر عتها والطامث في لغتهم هي الحائض قال أبو الهيثم يقال للمرأة طمثت تطمث إذا أدميت بالافتضاض وطمثت على فعلت تطمث إذا حاضت أول ما تحيض فهي طامث وقال في قول الفرزدق
خرجن إلى لم يطمثن قبلي ... وهن اصح من بيض النعام
أي لم يمسسن قال المفسرون لم يطأهنولم يغشهن يجاملهم ولم يغشين ولم يجامعن هذه ألفاظهم وهم مختلفون في هؤلاء فبعضهم يقول هن اللواتي أنشئن في الجنة من حورها وبعضهم يقول يعني نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر ابكارا كما وصفن قال الشعبي نساء من نساء الدنيا لم يمسسن منذ انشئن خلقا وقال مقاتل لأنهن خلقن في الجنة وقال عطاء عن ابن عباس هن الآدميات اللاتي متن أبكارا وقال الكلبي لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه انس ولا جان قلت ظاهر القران أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا وانما هن من الحور حور العين و أما نساء الدنيا فقد طمثهن الإنس ونساء الجن قد طمثهن الجن والاية تدل على ذلك قال أبو إسحاق وفي الآية دليل على أن الجن يغشي كما أن الأنس يغشى ويدل على أنهن الحور اللاتي خلقن في الجنة انه سبحانه جعلهن مما أعده الله في الجنة لأهلها من الفاكهة والثمار و الأنهار والملابس وغيرها ويدل عليه أيضا الآية التي بعدها وهي قوله تعالى حور مقصورات في الخيام ثم قال لم يطمثن انس قبلهم ولا جان قال الإمام احمد والحور العين لا يمتن عند النفخة للصور لأنهن خلقن للبقاء وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور أن مؤمن الجن في الجنة كما أن كافرهم في النار وبوب عليه البخاري في صحيحه فقال باب ثواب الجن وعقابهم ونص عليه غير واحد من السلف قال ضمرة بن حبيب وقد سئل هل للجن ثواب فقال نعم وقرا هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على احليله فجامع معه والضمير في قوله قبلهم للمعنيين بقوله متكئين وهم أزواج هؤلاء النسوة(2/126)
وقوله كأنهم الياقوت والمرجان قال الحسن وعامة المفسرين أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان شبههن في صفاء اللون وبياضه وبالياقوت والمرجان ويدل عليه ما قاله عبد الله ان المرأة من النساء أهل الجنة لتلبس عليها سبعين حلة من حرير فيرى بياض ساقيها من ورائهن ذلك بان الله يقول كأنهن الياقوت والمرجان إلا وان الياقوت حجر لو جعلت فيه سلكا ثم استصفيته نظرت إلى السلك من وراء الحجر
أهـ { حادى الأرواح صـ 347 ـ 352 }
سورة الجاثية
قوله تعالى { وجعل على بصره غشاوة }
وهذا الغطاء سري إليها من غطاء القلب فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر فالعين مرآة القلب تظهر ما فيه وأنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا أو أبغضت كلامه ومجالسته تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته فتلك أثر البغض والإعراض عنه وغلظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العشاء غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى
أهـ { شفاء العليل صـ 91 }
سورة الأحقاف
قوله تعالى { حتى إذا بلغ أشده }
قال الزجاج الأشد من نحو سبع عشرة سنة الى نحو الأربعين وقال ابن عباس في رواية عطاء عنه الأشد الحلم وهو اختيار يحيى بن يعمر والسدي وروى مجاهد عنه ستا وثلاثين سنة وروى عنه أيضا ثلاثين وقال الضحاك عشرين سنة وقال مقاتل ثمان عشرة وقد أحكم الزهري تحكيم اللفظة فقال بلوغ الأشد يكون من وقت بلوغ الإنسان مبلغ الرجال الى أربعين سنة قال فبلوغ الأشد محصور الأول محصور النهاية غير محصور ما بين ذلك فبلوغ الأشد مرتبة بين البلوغ وبين الأربعين ومعنى اللفظة من الشدة وهي القوة والجلادة والشديد الرجل القوي فالأشد القوي قال الفراء واحدها شدة في القياس ولم أسمع لها بواحد(2/127)
وقال أبو الهيثم واحدها شدة كنعمة وأنعم وقال بعض أهل اللغة واحدها شدة بضم الشين وقال آخرون منهم هو اسم مفرد كالآنك وليس بجمع حكاهما ابن الأنباري
أهـ { تحفة المودود صـ 101 }
سورة محمد { صلى الله عليه وسلم }
قوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }
قال ابن عباس يريد على قلوب هؤلاء أقفال وقال مقاتل يعني الطبع على القلب وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج الذي قد ضرب عليه قفل فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان والقرآن وتأمل تنكير القلب وتعريف الأقفال فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة ولو قال أم على القلوب أقفالها لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة وفي قوله أقفالها بالتعريف نوع تأكيد فإنه لو قال اقفال لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الاسم فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها والله أعلم
أهـ { شفاء العليل صـ 95 }
سورة الحجرات
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ }(2/128)
قوله تعالى {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } الآية وقوله { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية فإن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع القوم بمقدمه تلقوه تعظيما لأمر رسول الله فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله فقال إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى فغضب رسول الله وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله فقالوا يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال له انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فرجع إلى رسول الله وأخبره الخبر فنزل يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الآية
والنبأ هو الخبر الغائب عن المخبر إذا كان له شأن والتبين طلب بيان حقيقة والإحاطة بها علما(2/129)
وههنا فائدة لطيفة وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه ورد شهادته جملة وإنما أمر بالتبين فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق ولو أخبر به من أخبر فهكذا ينبغي الإعتماد في رواية الفاسق وشهادته وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري وفسقه من جهات أخر فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق وبطل كثير من الأخبار الصحيحة ولا سيما من فسقه من جهة الإعتقاد والرأي وهو متحر للصدق فهذا لا يرد خبره ولا شهادته
وأما من فسقه من جهة الكذب فإن كثر منه وتكرر بحيث يغلب كذبه على صدقه فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته وإن ندر منه مرة ومرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله
والمقصود ذكر الفسوق الذي لا يخرج إلى الكفر
والفسوق الذي تجب التوبة منه أعم من الفسوق الذي ترد به الرواية والشهادة وكلامنا الآن فيما تجب التوبة منه وهو قسمان فسق من جهة العمل وفسق من جهة الإعتقاد
ففسق العمل نوعان مقرون بالعصيان ومفرد
فالمقرون بالعصيان هو ارتكاب ما نهى الله عنه والعصيان هو عصيان أمره كما قال الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم وقال موسى لأخيه هرون عليهما السلام ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري وقال الشاعر
أمرتك أمرا جازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فالفسق أخص بارتكاب النهى ولهذا يطلق عليه كثيرا كقوله تعالى وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم والمعصية أخص بمخالفة الأمر كما تقدم ويطلق كل منهما على صاحبه كقوله تعالى إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه
فسمى مخالفته للأمر فسقا وقال وعصى آدم ربه فغوى فسمى ارتكابه للنهي معصية فهذا عند الإفراد فإذا اقترنا كان أحدهما لمخالفة الأمر والآخر لمخالفة النهي(2/130)
والتقوى اتقاء مجموع الأمرين وبتحقيقها تصح التوبة من الفسوق والعصيان بأن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله ويترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله
وفسق الإعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ويوجبون ما أوجب الله ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك
وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم
وأما غالية الجهمية فكغلاة الرافضة ليس للطائفتين في الإسلام نصيب
ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة وقالوا هم مباينون للملة
وليس مقصودنا الكلام في أحكام هؤلاء وإنما المقصود تحقيق التوبة من هذه الأجناس العشرة
فالتوبة من هذا الفسوق بإثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله من غير تشبيه ولا تمثيل وتنزيهه عما نزه نفسه عنه ونزهه عنه رسوله من غير تحريف ولا تعطيل وتلقى النفي والإثبات من مشكاة الواحي لا من آراء الرجال ونتائج أفكارهم التي هي منشأ البدعة والضلالة
فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الإعتقادات الفاسدة بمحض اتباع السنة ولا يكتفى منهم بذلك أيضا حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى البيان لأن ذنبهم لما كان بالكتمان كانت توبتهم منه بالبيان قال الله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم لأن ذاك كتم الحق وهذا كتمه ودعا إلى خلافه فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس(2/131)
وشرط في توبة المنافق الإخلاص لأن ذنبه بالرياء فقال تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ثم قال إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عليما ولذلك كان الصحيح من القولين أن توبة القاذف إكذابه نفسه لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عريض المسلم المحصن
فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه لينتفي عن المقذوف العار الذي ألحقه به بالقذف وهو مقصود التوبة
وأما من قال إن توبته أن يقول أستغفر الله من القذف ويعترف بتحريمه فقول ضعيف لأن هذا لا مصلحة فيه للمقذوف ولا يحصل له به براءة عرضه مما قذفه به فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب فإن فيه حقين حقا لله وهو تحريم القذف فتوبته منه باستغفاره واعترافه بتحريم القذف وندمه عليه وعزمه على أن لا يعود وحقا للعبد وهو إلحاق العار به فتوبته منه بتكذيبه نفسه فالتوبة من هذا الذنب بمجموع الأمرين
أهـ { مدارج السالكين حـ 1 صـ 360 ـ 364 }
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم }(2/132)
وهذا من أحسن القياس التمثيلي فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه ولما كان المرتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت ولما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه ولما كان المغتاب متمتعا بعرض أخيه متفكها بغيبته وذمه متحليا بذلك شبه بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب أن يأكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه
فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه المحسوس وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا ووصفهم بذلك في آخر الآية والإنكار عليهم في أولها أن يحب أحدهم ذلك فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم وهم أشد شيء نفرة عنه فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه وبالله التوفيق
أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 203 ـ 204 }
قوله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى }
فإن قيل : الجنين قبل نفخ الروح فيه هل كان فيه حركة وإحساس أم لا ؟ قيل كان فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات ولم تكن حركة نموه وإغتذائه بالإرادة فلما نفخت فيه الروح انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه و اغتذائه(2/133)
فإن قيل : قد ثبت أو الولد يتخلق من ماء الأبوين فهل يتمازجان ويختلطان حتى يصيرا ماء واحدا أو يكون أحدهما هو المادة والآخر بمنزلة الانفحة التي تعقده ؟ قيل هو موضع اختلف فيه أرباب الطبيعة فقالت طائفة منهم : منى الأب لا يكون جزءا من الجنين وإنما هو مادة الروح الساري في الأعضاء وأجزاء البدن كلها من منى الأم ومنهم من قال بل هو ينعقد من منى الأنثى ثم يتحلل ويفسد
قالوا : ولهذا كان الولد جزءا من أمه ولهذا جاءت الشريعة بتبعيته لها في الحرية والرق
قالوا : ولهذا لو نرى فحل رجل على جارية آخر فأولدها فالولد لمالك الأم دون مالك الفحل لأنه تكون من أجزائها ولحمها ودمها وماء الأب بمنزلة الماء الذي يسقي الأرض
قالوا : والحس يشهد أن الأجزاء التي في المولود من أمه أضعاف أضعاف الأجزاء التي فيه من أبيه فثبت أن تكوينه من منى الأم ودم الطمث ومنى الأب عاقد له كالأنفحة
ونازعهم الجمهور وقالوا : إنه يتكون من مني الرجل والأنثى ثم لهم قولان : أحدهما أن يكون من منى الذكر أعضاؤه وأجزاؤه ومن منى الأنثى صورته والثاني أن الأعضاء والأجزاء والصورة تكونت من مجموع الماءين وأنهما امتزجا واختلطا وصارا ماء واحدا وهذا هو الصواب لأننا نجد الصورة والتشكيل تارة إلى الأب وتارة إلى الأم والله أعلم
وقد دل على هذا
قوله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } والأصل هو الذكر فمنه البذر ومنه السقي والأنثى وعاء ومستودع لولده تربيه في بطنها كما تربيه في حجرها ولهذا كان الولد للأب حكما ونسبا
وأما تبعيته للأم في الحرية والرق فلأنه إنما تكون وصار ولدا في بطنها وغذته بلبانها مع الجزء الذي فيه منها وكان الأب أحق بنسبه وتعصيبه لأنه أصله ومادته ونسخته وكان أشرفهما دينا أولى به تغليبا لدين الله وشرعه
فإن قيل : فهلا طردتم هذا وقلتم : لو سقط بذر رجل في أرض آخر يكون الزرع لصاحب الأرض دون مالك البذر ؟(2/134)
قيل : الفرق بينهما أن البذر مال متقوم في أرض آخر فهو لمالكه وعليه أجرة الأرض أو هو بينهما بخلاف المنى فإنه ليس بمال ولهذا نهى الشارع فيه عن المعارضة واتفق الفقهاء على أن الفحل لو نزا على رمكة كان الولد لصاحب الرمكة
فإن قيل : فهل يتكون الجنين من ماءين وواطئين ؟ قيل : هذه مسألة شرعية كونية والشرع فيها تابع للتكوين وقد اختلف فيها شرعا وقدرا فمنعت ذلك طائفة وأبته كل الاباء وقالت : الماء إذا استقر في الرحم اشتمل عليه وانضم غاية الانضمام بحيث لا يبقى فيه مقدار رسم رأس إبرة إلا انسد فلا يمكن انفتاحه بعد ذلك لماء ثان لا من الواطئ ولا من غيره
قالوا : وبهذا أجرى الله العادة : أن الولد لا يكون إلا لأب واحد كما لا تكون الأم إلا واحدة وهذا هو مذهب الشافعي
وقالت طائفة : بل يتخلق من ماءين فأكثر قالوا : وانضمام الرحم واشتماله على الماء لايمنع قبوله الماء الثاني فإن الرحم أشوق شيء وأقبله للمنى
قالوا : ومثال ذلك كمثال المعدة فإن الطعام إذا استقر فيها انضمت عليه غاية الانضمام فإذا ورد عليها طعام فوقه انفتحت له لشوقها إليه
قالوا : وقد شهد بهذا القائف بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ولد ادعاه اثنان فنظر إليهما وإليه وقال : ما أراهما إلا اشتركا فيه فوافقه عمر وألحقه بهما ووافقه على ذلك الإمام أحمد ومالك رضي الله عنهما
قالوا : والحسن يشهد بذلك كما ترى في جراء الكلبة والستور تأتي بها مختلفة الألوان لتعدد آبائها وقد قال النبي ؟ [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقى ماءه زرع غيره ] يريد وطء الحامل من غير الواطىء قال الإمام أحمد : الوطء يزيد في سمع الولد وبصره هذا بعد انعقاده
أهـ { التبيان فى أقسام القرآن صـ 218 ـ 220 }
سورة { ق }
قوله تعالى { إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }
اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه(2/135)
والق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه اليه فانه خاطب منه لك على لسان رسوله قال تعالي ان في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد وذلك ان تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد فقوله ان في ذلك لذكري اشار الى ما تقدم من أول السورة الى ههنا وهذا هو المؤثر وقوله لمن كان له قلب فهذا هو المحل القابل والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى إن هو الا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا أي حي القلب وقوله أو ألقى السمع أي وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه الى ما يقال له وهذا شرط التأثر بالكلام وقوله وهو شهيد أي شاهد القلب حاضر غير غائب قال ابن قتيبة استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه وهو اشارة الى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله فاذا حصل المؤثر وهو القرآن والمحل القابل وهو القلب الحي ووجد الشرط وهو الاصغاء وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه الي شيء آخر حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر فان قيل اذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه فما وجه دخول أداة أو في قوله(2/136)
أو القى السمع والموضع موضع واو الجمع لا موضع أو التي هي لأحد الشيئين قيل هذا سؤال جيد والجواب عنه أن يقال خرج الكلام بأو باعتبار حال المخاطب المدعو فأن من الناس من يكون حي القلب واعيه تام الفطرة فإذا فكر بقلبه وجال بفكره دله قلبه وعقله على صحة القرآن وأنه الحق وشهد قلبه بما أخبر به القرآن فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة وهذا وصف الذين قيل فيهم ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق وقال في حقهم الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء فهذا نور الفطرة على نور الوحي وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي قال ابن القيم وقد ذكرنا ما تضمنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب اجتماع الجيوش الاسلامية على غزو المعطلة والجهمية فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معاني القرآن فيجدها كأنها قد كتبت فيه فهو يقرأها عن ظهر قلب ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد واعي القلب كامل الحياة فيحتاج الى شاهد يميز له بين الحق والباطل ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي فطريق حصول هدايته ان يفرغ سمعه للكلام وقلبه لتأمله والتفكير فيه وتعقل معانيه فيعلم حينئذ انه الحق فالأول حال من رأى بعينه ما دعى اليه وأخبر به والثاني حال من علم صدق المخبر وتيقنه وقال يكفيني خبره فهو في مقام الايمان والأول في مقام الاحسان هذا قد وصل الى علم اليقين وترقي قلبه منه الى فنزلة عين اليقين وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الاسلام فعين اليقين نوعان نوع في الدنيا ونوع في الآخرة فالحاصل في الدنيا نسبته الى القلب كنسبة الشاهد الى العين وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالابصار وفي لدنيا(2/137)
بالبصائر فهو عين يقين في المرتبتين
أهـ { الفوائد صـ 3 ـ 5 }
سورة الذاريات
يقول سبحانه { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى اهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون } الذاريات 23 27
ففي هذا الثناء على إبراهيم من وجوه متعددة
أحدها انه وصف ضيفه بأنهم مكرمون وهذا على أحد القولين انه اكرام إبراهيم لهم انهم المكرمون عند الله ولا تنافي بين القولين فالاية تدل على المعنيين
الثاني قوله تعالى إذ دخلوا عليه فلم يذكر استئذانهم ففي هذا دليل على انه كان قد عرف بإكرام الضيفان واعتياد قراهم فبقي منزله مضيفة مطروقا لمن ورده لا يحتاج إلى الاستئذان بل استئذان الداخل دخوله وهذا غاية ما يكون من الكرم الثالث قوله لهم سلام بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب والسلام بالرفع اكمل فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والتجدد والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد فإبراهيم حياهم احسن من تحيتهم فإن قولهم سلاما يدل على سلمنا سلاما وقوله سلام أي سلام عليكم
الرابع انه حذف من قوله قوم منكرون فإنه لما انكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف لو قال انتم قوم منكرون فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام
الخامس انه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله فقال منكرون ولم يقل أني انكركم وهو احسن في هذا المقام وابعد من التنفير والمواجهة بالخشونة
السادس انه راغ إلى اهله ليجيئهم بنزلهم والروغان هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف فيشق عليه ويستحي فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام بخلاف من يسمع ضيفه ويقول له أو لمن حضر مكانكم حتى آتيكم بالطعام ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه(2/138)
السابع انه ذهب إلى اهله فجاء بالضيافة فدل على أن ذلك كان معدا عندهم مهيئا للضيفان ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه
الثامن قوله تعالى فجاء بعجل سمين دل على خدمته للضيف بنفسه ولم يقل فأمر لهم بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه ولم يبعثه مع خادمه وهذا ابلغ في اكرام الضيف
التاسع انه جاء بعجل كامل ولم يأت ببضعة منه وهذا من تمام كرمه
العاشر انه سمين لا هزيل ومعلوم أن ذلك من أفخر اموالهم ومثله يتخذ للاقتناء والتربية فآثر به ضيفانه
الحادي عشر انه قربه اليهم بنفسه ولم يأمر خادمه بذلك
الثاني عشر انه قربه ولم يقربهم اليه وهذا ابلغ في الكرامة أن يجلس الضيف ثم يقرب الطعام اليه ويحمله إلى حضرته ولا يضع الطعام في ناحية ثم يأمر الضيف بأن يتقرب اليه
الثالث عشر انه قال ألا تأكلون وهذا عرض وتلطف في القول وهو احسن من قوله كلوا أو مدوا ايديكم وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه ولهذا يقولون بسم الله أو ألا تتصدق أو إلا تجبر ونحو ذلك
الرابع عشر انه إنما عرض عليهم الاكل لانه رآهم لا يأكلون ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الآذن في الاكل بل كان إذا قدم اليهم الطعام اكلوا وهؤلاء الضيوف لما امتنعوا من الاكل قال لهم إلا تأكلون ولهذا اوجس منهم خيفة أي احسها واضمرها في نفسه ولم يبدها لهم وهو الوجه
الخامس عشر فإنهم لما امتنعوا من آكل طعامه خاف منهم ولم يظهر لهم ذلك فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا لا تخف وبشروه بالغلام
فقد جمعت هذه الاية اداب الضيافة التي هي اشرف الآداب وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي
من اوضاع الناس وعوائدهم وكفى بهذه الاداب شرفا وفخرا فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين
وقد شهد الله سبحانه بأنه وفى ما أمر به فقال تعالى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وابراهيم الذي وفى النجم 36 37(2/139)
قال ابن عباس رضي الله عنهما وفي جميع شرائع الإسلام ووفى ما أمر به من تبليغ الرسالة
وقال تعالى واذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال أني جاعلك للناس اماما البقرة 124 فلما أتم ما أمر به من الكلمات جعله الله اماما للخلائق يأتمون به
وكان كما قيل قلبه للرحمن وولده للقربان وبدنه للنيران وماله للضيفان
ولما اتخذه ربه خليلا والخلة هي كمال المحبة وهي مرتبة لا تقبل المشاركة والمزاحمة وكان قد سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا فوهب له اسماعيل فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره فامتحنه بذبحه ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده فلما استسلم لأمر ربه وعزم على فعله وظهر سلطان الخلة في الاقدام على ذبح الولد ايثارا لمحبة خليله على محبته نسخ الله ذلك عنه وفداه بالذبح العظيم لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم وتوطين النفس على ما أمر به فلما حصلت هذه المصلحة عاد
الذبح مفسدة فنسخ في حقه فصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في اتباعه إلى يوم القيامة
وهو الذي فتح للأمة باب مناظرة المشركين واهل الباطل وكسر حججهم وقد ذكر الله سبحانه مناظراته في القرآن مع امام المعطلين ومناظرته مع قومه المشركين وكسر حجج الطائفتين بأحسن مناظرة واقربها إلى الفهم وحصول العلم
قال تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء الأنعام 83
قال زيد بن اسلم وغيره بالحجة والعلم
أهـ { جلاء الأفهام صـ 181 ـ 184 }
سورة الطور
قال تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء }(2/140)
و روى قيس عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته و إن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه ثم قرا و الذين آمنوا و اتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم و ما التناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين قال ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين و ذكر ابن مردويه في تفسيره من حديث شريك عن سالم الافطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال شريك أظنه حكاه عن النبي قال إذا دخل الرجل الجنة سال عن أبويه و زوجته و ولده فيقال انهم لم يبلغوا درجتك أو عملك فيقول يا رب قد عملت لي و لهم فيؤمر بالإلحاق بهم ثم تلا ابن عباس و الذين آمنوا و اتبعناهم ذرياتهم بإيمان إلى آخر الآية و قد اختلف المفسرون في الذرية في هذه الآية هل المراد بها الصغار أو الكبار أو النوعان على ثلاثة أقوال و اختلافهم مبني على إن قوله بإيمان حال من الذرية و التابعين أو المؤمنين المتبوعين فقالت طائفة المعنى و الذين آمنوا و اتبعناهم ذرياتهم في إيمانهم فأتوا من الإيمان بمثل ما أتوا به و الحقناهم بهم في الدرجات قالوا و يدل على هذا قراءة من قرا و اتبعتم ذريتهم فجعل الفعل في الاتباع لهم قالوا و قد أطلق الله سبحانه الذرية على الكبار كما قال و من ذريته داود و سليمان قال ذرية من حملنا مع نوح و قال و كنا ذرية من بعدهم افتهلكنا بما فعل المبطلون و هذا قول الكبار و العقلاء قالوا و يدل على ذلك متا رواه قول سعيد بن جبير عن ابن عباس يرفعه إن الله يرفع ذرية المؤمن إلى درجته و إن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه فهذا يدل على انهم دخلوا الجنة بأعمالهم و لكن لم يكن لهم أعمال يبلغوا بها درجة آبائهم فبلغهم إياها و إن تقاصر عملهم عنها قالوا أيضا فالأيمان هو القول و العمل و النية و هذا(2/141)
إنما يمكن من الكبار و على هذا فيكون المعنى إن الله سبحانه يجمع ذرية المؤمن إليه إذا أتوا من الإيمان بمثل إيمانه إذ هذا حقيقة التبعية و إن كانوا دونه في الإيمان رفعهم الله إلى درجته إقرارا لعينه و تكميلا لنعيمه و هذا كما إن زوجات النبي معه في الدرجة تبعا و إن لم يبلغوا تلك الدرجة بأعمالهن و قالت طائفة أخرى الذرية ههنا الصغار و المعنى و الذين آمنوا و اتبعناهم ذرياتهم في إيمان الآباء و الذرية تتبع الآباء و إن كانوا صغارا في الإيمان و إحكامه من الميراث و الدية و الصلاة عليهم و الدفن في قبور المسلمين و غير ذلك ألا فيما كان من أحكام البالغين و يكون قوله بإيمان على هذا في موضع نصب على الحال من المفعولين أي و اتبعناهم ذرياتهم بإيمان الآباء قالوا و يدل على صحة هذا القول البالغين لهم حكم أنفسهم في الثواب و العقاب فانهم مستقلون بأنفسهم ليسوا تابعين الآباء في شيء من أحكام الدنيا و لا أحكام الثواب و العقاب لاستقلالهم بأنفسهم و لو كان المراد بالذرية البالغين لكن أولاد الصحابة البالغون كلهم في درجة آبائهم و تكون أولاد التابعين البالغون كلهم في درجة آبائهم و هلم جرا إلى يوم القيامة فيكون الآخرون في درجة السابقين قالوا و يدل عليه أيضا انه سبحانه جعلهم معهم تيعا في الدرجة كما جعلهم تبعا معهم في الايمان ولو كانوا بالغين لم يكن ايمانهم تبعا بل ايمان استقلال قالوا ويدل عليه ان الله سبحانه و تعالى جعل المنازل في الجنة بحسب الأعمال في حق المستقلين و أما الاتباع فان الله سبحانه و تعالى يرفعهم إلى درجة أهليهم و إن لم يكن لهم أعمالهم كما تقدم وايضا فالحور العين والخدم في درجة اهليهم وان لم يكن لهم عمل بخلاف المكلفين البالغين فانهم يرفعون إلى حيث بلغتهم أعمالهم و قالت فرقة منهم الواحدي الوجه إن تحمل الذرية الصغار و الكبار لان الكبير يتبع الأب بإيمان نفسه(2/142)
و الصغير يتبع الأب بإيمان الأب قالوا والذرية تقع على الصغير و الكبير و الواحد و الكثير و الابن و الأب كما قال تعالى و آية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون أي آباءهم و الإيمان يقع على الإيمان التبعي و على الاختياري الكسبي فمن وقوعه على التبعي قوله فتحرير رقبة مؤمنة فلو اعتق صغيرا جاز قالوا و أقوال السلف تدل على هذا قال سعيد بن جبير عن ابن عباس إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته و إن كانوا دونه في العمل لتقربهم عيونهم ثم قرا هذه الآية و قال ابن مسعود في هذه الآية الرجل يكون له القدم و يكون له الذرية فيدخل الجنة فيرفعون إليه لتقر بهم عينه و إن لم يبلغوا ذلك و قال أبو مجلز يجمعهم الله له كما كان يحب إن يجتمعوا في الدنيا و قال الشعبي ادخل الله الذرية بعمل الآباء الجنة و قال الكلبي عن ابن عباس إن كان الآباء ارفع درجة من الأبناء رفع الله الأبناء إلى الآباء و إن كان الأبناء ارفع درجة من الآباء رفع الله الآباء إلى الأبناء و قال إبراهيم أعطوا مثل أجور آبائهم و لم ينقص الآباء من أجورهم شيئا وقال ويدل على صحة هذا القول إن القراءتين كالآيتين فمن قرا واتبعتهم ذريتهم فهذا من حق البالغين الذين تصح نسبة الفعل إليهم كما قال تعالى و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار ا و الذين اتبعوهم بإحسان و من قرا و اتبعناهم ذرياتهم فهذا في حق الصغار الذين اتبعهم الله إياهم في الإيمان حكما فدلت القراءتان على النوعين قلت و اختصاص الذرية ههنا بالصغار اظهر لئلا يلزم استواء المتأخرين بالسابقين في الدرجات و لا يلزم مثل هذا في الصغار فان أطفال كل رجل و ذريته معه في درجته و الله اعلم
أهـ { حادى الأرواح صـ 239 ـ 244 }
سورة النجم
قال الله تعالى { ثم دنى فتدلى
فكان قاب قوسين أو أدني }
آيس العقول فقطع البحث بقوله أو أدنى(2/143)
كأن الشيخ فهم من الآية أن الذي دنى فتدلى فكان من محمد قاب قوسين أو أدنى هو الله عز وجل وهذا وإن قاله جماعة من المفسرين فالصحيح أن ذلك هو جبريل عليه الصلاة والسلام فهو الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هكذا فسره النبي في الحديث الصحيح قالت عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله عن هذه الآية فقال جبريل لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ولفظ القرآن لا يدل على ذاك غير ذلك من وجوه
أحدها أنه قال علمه شديد القوى وهذا جبريل الذي وصفه الله بالقوة في سورة التكوير فقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين
الثاني أنه قال ذو مرة أي حسن الخلق وهو الكريم المذكور في التكوير
الثالث أنه قال فاستوى وهو بالأفق الأعلى وهو ناحية السماء العليا وهذا استواء جبريل بالأفق الأعلى وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه
الرابع أنه قال ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فهذا دنو جبريل وتدليه إلى الأرض حيث كان رسول الله وأما الدنو والتدلي في حديث المعراج فرسول الله كان فوق السموات فهناك دنى الجبار جل جلاله منه وتدلى فالدنو والتدلي في الحديث غير الدنو والتدلي في الآية وإن اتفقا في اللفظ
الخامس أنه قال ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة
المنتهى والمرئي عند السدرة هو جبريل قطعا وبهذا فسره النبي فقال لعائشة ذاك جبريل
السادس أن مفسر الضمير في قوله ولقد رآه وفي قوله ثم دنى فتدلى وفي قوله فاستوى وفي قوله وهو بالأفق الأعلى واحد فلا يجوز أن يخالف بين المفسر والمفسر من غير دليل
السابع أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين الملكي والبشري ونزه البشرى عن الضلال والغواية ونزه الملكي عن أن يكون شيطانا قبيحا ضعيفا بل هو قوي كريم حسن الخلق وهذا نظير الوصف المذكور في سورة التكوير سواء(2/144)
الثامن أنه أخبر هناك أنه رآه بالأفق المبين وههنا أخبر أنه رآه بالأفق الأعلى وهو واحد وصف بصفتين فهو مبين وهو أعلى فإن الشيء كلما علا بان ظهر
التاسع أنه قال ذو مرة والمرة الخلق الحسن المحكم فأخبر عن حسن خلق الذي علم النبي ثم ساق الخبر كله عنه نسقا واحدا
العاشر أنه لو كان خبرا عن الرب تعالى لكان القرآن قد دل على أن رسول الله رأى ربه سبحانه مرتين مرة بالأفق ومرة عند السدرة ومعلوم أن الأمر لو كان كذلك لم يقل النبي لأبي ذر وقد سأله هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه فكيف يخبر القرآن أنه رآه مرتين ثم يقول رسول الله أنى أراه وهذا أبلغ من قوله لم أره لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط وهذا يتضمن النفي وطرفا من الإنكار على السائل كما إذا قال لرجل هل كان كيت وكيت فيقول كيف يكون ذلك
الحادي عشر أنه لم يتقدم للرب جل جلاله ذكر يعود الضمير عليه في قوله ثم دنى فتدلى والذي يعود الضمير عليه لا يصلح له وإنما هو لعبده
الثاني عشر أنه كيف يعود الضمير إلى ما لم يذكر ويترك عوده إلى المذكور مع كونه أولى به
الثالث عشر أنه قد تقدم ذكر صاحبكم وأعاد عليه الضمائر التي تليق به ثم ذكر بعده شديد القوى ذا المرة وأعاد عليه الضمائر التي تليق به والخبر كله عن هذين المفسرين وهما الرسول الملكي والرسول البشري
الرابع عشر أنه سبحانه أخبر أن هذا الذي دنى فتدلى كان بالأفق الأعلى وهو أفق السماء بل هو تحتها قد دنى من رسول رب العالمين ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك كان من فوق العرش لا إلى الأرض
الخامس عشر أنهم لم يماروه صلوات الله وسلامه عليه على رؤية ربه ولا أخبرهم بها لتقع مماراتهم له عليها وإنما ماروه على رؤية ما أخبرهم من الآيات التي أراه الله إياها ولو أخبرهم الرب تعالى لكانت مماراتهم له عليها أعظم من مماراتهم على رؤية المخلوقات(2/145)
السادس عشر أنه سبحانه قرر صحة ما رآه الرسول وأن مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله لقد رأى من آيات ربه الكبرى فلو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى والمماراة على ذلك منهم لكان تقرير تلك الرؤية أولى والمقام إليها أحوج والله أعلم
أهـ { مدارج السالكين حـ 3 صـ 205 ـ 206 }
قوله تعالى { عندها جنة المأوى }
والمأوى مفعل من أوى يأوي إذا انضم إلى المكان وصار إليه واستقر به وقال عطاء عن ابن عباس هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة وقال مقاتل والكلبي هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وقال كعب جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترتع فيها أرواح الشهداء وقالت عائشة رضي الله عنها وزر بن حبيش هي جنة من الجنان والصحيح أنه اسم من أسماء الجنة كما قال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال في النار فإن الجحيم هي المأوى وقال ومأواكم النار
أهـ { حادى الأرواح صـ 159 }
قوله تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم }
وهي الصغائر قال ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه إن العين تزني وزناها النظر واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والفم يزني وزناه القبل ومنه ألم بكذا أي قاربه ودنا منه وغلام ملم أي قارب البلوغ وفي الحديث إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم أي يقرب من ذلك وبالجملة فلا يستبين كون اللمم من أسماء الحب وإن كان قد ذكره جماعة إلا أن يقال إن المحبوب قد ألم بقلب المحب أي نزل به ومنه ألمم بنا أي انزل بنا ومنه قوله
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
أهـ { روضة المحبين صـ 50 ـ 51 }
قوله تعالى { أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون } [ النجم : 59 ] قال عكرمة عن ابن عباس : السمود : الغناء في لغة حمير يقال : اسمدى لنا أي غنى لنا وقال أبو زبيد :(2/146)
وكأن العزيف فيها غناء ... للندامى من شارب مسمود
قال أبو عبيدة : المسمود : الذي غنى له وقال عكرمة : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا فنزلت هذه الآية
وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السمود الغفلة والسهو عن الشيء قال المبرد : هو الاشتغال عن الشيء بهم أو فرح يتشاغل به وأنشد :
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
وقال ابن الأنباري : السامد اللاهي والسامد الساهي والسامد المتكبر والسامد القائم
وقال ابن عباس في الآية : وأنتم مستكبرون وقال الضحاك أشرون بطرون وقال مجاهد : غضاب مبرطمون وقال غيره : لا هون غافلون معرضون
فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه فهذه أربعة عشر اسما سوى اسم الغناء
أهـ { إغاثة اللهفان صـ 258 }
سورة الرحمن
قوله تعالى { كل من عليها فان }
ولم يقل فيها لأن عند الفناء ليس الحال حال القرار والتمكين
أهـ { بدائع الفوائد حـ3 صـ 1013 }
قوله تعالى { متكئين على فرش بطائنها من إستبرق }(2/147)
وقال تعالى وفرش مرفوعة فوصف الفرش بكونها مبطنة بالإستبرق وهذا يدل على أمرين أحدهما أن ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها لأن بطائنها للارض وظهائرها للجمال والزينة والمباشرة قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ابي هبيرة ابن مريم عن عبد الله في قوله بطائنها من إستبرق قال هذه البطائن قد خبرتم بها فكيف بالظهائر الثاني يدل على أنها فرش عالية لها سمك وحشو بين البطانة والظهارة وقد روى في سمكها وإرتفاعها آثار إن كانت محفوظة فالمرد ارتفاع محلها كما رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي في قوله وفرش مرفوعة قال ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام قال الترمذي حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد قيل ومعناه إن ارتفاع المذكور للدرجات والفرش عليها قلت رشدين بن سعد عنده مناكير قال الدارقطني ليس بالقوي وقال أحمد لا يبالي عمن روى وليس به باس في الرقاق وقال أرجو أنه صالح الحديث وقال يحيى بن معين ليس بشيء وقال زرعة ضعيف وقال الجوزجاني عنده مناكير ولا ريب أنه كان سيء الحفظ فلا يعتمد على ما ينفرد به وقد قال أبن وهب حدثنا عمرو بن الحارث عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله في قوله وفرش مرفوعة قال ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ فالله أعلم وقال الطبراني حدثنا المقدام بن داود حدثنا أسد بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن مطرف عن عبد الله بن الشخير عن كعب في قوله عز وجل وفرش مرفوعة قال مسيرة أربعين سنة قال الطبراني حدثنا إبراهيم بن نائلة حدثنا إسماعيل بن عمرو والبجلي حدثنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال سئل رسول الله عن الفرش المرفوعة قال لو طرح فراش من أعلاها إلى قرارها مائة خريف وفي رفع هذا الحديث نظر فقد قال أبن أبي الدنيا(2/148)
حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا معاذ ابن هشام قال وجدت في كتاب أبي القاسم عن ابي أمامة في قوله عز وجل وفرش مرفوعة قال لو أن أعلاها سقط ما بلغ أسفلها أربعين خريفا فصل
وأما البسط والزرابي فقد قال تعالى متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان وقال تعالى فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة
أهـ { حادى الأرواح صـ 324 ـ 327 }
قال تعالى { فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان }(2/149)
وصفهن سبحانه بقصر الطرف في ثلاثة مواضع أحدها هذا والثاني قوله تعالى في الصافات وعندهم قاصرات الطرف عين والثالث قوله تعالى في ص وعندهم قاصرات الطرف أتراب والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم وقيل قصرن طرف أزواجهن كلهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن وهذا صحيح من جهة المعنى واما من جهةاللفظ فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل لحسان الوجوه واصله قاصر طرفهن أي لبس بطامح متعد قال آدم حدثنا ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله قاصرات الطرف قال يقول قاصرات الطرف على أزواجهن فلا يبغين غير أزواجهن قال آدم وحدثنا المبارك بن فضلة عن الحسن قال قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم والله ما هن متبرجات ولا متطلعات وقال منصور عن مجاهد قصرن أبصارهن وقلوبهن و أنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم وفي تفسير سعيد عن قتادة قال وقصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم و أما الأتراب فجمع ترب وهو لذة الإنسان قال أبو عبيدة و أبو إسحاق أقران أسنانهن واحدة قال ابن عباس وسائر المفسرين مستويات على سن واحد وميلاد واحد وبنات ثلاث وثلاثين سنة وقال مجاهد أتراب أمثال قال إسحاق هن في غاية الشباب والحسن وسمي سن الإنسان وقرنه تربه لانه مس تراب الأرض معه في وقت واحد والمعنى من الأخبار باستواء أسنانهن أنهن ليس فيهن عجائز قد فات حسنهن ولا ولائد لا يقطن(2/150)
الوطء بخلاف الذكور فان فيهم الولدان وهم الخدم وقد اختلف في مفسر الضمير في قوله فيهن فقالت طائفة مفسره الجنتان وما حوتاه من القصور والغرف والخيام وقالت طائفة مفسره الفرش المذكورة في قوله متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وفي بمعنى على وقوله تعالى لم يطمثهن انس قبلهن ولا جان قال أبو عبيدة لم يمسهن يقال ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه وقال يونس تقول العرب هذا جمل ما طمثه حبل قط أي ما مسه وقال الفراء الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية والطمث هو الدم وفيه لغتان طمث يطمث ويطمث قال الليث طمثت الجارية إذا افتر عتها والطامث في لغتهم هي الحائض قال أبو الهيثم يقال للمرأة طمثت تطمث إذا أدميت بالافتضاض وطمثت على فعلت تطمث إذا حاضت أول ما تحيض فهي طامث وقال في قول الفرزدق
خرجن إلى لم يطمثن قبلي ... وهن اصح من بيض النعام(2/151)
أي لم يمسسن قال المفسرون لم يطأهنولم يغشهن يجاملهم ولم يغشين ولم يجامعن هذه ألفاظهم وهم مختلفون في هؤلاء فبعضهم يقول هن اللواتي أنشئن في الجنة من حورها وبعضهم يقول يعني نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر ابكارا كما وصفن قال الشعبي نساء من نساء الدنيا لم يمسسن منذ انشئن خلقا وقال مقاتل لأنهن خلقن في الجنة وقال عطاء عن ابن عباس هن الآدميات اللاتي متن أبكارا وقال الكلبي لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه انس ولا جان قلت ظاهر القران أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا وانما هن من الحور حور العين و أما نساء الدنيا فقد طمثهن الإنس ونساء الجن قد طمثهن الجن والاية تدل على ذلك قال أبو إسحاق وفي الآية دليل على أن الجن يغشي كما أن الأنس يغشى ويدل على أنهن الحور اللاتي خلقن في الجنة انه سبحانه جعلهن مما أعده الله في الجنة لأهلها من الفاكهة والثمار و الأنهار والملابس وغيرها ويدل عليه أيضا الآية التي بعدها وهي قوله تعالى حور مقصورات في الخيام ثم قال لم يطمثن انس قبلهم ولا جان قال الإمام احمد والحور العين لا يمتن عند النفخة للصور لأنهن خلقن للبقاء وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور أن مؤمن الجن في الجنة كما أن كافرهم في النار وبوب عليه البخاري في صحيحه فقال باب ثواب الجن وعقابهم ونص عليه غير واحد من السلف قال ضمرة بن حبيب وقد سئل هل للجن ثواب فقال نعم وقرا هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على احليله فجامع معه والضمير في قوله قبلهم للمعنيين بقوله متكئين وهم أزواج هؤلاء النسوة وقوله كأنهم الياقوت والمرجان قال الحسن وعامة المفسرين أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان شبههن في صفاء اللون وبياضه وبالياقوت والمرجان ويدل عليه ما قاله عبد الله ان المرأة من النساء أهل الجنة لتلبس عليها سبعين حلة من حرير فيرى بياض ساقيها من ورائهن(2/152)
ذلك بان الله يقول كأنهن الياقوت والمرجان إلا وان الياقوت حجر لو جعلت فيه سلكا ثم استصفيته نظرت إلى السلك من وراء الحجر فصل
وقال تعالى في وصفهن حور مقصورات في الخيام المقصورات المحبوسات
قال أبو عبيدة خدرن في الخيام وكذلك قال مقاتل وفيه معنى آخر وهو ان يكون المراد أنهن محبوسات على أزواجهن لا يرون غيرهم وهم في الخيام وهذا معنى قول من قال قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم ولا يطمحن إلى من سواهم وذكره الفراء قلت وهذا معنى قاصرات الطرف ولكن أولئك قاصرات بأنفسهن وهؤلاء مقصورات وقوله في الخيام على هذا القول صفة لحور أي هن في الخيام وليس معمولا لمقصورات وكأن ارباب هذا القول فسروا بان يكن محبوسات في الخيام وليس لا تفارقنها إلى الغرف والبساتين و أصحاب القول الأول يجيبون عن هذا بان الله سبحانه وصفهن بصفات النساء المخدرات المصونات وذلك اجمل في الوصف ولا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين كما أن النساء الملوك ودونهم من النساء المخدرات المصونات لا يمنعن ان يخرجن في سفر و غيره إلى منتزه وبستان ونحوه فوصفهن اللازم لهن القصر في البيت ويعرض لهن مع الخدم الخروج إلى البساتين ونحوها و أما مجاهد فقال مقصورات قلوبهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ وقد تقدم وصف النسوة الأول بكونهن قاصرات الطرف وهؤلاء بكونهن مقصورات والوصفان لكلا النوعين فانهما صفتا كمال فتلك الصفة قصر الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج وهذه الصفة قصر الرجل على التبرج والبروز والظهور للرجال فصل(2/153)
وقال تعالى فيهن خيرات حسان فالخيرات جمع خيرة وهي مخففة من خيره كسيدة ولينة وحسان جمع حسنة فهن خيرات الصفات والاخلاق والشيم وحسان الوجوه قال وكيع حدثنا سفيان عن جابر عن القاسم عن ابي بزة عن ابي عبيدة عن مسروق عن عبد الله قال لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة اربعة ابواب يدخل عليها في كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك لا ترحات ولا ذفرات ولا بخرات ولا صماحات فصل
وقال تعالى انا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا وأترابا لاصحاب اليمين أعاد الضمير إلى النساء ولم يجر لهن ذكر لان الفرش دلت عليهن اذ هي محلهن(2/154)
155 - وقيل الفرش في قوله وفرش مرفوعة كناية عن النساء كما يكنى عنهن بالقوارير و الأزر وغيرها ولكن قوله مرفوعة يأبى هذا إلا أن يقال المراد رفعة القدر وقد تقدم تفسير النبي للفرش وارتفاعها فالصواب أنها الفرش نفسها ودلت على النساء لأنها محلهن غالبا قال قتادة وسعيد بن جبير خلقناهن خلقا جديدا وقال ابن عباس يريد نساء الآدميات وقال الكلبي ومقاتل يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط يقول تعالى خلقناهن بعد الكبر والهرم وبعد الخلق الأول في الدنيا ويؤيد هذا التفسير حديث انس المرفوع هن عجائزكم العمش الرمض رواه الثوري عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عنه ويؤيده ما رواه يحيى الحماني حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد عن عائشة أن رسول دخل عليها وعندها عجوز فقال من هذه فقالت إحدى خالاتي قال إما انه لا يدخل الجنة العجوز فدخل على العجوز من ذلك ما شاء الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم انا أنشأناهن إنشاء خلقا آخر يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا واول من يكسى ابراهيم خليل الله ثم قرا النبي صلى الله عليه وسلم انا انشاناهن انشاء قال ادم بن ابي اياس حدثنا شيبان عن الزهري عن جابر الجعفي عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله انا أنشأناهن إنشاء قال يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا قال ادم وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة العجز فبكت عجوز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبروها انها يومئذ ليست بعجوز انها يومئذ شابة ان الله عز وجل يقول انا أنشأناهن إنشاء وقال ابن ابي شيبة حدثنا احمد بن طارق حدثنا مسعدة بن اليسع حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن سعيد ابن المسيب عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم إن الجنة(2/155)
لا يدخلها عجوز فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة فقال صلى الله عليه وسلم أن ذلك كذلك إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا وذكر مقاتل قولا آخر وهو اختيار الزجاج إنهن الحور العين التي ذكرهن قيل انشأهن الله عز
156 - وجل لأوليائهم لهم يقع عليهن ولادة والظاهر أن المراد أنشأهن الله تعالى في الجنة إنشاء ويدل عليه وجوه أحدها انه قد قال في حق السابقين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب إلى قوله كأمثال اللؤلؤ المكنون فذكر سردهم و آنيتهم وشرابهم وفاكهتهم وطعامهم و أزواجهم والحور العين ثم ذكر أصحاب الميمنة وطعامهم وشرابهم وفراشهم ونساءهم والظاهر انهن مثل نساء من قبلهم خلقن في الجنة الثاني أنه سبحانه قال أنشأناهن إنشاء وهذا ظاهر انه إنشاء أول لا ثان لانه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثاني يقيده بذلك كقوله وان عليه النشأة الأخرى وقوله ولقد علمتم النشأة الأولى الثالث إن الخطاب بقوله وكنتم أزواجا إلى آخر للذكور و الإناث و النشأة الثانية أيضا عامة للنوعين وقوله انا أنشأناهن إنشاء ظاهره اختصاصهن بهذا الإنشاء و تأمل تأكيده بالمصدر والحديث لا يدل على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف بل يدل على مشاركتهن للحور العين في هذه الصفات المذكورة فلا يتوهم انفراد الحور العين عنهن بما ذكر من الصفات بل هي احق به منهن فالانشاء واقع على الصنفين والله اعلم وقوله عربا جمع عروب وهن المتحببات إلى ازواجهن قال ابن الاعرابي العروب من النساء المطيعة لزوجها المتحببة اليه وقال ابو عبيدة العروب الحسنة التبعل قلت يريد حسن مواقعها وملاطفتها لزوجها عند الجماع وقال المبرد هي العاشقة لزوجها وانشد للبيد
وفي الحدوج عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشي دونها البصر(2/156)
وذكر لمفسرون في تفسير العرب انهن العواشق المتحببات الغنجات الشكلات المتعشقات الغلمات المغنوجات كل ذلك من الفاظهم وقال البخاري في صحيحه عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر وتسميها أهل مكة العربة وأهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة والعرب والمتحببات إلى ازواجهن هكذا ذكره في كتاب بدء الخلق وقال في كتاب التفسير في سورة الواقعة عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر تسميها أهل مكة العربة و أهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة قلت فجمع سبحانه بين حسن صورتها وحسن عشرتها وهذا غاية ما يطلب من النساء وبه تكمل لذة الرجل بهن وفي قوله لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان إعلام بكمال اللذة بهن فان لذة الرجل بالمرأة التي لم يطاها سواه
157 - لها فضل على لذته بغيرها وكذلك هي أيضا فصل
قال تعالى إن للمتقين مفازا حدائق و اعنابا وكواعب اترابا فالكواعب جمع كاعب وهي الناهد قال قتادة ومجاهد والمفسرون قال الكلبي هن الفلكات اللواتي تكعب ثديهن و تفلكت واصل اللفظة من الاستدارة والمراد أن ثديهن نواهد كالرمان ليست متدلية إلى اسفل ويسمين نواهد وكواعب فصل(2/157)
روى البخاري في صحيحه عن انس بن مالك ان الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغدوة في سبيل الله او روحة خير من الدنيا و ما فيها و لقاب قوس احدكم او موضع قيده يعني سوطه من الجنة خير من الدنيا و ما فيها و لو اطلعت امراة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا و لأضاءت ما بينهما و لنصيفها على راسها خير من الدنيا و ما فيها و في الصحيحين من حديث ابي هريرة عن النبي إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر و التي تليها على اضوا كوكب دري في السماء و لكل امرء منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم و ما في الجنة أعزب و قال الإمام احمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا يونس عن محمد بن شيرين عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي للرجل من أهل الجنة زوجتان من الجور العين لكل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب و قال الطبراني حدثنا بكر بن سهل الدمياطي حدثنا عمرو بن هشام البيروني حدثنا سليمان بن ابي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن ابيه عن ام سلمة قالت قلت يا رسول الله اخبرني عن قوله عز وجل حور عين قال حور بيض عين ضخام العيون شقر الحوراء بمنزلة جناح النسر قلت اخبرني عن قوله عز وجل كأنهم لؤلؤ مكنون قال صفاؤهن صفاء الدر الذي في الاصداف الذي لم تمسه الأيدي قلت يا رسول الله اخبرني عن قوله عز و جل فيهن خيرات حسان قال خيرات الاخلاق حسان الوجوه قلت يا رسول الله اخبرني عن قوله عز و جل كانهن بيض مكنون قال رقتهن كرقة الجلد الذي رايته في داخل البيضة مما يلي القشر وهو الغرقىء قلت يا رسول الله اخبرني عن قوله عز وجل عربا اترابا قال هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رمضا شمطا خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عربا متعشقات(2/158)
متحببات أترابا على ميلاد واحد قلت يا رسول الله نساء الدنيا افضل ام الحور العين قال بل نساء الدنيا افضل من الحور كفضل الظهارة على البطانة قلت يا رسول الله وبم ذلك قال بصلاتهن و صيامهن و عبادتهن الله تعالى البس الله وجوههن النور و أجسادهن الحرير بيض الأولان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر و أمشاطهن الذهب يقلن نحن الخالدات فلا نموت و نحن الناعمات فلا نيأس أبدا و نحن المقيمات فلا نظعن أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له و كان لنا قلت يا رسول الله و المرأة منا تتزوج زوجين أو ثلاث أو أربع ثم تموت فتدخل الجنة و يدخلون معها من يكون زوجها قال يا ام سلمة أنها تخير فتختار أحسنهم خلقا فتقول أي رب ان هذا كان أحسنهم معي خلقا في دار الدنيا فزوجنيه يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا و الآخرة تفرد به سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم و قال ابن عدي عمت أحاديثه مناكير و لم أر للمتقدمين فيه كلاما ثم ساق هذا الحديث من طريقه و قال لا يعرف الا بهذا السند و قال أبو يعلى الموصلي حدثنا عمر بن الضحاك بن مخلد حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد حدثنا ابو رافع إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله و هو في طائفة من أصحابه فذكر حديث الصور و فيه فاقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة فيقول الله قد شفعتك و أذنت لهم في دخول الجنة وكان رسول الله يقول و الذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا باعرف بازواجكم و مساكنكم من أهل الجنة بازواجهم و مساكنهم فيدخل رجل منهم على اثنتين و سبعين زوجة مما ينشئ الله واثنتين من ولد آدم لهما فضل على من انشا الله لعبادتهما الله عز و جل في الدنيا يدخل على الأولى منها في غرفة من ياقوت على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجا من سندس و استبرق و انه ليضع يده بين كتفيها ثم(2/159)
ينظر إلى يده من صدرها و من وراء ثيابها وجلدها ولحمها لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة و كبدها له مرآة فبينما هو عندها لا يملها و لا تمله و لا يأتيها من مرة الا وجدها عذراء ما يفتر ذكره و لا يشتكي قلبها فبينما هو كذلك اذ نودي انا قد عرفنا أنك لا تمل و لا تمل الا انه لا منى و لا منية الا ان تكون له ازواج غيرها فتخرج
فتأتيهن واحدة واحدة كلما جاء واحدة قالت و الله ما في الجنة شيء احسن منك و ما في الجنة شيء احب الي منك هذا قطعة من حديث الصور و الذي تفرد به اسماعيل بن رافع وقد روي له الترمذي وابن ماجة وضعفه احمد و يحيى و جماعة و قال الدار قطني و غيره متروك الحديث و قال ابن عدي عامة احاديثه فيها نظر و قال الترمذي ضعفه بعض أهل العلم و سمعت محمدا يعني البخاري يقول هو ثقة مقارب الحديث و قال لي شيخنا ابو الحجاج الحافظ هذا الحديث مجموع من عدة احاديث ساقه اسماعيل او غيره هذه السياقة و شرحه الوليد بن مسلم في كتاب مفرد و ما تضمنه معروف في الاحاديث و الله اعلم و قال عبد الله بن وهب حدثنا عمرو ان دراجا حدثه عن ابي الهيثم عن ابي سعيد عن رسول الله قال ان ادنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون الف خادم و اثنتان و سبعون زوجة و ينصب له قبة من لؤلؤ و زبرجد وياقوت كما بين الجابية و صنعاء رواه الترمذي و لكن دراج ابو السمح بالطريق قال احمد احاديث مناكير وقال النسائي منكر الحديث ضعيف و قال أيضا ليس بالقوة وساق له ابن عدي احاديث وقال عامتها لا يتابع عليها و قال الدار قطني ضعيف و قال مرة متروك و اما يحيى بن معين فقد وثقه و اخرج عنه ابو حاتم بن حبان في صحيحه و قال عثمان بن سعيد الدارمي عن علي بن مدني هو ثقة و قال ابن وهب اخبرني عمرو بن الحارث عن ابي السمح عن ابي الهيثم عن ابو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي في قوله تعالى كأنهن الياقوت و المرجان قال ينظر إلى وجهه(2/160)
في خدها اصفى من المرآة وإن ادنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق و المغرب و انه ليكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك و قال الفريابي انبأنا ابو ايوب سليمان بن عبد الرحمن حدثنا خالد بن يزيد بن ابي مالك عن ابيه عن خالد بن معدان عن ابي امامة عن رسول الله قال ما من عبد يدخل الجنة الا و يزوج اثنتين وسبعون زوجة ثنتان من الحور العين و سبعون من أهل ميراثه من أهل الدنيا ليس منهن امراة الا و لها قبل شهي و له ذكر لا ينثني قلت خالد هذا هو ابن يزيد بن عبد الرحمن الدمشقي و هاه ابن معين و قال احمد ليس بشيء و قال النسائي غير ثقة و قال الدار قطني ضعيف و ذكر ابن عدي له هذا الحديث مما انكره عليه وقال ابو نعيم حدثنا ابراهيم بن عبد الله حدثنا محمد بن حموية(2/161)
حدثنا احمد بن حفص حدثني ابي حدثني ابراهيم بن طهمان عن الحجاج عن قتادة عن انس قال قال رسول الله للمؤمن في الجنة ثلاث و سبعون زوجة قلنا يا رسول الله او له قوة على ذلك قال انه ليعطى قوة مائة رجل قال احمد بن حفص هذا هو السعدى و له مناكير و الحجاج هو ابن ارطاة وقال الطبراني حدثنا احمد بن علي الابار حدثنا ابو همام الوليد بن شجاع وانبانا محمد بن احمد بن هشام بن حسان السنجري ببغداد حدثنا عبد الله بن عمرو بن ابان قالا حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن ابي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة فقال ان الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء قال الطبراني لم يروه عن هشام إلا زائدة تفرد به الجعفي قال محمد بن عبد الواحد المقدسي و رجال هذا الحديث عندي على شرط الصحيح و قال ابو الشيخ حدثنا ابو يحيى بن مسلم الرازي حدثنا هناد بن السرى حدثنا ابو اسامة عن هشام بن حسان عن يزيد بن ابي الحواري و هو زيد العمى عن ابن عباس قال قيل يا رسول الله انفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي اليهن في الدنيا قال و الذي نفس محمد بيده ان الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء و زيد هذا قال فيه ابن معين صالح و قال مرة لا شيء و قال مرة ضعيف يكتب حديثه و كذلك قال ابو حاتنم و قال الدارقطني صالح و ضعفه النسائي قال السعدي متماسك قلت وحسبه رواية شعبة عنه فصل(2/162)
و الاحاديث الصحيحة انما فيها ان لكل منهم زوجتين و ليس في الصحيح زيادة على ذلك فإن كانت هذه الاحاديث محفوظة فإما ان يراد بها ما لكل واحد من السراري زيادة على الزوجتين و يكونون في ذلك على حسب منازلهم في القلة والكثرة كالخدم و الولدان و اما ان يراد انه يعطي قوة من يجامع هذا العدد و يكون هذا هو المحفوظ فرواه بعض هؤلاء بالمعنى فقال له كذا وكذا زوجة وقد روى الترمذي في جامعه من حديث قتادة عن انس عن النبي قال يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا و كذا من الجماع قيل يا رسول الله او يطيق ذلك قال يعطى قوة مائة هذا حديث صحيح فلعل من رواه يفضي إلى مائة عذراء رواه بالمعنى او يكون تفاوتهم في عدد النساء بحسب تفاوتهم في الدرجات و الله اعلم و لا ريب ان للمؤمن في الجنة اكثر من اثنتين لما في
الصحيحين من حديث ابي عمران الجوني عن ابي بكر عن عبد الله بن قيس عن ابيه قال قال رسول الله ان للعبد المؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤ مجوفة طولها ستون ميلا للعبد المؤمن فيها أهلون فيطوف عليهم لا يرى بعضهم بعضا
الباب الرابع و الخمسون
في ذكر المادة التي خلق منها الحور العين و ما ذكر فيها من الاثار و ذكر صفاتهم و معرفتهن اليوم بازواجهن(2/163)
فاما المادة التي خلق منها الحور العين فقد روى البيهقي من حديث الحارث بن خليفة حدثنا شعبة حدثنا اسماعيل بن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن انس بن مالك عن النبي انه قال الحور العين خلقن من الزعفران قال البيهقي و هذا منكر بهذا الاسناد لا يصح عن ابن علية قلت و لكنه حديث فيه شعبة و قال الطبراني حدثنا احمد بن رشدين حدثنا عن ابن الحسن بن هارون الانصاري حدثني الليث بن ابنة الليث عن ابي سليم قال حدثتني عائشة بنت يونس امراة الليث بن ابي سليم عن ليث بن ابي سليم عن مجاهد عن ابي امامة عن النبي قال خلق الحور العين من الزعفران قال الطبراني لا يروى الا بهذا الاسناد تفرد به علي بن الحسن بن هارون قلت و قد رواه اسحق بن راهويه عن عائشة بنت يونس قالت سمعت زوجي ليث بن سليم يحدث عن مجاهد فذكره مرفوعا اليه و هو اشبه بالصواب ورواه عقبة بن مكرم عن عبد الله بن زياد عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قوله و لا يصح رفع الحديث و حسبه ان يصل إلى ابن عباس و قال ابو سلمى عن ابن عبد الرحمن ان لولي الله في الجنة عروسا لم يلدها ادم و لا حواء و لكن خلقت من زعفران وهذا مروي عن صاحبين و هما ابن عباس و انس و عن تابعيين و هما ابو سلمى ومجاهد وبكل حال فهي من المنشات في الجنة ليست مولودات بين الاباء والامهات والله اعلم وقد رواه الطبراني من حديث عبد الله بن زخر عن علي بن زيد عن الهيثم عن ابي امامة عن النبي و هذا الاسناد لا يحتج به و رواه أبو نعيم حدثنا علي بن محمد الطوسي حدثنا علي بن سعيد حدثنا محمد بن اسماعيل الحساني حدثنا منصور بن المهاجر حدثنا ابو منصور الابار عن انس يرفعه لو ان حوراء بصقت في سبعة ابحر لعذبت البحار من عذوبة فمها و خلق الحور العين من الزعفران واذا كانت هذه الخلقة الادمية التي هي من احسن الصور وأجملها مادتها من تراب وجاءت الصور من احسن الصور فما الظن بصورة مخلوقة من مادة الزعفران الذي هناك فالله المستعان(2/164)
وقد روى ابو نعيم من حديث عيسى بن يوسف بن الطباع حدثنا حلس بن محمد الكلابي حدثنا سفيان الثوري حدثنا مغيرة حدثنا إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله يسطع نور في الجنة فرفعوا رؤوسهم فاذا هو من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها روى نعمة بن الوليد حدثنا مجبر بن سعيد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال ان من المزيد من تمر السحابة بأهل الجنة فتقول ماذا تريدون ان انطركم فلا يتمنون شيئا الا انطروا قال يقول كثير لئن أشهدني الله ذلك لأقولن انطرينا جواري مزينات و قد روى في مادة خلقهن صفة اخرى قال ابن ابي الدنيا حدثنا خالد بن سعيد عن خداش حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا سعيد بن ايوب عن عقيل بن خالد عن الزهري ان ابن عباس قال ان في الجنة نهرا يقال له البيدخ عليه قباب من ياقوت تحته حور ناشئات يقول أهل الجنة انطلقوا بنا إلى البيدخ فيجيئون فيتصفحون تلك الحواري فاذا اعجب رجل منهم جارية مس معصمها فتتبعه و قال الليث بن سعد عن يزيد بن ابي حبيب عن الوليد بن عبدة قال قال رسول الله لجبريل يا جبريل قف بي على الحور العين فاوقفه عليهن فقال من انتن فقلنا نحن حواري قوم كرام حلوا فلم يظعنوا شبوا فلم يهرموا ونقوا فلم يدرنوا وقال ابن المبارك انبأنا يحيى عن ايوب عن عبد الله بن زخر عن خالد بن عمران عن ابن عباس قال كنا جلوسا مع كعب يوما فقال لو ان يدا من الحور دليت من السماء لاضاءت لنا الأرض كما تضيء الشمس لأهل الدنيا ثم قال انما قلت يدها فكيف بالوجه و بياضه و حسنه و جماله و في مسند الامام احمد من حديث كثير بن مرة عن معاذ بن جبل عن النبي قال لا تؤذي امراة زوجها في الدنيا الا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو عندك دخيل يوشك ان يفارقك الينا وفيه مراسيل عكرمة عن النبي قال ان الحور العين لاكثر عددا من كن يدعون لازواجهن يقلن اللهم اعنه على دينك واقبل بقلبه على طاعتك و بلغه(2/165)
بعزتك يا ارحم الراحمين ذكره ابن ابي الدنيا عن حديث اسامة بن زيد عن عطاء عنه
وذكر الاوزاعي عن حسان بن عطية عن ابن مسعود قال ان في الجنة حوراء يقال لها اللعبة كل حور الجنان يعجبن بها يضربن بايديهن على كتفها و يقلن طوبى لك يا لعبة لو يعلم الطالبون لك لجدوا بين عينيها مكتوب من كان يبتغي ان يكون له مثلي فليعمل برضاء ربي وقال عطاء السلمي لمالك بن دينار يا ابا يحيى شوقنا قال عطاء ان في الجنة حوراء يتباهى أهل الجنة بحسنها لولا ان الله تعالى كتب لها على أهل الجنة ان لا يموتوا لماتوا من حسنها فلم يزل عطاء كمدا من قول مالك و قال احمد بن ابي الحواري حدثني جعفر بن محمد قال لقي حكيم حكيما فقال اتشتاق إلى الحور العين فقال لا فقال فاشتق اليهن فان نور وجههن من نور الله عز و جل فغشي عليه فحمل إلى منزله نعوده شهرا و قال ربيعة بن كلثوم نظر الينا الحسن و نحن حوله شباب فقال يا معشر الشباب اما تشتاقون إلى الحور العين و قال لي ابن ابي الحوارى حدثني الحضرمي قال نمت انا و ابو حمزة على سطح فجعلت انظر اليه يتقلب على فرشه إلى الصباح فقلت يا ابا حمزة ما رقدت الليلة فقال اني لما اضطجعت تمثلت لي حوراء حتى لكانني احسست بجلدها و قد مس جلدي فحدثت به ابا سليمان فقال هذا رجل كان مشتاقا و قال ابن ابي الحوارى سمعت ابا سليمان يقول ينشا خلق الحور العين انشاء فاذا تكامل خلقهن ضرب عليهن الملائكة الخيام و ذكر ابن ابي الدنيا عن صالح المري عن زيد الرقاشي قال بلغني ان نورا سطع في الجنة موضع من الجنة الا دخل من ذلك النور فيه فقيل ما هذا قال حوراء ضحكت في وجه زوجها قال صالح فشهق رجل من ناحية المجلس فلم يزل يشهق حتى مات و قال ابن ابي الدنيا حدثنا بشر بن الوليد حدثنا سعيد بن رزبي عن عبد الملك الجوني عن سعيد بن جبير قال سمعت ابن عباس يقول لو ان حوراء اخرجت كفها بين السماء والأرض لافتتن الخلائق بحسنها و لو اخرجت نصيفها لكانت(2/166)
الشمس عند حسنها مثل الفتيله في الشمس لا ضوء لها ولو اخرجت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء و الأرض و قال ابن ابي الدنيا حدثني الحسين ابن يحيى و كثير العنبري و حدثنا خزيمة ابو محمد عن سفيان الثوري قال سطع نور في الجنة لم يبق موضع من الجنة الا دخل فيه من ذلك النور فنظروا فوجدوا ذلك من حوراء ضحكت في وجه زوجها و رواه الخطيب في تاريخه من حديث عبد الله بن محمد الكرخي قال حدثني عيسى بن يوسف الطباع
حدثني حلس بن محمد عن سفيان الثوري عن مغيرة عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي قال سطع نور في الجنة فرفعوا ابصارهم فاذا هو ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها و قال الاوزاعي عن يحيى بن ابي كثير اذا سبحت المراة من الحور العين لم يبق شجرة في الجنة الا وردت وقال ابن المبارك حدثنا الاوزاعي عن يحيى بن ابي كثير ان الحور العين يتلقين ازواجهن عند ابواب الجنة فيقلن طال ما انتظرناكم فنحن الراضيات فلا نسخط و المقيمات فلا نظعن و الخالدات فلا نموت باحسن اصوات سمعت و تقول انت حبي و انا حبك ليس دونك تقصير و لا وراءك
أهـ { حادى الأرواح صـ 151 ـ 164 }
قوله تعالى { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان }
وقال تعالى فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة وذكر هشام عن أبي بشر عن سعد بن جبير قال الرفرف رياض الجنة والعبقري عتاق الزرابي وذكر إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قوله تعالى متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان قال هي البسط قال وأهل المدينة يقولون هي البسط وأما النمارق فقال الواحدي هي الوسائد في قول الجميع وأحدها بضم النون وحكى الفراء نمرقة بكسرها وأنشد أبو عبيدة
إذا ما بساط الله ومد وقربت ... للذاته أنماطه ونمارقه
قال الكلبي وسائد مصفوفة بعضها إلي بعض وقال مقاتل هي الوسائد مصفوفة على الطنافس وزرابي بمعنى البسط والطنافس وأحدها زريبة في قول جميع أهل اللغة والتعبير ومبثوثة مبسوطة منشورة فصل(2/167)
وأما الرفرف فقال الليث ضرب من الثياب خضر تبسط الواحد رفرفة وقال أبو عبيدة الرفارف البسط وأنشد لابن مقبل
وأنا لنازلون تغشى نعالنا ... سواقط من أصناف ريط ورفرف
وقال أبو إسحاق قالوا الرفرف ههنا رياض الجنة وقالوا الرفرف الوسائد وقالوا الرفرف المحابس وقالوا فضول المحابس للفرش وقال المبرد هو فضول الثياب التي تتخذ الملوك في الفرش وغيره وقال الواحدي وكان الأقرب هذا لأن الغرب تسمى كسر الخباء والخرقة التي تخاط في أسفل الخباء رفرفا ومنه الحديث في وفاة النبي فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنه ورقة قال إبن الأعرابي الرفرف ههنا طرف البساط فشبه ما فضل من المحابس عما تحته بطرف الفسطاط فسمى رفرف قلت أصل هذه الكلمة من الطرف أو الجانب فمنه الرفرف في الحائط ومنه الرفرف وهو كسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها الواحدة رفرفة ومنه رفرف الطير إذا حرك جناحه حول الشيء يريد أن يقع عليه والرفرف ثياب خضر يتخذ منها المحابس الواحدة رفرفة وكل ما فضل من شيء فثنى وعطف فهو رفرف وفي حديث ابن مسعود في قوله عز وجل لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال رأى رفرفا أخضر سد الأفق وهو في الصحيحين فصل
وأما العبقري فقال أبو عبيدة كل شيء من البسط عبقري قال ويرون أنها أرض توشى فيها وقال الليث عبقر موضع بالبادية كثير الجن يقال كأنهم جن عبقر قال أبو عبيدة في حديث النبي ذكر عمر فلم أر
عبقريا يفري فرية وأنما أصل هذا فيما يقال إنه نسب إلى عبقر وهي أرض يسكنها الجن فصار مثلا منسوبا إلى شيء رفيع وأنشد لزهير
نخال عليها جبة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا
وقال ابو الحسن الواحدي وهذا القول هو الصحيح في العبقري وذلك أن العرب إذا بالغت في وصف شيء نسبته إلى الجن أو شبهته بهم ومنه قول لبيد جن الندا رواسيا أقدامها وقال آخر يصف امرأة
جنية ولها جن يعلمها ... رمي القلوب بقوس ما لها وتر(2/168)
وذلك أنهم يعتقدون في الجن كل صفة عجيبة وأنهم يأتون بكل أمر عجيب ولما كان عبقر معروفا بسكناهم نسبوا كل شيء يبالغ فيه إليها يريدون بذلك أنه من عملهم وصنعهم هذا هو الأصل ثم صار العبقري اسما ونعتا لكل ما بولغ في صفته ويشهد لما ذكرنا بيت زهير فإنه نسب الجن إلى عبقر ثم راينا أشياء كثيرة نسبت إلى عبقر غير البسط والثياب كقوله في صفة عمر عبقريا وروى سلمة عن الفراء قال العبقري السيد من الرجال وهو الفاخر من الحيوان والجوهر فلو كانت عبقر مخصوصة بالوشى لما نسب إليها غير الموشى وإنما ينسب إليها البسط الموشية العجيبة الصنعة كما ذكرنا كما نسب إليها كل ما بولغ في وصفة قال ابن عباس وعبقري يريد البسط الطنافس وقال الكلبي هي الطنافس المجملة وقال قتادة هي عتاق الزرابي وقال مجاهد الديبا4ج الغليظ وعبقري جمع واحده عبقرية ولهذا وصف بالجمع فتأمل كيف وصف الله سبحانه وتعالى الفرش بأنها مرفوعة والزرابي بأنها مبثوثة والنمارق بأنها مصفوفة فرفع الفرش دال على سمكها ولينها وبث الزرابي دال على كثرتها وأنها في كل موضع لا يختص بها صدر المجلس دون مؤخره وجوانبه وصف المساند يدل على أنها مهيأة للاستناد إليها دائما ليست مخبأة تصف في وقت دون وقت والله أعلم
أهـ { حادى الأرواح صـ 142 ـ 144 }
في أسماء الجنة ومعانيها واشتقاقها ولها عدة
أسماء باعتبار صفاتها ومسماها واحد باعتبار الذات فهي مترادفة من هذا الوجه وتختلف باعتبار الصفات فهي متباينة من هذا الوجه وهكذا أسماء الرب سبحانه وتعالى وأسماء كتابه وأسماء رسله وأسماء اليوم الآخر وأسماء النار(2/169)
الاسم الأول الجنة وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة والبهجة والسرور وقرة الأعين واصل اشتقاق هذه اللفظة من الستر والتغطية ومنه الجنين لاستتاره في البطن والجان لاستتاره عن العيون والمجن لستره ووقايته الوجه والمجنون لاستتار عقله وتواريه عنه والجان وهي الحية الصغيرة الرقيقة ومنه قول الشاعر
فذقت وجلت وأبكرت ... وأكملت فلو جن إنسان من الحسن جنت
أي لو غطى وستر عن العيون لفعل بها ذلك ومنه سمى البستان جنة لأنه يستر داخله بالأشجار ويغطيه ولا يستحق هذا الاسم إلا موضع كثير الأشجار مختلف الأنواع والجنة بالضم ما يستجن به من ترس أو غيره ومنه قوله تعالى أتخذوا أيمانهم جنة أي يستترون بها من إنكار المؤمنين عليهم ومنه الجنة بالكسر كما قال تعالى من الجنة والناس وذهبت طائفة من المفسرين إلى أن الملائكة يسمون جنة واحتجوا بقوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا قالوا وهذا النسب قولهم الملائكة بنات الله ورجحوا هذا القول بوجهين
أحدهما إن النسب الذي جعلوه إنما زعموا أنه بين الملائكة وبينه ولا بين الجن وبينه(2/170)
الثاني قوله تعالى ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون أي قد علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا القول محضرون للعذاب والصحيح خلاف ما ذهب إليه هؤلاء وإن الجنة هم الجن نفسهم كما قال تعالى من الجنة والناس وعلى هذا ففي الآية قولان أحدهما قول مجاهد قال قالت كفار قريش الملائكة بنات الله فقال لهم ابو بكر فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن وقال الكلبي قالوا تزوج من الجن فخرج من بينهما الملائكة وقال قتادة قالوا صاهر الجن فخرج من بينهما الملائكة وقال قتادة قالوا صاهر الجن والقول الثاني هو قول الحسن قال أشركوا الشياطين في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه والصحيح قول مجاهد وغيره وما احتج به أصحاب القول الأول ليس بمستلزم لصحة قولهم فإنهم لما قالوا الملائكة بنات الله وهم من الجن عقدوا بينه وبين الجن نسبا بهذا الإيلاد وجعلوا هذا النسب متوالد بينه وبين الجن وأما قوله ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون فالضمير يرجع إلى الجنة أي قد علمت الجنة أنهم لمحضرون الحساب قاله مجاهد أي لو كان بينه وبينهم نسب لم يحضروا للحساب كما قال تعالى وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم فجعل سبحانه عقوبتهم بذنوبهم وإحضارهم للعذاب مبطلا لدعواهم الكاذبة وهذا التقدير في الاية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأول فتأمله والمقصود ذكر أسماء الجنة فصل(2/171)
الاسم الثاني دار السلام وقد سماها الله بهذا الاسم في قوله لهم دار السلام عند ربهم وقوله والله يدعوا إلى دار السلام وهي احق بهذا الاسم فإنها دار السلامة من كل بلية وآفة ومكروه وهي دار الله واسمه سبحانه وتعالى السلام الذي سلمها وسلم اهلها وتحيتهم فيها سلام والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم والرب تعالى يسلم عليكم من فوقهم كما قال تعالى لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم وسيأتي حديث جابر في سلام الرب تبارك وتعالى عليهم في الجنة وكلامهم كلهم فيها سلام أي لا لغو فيها ولا فحش ولا باطل كما قال تعالى لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما واما قوله تعالى واما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من اصحاب اليمين فأكثر المفسرون حاموا حول المعنى وما وردوه وقالوا أقوالا لا يخفى بعدها عن المقصود وإنما معنى الآية والله أعلم فسلام لك ايها الراحل عن الدنيا حال كونك من أصحاب اليمين
أي فسلامه لك كائنا من أصحاب اليمين الذين سلموا من الدنيا وإنكارها ومن النار وعذابها فبشر بالسلامة عند ارتحاله من الدنيا وقدومه على الله كما يبشر الملك روحه عند أخذها بقوله ابشري بروح وريحان ورب غير غضبان وهذا أول البشرى التي للؤمن في الآخرة فصل(2/172)
الاسم الثالث دار الخلد وسميت بذلك لأن أهلها لا يظعنون عنها أبدا كما قال تعالى عطاء غير مجذوذ وقال إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ وقال أكلها دائم وظلها وقال وما هم منها بمخرجين وسيأتي إبطال قول من قال من الجهمية والمعتزلة بفنائها أو فناء حركات أهلها أن شاء الله تعالى فصل الاسم الرابع دار المقامة قال تعالى حكاية عن أهلها وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن أن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب قال مقاتل أنزلنا دار الخلود أقاموا فيها ابدا لا يموتون ولا يتحولون منها أبدا قال الفراء والزجاج المقامة مثل الإقامة يقال أقمت بالمكان إقامة ومقامة ومقاما فصل
الاسم الخامس جنة المأوى قال تعالى عندها جنة المأوى والمأوى مفعل من أوى يأوي إذا انضم إلى المكان وصار إليه واستقر به وقال عطاء عن ابن عباس هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة وقال مقاتل والكلبي هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وقال كعب جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترتع فيها أرواح الشهداء وقالت عائشة رضي الله عنها وزر بن حبيش هي جنة من الجنان والصحيح أنه اسم من أسماء الجنة كما قال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال في النار فإن الجحيم هي المأوى وقال ومأواكم النار
فصل(2/173)
الاسم السادس جنات عدن فقيل هي اسم لجنة من الجنان والصحيح أنه اسم لجنة الجنان وكلها جنات عدن قال تعالى جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب وقال تعالى جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من اساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير وقال تعالى ومساكن طيبة في جنات عدن والاشتقاق يدل على أن جميعها جنات عدن فإنه من الإقامة والدوام يقال عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه قال الجوهري ومنه جنات عدن أي إقامة ومنه سمى المعدن بكسر الدال لأن الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء ومركزه كل شيء معدنه والعادن الناقة المقيمة في المرعى فصل(2/174)
الاسم السابع دار الحيوان قال تعالى وإن الدار الآخرة لهي الحيوان والمراد الجنة عند أهل التفسير قالوا وأن الآخرة يعني الجنة لهي الحيوان لهي دار الحياة التي لا موت فيها فقال الكلبي هي حياة لا موت فيها قال وقال الزجاج هي دار الحياة الدائمة وأهل اللغة على أن الحيوان بمعنى الحياة قال أبو عبيدة وأبن قتيبة الحياة الحيوان قال أبو عبيدة الحياة والحيوان والحي بكسر الحاء واحد قال أبو علي يعني أنها مصادر فالحياة فعلة كالجلبة والحيوان كالنزوان والغليان والحي كالعي قال العجاج كنا بها إذا الحياة حي ... أي إذا الحياة حياة وأما أبو زيد فخالفهم وقال الحيوان ما فيه روح والموتان والموات ما لا روح فيه والصواب أن الحيوان يقع على ضربين أحدهما مصدر كما حكاه أبو عبيدة والثاني وصف كما حكاه أبو زيد وعلى قول أبي زيد الحيوان مثل الحي خلاف الميت ورجح القول الأول بأن الفعلان بابه المصادر كالنزوان والغليان بخلاف الصفات فإن بابها فعلان كسكران وغضبان واجاب من رجح القول الثاني بإن فعلان قد جاء في الصفات أيضا قالوا رجل ضميان للسريع الخفيف وزفيان قال في الصحاح ناقة رفيان سريعة وقوس زفيان سريعة الارسال للسهم فيحتمل قوله تعالى وإن الدار الآخرة لهي الحيوان معنيين احدهما أن الحياة الآخرة هي الحياة لآنها لا تنغيص فيها ولا نفاد لها
أي لا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار فيكون الحيوان مصدرا على هذا الثاني أن يكون المعنى أنها الدار التي تفنى ولا تنقطع ولا تبيد كما يفنى الأحياء في هذه الدنيا فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الذي يفنى ويموت فصل(2/175)
الاسم الثامن الفردوس قال تعالى أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون وقال تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها والفردوس اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات وأصل الفردوس البستان والفراديس البساتين قال كعب هو البستان الذي فيه الاعناب وقال الليث الفردوس جنة ذات كروم يقال كرم مفردس أي معرش وقال الضحاك هي الجنة الملتفة بالأشجار وهو اختيار المبرد وقال الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب وجمعه الفراديس قال ولهذا سمى باب الفراديس بالشام وانشد لجرير
فقلت للركب إذ جد المسير بنا ... يا بعد من باب الفراديس
وقال مجاهد هذا البستان بالرومية واختاره الزجاج فقال هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية قال وحقيقتة أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين قال حسان وأن ثواب الله كل مخلد ... جنان من الفردوس فيها يخلد فصل
الاسم التاسع جنات النعيم قال تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم وهذا ايضا آسم جامع لجميع الجنات لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول والمشروب والملبوس والصور والرائحة الطيبة والمنظر البهيج والمساكن الواسعة وغير ذلك من النعيم الظاهر والباطن فصل
الاسم العاشر المقام الأمين قال تعالى أن المتقين في مقام أمين والمقام الأمين موضع الإقامة والأمين الآمن من كل سوء وآفة ومكروه وهو الذي قد جمع صفات الأمن كلها(2/176)
فهو آمن من الزوال والخراب وأنواع النقص واهله آمنون فيه من الخروج والنغص والنكد والبلد الأمين الذي قد أمن من أهله فيه مما يخالف منه سواهم وتأمل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى أن المتقين في مقام أمين وفي قوله تعالى يدعون فيها بكل فاكهة آمنين فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرتها وأمن الخروج منها فلا يخافون ذلك وأمن من الموت فلا يخافون فيها موتا فصل(2/177)
الاسم الحادي عشر والثاني عشر مقعد الصدق وقدم الصدق قال تعالى إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق فسمى جنته مقعد صدق لحصول كل ما يراد من المقعد الحسن فيها كما يقال مودة صادقة إذا كانت ثابتة تامة وحلاوة صادقة وحملة صادقة ومنه الكلام الصدق لحصول مقصوده منه وموضع هذه اللفظة في كلامهم الصحة والكمال ومنه الصدق في الحديث والصدق في العمل والصديق الذي يصدق قوله بالعمل والصدق بالفتح الصلب من الرماح ويقال للرجل الشجاع أنه لذو مصدق أي صادق الحملة وهذا مصداق هذا اي ما يصدقه ومنه الصداقة لصفاء المودة والمخالة ومنه صدقني القتال وصدقني المودة ومنه قدم صدق ولسان صدق ومدخل صدق ومخرج صدق وذلك كله للحق الثابت المقصود الذي يرغب فيه بخلاف الكذب الباطل الذي لا شيء تحته وهو لا يتضمن أمرا ثابتا قط وفسر قوم صدق بالجنة وفسر بالأعمال التي تنال بها الجنة وفسر بالسابقة التي سبقت لهم من الله وفسر بالرسول الذي على يده وهدايته نالوا ذلك والتحقيق أن الجميع حق فأنهم سبقت لهم من الله الحسنى بتلك السابقة أي بالأسباب التي قدرها لهم على يد رسوله وأدخر لهم جزاءها يوم القيامة ولسان الصدق وهو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال وجميل الطرائق وفي كونه لسان صدق اشارة إلى مطابقته للواقع وأنه أثناء بحق لا بباطل ومدخل الصدق ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الذي يكون صاحبه فيه ضامنا على الله وهو دخوله وخروجه بالله ولله وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد فإنه لا يزال داخلا في أمر وخارجا من أمر فمتى كان دخوله لله وبالله وخروجه كذلك كان قد أدخل مدخل صدق واخرج مخرج صدق والله المستعان
أهـ { حادى الأرواح صـ 65 ـ 70 }
سورة الواقعة
قوله تعالى { إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين }(2/178)
أعاد الضمير إلى النساء ولم يجر لهن ذكر لان الفرش دلت عليهن اذ هي محلهن 155 - وقيل الفرش في قوله وفرش مرفوعة كناية عن النساء كما يكنى عنهن بالقوارير و الأزر وغيرها ولكن قوله مرفوعة يأبى هذا إلا أن يقال المراد رفعة القدر وقد تقدم تفسير النبي للفرش وارتفاعها فالصواب أنها الفرش نفسها ودلت على النساء لأنها محلهن غالبا قال قتادة وسعيد بن جبير خلقناهن خلقا جديدا وقال ابن عباس يريد نساء الآدميات وقال الكلبي ومقاتل يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط يقول تعالى خلقناهن بعد الكبر والهرم وبعد الخلق الأول في الدنيا ويؤيد هذا التفسير حديث انس المرفوع هن عجائزكم العمش الرمض رواه الثوري عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عنه ويؤيده ما رواه يحيى الحماني حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد عن عائشة أن رسول دخل عليها وعندها عجوز فقال من هذه فقالت إحدى خالاتي قال إما انه لا يدخل الجنة العجوز فدخل على العجوز من ذلك ما شاء الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم انا أنشأناهن إنشاء خلقا آخر يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا واول من يكسى ابراهيم خليل الله ثم قرا النبي صلى الله عليه وسلم انا انشاناهن انشاء قال ادم بن ابي اياس حدثنا شيبان عن الزهري عن جابر الجعفي عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله انا أنشأناهن إنشاء قال يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا قال ادم وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة العجز فبكت عجوز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبروها انها يومئذ ليست بعجوز انها يومئذ شابة ان الله عز وجل يقول انا أنشأناهن إنشاء وقال ابن ابي شيبة حدثنا احمد بن طارق حدثنا مسعدة بن اليسع حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن سعيد ابن المسيب عن عائشة(2/179)
أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم إن الجنة لا يدخلها عجوز فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة فقال صلى الله عليه وسلم أن ذلك كذلك إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا وذكر مقاتل قولا آخر وهو اختيار الزجاج إنهن الحور العين التي ذكرهن قيل انشأهن الله عز
156 - وجل لأوليائهم لهم يقع عليهن ولادة والظاهر أن المراد أنشأهن الله تعالى في الجنة إنشاء ويدل عليه وجوه أحدها انه قد قال في حق السابقين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب إلى قوله كأمثال اللؤلؤ المكنون فذكر سردهم و آنيتهم وشرابهم وفاكهتهم وطعامهم و أزواجهم والحور العين ثم ذكر أصحاب الميمنة وطعامهم وشرابهم وفراشهم ونساءهم والظاهر انهن مثل نساء من قبلهم خلقن في الجنة الثاني أنه سبحانه قال أنشأناهن إنشاء وهذا ظاهر انه إنشاء أول لا ثان لانه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثاني يقيده بذلك كقوله وان عليه النشأة الأخرى وقوله ولقد علمتم النشأة الأولى الثالث إن الخطاب بقوله وكنتم أزواجا إلى آخر للذكور و الإناث و النشأة الثانية أيضا عامة للنوعين وقوله انا أنشأناهن إنشاء ظاهره اختصاصهن بهذا الإنشاء و تأمل تأكيده بالمصدر والحديث لا يدل على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف بل يدل على مشاركتهن للحور العين في هذه الصفات المذكورة فلا يتوهم انفراد الحور العين عنهن بما ذكر من الصفات بل هي احق به منهن فالانشاء واقع على الصنفين والله اعلم وقوله عربا جمع عروب وهن المتحببات إلى ازواجهن قال ابن الاعرابي العروب من النساء المطيعة لزوجها المتحببة اليه وقال ابو عبيدة العروب الحسنة التبعل قلت يريد حسن مواقعها وملاطفتها لزوجها عند الجماع وقال المبرد هي العاشقة لزوجها وانشد للبيد(2/180)
وفي الحدوج عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشي دونها البصر
وذكر لمفسرون في تفسير العرب انهن العواشق المتحببات الغنجات الشكلات المتعشقات الغلمات المغنوجات كل ذلك من الفاظهم وقال البخاري في صحيحه عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر وتسميها أهل مكة العربة وأهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة والعرب والمتحببات إلى ازواجهن هكذا ذكره في كتاب بدء الخلق وقال في كتاب التفسير في سورة الواقعة عربا مثقلة واحدها عروب مثل صبور وصبر تسميها أهل مكة العربة و أهل المدينة الغنجة وأهل العراق الشكلة قلت فجمع سبحانه بين حسن صورتها وحسن عشرتها وهذا غاية ما يطلب من النساء وبه تكمل لذة الرجل بهن وفي قوله لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان إعلام بكمال اللذة بهن فان لذة الرجل بالمرأة التي لم يطاها سواه
157 - لها فضل على لذته بغيرها وكذلك هي أيضا فصل
قال تعالى إن للمتقين مفازا حدائق و اعنابا وكواعب اترابا فالكواعب جمع كاعب وهي الناهد قال قتادة ومجاهد والمفسرون قال الكلبي هن الفلكات اللواتي تكعب ثديهن و تفلكت واصل اللفظة من الاستدارة والمراد أن ثديهن نواهد كالرمان ليست متدلية إلى اسفل ويسمين نواهد وكواعب
أهـ {حادى الأرواح صـ 357 ـ 360 }
قوله تعالى { فسبح باسم ربك العظيم }
فائدة الاسم والمسمى
الاسم غير المسمى(2/181)
اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا له حقيقة يوضع له لفظ يدل عليه لأنه شيء موجود في اللسان مسموع بالآذان فاللفظ المؤلف من همزة الوصل والسين والميم عبارة عن اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا واللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان وهو المسمى واللفظ الدال عليه الذي هو الزاي والياء والدال هو الإسم وهذا اللفظ أيضا قد صار مسمى من حيث كان لفظ الهمزة والسين والميم عبارة عنه فقد بان لك أن الإسم في أصل الوضع ليس هو المسمى ولهذا تقول سميت هذا الشخص بهذا الإسم كما تقول حليته بهذه الحلية والحلية غير المحلى فكذلك الإسم غير المسمى
صرح بذلك سيبويه وأخطأ من نسب إليه غير هذا وادعى أن مذهبه اتحادهما والذي غر من ادعى ذلك قوله الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وهذا لا يعارض نصه قبل هذا فإنه نص على أن الإسم غير المسمى فقال اسم وفعل وحرف فقد صرح بأن الإسم كلمة فكيف تكون الكلمة هي المسمى والمسمى شخص ثم قال بعد هذا تقول سميت زيدا بهذا الإسم كما تقول علمته بهذه العلامة وفي كتابه قريب من ألف موضع أن الإسم هو اللفظ الدال على المسمى ومتى ذكر الخفض أو النصب أو التنوين أو اللام أو جميع ما يلحق الإسم من زيادة ونقصان وتصغير وتكسير وإعراب وبناء فذلك كله من عوارض الإسم لا تعلق لشيء من ذلك بالمسمى أصلا
هل الإسم عين المسمى(2/182)
لم يقل نحوي قط ولا عربي أن الإسم هو المسمى ويقولون أجل مسمى ولا يقولون أجل اسم ويقولون مسمى هذا الإسم كذا ولا يقول أحد اسم هذا الإسم كذا ويقولون هذا الرجل مسمى بزيد ولا يقولون هذا الرجل اسم زيد ويقولون بسم الله ولا يقولون بمسمى الله وقال رسول الله لي خمسة أسماء // رواه البخاري ومسلم // ولا يصح أن يقال لي خمس مسميات وتسموا باسمي // رواه مسلم // ولا يصح أن يقال تسموا بمسمياتي ولله تسعة وتسعون اسما // رواه البخاري ومسلم وأحمد // ولا يصح أن يقال تسعة وتسعون مسمى وإذا ظهر الفرق بين الإسم والمسمى بقيت ههنا التسمية وهي التي اعتبرها من قال باتحاد الإسم المسمى
التسمية
والتسمية عبارة عن فعل المسمى ووضعه الإسم للمسمى كما أن التحلية عبارة عن فعل المحلي ووضعه الحلية على المحلى فهنا ثلاث حقائق اسم ومسمى وتسمية كحلية ومحلى وتحلية وعلامة ومعلم وتعليم ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد لتباين حقائقهما وإذا جعلت الإسم هو المسمى بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولا بد
فإن قيل فحلوا لنا شبه من قال باتحادهما ليتم الدليل فإنكم أقمتم الدليل فعليكم الجواب عن المعارض
فمنها أن الله وحده هو الخالق وما سواه مخلوق فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل ولا صفة لأن أسماءه صفات وهذا هو السؤال الأعظم الذي قاد متكلمي الإثبات إلى أن يقولوا الإسم هو المسمى فما عندكم في دفعه(2/183)
الجواب أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة محتملة لمعنيين صحيح وباطل فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل ألفاظها عليها ولا ريب أن الله تبارك وتعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها فلم يزل بأسمائه وصفاته وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العلى وأسماؤه وصفاته داخلة في مسمى اسمه وإن كان لا يطلق على الصفة أنها إله يخلق ويرزق فليست صفاته وأسماؤه غيره وليست هي نفس الإله
وبلاء القوم من لفظة الغير فإنه يراد بهما معنيين أحدهما المغاير لتلك الذات المسماة بالله وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الإعتبار فلا يكون إلا مخلوقا ويراد به مغايرة الصفة للذات إذا خرجت عنها فإذا قيل علم الله وكلام الله غيره بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام كان المعنى صحيحا ولكن الإطلاق باطل وإذا أريد أن العلم والكلام مغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره كان باطلا لفظا ومعنى وبهذا أجاب أهل السنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن وقالوا كلامه تعالى داخل في مسمى اسمه فالله تعالى اسم الذات الموصوفة بصفات الكمال ومن تلك الصفات صفة الكلام كما أن علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره غير مخلوقة وإذا كان القرآن كلامه وهو صفة من صفاته فهو متضمن لأسمائه الحسنى فإذا كان القرآن غير مخلوق ولا يقال إنه غير الله فكيف يقال إن بعض ما تضمنه وهو أسماؤه
مخلوقة وهي غيره فقد حصحص الحق بحمد الله وانحسم الإشكال وأن أسماءه الحسنى التي في القرآن من كلامه وكلامه غير مخلوق ولا يقال هو غيره ولا هو هو
وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون أسماؤه تعالى غيره وهي مخلوقة ولمذهب من رد عليهم ممن يقول اسمه نفس ذاته لا غيره وبالتفصيل تزول الشبه ويتبين الصواب والحمد لله(2/184)
حجة ثانية لهم قالوا قال تبارك وتعالى تبارك اسم ربك الرحمن 78 واذكر اسم ربك المزمل 8 سبح اسم ربك الأعلى الأعلى 1 وهذه الحجة عليهم في الحقيقة لأن النبي امتثل هذا الأمر وقال سبحان ربي الأعلى سبحان ربي العظيم ولو كان الأمر كما زعموا لقال سبحان اسم ربي العظيم ثم إن الأمة كلهم لا يجوز لأحد منهم أن يقول عبدت اسم ربي ولا سجدت لاسم ربي ولا ركعت لاسم ربي ولا باسم ربي ارحمني وهذا يدل على أن الأشياء متعلقة بالمسمى لا بالإسم
وأما الجواب عن تعلق الذكر والتسبيح المأمور به بالإسم فقد قيل فيه إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم فقد تعظم ما هو من سببه ومتعلق به كما يقال سلام على الحضرة العالية والباب السامي والمجلس الكريم ونحوه وهذا جواب غير مرض لوجهين
أحدهما أن رسول الله لم يفهم هذا المعنى وإنما قال سبحان ربي فلم يعرج على ما ذكرتموه
الثاني أنه يلزمه أن يطلق على الإسم التكبير والتحميد والتهليل وسائر ما يطلق على المسمى فيقال الحمد لاسم الله ولا إله إلا اسم الله ونحوه وهذا مما لم يقله أحد بل الجواب الصحيح أن الذكر الحقيقي محله القلب لأنه ضد النسيان والتسبيح نوع من الذكر فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان والله تعالى أراد من عباده الأمرين جميعا ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما فصار معنى الآيتين سبح ربك بقلبك ولسانك واذكر ربك بقلبك ولسانك فأقحم الإسم تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالإسم دون ما سواه والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله لأن اللفظ لا يراد لنفسه فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى(2/185)
وعبر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال المعنى سبح ناطقا باسم ربك متكلما به وكذا سبح اسم ربك المعنى سبح ربك ذاكرا اسمه وهذه الفائدة تساوي رحلة لكن لمن يعرف قدرها فالحمد لله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته
حجة ثالثة قالوا قال تعالى ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها يوسف 4 وإنما عبدوا مسمياتها
والجواب : أنه كما قلتم إنما عبدوا المسميات ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها وليس لها من الألوهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها وهذا كمن سمى قشور البصل لحما وأكلها فيقال ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه وكمن سمى التراب خبزا وأكله يقال ما أكلت إلا اسم الخبز بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه وما الحكمة ثم إلا مجرد الإسم فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى(2/186)
فإن قيل فما الفائدة في دخول الباء في قوله فسبح باسم ربك العظيم الواقعة 74 96 ولم تدخل في قوله سبح اسم ربك الأعلى الأعلى 1 قيل التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر ويراد به ذلك مع الصلاة وهو ذكر وتنزيه مع عمل ولهذا تسمى الصلاة تسبيحا فإذا أريد التسبيح المجرد فلا معنى للباء لأنه لا يتعدى بحرف جر لا تقول سبحت بالله وإذا أردت المقرون بالفعل وهو الصلاة أدخلت الباء تنبيها على ذلك المراد كأنك قلت سبح مفتتحا باسم ربك أو ناطقا باسم ربك كما تقول صل مفتتحا أو ناطقا باسمه ولهذا السر والله أعلم دخلت اللام في قوله تعالى سبح لله ما في السموات والأرض الحديد 1 والمراد التسبيح الذي هو السجود والخضوع والطاعة ولم يقل في موضع سبح الله ما في السموات والأرض كما قال ولله يسجد من في السموات والأرض الرعد 15 وتأمل قوله تعالى إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون الأعراف 206 فكيف قال ويسبحونه لما ذكر السجود باسمه الخاص فصار التسبيح ذكرهم له وتنزيههم إياه
حجة رابعة قالوا قد قال الشاعر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وكذلك قول تحول الأعشى
داع يناديه باسم الماء مبغوم ...
وهذه حجة عليهم لا لهم
أما قوله ثم اسم السلام عليكما فالسلام هو الله تعالى والسلام أيضا التحية فإن أراد الأول فلا إشكال فكأنه قال ثم اسم السلام عليكما أي بركة اسمه وإن أراد التحية فيكون المراد بالسلام المعنى المدلول وباسمه لفظه الدال عليه والمعنى ثم اسم هذا المسمى عليكما فيراد بالأول اللفظ وبالثاني المعنى كما تقول زيد بطة ونحوه مما يراد بأحدهما اللفظ وبالآخر المدلول فيه وفيه نكتة حسنة كأنه أراد ثم هذا اللفظ باق عليكما جار لا ينقطع مني بل أنا مراعيه دائما(2/187)
وقد أجاب السهيلي عن البيت بجواب آخر وهذا حكاية لفظه فقال لبيد لم يرد إيقاع التسليم عليهم لحينه وإنما أراد بعد الحول ولو قال السلام عليكما كان مسلما لوقته الذي نطق فيه بالبيت فكذلك ذكر الإسم الذي هو عبارة عن اللفظ أي إنما اللفظ بالتسليم بعد الحول وذلك أن السلام دعاء فلا يتقيد بالزمان المستقبل وإنما هو لحينه
ألا ترى أنه لا يقال بعد الجمعة اللهم ارحم زيدا ولا بعد الموت اللهم اغفر لي إنما يقال اللهم اغفر لي بعد الموت فيكون بعد ظرفا للمغفرة والدعاء واقع لحينه
فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفا للدعاء صرحت بلفظ الفعل فقلت بعد الجمعة أدعو بكذا أو أسلم أو ألفظ بكذا لأن الظروف إنما يريد بها الأحداث الواقعة فيها خبرا أو أمرا أو نهيا وأما غيرها من المعاني كالطلاق واليمين والدعاء والتمني والإستفهام وغيرها من المعاني فإنما هي واقعة لحين النطق بها وكذلك يقع الطلاق ممن قال بعد يوم الجمعة أنت طالق وهو مطلق لحينه ولو قال بعد الحول والله لأخرجن انعقدت اليمين في الحال ولا ينفعه أن يقول أردت أن لا أوقع اليمين إلا بعد الحول فإنه لو أراد ذلك لقال بعد الحول أحلف أو بعد الجمعة أطلقك فأما الأمر والنهي والخبر فإنما تقيدت بالظروف لأن الظروف في الحقيقة إنما يقع فيها الفعل المأمور به والمخبر به دون الأمر والخبر فإنهما واقعان لحين النطق بهما
فإذا قلت اضرب زيدا يوم الجمعة فالضرب هو المقيد بيوم الجمعة وأما الأمر فأنت في الحال آمر به وكذلك إذا قلت سافر زيد يوم الجمعة فالمتقيد باليوم المخبر
به لا الخبر كما أن في قوله اضربه يوم الجمعة المقيد بالظرف المأمور به لا أمرك أنت فلا تعلق للظرف إلا بالأحداث فقد رجع الباب كله بابا واحدا(2/188)
فلو أن لبيدا قال إلى الحول ثم السلام عليكما لكان مسلما لحينه ولكنه أراد أن لا يوقع اللفظ بالتسليم والوداع إلا بعد الحول وكذلك ذكر الإسم الذي هو بمعنى اللفظ بالتسليم ليكون ما بعد الحول ظرفا له وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه رحمه الله
وأما قوله باسم الماء والماء المعروف هنا هو الحقيقة المشروبة ولهذا عرفه تعريف الحقيقة الذهنية والبيت لذي الرمة وصدره لا ينعش الطرف إلا ما تحونه ...
ثم قال داع يناديه باسم الماء فظن الغالط أنه أراد حكاية صوت الظبية وأنها دعت ولدها بهذا الصوت وهو ماما وليس هذا مراده وإنما الشاعر ألغز لما وقع الإشتراك بين لفظ الماء المشروب وصوتها به فصار صوتها كأنه هو اللفظ المعبر عن الماء المشروب فكأنها تصوت باسم هذا الماء المشروب وهذا لأن صوتها ماما وهذا في غاية الوضوح فائدة اسم الله والإشتقاق
زعم أبو القاسم السهيلي وشيخه ابن العربي أن اسم الله غير مشتق لأن الإشتقاق يستلزم مادة يشتق منها واسمه تعالى قديم والقديم لا مادة له فيستحيل الإشتقاق ولا ريب أنه إن أريد بالإشتقاق هذا المعنى وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل
ولكن الذين قالوا بالإشتقاق لم يريدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والرحيم والسميع والبصير فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة والقديم لا مادة له فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله ثم الجواب عن الجميع أننا لا نعني بالإشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله
وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة(2/189)
وقول سيبويه إن الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء هو بهذا الإعتبار لا أن العرب تكلموا بالأسماء أولا ثم اشتقوا منها الأفعال فإن التخاطب بالأفعال ضروري كالتخاطب بالأسماء لا فرق بينهما
فالإشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي وإنما هو اشتقاق تلازم سمي المتضمن بالكسر مشتقا والمتضمن بالفتح مشتقا منه ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى
أهـ { بدائع الفوائد حـ 1 صـ 20 ـ 27 }
قوله تعالى { لا يمسه إلا المطهورن } الواقعة : 79 قال : والصحيح في الآية أن المراد به : الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة منها : أنه وصفه بأنه مكنون و المكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة ومنها : أنه قال : لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة ولو أراد المتوضئين لقال : لا يمسه إلا المتطهرون كما قال تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين البقرة : 222 فالملائكة مطهرون والمؤمنون متطهرون ومنها : أن هذا إخبار ولو كان نهيا لقال : لا يمسسه بالجزم والأصل في الخبر : أن يكون خبرا صورة ومعنى
ومنها : أن هذا رد على من قال : إن الشيطان جاء بهذا القرآن فأخبر تعالى : أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين ولا وصول لها إليه كما قال تعالى في آية الشعراء : وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون الشعراء : 21021 وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة
ومنها : أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس : فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة عبس : 1216(2/190)
قال مالك في موطئه : أحسن ما سمعت في تفسير قوله : لا يمسه إلا المطهرون أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس ومنها : أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف ومنها : أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس : لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم : أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان ولا ينال منه ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : لكن تدل
الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر
وسمعته يقول في قول النبي : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلىء بكلاب الشهوات وصورها فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة
ومن هذا : أن طهارة الثوب الطاهر والبدن إذا كانت شرطا في صحة الصلاة والاعتداد بها فإذا أخل بها كانت فاسدة فكيف إذا كان القلب نجسا ولم يطهره صاحبه فكيف يعتد له بصلاته وإن أسقطت القضاء وهل طهارة الظاهر إلا تكميل لطهارة الباطن ومن هذا : أن استقبال القبلة في الصلاة شرط لصحتها وهي بيت الرب فتوجه المصلي إليها ببدنه وقالبه شرط فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن بل وجه بدنه إلى البيت ووجه قلبه إلى غير رب البيت وأمثال ذلك من الإشارات الصحيحة التي لا تنال إلا بصفاء الباطن وصحة البصيرة وحسن التأمل والله أعلم(2/191)
أهـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 416 ـ 418 }
سورة الحديد
قوله تعالى { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } الحديد :
رهبانية منصوب بابتدعوها على الاشتغال إما بنفس الفعل المذكور على قول الكوفيين وإما بمقدر محذوف مفسر بهذا المذكور على قول البصريين أي وابتدعوا رهبانية وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه فالوقف التام عند قوله : ورحمة ثم يبتدىء ورهبانية ابتدعوها أي لم نشرعها لهم بل هم ابتدعوها من عند أنفسهم ولم نكتبها عليهم
وفي نصب قوله : إلا ابتغاء رضوان الله ثلاثة أوجه
أحدها : أنه مفعول له أي لم نكتبها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وهذا فاسد فإنه لم يكتبها عليهم سبحانه كيف وقد أخبر : أنهم هم ابتدعوها فهي مبتدعة غير مكتوبة وأيضا فإن المفعول لأجله يجب أن يكون علة لفعل الفاعل المذكور معه فيتحد السبب والغاية نحو : قمت إكراما فالقائم هو المكرم وفعل الفاعل المعلل ههنا هو الكتابة و ابتغاء رضوان الله فعلهم لا فعل الله فلا يصلح أن يكون علة لفعل الله لاختلاف الفاعل وقيل : بدل من مفعول كتبناها أي ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله
وهو فاسد أيضا إذ ليس ابتغاء رضوان الله عين الرهبانية فتكون بدل الشيء من الشيء ولا بعضها فتكون بدل بعض من كل ولا أحدهما مشتمل على الآخر فتكون بدل اشتمال وليس بدل غلط(2/192)
فالصواب : أنه منصوب نصب الاستثناء المنقطع أي لم يفعلوها ولم يبتدعوها إلا لطلب رضوان الله ودل على هذا قوله : ابتدعوها ثم ذكر الحامل لهم والباعث على ابتداع هذه الرهبانية وأنه هو طلب رضوان الله ثم ذمهم بترك رعايتها إذ من التزم لله شيئا لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب لزمه رعايته وإتمامه حتى ألزم كثير من الفقهاء من شرع في طاعة مستحبة بإتمامها وجعلوا التزامها بالشروع كالتزامها بالنذر كما قال : أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهو إجماع أو كالإجماع في أحد النسكين
قالوا : والالتزام بالشروع أقوى من الالتزام بالقول فكما يجب عليه رعاية ما التزمه بالنذر وفاء يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماما وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة
والقصد : أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله ورضيها لعباده وأذن بها وحث عليها
أهـ { مدارج السالكين حـ3 صـ32 ـ 33 }
قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم وفي قوله تمشون به إعلام بأن تصرفهم وتقلبهم الذي ينفعهم إنما هو النور وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم ولا نافع لهم بل ضرره أكثر من نفعه وفيه أن أهل النور هم أهل المشي في الناس ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع فلا مشي لقلوبهم ولا لأحوالهم ولا لأقوالهم ولا لأقدامهم إلى الطاعات وكذلك لا تمشي على الصراط إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم وفي قوله تمشون به نكتة بديعة وهي أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم كما يمشون بها بين الناس في الدنيا ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدما عن قدم على الصراط فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه
أهـ { اجتماع الجيوش الإسلامية صـ 5 ـ 6 }
سورة المجادلة
قوله تعالى { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم }(2/193)
فإن قيل فما تقولون في قول المظاهر أنت علي كظهر أمي هل هو إنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب والله سبحانه قد كذبهم هنا في ثلاثة مواضع
أحدها في قوله ما هن أمهاتهم المجادلة فنفى ما أثبتوه وهذا حقيقة التكذيب ومن طلق امرأته لا يحسن أن يقال ما هي مطلقة
والثاني قوله تعالى وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا المجادلة 2 والإنشاء لا يكون منكرا وإنما يكون المنكر هو الخبر والثالث أنه سماه زورا والزور هو الكذب وإذا كذبهم الله دل على أن الظهار إخبار لا إنشاء
الثالث أن الظهار محرم وليست جهة تحريمه إلا كونه كذبا والدليل على تحريمه خمسة أشياء
الأول ما وصفه بالمنكر والثاني وصفه بالزور
والثالث أنه شرع فيه الكفارة ولو كان مباحا لم يكن فيه كفارة
والرابع أن الله قال ذلكم توعظون به المجادلة 3 والوعظ إنما يكون في غير المباحات
والخامس قوله وإن الله لعفو غفور المجادلة 2 والعفو والمغفرة إنما يكونان عن الذنب وإن قلتم هو إخبار هو باطل من وجوه
أحدها أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله في الإسلام تحريما تزيله الكفارة وهذا متفق عليه بين أهل العلم ولو كان خبرا لم يوجب التحريم فإنه إن كان صدقا فظاهر وإن كان كذبا فأبعد له من أن يترتب عليه التحريم
والثاني أنه لفظ يوجب حكمه الشرعي بنفسه وهو التحريم وهذا حقيقة الإنشاء بخلاف الخبر فإنه لا يوجب حكمه بنفسه فسلب كونه إنشاء مع ثبوت حقيقة الإنشاء فيه جمع بين النقيضين
وثالثها أن إفادة قوله أنت علي كظهر أمي للتحريم كإفادة قوله أنت حرة وأنت طالق وبعتك ووهبتك وتزوجتك ونحوها لأحكامها فكيف يقولون هذه إنشاءات دون الظهار وما الفرق
أما الفقهاء فيقولون الظهار إنشاء ونازعهم بعض المتأخرين في ذلك وقال الصواب إنه إخبار وأجاب عما احتجوا به من كونه إنشاء(2/194)
قال أما قولهم كان طلاقا في الجاهلية فهذا لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق بل يقتضي أنهم كانوا يزيلون العصمة عند النطق به فجاز أن يكون زوالها لكونه إنشاء كما زعمتم أو لكونه كذبا وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الكذب زالت عصمة نكاحه وهذا كما التزموا تحريم الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد ونحو ذلك
قال وأما قولكم إنه يوجب التحريم المؤقت وهذا حقيقة الإنشاء لا الإخبار فلا نسلم أن ثم تحريما ألبتة والذي دل عليه القرآن وجوب تقديم الكفارة على الوطء كتقديم الطهارة على الصلاة فإذا قال الشارع لا تصل حتى تتطهر لا يدل ذلك على تحريم الصلاة عليه بل ذلك نوع ترتيب سلمنا أن الظهار ترتب عليه تحريم لكن التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له ودلالته عليه وهذا هو الإنشاء وقد يكون عقوبة محضة كترتيب حرمان الإرث على القتل وليس القتل إنشاء للتحريم
وكترتب التعزير على الكذب وإسقاط العدالة به فهذا ترتيب بالوضع الشرعي لا بدلالة اللفظ
وحقيقة الإنشاء أن يكون ذلك وضع لذلك الحكم ويدل عليه كصيغ العقود فسببية القول أعم من كونه سببا بالإنشاء أو بغيره فكل إنشاء سبب وليس كل سبب إنشاء فالسببية أعم فلا يستدل بمطلقها على الإنشاء فإن الأعم لا يستلزم الأخص فظهر الفرق بين ترتب التحريم على الطلاق وترتبه على الظهار
قال وأما قولكم إنه كالتكلم بالطلاق والعتاق والبيع ونحوها فقياس في الأسباب فلا نقبله ولو سلمناه فنص القرآن يدفعه وهذه الإعتراضات عليهم باطلة(2/195)
أما قوله إن كونه طلاقا في الجاهلية لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق إلى آخره فكلام باطل قطعا فإنهم لم يكونوا يقصدون الإخبار الكذب ليترتب عليه التحريم بل كانوا إذا أرادوا الطلاق أتوا بلفظ الظهار إرادة للطلاق ولم يكونوا عند أنفسهم كاذبين ولا مخبرين وإنما كانوا منشئين للطلاق به ولهذا كان هذا ثابتا في أول الإسلام حتى نسخه الله بالكفارة في قصة خولة بنت ثعلبة كانت تحت عبادة بن الصامت // حسن فقال لها أنت علي كظهر أمي فأتت رسول الله فسألته عن ذلك فقال رسول الله حرمت عليه فقالت يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي فقال حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي فقال رسول الله ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله وإذا قال لها حرمت عليه هتفت وقالت أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول اللهم إني أشكوا إليك
وكان هذا أول ظهار في الإسلام فنزل الوحي على رسول الله فلما قضى الوحي قال ادعي زوجك فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمع الله الآيات
فهذا يدل على أن الظهار كان إنشاء للتحريم الحاصل بالطلاق في أول الإسلام ثم نسخ
ذلك بالكفارة وبهذا يبطل ما نظر به من تحريم الناقة عند ولادتها عشرة أبطن ونحوه فإنه ليس هناك لفظ إنشاء يقتضي التحريم بل هو شرع منهم لهذا التحريم عند هذا السبب
وأما قوله إنا لا نسلم أنه يوجب تحريما فكلام باطل فإنه لا نزاع بين الفقهاء أن الظهار يقتضي تحريما تزيله الكفارة فلو وطئها قبل التكفير أثم بالإجماع المعروف من الدين والتحريم المؤقت هنا كالتحريم بالإحرام وبالصيام والحيض(2/196)
وأما تنظيره بالصلاة مع الطهر ففاسد فإن الله أوجب عليه صلاة بطهر فإذا لم يأت بالطهر ترك ما أوجب الله عليه فاستحق الإثم وأما المظاهر فإنه حرم على نفسه امرأته وشبهها بمن تحرم عليه فمنعه الله من قربانها حتى يكفر فهنا تحريم مستند إلى طهارة وفي الصلاة لا تجزي منه بغير طهر لأنها غير مشروعة أصلا
وقوله التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له وقد يكون عقوبة إلى آخر جوابه أنهما غير متنافيين في الظهار فإنه حرام تحرم به تحريما مؤقتا حتى يكفر وهذا لا يمنع كون اللفظ إنشاء كجمع الثلاث عند من يوقعها والطلاق في الحيض فإنه يحرم ويتعقبه التحريم
وقد قلتم إن طلاق السكران يصح عقوبة له مع أنه لو لم يأت بإنشاء السبب لم تطلق امرأته اتفاقا فكون التحريم عقوبة لا ينفي أن يستند إلى أسبابها التي تكون إنشاءات لها
قوله السببية أعم من الإنشاء إلى آخره جوابه أن السبب نوعان فعل وقول فمتى كان قولا لم يكن إلا إنشاء فإن أردتم بالعموم أن سببية القول أعم من كونها إنشاء وإخبارا فممنوع وإن أردتم أن مطلق السببية أعم من كونها سببية بالفعل والقول فمسلم ولا يفيدكم شيئا
وفصل الخطاب أن قوله أنت علي كظهر أمي يتضمن إنشاء وإخبارا فهو إنشاء من حيث قصد التحريم بهذا اللفظ وإخبار من حيث تشبيهها بظهر أمه ولهذا جعله الله منكرا وزورا فهو منكر باعتبار الإنشاء وزور باعتبار الإخبار
وأما قوله إن المنكر هو الخبر الكاذب فالخبر الكاذب من المنكر والمنكر أعم منه فالإنكار في الإنشاء والإخبار فإنه ضد المعروف فما لم يؤذن فيه من الإنشاء فهو منكر وما لم يكن صدقا من الإخبار فهو زور
أهـ { بدائع الفوائد حـ1 صـ 11 ـ 15 }
سورة الصف
قال تعالى { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }(2/197)
وقال عن عباده المؤمنين أنهم سألوه ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وأصل الزيغ الميل ومنه زاغت الشمس إذا مالت فأزاغه القلب إمالته وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال والزيغ يوصف به القلب والبصر كما قال تعالى وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وقال قتادة ومقاتل شخصت فرقا وهذا تقريب للمعنى فإن الشخوص غير الزيغ وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا يطرق ومنه شخص بصر الميت ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الأحزاب وقال الكلبي مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم وقال الفراء زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيرة تنظر إليه قلت القلب إذا امتلأ رعبا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المخوف فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابلة
أهـ { شفاء العليل صـ 100 }
سورة الجمعة
قوله تعالى { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}
فقاس من حمله سبحانه كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ثم خالف ذلك ولم يحمله إلا على ظهر قلب فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ولا تحكيم له وعمل بموجبه كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها وحظه منها حمله على ظهره ليس إلا فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته
أهـ { إلام الموقعين حـ 1 صـ 197 }
سورة المنافقون
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله }(2/198)
والمقصود أن دوام الذكر لما كان سببا لدوام المحبة وكان الله سبحانه احق بكمال الحب والعبودية والتعظيم والاجلال كان كثرة ذكره من انفع ما للعبد وكان عدوه حقا هو الصاد له عن ذكر ربه وعبوديته ولهذا أمر الله سبحانه بكثرة ذكره في القرآن وجعله سببا للفلاح فقال تعالى واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون الجمعة 10
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا الجمعة 41
وقال تعالى والذاكرين الله كثيرا والذاكرات الأحزاب 35
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون المنافقون 9
وقال تعالى فاذكروني اذكركم البقرة 152
وقال النبي سبق المفردون قالوا يا رسول الله وما المفردون قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات
وفي الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي انه قال إلا أدلكم على خير اعمالكم وازكاها عند مليككم وارفعها في درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال ذكر الله تعالى // إسناده صحيح // وهو
في الموطأ موقوف على أبي الدرداء
قال معاذ بن جبل ما عمل آدمي عملا انجى له من عذاب الله من ذكر الله وذكر رسوله تبع لذكره
والمقصود أن دوام الذكر سبب لدوام المحبة فالذكر للقلب كالماء للزرع بل كالماء للسمك لا حياة له إلا به
وهو أنواع ذكره بأسمائه وصفاته والثناء عليه بها
الثاني تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله وتمجيده والغالب من استعمال لفظ الذكر عند المتأخرين هذا
الثالث ذكره بأحكامه واوامره ونواهيه وهو ذكر العالم بل الانواع الثلاثة هي ذكرهم لربهم
ومن افضل ذكره ذكره بكلامه
قال تعالى { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى }
طه 124 فذكره هنا كلامه الذي انزله على رسوله
وقال تعالى الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الرعد 28(2/199)
أهـ { جلاء الأفهام صـ 307 ـ 308 }
سورة التحريم
قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما }
لغة العرب متنوعة في إفراد المضاف وتثنيته وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه فإن أضافوا الواحد المتصل إلى مفرد أفردوه وإن أضافوه إلى اسم جمع ظاهر أو مضمر جمعوه وإن أضافوه إلى اسم مثنى فالأفصح من لغتهم جمعه لقوله تعالى فقد صغت قلوبكما التحريم4
وإنما هما قلبان لا غير وقوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما المائدة38
وتقول العرب إضرب أعناقهما واقطع ألسنتهما وهذا أفصح استعمالهم وتارة يفردون المضاف فيقولون لسانهما وقلبهما وظهرهما وتارة يثنونه كقوله ظهراهما مثل ظهور الترسين والقرآن إنما نزل بلغة العرب لا بلغة العجم والطماطم والأنباط الذين أفسدوا الدين وتلاعبوا بالنصوص وانتهكوا حرماتها وجعلوها عرضة لتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وإذا كان من لغتهم وضع الجمع موضع التثنية لئلا يجمعوا في لفظ واحد بين
تثنيتين ولا لبس هناك فلأن يوضع الجمع موضع التثنية فيما إذا كان المضاف إليه مجموعا أولى بالجواز يدل عليه أنك لا تكاد تجد في كلامهم عينينا ويدينا ونحو ذلك ولا يلبس على السامع قول المتكلم نراك بأعيننا ونأخذك بأيدينا ونحو ذلك ولا يفهم منه بشر على وجه الأرض عيونا كثيرة على وجه واحد وأيديا متعددة على بدن واحد فهل قدر القرآن حق قدره من زعم أن هذا ظاهره
أهـ { الصواعق المرسلة حـ 1 صـ 266 ـ 268 }(2/200)
قوله تعالى {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين } فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال مثل للكفار ومثلين للمؤمنين فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو صلة صهر أو سبب من أسباب الاتصال فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين لوط ونوح وامرأتيهما فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا قيل ادخلا النار مع الداخلين(2/201)
قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال فلا اتصال فوق اتصال البنوة الأبوة والزوجية ولم يغن نوح عن ابنه ولا إبراهيم عن أبيه ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا قال الله تعالى لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم وقال تعالى يوم لا تملك نفس لنفس شيئا وقال تعالى واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا وقال واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولولد هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة أو يجيرهم من عذاب الله أو هو يشفع لهم عند الله وهذا أصل ضلالة بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم
فصل
وأما المثلان اللذان للمؤمنين فأحدهما امرأة فرعون ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين
المثل الثاني للمؤمنين مريم التي لا زوج لها لا مؤمن ولا كافر فذكر ثلاثة أصناف من النساء المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها والثانية لا تضرها وصلتها وسببها والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا(2/202)
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي ص - والتحذير من تظاهرهن عليه وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله ص - كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة
قال يحيى بن سلام ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة
وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند
الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي ص - فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون
قالوا فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس والجمع والفرق واعتبار العلل والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا
أهـ { إعلام الموقعين حـ 1 صـ 225 ـ 228 }
سورة { ن }
قوله تعالى { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت اذ نادى وهو مكظوم }(2/203)
وها هنا سؤال نافع وهو أن يقال ما العامل في الظرف وهو قوله اذ نادى ولا يمكن أن يكون الفعل المنهى عنه اذ يصير المعنى لا تكن مثله في ندائه وقد أثنى الله سبحانه عليه في هذا النداء فأخبر أنه نجاه به فقال وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين وفي الترمذى وغيره عن النبي أنه قال دعوة أخى ذى النون اذ دعا بها في بطن الحوت ما دعا بها مكروب الا فرج الله عنه لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فلا يمكن أن ينهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذى نادى به ربه وانما نهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذى نادى به ربه وانما ينهى عن التشبه به في السبب الذى أفضى به إلى هذه المناداة وهى مغاضبته التى أفضت به إلى حبسه في بطن الحوت وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم والكظيم والكاظم الذى قد امتلأ غيظا وغضبا وهما وحزنا وكظم عليه فلم يخرجه
فإن قيل وعلى ذلك فما العامل في الظرف قيل ما في صاحب الحوت من معنى الفعلفإن قيل فالسؤال بعد قائم فإنه إذا قيد المنهى بقيد أو زمن كان داخلا في حيز النهى فإن كان المعنى لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال أو هذا الوقت كان نهيا عن تلك الحالة
قيل لما كان نداؤه مسببا عن كونه صاحب الحوت فنهى أن يشبه به في الحال التى أفضت به إلى صحبته الحوت والنداء وهى ضعف العزيمة والصبر لحكمه تعالى ولم يقل تعالى ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت فنادى بل طوى القصة واختصرها وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر واكتفي بغايتها وما انتهت اليه(2/204)
فان قيل فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهى عنه أى لا تكن مثله في ندائه وهو ممتلئ غيظا وهما وغما بل يكون نداؤك نداء راض بما قضى عليه قد تلقاه بالرضا والتسليم وسعة الصدر لا نداء كظيم قيل هذا المعنى وان كان صحيحا الا أن النهى لم يقع عن التشبه به في مجرده وانما نهى عن التشبه به في الحال التى حملته على ذهابه مغاضبا حتى سجن في بطن الحوت ويدل عليه قوله تعالى فاصبر لحكم ربك ثم قال ولا تكن كصاحب الحوت أى في ضعف صبره لحكم ربه فان الحالة التى نهى عنها هى ضد الحالة التى أمر بها
فإن قيل فما منعك أن تصبر حيث أمر بالصبر لحكمه الكونى القدرى الذى يقدره عليه ولا تكن كصاحب الحوت حيث لم يصبر عليه بل نادى وهو كظيم لكشفه فلم يصبر على احتماله والسكون تحته
قيل منع من ذلك أن الله سبحانه أثنى على يونس وغيره من أنبيائه بسؤالهم اياه كشف ما بهم من الضر وقد أثنى عليه سبحانه بذلك في قوله وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فاستجبنا له فنجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين فكيف ينهى عن التشبه به فيما يثنى عليه ويمدحه به وكذلك أثنى على أيوب بقوله مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين وعلى يعقوب بقوله انما أشكو بثى وحزنى إلى الله(2/205)
وعلى موسى بقوله رب انى لما أنزلت إلى من خير فقير وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله بقوله اللهم أشكو اليك ضعف قوتى وقلة حيلتى الحديث فالشكوى إليه سبحانه لا تنافي الصبر الجزيل بل اعراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة وجعل الشكوى إليه وحده هو الصبر والله تعالى يبتلى عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وقد ذم سبحانه من لم يتضرع اليه ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه بل أراد منه أن يستكين له ويتضرع اليه وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه ويحب من يشكو ما به اليه وقيل لبعضهم كيف تشتكى اليه ما ليس يخفي عليه فقال ربى يرضى ذل العبد اليه
والمقصود أنه سبحانه أمر رسوله أن يصبر صبر أولى العزم الذين صبروا لحكمه اختيارا وهذا أكمل الصبر ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
فإن قيل أى انواع الصبر الثلاثة أكمل الصبر على المأمور أم الصبر عن المحظور أم الصبر على المقدور
قيل الصبر المتعلق بالتكليف وهو الأمر والنهى أفضل من الصبر على مجرد القدر فان هذا الصبر يأتى به البر الفاجر والمؤمن والكافر فلا بد لكل أحد من الصبر على القدر اختيارا أو اضطرارا
وأما الصبر على الاوامر والنواهى فصبر أتباع الرسل وأعظمهم اتباعا أصبرهم في ذلك وكل صبر في محله وموضعه أفضل فالصبر عن الحرام في محله أفضل وعلى الطاعة في محلها أفضل
فإن قيل أى الصبرين أحب إلى الله صبر من يصبر على أوامره أم صبر من يصبر عن محارمه
قيل هذا موضع تنازع فيه الناس فقالت طائفة الصبر عن المخالفات أفضل(2/206)
لأنه أشق وأصعب فإن أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يصبر عن المخالفات إلا الصديقون قالوا ولأن الصبر عن المحرمات صبر على مخالفة هوى النفس وهو أشق شىء وأفضله قالوا ولأن ترك المحبوب الذى تحبه النفوس دليل على أن من ترك لأجله أحب اليه من نفسه وهواه بخلاف فعل ما يحبه المحبوب فإنه لا يستلزم ذلك قالوا وأيضا فالمروءة والفتوة كلها في هذا الصبر
قال الإمام أحمد الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى فمروءة العبد وفتوته بحسب هذا الصبر قالوا وليس العجب ممن يصبر على الأوامر فإن أكثرها محبوبات للنفوس السليمة لما فيها من العدل والإحسان والإخلاص والبر وهذه محاب للنفوس الفاضلة الزكية بل العجب ممن يصبر عن المناهي التي أكثرها محاب للنفوس فيترك المحبوب العاجل في هذه الدار للمحبوب الآجل في دار أخرى والنفس موكلة بحب العاجل فصبرها عنه مخالف لطبعها
قالوا ولأن المناهى لها أربعة دواع تدعو اليها نفس الإنسان وشيطانه وهواه ودنياه فلا يتركها حتى يجاهد هذه الأربعة وذلك أشق شيء على النفوس وأمره قالوا فالمناهى من باب حمية النفوس عن مشتهياتها ولذاتها والحمية مع قيام داعى التناول وقوته من أصعب شيء وأشقه قالو أو لذلك كان باب قربان النهى مسدودا كله وباب الامر انما يفعل منه المستطاع كما قال النبي اذا أمرتكم بأمر فاءتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه فدل على ان باب المنهيات أضيق من باب المأمورات وانه لم يرخص في ارتكاب شيء منه كما رخص في ترك بعض المأمورات للعجز والعذر قالوا ولهذا كانت عامة العقوبات من الحدود وغيرها على ارتكاب المنهيات بخلاف ترك المأمور فإن الله سبحانه لم يرتب عليه حدا معينا فأعظم المأمورات الصلاة وقد اختلف العلماء هل على تاركها حد أم لا فصل(2/207)
فهذا بعض ما احتجت به الطائفة وقالت طائفة أخرى بل الصبر على فعل المأمور أفضل وأجل من الصبر على ترك المحظور لأن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المحظور والصبر على أحب الامرين أفضل وأعلى
أهـ { عدة الصابرين صـ 24 ـ 27 }
سورة المزمل
قوله تعالى { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } المزمل : 8 و التبتل الانقطاع وهو تفعل من البتل وهو القطع وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا وقطعت منهن ومصدر بتل تبتلا كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر تفعل لسر لطيف فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة فأتى بالفعل الدال على أحدهما بالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل : بتل نفسك إلى الله تبتيلا وتبتل إليه تبتلا ففهم المعنيان من الفعل ومصدره وهذا كثير في القرآن وهو من أحسن الاختصار والإيجاز
قال صاحب المنازل :
التبتل : الانقطاع إلى الله بالكلية وقوله عز وجل : له دعوة الحق الرعد : 14 أي التجريد المحض
ومراده بالتجريد المحض : التبتل عن ملاحظة الأعواض بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر بخلاف العبد فإنه يخدم بمقتضى عبوديته لا للأجرة فهو لا ينصرف عن باب سيده إلا إذا كان آبقا والآبق قد خرج من شرف العبودية ولم يحصل له إطلاق الحرية فصار بذلك مركوسا عند سيده وعند عبيده وغاية شرف النفس : دخولها تحت رق العبودية طوعا واختيارا ومحبة لا كرها وقهرا كما قيل :
شرف النفوس دخولها في رقهم ... والعبد يحوي الفخر بالتمليك(2/208)
والذي حسن استشهاده بقوله : له دعوة الحق في هذا الموضع : إرادة هذا المعنى وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته وإن لم يوجب لداعيه بها ثوابا فإنه يستحقها لذاته فهو أهل أن يعبد وحده ويدعى وحده ويقصد ويشكر ويحمد ويحب ويرجى ويخاف ويتوكل عليه ويستعان به ويستجار به ويلجأ إليه ويصمد إليه فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده
ومن قام بقلبه هذا معرفة وذوقا وحالا صح له مقام التبتل والتجريد المحض وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد والإخلاص فيه والصدق ومرادهم : هذا المعنى
فقال علي رضى الله عنه دعوة الحق : التوحيد وقال ابن عباس رضي الله عنهما شهادة أن لا إله إلا الله وقيل : الدعاء بالإخلاص والدعاء الخالص لا يكون إلا لله وحده ودعوة الحق دعوة الإلهية وحقوقها وتجريدها وإخلاصها
قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : تجريد الانقطاع عن الحظوظ واللحوظ إلى العالم خوفا أو رجاء أو مبالاة بحال
قلت التبتل يجمع أمرين : اتصالا وانفصالا لا يصح إلا بهما فالانفصال : انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله خوفا منه أو رغبة فيه أو مبالاة به أو فكرا فيه بحيث يشغل قلبه عن الله
والاتصال : لا يصح إلا بعد هذا الانفصال وهو اتصال القلب بالله وإقباله عليه وإقامة وجهه له حبا وخوفا ورجاء وإنابة وتوكلا
ثم ذكر الشيخ ما يعين على هذا التجريد وبأي شيء يحصل فقال :
بحسم الرجاء بالرضى وقطع الخوف بالتسليم ورفض المبالاة بشهود الحقيقة يقول : إن الذى يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك : هو الرضى بحكم الله
عز وجل وقسمه لك فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع(2/209)
والذي يحسم مادة الخوف : هو التسليم لله فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضا فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها فلا معنى للخوف من غير الله بوجه وفي التسليم أيضا فائدة لطيفة وهي أنه إذا سلمها الله فقد أودعها عنده وأحرزها في حرزه وجعلها تحت كنفه حيث لا تنالها يد عدو عاد ولا بغي باغ عات
والذي يحسم مادة المبالاة بالناس : شهود الحقيقة وهو رؤية الأشياء كلها من الله وبالله وفي قبضته وتحت قهره وسلطانه لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته ولا ينفع ولا يضر إلا بإذنه ومشيئته فما وجه المبالاة بالخلق بعد هذا الشهود
قال : الدرجة الثانية : تجريد الانقطاع عن التعريج على النفس بمجانبة الهوى وتنسم روح الأنس وشيم برق الكشف
الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها : أن الأولى انقطاع عن الخلق وهذه انقطاع عن النفس وجعله بثلاثة أشياء
أولها : مجانبة الهوى ومخالفته ونهي نفسه عنه لأن اتباعه يصد عن التبتل
وثانيها : وهو بعد مخالفة الهوى تنسم روح الأنس بالله والروح للروح كالروح للبدن فهو روحها وراحتها وإنما حصل له هذا الروح لما أعرض عن هواه فحينئذ تنسم روح الأنس بالله ووجد رائحته إذ النفس لا بد لها من التعلق فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله وهبت عليها نسماته فريحتها وأحيتها
وثالثها : شيم برق الكشف وهو مطالعته واستشرافه والنظر إليه ليعلم به مواقع الغيث ومساقط الرحمة
وليس مراده بالكشف ههنا : الكشف الجزئي السفلي المشترك بين البر والفاجر والمؤمن والكافر كالكشف عن مخبآت الناس ومستورهموإنما هو الكشف عن ثلاثة أشياء هن منتهى كشف الصادقين أرباب البصائر
أحدها : الكشف عن منازل السير(2/210)
والثاني : الكشف عن عيوب النفس وآفات الأعمال ومفسداتها
والثالث : الكشف عن معاني الأسماء والصفات وحقائق التوحيد والمعرفة وهذه الأبواب الثلاثة : هي مجامع علوم القوم وعليها يحومون وحولها يدندنون وإليها يشمرون فمنهم من جل كلامه ومعظمه : في السير وصفة المنازل ومنهم من جل كلامه : في الآفات والقواطع ومنهم من جل كلامه : في التوحيد والمعرفة وحقائق الأسماء والصفات
والصادق الذكي يأخذ من كل منهم ما عنده من الحق فيستعين به على مطلبه ولايرد ما يجده عنده من الحق لتقصيره في الحق الآخر ويهدره به فالكمال المطلق لله رب العالمين وما من العباد إلا له مقام معلوم
قال : الدرجة الثالثة : تجريد الانقطاع إلى السبق بتصحيح الاستقامة والاستغراق في قصد الوصول والنظر إلى أوائل الجمع
لما جعل الدرجة الأولى انقطاعا عن الخلق والثانية انقطاعا عن النفس جعل الثالثة طلبا للسبق وجعله بتصحيح الاستقامة وهي الإعراض عما سوى الحق ولزوم الإقبال عليه والاشتغال بمحابه ثم بالاستغراق في قصد الوصول
وهو أن يشغله طلب الوصول عن كل شيء بحيث يستغرق همومه وعزائمه وإراداته أوقاته وإنما يكون ذلك بعد بدو برق الكشف المذكور له
أهـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 29 ـ 33 }
سورة المدثر
قوله تعالى { وثيابك فطهر } المدثر : 4 قال قتادة ومجاهد : نفسك فطهر من الذنب فكنى عن النفس بالثوب وهذا قول إبراهيم النخعي والضحاك والشعبي والزهري والمحققين من أهل التفسير قال ابن عباس : لا تلبسها على معصية ولا غدر ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :
وإنى بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء : طاهر الثياب وتقول للغادر والفاجر : دنس الثياب وقال أبي بن كعب : لا تلبسها على الغدر والظلم والإثم ولكن البسها وأنت بر طاهر(2/211)
وقال الضحاك : عملك فأصلح قال السدي : يقال للرجل إذا كان صالحا إنه لطاهر الثياب وإذا كان فاجرا إنه لخبيث الثياب وقال سعيد بن جبير : وقلبك وبيتك فطهر وقال الحسن والقرظي : وخلقك فحسن
وقال ابن سيرين وابن زيد : أمر بتطهير الثياب من النجاسات التى لا تجوز الصلاة معها لأن المشركين كانوا لا يتطهرون ولا يطهرون ثيابهم
وقال طاووس : وثيابك فقصر لأن تقصير الثياب طهرة لها
والقول الأول : أصح الأقوال
ولا ريب أن تطهيرها من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق لأن نجاسة الظاهر تورث نجاسة الباطن ولذلك أمر القائم بين يدي الله عز وجل بإزالتها والبعد عنها والمقصود : أن الورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة وباطنة ولذلك تدل ثياب المرء في المنام على قلبه وحاله ويؤثر كل منهما في الآخر ولهذا نهى عن لباس الحرير والذهب وجلود السباع لما تؤثر في القلب من الهيئة المنافية للعبودية والخشوع وتأثير القلب والنفس في الثياب أمر خفي يعرفه أهل البصائر من نظافتها ودنسها ورائحتها وبهجتها وكسفتها حتى إن ثوب البر ليعرف من ثوب الفاجر وليسا عليهما
أهـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 10 ـ 12 }
قوله تعالى { فمالهم عن التذكرة معرضين }(2/212)
فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد أو الرماة ففرت منه وهذا من بديع القياس والتمثيل فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحمر وهي لا تعقل شيئا فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور وهذا غاية الذم لهؤلاء فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه ومن قرأها بفتح الفاء فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته
أهـ { إعلام الموقعين حـ1 صـ 196 }
سورة القيامة
قوله تعالى { أيحسب الإنسان أن يترك سدى }
قال الشافعي رضى الله عنه أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى وقال غيره لا يثاب ولا يعاقب والقولان واحد لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهى فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهى في الدنيا والثواب والعقاب في الآخرة فأنكر سبحانه على من زعم أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه وأنه لا يليق أن ينسب ذلك إلى احكم الحاكمين
أهـ { مفتاح دار السعادة حـ 2 صـ 13 }
سورة النبأ
قال تعالى { إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا }
فالكواعب جمع كاعب وهي الناهد قال قتادة ومجاهد والمفسرون قال الكلبي هن الفلكات اللواتي تكعب ثديهن و تفلكت واصل اللفظة من الاستدارة والمراد أن ثديهن نواهد كالرمان ليست متدلية إلى اسفل ويسمين نواهد وكواعب
أهـ { حادى الأرواح صـ 157 }
سورة التكوير
{ إذا الشمس كورت }(2/213)
قرأ قارىء إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وفي الحاضرين أبو الوفاء بن عقيل فقال له قائل يا سيدي هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب وزوج النفوس بقرنائها بالثواب والعقاب فلم هدم الأبنية وسير الجبال ودك الأرض وفطر السماء ونثر النجوم وكور الشمس
فقال إنما بني لهم الدار للسكني والتمتع وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم من الدار خربها لانتقال الساكن منها
فأراد أن يعلمهم بأن الكونين كانت معمورة بهم وفي إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وبيان المقدرة بعد بيان العزة وتكذيب لأهل الإلحاد وزنادقة المنجمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فإذا راوا آلهتهم قد انهدمت وأن معبوداتهم قد انثرت وانفطرت ومحالها قد تشققت ظهرت فضائحهم وتبين كذبهم وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر له رب يصرفه كيف يشاء تكذيبا لملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدم فكم لله تعالى من حمكة في هدم هذه الدار ودلالة على عظم عزته وقدرته وسلطانه وانفراده بالربوبية وانقياد المخلوقات بإسرها لقهره وإذ عانها لمشيئته فتبارك الله رب العالمين
أهـ { بدائع الفوائد حـ 3 صـ 700 }
سورة المطففين
قوله تعالى { كلا بل ران على قلوبهم }
قال بعض السلف في قوله تعالى كلا بل ران ! على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال هو الذنب بعد الذنب وقال الحسن هو الذنب على الذنب حتى يعمي القلب وقال غيره لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم وأصل هذا أن القلب يصدي من المعصية فاذا زادت غلب الصدي حتي يصيررانا ثم يغلب حتي يصير طبعا وقفلا وختما فيصير القلب في غشاوة وغلاف فاذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد
أهـ { الجواب الكافى صـ 39 }(2/214)
وأما الران فقد قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال أبو عبيدة غلب عليها والخمر ترين على عقل السكران والموت يرون على الميت فيذهب به ومن هذا حديث اسيفع جهينة وقول عمر فأصبح قدرين به أي غلب عليه وأحاط به الرين وقال أبو معاذ النحوي الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين والإقفال أشد من الطبع وهو أن يقفل على القلب وقال الفراء كثرت الذنوب والمعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها وقال أبو إسحاق ران غطى يقال ران على قلبه الذنب يرين رينا أي غشيه قال والرين كالغشاء يغشى القلب ومثله الغين قلت أخطأ أبو إسحاق فألغين ألطف شيء وأرقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ليغان على قلبي وأني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة وأما الرين والران فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها وقال مجاهد هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب وقال مقاتل غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال الترمذي هذا حديث صحيح وقال عبد الله بن مسعود كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم فكان سبب الران منهم وهو خلق الله فيهم فهو خالق السبب ومسببه لكن السبب باختيار العبد والمسبب خارج عن قدرته واختياره
أهـ { شفاء العليل صـ 91 }
قوله تعالى { كلا إن كتاب الإبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون }(2/215)
فأخبر الله تعالى أن كتابهم كتاب مرقوم تحقيقا لكونه مكتوبا كتابة حقيقية وخص تعالى كتاب الإبرار بإنه يكتب ويوقع لهم به بمشهد المقربين من الملائكة والنبيين وسادات المؤمنين ولم يذكر شهادة هؤلاء لكتاب الفجار تنويها بكتاب الأبرار وما وقع لهم به وإشهارا له وإظهارا بين خواص خلقه كما يكتب الملوك تواقيع من تعظمه بين الأمراء وخواص أهل المملكة تنويها بأسم المكتوب له وإشادة بذكره وهذا نوع من صلاة الله سبحانه وتعالى وملائكته على عبده
أهـ { حادى الأرواح صـ 115 }
سورة الانشقاق
قوله تعالى { لتركبن طبقا عن طبق } الانشقاق 19 أي حالا بعد حال فأول أطباقة كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم مولودا ثم رضيعا ثم فطميا ثم صحيحا أو مريضا غنيا أو فقيرا معافى أو مبتلى إلى جميع أحوال الإنسان المختلفة عليه إلى أن يموت ثم يبعث ثم يوقف بين يدي الله تعالى ثم يصير إلى الجنة أو النار فالمعنى لتركبن حالا بعد حال ومنزلا بعد منزل وأمرا بعد أمر ذكرنا بعض أطباق الجنين في البطن من حين كونه نطفة إلى وقت ولاده
أهـ { تحفة المودود صـ 97 }
سورة الطارق(2/216)