كلاًّ} ، ردع للمجرم عن الودادة ، وتصريح بامتناع الافتداء ، {إِنها} أي : النار ، المدلول عليها بالعذاب ، أو ضمير مبهم ، ترجم عنه الخبر ، أو ضمير القصّة ، {لَظَى} علم للنار ، منقول من اللظى ـ بمعنى اللهب ، {نزاعة لِلشَّوَى} ؛ خبر بعد خبر ، ومَن نصب فعلى الحال المؤكدة ، أو على الاختصاص للتهويل. والشَّوى : أطراف الإنسان ، كاليدين والرجلين ، أو : جمع شواة ، وهي جلدة الرأس ، تنزعها النارُ نزعاً ، فتفرّقها ، ثم تعود إلى ما كانت. {تَدعو} أي : تجذبُ ، وتخطف ، أو : تدعوهم بأسمائهم : يا كافر يا منافق إليَّ ، وقيل : تدعو المنافقين بلسان فصيح ، ثم تلتقطهم التقاط الحب ، أو : تُهْلِك ، من قولهم : دعاك الله ، أي : أهلكك ، أو : لمّا كان مصيره إليها جُعلت كأنها دعته. وقيل : تدعو زبانيتها ، ومفعول تدعو : {مَنْ أدبرَ} عن الحق {وتولَّى} ؛ أعرض عن الطاعة ، {وجمع} المال {فأوْعى} ؛ جعله في وعاء ، وكَنَزَه ولم يؤدِّ حق الله فيه ، أو تشاغل به عن الدين ، وزهى باقتنائه حرصاً وتأميلاً ، عائذاً بالله من ذلك.
الإشارة : سال إلى قلوب أهل الغفلة والإنكار سايل من بحر الهوى ، بعذاب واقع نازل بقلوبهم من الجزع والهلع والشكوك والخواطر ، أو : سأ سائل عن عذاب واقع لأهل الإنكار ، وهو غم الحجاب ، وسوء الحساب ، ليس له دافع من جهته تعالى ؛ لأنه حكم به على أهل البُعد والإنكار. وهو تعالى ذو المعارج ، أي : ذو المراقي ، تترقى إليه الأرواح والأسرار ، من مقام إلى مقام ، من مقام الإسلام إلى الإيمان ، ومن الإيمان إلى الإحسان ، أو : من عالَمٍ إلى عالَمٍ ، من عالَم المُلك إلى الملكوت ، ومن عالَم الملكوت
136
(8/201)
إلى الجبروت ، ومن عالَم الجبروت إلى الرحموت. تعرج الملائكة والروح إليه ، أمّا الملائكة فتنتهي إلى الدهش والهيمان ، وأما الروح الصافية فتنتهي إلى شهود الذات بالصحو والتمكين ، وهذا مقام خاصة الخاصة من النبيين والصدِّيقين ، تنتهي إلى هذا المقام في زمن يسير ، إن سبقت العناية واتصل صاحبها بالخبير ، وفي زمن طويل إن لم يتصل بالخبير ، ولذلك قال تعالى : {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} أي : يقطع ذلك في يوم كان مقداره لو صار بنفسه خمسن ألف سنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 133
(8/202)
واعلم أنَّ الحق تعالى لا يتصف بقُرب ولا بُعد ، هو أقرب إلى كل شيء من كل شيء ، وإنما بعّد النفوسَ جهلُها به تعالى ووهْمُها وغفلتها ، فإذا ارتفع الجهل والوهم ، وَجَدت الحقّ كان قريباً وهي لا تشعر. قال الورتجبي : ليس للحق مكان ومنتهى ، حتى أن الخلق يعرجون إليه ، بل إنَّ ظهور عزته وجلاله في كل ذرة عيانٌ ، فإذا رَفَعْتَ القربَ والبُعدَ من حيث المسافة ، وأدرجت الأوهام والأفهام ؛ لم يكن بين الحق والروح فصل ، وصول الحق لأهل الحق بأقل طرفة ، فإنَّ الوصل منه ، وهو قريب غير بعيد. هـ. فاصبر أيها السائر صبراً جميلاً ؛ لتظفر بالوصل الدائم ، إنهم ـ أي أهل الغفلة ـ يرونه بعيداً ، ونراه قريباً لمن قربتُه عليه ، يوم تكون السماء كالمُهل ، أي : وقت الوصول هو حين تتلطّف العوالم وتذوب الكائنات ، فيتصل بحر الأزل بما لم يزل ، فلم يبقَ إلاَّ الأزل ، قال بعض المحققين : حقيقة المشاهدة : تكثيف اللطيف ، وحقيقة المعاينة : تلطيف الكثيف ، فافهم. ولا يسأل حميمٌ حميماً ، أي : لا مودة بين أهل البُعد وأهل القرب ، ولو كان مِن أقرب الناس إليه نسباً ، وهذا مثل قوله : {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ ألآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ...} [المجادلة : 22] الآية. يَوَدُّ المجرمُ ، حين يرى ما خص اللهُ به أولياءه من العز والقُرب ، لو يفتدي بجميع مَا يملك ، بل بجميع أهل الأرض مما نزل به من عذابِ القطيعة والبُعد ، كلاّ إنها ، أي : نار القطيعة ، لَظَى ، نزاعةَ لرِفْعَةِ الرؤوس ، بل تحطها عن مراتب المقربين ، تدعوا مَن أدبر عن المجاهدة والتربية ، وجَمَعَ الدنيا فأوعاها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 133
137
(8/203)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ الإِنسانَ خُلق هلوعاً} ، قال ابن عباس : الهلوع : الحريص على ما لا يجده ، وعن الضحاك : هو الذي لا يشبع. وأصل الهلع : أشد الحرص وأسوأ الجزع ، قال صلى الله عليه وسلم : " شر ما أعطي العبدُ شحٌّ هالع ، وجُبن خالعٌ " ، وأحسن تفاسيره : ما فسّره به الحق تعالى بقوله : {إِذا مسّه الشرُّ جَزوعاً} ؛ مبالغ في الجزع ، {وإِذا مسّه الخيرُ} أي : السعة والعافية {مَنوعاً} ؛ مبالغاً في المنع والإمساك ، وسُئل ثعلب عن الهلوع ، فقال : قد فسّره اللهُ تعالى ، ولا يكون تفسيرٌ أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شرٌّ أظهر شدّة الجزع ، وإذا ناله خيرٌ بخل ومنع ، وهذا طبعه ، وهو مأمور بمخالفة طبعه ، وموافقة شرعه. والشرُّ : الضرُّ والفقر ، والخير : السعة والغنى.
ثم استثنى مِن الإنسان ؛ لأنَّ المراد به الجنس ، فقال : {إِلاَّ المُصَلِّين الذين هم على صلاتهم دائمون} لا يشغلهم عنها شاغل ؛ لاستغراقهم في طاعة الخالق ، واتصافهم بالإشفاق على الخلق ، والإيمان بالجزاء ، والخوف من العقوبة ، وكسر الشهوة ، وإيثار الآجل على العاجل ، على خلاف القبائح المذكورة ، التي طبع عليه البشر. قال ابن جُزي : لأنَّ صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا ، فلا يجزعون مِن شرها ، ولا يبخلون بخيرها. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقها إن شاء اللهُ. {والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ} يعني الزكاة ؛ لأنها مقدّرةٌ معلومةٌ ، أو صدقةٌ يوظفها الرجلُ على نفسه ، يؤديها في أوقات معلومة ، {للسائلِ} الذي يسأله ، {والمحرومِ} الذي لا يسأله تعفُّفاً ، فيظن أنه غني ، فيُحرم.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 137
(8/204)
والذين يُصَدِّقُونَ بيوم الدين} أي : يوم الجزاء والحساب ، فيتعبون أنفسَهم في الطاعات البدنية والمالية ؛ طمعاً في المثوبة الأخروية ، فيستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء. {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} ؛ خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة ، استقصاراً لها ، واستعظاماً لجانبه عزّ وجل ، كقوله : {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ...} [المؤمنون : 60] ، الخ {إِنَّ عذابَ ربهم غيرُ مأمونٍ} ، هو اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحدٍ أن يأمنَ مِن عذابه تعالى ، ولو بلغ في الطاعة ما بلغ ، بل ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء كجناحي الطائر.
{والذين هم لفروجهم حافظون إِلاَّ على أزواجهم} ؛ نسائهم ، {أو ما ملكتْ أيمانُهم} أي : إيمائهم {فإِنهم غيرُ ملومين} على ترك الحفظ ، {فمَن ابتغَى} أي : طلب منكحاً {وراءَ ذلك} غير الزوجات والممولكات {فأولئك هم العادُون} ؛ المتعدُّون لحدود الله ، المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام. وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء
138
الذكران والبهائم ، والاستمناء بالكف ، لكنه أخف من الزنا واللواط.
{والذين هم لأماناتهِم} وهي تتناول أمانات الشرع ، وهي التكاليف الشرعية ، وأمانات العباد ، {وعهدِهم} أي : عهودهم ، ويدخل فيه عهود الخلق ، والنذور والأيمان ، {راعون} ؛ حافظون ، غير خائنين ، ولا ناقضين ، وقيل : الأمانات : ما تدل عليه العقول ، والعهد : ما أتى به الرسولُ. {والذين هم بشهادتهم قائمون} يقيمونها عند الحُكّام بالعدل ، بلا ميل إلى قريب وشريف ، ولا ترجيح للقوي على الضعيف ، وإظهار للصلابة في الدين ، وإحياء لحقوق المسلمين ، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الأمانات ؛ لإبانة فضلها.
(8/205)
{والذين هم على صلاتهم يُحافظون} ؛ يُراعون شرائطها ، ويُكملون فرائضها وسننها ومستحباتها ، وكرر ذكرها لبيان أنها أهمّ ، أو : لأن إحداهما للفرائض ، والأخرى للنوافل. وقيل : الدوام عليها : الاستكثار مِن تكررها ، والمحافظة عليها : ألاّ تضيع عن أوقاتها ، أو : الدوام عليها : أداؤها في أوقاتها ، والمحافظة عليها : إتقانها وحفظ القلب في حضورها ، أو : المراد بالأولى : صلاة القلوب ، وهي دوام الحضور مع الحق ، وبالثانية : صلاة الجوارح. وتكرير الموصولات تنزيلٌ لاختلاف الصفات منزلةَ اختلاف الذوات ، إيذاناً بأن كل واحد من الصفات المذكورة نعت جليل على حِياله له شأن خطير ، حقيق بان يفرد له موصوف مستقل ، ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 137
أولئك} أي : أصحاب هذه الصفات الجليلة. وما فيه من معنى البُعد مع قُرب العهد بالمُشار إليه للإيذان بعلو شأنهم وبُعد منزلتهم في الفضل ، {في جناتٍ مُكرَمون} أي : مستقرُّون في جناتٍ لا يُقادَر قدرها ، ولا يدرك كنهها ، معظَّمون فيها ، منعَّمون ، وهما خبران للإشارة ، أو : : في جنات " متعلق بمكرَمون.
(8/206)
الإشارة : طبعُ الإنسان من حيث هو : الجزع والهَلع ، لخراب الباطن من النور ، إلاّ أهل التوجه ، وهم مَن مَنَّ اللهُ عليهم بصُحبة أهل الغنى بالله ، وهم الذين ذّكَرَ اللهُ بقوله : {على صلاتهم دائمون} أي : صلاة القلوب ، وهي دوام الحضور مع الحق ، باستغراق أفكارهم في أسرار التوحيد ، وهو مقام الفناء في الذات ، فهم الذين تطهَّروا من الهلع لِما باشر قلوبَهم من صفاء اليقين ، فمَن لم يبلغ هذا لا ينفك طبعه عن الهلع والطمع ، ولو بلغ ما بلغ. قيل لبعضهم : هل للقلوب صلاة ؟ قال : نعم إذا سجد لا يرفع رأسه أبداً. هـ. أي : إذا واجهته أنوارُ المواجهة خضع لها على الدوام ، {والذين في أموالهم} أي : فيما منحهم اللهُ من العلوم والأسرار ، حق معلوم للسائل ، وهو طالب الوصول ، والمحروم ، وهو طالب التبرُّك ، لكثرة علائقه ، أو : لضعف همته ، أو : للسائل ، وهو مَن دخل تحت تصرفهم ، والمحروم : مَن لم يدخل في تربيتهم ، فله حق ، بإرشاده إلى ما يصلحه مما يقدر عليه وينفعه. والذين يُصدِّقون بيوم الدين ، فيجعلونه نُصب أعينهم ، فيجتهدون في الاستعداد له.
139
(8/207)
{والذين هم من عذاب ربهم} وهو عذاب القطيعة {مُشفقون إنّ عذاب ربهم غير مأمون} ولو بلغ العبد من التمكين ما بلغ ؛ لأنَّ الله مُقَلِّب القلوب ولا يأمن مكرَ الله إلاَّ القوم الخاسرون. {والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} فإنهم ينزلون إلى القيام بحقهن بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، فمَن ابتغى وراء ذلك ؛ بأن قصد شهوة المتعة ، فأولئك هم العادون ، تجب عليهم التوبة ، والذين هم لأماناتهم ، وهي أنفاس عمرهم ، وساعات أوقاتهم ، أو : الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال ، {وعهدهم} الذي أخذ عليهم في عالم الذر ، وهو الإقرار بالربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، {راعون} ، فهم يراعون أنفاسهم وساعاتِهم ، ويُحافظون عليها من التضييع ، ويُراعون عهودَهم السابقة واللاحقة ، أي مع الله ، ومع عباده ، فيُوفون بها ما استطاعوا ، والمراد نية الوفاء ، لا الوفاء بالفعل ، فمَن عقد عهداً ونيته الوفاء ، ثم منعته الأقدار ، فهو وافٍ به. والذين هم بشهادتهم لأنوار الربوبية قائمون بالأدب معها. والذين هم على صلاتهم الواجبة يحافظون ، شكراً وأدباً. أولئك في جنات المعارف ، مُكرَمون في الدنيا والآخرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 137
(8/208)
يقول الحق جلّ جلاله : {فَمَالِ الذين كفروا} ، وكُتب مفصولاً اتباعاً للمصحف ، أي : أيُّ شيء حصل لهم حتى كانوا {قِبلك} أي : حولَك {مُهطِعينَ} مُسرعين ، مادّين أعناقهم إليك ، مقبلين بأبصارهم عليك ، {عن اليمين وعن الشمال} أي : عن يمينك وشمالك {عِزينَ} ؛ متفرقين فرقاً شتّى. جمع : عِزَة ، وأصلها : عِزوة ، من العزو ، فعُوِّضت التاء من الواو ، كأنّ كل فرقة تُعزى إلى غير مَن تُعزى إليه الأخرى. والعزة : الفرقة القليلة ، ثلاثة أو أربعة. كان المشركون إذا رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة يقومون من مجالسهم مسرعين إليه ، ويُحلِّقون حوله حِلقاً حِلقاً ، وفِرقاً فِرقاً ، يستمعون ويستهزئون بكلامه صلى الله عليه وسلم ويقولون : شاعر ، كاهن ، مفتر ، ثم يقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد ، فلندخلنها قبلهم ، فنزلت : {أيَطْمَعُ كلُّ امرىءٍ منهم أن يُدخَلَ جنةَ نعيم} بلا أيمان.
140
(8/209)
{كلاَّ} ، ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ ، وهو دخولهم الجنة بلا إيمان {إِنَّا خلقناهم مما يعلمون} ، تعليل للردع ، أي : إنَّا خلقناهم من نطفةٍ مَذِرة ، فلا يستأهل الكرامة إلاَّ مَن تحلّى بالإيمان والطاعة ، وكسا لوث بشريته بنور إيمانه ، وحلّها بالتقوى ، التي بها العز والشرف والارتفاع في أوج القُربى والكرامة التي محلها الجنة ، إنما تكون بمخالفة الطبيعة ، وغلبة الروح على الطينة الأرضية ، والفرض لعدم ذلك منهم ، فلا يطمعون في كرامات الروحانية ، مع تمحُّض الطينة الجسمانية ، فإنه محال بمقتضى الحكمة. قال أبو السعود : وقيل معناه : إنّا خلقناهم من نطفة مذرة ، فمن أين يتشرّفون ويدّعون التقدُّم ، ويقولون : لَندخلن الجنةّ قبلهم ؟ والفرض أنهم مخلوقون من نطفة قذرة ، لا تُناسب عالم القدس ، فمَن لم يستكمل الإيمان والطاعة ، ولم يتخلّق بأخلاق الملائكة ، لم يتأهّل لدخولها. ثم قال : ولا يخفى ما في الكل من التمحُّل ، والأقرب : أنه كلام مستأنف ، سيق تمهيداً لِما بعده مِن بيان قدرته تعالى ، على أن يهلكهم ، لكفرهم بالبعث والجزاء ، واستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما نزل عليه من الوحي ، وادعائهم دخول الجنة بطريقة السخرية ، وينشىء بدلهم قوماً آخرين ، فإنَّ قدرته على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بيِّنة على قدرته تعالى على ذلك ، كما يُفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى : {فلا أُقسم بربِّ المشارِق والمغاربِ} ، والمعنى : إذا كان الأمر كما ذكرنا من أنّا خلقناهم مما يعلمون فأُقسم برب المشارق والمغارب {إِنَّا لقادِرون على أن نُبدِّل خيراً منهم} أي : نُهلكهم بالمرة ، حسبما تقتضيه جنايتهم ، ونأتي بدلهم بخلقٍ آخرين ليسوا على صفتهم. هـ. {وما نحن بمسبوقين} ؛ بعاجزين ، أو بمغلوبين إن أردنا ذلك ، لكن مشيئتَنا المبنية على الحِكمة البالغة اقتضت تأخير عقوبتهم.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 140
(8/210)
فَذَرْهم} ؛ فدع المكذِّبين {يخوضوا} في باطلهم ، التي من جملتها ما حكي عنهم ، {ويلعبوا} في دنياهم {حتى يُلاقوا يومَهم الذي يوعدون} ، وهو يوم البعث عند النفخة الثانية ، يدل عليه قوله تعالى : {يوم يَخرجون من الأجدَاثِ} ؛ القبور {سِراعاً} ؛ جمع سريع ، وهو حال من ضمير " يَخرجون " أي : مسرعين إلى الداعي {كأنهم إِلى نُصُبٍ} ، وهو كل ما نُصب وعُبد من دون الله ، وفيه السكون والفتح. {يُوفضون} ؛ يُسرعون ، {خاشعةً أبصارُهم} ، ذليلة ، لا يرفعونها خوفاً وذِلة ، {ترهقهم ذِلةٌ} : يغشاهم هوان شديد ، {ذلك} أي : الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة هو {اليومُ الذي كانوا يُوعَدون} في الدنيا ، وهم يكذّبون به.
الإشارة : فما لأهل الإنكار والغفلة قِبَلك أيها الداعي مسرعين ، يُحبون الخصوصية بلا مجاهدة ، أيطمع كل امرىءٍ منهم أن يُدخل جنةَ نعيم الأرواح ، وهي جنة المعارف ، كلاً ، إنّا خلقناهم مما يعلمون من الطينة الأرضية ، فلا يطمع أحدٌ في الخصوصية ، حتى تستولي روحانيتُه على بشريته ، ومعناه على حسه ، وتخنس الطينية الطبيعية تحت أنوار
141
الحقيقة القدسية. قال الورتجبي : امتنَّ اللهُ على أوليائه الصادقين أنه يلبغهم إلى جواره ؛ لأنهم خُلقوا من تربة الجنة ، وخُلقت أرواحهم من نور الملكوت ، وإلى مواضعها ترجع ، وللقائه خَلَقَهم ، ومن نوره أوجدهم ، وإنَّ أهل الخذلان خُلقوا من عالم الشهواني والشيطاني ، ومنبعُهما النار ، فيدخلون مواضعهم ؛ لأنهم ليسوا من أهل جواره ، ونحن لا ننظر إلى ما خلقنا منه من النطفة والطين ، ولا نعتبر بهما ، نحن نعتبر بالاصطفائية والخاصية في المعرفة ، فإنَّ بهما نصل إلى جوار الله تعالى. هـ.
(8/211)
قلت : والتحقيق أنّ البشرية كلها من الطين ، والروح كلها من النور الملكوتي ، فمَن غلب منهما فالحُكم له ، فإنْ غلبت الروحُ تنوّرت البشرية بأنوار الهداية ، وأشرق الباطن بأسرار المعارف ، وإن غلبت البشرية تظلّمت الروح ، فتارة يبقى لها شعاع الإيمان ، وهو مقام أهل اليمين ، وتارة ينطمس عنها ، وهو مقام الكفر ، والعياذ بالله. وقوله : لأنهم خُلقوا من تربة الجنة ، أي : من التربة التي رش عليها من ماء الجنة ، حتى أضيفت إليها ، وقد تقدّم عن القشيري. والله تعالى أعلم. ثم أقسم تعالى على أنه قادر على تبديل الأشباح فيبدل الخبيث إلى الطيب ، وبالعكس ، على حسب مشيئته ، ثم قال : فذر أهل الغفلة يخوضوا في بواطنهم مع الخواطر ، ويلعبوا في ظواهرهم في أمور دنياهم ، حتى يُلاقوا ما يُوعدون ، فيقع الندم حيث لا ينفع. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد ، وآله.
142
جزء : 8 رقم الصفحة : 140(8/212)
سورة نوح
جزء : 8 رقم الصفحة : 142
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّا أرسلنا نوحاً} وهو أول أُلي العزم. قيل : معناه بالسريانية : الساكن ، وقيل : سمي له لكثرة نوحه شوقاً إلى ربه ، {أنْ أَنْذِر قَوْمَكَ} أي : بأن أنذر ، فحذف الجار وأوصل الفعل ، ومحله عند الخليل : الجر : وعند غيره : نصب ، أو : " أنْ " مفسرة ؛ لأنَّ الإرسال فيه معنى القول ، فلا يكون للجملة محل ، وقُرىء : " أنذر " بغير " أنْ " ، أي : خوّف قومك {مِن قبل أن يأتيهم عذابٌ أليم} ؛ عذاب الآخرة ، أو الطوفان ، لئلا يبقى لهم عذر أصلاً.
{قال يا قوم} ، أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة {إِني لكم نذير مبينٌ} ؛ مُنذِر موضّح لحقيقة الأمر ، أُبين لكم رسالة ربي بِلُغةٍ تعرفونها ، {أنِ اعبدُوا اللهَ} أي : وحّدوه ، و " أنْ " هذه نحو " أن أنذر " على الوجهين ، {واتقوه} ؛ واحذروا عصيانه ، {وأطيعونِ} فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، وإنما أضافه إلى نفسه ؛ لأنَّ الطاعة تكون لغير الله بخلاف العبادة ، وطاعته هي طاعة الله.
{يغفرْ لكم من ذنوبكم} أي : بعض ذنوبكم ، وهو ما سلف في الجاهلية ، فإنَّ الإسلام يَجُبُّه ، إلاّ حقوق العباد ؛ فإنه يؤديها ، وقيل : " مَن " لبيان الجنس ، كقوله : {فَاجْتَنِبُواْ الرِجْسَ مَنَ الأَوْثَآنِ} [الحج : 30]. قال ابن عطية : وكونها للتبعيض أبين ؛ لكونه لو قال : يغفر لكم ذنوبكم ؛ لعَمّ هذا اللفظ ما تقدّم به من الذنوب وما تأخر عن إيمانهم ، والإسلام إنما يَجُب ما قبله. هـ. قال القشيري : ولأنه لو أخبرهم بغفران ما تقدّم وما تأخّر لكان إغراءً لهم ، وذلك لا يجوز. هـ. {ويُؤخِّرْكُم إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى} وهو وقت
143
موتكم ، فتموتون عند انقضاء آجالكم الذي تعرفونه من غير غرق ولا هلاك استئصال ، فإن لم تؤمنوا عاجَلَكم بالعذاب ، فيكون هو آجالكم ، ولمّا كان ربما يتوهم أنَّ الأجل قد يتقدّم ، رَفَعَه بقوله : {إنَّ أَجَلَ اللهِ} وهو الموت عند تمام الأجل {إِذا جاء لا يُؤخَّرُ لو كنتم تعلمون} أي : لو كنتم تعلمون لسارعتم إلى الإيمان قبل مجيئه ، فلا حُجة فيه للمعتزلة. وانظر ابن جزي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 143(8/213)
الإشارة : قال القشيري : إنَّا أرسلنا الروح إلى قومه ، وهم : النفس والهوى وصفاتهم الظلمانية الطبيعية ؛ أن أنذرهم عن المخالفة الشرعية ، مِن قبل أن يأتيهم عذاب القطيعة ، قال : يا قوم إني لكم نذير بيِّن الإنذار ، أن اعبُدوا الله ، بأن تُحبوه وحده ، ولا تُحبُّوا معه غيره ، من الدنيا ، وشهواتها وزخارفها ، واتقوا بأن لا تروا معه سواه ، وأطيعوني في أقوالي وأفعالي وأخلاقي وصفاتي ، يغفر لكم ذنوب وجودكم ، فيُغطيه بنور وجوده ، ويُؤخركم إلى أجلٍ مسمى ، بتسْمية الأزل ، إنَّ أجل الله بالموت الحسي والمعنوي ، لا يُؤخَّر ، لو كنتم تعلمون ، لكن انهماككم في حب الدنيا بعّد عنكم الأجل. هـ. بالمعنى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 143
يقول الحق جلّ جلاله : {قال} نوح شاكياً إلى الله تعالى : {رَبِّ إِني دعوتُ قومي} إلى الإيمان والطاعة {ليلاً ونهاراً} دائماً بلا فتور ولا توان ، {فلم يَزِدْهُم دعائي إِلاَّ فِراراً} مما دعوتهم إليه ، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده ، وإن لم يكن في الحقيقة سبباً للفرار ، وهو كقوله : {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} [التوبة : 125] ، والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس ، لكن لمّا حصل عنده نُسب إليه ، وكان الرجل منهم يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام ويقول له : احذر هذا ، فلا يعرنّك ، فإنّ أبي قد أوصاني بهذا. هـ.
{وإِني كلما دعوتُهم} إلى الإيمان بك {لتغفرَ لهم} أي : ليؤمنوا فتغفر لهم ، فاكتفى بذكر المسبَّب ، {جعلوا أصابعَهم في آذانهم} أي : سدُّوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي ، {واستَغْشوا ثيابَهُم} أي : وتغطُّوا بثيابهم لئلا يُبصروني ، كراهة النظر إلى وجه مَن
144
ينصحهم في دين الله ، {وأصَرُّوا} ؛ أقاموا على كفرهم {واسْتَكْبَروا استكباراً} أي : تعاظموا عن إجابتي تعاظماً كبيراً. وذِكْرُ المصدر دليل على فرط استكبارهم.
(8/214)
{ثم إِني دَعَوتهم جِهاراً} أي : مجاهراً ، فيكون حالاً ، أو : مصدر " دعوت " ، كقعد القرفصاء ؛ لأنّ الجهار أحد نوعَي الدعاء. يعني : أظهرت الدعوة في المحافل والمجالس. {ثم إِني أعلنتُ لهم وأَسررتُ لهم إِسراراً} أي : جَمَعْتُ لهم بين دعاء العلانية والسر ، فكنتُ أدعو كل مَن لقيت ، فرداً وجماعة. والحاصل : أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر ، ثم دعاهم جِهاراً ، ثم دعاهم في السر والعلن ، وهكذا يفعل المذكِّر في الأمر بالمعروف ، يبتدىء بالأهون فالأشد ، افتتح بالمناصحة بالسر ، فلما لم يُطيعوا ثنّى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان. و " ثم " تدل على تباعد الأحوال ؛ لأنَّ الجِهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 144
(8/215)
فقلتُ استغفِروا ربكم} بالتوبة من الكفر والمعاصي ، فالاستغفار : طلب المغفرة ، فإن كان المستغفِر كافراً فهو من الكفر ، وإن كان مؤمناً فهو من الذنوب ، {إِنه كان غفَّاراً} لم يزل غَفَّار الذنوب لمَن يُنيب إليه ، {يُرسل السماءَ} بالمطر {عليكم مِذراراً} ؛ كثير الدُّرور ، أي : البروز ، و " مِفعال " يستوي فيه المذكر والمؤنث ، {ويُمددكم بأموال وبنينَ} أي : يزدكم أمولاً وبنين على ما عندكم ، {ويجعل لكم جنات} ؛ بساتين {ويجعل لكم أنهاراً} جارية لمزارعكم وبساتينكم. وكانوا يُحبون الأموال والأولاد ، فحرّكوا بهذا على الإيمان ، وقيل : لمّا كذّبوه بعد طول تكرار الدعوة حبس الله عنهم القطر ، وأعقم نساءهم أربعين سنة ، أو سبعين ، فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخِصب ، ورفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضي الله عنه : أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار ، فمُطر ، فقيل له : ما رأيناك استسقيت ؟ فقال : لقد استقيت بمجاديح السماء التي لا تخطىء ، ثم قرأ الآية. وفي القاموس : ومجاديح السماء : أنواؤها. هـ. وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة ، فقال له : استغفِر الله ، وشكى إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة غلة أرضه ، فأمرهم كلّهم بالاستغفار ، فقيل له في ذلك ، فقال : ما قلت من عندي شيئاً ، ثم تلا الآية.
(8/216)
{ما لكم لا ترجون لله وَقَاراً} أي : لا تخافون لله عظمةً. قال الأخفش : الرجاء هنا : الخوف ؛ لأنّ مع الرجاء طرفاً من الخوف واليأس. والوقار : العظمة. وقال أبو السعود : الرجاء هنا بمعنى الاعتقاد. وجملة (ترجون) : حال من ضمير المخاطبين ، و " لله " متعلق بمضمر ، حال من (وقارا) ، ولو تأخر لكان صفة له ، أي : أيُّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة للتعظيم بالإيمان والطاعة. هـ. أو : لا تأملون له توقيراً ، أي : تعظيماً ، والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيه تعظيم الله إياكم في دار الثواب ، {وقد خَلَقَكم أطواراً} في موضع الحال ، أي : ما لكم لا تؤمنون بالله ، والحال أنكم على حال منافية لِما أنتم عليه بالكلية ، وهي أنكم تعلمون أنه
145
خلقكم أطواراً ، أي : أحوالاً مختلفة ، خَلَقَكم أولاً نُطفاً ، ثم خلقكم علقاً ، ثم مُضغاً ، ثم عظاماً ولحماً ، ثم إنساناً ، ثم خلقاً آخر ، وبعد ظهوره إلى هذا العالم يكون شباباً ، ثم كهلاً ، ثم شيخاً ، بالتقصير في توقير مَن هذه شؤونه من القدرة القاهرة والإحسان التام ، مع العلم بها ، مما لا يكاد يصدر عن العاقل. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 144
(8/217)
الإشارة : ينبغي للداعي أن يكون على قدم أولي العزم ، لا يمل من التذكير والدعاء إلى الله ، ويكرر ذلك ليلاً ونهاراًن ولو قُوبل بالرد والإنكار ، فلأن يهدي الله به رجلاً واحداً خير له مما طلعت عليه الشمس. وقوله تعالى : {وأصَرُّوا واستكبروا} ، قال القشيري : ويقال : لَمَّا دام إصرارهُم تَولَّدَ منه استكبارُهم ، قال تعالى : {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد : 16]. وقال الورتجبي : مَن أصرَّ على المعصية أورثه التمادي على الضلالة ، حتى يرى قبيح أفعاله مستحسناً ، فإذا رآه مستحسناً يستكبر ، ويعلو على أولياء الله ، ولا يقبل بعد ذلك نصحتهم. قال سهل : الإصرار على الذنب يورث الاستكبار ، والاستكبار يورث الجهل ، والجهل يورث التخطي في الباطل ، وذلك يورث قساوة القلب ، وهي تورث النفاق ، والنفاق يورث الكفر. هـ.
وقوله تعالى : {استغفِروا ربكم} قال القشيري : ليعلم العاملون أنَّ الاستغفار قَرْعُ أبوابِ النعمة ، ومَن وقعت له إلى الله حاجة فلا يَصِل إلى مرادِه إلاّ بتقديم الاستغفار. ويقال : مَن أراد التفضُّل فعليه بالعُذْر والتنصُّل. هـ. وقوله : {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} أي : ما لكم لا تعتقدون لله تعظيماً وإجلالاً ، فلا تراقبونه ، ولا تخافون سطوته ، فإنَّ المشاهدة على قدر المراقبة ، فمَن لم يُحْكِم أمر المراقبة لم يظفر بغاية المشاهدة. وقد خلقكم أطواراً ، أي : درّج بشريتكم في أطوار مُختلفة ، وهي سبعة : النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة ، ثم الجنين ، ثم الطفولية ، ثم الكهولة ، ثم الشيخوخة ، ثم يرتحل إلى دار الدوام ، وكذلك الروح لها سبعة أطوار : التوبة ثم الورع ، ثم الزهد ، ثم التوكُّل ، ثم الرضاء والتسليم ، ثم المراقبة ، ثم المشاهدة. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 144
(8/218)
يقول الحق جلّ جلاله : {ألم تَرَوْا كيف خلق اللهُ سبعَ سمواتٍ طباقاً} أي : متطابقة بعضها فوق بعض ، والرؤية هنا علمية ؛ إذ لا يُرى بالبصر إلاَّ واحدة ، وعُلِّقت بالاستفهام ، وعلمهم بذلك من جهة الوحي السابق ، أو كانوا منجّمين ، {وجعلَ القمرَ فيهن نوراً} أي :
146
يُنور وجه الأرض في ظلمة الليل ، ونسبتُه إلى الكل مع أنه في سماء الدنيا ؛ لأنَّ بين السموات ملابسة ، من حيث إنها طباق ، فجاز أن يقال : فيهن ، وإن لم يكن في جميعهن ، كما يُقال : في المدينة كذا ، وهو في بعض جوانبها. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم : إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات ، وظهورهما مما يلي الأرض. فيكون نور القمر سارياً في جميع السموات ؛ لأنها لطيفة لاتحجب نوره. {وجعل الشمسَ سِراجاً} ؛ مصباحاً يزيل ظلمة الليل ، ويُبصر أهلُ الدنيا في ضوئها وجه الأرض ، ويُشاهدون الآفاق ، كما يُبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره ، وليس القمر بهذه المثابة ، إنما هو نور في الجملة ، فنور الشمس أقوى ، ومنه يستمد نور القمر ، وأجمعوا أنَّ الشمس في السماء الرابعة.
{واللهُ أنبتكم من الأرض نباتاً} أي : أنشأكم منها ، فاستغير الإنبات للإنشاء ؛ لكونه أدل على الحدوث والتكوُّن من الأرض. و " نباتاً " إمّا مصدر مؤكد لأنبتكم ، بحذف الزوائد ، ويسمى اسم مصدر ، وحكمة إجراء اللفظ فيه على غير فعله : التنبيه على تحتُّم القدرة وسرعة نفوذ حكمها ، حتى كأنَّ إنبات الله تعالى نفس النبات ، فقرَن أحدهما بالآخر ، ونحوه قوله تعالى : {أّنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ} [الأعراف : 16] أي : فضرب فانبجست ، فجعل الانبجاس مسبباً عن الايحاء ، للدلالة على سرعة نفوذ حكم القدرة ، أو : لفعل مترتب عليه ، أي : أَنبتكم فنبتم نباتاً ، {ثُم يُعيدكم فيها} بعد الموت {ويُخرجكم} يوم القيامة بالبعث والحشر {إِخراجاً} محققاً لا ريب فيه ، ولذا أكّده بالمصدر.
(8/219)
{واللهُ جعل لكم الأرضَ بِساطاً} تتقلبون عليها تقلُّبكم على بُسُطكم في بيوتكم. قال ابن عطية : وظاهر الآية أنَّ الأرض بسيطة غير كُروية ، واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في الشرع ، إلاّ أن يترتب على القول بالكوريّة قول فاسدٌ ، وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر في كتاب الله ، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتةَ ، واستدل ابن مجاهد على ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور ، قال : لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها. هـ. المحشيّ الفاسي : وهو بعيد ؛ لأنَّ أهل الهيئة يرون أنها مستقرة فيه ـ اي : في البحر ـ لا العكس ، ولذلك أُرسيت بالجبال لتستقر ، كما عُلم من الشرع. هـ. قلت : وإنما حَكَمَ الحقُّ تعالى ببساطتها باعتبار ما يظهر للعين في ظاهر الأمر. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 146
وتوسيط (لكم) بين الجعل ومفعوليه ، مع أنَّ حقه التأخير ، للاهتمام بشأن كون المجعول من منافعهم ، وللتشويق إلى المؤخّر ، فإنَّ النفس عند تأخُّر ما حقه التقديم تبقى متشوقة مترقبة ، فيتمكن عند ورودها له فضل تمكُّن ، أي : بسطها لكم في مرأى العين {لتسلكوا منها سُبلاً فِجاجاً} أي : طُرقاً واسعة ، جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، وقيل : هو المسلك بين الجبلين ، و " منها " متعلق بـ " تسلُكوا " لِما فيه من معنى الاتخاذ ، أو :
147
بمضمر هو حال من " سُبلاً " أي : كائنة منها ، ولو تأخر لكان صفة لهما. الإشارة : تقدّم تفسير سبع سموات الأرواح ، والقمر قمر التوحيد البرهاني ، والشمس : شمس المعرفة ، والله أنبت بشريتكم من الأرض نباتاً ، ثم يُعيدكم فيها بالبقاء بعد الفناء ؛ لتقوموا برسم العبودية ، ثم يُخرجكم منها إلى صعود عرش الحضرة ، والله جعل لكم أرض العبودية بِساطاً ؛ لتسلكوا منها إلى الله في طرق واسعة ، قررها أئمة الطريق من الكتاب والسنّة وإلهام العارفين ومواجيد العاشقين. وبالله التوفيق.
(8/220)
جزء : 8 رقم الصفحة : 146
يقول الحق جلّ جلاله : {قال نوحٌ ربِّ} أي : يارب {إِنهم عَصَوْنِي} أي : داموا على عصياني فيما أمرتهم ، مع ما بلغت في إرشادهم بالعظة والتذكير ، ولمّا كان عصيانهم مستبعداً لكونه منكراً فظيعاً ؛ لأنَّ طاعة الرسول واجبة ، فأصرُّوا على عصيانه ، وعاملوه بأقبح الأحوال والأفعال ، أكّد الجملة بإنَّ ، {واتَّبعوا} أي : اتبع فقراؤهم {مَن لم يزده مالُه وولدُه إِلاَّ خساراً} ، وهم رؤساؤهم ، أي : استمروا على اتباع رؤسائهم ، الذين أبطرتهم أموالُهم ، وغرّتهم أولادُهم ، وصار ذلك سبباً لزيادة خسارهم في الآخرة ، فصاروا أسوة لهم في الخسران. وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم إنما ابتعوهم لوجَاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد ، لِما شاهدوا فيهم من شبهة مصحِّحة للاتباع في الجملة. ومَن قرأ بسكون اللام فجمع ولد ، كأسَد ، وأُسْد.
{ومَكَروا} : عطف على صلة " مَنْ " ، والجمع باعتبار معناه ، كما أنَّ الإفراد في الضمائر الأُوَل باعتبار لفظها ، والماكرون هم الرؤساء ، ومكرهم : احتيالهم في الدين ، وكيدهم لنوح ، وتحريش الناس على أذاه ، وصد الناس عن الميل إليه ، {مكراً كُبّاراً} ؛ عظيماً في الغاية ، وهو أكبر من " الكُبَار " بالتخفيف ، وقُرىء به ، والكُبَّار : أكبر من الكبير ، وقُرىء شاذًّا بالكسر جمع كبير. {وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتكم} أي : لا تتركوا عبادتها على العموم إلى عبادة رب نوح ، {ولا تَذَرُنَّ وَدًّا} بفتح الواو ، وضمها لغتان : صنم على صورة رجل ، {ولا سُوَاعاً} ؛ صنم على صورة امرأة ، {ولا يَغُوثَ} ؛ صنم على صورة أسد ،
148
(8/221)
{وَيَعُوقَ} ؛ صنم على صورة فرس ، وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين ، والتعريف والعُجمة إن كانا عجميين ، {ونَسْراً} ؛ صنم على صورة النسر ، وخصُّوا بالذكر مع اندراجهم فيما سبق ؛ لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ، وقد انتقلت هذه الأصنام عنهم إلى العرب ، فكان وَدّ لكلب ، وسُواع لهمدان ، ويغوث لمَذْحِج ، ويَعُوق لمُراد ، ونَسْر لحمير. وقيل : هي أسماء رجال صالحين ، كان الناس يقتدون بهم ، بين آدم ونوح عليهما السلام ، وقيل : أولاد آدم ، فلما ماتوا ، قال إبليس لمَن بعدهم : لو صوّرتم صورهم ، فكنتم تنظرون إليهم ، وتتبرّكون بهم ، ففعلوا ، فلمّا مات أولئك ، قال لمَن بعدهم : إنهم كانوا يعبدونهم ، فعبدوهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/222)
وقال ابن عباس رضي الله عنه : أول ما عُبِدَ من الأصنام في زمن مَهْلائِل بن غَيْنَان بن أنوش بن شيت بن آدم عليه السلام ، وذلك لمّا مات آدم جعله بنو شيت في مغارة بأرض الهند ، في جبل سرنديب ، لموضع يسمى نوره ، وهو أخصب جبل في الأرض ، ثم كانوا يزورونه ، ويترحّمون عليه ، ويُعطمونه ، فلما قَتَل قابيلُ أخاه هابيل نفوه من الأرض ، فكان بمعزل عنهم هو وبنوه ، فجاء الشيطانُ في صورة رجل ناصح ، فقال لهم : إنَّ بني شيت يتبرّكون بآدم ، وأنتم لا تلحقونه ، فانحتوا صورته ، وتبرَّكوا بها ، ففعلوا ، ثم كان لشيت ولد صالح ، اسمه يغوث ، فتُوفي ، فكانوا يتبرّكون بقبره ، فنحتَ أولادُ قابيل على صورة يغوث صورة أخرى ، ثم يعوق ، ثم ود ، ثم سواع ، ثم نسر ، كلهم من أولاد شيت قوم صالحون ، كانوا يتبرّكون بهم في المحْيا والممات ، ولم يكن لأولاد قابيل سبيل إليهم ، فنحتوا صورهم ، وصاروا يُعظِّمونها ، ويتبرّكون بها مثلهم ، فلما طال بهم الزمان صاروا يعبدونهم دون الله ، إلى أن بعث الله نوح عليه السلام فنهاهم عنها ، فلم ينتهوا ، فلما أهلك الله الأرض ومَن عليها بالطوفان ، قذف الطوفانُ تلك الأصنام إلى أرض جُدة وما والاها من مكة ، وأخفتها الرمال هناك. قال الكلبي : وكان عَمرو بن لُحي كاهناً ، يُكنّى أبا تمامة ، وكان يتراءى له الجن ، فتراءى له يوماً جنِّي ، وقال له : عَجِّل أبا تمامة بالسعد والسلامة إلى صف جدة ، واستخرج ما فيها من الأصنام ، وأوردها ماء تهامة ، ولا تسأم ولا تهب ، وادْع العرب إلى عبادتها تُجَب ، فأتى عمرُو بن لُحي ساحلَ جدة ، حيث وصف له الجني ، واستخرج الأصنام في خِفية عنهم ، وأرودها ماء تهامة ، فلما حضر الحج ، واجتمع الناس إلى الموسم ، دعا الناس إلى عبادتها ، فأجابته العرب قاطبة ، وأول مَ أجابته بنو عوف بن عُزرة ، فدفع لهم ودًّا ، فنصبوه بواد القرى بدومة الجندل ، ولم يزل عندهم إلى الإسلام ، فكسره خالد بن الوليد ، لَمَّا بعثه الرسولُ صلى الله عليه وسلم في غزوة(8/223)
تبوك لهدم دومة الجندل ، فحالت بينه وبينها العرب ، فقاتلهم وكسَّر صنمهم. قال : الكلبي : قلت لمالك بن الحارث : صف
149
لي ودًّا ، وكان قد رآها مراراً ، قال : تمثال رجل أعظم ما يكون من الرجال ، مؤتزر بحُلة ، مرتدٍ بأخرى ، مقلَّداً سيفاً ، راكباً فرساً ، وفي يده حربة فيها لواء ، ومعه قوس ، ونبل في جعبة. هـ. ثم دفع عمرو لمُضر سُواعاً ، فعكفت على عبادته مع هُذيل ، ثم فرّق تلك الأصنام على القبائل على حسب ما تقدّم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيتُ عمْرو بن لُحي ليلة أُسري بي رجلاً أحمر ، قصيراً أزرق ، وهو يَجُرُّ قُصْبَهُ في النار ، لأنه أول مَن بَحَّرَ البَحيرة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحام ، وغيّر دين إسماعيل " ، وهو من خزاعة ، كان يسكن مكة ، فولد بها أولاداً فكثروا ، فنفوا مَن كان منها من العماليق. انظر اللباب.
ثم قال تعالى : {وقدْ أَضلوا} أي : الرؤساء ، أو : الأصنام ، كقوله : {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم : 36] {كثيراً} أي : خلقاً كثيراً ، {ولا تزد الظالمين إِلاَّ ضلالاً} ، قال المحشي : وقد يقال : إن هذه الجملة مسببة عما قبلها فحقها الفاء ، لكن تُركت لمكان الاستئناف ، أي : البياني ، كأنه قال : فما تريد بهذا القول ؟ فقال : ولا تزد الظالمين. هـ. ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالظلم المفرط ، وتعليل الدعاء عليهم به. والمراد بالضلال : الهلاك ، كقوله : {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر : 47].
(8/224)
{مما خطيئاتِهم} أي : من أجل خطيئاتهم. " وما " مزيدة للتوكيد والتفخيم ، {أُغرقوا} بالطوفان. وتقديم " مما " لبيان أن إغراقهم ودخولهم النار ، إنما كان لأجل خطاياهم ، لا لسبب آخر ، {فأُدْخِلوا ناراً} عظيمة ، والمراد : إمّا عذاب القبر ؛ لأنه عقب الإغراق ، أو حين كانوا في الماء ، فقد رُوي أنهم كانوا يغرقون من جانب ، ويُحرقون من جانب. أو : عذاب جهنم ، والتعقيب لقربه باعتبار تحقُّق وقوعه. وتنكير " النار " إما لتعظيمها وتهويلها ، أو لأنه تعالى أعدّ لهم نوعاً من العذاب على حسب خطيئاته ، {فلم يجدوا لهم من دون اللهِ أنصاراً} ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله ، وفيه تعريض بعدم نفع آلهتهم ، وعدم قدرتهم على نصرهم. قيل : كان قوم نوح أهل وُسع في الزرق ، فطَغوا ، وكانوا يؤذون نوحاً ، ويحرشون عليه ويضربونه ، حتى ربما يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ". كما في الحديث.
{وقال نوحٌ رَبِّ لا تَذّرْ على الأرض من الكافرين ديَّاراً} أي : أحداً يدور في الأرض ، وهو " فَيْعَالٌ " من الدّورِ ، وهو من الأسماء المستعلمة في النفي العام ، يقالك ما بالديار ديَّار وديّور ، كقيّام وقيوم ، أي : أحد ، وأصله : دّيْوار ، ففعل به ما فعل بسَيِّد. {إِنك إِن تَذَرْهُم} ولا تهلكهم {يُضلُّوا عبادك} عن طريق الحق ، يدعوهم إلى الضلال ، {ولا يلدوا إِلاَّ فاجراً كفاراً} أي : إلاّ مَن إذا بلغ جحد وكفر ، وإنما قال ذلك ؛ لاستحكام علمه بما يكون منهم
150
ومن أعقابهم ، بعدما خبرهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنة ، أو : يكون بعد إخباره تعالى له بقوله : {أَنَّهُ لِن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ} [هود : 36].
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/225)
رَبِّ اغفر لي ولوالدي} وكانا مسلمَين ، واسم أبيه : لَمَك بن مُتَوشْلح ، واسم أمه : شمخاء بنت أنوش ، وقيل : المراد : آدم وحواء. قال ابن عباس : لم يكفر بنوح والد بينه وبين آدم عليه السلام ، وقُرىء : " ولولديّ " يريد ساماً وحاماً ، {ولِمَنْ دَخَلَ بيتي} أي : منزلي ، أو مسجدي ، أو سفينتي {مؤمناً} ، ولعله قد علم أنَّ مَن دخل بيته مؤمناً لا يعد إلى الكفر ، وبهذا القيد خرجت امرأته وابنه كنعان ، ولم يجزم عليه السلام بخروجه إلاَّ بعدما قيل له : {إِنَّهُ لِيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود : 46] ، {وللمؤمنين والمؤمنات} إلى يوم القيامة. خصَّ أولاً مَن يتصل به ؛ لأنهم أولى وأحق بدعائه ، ثم عمَّم ، {ولا تزد الظالمين} أي : الكافرين {إلاَّ تباراً} ؛ إهلاكاً. قال ابن عباس رضي الله عنه : دعا نوح عليه السلام بدعوتين ، إحداهما : للمؤمنين بالمغفرة ، وأخرى على الكفارين بالتبار ، فاستجيب على الكافرين ، فاستحال ألاَّ تُجاب دعوته في حق المؤمنين. واختلف في صبيانهم : هل أُغرقوا ؟ فقيل : أعقم اللهُ أرحامَ نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة ، فلم يكن منهم صبي حين أُغرقوا ، وقيل : أهلك أطفالهم بغير عذاب ، ثم أغرق كبارهم ، وقيل : غرقوا معهم كما غرق سائر الحيوانات ، وهو المشهور ؛ لأنّ المصيبة تعم ، ثم يُبعثون على نياتهم. والله تعالى أعلم.
(8/226)
الإشارة : وقال نوحُ الروح ، أي : شكت الروح إلى ربها ، وقالت : إنَّ النفس وجنودها عَصَوني ، واتبعوا حال المنهمكين في الدنيا ، الفانين في أموالهم وأولادهم ، فلم يزدهم ذلك إلاّ خساراً ، ومكروا بي ، حيث راموا مني الميل إليهم ، مكراً كُبَّاراً ، وقالوا : لا تَذَرُنَّ آلهتكم من الدنانير والدراهم ، ولا تَذَرُنَّ ود الدنيا ومحبتها ، ولا سُواع الهوى والحظوظ ، ولا يغوث الرياسة والجاه ، ولا يَعوق العلائق والشواغل ، ولا طيور الهواجس والخواطر ، يعني : لا تستعملوا ما يُخرجكم عن هذه الأشياء ، مِن خرق العوائد ، والزهد ، والورع ، بل أقيموا على تنمية دنياكم ، وتوفير هواكم ، وقد أضلُّوا كثيراً ممن يقتدي بهم. وقالت أيضاً : لا تزد الظالمين من هؤلاء إلاّ ضلالاً ؛ هلاكها وانقطاعاً. مما خطيئاتهم أُغرقوا في بحر الدنيا ، فأُدخلوا نار القطيعة ، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً ، وقال نوح الروح أيضاً : لا تَذرْ على أرض البشرية من الكافرين من القواطع التي تقطعني عن السير بظلمتها ديّاراً ممن يدور بها ، ويُقوي حسها ، إنك إن تذرهم يدورون بها ويقطعونها عن السير ، ويُضلوا عبادك عن الوصول إليك ، ولا يلدوا منها إلاَّ خاطراً فاجراً كفّاراً. رَبِّ اغفر لي ، خطابٌ من الروح ودعاء ، ولوالدي من العقل الكلي ، والنفس الكلي ، وهو الروح الأعظم ، ولِمن دخل بيتي ، أي : تمسّك بطريقتي ، ودخل في زمرتي ، ولأرواح المؤمنين والمؤمنات ، ولا تزد الظالين الخارجين عن طريقتي إلاَّ تباراً. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم.
151
جزء : 8 رقم الصفحة : 148(8/227)
سورة الجن
جزء : 8 رقم الصفحة : 151
قلت : قد أجمعوا على فتح ( أنه) ؛ لأنه نائب فاعل " أوحى " ، و {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ} [الجن : 16] و {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} [الجن : 18] للعطف على {أنه استمع} فـ " أن " مخففة ، و {أَن قَدْ أَبْلَغُواْ} [الجن : 28] لتعدّي " يعلم " إليها ، وكسر ما بعد فاء الجزاء ، وبعد القول ، نحو : {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن : 23] و {قالوا إنّا سمعنا} ؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول. واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من {أنه تعالى جَدٌ ربنا} إلى : {وأنَّا منا المسلمون} ، ففتحها الشامي والكوفيّ [غير] أبي بكر ؛ عطفاً على {أنه استمع} ، أو على محلّ الجار والمجرور في {آمنا به} تقديره : صدّقناه وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا {وأنه كان يقول سفيهنا...} إلى آخره ، وكسرها غيرُهم عطفاً على {إنّا سمعنا} ، وهم يقفون على آخر الآيات.
يقول الحق جلّ جلاله : {قل} يا محمد لأمتك : {أُوحي إِليَّ أنه استمع} أي : الأمر والشأن استمع للقرأن {نفر من الجن} ، وهم جن نصيبين ، كما تقدّم في
152
الأحقاف ، وكانوا متمسكين باليهودية. والنفر ما بين الثلاثة والعشرة. والجن عاقلة خفية ، يغلب عليهم الناري والهوائية ، وقيل : روح من الأرواح المجرّدة. وفيه دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر بهم وباستماعهم ، ولم يقرأ عليهم ، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته ، فسمعوها ، فأخبره الله تعالى بذلك ، فهذه غير الحكاية التي حضر معهم ، ودعاهم ، وقرأ عليهم سورة الرحمن ، كما في حديث ابن مسعود. {فقالوا} أي : المستمِعون حين رجعوا إلى قومهم : {إِنَّا سمعنا قرآناً} ؛ كتاباً {عجباً} ؛ بديعاً ، مبايناً لكلام الناس في حُسن النظم ورقّة المعنى. والعجب : ما يكون خارجاً عن العادة ، وهو مصدر وصف به للمبالغة.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 152(8/228)
يهدي إِلى الرُّشْد} ؛ إلى الحق والصواب ، {فآمنّا به} أي : بذلك القرآن ، ولمَّا كان الإيمان به إيماناً بالله وتوحيده ، وبراءةً من الشرك ، قالوا : {ولن نُشْرِكَ بربنا أحداً} من خلقه ، حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد ، ويجوز أن يكون الضمير في " به " لله تعالى ؛ لأنَّ قوله : (بربنا) يُفسّره.
{وأنه تعالى جَدُّ ربِّنا} أي : ارتفع أو تنَزّه عظمة ربنا ، أو سلطانه ، أو غناه ، يُقال : جَدّ فلان في عيني إذا عَظُم ، ومنه قول عمر : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ في عيننا ، أي : عظم في عيوننا ، {ما اتخذَ صاحبةً} ؛ زوجة {ولا ولداً} كما يقول كفار الجن والإنس ، والمعنى : وصفوه بالاستغناء عن الصاحبة والولد ؛ لعظمته وسلطانه ، أو لغناه ، وقُرىء " جَدًّا " على التمييز ، أي : أنه تعالى ربنا جَداً ، وقُرىء بكسر الجيم ، أي : تنزّه صِدق ربوبيته ، وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد ، وذلك أنهم لمَّا سمعوا القرآن ، واهتدوا للتوحيد والإيمان ، تنبّهوا للخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه تعالى بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد ، فاستعظموه ونزّهوه تعالى عنه. {وأنه كان يقول سفيهُنا} أي : جاهلنا من مردة الجن ، أو إبليس ؛ إذ ليس فوقه سفيه ، {على الله شططاً} أي : قولاً ذا شطط ، أي : بُعدٍ وجورٍ ، وهو الكفر ؛ لبُعده عن الصواب ، من : شطت الدار : بَعُدت ، أو : قولاً مجاوزاً للحدّ ، بعيداً عن القصد ، أو هو شطط في نفسه ؛ لفرط بُعده عن الحق ، وهو نسبة الصاحبة والولد لله تعالى. والشطط : مجاوزة الحدِّ في الظلم وغيره. {وأنَّا ظننا أن لن تقول الإِنسُ والجنُّ على الله كذباً} أي : قولاً كذباً أو مكذوباً فيه ، أي : كان في ظننا أنَّ أحداً لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد ، فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبيّن لنا بالقرآن كذبهم.
(8/229)
{وأنه كان رجالٌ من الإِنس يعوذون برجالٍ من الجن} ، كان الرجل من العرب إذا نزل بوادٍ قفرٍ وخافَ على نفسه ، يقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يريد
153
الجن وكبيرهم ، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا : سُدنا الإنس والجنّ ، وذلك قوله تعالى : {فزادوهم} ؛ زاد الإنسُ والجنَّ باستعاذتهم بهم {رَهَقاً} : طغياناً وسفهاً وتكبُّراً وعتواً ، أو : فزاد الجنُّ والإنسَ رهقاً : إثماً وغيًّا ؛ بأن أضلوهم ، حتى استعاذوا بهم. {وأنهم} أي : الجن {ظنوا كما ظننتم} يا أهل مكة {أن لن يبعثَ اللهُ أحداً} بعد الموت ، أي : إنَّ الجن كانوا يُنكرون البعث كإنكاركم يا معشر الكفرة ، ثم بسماع القرآن اهتدوا ، وأقرُّوا بالبعث ، فهلاّ أقررتم كما أقرُّوا ؟ ! أو : ظنوا ألن يبعث اللهُ رسولاً من الإنس. وبالله التوفيق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 152
(8/230)
الإشارة : كما كانت تسمع الجنُّ من الرسول صلى الله عليه وسلم وتأخذ عنه ، كذلك تسمع من خلفائه من الأولياء والعلماء الأتقياء ، فهي تحضر مجالسَ الذكر والتذكير والعلم ، على حسب ما يطلب كلُّ واحد منهم ، وقد حدثني بعضُ أصحابنا أنه بات في موضع خالٍ ، فأتاه رجلان من الجن وتحدّثا معه ، وأخبره أنهما من الجن نازلان مع قومهما في ذلك الموضع ، وقالا له : إنا لنحضر مجلس شيخكما ـ أي : مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ـ ونسمع منه. هـ. ففيهم الأولياء ، والعلماء ، والقُراء ، وسائر الطرائق ، كما يأتي في قوله : {طرائق قِدداً}. وقال الورتجبي : خلق اللهُ بعض أوليائه من الجن ، لهم أرواح ملكوتية ، وأجسام روحانية ، وهم إخواننا في المعرفة ، يُطيعون اللهَ ورسوله ، ويُحبون أولياءه ، ويستنُّون بسنّة نبينا صلى الله عليه وسلم ، ويسمعون القرآن ، ويفهمون معناه ، وبعضهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا كلام الحق منه شِفاهاً ، وخضعوا له إذعاناً ، واستبشروا برَوح الله ، ورَوح قضائه استبشاراً. هـ. قلتُ : ومعرفة الآدمي أكمل ؛ لاعتدال بشريته وروحانيته ، والجن الغالب عليه الانحراف للطافة بشريته واحتراقها.
وقوله تعالى : {يهدي إلى الرُشد} ، قال الجنيد : يهدي إلى الوصول إلى الله ، وهو الرشد. هـ. وقال الورتجبي : يهدي إلى معدن الرشد ، وهو الذات القديم. هـ. وقوله تعالى : {وأنه تعالى جَدُّ ربنا...} الخ ، أي : تنزهت عظمة ربنا الأزلية ، عن اتخاذ الصاحبة والولد ، إنما اتخاذ الصاحبة والولد من شأن عالم الحكمة ، ستراً لأسرار القدرة ، فافهم. وقال الجنيد : ارتفع شأنه عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً. هـ. والشطط الذي يقوله السفيه الجاهل هو وجود السوي مع الحق تعالى ، وهو أيضاً الكذب الذين ظنّت الجن أن لن يُقال على الله ، ولذلك قال الشاعر :
مُذْ عَرفْتُ الإِلَهَ لَمْ أَرَ غَيْراً
وكَذّا الْغَيْرُ عندنا مَمنوعُ
(8/231)
وقال بعض العارفين : لو كُلفت أن أشهد غيره لم أستطيع ، فإنه لا شيء معه حتى أشهده. هـ. وكل مَن استعاذ بغير الله فهو ضال مضل ، وكل مَن أنكر النشأة الأخرى فهو تالف ملحد.
154
جزء : 8 رقم الصفحة : 152
يقول الحق جلّ جلاله ، حاكياً عن الجن : {وأنَّا لمسنا السماءَ} أي : طلبنا بلوغ السماء ، واستماع كلام أهلها ، واللمس ، : المسُ ، استعير للطلب لأن الماسّ طالب متعرّف ، {فوجدناها مُلِئتْ حَرَساً} أي : حُراساً ، اسم جمع ، كخدم ، مفرد اللفظ ، ولذلك قيل : {شديداً} أي : قوياً ، أي : وجدنا جمعاً أقوياء من الملائكة يحرسونها ، {و} ملئت أيضاً {شُهباً} : جمع شهاب ، وهي الشعلة المقتبسة من نار الكواكب ، {وأنَّا كنا نقعُدُ منه} أي : من السماء ، قبل هذا الوقت ، {مقاعِدَ للسمعِ} ، لاستماع أخبار السماء ، يعني : كنَّا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشُهب قبل المبعث ، فنقعد نسترق ، وقد فسّر في الحديث صفة قعود الجن ، وأنهم كانوا واحداً فوق واحد ، فمتى احترق الأعلى طلع الذي تحته مكانه ، فكانوا يسترقون الكلمة ، فيُلقونها إلى الكُهان ، ويزيدون معها ، ثم يزيد الكُهانُ للكلمة مائة كذبة.
(8/232)
هذا قبل المبعث ، وأمّا بعده فأشار إليه بقوله : {فمَن يستمعِ} ؛ يريد الاستماع {الآنَ} بعد المبعث {يجدْ له شِهَاباً رصداً} أي : شهاباً راصداً له ولأجله ، يصده عن الاستماع ، أو هو اسم جمع لراصد ، على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشُهب ، ويمنعونهم من الاستماع ، والجمهور على أن ذلك لم يكون قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم ، وقيل : كان الرجم في الجاهلية ، ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأوقات ، فمُنعوا من الاستراق أصلاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. قلت : وهذا هو الظاهر ، وأنّ الرمي كان موجوداً قبل البعثة ، إلاَّ أنه قليل ، وأشعار الجاهلية محشوة بذلك. انظر الثعلبي. ورُوي في بعض الأخبار : أنّ إبليس كان يسترق السمع من السموات ، فلما وُلد عيسى عليه السلام وبُعث ، حُجبت الشياطين عن ثلاث سموات ، فلما وُلد محمد صلى الله عليه وسلم حُجبت عن السموات كلها ، وقُذفت بالنجوم ، هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 155
وذكر أبو جعفر العقيلي ، بإسناد له إلى لهب بن مالك ، قال : حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة ، فقلت : بأبي أنت وأمي ؛ نحن أول مَن عرف حراسة السماء ، ورصد الشياطين ، ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم ، وذلك أنا جئنا إلى كاهن لنا ، يُقال له " خطل " ، وكان شيخاً كبيراً ، قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سننة ، فقلنا : يا خطل ؛ هل عندك علم بهذا النجوم التي يُرمى بها ، فإنّا قد فزعنا منها ، وخفنا سوءَ عاقبتها ، فقال : ائتوني بسَحَر أُخبركم الخبر ، ألِخَيْر أم ضرر ، أم لأمن أو حذر ،
155
(8/233)
فأتيناه غداً عند السحَر ، فإذا هو قائم على قدميه ، شَاخص إلى السماء بعينيه ، فناديناه : يا خطل ، فأومأ إلينا : أن أمسكوا ، فأنقضّ نجم عظيم من السماء ، وصرخ الكاهن رافعاً صوته : أصابه إصابة ، خامره عقابه ، عاجله عذابه ، أحرقه شهابه ، ثم قال : يا معشر قحطان ، أخبركم بالحق والبيان ، أُقسم بالكعبة والأركان ، لمُنع السمع عُتَاةٌ الجان ، لِمولود عظيم الشأن ، يُبعث بالتنزيل والقرآن ، وبالهدى وفاصل الفرقان ، يَمنع من عبادة الأوثان. فقلنا : ما ترى لقومك ؟ فقال : أرى لقومي ما أرى لنفسي ، أن يتبعوا خير نبي الإنس ، برهانه مثل شعاع الشمس ، يُبعث من مكة دارَ الحُمْس ، يحكم بالتنزيل غير اللبس ، فقلنا : وممَّن هو ؟ فقال : والحياة والعيش ، إنه لمن قريش ، ما في حلمه طيش ، ولا في خَلقه هيش ، يكون في جيش ، وأيّ جيش!! فقلنا : بَيِّن لنا مِن أي قريش هو ؟ فقال : والبيت ذي الدعائم ، والديار والحمائم ، إنه لمن نجل هاشم ، من معشرٍ أكارم ، يُبعث بالملاحم ، وقتلِ كل ظالم ، هذا البيان ، أخبرني به رئيس الجان ، ثم قال : الله أكبر ، جاء الحق وظهر ، وانقطع عن الجن الخبر. هـ.
{وأنَّا لا ندري أَشَرٌّ أُريد بمَن في الأرض} بحراسة السماء ، {أم أراد بهم ربُّهم رشداً} ؛ خيراً ورحمة ، ونسبة الخير إلى الله تعالى دون الشر من الآداب الشريفة القرآنية ، كقوله تعالى : {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء : 80] وقوله : {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء : 79] بعد أن ذكر ما في نفس الأمر بقوله : {قُلْ كُلٌ مِنْ عِندِ اللهِ} [النساء : 78].
(8/234)
الإشارة : إذا كان اللهُ تعالى قد حفظ السماء من استراق السمع ، فقلوب أوليائه أولى بأن يحفظها من خواطر السوء ، فإذا تَوَلَّى عبداً حَفِظ قلبه من طوارق الشك ، وخواطر التدبير ، وسوء الأدب مع الربوبية ، فيملؤه باليقين والطمأنينة ، ويهبُّ عليه برد الرضا ونسيم التسليم ، فيخرج عن مراد نفسه إلى مراد مولاه ، في كل وجهة وعلى كل حال. جعلنا الله مِن أهل هذا القبيل ، بمنِّه وكرمه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 155
يقول الحق جلّ جلاله ، في مقالة الجن : {وأنَّا منا الصالحون} أي : الموصوفون بصلاح الحال ، في شأن أنفسهم مع ربهم ، وفي معاملتهم مع غيرهم ، {ومنا دونَ ذلك}
156
أي : ومنا قوم دون ذلك ، وهم المقتصدون في الصلاح ، غير الكاملين فيه على الوجه المذكور ، لا في الإيمان والتقوى ، كما يتوهم ، فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن ، كما يُعرب عنه قوله تعالى : {كنا طرائِقَ قِدداً} أي : مذاهب متفرقة ، وأدياناً مختلفة ، وأما حالهم بعد استماعهم ، فسيحكي بقوله تعالى : {وأنا لَمَّا سمعنا الهدى...} الخ ، أي : كنا قبل هذا ذوي طرائق ، أي : مذاهب {قِدَداً} أي : متفرقة مختلفة ، جمع قِدّة ، من : قَدَّ إذا شقّ ، كقِطعة من قطع. قاله أبو السعود.
(8/235)
وقال الثعلبي : {وأنَّا منا الصالحون} السبعة الذين استمعوا القرآن ، {ومنا دون ذلك} دون الصالحين ، {كنا طرائق قددا} أهواء مختلفة ، وفِرقاً شتى ، كأهواء الإنس ، قيل : وقوله : {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} ، يعنون بعد استماع القرآن ، أي : منا بررة أتقياء ، ومنا دون البررة ، وهم مسلمون ، وقيل : معناه : مسلمون وغير مسلمين ، قال المسيب : كانوا مسلمين ويهوداً ونصارى ، وقال السدي : {طرائق قددا} قال : في الجن مثلكم ، قدرية ، ومرجئة ، ورافضة ، وشيعة. هـ. والحاصل : أن " دون " صفة لمحذوف ، وهي إمّا أن تكون بمعنى الأدون ، فيكون الجميع مسلمين ، لكنهم متفاوتون ، أو بمعنى " غير " فيكون المعنى : منا المسلمون ومنا غير المسلمين ، كنا مذاهب متفرقة ؛ نصارى ويهود ومجوس كالإنس ، والظاهر : أنه قبل استماع القرآن ، بدليل ما يأتي في قوله : {وأنَّا لمَّا سمعنا الهُدى...} الخ.
{وأنَّا ظننا} أي : تيقَّنَّا {أن لن نُّعْجِزَ اللهَ} أي : أن الشأن لن نفوت الله ونسبقه ، و {في الأرض} : حال ، أي : لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ، {ولن نُّعجِزَه هَرَباً} : مصدر في موضع الحال ، هاربين منها إلى السماء ، أي : فلا مهرب منه تعالى إن طلبنا ، لا في أرضه ولا في سمائه. {وأنَّا لمَّا سمعنا الهُدى} ؛ القرآن {آمنا به} ؛ بالقرآن ، أو بالله تعالى ، {فمَن يؤمن بربه فلا يخافُ} أي : فهو لا يخاف {بَخْساً} ؛ نقصاً {ولا رَهَقَا} أي : ولا ترهقه ذلة ، كقوله : {وَلآ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلآ ذِلَّةُ} [يونس : 26] ، وفيه دليل على أنَّ العمل ليس من الإيمان ، وأنَّ المؤمن لا يخلد في النار.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 156
(8/236)
وأنَّا منا المسلمون} ؛ المؤمنون ، {ومنّا القاسِطون} ؛ الجائرون عن طريق الحق ، الذي هو الإيمان والطاعة ، وهم الكفرة {فمَن أسلم فأولئك تَحَروا رَشَداً} ؛ طلبوا هدى. والتحرّي : طلب الأحرى ، أي الأَولى ، وجمع الإشارة باعتبار معنى " مَن " ، {وأمَّا القاسطون} ؛ الحائدون عن الإسلام ، {فكانوا} في علم الله {لِجهنم حَطَباً} ؛ وقوداً ، وفيه دليل على أنَّ الجنِّي الكافر يُعذّب في النار وإن كان منها ، والله أعلم بكيفية عذابه ، وقد تقدّم أنّ المشهور أنهم يُثابون على طاعتهم بالجنة ، قال ابن عطية : في قوله تعالى : {فمَن أسلم.. } الخ ، الوجه فيه : أن تكون مخاطبة مِن الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده ما بعده من الآيات. هـ.
157
(8/237)
{وأن لو استقاموا} أي : القاسطون {على الطريقة} ؛ طريقة الإسلام {لأسْقيناهم} المطر {ماءً غَدَقاً} أي : كثيراً ، والمعنى : لوسّعنا عليهم الرزق. وذكر الماء الغَدَق ؛ لأنه سبب سعة الرزق ، {لِنفتنَهم فيه} ؛ لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خُوِّلوا منه. وفي الحديث القدسي يقول الله عزّ وجل : " لَوْ أنَّ عِبادِي أطاعوني لأسْقَيتُهم المطرَ باللَّيْل ، وأَطْلَعتُ عليهمُ الشمس بالنهار ، ولم أًسمِعهم صوت الرعد " ، وهذا كقوله تعالى : {وَلَوْ أّنَّ أّهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف : 96] ، وقيل : المعنى : وأن لو استقاموا على طريقة الكفر لأسقيناهم ماءً غدقاً ، استدراجاً ، {لِنفتنَهم فيه} فإذا لم يشكروا أهلكناهم ، وهذا كقوله تعالى : {وَلَوْلآ أّن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةَ وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا...} [الزخرف : 33] الخ. والأول أظهر ، بدليل قوله : {ومَن يُعرض عن ذكر ربه} ؛ القرآن أو التوحيد أو العبادة ، {نسلكه} ؛ ندخله ، أو يدخله الله {عذاباً صعداً} ؛ شاقًّا صعباً ، يعلو المعذّب ويغلبه ويصعد عليه ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : ما تصَعَّدني شيءٌ ما تصعّدتني خِطبة النكاح ، أي : ما شقَّ عليّ. وهو مصدر وصف به ، مبالغة ، فعلى قول ابن عطية أنَّ قوله تعالى : {فمَن أسلم} من مخاطبة الله لنبيه عليه السلام ، فيكون قوله : {وأن لو استقاموا} من تتمة الخطاب ، فلا تقدير ، وإذا قلنا : هو من قول الجن ، فالتقدير : وأوحي إليَّ أن لو استقاموا... الخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 156
(8/238)
الإشارة : تقدّم أنَّ الجن فيهم الصالحون والعارفون ، إلاّ أنَّ معرفة الآدمي أكمل ؛ لاعتداله ، وأما دوائر الأولياء من الأقطاب ، والأوتاد ، والنقباء ، والنجباء ، وغير ذلك ، فلا تكون إلاّ من الإنس ؛ لشرفهم. قوله تعالى : {وأنا ظننا ألن نُعجز اللهَ في الأرض...} الخ ، أي : تيقَّنا ألاّ مهرب منه ، فرجعنا إليه اختباراً ، فنحن ممن انقاد إليه بملاطفة الإحسان ، لا بسلاسل الامتحان ، {وأنَّا لمّا سمعنا الهُدى آمنا} أي : أجبنا الداعي بلا تلَعْثم ولا تردد ، وكذا في كل داعٍ بعد الداعي الأكبر ، فيكون السابقون في كل زمان ، وهؤلاء سابِقو الجن ومقربوهم ، فمَن يؤمن بربه ، ويتوجه إليه ، فلا يخاف نقصاً ولا ذُلاًّ ، بل كمالاً وعِزًّا ، من أي فريق كان ، وأنّا منا المسلمون المنقادون لأحكامه تعالى ، التكليفية والتعريفية ، وهي الأحكام القهرية ، فمَن استسلم ورَضِي فقد تحرّى رشداً ، ومَن قنط وسخط كان لجهنم حطباً ، وأن لو استقاموا على الطريقة المرضية بالرضا والتسليم ، وترك الاختيار ؛ لأسقيناهم من خمرة الأزل ، ومن ماء الحياة ، ماءً غدقاً ، تحيا به قلوبهم وأرواحهم ، فيتنعّمون في شهود الذات الأقدس في الحياة وبعد الممات. قال القشيري : الاستقامة تقتضي إكمالَ النعمةِ ، وإكساب الراحة ، والإعراضُ عن الله يُجب تَنَقُّصَ النعمة ودوام العقوبة. هـ.
158
وقوله : {لِنفتنهم} ؛ لنختبرهم ، مَن يعرف قدرها فيشكر ، أو لا يعرف قدرها فيُنكر ، فيُسلب من حيث لا يشعر. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 156
(8/239)
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ...}
يقول الحق جلّ جلاله : {وأنَّ المساجدَ لله} أي : ومن جملة ما أُوحي إليَّ : أنَّ المساجد ، أي : البيوت المبنية للصلاة فيها هي لله ، وقيل : معناه : ولأنّ المساجد لله {فلا تدعوا} ، على أنَّ اللام متعلّقة بـ " تدعوا " ، أي : فلا تدعوا {مع الله أحداً} في المساجد ؛ لأنها خالصة لله ولعبادته ، فلا تعبدوا فيها غيره تعالى ، ولا تفعلوا فيها إلا ما هو عبادة. وقيل : المراد : المسجد الحرام ، والجمع ؛ لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة ، أو لأنه قبلة المساجد ، وقيل : الأرض كلها ؛ لأن جُعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجداً وطهوراً ، وقيل : أعضاء السجود السبعة التي يسجد عليها العبد ، وهي : القدمان ، والركبتان ، واليدان ، والوجه ، يقول : هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك ، فلا تسجد عليها لغيره ، فتجحد نِعَمه ، ولا تذلها لغير خالقها. فإن جعلت المساجد المواضع ، فواحدها مسجِد بكسر الجيم ، وإن جعلت الأعضاء ، فبفتح الجيم.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 159
(8/240)
وأنه} أي : ومما أوحي إليّ أن الشأن {لمَّا قام عبدُ الله} ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم {يدعوه} ؛ يعبده في الصلاة ، ويقرأ القرآن في صلاة الفجر ، كما تقدم في الأحقاف ، ولم يقل : نبي الله ، أو رسول الله ؛ لأنَّ العبودية من أشرف الخصال ، أو : لأنه لمّا كان واقعاً في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسِه جيء به على ما يقتضيه التواضع ، أو : لأنَّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد حتّى يجتمعوا عليه ، كما قال : {كادوا} أي : كاد الجن {يكونون عليه لِبداً} ؛ جماعات متراكبين من ازدحامهم عليه ، تعجُّباً مما رأوا من عبادته ، واقتداء أصحابه به ، أو إعجاباً مما تلي من القرآن ؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا ما لم يسمعوا بنظيره. وقيل : معناه : لمَّا قام عليه السلام يعبد اللهَ وحدَه مخالفاً للمشركين ، كادوا يزدحمون عليه متراكبين. واللبدّ : جمع لبدة ، وهي ما تلبّد بعضه على بعض. وعن قتادة : تلبّدت الإنس والجن على أن يُطفئوا نوره ، فأبى اللهُ إلاَّ أن يُظهره على مَن ناوأه. قال ابن
159
عطية : قوله تعالى : (وأنه...) الخ ، يحتمل أن يكون خطاباً من الله تعالى ، وأن يكون إخباراً عن الجن.
(8/241)
{قال إِنما أدعو} أي أعبد {ربي ولا أُشرك به} في عبادتي {أحداً} ، فليس ذلك ببدع ولا بمستنكر يوجب التعجُّب أو الإطباق على عداوتي ، وقرأ عاصم وحمزه " قل " بالأمر ، ثم تبرّأ من ملِك الضر والنفع لأحد ولا لنفسه ، وأنَّ ذلك لله وحده ، فلا يُعبد إلاَّ إياه ، فقال : {قل إِني لا أملك لكم ضرًّا ولا رَشَداً} ، والأصل : لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً ، ولا غيًّا ولا رشداً ، فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر ، أو أراد بالضر : الغي ، أي : لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم ؛ إذ ليس من وظيفتي إلاَّ الإنذار. {قل إِني لن يُجيرني من الله أحدٌ} أي : لن يدفع عني عذابه إن عصيته ، كقول صالح عليه السلام : {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود : 63] ، {ولن أجد من دونه مُلتحداً} ؛ مُلتجئاً {إلا بلاغاً من الله} ، استثناء من {لا أملك} أي : لا أملك لكم شيئاً إلا تبليغ الرسالة ، و {قل إني لن يجيرني} : اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه ، وبيان عجزه ، وقيل : {بلاغاً} : بدل من {ملتحداً} ، أي : لن أجد من دونه ملجاً إلاّ أن أُبلّغ عنه ما أرسلني به ، أي : لا ينجيني إلاَّ أن أُبلغ عن الله ما أُرسلت به فإنه ينجيني ، وقوله : {ورسالاته} : عطف على " بلاغاً " ، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ، أي : إلاّ أن أُبلغ عن الله ، فأقول قال الله كذا ، ناسباً قوله إليه ، وأن أُبلّغ رسالاته التي أرسلني بها ، بلا زيادة ولا نقصان و(مِن) ليست صلة للتبليغ ، إنما هي بمنزلة (مِن) في قوله : {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللهِ} [التوبة : 1] أي : بلاغاً كائناً من الله وتبليغ رسالاته ، قاله النسفي. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 159
(8/242)
الإشارة : وأنَّ مساجد الحضرة لله ، والحضرة : شهود الذات الأقدس وحدها ، فلا تدعوا مع الله أحداً ، أي : لا تَروا معه غيره ، فتخرجوا من حضرته ، وأنه لمّا قام عبدُ الله ، وهو الداعي إلى الله في كل زمان يدعوه ، ويدعو إليه ، كادوا يكونون عليه لِبداً ، إمّا متعجبين منه ، أو مقتبسين من أنواره ، قال : إنما أدعو ربي ولا أُشرك به شيئاً ، قل يا أيها الداعي لتلك اللبد ، لا أملك لكم من الله غيًّا ولا رشداً ، إلاَّ بلاغاً ، أي إنذاراً وتبليغ ما كُلفت به ، فإنما أنا أدعو ، والله يهدي على يدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم ، قل يا أيها الداعي : إني لن يُجيرني من الله أحد إن قَصّرت في الدعوة أو أسأت الأدب ، ولن أجد من دونه ملتجأ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وبال مَن ردّ الرسالة ، فقال :
{...وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً حَتَّىا إِذَا
160
(8/243)
رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِيا أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيا أَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىا كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}. يقول الحق جلّ جلاله : {ومَ يعص اللهَ ورسولَه} في رد رسالته ، وعدم قبول ما جاء به الرسول ، {فإِنَّ له نارَ جهنمَ} ، وقُرىء بفتح الهمزة ، أي : فحقه ، أو فجزاؤه أنّ له نار جهنم ، {خالدين فيها} أي : في النار {أبداً} ، وحّد في قوله " له " وجمع في " خالدين " للفظ (من) ومعناه. {حتى إِذا رَأَوا ما يوعدون} ، متعلق بمحذوف ، يدل عليه الحال من استضعاف الكفار لأمره صلى الله عليه وسلم ، واستقلالهم لعدده ، كأنه قيل : لا يزالون على ما هم عليه ، {حتى إّذا رَأَوا ما يُوعدون} من فنون العذاب في الآخرة {فسيعلمون} عند حلول العذاب بهم {مَن أَضْعَفْ ناصراً وأقلُّ عدداً} أهم أم المؤمنون ؟ بل الكفار لا ناصر لهم يؤمئذ ، والمؤمنون ينصرهم الله ويُعزّهم. وحُمل {ما يوعدون} على ما رأوه يوم بدر ، ويُبعده قوله تعالى : {قل إِن أدرِي أقريب ما تُوعَدُون} من العذاب ، {أم يجعل له ربي أمداً} ؛ غاية بعيدة ، يعني : أنكم معذَّبون قطعاً ، ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجّل ؟
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 159
(8/244)
عالِمُ الغيبِ} أي : هو عالم الغيب ، {فلا يُظْهِر} ؛ فلا يُطلع {على غيبه أحداً إِلاّ مَن ارتضى من رسولٍ} أي : إلاَّ رسولاً قد ارتضاه لِعلْمِ بعض الغيب ؛ ليكون إخباره عن الغيب معجزةً له ، والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم به ، وإنما أخبر به بناءً على رؤيا ، أو بالفراسة ، أو بتجلِّ قلبي ، على أنّ كل كرامة لوليّ فهي معجزة لنبيه. قال بعضهم : وفي هذه الآية دلالة على تكذيب المنجّمة ، وليس كذلك ، فإنَّ فيهم مَن يَصدق خبره ، وكذلك المتطببة ، فإنهم يعرفون طبائع النبات ، وذا لا يُعرف بالتأمُّل ، فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره ، وبقي علمه في الخلق. قاله النسفي. فتحصّل : أنّ إطلاع النبي على الغيب قطعي ، وغيره ظني.
وقال أبو السعود : وليس في الآية ما يدلّ على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف ، فإنّ اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل لا يستلزم عدم حصول مرتبةٍ ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاًن ولا يدعي أحدٌ لأحدٍ من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح. هـ. وفيه تعريض بالزمخشري ، فإنه استدل بالآية على نفي كرامات الأولياء ، قال : لأنَّ الله خصّ الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم. قال بعض العلماء : ولا غرابة في إنكار معظم المعتزلة لكرامات الأولياء ؛ إذ هم لم يُشاهدوا في جماعتهم الضالة المضلة ولياً لله تعالى قط ، فكيف يعرفون الكرامة ؟ !!. هـ.
161
(8/245)
{فإنه يَسْلُكُ} ؛ يدخل {مِن بين يديه} أي : الرسول ، {ومِن خلفه} عند إظهاره على غيبه ، {رَصَداً} ؛ حفظة وحَرَساً من الملائكة يحفظونه من تعرُّض الشيطان ، لما أظهره عليه من الغيوب ، ويعصمونه من وساوسهم ، وتخاليطهم حتى يُبلغ الوحي ، {ليعلم} اللهُ عِلْمَ شهادة {أن قد أَبلغوا} أي : الرسل {رسالات ربهم} كاملة ، بلا زيادة ولا نقصان ، إلى المرسَل إليهم ، أي : ليعلم ذلك على ظهور ، وقد كان يعلم ذلك قبل وجوده. ووحّد الضمير في " يديه وخلفه " ؛ مراعاة للفظ (مَن) ، وجمع في (أَبلَغوا) لمعناه ، و " أن " مخففة من الثقيلة ، واسمها : ضمير الشأن ، والجملة خبرها ، {وأحاط} الله تعالى {بما لديهم} أي : بما عند الرسل من العلم {وأحْصَى كُلَّ شيءٍ عَدَداً} ، من القطر ، والرمل ، وورق الأشجار ، وزبد البحر ، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه ؟ ! و " عدداً " : حال ، أي : علم كلّ شيءٍ معدوداً محصوراً ، أو مصدر ، أي : أحصاه إحصاءً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 159
(8/246)
الإشارة : ومَن يعص اللهَ ورسولَه ، أو خليفته الداعي إلى الله بطريق التربية النبوية ، فإنَّ له نار القطيعة ، خالدين فيها أبداً ، وقد كانوا في حال حياتهم يستظهرون عليه بالدعاوى الفارغة ، وكثرة الأتباع ، حتى إذا رأوا ما يُوعدون من أمارات الموت ، فسيعلمون مَن أضعف ناصراً وأقل عدداً ، قل : إن أدري أقريب ما تُوعدون من الموت ، أم يجعل له ربي أمداً ، ولا بد أن ينتهي ، ويقع الرحيل إلى دار تنكشف فيها السرائر ، ويُفضح فيها الموعود. عالم الغيب ، أي : يعلم ما غاب عن الحس من أسرار ذاته وأنوار ملكوته ، أي : يعلم أسرار المعاني القائمة بالأواني ، فلا يظهر على غيبه أحداً ، أي : لا يكشف عن اسرار ذاته في دار الدنيا إلاّ لمَن ارتضى من رسول ، أو نائبه ، وهو العارف الحقيقي ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَداً ، أي : يحفظه من جميع القواطع ، من كل جهاته ، حتى يوصله إلى حضرة أسرار ذاته ، ليظهر أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، ودعوا الناس إلى معرفة ذاته ، وقد أحاط تعالى بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
162
جزء : 8 رقم الصفحة : 159(8/247)
سورة المزمل
جزء : 8 رقم الصفحة : 162
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها المزَّمِّلُ} أي : المتزمّل ، وهو الذي تزمّل في ثيابه ، أي : التفّ بها ، بإدغام التاء في الزاي. قال السهيلي : المزمّل : اسم مشتق من الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم حين الخطاب ، وكذلك المُدَّثِر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما الملاطفة ؛ فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفةَ المخاطَب ، وتَرْكَ عتابه ، سَمَّوه باسم مشتق من حالته ، كقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ حين غاضب فاطمة : " قم أبا تراب " إشعاراً له أنه غير عاتب عليه ، وملاطفةَ له. والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمّل ، راقد ليله ، لينتبه إلى قيام الليل وذكرِ الله فيه ؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطَب ، وكل مَن عمل بذلك العمل ، واتصف بتلك الصفة. هـ.
وكان صلى الله عليه وسلم ذات ليلة متزمِّلاً في ثيابه نائماً ، فنزل جبريل يأمره بقيام الليل بقوله : {قَمْ الليلَ} أي : قُم للصلاة بالليل ، فـ " الليل " نصب على الظرفية ، و {إلاَّ قليلاً} : استثناء من الليل ، و {نِصْفَه} : بدل من " الليل " الباقي بعد الثنيا ، بدل الكل ، أي : قُم نصفه ، أو : مِن " قليلاً " ، والتعبير عن النصف المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتداد بشأن الجزاء المقارن للقيام ، والإيذان بفضله ، وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب.
163
{أو انقُصْ منه} ؛ من النصف نقصاً {قليلاً} إلى الثلث ، {أو زِدْ عليه} ، على النصف إلى الثلثين ، فالمعنى : تخييره صلى الله عليه وسلم بين أن يقوم نصفَه أو أقلّ منه أو أكثر. وقيل : " نصفه " بدل من " الليل " ، و " إلاّ قليلاً " مستثنى من النصف ، فالضمير في " منه " و " عليه " للنصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين ، بين أن يقوم أقل من نصف على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين ، وهما النقصان من النصف ، والزيادة عليه ، والذي يليق بجزالة التنزيل هو الأول. أنظر أبا السعود.(8/248)
جزء : 8 رقم الصفحة : 163
والجمهور : أن الأمر هنا للندب ، وقيل : كان فرضاً وقت نزول الآية ، وقيل : كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وبقي كذلك حتى تُوفي.
{وَرَتِّلِ القرآن} في أثناء قيامك بالليل ، أي : اقرأه على تُؤدة وتبيين حروفٍ ترتيلاً بليغاً بحيث يتمكن السامع مِن عَدٍّها ، من قولهم : ثغر رَتَل : إذا كان مفلّجاّ. وترتيلُ القرأن واجب ، فمَن لم يرتِّله فهو آثم إذا أخلَّ بشيء من أداء التجويد ، كترك الإشباع أو غيره. والمقصود من الترتيل : تدبُّر المعاني ، وإجالة الفكر في أسرار القرآن. قال في الإحياء : واعلم أنّ الترتيل أشد تأثيراً في القلب من الهذرمة والاستعجال ، والمقصود من القرآن : التفكُّر ، والترتيلُ مُعين عليه. وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
{إِنَّا سنُلْقِي} أي : سنُنزل {عليك قولاً ثقيلاً} وهو القرآن العظيم ، المنطوي على تكاليف شاقة ثقيلة على المكلّفين ، أو : ثقيلاً على المنافقين ، أو : ثقيلاً لرزانة لفظه ، ومتانة معناه ، أو : ثقيلاً على المتأمِّل ؛ لافتقاره إلى مزيد تأمُّل وتفرُّغ للسر ، وتجريدٍ للنظر ، أو ثقيلاً في الميزان ، أو ثقيلاً تلقيه من جبريل ، فقد كان عليه السلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البردِ ، فَيَفْصِم عنه ، وإنّ جبينه لَيتَفَصَّدُ عَرَقاً.
(8/249)
{إِن ناشئةَ الليلِ} أي : قيام الليل ، مصدر من " نشأ " إذا قام ونهض ، على وزن فاعلة ، كالعافية العاقبة ، أو : إنَّ النفس التي تنشأ مِن مضجعها إلى العبادة ، أي : تنهض ، أو : إن العبادة التي تنشأ بالليل ، أي : تحدث ، أو : ساعات الليل ؛ لأنها تنشأ ساعة فساعة ، وكان زين العابدين يُصلّي بين العشاءين ويقول : هذه ناشئة الليل. قلت : وهذا وقت كان السلف يحرصون على عمارته بأنواع العبادات ؛ لأنه يمحوا ظلمة النهار التي تُكتسب من شغل الدنيا. {هي أشَدُّ وَطْأً} أي : موافقة للقلب. وقرأ البصري والشامي (وِطاء) أي : وِفاقاً ، أي : يوافق فيها القلبُ اللسانَ ، وعن الحسن : أشدّ موافقة بين السر والعلانية ؛ لانقطاع رؤية الخلائق وغيرها ، أو : أشدّ ثباتَ قَدَم وكلفة ، أي : أثقل على المصلي من صلاة النهار ؛ لطرد النوم في وقته ، من قوله عليه السلام : " اللهم اشْدُدْ وطْأَتَك على مُضَرَ " {وأقْوَمُ قِيلاً} أي : أصْوب مقالاً ، وبه قرأ أنس ، فقيل له : إنما هو
164
أقوم فقال : أقوم وأصوب واحد ، وإنما كانت قراءة الليل أصوب قولاً ؛ لقلة خطأ اللسان فيها ؛ لتفرُّغه من ثقل الطعام ، وقيل : المعنى : أثبت قراءةً ؛ لحضور القلب ؛ لهدوّ الأصوات ، وانقطاع الحركات.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 163
إِنّ لك في النهار سَبْحاً طويلاً} أي : تصرُّفاً وتقلُّباً في مهمّاتك ، واشتغالاً بتعليم أمتك ، فتفرّغ بالليل لعبادة ربك. {واذكر أسْمَ ربك} أي : دُم على ذكره في الليل والنهار ، على أي وجهٍ ، من تسبيح وتهليل وتكبير ، وقراءة قرآن ، وتدريس علم. {وتبتلْ إِليه} أي : انقطع إلى عبادته عن كل شيءٍ ، بمجامع الهمة ، واستغراق العزيمة. والتبتُّل : الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره ، وقيل : رفض الدنيا وما فيها ، والتماس ما عند الله. وأكّده بقوله : {تبتيلا} زيادةً في التحريض ، مع ما فيه من رعاية الفواصل.
(8/250)
{ربُّ المشرقِ والمعربِ} أي : هو رب ، أو : مبتدأ خبره : {لا إِله إلاّ هو} ، ومَن قرأه بالجر فبدل من " ربك " ، وقيل : على إضمار القسم ، وجوابه : لا إله إلاّ هو ، أي : وربِّ المشرق لا إله إلا هو ، كقولك : والله لا أحد في الدار. {فاتَّخِذْه وَكِيلا} أي : وليًّا وكفيلاً بما وعدك من النصر والعز. والفاء لترتيب ما قبله ، أي : إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب ، وأن لا إله إلا هو ، فاتخذه كفيلاً لأمورك. {واصبرْ على ما يقولون} في جانبي من الصاحِبة والولد ، وفيك مِن الساحر والشاعر ، {واهجرهم هَجْراً جميلاً} بأن تُجانبهم وتداريَهم ولا تجافهم ، بل كِلْ أمرهم إلى ربهم ، كما يُعرب عنه ما بعده ، أون : جانبهم بقلبك ، وخالطِهم بجسمك مع حسن المخالطة وترك المكافأة ، وقيل : هو منسوخ بآية القتال.
الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار ، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار ، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه ، قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " ، وقيام الليل لا يخص بالصلاة ، بل لكل مقام مقال ، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار ، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار ، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى : {ورتِّل القرآنَ ترتيلا} خطاب لأهل التهجُّد ، وهم ألوان مختلفة ، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها ، وهم أهل الخوف المزعِج ، أو الشوق المقلِق ، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة ، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة ، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين ، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر ، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة ، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة ، وابن عباس مائة مرة ، وكان سليمان بن عمير يختمه
165
(8/251)
ثلاث ختمات في كل ليلة ، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق ، يُقال له " أبو عيسى التلمساني " ، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة ، فذكر ذلك بمدينة سبتة ، بحضور الفقيه العزفي ، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة ، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك ، فخرج إلى المشرق ، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 163
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين ، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان ، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته ، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج ، كما في الصحيح ، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني ، فأنكر بعضٌ ذلك عليه ، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم ، وهو يسمع حرفاً حرفاً ، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
(8/252)
وقوله تعالى : {إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا} ، قال القشيري : (ثقيلاً) أي : له خطْر ، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية ، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم ، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان ، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير ، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق ، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. (إنَّ ناشئة الليل) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً ، أي : موافقة ، وغرقاً في بحر الذات ، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء ، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه ، شاخصاً ببصره إلى السماء ، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي ، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه ، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات ، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية ، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال ، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود ، ويَدُورون معه ، وهم على فُرشهم ، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
(8/253)
وقوله تعالى : {إن لك في النهار سَبْحاً طويلا} السَبح هو العوم ، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية ، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك ، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك ، وهو عين السَبْح المتقدم ، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن ، فبالتبتُّل يحصل الوصول ، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان ، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب ، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان ، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً ، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً ، ويمنحك فخراً جليلاً ، واصبر على ما يقولون في جانبك ، فإنَّ الداخل على الله منكور ، والراجع إلى الناس مبرور. {واهجرهم هجراً جميلاً} ، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك ، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك ، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك ، لا بحظِّ نفسك. هـ.
166
جزء : 8 رقم الصفحة : 163
يقول الحق جلّ جلاله : {وَذَرْنِي والمكذِّبينَ} أي : دعني وإيّاهم ، وكِلْ أمرَهم إليّ ، فإني أكفيكهم ، والمراد رؤساء قريش ، و " المكذِّبين " : مفعول معه ، أو : عطف على الياء. {أُولِي النَّعْمَةِ} أي : أرباب التنعُّم ، وهم صناديد الكفرة ، فالنَّعمة بالفتح : التنعُّم ، وبالكسر : ما يتنعّم به ، وبالضم : المسرة. {ومَهِّلْهُمْ قليلاً} أي : إمهالاً قليلاً ، أو زمناً قليلاً إلى يوم بدر ، أو يوم القيامة.
(8/254)
{إنَّ لَدَيْنا} للكافرين يوم القيامة ، {أنكالاً} ؛ قيوداً ثِقالاً ، جمع نِكْل ، {وجَحيماً} ؛ ناراً محرقة {وطعاماً ذا غُصَّةٍ} الذي ينشب في الحلوق فلا يُساغ ، يعني : الضريع والزقوم. {وعذاباً أليماً} ؛ مؤلماً يخلص وجعه إلى القلب. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الآية فصعق ، وعن الحسن : أنه أمْسى صائماً ، فأُتي بطعام ، فعرضت له هذه الآية ، فقال : ارفعه ، ووُضع عنده الليلة الثانية فعرضت له ، فقال : ارفعه ، وكذلك الليلة الثالثة ، فأخبر ثابت البناني وغيره ، فجاؤوا ، فلم يزالوا به ، حتّى شرب شربةً من سَّوِيق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 167
وهذا العذاب واقع {يَوْمَ ترجُف الأرضُ والجبالُ} أي : تتحرّك حركةً شديدة مع صلابتها وارتفاعها ، فالظرف منصوب بما في " لدينا " من معنى الفعل ، أي : استقر للكفار كذا وكذا يوم ترجف...الخ. {وكانت الجبالُ كَثِيباً} ؛ رملاً مجتمعاً. من : كثب الشيء إذ جمعه ، كأنه فعيل بمعنى مفعول. {مَّهِيلاً} ؛ سائلاً بعد اجتماعه.
{إنَّا أرسلنا إِليكم} يا أهل مكة {رسولاً} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {شاهداً عليكم} ؛ يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان ، {كما أرسلنا إِلى فرعون رسولاً} وهو موسى عليه السلام ، {فعصى فرعونُ الرسولَ} الذي أرسلنا إليه ، أي : عصى ذلك الرسول ؛ لأنَّ النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى. ومحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه ، كما يُعرب عنه قوله تعالى : {شاهداً} إرسالاً كائناً كإرسال موسى لفرعون ، فعصاه ، {فأخذناه أخذاً وَبيلاً} ؛ شديداً غليظاً. وإنما خص موسى وفرعون ؛ لأنَّ خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة ؛ لأنهم كانوا جيران اليهود.
167
(8/255)
{فكيف تتقون إِن كفرتم} أي : بقيتم على كفركم {يوماً} أي : عذاب يوم {يجعلُ الوِلْدان} من شدة هوله ، وفظاعة ما فيه من الدواهي {شِيباً} جمع أشيب ، أي : شيوخاً ، إمّا حقيقة ، أو تمثيلاً ، وذلك أنَّ الهموم والأحزان إذا تفاقمت على المرء ضعفت قواه وأسرع فيه الشيب ، فإذا قلنا : هو من باب التمثيل ، يكون كقولهم في اليوم الشديد : يوم تشيب فيه نواصي الأطفال ، وإذا قلنا حقيقة ، فلعله ممن بلغ الحلم ، وصَحِبه تفريط ، وهذا الوقت الذي يُشيب الولدان هو حين يُقال لآدم عليه السلام : " أخْرِج بعثَ النار من ذريتك... " الحديث ، فـ " يوماً " مفعول بكفرتم ، أي : جحدتم ، أو : بـ " تتقون " ، أي : كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم بالله ، أو : ظرف ، أي : فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ، و " يجعل " صفة ليوم ، والعائد محذوف ، أي : فيه. {السماءُ مُنفَطِر به} أي : السماء على عِظمها وإحكامها منفطر به ، أي : متشققة مِن هوله ، فما ظنك بغيرها من الخلائق ؟ والتذكير لتأويل السماء بالسقف ، أو : لإجرائه على موصوف مذكّر ، أي : شيء منفطر ، وعبّر عنها بذلك ؛ للتنبيه على أنها تبدّلت ، حقيقتها ، وزال عنها اسمها ورَسمها ، ولم يبقَ منها إلا ما يُعبر عنه بشيء. والباء في " به " للآله ، يعني : أنها تتفطّر لشِدّة ذلك اليوم وهوله ، كما ينفطر الشيء بما يفطر به. {كان وعدُه} بالبعث {مفعولا} لا شك فيه ، فالضمير لله عزّ وجل ، والمصدر مضاف إلى فاعله أول إلى مفعوله ، وهو اليوم ، والفاعل هو الله عزّ وجل. {إِنَّ هذه تذكرةٌ} أي : إنَّ هذه الآيات المنطوية على القوارع المذكورة موعظة ، {فمَن شاء اتَّخَذِ إِلى ربه سبيلا} أي : فَمن شاء اتعظ بها ، واتخذ طريقاً إلى الله تعالى بالإيمان والطاعة ، فإنه المنهاج الموصَّل إلى مرضاته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 167
(8/256)
الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين ، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي : مع أنه متحد ، كما قال الشاعر :
هَذّا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِراً
وحَيَاتكُم ما فِيه إلا أَنْتُمُ
أُولي النِّعمة : الترفُّه ، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل ، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم ، وأشركوا مع الله غيره ، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم ؛ لأنه قليل وإن طالت مدته ؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً ، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد ، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة ؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق ، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله ، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات ، فيصير هباءً منثوراً. {إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم} ، وهو الداعي إلى
168
هذه الأسرار التفريدية ، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله ، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه ، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم ، فأخذناه أخذاً وبيلاً ، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور ، فكيف تتقون الله حق تقاته ، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله ، حين يُحال بين المرء وعملِه ، إذ ليس محلّ العمل ، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل ، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون ، إنَّ هذه تذكرة بالغة ، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم ، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.
169
جزء : 8 رقم الصفحة : 167(8/257)
سورة المدثر
جزء : 8 رقم الصفحة : 169
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها المدَّثِّر} أي : المتدثر ، أُدغمت التاء في الدال ، أي : المتلفّف في ثيابه ، من الدِّثار ، وهو كلُّ ما كان من الثياب فوق الشعار ، والشعار : الثوب الذي يلي الجسد. قيل : هي أول سورة نزلت ، والصحيح : أن أول ما نزل : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِكَ...} [العلق : 1] إلى قوله {...عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق : 5] ثم فتر الوحي نحو سنتين ، فحزن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جعل يأتي شواهق الجبال ، فيريد أن يتردَّى منها ، فأتاه جبريلُ عليه السلام ، وقال : إنك نبي الله ، فرجع إلى خديجة ، فقال : دثِّروني وصُبوا عليَّ ماءً بارداً ، فنزل : {يا أيها المُدَّثر} ، وقيل : سمع من قريش ما كرهه ، فاغتم ، فتغطّى بثوبه متفكراً ، كما يفعل المغتم ، فأمر ألاّ يدع إنذارهم وإن آذوه ، فقال : {قُمْ} أي : من مضجعك ، أو قيام عزم وتصميم ، {فأنذِرْ} أي : فَحذِّر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا ، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص ، كما يُنبىء عنه قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ : 28].
{وربَّك فَكَبِّرْ} أي : خُص ربك بالتكبير ، وهو التعظيم قولاً واعتقاداً ، فلا يَكْبُرُ في عينك إلاّ الله ، وقل عندما يعروك من غيره : الله أكبر. رُوي أنه لمّا نزل ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر " فكبَّرت خديجة وفرحت ، وأيقنت أنه الوحي. وقد يُحمل على تكبير الصلاة ، والفاء بمعنى الشرط ، كأنه قيل : أيّ شيء حدث فلا تدع تكبيره.
172(8/258)
{وثيابَك فطهِّرْ} مما ليس بطاهر ، فإنه واجب في الصلاة ، فلا تصح إلاّ بها ، ووَصْفُ كمالٍ في غيرها ، وذلك بصيانتها عن النجاسات ، وغسلها بعد إصابتها ، أو قَصِّرْها مخالفةً للعرب في تطويلهم الثياب ، وجرهم الذيول كِبراً ، فإنَّ طولها يؤدي إلى جرها على القاذورات ، وهو أول ما أُمر به صلى الله عليه وسلم من ترك العادات المذمومة ، وقيل : المراد تطهير النفس مما يُستقبح من الأفعال ، ويُستهجن من الأحوال ، يُقال : فلان طاهر الذيل والرداء ، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق ، ولأنَّ مَن طهر باطنه ظاهره غالباً. قال ابن العربي في أحكامه : والذي يقول : إنها الثياب المَجازية أكثر. هـ. ومَن قال : إنها الحسية استدل بها على وجوب غسل النجاسة للصلاة ، وبه قال الشافعي ، ومالك ، في أحدى الروايات عنه.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 172
والرُّجزَ فاهجرْ} أي : دم على هجرانها ، قاله الزهري وغيره. وقال ابن عباس : أي : اترك المآثم التي توجب الرجز ، وهو العذاب ، وفيه لغتان : كسر الراء ، وضمها ، وقُرىء بهما معاً. قال الكسائي : الرُّجز ـ بالضم : الوثن ، وبالكسر : العذاب. {ولا تمننْ تستكثرُ} أي : ولا تعطِ مُتكثِّراً ، أي : رائياً لما تعطيه كثيراً ، أو طالباً للكثير على ما أعطيت ، فإنك مأمور بأجلّ الأخلاق ، وأشرف الآداب ، وهو من المنّ بمعنى الإنعام ، يُقال : مَنَّ عليه إذا أعطاه وأنعم عليه ، " وتستكثر " : حال ، أي : لا تُعطِ حال كونك تُعد ما أعطيت كثيراً ، أو طالباً أكثر مما أعطى. وقرأ الحسن بالجزم جواب النهي. {ولربك فاصبِرْ} أي : لوجه الله استعمل الصبر على أوامره ونواهيه ، وعلى تحمُّل مشاق أعباء التبليغ وأذى المشركين.
(8/259)
{فإِذا نُقِرَ في الناقور} أي : نُفخ في الصور ، وهو فَاعُول من النقر ، بمعنى التصويت ، وأصله : القرع ، الذي هو سبب الصوت ، والفاء سببية ، كأنه قيل : اصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم هائل ، يلْقون فيه عاقبة أذاهم ، وتلقى عاقبة صبرك ، والعامل في " إِذا " قوله : {فذلك يومئذٍ يومٌ عسيرٌ} ، فإنَّ معناه : عسر الأمر على الكافرين إذا نُقر في الناقور ، و " ذلك " إشارة إلى وقت النقر ، وهو مبتدأ ، و {يومئذ} : مرفوع المحل بدل منه ، و {يوم عسير} : خبر ، كأنه قيل : يوم النقر يوم عسير {على الكافرين} ، وأكّده بقوله : {غيرُ يسير} ؛ ليؤذن بأنه يَسيرٌ على المؤمنين ، أو عسيرٌ لا يُرجى أن يرجع يسيراً ، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا. واختُلف في أن المراد به : يوم النفخة الأولى أو الثانية ، والحق إنها الثانية ؛ إذ هي التي يختص عسرها بالكافرين ، وأما النفخة الأولى ، فحكمها ـ الذي هو الإصعاق ـ يعم البر والفاجر ، على أنها مختصة بمَن كان حيًّا عند وقوعها ، وقد جاء في الأخبار : أن في الصور ثُقْباً بعدد الأرواح ، وأنها تجمع في تلك الثُقب في النفخة الثانية ، فتخرج عند النفخ من كل ثقبة روح ، فترجع إلى الجسد الذي نزعت منه ، فيعود الجسد كما كان حيًّا ، بإذن الله تعالى.
173
الإشارة : يا أيها المتدثر بالعلوم والأسرار والمعارف ؛ قُم فأنذر الناسَ ، والخطاب للداعي الأكبر صلى الله عليه وسلم ، ويتوجه لخليفته في كل زمان ، وهو مَن وجَّهه الله لتذكير العباد ليحيي به الدين في أول كل عصر ، كما في الأثر.
(8/260)
قال الورتجبي : يا أيها المدثر ، أي : يا أيها الغريق في قَلزوم القِدم ، قُم لدعوى محبتي ، وأنذر أحبائي عن الاشتغال بغيري ، وأَظْهِر جواهر حقائب بحر غيبي للمقبلين إلينا. ثم قال على قوله : (وربك فَكَبِّر) ، عن الحُسيْن : عَظِّم قدره عن احتياجه إليك في الدعوة إليه ، فإنَّ إجابة دعوتك ممن سبقت له الهداية مني. هـ. قال القشيري : كبِّر ربك عن احتياجه إلى تكبير أحد ، فإنَّ كبرياءه ذاتيٌّ له ، قائم بنفسه ، لا بغيره من المكبِّرين. هـ. والمتبادر أنه أمَرَ الداعي بتعظيم الله وإجلاله دون غيره من سائر المنذرين ، فلا تمنعه جلالة أحد من العظماء والمتكبرين عن التصدَّي لإنذاره وتذكيره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 172
(8/261)
وقوله تعالى : {وثيابك فطهِّر} أي : نَزّه ثياب إيمانك وعرفانك عن لوث الطمع في الخلق ، وخصوصاً عند الدعوة ، فلا تسأل عليه أجراً ، ولا تؤمّل في جانبه عوضاً ، فتُحرم بركة إنذارك ، ويقلّ الانتفاع به. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال : يا علي ، طَهِّر ثيابك من الدنس ، تَحْظَ بمدد الله في كل نَفَس ، فقلتُ : وما ثيابي يا رسول الله ؟ فقال : إنَّ الله كساك حُلة المعرفة ، ثم حُلة المحبة ، ثم حُلة التوحيد ، ثم حُلة الإيمان ، ثم حُلة الإسلام ، فمَن عرف الله صَغُر لديه كل شيء ، ومَن أحبّ الله هان عليه كل شيء ، ومَن وحّد الله لم يشرك به شيئاً ، ومَن آمن بالله أَمِن من كل شيء ، ومَن أسلم لله قلّما يعصيه ، وإن عصاه اعتذر إليه ، وإذا اعتذر إليه قَبِل عُذره. قال : ففهمتُ حينئذ قوله تعالى : {وثيابك فَطَهّر}. هـ. والرُّجز : كلُّ ما يشغل عن الله ، فيُهجر اشتغالاً بالله ، ولا تمنن ببذل مُهجتك على ربك ، مستكثراً لذلك ، فإنَّ قيمة وجودك لا تُساوي عُشر العشر من عظمة وجوده ، الذي يمنحك بدلاً من وجودك الذي أعطيته ، أو : ولا تمنن عليه بوجودك تطلب وجوده ، فإنَّ وجوده إنما يُنال بكرمه ، لا بشيء من العلل ، ولربك فاصبر ، أي : ولأجل الوصول إلى ربك فاصبر على مشاق السير ، أو : ولربك فاصبر على إذاية الخلق في حال الدعوة. قال الورتجبي : ولربك فاصبر في بذل وجودك في جريان تقديره ، أو مع ربك ، وفي ربك ، حين انكشف لك أنوار أسراره ، وخاصيتُكَ في النظر إلى جلاله وجماله ، ولا تنزعج ، فتسقط عن درجة التمكين. وقال القاسم : ولربك فاصبر تحت القضاء والقدر. هـ. فإذا نُقر في الناقور : نُفخ في صور الفناء ، فتندك السموات والأرض ، بإظهار ما فيها من الأسرار ، فتُطوى عن نظر العارف ، فيفنى مَن لم يكن ، ويبقى مَن لم يزل ، فذلك يوم عسير على الكافرين بطريق الخصوص ؛ إذ لا تنهدم
174
(8/262)
العوالم لعين البصيرة إلاَّ لمَن هدم عوائد نفسه ، وخالف هواه. وبالله التوفيق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 172
يقول الحق جلّ جلاله : {ذَرْنِي ومَنْ خلقتُ} أي : كِلْ أمره إليَّ فأنا أكفيك أمره ، وهو الوليد بن المغيرة ، وقوله : {وحيداً} : حال من عائد الموصول ، أي : خلقته منفرداً ، لا مال له ولا ولداً ، أو من الياء ، أي : ذرني وحدي معه ، فأنا أكفيكه ، أو من التاء ، اي : خلقته وحدي ولم يشاركني في خلقه أحد ، والأول أنسب بقوله : {وجعلتُ له مالاً ممدوداً} ؛ مبسوطاً كثيراً ، أو ممدوداً بالنماء ، وكان له الزرع والضرع والتجارة ، وعن مجاهد : له مائة ألف دينار ، وكان له أرض بالطائف ، لا تنقطع ثمارها صيفاً وشتاءً ، {وبنينَ شُهوداً} ؛ حضوراً معه بمكة لغناهم ، يتمتع بشهودهم ، لا يفارقونه لعمل ، لكونهم مكُفيين ، أو حضوراً في الأندية والمحامل لوجاهتهم ، واعتيادهم ، وكانوا عشرة ، وقيل : ثلاثة عشر ، وقيل : سبعة ، كلهم رجال ، الوليد بن الوليد ، وخالد ، وعمار ة ، وهشام ، والعاصي ، وقيس ، وعبد شمس ، أسلم منهم خالد وهشام وعمارة ، وجعل السهيلي بدل عمارة الوليدَ بن الوليد ، وهو الصحيح ، وفيه قال عليه السلام : " اللهم أنج الوليد بن الوليد " حين كان يُعذّب بمكة على الإسلام ، والوليد هذا كان سبب إسلام أخيه خالد ، وكان خالد فارًّا منه صلى الله عليه وسلم ، فسمع الوليدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : " لو أتانا لاأكرمناه " ، فكتب إليه ، فوقع الإسلام في قلبه ، وسمّاه سيفاً من سيوف الله ، به فتح الله كثيراً من البلدان ، وأما عُمارة فذكر غيرُ واحد أنه مات مشركاً عند النجاشي ، ويروى أنَّ النجاشي قتله بسبب اختلافه إلى زوجته ، ووشى به عَمْرُو بن العاص ، كما ذكره الطيبي. انظر المحشي.
(8/263)
{ومَهَّدتُ له تمهيداً} أي : بسطت له الجاه العريض ، والرياسة ، حتى كان يُلقَّب ريحانة قريش ، فأتممت عليه نعمتَي الجاه والمال ، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا ، {ثم يطمعُ أن أزيدَ} على ما أوتيه من المال والولد والجاه من غير شكر ، وهور استبعاد واستنكارٌ لطمعه وحرصه. وعن الحسن : يطمع أن أزيده الجنة ، فأعطيه فيها مالاً وولداً ، كما قال العاصي : {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم : 77] ، وكان من فرط جهله يقول : إن كان محمد صادقاً فما خُلقت الجنة إلاَّ ليَ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 175
كلاَّ} : ردع وزجر عن طمعه الفارغ ، وقطع لرجائه الخائب ، أي : لا نجمع له بعد
175
(8/264)
اليوم بين الكفر والمزيد من النِّعم ، فلم يزل بعد نزول الآية في نقصان من المال والجاه ، وانتكاس ، حتى هلك ، {إِنه كان لآياتنا} ؛ القرآن {عنيداً} ؛ معانداً جاحداً ، وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف ، كأنّ قائلاً قال : لِمَ لا يُزاد ؟ فقال : إنه عاند آيات المنعِم ، مع وضوحها ، وكَفَرَ نعمته مع سُبُوغها ، وهو مما يوجب حرمانها بالكلية ، مع أن ما أوتيه إنما هو استدراج يوجب مزيد العذاب ، كما قال تعالى : {سأُرهقه صَعوداً} ؛ سأُغشيه بدل ما يطمعه من الجنة عقبة شاقة المصْعد ، وهو مثل لِما يلقى من العذاب الصعب الذي لا يُطاق ، وفي الحديث : " الصعود : جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ، ثم يهوي فيه كذلك أبداً ". ثم علّل استحقاقه لهذا العذاب بقوله : {إِنه فَكَّر} ما يقول في شأن القرآن ، {وقَدَّر} في نفسه ما يقوله وهياه ، كأنه تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز ، لعناده ، ويُعاقبه في الآخرة بأشد العذاب ، لبلوغه بالعناد غايته ، حيث قال في كلامه تعالى المعجِز : سحراً ، وفي رسوله عليه السلام : ساحراً ، {فقُتل} أي : لُعن {كيف قَدَّر ثم قُتل كيف قَدَّر} ؟ كرّر للتأكيد ، و " ثم " للإشعار بأنَّ الدعاء الثاني أبلغ ، وقيل : هو تعجيب من تقديره وإصابته فيه الغرض الذي كان ينتحيه قريش ، قاتلهم الله ، كما يقال : قاتله الله ما أشجعه ، وأخزاه الله ما أشعره! رُوي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ " حم " غافر ، أو فُصلت ، ثم رجع إلى بني مخزوم ، فقال : والله لقد سمعتُ من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجن ، وإنَّ له لحلاوة ، وإنَّ عليه لَطلاوة ، وإنَّ أعلاه لمُثمر ، وإنَّ أسفله لمُغدق ، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه ، فقالت قريش : صبأ والله الوليد ، لتَصْبُوَنّ قريش كلها ، فقال ابن أخيه أو جهل : أنا أكفيكموه ، فانطلق إليه حزيناً ، فقال له : ما لي أراك حزيناً ؟ فقال : وما لي لا أحزن ، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كِبر سنك ، يزعمون أنك(8/265)
زيّنت كلام محمد ، تدخل على ابن أبي كبشة وأبي قحافة ، لِتنال من طعامهم ، فغضب الوليد ، وقصدهم ، وقال : تزعمون أنَّ محمداً مجنون ، فهل رأيتموه يُخْنِقُ قط ؟ قالوا : لا ، قال : تزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط ؟ قالو : لا ، قال : تزعمون أنه كاهن ، فهل رأيتموه يتكهّن قط ؟ قالوا : لا ، قال : تزعمون أنه كذّاب ، فهل جريتم عليه من الكذب قط ؟ قالوا : اللهم لا ، ثم قالوا له : فما هو ؟ ففكَّر فقال : ما هو إلاَّ ساحر ، أمّا رأيتموه يُفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ وما الذي يقوله إلاّ سحر يأثره عن أهل بابل ، فارتجّ النادي فرحاً ، وتفرّقوا معْجبين بقوله متعجبين منه ، وهذا معنى قوله : {إنه فكَّر...} الخ.
176
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 175
(8/266)
ثم نَظَرَ} أي : في القرآن مرة بعد مرة ، أو نظر بأي شيء يَرُدُّ الحقَّ ، أو فيما قدّر ، {ثم عَبَسَ} ؛ قطَّب وجهه لمَّا لم يجد فيه مطعناً ، ولم يدرِ ماذا يقول ، وقيل : نظر في وجوه الناس ، ثم قطَّب وجه ، {وبَسَرَ} ؛ زاد في العبوسة والكلوح ، {ثم أدبرَ} عن الحق ، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، {واستكبر} عن اتباعه ، و {ثم نظر} : عطف على (قَدَّر) ، والدعاء اعتراض ، وإيراد " ثم " في المعطوفات لبيان أنَّ بين الأفعال والمعطوفة تراخياً أو تفاوتاً ، {فقال إِنْ هذا إِلاّ سِِحْر يُؤثَرُ} أي : يُروى ويُتعلم ، والفاء للدلالة على أنَّ هذه الكلمة لمّا خطرت بباله تفوَّه بها من غير تَلعثم ولا تلبُّث ، وقوله : {إِنْ هذا إِلاَّ قولُ البشرِ} تأكيد لِما قبله ، ولذلك أخلى عن العاطف. قال تعالى : {سأُصليه} ؛ سأُدخله {سَقَر} ، وهو بدل من {سأُرهقه صَعُوداً} وسقر : علم لجهنم ، ولم ينصرف للتعريف والتأنيث ، {وما أدراك ما سَقَرُ} ، تهويل لشأنها ، {لا تُبقي ولا تَذرُ} ، بيان لحالها ، أي : لا تُبقي شيئاً يُلقى فيها إلاَّ أهلكته ، وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يُعاد ، أو : لا تُبقي لحماً ، ولا تّذرُ عظماً ، أو : لا تُبقي لحماً إلاّ أكلته ، ولا تدع أن تعود عليه أشد ما كانت ، وقال الضحاك : إذا أخذت فيهم لم تُبق منهم شيئاً ، وإذا أُعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم ، ولكل شيء فترة ومَلالة إلاّ جهنم. هـ.
(8/267)
{لوَّحاةٌ للبَشرِ} أي : مغيّرة للجلود حتى تُسوّدها ، تقول العرب : لاحته الشمس ولوَّحته ، أي : غيَّرته ، قيل : تلفح الجلد لفحة ، فتدعه أشد سواداً من الليل ، وقال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً ، نظيره : {وَبُرِزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء : 91] والبشر : اسم ، جمع بشرة ، وهي ظاهر جلد الإنسان ، ويجمع أيضاً على أبشار ، {عليها تسعةَ عشرَ} أي : على أمرها تسعة عشر ملكاً ، خزنتُها ، وقيل : تسعة عشر صِنفاً من الملائكة ، وقيل : صفًّا ، وقيل : نقيباً. قيل : الحكمة في تخصيص هذا العدد لخزنة جهنم ؛ أن ذكرهم الذي يتقوَّون به البسلمة ، وذلك عدد حروفها. هـ. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 175
الإشارة : هذه الآية تَجُر ذيلها على كل مَن آتاه الله المالَ والجاه البنين ، ثم جعل ينتقد على أولياء الله ، ويحتقر أهل النسبة ، بل على كل مَن يُطلق لسانه في أهل النسبة يناله ما نال الوليد ؛ لأنه كان لآيات الله ـ وهم خاصة أوليائه ـ عنيداً جاحد القلب ، وحاسداً ، سأُرهقه صَعُوداً ، أي : عذاباً متعباً له ، في الدنيا بالحرص والطمع ، وفقر القلب ، وكذا العيش في الآخرة بسدل الحجاب ، والطرد عن ساحة المقربين ، إنه فَكَّر فيما يكيد به أولياءه ، وقَدّر ذلك ، فلُعن كيف قَدّر ، ثم نظر إليهم فعبس وبسر. قلت : وقد رأيتُ بعض المتفقهة المتجمدين ، إذا رأوا أحداً من أهل التجريد ، عبسوا وقطَّبوا وجوههم ، ولووا رؤوسهم ، لشدة حَنقهم على هذه الطائفة ، نعوذ بالله من الحرمان. وكل ما رُمي به صلى الله عليه وسلم من السحر وغيره قد رُمي به خلفاؤه ، فيُقال لمَن رماهم وعابهم : سأُصليه سقر ، نار القطيعة والبُعد ، لا تٌبقي له رتبة ، ولا تذر له مقاماً ولا جاهاً عند الله ، تُزيل عنه سيما العارفين
177
(8/268)
ومهجة المحبين وتغير بشريته بالكآبة والحسرة ، والتأسُّف عن التخلُّف عن مقام المقربين ، عليها ، أي : على النار المحيطة بهم ، تسعة عشر حجاباً ؛ حجاب المعاصي القلبية والقالبية ، ثم حجاب الغفلة ، ثم حُب الدنيا ، ثم حب الهوى ، ثم الحسد ، ثم الكفر ، ثم الحقد ، ثم الغضب ، ثم حب الظهور ، ثم حب الجاه ، ثم الطمع ، ثم الحرص ، ثم خوف الفقر ، ثم هَم الزرق ، ثم خوف الخلق ، ثم التدبير والاختيار ، ثم العَجَلة ، ثم الرعونة ، ثم حجاب الحسد والوهم. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 175
يقول الحق جلّ جلاله : {وما جعلنا أصحابَ النار} أي : خزنتها ، المدبّرين لها ، القائمين بتعذيب أهلها ، {إِلاَّ ملائكةً} لأنهم خلاف جنس المعذّبين ، فلا تأخذهم الرأفة والرقّة ، ولأنهم أشد الخلقِ بأساً ، فللواحد منهم قوة الثقلين ، ونَعَتهم صلى الله عليه وسلم فقال : " كَأَنَّ أعْيُنَهُمُ البَرقُ ، وكأنَّ أفْواهَهم الصَّيَاصِي ، يَجرُّون أشعَارَهم ، لأحدِهم قوةُ الثَّقَلَيْنِ ، يَسوقُ أحدُهُم الأُمَّةَ ، وعَلَى رَقَبَتِهِ جَبَلٌ ، فَيَرْمِيهم في النَّارِ ، ويَرْمي الجبلَ عَلَيْهم " وفي رواية : " بيد كُلِّ واحدٍ منهم مِرْزَبَّة مِن حَديدٍ " وفي رواية عن كعب : " مَعَ كُلِّ واحد مِنْهم عَمودٌ وشعبتَان يَدْفع به الدَّفَع يصرع به في النَّارٍ سَبعمَائَة أَلْفٍ ، وبَيْن مِنْكَبَي الخازِنِ مِن خزَنَتِها مسيرةُ مَائةِ سَنَة " وفي حديث آخر : " ما بَيْن منكبي أَحَدهِم كَما بَيْن المشرقِ والمغرب ، وليس في قلوبِهِمْ رَحْمَةٌ ، يَضْربُ أحدُهم الرجلَ ضَربةً ، فيتْركه طَحيناً من لَدُن قَرْنِه إلى قَدَمِهِ " وعن كعب : " يؤمر بالرجل إلى النار ، فيبتدره مائة ألف ملك " قال القرطبي : المراد بقوله : {عليها تسعة عشر} رؤساؤهم ، وأما جملة الخزنة فلا يعلم عددهم إلا الله تعالى. انظر البدور السافرة.
(8/269)
رُوي أنه لمّا نزل قوله تعالى : {عليها تسعة عشر} قال أبو جهل : أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ، وأنتم ألدَّهم ، أي : الشجعان ؟ فقال أبو الأشد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر ، اكفوني أنتم اثنين ، فنزلت الآية ، أي : وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يُطاقون.
178
{وما جعلنا عِدَّتهم} تسعة عشر {إِلا فتنةً} أي : ابتلاء واختباراً {للذين كفروا} حتى قال أبو جهل ما قال ، أي : وما جعلنا هذا العدد إلاّ سبب افتتانهم ، فعبّر بالأثر عن المؤثّر ، وليس المراد جعل ذلك العدد في نفس الأمر فتنة ؛ بل جعله في القرآن أيضاً كذلك ، وهو الحُكم بانّ عليها تسعة عشر ، إذ بذلك يتحقق افتتانهم ، وعليه يدور ما سيأتي من استيقان أهل الكتاب ، وازدياد المؤمنين إيماناً. انظر أبا السعود. وقالوا في تخصيص الخزنة بهذا العدد ـ مع أنّه لا يطلب في الأعداد العلل : أنّ ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار ، وستة منهم يسوقونهم ، وستة يضربونهم بمقامع من الحديد ، والآخر خازن جهنّم ، وهو مالك ، وهو الأكبر. وقيل : في النار تسعة عشر دركاً ، قد سلّط على كل درك مَلك ، وقيل يُعذبون فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب ، وعلى كل لون ملك موكّل ، وقيل غير ذلك.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 178
(8/270)
لِيستيقنَ الذين أُوتوا الكتاب} ، لأنَّ عدتهم تسعة عشر في الكتابَيْن ، فإذا سمعوا مثلها في القرآن تيقّنوا أنه مُنزَّل من عند الله ، وهو متعلق بالجعل المذكور ، أي : جعلناهم كذلك ليكتسبوا اليقين بنبوته صلى الله عليه وسلم ، وصِدْقِ القرآن ، لموافقته لِما في كتبهم ، {ويزداد الذين آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {إِيماناً} لتصديقهم بذلك ، كما صدّقوا بسائر ما أُنزل ، فيزيدون إيماناً مع إيمانهم الحاصل ، أو : يزداد إيمانهم تيقُّناً ؛ لما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم ، {ولا يرتابَ الذي أوتوا الكتاب والمؤمنون} ، تأكيد لِما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان ، ونفي لما قد يعتري المستيقن من شُبهة ما ، وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في الارتياب ، حيث لم يقل : ولا يرتابوا ؛ للتنبيه على تباين النفيين حالاً ، فإنَّ انتفاء الارتياب عن أهل الكتاب مما ينافيه لِما فيه من الجحود ، وعن المؤمنين لما يقتضيه من الإيمان ، وكم بينهما ؟ والتعبير عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المُنبئة عن الحدث ؛ للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك. قاله أبو السعود.
(8/271)
وعطف على {يستيقن} ايضاً قولَه : {ولِيقولَ الذين في قلوبهم مرض} ؛ شك ؛ لأنَّ أهل مكة كان أكثرهم شاكين ، أو : نِفاق ، فيكون إخباراً بما سيكون بالمدينة بعد الهجرة ، {والكافرون} ؛ المشركون بمكة ، المُصرُّون على الكفر : {ماذا أراد اللهُ بهذا مثلاً} ؟ أي : أيُّ شيءٍ أراد بهذا العدد المستغرَب استغراب المثل ؟ وقيل : لمّا استبعدوه حسبوا أنه مَثَل مكذوب ، أو : أيُّ حكمة في جعل الملائكة تسعة عشر ، لا أكثر أو أقل ؟ وإيراد قولهم هذا بالتعليل ، مع كونه من باب فتنتهم ؛ للإشعار باستقلاله بالبشاعة. و " مثلاُ " : تمييز ، أو حال ، كقوله : {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ ءَايَةً} [الأعراف : 73]. {كذلك يُضل اللهُ مَن يشاء ويهدي مَن يشاء} أي : مثل ذلك الضلال وتلك الهداية يُضل الله مَن يشاء إضلاله ، بصرف اختياره إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالحق ،
179
ويهدي مَن يشاء هدايته بصرف اختياره عند مشاهدته تلك الآيات إلى جانب الهُدى ، فمحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء ، إضلالاً وهدايةً كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية.
{وما يعلمُ جنودَ ربك} أي : جموع خلقه ، التي من جملتها الملائكة المذكورون ، {إلاّ هو} ، إذ لا سبيل لأحد إلى حصر مخلوقاته ، والوقوف على حقائقها وصفتها ، ولو إجمالاً ، فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها ، من كَم وكيف ونسبة ، فلا يَعِز عليه جعلُ الخزنة أكثر مما هو عليه ، ولكن في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها ، {وما هي إِلاّ ذِكرَى للبشر} هذا متصل بوصف سقر ، أي : ما سقر وصفتها إلاّ تذكرة للبشر ؛ لينزجروا عن القبائح.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 178
(8/272)
كَلاَّ} ؛ ردع لمَن أنكرها ، أو نفي لأن يكون لهم تذكُّر ، بعد أن جعلها ذِكرى ، أي : لا يتذكرون لسبق الشقاء لهم ، {والقمرِ} ، أقسم به لِعظم منافعه ، {والليلِ إِذْ أدبرَ} أي : ذهب ، يقال : أدبر الليل ودبر : إذا ولّى ، ومنه قولهم : صاروا كأمس الدابر ، وقيل : أدبر : ولّى ، ودَبَر جاء بعد النهار ، {والصُبحِ إِذا أسفر} ؛ أضاء وانكشف ، وجواب القسم : {إِنها} أي : سقر {لإِحدَى الكُبَرِ} جمع كبرى ، أي : لإحدى الدواهي أو البلايا الكُبْر ، ومعنى كونها إحداهن : أنها من بينهن واحدة في العِظم لا نظيرة لها ، كما تقول : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء. {نذيراً للبشر} : تمميز لإحدى ، أي : إنها لإحدى الدواهي إنذاراً ، كقولك : هي إحدى النساء جمالاً ، أو حال مما دلّت عليه الجملة ، أي : عظمت منذرة ، {لمَن شاء منكم أن يتقدَّم أو يتأخّر} : بدل من " البشر " ، بإعادة الجار ، أي : نذيراً لمَن شاء منكم أن يسبق إلى الخير أو يتأخر عنه ، وعن الزجاج : أن يتقدّم إلى ما أمر به ، ويتأخر عما نهى عنه ، وقيل : " لمَن شاء " : خبر ، و " أن يتقدّم " : مبتدأ ، فيكون كقوله تعالى : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29]. قال المحَشي : وحاصله : أنّ العبد متمكن من كسب الخير وضده ، ولذلك كلّفه ؛ لأنه علّق ذلك على مشيئته ، وليس حجة ؛ لكونه مستقلاً غير مجبور ؛ لأنَّ مشيئته مُعلقة على مشيئة الله ، {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ} [الإنسان : 30] {كَلاَّ إِنَهُ تَذْكِرَةُ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ} [المدثر : 54-56] ، وما نبهت عليه من التمكُّن والاختيار في الظاهر هو فائدة بدل " لمَن شاء " من البشر. هـ.
(8/273)
الإشارة : من أسمائه تعالى الجليل والجميل ، فوَكَّل بتنفيذ اسمه الجليل جنوداً يَجرُّون الناسَ إلى أسباب جلاله ، من الكفر والعصيان ، ووكَّل بتنفيذ اسمه الجميل جنوداً يَجرّون الناسَ إلى أسباب جماله من الهدى والطاعة ، وما جعل ذلك إلاّ اختباراً واتبلاءً ، لمن يُدبر عنه أو يُقبل عليه ، وما جعلنا أصحابَ نار القطيعة إلاّ ملائكة ، وهم حُراس الحضرة يملكون النفس ، ويقذفونها في هاوية الهوى ، وما جعلنا عدتهم تسعة عشر
180
حجاباً كما تقدّم ، إلاّ فتنة لأهل الغفلة ، الكافرين بوجود الخصوصية ، اختباراً لمَن يقف معها ، فتحجبه عن ربه ، ولمَن يتخلّص منها ، فينفذ إلى ربه ، ليستيقن أهل العلم بالله حين يطَّهروا منها ، ويزداد السائرون إيماناً بمجاهدتهم في التخلُّص منها ، ولا يبقى في القلب ريب ولا وَهْم ، وليقول الذين في قلوبهم مرض من ضعف اليقين : ماذا أراد الله بخلق هذه الأمراض في قلوب العباد ؟ فيُقال : أراد بذلك إضلال قوم عن حضرته ، بالوقوف مع تلك الحُجب ، وهداية قوم ، بالنفوذ عنها ، وما يعلم جنود ربك القاطعة عنه بقهره تعالى ، والموصلة إليه برحمته ، إلا هو. وقال الورتجبي : جنوده : عظمته وكبرياؤه وسلطانه وقهره ، الذي صدرت منه جنود السموات والأرض ، وله جنود قلوب العارفين ، وأرواح الموحِّدين ، وأنفاس المحبين ، التي يستهلك بها كل جبّار عنيد ، وكل قهّار عتيد. قيل : قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : إنكم لا تقفون على المخلوقات ، فكيف تقفون على الأسامي والصفات ؟ !. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 178
ثم حذَّر من سَقَر الحظوظ ، والسقوط في مهاوي اللحوظ ، وأقسم أنها من الدواهي الكُبَر لِمن ابتُلي بها ، حتى سقط في الحضيض الأسفل من الناس ، فمَن شاء فليتقدّم إلينا بالهروب منها ، ومَن شاء فليتأخر بالسقوط فيها ، والغرق في بحرها. والعياذ بالله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 178
(8/274)
يقول الحق جلّ جلاله : {كلُّ نفس بما كسبتْ رهينةٌ} أي : مرهونة ، محبوسة عند الله تعالى بكسبها. ورهينة : فعلية ، بمعنى مفعولة ، وإنما دخلتها التاء ، مع أن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، تقول : رجل جريح ، وامرأة جريح ؛ لأنها هنا لم تتبع موصوفاً اصطلاحياً ، ومَن قال : إنَّ الخبر في معنى الصفة فهي تابعة له ، جعل " رهينة " اسماً بمعنى الرهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، وقيل : إنَّ التاء في رهينة للنقل مع الوصفية للاسمية ، لا للتأنيث ، كما في نصيحة وذبيحة. هـ. فكل واحد مرهون بذنبه.
{إِلاَّ أصحابَ اليمين} فإنهم فاكُّون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم ، كما يفك
181
(8/275)
الراهن رهنه بأداء الدَّين ، وقيل : هم أطفال المسلمين ؛ لأنهم لا أعمال لهم يُرهنون بها ، وقيل : هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، {في جنات} ، لا يُكتَنَهُ كُنهها ، ولا يُدرك وصفها ، أي : هم في جناتٍ ، والجملة استئناف بياني ، كأنه قيل : ما بالهم ؟ فقال : هم {في جناتٍ يتساءلون} ؛ يسأَل بعضهم بعضاً {عن} أحوال {المجرمين} ، فيقول بعضهم لبعض : قد سألناهم فقلنا له : {ما سلككم في سقرٍ} ؟ فـ {قالوا لم نك من المصلين...} الخ. قاله النسفي ، ورده أبو السعود ، فقال : وليس المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضُهم بعضاً ، على أن يكون كل واحد منهم سائلاً ومسؤولاً معاً ، بل صدور السؤال عنهم مجرداً عن وقوعه عليهم ، فإنَّ صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدد ، ووقوعه عليه معاً ، بحيث يصير كل واحد فاعلاً ومفعولاً معاً ، كما في قولك : تراءى القوم ، أي : رأى كُلُّ واحد منهم الآخر ، لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني ، ويقصد بها الدلالة على الأول فقط ، فيُذكر للفعل حينئذ مفعول ، كما في قولك : تراءوا الهلال ، فمعنى {يتساءلون عن المجرمين} : يسألونهم عن أحوالهم ، وقد حذف المسؤول لكونه عيَّن المسؤول عنه ، أي : يسألون المجرمين عن أحوالهم ، وقوله تعالى : {ما سلككم في سقر} : مقول لقول هو حال من فاعل " يتساءلون " أي : يسألونهم قائلين : أيُّ شيء أدخلكم في سقر ؟ فتأمل ودع عنك ما يتكلّف المتكلفون. هـ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 181
(8/276)
قالوا} أي : المجرمين مجيبين للسائلين : {لم نكُ من المصلِّين} للصلوات الواجبة ، {ولم نك نُطعم المسكين} كما يُطعم المسلمون ، وفيه دلالة على أنّ الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة ، {وكنا نخوض مع الخائضين} أي : نشرع في الباطل مع الشارعين فيه ، فنقول الباطل والزور في آيات الله ، {وكنا نُكذِّب بيوم الدين} ؛ بيوم الجزاء والحساب. وتأخير ذكر جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل ؛ لتفخيمها ، كأنهم قالوا : وكنا بعد ذلك مكذِّبين بيوم الدين ، ولبيان كون تكذيبهم به مقارناً لسائر جناياتهم المعدودة مستمراً إلى آخر عمرهم ، حسبما نطق به قوله تعالى : {حتى أتانا اليقينُ} ؛ الموت ومقدماته ، {فما تنفعهم شفاعةُ الشافعين} من الملائكة والنبيين والأولياء والصالحين ، لأنها خاصة بالمؤمنين ، وفيه دلالة على ثبوت الشفاعة للمؤمنين ، وفي الحديث : " إن من أمتي مَن يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر ". {فما لهم عن الذكرةِ} ؛ عن التذكير والوعظ بالقرآن {معرِضين} ؛ مولّين ، والفاء لترتيب ما قبلها من موجبات الإقبال عليه ، والاتعاظ به من سوء حال المعرضين ، و " معرضين " : حال من الضمير الواقع خبراً لـ " ما " الاستفهامية ، كقولك : ما لك قائماً ؟ أي : فإذا كان حال المكذّبين به على ما ذكر من سوء الحال. فإيُّ شيء حصل لكم حال كونكم معرضين عن القرآن ، مع تعاضد الدواعي إلى الإيمان ؟ {كأنهم حُمُرٌ} ؛ أي حُمر الوحش
182
{مُستنفِرَةٌ} ؛ شديدة النفار ، كأنها تطلب النفار من نفوسها. وقرأ نافع والشامي بفتح الفاء ، أي : استنفرها غيرُها ، وجملة التشبيه حال من ضمير " معرضين " أي : مشبّهين بحُمر نافرة {فرّتْ من قسورة} أي : من أسد ، فَعْولة من القَسر ، وهو القهر ، وقيل : هي جماعة الرماة الذين يصطادونها ، شُبِّهوا في إعراضهم عن القرآن ، واستماع ما فيه من المواعظ ، وشرودهم عنه بحُمر حدث في نفارها ما أفزعها. وفيه مِن ذمهم وتهجين حالهم من تشبيههم بالحُمر ما لا يخفى.
(8/277)
{بل يُريد كل امرىءٍ منهم أن يُؤتَى صُحفاً مُنَشَّرةً} : عطف على مُقدّر يقتضيه الكلام ، كأنه قيل : لم يكتفوا بتلك التذكرة ، ولم يَرضوا بها ، بل يُريد كل امرىء منهم أن يُؤتى {صُحفاً مُنشَّرة} ؛ قراطيس تُنشر وتٌقرأ ، وذلك أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : لن نتبعك حتى تأتي كلَّ واحدٍ منا بكتاب من السماء ، عنوانها : من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، يؤمر فيها باتباعك ، وهذا كقوله : {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزِلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء : 93]. وقيل : قالوا : إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة ، فيها براءته وأمنه من النار.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 181
كَلاَّ} ، ردع لهم عن تلك الجرأة ، وزجر عن اقتراح الآيات ، {بل لا يخافون الآخرة} فلذلك يُعرضون عن التذكرة ، لاَ لامتناع إيتاء الصُحف. {كَلاَّ إِنه تذكرةٌ} زجَرهم عن إعراضهم عن التذكرة ، وقال : إن القرآن تذكرة بليغة كافية ، {فمَن شاءَ ذكرَه} أي : فمَن شاء أن يذكره ذكره ، وحاز سعادة الدارين ، {وما يَذْكُرُون} بمنجرد مشيئتهم {إِلاّ أن يشاء اللهُ} هدايتهم فيذكرون ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : وما يذكرون لِعلةٍ من العلل ، وفي حال من الأحوال ، إلاَّ أن يشاء الله ذلك ، وهو تصريح بأنَّ أفعال العباد كلها بمشيئة الله تعالى ، وقرأ نافع ويعقوب بتاء الخطاب للكفرة. {هو أهلُ التقوى} أي : حقيق با ، يُتقى عقابه ، ويؤمن به ويُطاع ، {وأهلُ المغفرةِ} ؛ حقيق بأن يَغفر لمَن آمن به وأطاعه ، وعنه عليه السلام في تفسيرها : " هو أهل أن يُتّقى ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه ". وفي رواية ابن ماجه والترمذي : " قال الله تعالى : أنا أهل أن أُتَّقَى ، فلا يُجعل معي إله آخر ، فمَن اتقى ذلك فأنا أهل أن أغْفر له " قال ذلك عليه السلام لَمّا قرأ الآية. هـ.
(8/278)
الإشارة : قال الورتجبي : قوله تعالى : {كل نفس بما كسبت رهينة...} الخ ، كلُّ واقفٍ مع حال ، وملاحظ لمقام ، فهو مرتهن ، إلاّ مَن تجرّد مما دون الله ، وهم أصحاب يمين مشاهدة الحق ، فإنهم في جنان قُربه ووصاله. هـ. أي : كل نفس واقفة مع حالها أو مقامها مرتهنة معه ، إلاّ مَن ينفذ إلى شهود الحق ، إنه يكون من قبضة اليمين الذين اختارهم
183
الله بمحض الفضل ، فهم في جنات المعارف يتساءلون عن الغافلين : ما سلككم في سقر السقوط من درجة القُرب والوصال ؟ قالوا : لم نك من المُصلِّين الصلاة الدائمة ، ولم نك نُطعم المسكين ، بل كنا بُخلاء بأموالنا وأنفسنا ، وكنا نخوض في أودية الدنيا مع الخائفين ، وكنا نُكذّب بيوم الدين ؛ لأنَّ أفعالهم كانت فعل مَن لا يُصدّق بيوم الحساب ، حتى أتانا اليقين بعد الموت ، فندمنا ، فلم ينفع الندم وقد زلّت القَدَم ، فما تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، حيث ماتوا غافلين ؛ لأنَّ الشفاعة لا تقع في مقام القُرب والاصطفاء ، فمَن مات بعيداً بسبب الغفلة لا يصير قريباً ، ولو شفع فيه ألف نبي وألف وَلِيّ ، إذ القُرب على قدر الكشف ، وكشف الحجاب عن الروح إنما يحصل في هذه الدار ، لقوله عليه السلام : " يموت المرء على ما عاش عليه ، ويُبعث على ما مات عليه " وإنما تقع الشفاعة في النجاة ، أو في الدرجة الحسية ، والله تعالى أعلم. فما لهم ، أي : لأهل الإعراض عن المذكِّر ، عن التذكرة منه مُعرضين ، كأنهم حُمر الوحش فرّت من قسورة ، وتشبيههم بالحُمر في البلادة والجهل ، وكل مَن طلب الكرامة من الأولياء فهو كاذب في الطلب ، إذ لو صدق في الطلب لأراه الله الكرامات على أيديهم كالسحاب ، كلاَّ بل لا يخافون الآخرة ، ولو خافوها وجعلوها نُصب أعينهم لما توقّفوا على كرامة ولا معجزة ، والأمر كله بيد الله ، هو أهل التقوى وأهل المغفرة. وبالله التوفيق ، وصلّى الله سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
184
جزء : 8 رقم الصفحة : 181
(8/279)
سورة القيامة
جزء : 8 رقم الصفحة : 184
يقول الحق جلّ جلاله : {لا أُقسم} أي : أُقسم. وإدخال " لا " النافية على فعل القسم شائع ، كإدخاله على المقسم به في " لا وربك " و " لا والله " ، وفائدتها : توكيد القسم ، وقيل : صلة ، كقوله : {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد : 25] وقيل : هي نفي وَرَدَ لكلام معهود قبل القسم ، كأنهم أنكروا البعث ، فقيل : لا ، أي : ليس الأمر كذلك ، ثم قال : أُقسم {بيوم القيامة} إنَّ البعث لواقع. وأيًّا ما كان ففي الإقسام على تحقيق البعث بيوم القيامة من الجزالة ما لا يخفى. وقيل : أصله : لأُقسم ، كقراءة ابن كثير ، على أنَّ اللام للابتداء ، و " أٌقسم " : خبر مبتدأ مضمر ، أي : لأنا أُقسم ، ويُقويه أنه في الإمام بغير ألف ثم أشبع فجاء الألف.
{ولا أٌقسم بالنفس اللوّامة} ، الجمهور على أنه قسم آخر ، وقال الحسن : الثانية نفي ، أي : أُقسم بيوم القيامة لا بالنفس اللوّامة ، فيكون ذمًّا لها ، وعلى أنه قسم يكون مدحاً لها ، أي : أقسم بالنفس المتقية ، التي تلوم صاحبها على التقصير ، وإن اجتهدت في الطاعة. أو : بالنفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمّارة ، وقيل : المراد الجنس ، لِما رُوي أنه عليه السلام قال : " مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فَاجِرَةٍ إِلاَّ وتلُومُ نفسها يوم القِيامَة ، إنْ عَملت خَيْراً ، قالت : كيف لم أزدْ ؟ ! وإِنْ عملت شرًّا ، قالت : ليتني كُنتُ قصرتُ " وذكره
185
الثعلبي من كلام البراء : قال أبو السعود : ولا يخفى ضعفه ؛ لأنِّ هذا القدر من اللوم لا يكون مدراراً للإعظام بالإقسام ، وإن صدَر عن النفس المؤمنة المحسنة ، فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس ، وقيل : بنفس آدم عليه السلام ، فإنها لا تزال تتلوَّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 185(8/280)
وجواب القسم : لتُبعثنّ ، دليله : {أيَحْسَبُ الإِنسانُ} أي : الكافر المنكرِ للبعث {ألَّن نجمعَ عِظامه} بعد تفرّقها ورجوعها عظاماً رفاتاً مختلطاً بالتراب ، أو : نسفَتْها الرياح وطيَّرتها في أقطار الأرض ، أو : ألقتها في البحار. وقيل : إنَّ عَدِيّ بن ربيعة ، خَتنَ الأخنس بن شريق ، وهما اللذان قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم اكفني جارَيْ السوء ، عَدياً والأخنس " قال ـ عَدِيّ ـ : يا محمد ، حدِّثنا عن يوم القيامة متى يكون ، وكيف أمرها وحالها ؟ فأخبره عليه السلام ، فقال : يا محمد ؛ لو عاينتُ ذلك لم أصدقك ، ولم أُومِنْ بك ، أَوَيجمعُ الله هذه العظام ؟ فنزلت. {بلى} أي : نجمعها حال كوننا {قادرين على أن نُسَوّي بنانه} أي : أصابعه كما كانت في الدنيا بلا انفصال ولا تفاوت مع صغرها ، فكيف بكبار العِظام ؟ ! {بل يريد الإِنسانُ لِيَفجُر أمامه} : عطف على {أيحسب} إمّا على أنه استفهام توبيخي ، أضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا ، أو : على أنه إيجاب انتقل إليه عن الاستفهام ، أي : بل يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات ، وما يستقبله من الزمان ، لا يرعوي عنه. قال القشيري : {لِيفجُر أمامه} أي : يعزم على أنه يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته ، ولا يحلّ عقدةَ الإصرار من قلبه ، فلا تصحّ توبتُه ؛ لأنّ التوبة من شرطها : العزم على أن لا يعودَ إلى مثل ما عَمِل ، فإذا كان استحلى الزلّة في قلبه ، وتفكّر في الرجوع إلى مثله فلا تصح ندامتُه. هـ. وقيل : {ليفجُرَ أَمامَه} أي : يكفر بما قُدامه ، ويدل على هذا قوله : {يسأل أيَّانَ يومُ القيامةِ} أي : متى يكون ؟ استبعاداً واستهزاءً.
(8/281)
{فإِذا بَرِقَ البصرُ} أي : تحيَّر ، من : برق الرجل : إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، وقرأ نافع بفتح الراء ، وهي لغة ، أو من البريق ، بمعنى لمع من شدة شخوصه ، {وخَسَفَ القمرُ} ؛ ذهب ضوؤه أو غاب ، من قوله : {فَخَسَفْنَا بِهِ} [القصص : 81] وقرىء : خُسف ، بضم الخاء. {وجُمعَ الشمسُ والقمرُ} أي : جُمع بينهما ، ثم يُكوّران ويُقذفان في النار ، أو يُجمعان أسودين مكورين ، كأنهما ثوران عقِيران. وفي قراءة عبد الله : " وجمع بين الشمس والقمر ". وقال عطاء بن يسار : يجمع بينهما يوم القيامة ، ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى ، أو : جمع بينهما في الطلوع من المغرب. {يقول الإِنسانُ يومَئذٍ} أي : حين تقع هذه الأمور العظام : {أين المفَرُّ} أي : الفرار من النار ، يائساً منه ، والمراد بالإنسان : الكافر ، أو : الجنس ، لشدة الهول. قال القشيري : وذلك حين تُقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة ، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك ، فيقول الإنسان : أين المفر ؟ فيقال :
186
لا مهرب من قضاء الله ، " إلى ربك يومئذ المستقر " ، أي : لا محيد عن حكمه. هـ. والمفر : مصدر ، وقرأ الحسن بكسر الفاء ، فيحتمل المكان أو المصدر.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
(8/282)
كلاَّ} ؛ ردعٌ عن طلب المفرّ وتمنِّيه ، {لا وَزرَ} ؛ لا ملجأ ولا حصن ، وأصل الوَزر : الجبل الذي يمتنع فيه. قال السدي : كانوا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال ، فقال تعالى : لا جبل يعصمكم يومئذ مني ، {إِلى ربك يومئذ المستقَرُّ} أي : إليه خاصة استقرار العباد ، ومنتهى سيرهم ، أو : إلى حُكمه استقرار أمرهم ، أو : إلى مشيئته موضع قرارهم ، يُدخل مَن يشاء الجَنة ومَن يشاء النار ، {يُنبّأُ الإِنسانُ يومئذٍ} أي : يُخبر كل امرىء ، برًّا كان أو فاجراً ، عند وزن الأعمال {بما قَدَّم} من عمله خيراً كان أو شرًّا ، فيُثاب على الأول ، ويُعَاقب على الثاني ، {وما أخَّرَ} أي : لم يعمله خيراً كان أو شرًّا ، فيُعاقب بالأول ويثاب على الثاني ، أو : بما قدّم من حسنة أو سيئة قبل موته ، وبما أَخَّرَ من حسنة أو سيئة سَنَّها فعُمل بها بعد موته ، أو : بما قدّم في أول عمره ، وأخَّرَ عمله في آخر عمره ، أو : بما قَدَّم من أمواله أمامه ، وأخَّرَ آخره لورثته ، نظيره. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار : 5].
(8/283)
{بل الإِنسانُ على نفسِهِ بصيرةٌ} أي : شاهِدٌ بما صدر عنه من الأعمال السيئة ، كما يُعرب عنه التعبير بـ " على " وما سيأتي من الجملة الحالية ، والتاء للمبالغة ، كعلاّمة ، أو : أنّثه لأنه أراد به جوارحه ؛ إذ هي التي تشهد عليه ، أو : هو حُجّة على نفسه ، والبصيرة : الحُجة ، قال الله تعالى : {قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِكُمْ} [الأنعام : 104] وتقول لغيرك : أنت حُجّة على نفسك. ومعنى " بل " : الترقي ، أي : يُنبأ الإنسان بأعماله ، بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله ، شاهد على نفسه ، لأنّ جوارحه تنطق بذلك. و " بصيرة " : مبتدأ ، و " على نفسه " : خبر مقدّم ، والجملة : خبر " الإنسان " ، {ولو أَلْقَى معاذِيرَه} : حال من الضمير في " بصيرة " ، أو : من مرفوع (ينبأ) أي : ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه أي : هو بصيرة على نفسه ، تشهد عليه جوارحُه ، ويُعمل بشهادتها ، ولو اعتذر بكل معذرة ، أو يُنبأ بأعماله ولو اعتذر..الخ. والمعاذير : اسم جمع للمعذرة ، كالمناكير اسم جمع للمنكَر ، لا جمع ؛ لأنّ جمعها معاذِر بالقصر ، وقيل : جمع " مِعْذار " وهو : الستر ، أي : ولو أرخى ستوره. وقيل : الجملة استئنافية ، أي : لو ألقى معاذيره ما قُبلت منه ، لأنَّ عليه مَن يُكذِّب عُذره ، وهي جوارحه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد قرن الله تعالى قسَمَه بالنفس اللوّامة بِقسَمِه بيوم القيامة ، لمشاركتها له في التعظيم ، بل النفس اللوَّامة أعظم رتبة عند الله ، لأنها تكون لوّامة تلوم صاحبها على القبائح ، ثم تكون لهَّامة تُلهمه الخيرات والعلوم اللدنية ، ثم تكون مطمئنة ، حين تطمئن بشهود الحق بلا واسطة ، بل تستدل بالله على غيره ، فلا ترى سواه ، فحينئذ ترجع إلى أصلها ، وتُرجع الأشياء كلها إلى أصولها ، وهو القِدَم والأبد ، فيتلاشى الحادث ويبقى
187
(8/284)
القديم وحده ، كما كان وحده. فالنفوس أربعة : أمّارة ، ولوّامة ، ولهّامة ، ومطمئنة ، وهي في الحقيقة نفس واحدة ، تتطور وتتقلب من حال إلى حال ، باعتبار التخلية والتحلية ، والترقية والتردية ، فأصلها الروح ، فلما تظلّمت سميت نفساً أمّارة ، ثم لوّامة ، ثم لهّامة ، ثم مطمئنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
قال القشيري : أيحسب الإنسان ، أي : الإنسان المحجوب بنفسه وهواه ، ألَّن نجمع عِظامه ؛ أعماله الحسنة والسيئة ، بلى قادرين على أن نُسَوِّي بنانه ، أي : صغار أفعاله الحسنة والسيئة ، بل يُريد الإنسان المحجوب لِيَفْجُرَ أمامه ، بحسب الاعتقاد والنية ، قبل الإتيان بالفعل ، أي : يعزم على المعاصي في المستقبل قبل أن يفعل ، يسأل أيَّان يوم القيامة ؟ لطول أمله ، ونسيان آخرته ، ولو فُتحت بصيرتُه لَشَاهد القيامة في كل ساعة ولحظة ، بتعاقب تجلي الإفناء والإبقاء. فإذا بَرِقَ البصرُ : تحيّر من سطوات أشعة سبحات التجلِّي الأحدي الجمعي ، وخسَف القمر ، أي : ستر نور قمر القلب بنور شمس الروح ، وجُمع الشمس والقمر ، أي : جُمع شمس الروح وقمر القلب ، بالتجلِّي الأحدي الجمعي ، يعني : فيغيب نور قمر الإيمان في شعاع شمس العرفان ، يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ؟ من خوف الاضمحلال والاستهلاك ، وليس عنده حينئذ قوة التمكين فيخاف من الاصطلام ، إلى ربك يومئذ المستقر بالرسوخ والتمكين ، بعد الفرار إلى الله ، قال تعالى : {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ} [الذاريات : 50]. هـ. بالمعنى.
يُنبأ الإنسانُ يومئذٍ بما قَدَّم من المجاهدة ، حيث يرى ثمرتها ، وما أَخَّرَ ، حيث يرى شؤم تفريطه فيها ، فالمشاهدة على قدر المجاهدة ، فبقدر ما يُقَدِّم منها تعظم مشاهدته ، وبقدر ما يُؤخِّر منها تَقِلّ. بل الإنسان على نفسه بصيرة ، يرى ما ينقص من قلبه وما يزيد فيه ، ويشعر بضعفه وقوته ، إن صحّت بصيرته ، وطهرت سريرته ، فإذا فرط في حال سيره لا يقبل عذره ، ولو ألقى معاذيره. وبالله التوفيق.
(8/285)
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
قلت : اختلف المفسرون في وجه المناسبة في هذه الآية ، فقال بعضهم : ما تضمنه من الاقتدار على حفظه وإبقائه في قلبه ، بإخراجه عن كسبه وإمساكه وحفظه ، فالقادر على
188
ذلك قادر على إحياء الموتى وجمع عظامها ، وتسوية بنانها. ونَقَل الطيبي عن الإمام الفخر : أنه تعالى لمّا أخبر عن الكفار أنهم يُحبون العاجلة ، وذلك قوله : {بل يُريد الإنسان لِيفجُر أَمامه} بيَّن أنَّ العَجَلة مذمومة ، ولو فيما هو أهم الأمور وأصل الدين ، بقوله : {لا تُحرِّكْ به لسانَك} فاعترض به ، ليؤكد التوبيخ على حب العاجلة بالطريق الأولى. هـ. وقيل : اعترض نزولُها في وسطِ السورة قبل أن تكمل ، فوُضعت في ذلك المحل ، كمَن كان يسرد كتاباً ثم جاء سائل يسأل عن نازلةٍ ، فيطوي الكتابَ حتى يُجيبه ، ثم يرجع إلى تمام سرده. انظر الإتقان.
يقول الحق جلّ جلاله : {لا تُحرِّكْ به} ؛ بالقرآن {لسانَكَ لِتعجَلَ به} ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأخذ في القراءة قبل فراغ جبريل ، كراهة أن يتفلّت منه ، فقيل له : لا تُحرك لسانك بقراءة الوحي ، ما دام جبريل يقرأ ، {لِتعجَلَ به} ؛ لتأخذه على عجلة ، لئلا يتفلّت منك ، ثم ضَمِنَه له بقوله : {إِنَّ علينا جَمْعَه} في صدرك ، {وقرآنه} ؛ وإثبات قراءته في لسانك ، فالمراد بالقرآن هنا : القراءة ، وهذا كقوله : {وَلآ تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه : 114] ، {فإِذا قرأناه} على لسان جبريل {فاتَّبعْ قرآنه} أي : قراءته ، {ثم إِنَّ علينا بيانَهُ} إذا أشكل عليك شيء مِن معانيه وأحكامه.
(8/286)
الإشارة : لا تُحرِّكْ بالواردات الإلهية لسانك لِتَعْجَل به حين الإلقاء ، بل تمهّل في إلقائه ليُفهم عنك ، إنَّ علينا جمعه وقرآنه ، أي : حفظه وقراءته ، فإذا قرأناه على لسانك في حال الفيض فاتبع قرآنه ، ثم إنَّ علينا بيانه. وفي الحِكم : " الحقائق ترد في حال التجلي جملة ، وبعد الوعي يكون البيان ، {فإذا قرأناه فاتبعْ قرآنه إنَّ علينا بيانه} ". ولا شك أنَّ الواردات في حال الفيض تبرز مجملةً ، لا يقدر على حصرها ولا تَفَهُّمِها ، فإذا فَرَغَ منها قولاً وكتابة فتَدَبرها وجدها صحيحةَ المعنى ، واضحةَ المبنى ، لا نقص فيها ولا خلل ، لأنها من وحي الإلهام ، وكان بعض المشايخ يقول لأصحابه : إني لأستفيد مني كما تستفيدون أنتم ، وكان الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه إذا فاض بالمواهب يقول : هلاَّ مَن يكتب عنا هذه الأسرار. إلى غير ذلك مما هو مُدوَّن عند أهل الفن. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 188
189
يقول الحق جلّ جلاله : {كلاَّ} أي : انزجروا عما أنتم عليه من إنكار البعث والفجور ، {بل تُّحبون العاجلةَ وتَذَرون الآخرة} أي : بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل ، وجُبلتم عليه ، تَعْجلون في كل شيء ، ولذلك تُحبون العاجلة مع فنائها وسرعة ذهابها ، {وتذرون الآخرة} مع بقائها ودوام نعيمها. قال بعضهم : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من طين يبقى ، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى ، لا سيما والعكس ، الآخرة من ذهب يبقى ، والدنيا من طين يفنى. ومَن قرأ بالغيب فالكلام مع الكفرة.
(8/287)
{وجوه يومئذٍ ناضرةٌ} أي : وجوه كثيرة ، وهي وجوه المؤمنين المخلصين ، يوم إذ تقوم القيامة ، بهية متهللة ، يشاهَدُ عليها نَضْرة النعيم ، {إِلى ربها ناظرةٌ} أي : مستغرِقة في مشاهدة جماله ، فتغيب عما سواه. ورؤيته تعالى يوم القيامة متفاوتة ، يتجلّى لكل واحد على قدر ما يطيق من نور ذاته على حسب استعداده في دار الدنيا ، فيتنعّم كل واحد في النظرة على قدر حضوره هنا ، ومعرفته.
ورؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة ، واقعة في الدارين عند العارفين ، وهذه الآية شاهدة لذلك ، وهي مخصَّصة لقوله : {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام : 103] أي : لا تراه ، على قولٍ. قال بعضُهم : هي واقعة للمؤمنين قبل دخول الجنة وبعده ، حسبما ورد في الصحيح. وقوله في الحديث : " فيأتيهم الله في الصورة التي لا يعرفونها " ، المراد بالصورة : الصفة ، والمعنى : أنهم يرونه ثانياً على ما يعرفونه من صفاته العلية ، وأهل المعرفة لا ينكرونه في حال من الأحوال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 189
والمقصود من الآية : تقبيح رأي حب العاجلة بذكر حسن عاقبة حب الآجلة ، أي : كيف يذر العاقل مثل تلك المسرّة ، التي ليس فوقها شيء ، بدلاً من هذه اللذة الخسيسة الدنية ، أم كيف يغتر بعروض هذا السرور وعاقبته الهلاك والثبور ؟ انظر الطيبي. وحَمْل النظرعلى الانتظار لأمر ربها ، أو لثوابها ، لا يصح خلافاً للمعتزلة ؛ لأنَّ الانتظار لا يُسْند إلى الوجه ، وأيضاً : المستعمل بمعنى الانتظار لا يتعدّى بـ " إلى " ، مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار.
(8/288)
{ووجوه يومئذٍ باسرٍةٌ} أيك كالحة ، شديدة العبوسة ، وهي وجوه الكفار. {تظن} أي : يتوقع أربابُها {أن يُفعل بها فاقِرة} أي : داهية عظيمة ، تقصم فقار الظهر. {كلاَّ} ، ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة ، أي : ارتدعوا عن ذلك وتنبّهوا لِما بين أيديكم من الموت ، الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم ، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلّدين ، وذلك {إِذا بلغتِ} الروح {التراقيَ} ، ولم يتقدّم للروح ذكر ؛ إلاَّ أنَّ السياق يدل عليها ، والتراقي : العظام المكتنفة لحفرة النحر عن يمين وشمال ، جمع : ترقوة ، أي : إذا بلغت
190
أعالي الصدور ، {وقيلَ مَن راقٍ} أي : قال مَن حضر المحتضر : مَن يرقيه وينجيه مما هو فيه من الموت ؟ وهو من الرُقية ، وقيل : هو من كلام ملائكة الموت ، أي : أيكم يَرْقَى بروحه ، ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ؟ من الترقِّي. {وظنَّ أنه الفِراقُ} أي : تيقّن المحتضرُ أنَّ ما نزل به هو الفِراق من دار الدنيا ونعيمها التي كان يحبها {والتفَّتِ الساقُ بالساقِ} أي : التوت ساقاه بعضها على بعض عند موته. وعن سعيد بن المسيِّب : هما ساقاه حين تُلفّان في أكفانه ، وقيل : شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة ، على أنَّ الساق مَثَلٌ في الشدة. وعن ابن عباس رضي الله عنه : هَمَّان : هَمٌّ الولد ، وهَمُّ القدوم على الواحد الصمد. {إِلى ربك يومئذٍ المساقُ} أي : إلى الله وإلى حكمه يُساق ، لا إلى غيره ، إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار ، وهو مصدر : ساقه مساقاً.
(8/289)
{فلا صدَّق} ما يجب به التصديق ، من الرسول والقرآن الذي نزل عليه ، أو : فلا صدّق ماله زكاه ، {ولا صَلَّى} مافُرض عليه ، والضمير فيها للإنسان المذكور في قوله : {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة : 3] ، أو : إلى المحتضر المفهوم من قوله : {إذا بلغت التراقي} ، وهو أقرب. {ولكن كذَّب} بما ذكر من الرسول والقرآن {وَتَولَّى} عن الإيمان والطاعة ، {ثم ذهب إلى أهله يَتَمطَّى} ؛ يبختر بذلك ، وأصله : يتمطط ، أي : يتمدّد ؛ لأنّ المتبختر يَمُدُّ خطاه ، فأبدلت الطاءُ ياءً ؛ لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة ، قال في النهاية : مِشْيةٌ مُطيْطاء ، بالقصر والمد ، أي : فيها تَبخْتُرن ويقال : مَطَوْتُ ومَطَطْتُ بمعنى مدَدْتُ ، وهي من المُصَغَّراتٍ التي لم يُستعمل لها مُكَبَّرٌ. هـ. أو : من المطا ، وهو الظَّهْر فإنه يلويه.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 189
(8/290)
أَوْلَى لك فأَوْلَى} أي : ويل لك ، وأصله : أولاك الله ما تكره ، واللام مزيدة ، كما في قوله : {رَدِفَ لَكُم} [النمل : 72] أو : أولى الهلاك لك فأولى ، وقيل : هو مقلوب من الويل ، وقيل : أولى بالعذاب وأحق به ، وقيل : من الوَلى ، وهو القرب ، أي : قاربه ما يهلكه. {ثم أَوْلَى لك فأَوْلَى} ، كرر للتأكيد ، كأنه قيل : ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك ، وقيل : التكرير فيه ، لأنه أراد بالأول : الهلاك الدنيوي وفي القبر والبرزخ ، ثم في القيامة ، ثم في النار. {أيَحْسَبُ الإِنسانُ أن يُترك سُدىً} ؛ أيظن الكافرُ أن يُترك مُهْمَلاً ، لا يُؤمر ولا يُنهى ولا يُبعث ولا يُجازَى ، {ألم يكُ نطفة مِن مَنِيٍّ تُمنى} ؟ أي : تُراق في الأرحام ، {ثم كان علقةً} أي : صار المَنِي قطعة دم جامد ، بعد أربعين يوماً {فخَلَقَ فسَوّى} أي : فخلق الله منها بشراً سويًّا ؟ {فجعل منه} ؛ من الإنسان ، أو : من المَنِي {الزوجين} ؛ الصنفين {الذكرَ والأُنثى} لحكمه بقاء النسل ، {أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى} وهو أهون من البدء في قياس العقول ؟ كان عليه السلام إذا قرأها يقول : " سبحانك! بلى ".
191
الإشارة : قال في الإحياء : اعلم أنَّ رأس الخطايا والمهِلكة هو حب الدنيا ، ورأس أسباب النجاة هو : التجافي بالقلب عن دار الغرور. ثم قال : واعلم أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلاَّ بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا ، ولا تحصل المحبة إلاَّ بالمعرفة ، ولا تحصل المعرفة إلاَّ بدوام الفكر ، ولا يحصل الأنس إلاَّ بالمحبة ودوام الذكر ، ولا تتيسَّر المواظبة على الذكر إلاَّ بإقلاع حب الدنيا من القلب ، ولا يقع ذلك إلاّ بترك لذات الدنيا وشهواتها ، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات ، ولا تنقمع الشهوات بشيءٍ كما تنقمع بنار الخوف المحرقة للشهوات. هـ. على نقل صاحب الجواهر.
(8/291)
ومَن أسعده الله بلقاء شيخ التربية هان عليه معالجة النفس من غير تعب ، في أقرب وقت ، بحيث يُغيّبه عنها ، ويزُجه في الحضرة ، في أقرب زمان ، فيدخل في قوله تعالى : {وجوده يومئذ ناضرةٌ إِلى ربها ناظرةٌ} فتحصل له النضرة والنظرة في الدنيا والآخرة ، فيفنى عن نظره حسُّ الكائنات ، وتظهر أسرار الذات الأزلية للعيان بادية ، فيستدل بالله على غيره ، فلا يرى سواه ، وينشد ما قال الشاعر :
فَلم يَبْق إلاّ الله لم يبقَ كائن
فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثَمَّ بائِنُ
جزء : 8 رقم الصفحة : 189
بِذَا جاء بُرهانُ العَيانِ فما أرى
بِعَيني إلاَّ عينَه إذْ أُعايِنُ
(8/292)
قال القشيري : قوله تعالى : {وجوه يومئذٍ ناضرةٌ...} الخ ، يُقال : هذه الآية دليل على أنهم بصفة الصحو ، ولا يداخلهم حيرة ولا دهش ، لأنَّ النضرة من أمارات البسط ، والبقاء في حال اللقاء أتم من اللقاء ، والرؤية عند أهل التحقيق تقتضي بقاء الرائي.. الخ كلامه. {ووجوه يومئذ باسِرة} وهي وجوه أهل الغفلة ، المحجوبين في الدنيا عن شهود الحق ، تظن أن يُفعل بها داهية فاقرة ، لِما فرّطت في جنبه ـ تعالى ـ من عدم التوجه إليه ، كلاَّ ، فلترتدع اليوم ، ولتنهض قبل فوات الإبان ، وهو إذا بلغت الروحُ التراقي ، وقيل : مَن راقٍ ؟ والتفت الساق بالساق ، إلى ربك يومئذ المساق ، فيحصل الندم ، وقد زلّت القدم ، فلا صدّق بوجود الخصوصية عند أربابها ، فيصحبهم ليزول عنه الغين والمرض ، أي : غين الحجاب ومرض الخواطر والشكوك ، ولا صلَّى صلاةَ القلوب ، ولكن كذَّب بوجود الطبيب ، وتولِّى عنه مع ظهوره ، ثم ذهب إلى هواه ودنياه يتمطى ، أَوْلَى لك فأَوْلى ، أي : أبعدك الله وطردك ، ثم أَوْلَى لك فأوْلى ، أيحسب الإنسانُ أن يتركه الحقُ سدىً ، من غير أن يُرسل له داعياً يدعوه إلى الحق ؟ ألم يك نطفة مهينة ، ثم صوَّره ونفخ فيه من روحه ، أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى ؟ أي : القلوب والأرواح الميتة ، بالعلم والمعرفة ، بلى وعزة ربنا إنه لَقادر ، " مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته ، وأن يُخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شيء مقتدراً " وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد ، وآله.
192
جزء : 8 رقم الصفحة : 189(8/293)
سورة الإنسان
جزء : 8 رقم الصفحة : 192
يقول الحق جلّ جلاله : {هل أتى على الإِنسان} ، والاستفهام للتقرير والتعريف ، أو بمعنى " قد " ، أي : قد مضى على الإنسان قبل زمانٍ قريبٍ {حِينٌ من الدهر} أي : طائفة محدودة كائنة من الزمن الممتد {لم يكن شيئاً مذكوراً} بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإنسانية أصلاً ، كالعنصر والنطفة وغير ذلك. والجملة المنفية : حال من الإنسان ، أي : مضى عليه زمان غير مذكور ، أو صفة لـ " حين " على حذف العائد ، أي : لم يكن فيه شيئاً ، والمراد بالإنسان : الجنس.
والإظهار في قوله : {إِنَّا خلقنا الإنسانَ} لزيادة التقرير ، أو : يراد آدم عليه السلام ، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة ، فقد أتى عليه حين من الدهر ، وهو أربعون سنة مصوَّراً قبل نفخ الروح ، وهو ملقى بين مكة والطائف ، وفي رواية الضحاك عنه : أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ، ثم من حمأ مسنون ، فأقام أربعين سنة ، ثم من صلصال ، فأقام أربعين ، ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. هـ. قلت : جمهور المؤرخين أنَّ آدم صُوِّر في السماء ، ويقال : كان على باب الجنة ، تمر به الملائكة وتتعجب منه ، ويمكن أن يكون صُوّر في الأرض ، ثم رُفع إلى السماء ، القدرة صالحة. والله تعالى أعلم بما كان.
وقال بعضهم : المراد بالإنسان الأول : آدم عليه السلام ، وبالثاني : أولاده ، أي : خلقنا نسل الإنسان {من نُطفةٍ أمشاجٍ} أي : أخلاط ، من : مشجت الشيء : إذا خلطته ومزجته ، وصف به النطفة ؛ لأنها مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة ، ولكل منهما أوصاف مختلفة ، من اللون ، والرقّة ، والغلظ ، وخواص متباينة ، فإنَّ ماء الرجل أبيض غليظ ، فيه
193(8/294)
قوة العصب ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فيه قوة الانعقاد ، وتخلّق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمِن ماء المرأة. قال القرطبي : وقد رُوي هذا مرفوعاً. وقيل : إذا علا ماءُ الرجل أشبهه الولد ، وإذا علا ماء المرأة أشبهها. وقيل : إذا سبق أحدهما فالشبه له. وقيل : " أمشاج " مفرد غير جمع ، كبَرْمة أعشار ، وثوب أخلاق. وقيل : أمشاج : ألوان وأطوار ، فإنَّ النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة. وقال ابن السكيت : الأمشاج : الأخلاط ؛ لأنها ممتزجة من أنواع الأغذية من نبات الأرض ، فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. هـ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 193
نبتليهِ} حال ، أي : خلقناه مبتلين له ، أي : مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي في المستقبل ، {فجعلناه سميعاً بصيراً} ليتمكن من سماع الآيات التنزيلية ، ومشاهدة الآيات التكوينية ، فهو كالمسبب عن الابتلاء ، فلذلك عطف على الخلق بالفاء ، ورتّب عليه قوله : {إِنَّا هديناه السبيلَ} ؛ بيَّنَّا له الطريق ، بإنزال الآيات ، ونصب الأدلة العقلية والسمعية ، {إِمَّا شاكراً وإِمَّا كفوراً} : حال من مفعول {هديناه} ، أي : مكّنّاه وأقدرناه على سلوك الطريق الموصل إلى البُغية ، في حالتي الشكر والكفر ، أي : إن شكر أو كفر فقد هديناه السبيل في الحالين ، فإن شكر نفع نفسه ، وإن كفر رجع وبال كفره عليه ، أو : حال من " السبيل " ، أي : عرفناه السبيل ، إمّا سبيلاً شاكراً ، وإمّا سبيلاً كفوراً. ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز ، والمراد : سالكه.
(8/295)
الإشارة : قد أتى على الإنسان حين من الدهر ، وهو قبل وقوع التجلِّي به ، لم يكن شيئاً مذكوراً ، بل كان شيئاً معلوماً موجوداً في المعنى دون الحس ، غير مذكور في الحس ، فلمّا وقع به التجلِّي صار شيئاً مذكوراً ، يذكر بالخطاب والتكليف ، ويمكن أن يكون الاستفهام إنكارياً ، أي : هل أتى عليه زمان لم نذكره فيه ، بل لم يأتِ عليه وقت إلاَّ وكان مذكوراً لي. ويُقال : هل غفلتُ ساعة عن حفظك ؟ هل ألقيتُ ساعة حبلك على غاربك ؟ هل أخليتك ساعة من رعاية جديدة ، وحماية مزيدة. هـ. من الحاشية.
ثم بيَّن كيفية التجلِّي به فقال : {إنَّا خلقنا الإنسان} أي : بشريته {من نُطفة أمشاج} أي : من نطفة من أخلاط الأرض ، فلذلك كانت تنزع إلى أصلها ، وتخلد إلى أرض الحظوظ والهوى ، نبتليه بذلك ، ليظهر الصادق في طلب الحق بمجاهدة نفسه في إخراجها عن طبعها الأصلى ، والمُعرض عن الطلب باسترساله مع طبعها البشري ، ويقال : خلقته من أمشاج النطفتين فينزع طبعُ الولد إلى الإغلب منهما ، فإن غَلَبَ ماء الرجل نزع إلى طبع أبيه ، خيراً كان أو شرًّا ، وإن غلب ماء المرأة ، نزع إلى طبع أمه كذلك ، ابتلاء من الله وقهرية ، فلا بد أن يغلب الطبع ، ولو جاهد جهده ، ولذلك قال عليه ا لسلام : " إذا سمعتم أنَّ الجبال انتقلت فصَدِّقوا ، وإذا سمعتم أنَّ الطباع انتقلت فلا تُصَدِّقوا " وفائدة الصُحبة
194
(8/296)
والمجاهدة : خمود الطبع وقهر صولته ، لا نزعه بكليته ، فيقع الرجوع إلى الله من الطبع الدنيء ، ولا يقدح في خصوصيته إن رجع إلى الله في الحين ، ولذلك تلونت أحوال الأولياء بعد مجاهدتهم ورياضتهم. والله تعالى أعلم. فجعلناه سميعاً بصيراً ، ونفخنا فيه روحاً سماوية وقدسية ، تحن دائماً إلى أصلها ، فمنها مَن غلبت عليه النطفةُ الطينية ، فأخلدت بها إلى الأرض ، فبقيت مسجونة في هيكلها ، محجوبة عن ربها ، ومنها : مَن غلبت روحانيتها على الطينية ، فعرجت بها إلى الحضرة القدسية ، حتى رجعت إلى أصلها وإلى هذا أشار بقوله : {إنا هديناه السبيل} أي : بيَّنَّا له الطريق الموصل إلى الحضرة ، فصار إمّا شاكراً بسلوكها أو كافراً بالإعراض عنها ، وعدم الدخول تحت تربية العارف بها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 193
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّا أعتدْنا} ؛ أعددنا {للكافرين سلاسلاً} يُقادون بها إلى النار {وأغلالاً} يُقيَّدون بها {وسعيراً} يُحرقون بها. و " سلاسل " لا ينصرف ؛ لصيغة منتهى الجموع ، ومَن صرفه فليناسب أغلالاً ، إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب. وتقديم وعيد الكفرة مع تأخرهم في الجمع على طريق اللف والنشر المعكوس ، كقوله : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ...} [آل عمران : 106] الآية ليتخلّص إلى الكلام على الفريق الأول بطريق الإطناب ، فقال :
(8/297)
{إِنَّ الأبرارَ} جمع بر وبار ، كرب وأرباب ، وشاهد وأشهاد ، وهو مَن يبر خالقه ، أي : يُطيعه ، وقيل : الأبرار هم الصادقون في الإيمان ، أو : الذين لا يؤذون الذر ، ولا يعمدون الشر. {يشربون من كأس} وهو الزجاجة إذا كان فيها خمر ، ويُطلق على نفس الخمر ، فـ " مِن " على الأول ابتدائية ، وعلى الثاني تبعيضية ، {كان مِزاجُها} أي : ما تمزج به {كافوراً} أي : ماءٌ كافورٌ ، وهو عين في الجنة ، ماؤها في بياض الكافور ورائحتِه وبردِه. وفي القاموس : الكافور : نبت طيب ، نَوره كنَور الأُقحوان ، وطِيب معروف ، يكون
195
من شجر بجبال بحر الهند والصين ، يُظل خلقاً كثيراً ، وتألفه النمور ، وخشبه أبيض هش ، ويوجد في أجوافه الكافور ، وهو أنواع ، ولونها أحمر ، وإنما يبيّض بالتصعيد ، والتصعيد : الإذابة. هـ. وقوله تعالى : {عيناً} : بدل من " كافور " ، وعن قتادة : تمزج لهم بالكافور ، وتختم لهم بالمسك ، وقيل : يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه ويرده ، فكأنها مزجت بالكافور ، وهذا أنسب بأحوال الجنة ، فـ " عيناً " على هذين القولين : بدل من محل (من كأس) على حذف مضاف ، أي : يشربون خمر عين ، أو : نصب على الاختصاص ، وقوله تعالى : {يشرب بها عبادُ الله} : صفة لعين ، أي : يشربون منها ، أو : الباء زائدة ، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة : " يشربها " ، أو : هو محمول على المعنى ، أي : يتلذذون بها ، أو يروون بها ، وإنما عبّر أولاً بحرف " من " وثانياً بحرف الباء ؛ لأنَّ الكأس مبتداً شرابهم وأول غايته ، وأمّا العين فيها يمزجون شرابهم. قاله النسفي. وقيل : الضمير للكأس ، أي : يشربون العين بتلك الكأس ، {يُفجِّرُونها تفجيراً} أي : يُجْرُونَها حيث شاؤوا من منازلهم إجراءاً سهلاً ، لا يمتنع عليهم ، بل يجري جرياً بقوة واندفاع.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 195
(8/298)
يُوفُون بالنَّدْرٍ} بما أَوجبوا على أنفسهم من الطاعات ، وهو استئناف مسوق لبيان ما لأجله رُزقوا ما ذكر من النعيم ، كأنه قيل : ماذا كانوا يفعلون حتى نالوا تلك الرتبة العالية ؟ فقال : يُوفون بما أوجبوا على أنفسهم ، فكيف بما أوجبه اللهُ عليهم ؟ {ويخافون يوماً كان شَرُّه} ؛ شدائده أو عذابه {مُسْتَطِيراً} ؛ منتشراً فاشياً في أقطار الأرض غاية الانتشار ، من : استطار الفجر : انتشر. {ويُطعِمون الطعامَ على حُبه} أي : كائنين على حب الطعام والحاجة إليه ، كقوله تعالى : {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران : 92] أو : على حب الإطعام ، بأن يكون ذلك بطيب النفس ، أو : على حب الله ، وهو الأنسب بقوله : {لوجه الله} ، {مسكيناً} ؛ فقيراً عاجزاً عن الاكتساب ، أسكنه الفقرُ في بيته ، {ويتيماً} ؛ صغيراً لا أب له ، {وأسيراً} أي : مأسوراً كافراً. كان عليه السلام يؤتى بالأسير ، فيدفعه إلى بعض المسلمين ، فيقول له : " أحسِن إليه " أو : أسيراً مؤمناً ، فيدخل فيه المملوك والمسجون ، وقد سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغريم أسيراً فقال : " غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك ". ثم علّلوا إطعامهم فقالوا : {إِنما نُطعمكم لوجه الله} أي : لطلب ثوابه ، أو : هو بيان من الله تعالى عما في ضمائرهم من الإخلاص ، لأنَّ الله تعالى عَلِمه منهم ، فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً ، وفيه نظر ؛ إذ لو كان كذلك لقال : " يطعمهم " بضمير الغيب ، فالجملة على الأول محكية بقول محذوف ، حال من فاعل " يُطعمون " أي : قائلين بلسان الحال أو المقال ؛ لإزاحة توهم المنّ المبطل للصدقة ، وتوقع المكافآت المنقصة للأجر : {إنما نُطعمكم...} الخ. وعن الصدّيقة ـ رضي الله عنها ـ كانت تبعث بالصدقة ، ثم تسأل الرسولَ ما قالوا ، فإذا ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله ، ليبقى لها ثواب الصدقة خالصاً. {لا
196
(8/299)
نُريد منكم جزاءً ولا شُكوراً} أي : لا نطلب على طعامنا مكافأة هدية ولاثناءً ، وهو مصدر : شكر شكراً وشُكوراً.
{إِنَّا نخافُ من ربنا} أي : إنا لا نُريد منكم المكافأة لخوف عذاب الله على طلب المكافأة في الصدقة ، أو : إنا نخاف من ربنا فنتصدّق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف ، {يوماً عَبُوساً قمْطريراً} ، وصف اليوم بصفة أهله ، نحو : نهاره صائم. والقمطرير : الشديد العبوس ، الذي يجمع ما بين عينيه ، أي : نخاف عذاب يوم تعبس فيه الوجوه أشد العبوسة.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 195
فوقاهم اللهُ شَرَّ ذلك اليوم} ؛ صانهم من شدائده ، لسبب خوفهم وتحفُّظهم منه ، {ولَّقاهم} أي : أعطاهم بدل عبوس الفجار {نضرةً} ؛ حُسناً في الوجوه {وسُروراً} في القلب ، {وجزاهم بما صبروا} ؛ بصبرهم على مشاق الطاعات ، ومهاجرة المحرمات ، وإيثار الغير بالعطاء في الأزمات ، {جنةً} ؛ بستاناً يأكلون منه ما يشاؤون {وحَرِيراً} يلبسونه ويتزينون به.
(8/300)
وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنّ الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ مَرِضا فعادهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أّناس معه ، فقالوا لعليّ رضي الله عنه : لو نذرت على ولدك ، فنذر عليّ وفاطمةُ وجاريتهما ـ يقال لها : فِضة ـ إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشُفيا ، فاستقرض عليّ من يهودي ثلاث أصُوع من الشعير ، فطحنت ـ رضي الله عنها ـ صاعاً ، واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل ، فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني ، أطعمكم اللهُ من موائد الجنة ، فآثروه ، وباتوا لم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صياماً ، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم ، فوقف عليهم يتيم ، فأثروه ، ثم وقف عليهم في الثالثة أسير ، ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا أخذ بيد الحسن والحسين ، وأقبلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون ، كالفراخ من شدة الجوع ، قال عليه السلام : " ما أشد ما يسوؤني مما أرى بكم " ، وقام فانطلق معهم ، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك ، فنزل جبريل عليه السلام وقال : يا محمد هنّاك الله في بيتك ، فأقرأه السورة. هكذا ذكر القصة الزمخشري وجمهور المفسرين ، وأنكر ذلك الترمذي الحكيم في نوادره ، وجزم بعدم صحتها لمخالفتها لأصول الشريعة ، وعدم جريه على ما تقتضيه من إنفاق العفو ، وكذا " ابْدَأ بمَن تَعُولُ " و " كفى بالمرء إثماً أن يَضيّع مَن يقوت " ، وغير ذلك. هـ.
197
(8/301)
قلت : ويُجاب بأنَّ هذا من باب الأحوال ، وللصحابة في الإيثار أحوال خاصة بهم ؛ لشدة يقينهم رضي الله عنهم ، وقد خرج الصدّيق رضي الله عنه عن ماله مِراراً ، وقال : (تركت لأهلي الله ورسوله) ، وكذلك فعل الصحابي الذي قال لامرأته : نوِّمِي صبيانك ليتعشّى ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل فيه ، {وَيُؤْثِرُون عَلَى أَنفُسِهِمْ...} [الحشر : 9] الآية ، وصاحب الأحوال معذور ، غير أنه لا يُقتدى به في مثل تلك الحال ، فإنكار الترمذي بما ذَكَر غير صحيح.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 195
متكئين فيها} ؛ في الجنة ، حال من " جزاهم " ، والعامل جزاء ، {على الأرائك} ؛ على الأسِرة في الحجال ، {لا يَرَون فيها شمساً ولا زمهريراً} لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير ـ أي : بردٌ ـ فظِلها دائم ؛ وهواها معتدل ، لا حرَّ شمس يحمي ، ولا شدّة بردٍ يؤذي ، فالزمهرير : البرد الشديد ، وقيل : القمر ، في لغة طيء ، أي : الجنة مضيئة لا يُحتاج فيها إلى شمس ولا قمر. وجملة النفي إمّا حال ثانية ، أو : من المستكن في (متكئين).
(8/302)
{ودانيةً} : عطف على (جنة) ، أي : وجنة أخرى دانية {عليهم ظِلالها} ؛ قريبة منهم ظلال أشجارها ؛ قال الطيبي : إنما قال : (دانية عليهم) ولم يقل " منهم " ؛ لأنَّ الظلال عالية عليهم. هـ. فظلالها فاعل بدانية ، كأنهم وُعدوا جنتين ؛ لأنهم وُصفوا بالخوف ، وقد قال تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن : 46] ، {وذًللت قُطوفُها تذليلا} أي : سُخَّرت ثمارها للقائم والقاعد ، والمتكىء ، وهو حال من " دانية " أي : تدنو عليهم ظلالها في حال تذليل قطوفها. وقال في الحاشية : جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية ؛ وفيه لطيفة : أنَّ استدامة الظل مطلوبة هناك ، وأمّا الذليل للقطْف فهو على التجدًّد شيئاً بعد شيء ، كلما أرادوا أن يقطعوا شيئاً منها ذل لهم ، ودنا لهم ، قعداً كانوا أو مضطجعين. هـ. وظاهر كلامه : أنَّ " ظلالها " مبتدأ ، و " عليهم " خبر ، وظاهر كلام الطيبي : أنه فاعل. والقطوف : جمع قِطْف ، وهو ما يجتنى من ثمارها.
{ويُطاف عليهم بآنيةٍ من فضةٍ} أي : يدير عليهم خَدَمُهم كؤوس الشراب ، وكأنه تعالى لَمَّا وصف لباسهم ، وهيئة جلوسهم ، وطعامهم ، ذكر شرابهم ، ثم يذكر خدمهم ، وما هيأ لهم من المُلك الكبير ، و(آنية) : جمع إناء ، وهو : وعاء الماء ، {وأكواب} أي : مِن فضة ، جمع كوب ، وهو الكوز العظيم الذي لا أُذن له ولاعروة ، {كانت قواريراً} " كان " تامة ، أي : كُونت فكانت قوارير بتكوين الله. و(قواريرَ) : حال ، أو : ناقصة ، أي : كانت في علم الله قوارير ، {قواريرا من فِضةٍ} : بدل من الأول ، أي : مخلوقة من فضة ، قال ابن عطية : يقتضي أنها من زجاج ومن فضة ، وذلك ممكن ؛ لكونه من زجاج في شفوفه ، ومن فضة في جوهره ، وكذلك فضة الجنة شفافة. هـ. فهي جامعة لبياض الفضة وحُسنها ، وصفاء القوارير وشفيفها ، حتى يُرى ما فيها من الشراب من خارجها. قال ابن عباس : قوارير كل أرض من تربتها ، وأرض الجنة فضة. هـ. و " قوارير " ممنوع من
198
(8/303)
الصرف ، ومَن نَوّنه فلتناسب الآي المتقدّمة والمتأخّرة ، {قدَّروها تقديراً} ؛ صفة للقوارير ، يعني : أنَّ أهل الجنة قدَّروها في أنفسهم ، وتمنوها ، وأرادوا أن تكون على مقادير وأشكال معينة ، موافقة لشهواتهم ، فجاءت حسبما قدَّروها ، تكرمةً لهم ، أو : السُّقاة جعلوها على قّدْر ريّ شاربها ؛ لتكون ألذّ لهم وأخف عليهم. وعن مجاهد : لا تُفيض ولا تَغيض ، أو : قَدَّروها بأعمالهم الصالحة ، فجاءت على حسبها.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 195
ويُسقون فيها كأساً} ؛ خمراً {كان مِزَاجُهَا زَنجبِيلاً} أي : ما يشبه الزنجبيل في الطعم والرائحة. وفي القاموس : الزنجبيل : الخمر ، وعُروق تسري في الأرض ، ونباته كالقصب والبرد ، له قوة سخنة هاضمة ملينة.. الخ. قلت : وهو السكنجيبر ـ بالراء ـ ولعل العرب كانت تمزج شرابها به للرائحة والتداوي. وقوله تعالى : {عيناً} : بدل من " زنجبيلا " ، {فيها} أي : في الجنة {تُسمى سلسبيلا} ، سُميت العين زنجبيلاً ؛ لأنَّ ماءها فيه رائحة الزنجبيل ، والعرب تستلذه وتستطيبه ، وسميت سلسبيلاً لسلاسة انحدارها ، وسهولة مساغها ، قال أبو عُبيدة : ماء سلسبيل ، أي : عذب طيب. هـ. ويقال : شراب سلسبيل وسَلسَال وسلَسيل ، ولذلك حُكم بزيادة الباء ، والمراد : بيان أنها في طعم الزنجبيل ، وليس فيها مرارة ولا زعقة ، بل فيها سهولة وسلاسة. والله تعالى أعلم.
(8/304)
الإشارة : إِنَّا أعتدنا للكافرين بطريق الخصوص ، وهم أهل الحجاب سلاسل الأشغال والعلائق ، وأغلال الحظوظ والعوائق ، فلا يرحلون إلى الله وهم مكبّلون بشهواتهم ، مغلولون بعوائقهم. وأعتدنا لهم سعير القطيعة والطرد. إنَّ الأبرارَ ، وهم المطهرون من درن العيوب ، المتجرَّدون من علائق القلوب ، يشربون من كأس خمر المحبة كان مزاجها كافورَ بردِ اليقين ، عيناً يشرب منها عبادُ الله المخلصون ، يُفجِّرونها على قلوبهم وأرواحهم وأسرارهم تفجيراً ، فتمتلىء محبةً ويقيناً ، يُوفون بما عقدوا على أنفسهم من المجاهدة والمكابدة إلى وضوع أنوار المشاهدة ، ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً ، إذ فيه يفتضح المدّعون ، ويظهر المخلصون ، ويُطعمون طعام الأرواح والأسرار من العلوم والمعارف ، على حُبه ، إذ لا شيء أعز منه عندهم ، إذ هو الإكسير الأكبر ، والغنى الأوفر ، مسكيناً ، أي : ضعيفاً من اليقين ، ويتيماً لا شيخ له ، وأسيراً في أيدي العلائق والحظوظ ، وإنما نفعل ذلك لوجه الله ، لا يريدون بذلك جزاء ، أي : عِوضاً دنيوياً ولا أخروياً ، ولا شكوراً ؛ مدحاً أو ثناءً ؛ إذ قد استوى عندهم المدح والذم ، والمنع والعطاء ، قائلين : إنا نخاف من ربنا ، إن طلبنا عوضاً ، أو قَصَّرنا في الدعاء إلى الله ، يوماً شديداً تُعبّس فيه وجوه الجاهلين ، وتُشرق وتتهلّل وجوه العارفين. فوقاهم اللهُ شرَّ ذلك اليوم ، فصبروا قليلاً ، واستراحوا كثيراً ، ولقَّاهم نضرةً ؛ بهجة في أجسادهم ، وسُروراً دائماً في قلوبهم وأسرارهم. وجزاهم بما صبروا في أيام سيرهم جنة المعارف والزخارف ، متكئين فيها على الأرائك ؛ على أَسِرة القبول ، وفُرُش الرضا وبلوغ المأمول ، لا يَرون فيها حَرّ التدبير
199
والاختيار ولا زمهرير الضعف والانكسار ؛ لأنَّ العارف باطنه قوي على الدوام ، لأنَّ مَن عنده الكنز قلبه سخين به دائماً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 195
(8/305)
وقال القشيري : لا يؤذيهم شمس المشاهدة ؛ لأنَّ سطوة الشهود ربما تفني صاحبها بالكلية ، فيغلب عليه السُكْر ، فلا يتنعّم بلذة الشهود ، ولا زمهرير الحجاب والاستتار. هـ. باختصار. ودانية ، أي : وجنة أخرى دانية ، وهي جنة البقاء ، والأُولى جنة الفناء ، عليهم ظلالها ، وهي روح الرضا ونسيم التسليم ، وذُللت قُطوفها من الحِكَم والمواهب ، تذليلاً ، فمهما احتاجوا إلى علم أو حكمة أجالوا أفكارهم ، فتأتيهم بطرائف العلوم وغرائب الحِكَم ، ويُطاف عليهم بأواني الخمرة الأزلية ، فيشربون منها في كل وقت وحين ، كيف شاؤوا وحيث شاؤوا. جعلنا الله مِن حزبهم ، آمين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 195
يقول الحق جلّ جلاله : {ويطوفُ عليه ولدان} أي : غلمان ينشئهم اللهُ لخدمة المؤمنين. أو : ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة. {مخلَّدون} لا يموتون ، أو : دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء ، {إِذا رأيتهم حَسِبْتَهُم لؤلؤاً منثوراً} لحُسْنهم ، وصفاء ألوانهم ، وإشراق وجوههم ، وانبثاثِهم في مجالسهم ومنازلهم. وتخصيص المنثور لأنه أزين في المنظر من المنظوم.
(8/306)
{وإِذا رأيتَ ثَمَّ} أي : وإذا وقعت منك رؤية هناك ، فـ " رأيت " هنا : لازم ، ليس له مفعول لا ملفوظ ولا مُقدّر ، بل معناه : أنَّ بصرك أينما وقع في الجنة {رأيتَ نعيماً} عظيماً {ومُلكاً كبيراً} أي : هنيئاً واسعاً. وفي الحديث : " أَدْنَى أهل الجنةِ منزلاً مَن ينظرُ في مُلكه مَسيرة ألف عام ، ويَرَى أقصاهُ كما يرى أدناه " ، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أدنى أهل الجنة منزلاً الذي يركبُ في ألف ألف من خَدَمه من الولدان ، على خيل من ياقوت أحمر ، لها أجنحة من ذهب " ، ثم قرأ عليه السلام : {وإذا رأيت ثَمَّ...} إلخ. وقيل : مُلكاً لا يعقبه زوال ، وقال الترمذي : مُلك التكوين ، إذا أرادوا شيئاً كان هـ. وقيل : تستأذن عليهم الملائكة استئذان الملوك. رُوي : إنَّ الملائكة تأتيهم بالتُحف ، فتستأذن عليهم ، حاجباً بعد حاجب ، حتى يأذن لهم الآخر ، فيدخلون عليهم من كل باب بالتُحف والتحية والتهنئة. هـ.
200
ثم وصف لباس أهل الجنة فقال : {عَالِيَهُم ثِيَابُ سُندُسٍ} فمَن نصبه جعله حالاً من الضمير في " يطوف عليهم " أي : يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثيابُ سندس ، ومَن قرأه بالسكون فمبتدأ ، و " ثياب " خبر ، أي : الذي يعلوهم من لباسهم ثياب سندس ، وهو رقيق الديباج ، {خُضْرٌ} ؛ جمع أخضر ، {وإِستَبرقٌ} ؛ غليظ الديباج ، فمَن رفعهما حملهما على الثياب ، ومَن جَرَّهما فعلى سندس. {وحُلُّوا أساوِرَ من فضةٍ} وفي سورة الملائكة : {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [فاطر : 33] ، والجمع بينهما : بأنه يجمع في التحلية بينهما. قال ابن المسيب : (لا أحدٌ من أهل الجنة إلاّ وفي يده ثلاثة أسْوِرة ، واحد من فضة ، وآخر من ذهب ، وآخر من لؤلؤ) أو : يختلف ذلك باختلاف الأعمال ، فبعضهم يُحلّى بالفضة ، وبعضهم بالذهب ، وبعضهم باللؤلؤ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 200
(8/307)
وسقاهم ربُّهم} ، أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص ، وقيل : إنَّ الملائكة يعرضون عليهم الشراب ، فيأبون قبولَه منهم ويقولون : قد طال أخْذُنا مِن الوسائط ، فإذا هم بكاساتٍ تُلاقِي أفواههم بغير أكفٍّ من غيبٍ إلى عَبْدٍ. هـ. قلت : ولعل هؤلاء كانوا محجوبين في الدنيا ، وأمّا العارفون فالوسائط محذوفة في نظرهم مع وجودنا. فيسقيهم {شراباً طهوراً} أي : ليس برجْسٍ كخمر الدنيا ، لأنَّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ، أو : لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضِرة ، وتدوسه الأرجل الوسخة ، والوضر : الوسخ. قال البيضاوي : يريد به نوعاً آخر ، يفوق النوعين المتقدمين ، ولذلك أسند سقيه إلى الله ، ووصفه بالطهورية ، فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية ، والركون إلى ما سوى الحق ، فيتجرّد لمطالعة جماله ، ملتذًّا بلقائه ، باقياً ببقائه ، وهو منتهى درجات الصدِّيقين ، ولذلك خُتِم به ثواب الأبرار. هـ. ويُقال لأهل الجنة : {إِنَّ هذا} أي : الذي ذكر من فنون الكرامات {كان لكم جزاء} في مقابلة أعمالكم الحسنة ، {وكان سعيُكم مشكوراً} ؛ مرضياً مقبولاً عندنا ، حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير : لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً.
الإشارة : ويطوف على قلوبهم وأسرارهم جواهر العلوم ، ويواقيت الحِكَم كأنها اللآلىء المنثورة ، وإذا رأيتَ ثَمَّ إذا جالت فكرتك ، وعامت في بحار الأحدية ، رأيت ببصيرتك نعيماً من نعيم الأرواح ، وهي لذة الشهود والفرح برؤية الملك الودود ، ومُلكاً كبيراً ، وهي عظمة الذات الأولية والآخرية ، والظاهرة والباطنة. وإذا رأيتَ ذلك كان الوجود كله تابعاً لك ، ينبسط ببسطك ، وينقبض بقبضك ، وحكمه حكمك ، وأمره عند أمرك ، تتصرف بهمتك على وفق إرادة مولاك ، عاليَهم ثياب العز والبهاء ، وثياب الهيبة والجلال ؛ وحُلُّوا أساورَ من مقامات اليقين ، وسقاهم ربُّهم شراباً طهوراً ، وهو شراب الخمرة ، فإنها تطهر القلوب والأسرار من البقايا والأكدار.
(8/308)
جزء : 8 رقم الصفحة : 200
وقال القشيري : ويقال : يُطهرهم من محبة الأغيار ، ويقال : من الغل والغِشِّ
201
(8/309)
والدعوى. ثم قال ويقال : مَن سقاه اليوم شرابَ محبَّتِه لا يستوحِش في وقته من شيء ، ومن مقتضى شُرْبه بكأسِ محبته أن يجودَ على كل أحدٍ بالكونين من غير تمييز ، لا يَبْقَى على قلبه أثرٌ للأخطار ، ومَن آثر شربه بذل كله لكل أحدٍ لأجل محبوبه ؛ فيكون لأصغرِ الخَدم تُرَابَ القَدَم ، لا يتحرك فيه للتكبُّر عرقٌ ، وقد يكون من مقتضى ذلك الشراب أيضاً في بعض الأحيان أن يَتِيه على أهل الدارين ، وأن يَمْلِكَه سرورٌ ، ولا يَتَمَالَكُ معه عن خَلْع العذارِ ، وإلقاء قناع الحياء وإظهار ما به من المواجيد. ومن موجبات ذلك السُكْر : سقوطَ الحشمة ، فيتكلم بمقتضى البسط ، أو بموجب لطف السكون بما لا يستخرج منه في حال صَحْوه شُبهة بالمناقيش ، ، وعلى هذا قول موسى : {رَبِّ أَرِنِيا أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف : 143] قالوا : سَكِرَ مِن سماع كلامه ، فَنَطَقَ بذلك لسانُه ، وأمّا حين يسقيهم شرابَ التوحيد فينتفي عنهم شهود كلِّ غَيْرٍ ، فيهيمون في أودية العِزِّ ، ويتيهون في مفاوزِ الكبرياء ، وتتلاشى جملتُهم في هوى الفردانية ، فلا عقلَ ولا تمييز ، ولا فهمَ ولا إدراك. والعبد يكون في ابتداء الكشفِ مستوعباً ، ثم يصير مستغرقاً ، ثم يصير مُسْتَهلَكاً {وَأَنَّ إِلَىا رَبِّكَ الْمُنتَهَىا} [النجم : 42]. هـ. وقال الورتجبي : فتلك الكائنات المروقات عن علل الحجاب والعتاب دارت عليها في الدنيا حتى ترجع إلى معادنها من الغيب. ثم قال : فإذا شَرِبوا تلين جلودُهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، سقاهم ذلك في الدنيا ، في ميدان ذكره ، بكأس محبته ، على منابر أُنسه بمخاطبة الإيمان ، وسقاهم في الآخرة ، في ميدان قربه ، بكأس رؤيته ، على منابر مِن نورٍ بمخاطبة العيان. هـ. قلت : تفريقه بين الدنيا والآخرة غير لائق بمقام المحقِّقين من العارفين ، فالعارف لم تبقَ له دنيا ولا آخرة ، لم يبقَ له إلاّ الله ، تتلوّن تجلياته ، فما هناك هو حاصل اليوم ، لولا تكثيف الحجاب. ثم يُقال لأهل التمكين : إنَّ هذا(8/310)
كان لكم جزاء على مجاهدتكم وصبركم ، وكان سعيكم مشكوراً ، وحضكم منه موفوراً. وبالله التوفيق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 200
202
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّا نحن نزَّلنا عليك القرآن تنزيلا} أي : مفرّقاً منجماً ، شيئاً فشيئاً ، لحِكَم بالغة مقتضية لتفريقه ، لا غيرنا ، كما يُعرب عنه تكرير الضمير مع " إن " ، فهو تأكيد لاسم إن ، أو : ضمير فصل لا محل له {فاصبر لِحُكم ربك} في تأخير نصرك ، فإنّ له عاقبة حميدة ، أو : اصبر لتبليغ الرسالة ، وتحمل الأذى ؛ فإن العاقبة لك ، {ولا تُطِعْ منهم آثماً أو كفوراً} أي : لا تُطع الآثم في إثمه ، ولا الكافر في كفره ، أي : لا تُطع كل واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه ، أو من الغَالي في الكفر الداعي إليه ، و " أو " للدلالة على أنهما سيان في استحقاق العصيان والاستقلال به ، باعتبار ما يدعون إليه ، فإنَّ ترتيب الوصف على الوصفين مشعر بعليتهما ، فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الإثم والكفر ، لا فيما ليس بإثم ولا كفر.
وقيل : الآثم : عُتبة ، فإنه كان ركّاباً متعاطياً لأنواع الفسوق ، والكفور : الوليد ، فإنه كان غالياً في الكفر ، شديد الشكيمة في العتو. والظاهر : أنّ المراد كل آثم وكافر ، اي : لا تُطع أحدهما ، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه ، فقد نهى عن طاعتهما معاً ، ولو كان بالواو لجاز أن يُطيع أحدهما ؛ لأن الواو للجمع ، فيكون منهياً عن طاعتهما ، لا عن طاعة أحدهما.
(8/311)
{واذكر اسمَ ربك بُكرةً وأصيلا} اي : دُم على ذكره في جميع الأوقات. وتخصيص الوقتين لشرفهما. قيل : لمّا نهى حبيبه عن طاعة الآثم والكفور ، وحَثه على الصبر على آذاهم وإفراطهم في العداوة ؛ عقّب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته في ذكره وعبادته ، فهو كقوله تعالى : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَكَ يَضِيقُ صَدْرَكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ...} [الحجر : 97 ، 98] الآية ، وفي إقباله راحة له من وحشته ؛ لجهلهم بأنسه بربه ، وقرّة عينه به. وفي ذلك أمُره بالإفراد لربه بطاعته ، دون مَن يدعوه ، لخلاف ذلك من ألإثم والكفور. هـ. من الحاشية. أو : بكرة : صلاة الفجر ، وأصيلاً : الظهر والعصر ، {ومن الليل فاسجدْ له} ؛ وبعض الليل فصلِّ صلاة العشاءين ، {وسبِّحه ليلاً طويلاً} أي : تهجّد له قِطْعاً من الليل طويلاً ؛ ثلثه أو نصفه أو ثلثيه. وتقديم الظرف في (مِن الليل) لِما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 202
إِنّ هؤلاء} الكفرة {يُحبون العاجلةَ} وينهمكون في لذاتها الفانية ، ويؤثرونها على الآخرة ، فلا يلتفتون إلى ذكرٍ ولا صلاة ، {ويذرون وراءهم} ؛ قدّامهم ، فلا يستعدُّون له ، أو : ينبذونه وراء ظهورهم ، {يوماً ثقيلاً} ؛ شديداً لا يعبؤون به ، وهو يوم القيامة ؛ لأنّ شدائده تثقل على الكفار. ووصفه بالثقل لتشبيه شدته وهوله بثقل شيء فادح ، وهو كالتعليل لِما أمر به ونَهَى عنه.
{نحن خلقناهم} لا غيرنا ، {وشَدَدْنا أسْرَهُم} أي : قوّينا خِلقتهم حتى صاروا أقوياء ، يُقال : رجل حسن الأسر : الخلق ، وفرس شديد الأسر ، أي : الخلقة ، ومنه
203
قوله لبيد :
ساهِمُ الوجه شديدٌ أسْرُهُ
مُشرِفُ الحاركِ محبوكُ الكَتَدْ
(8/312)
أو : أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب ، أو : أخذنا ميثاقهم على الإقرار ، {وإِذا شئنا بدّلنا أمثالهم تبديلاً} أي : إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدّلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع ولا يعصي. أو : بدلنا أمثالهم تبديلاً بديعاً لا ريب فيه ، وهو البعث كما ينبىء عنه كلمة (إذا) لدلالتها على تحقُّق القدرة وقوة الداعية.
{إِنَّ هذه تَذْكِرةُ} ، الإشارة إلى السورة ، أو الآيات القريبة ، أي : هذه موعظة بليغة ، {فمَن شاء اتخذ إِلى ربه سبيلاً} بالتقرُّب إليه بالطاعة واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، {وما تشاؤون} اتخاذَ السبيل إلى الله ، أو : مايشاء الكفرة {إِلاّ أن يشاء الله} ، وهو تحقيق للحق ، ببيان أنَّ مجرد مشيئَتهم غير كافية في اتخاذ السبيل ، ولا يقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات ، إلاَّ وقت مشيئته في تحصيله لهم ، إذ لا دخل لمشيئة العبد إلاّ في الكسب ، وإنما التأثير لمشيئة الله تعالى ، {إِنَّ الله كان عليماً حكيماً} ؛ عليماً بما يكون منهم من الأحوال ، حكيماً مصيباً في الأقوال والأفعال ، وهو بيان لكون مشيئته تعالى مبنية على أساس العلم والحكمة ، أي : هو تعالى مبالغ في العلم والحكمة ، فيعلم ما يستأهله كل أحد ، فلا يشاء لهم إلاّ ما يستدعيه علمه وتقضيه حكمته.
وقوله تعالى : {يُدخل من يشاء في رحمته} ، بيان لأحكام مشيئته ، المترتبة على علمه وحكمته ، أي : يُدخل في رحمته مَن يشاء أن يدخله فيها ، وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ سبيل الله تعالى ، حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة. {والظالمين} وهم الذين صرفوا مشيئَتهم إلى خلاف ما ذكر {أعدَّ لهم عذاباً أليماً} متناهياً في الإيلام ، و " الظالمين " منصوب بمضمر يُفسره معنى ما بعده ، أي : أهان الظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 202
(8/313)
الإشارة : إنّا أنزلنا عليك أيها الخليفة القرآن ، أي : الجمع على ربك في قلبك وسرك ، تنزيلاً مترتباً شيئاً فشيئاً على حسب التهذيب والتدريب ، فاصبرْ لحُكم ربك ، أي : ما حَكَم به عليك من قهرية الجلال ، وارتكاب الأهوال ، ومقاسات الأحوال ، فإنَّ العاقبةَ
204
شهودُ الكبير المتعالي ، وبذلُ المُهج والأرواح قليل في حقه ، ولا تُطع في حال سيرك آثماً يريد أن يميلك عن قصد السبيل ، أو كفوراً بطريق الخصوص يريد أن يصرفك عنها ، واذكر اسم ربك ، أي : استغرق أنفاسك في ذكر اسمه الأعظم ، وهو الاسم المفرد ؛ الله الله ، فتكثر منه بكرة وأصيلاً ، وآناء الليل والنهار ، ومن الليل فاسجدْ له وسبَّحه ليلاً طويلاً ، أي : ومن أجل ليل القطيعة اخضع وتضرَّع وسَبِّح في الأسحار ، خوفاً من أن يقطعك عنه ، فيظلم عليك ليل وجودك ، فتحجب به عن ربك ، إنَّ هؤلاء المحجوبين بوجودهم وحظوظِ نفوسهم ، يُحبون العاجلة ، فيؤثرون هواهم على محبة مولاهم ، ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً ، يوم يُساق أهل التخفيف من المريدين إلى مقعد صدق زُمراً ، ويتخلّف أهل النفوس في موقف الحساب. إنَّ هذه تذكرة لمَن فتحت بصيرته وأبصر الحق وأهله ، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً ، بإيثار صحبته أهل الحق والتحقيق ، حتى يردون به حضرة التحقُّق ، لكن الأمر كله بيد الله ، وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله ، فمَن شاء عنايته أدخله في رحمة هدايته ، ومَن شاء خذلانه سلك به مسلك الضلالة ، والعياذ بالله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
205
جزء : 8 رقم الصفحة : 202(8/314)
سورة المرسلات
جزء : 8 رقم الصفحة : 205
يقول الحق جلّ جلاله : {والمُرسلاتِ} أي : والملائكة المرسلات {عُرْفاً} أي : بالمعروف من الأمر والنهي ، وانتصابه بإسقاط الخافض ، أو : فضلاً وإنعاماً ، فيكون نقيض المنكر ، وانتصابه على العلة ، أي : أرسلهن للإنعام والإحسان ، أو : متتابعة ، وانتصابه على الحال ، أي : يتلو بعضها بعضاً ، وفي القاموس : عُرفاً ، أي : بعضٌ خلف بعض. هـ. {فالعاصفاتِ عَصْفاً} أي : تعصفن في مُضِيهنّ عصف الرياح ، {والناشراتِ} أجنحتها في الجو {نَشْراً} عند انحطاطها بالوحي ، أو : الناشرات للشرائع نشراً في الأقطار ، أون : الناشرات للنفوس الميتة بالكفر والجهل بما أوحين من الإيمان والعلم. {فالفارقات} بين الحق والباطل {فرقاً} ، {فالملقيات} ، إلى الأنبياء {ذِكْراً عُذْراً} للمحقّين {أو نُذْراً} للمبطلين ، ولعل تقديم النشر على الإلقاء ؛ للإيذان بكونه غاية للإلقاء ، فهو حقيق بالاعتناء به.
أو : والرياح المرسلات متتابعة ، فتعصف عصفاً ، وتنشر السحاب في الجو نشراً ، وتفرّق السحاب فرقاً على المواضع التي أراد الله إن يُمطر عليها ، فيلقين ذكراً ، أي : موعظة وخوفاً عند مشاهدة آثار قدرته تعالى ، إمّا عذراً للمعتذرين إلى الله تعالى برهبتهم وتوبتهم ، وإمّا نُذراً للذين يكفرونها وينسبونها إلى الأنواء. أو يكون تعالى أقسم بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعصفن سائر الكتب بالنسخ ، ونشرن آثار الهدى في مشارق الأرض ومغاربها ، وفرقن بين الحق والباطل ، فألقين الحق في أكناف العالمين ، عذراً للمؤمنين ، ونُذراً للكافرين. قال ابن جزي : والأظهر في المرسلات والعاصفات : أنها الرياح ؛ لأنَّ وصف الريح بالعصف حقيقة ، والأظهر في الناشرات والفارقات :
206
أنها الملائكة ؛ لأنَّ الوصف بالفارقات أليق بهم ، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء ، ثم عطف ما ليس من جنسهما بالواو. هـ مختصراً.(8/315)
ثم ذكر المُقْسَم عليه ، فقال : {إِنَّ ما تُوعدون} أي : إن الذي تُوعدونه من مجيء يوم القيامة ونزول العذاب بكم {لواقع} لا محالة.
الإشارة : أقسم تعالى بنفوس العارفين ، المرسَلة إلى كل عصر ، بما يُعرف ويُستحس شرعاً وطبعاً ، من التطهير من الرذائل والتحلية بالفضائل ، فعصفت البدعَ والغفلة من أقطار الأرض عصفاً ، ونشرت الهداية في أقطار البلاد ، وحييت بهم العباد ، ففرقت بين الحق والباطل ، وبين أهل الغفلة واليقظة ، وبين أهل الحجاب وأهل العيان ، فألقت في قلوب مَن صَحبها ذكراً حتى سرى في جميع أركانها ، فأظهرت عُذراً للمنتسبين الذاكرين ، ونُذراً للمنكرين ، الغافلين. قال البيضاوي : أو أقسم بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها ، فعصفن ما سوى الحق ، ونشرن أثر ذلك في جميع الأعضاء ، وفرقن بين الحق بذاته ، والباطل في نفسه ، فرأوا كل شيء هالكاً إلاّ وجهه ، وألقين ذكراً ، بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلاّ ذكر الله تعالى. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 206
يقول الحق جلّ جلاله : {فإِذا النجومُ طُمِستْ} ؛ مُحيت ومُحقت ، أو ذُهب بنورها. وجواب " إذا " محذوف ، وهو العامل فيها ، أي : وقع الفصل ونحوه ، أو : وقع ما وُعدتم به. و " النجوم " : فاعل بمحذوف يُفسره ما بعده ، {وإِذا السماءُ فُرِجَتْ} ؛ فُتحت ، فكانت أبواباً لنزول الملائكة ، {وإِذا الجبال نُسِفَتْ} ؛ قُطعت من أماكنها ، وأُخذت من مقارها بسرعة ، فكانت هباءً منبثاً ، {وإِذا الرُسل أُقِتَتْ} أي : وُقتت وعُين لهم الوقت الذي يحضرون للشهادة على أممهم ، فَفَجَأن ذلك الوقت ، وجُمعت للشهادة على أممهم ، أي : وإذا الرسل عاينت الوقت الذي كانت تنتظره ، {لأيَّ يوم أُجِّلَتْ} أي : ليوم عظيم أخّرت وأُمهلت ، وفيه تعظيم لليوم ، وتعجيب من هوله. والتأجيل من الأجل ، كالتوقيت من الوقت.
(8/316)
ثم بيّن ذلك اليوم ، فقال : {ليوم الفصْلِ} أي : أُجِّلت ليوم يفصل فيه بين الخلائق ، وقال ابن عطاء : هو اليوم الذي يفصل فيه بين المرء وقرنائه وإخوانه وخِلاّنه ، إلاّ ما كان منها للّه وفي الله. هـ. وهو داخل في الفصل بين الخلائق ، وجزء من جزئياته ، {وما أدراك ما يومُ الفصل} أي : أيّ شيء جعلك دارياً ما هو يوم الفصل ، فوضع الظاهر موضع
207
الضمير ، تهويل وتفظيع لشأنه ، {ويل يومئذٍ للمكذِّبين} بذلك اليوم ، أي : ويل لهم في ذلك اليوم الهائل ، و " ويل " أصله : مصدر منصوب بفعل سدّ مسده ، لكن عدل به إلى الرفع على الابتداء ، للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعوّ عليه ، و " يومئذ " ظرف له ، و " للمكذِّبين " خبره ، أي : الويل في ذلك اليوم حاصل لهم. قال ابن عطية : وأمّا تكرير قوله تعالى : {ويل يومئذ للمكذِّبين} في هذه السورة ، فقيل : لمعنى التأكيد فقط ، وقيل : بل في كل آية منها ما يقتضي التصديق ، فجاء الوعيد على التكذيب بذلك. هـ. وهذا الآخر هو الصواب ، وسيأتي التنبيه عليه في كل آية.
(8/317)
الإشارة : إذا أشرقت شموس العرفان ، وبدت أسرارُ الذات للعيان ، انطمس نور نجوم علم الفروقات الكونية ، والفروعات الوهمية ، ولم يبقَ إلاّ علم الوحدة الذاتية ومعنى انطماسها : الغيبة عنها والفناء عنها بما هو أمتع وأحلى منها ، من شهود الذات الأقدس ، والاستغراق في شهود أنوارها وأسرارها. وإذا السماء ، أي : سماء الأرواح فُرجت عنها ظُلمة الحس ، فظهرت للعيان. واعلم أنَّ أرض الأشباح وسماء الأرواح محلهما واحد ، وإنما تختلف باختلاف النظرة ، فَمَن نَظَر الأشياءَ بعين الفرق في محل الحدوث تُسمى في حقه عالم الأشباح ، ومَن رآها بعين الجمع في مقام القِدَم ، تسمى في حقه عالم الأرواح ، والمظهر واحد. وإذا الجبال ؛ جبال الوهم والخيالات ، أو : جبال العقل الأصغر ، نُسفت ، أي : تلاشت وذهبت ، وإذا الرسل أي : الدعاة إلى الله من أهل التربية ، أُقتت : عُين لها وقت وقوع ذلك ، وهو يوم الفتح الأكبر بالاستشراف على الفناء في الذات ، وأي يوم ذلك ، وهو يوم لقاء العبد ربه في دار الدنيا ، وهو يوم الفصل ، يفصل فيه بين الخصوص والعموم ، بين المقربين وأهل اليمين ، بين أهل الشهود والعيان ، وأهل الدليل والبرهان ، ويل يومئذ للمكذِّبين بطريق هذا السر العظيم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 207
يقول الحق جلّ جلاله : {ألم نُهلِكِ الأولينَ} كقوم نوح وعاد وثمود ، لتكذيبهم بذلك اليوم ، وقُرىءَ بفتح النون ، من : هلكه بمعنى أهلكه ، {ثم نُتبِعُهم الآخِرِين} أي : ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بهم ، لأنهم كذّبوا مثل تكذيبهم. و " ثم " وما بعده : استئناف ، تهديد لأهل مكة ، وقُرىءَ بالجزم عطف على " نُهلك " فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكاً من المذكورين ، كقوم لوط وشعيب وموسى عليه السلام ،
208
{كذلك} أي : مثل ذلك الفعل الفظيع {نفعل بالمجرمين} أي : بكل مَن أجرم من كل أمة ، {ويل يومئذٍ} أي : يوم وقوع الهلاك بهم {للمكذِّبين} بما أوعدنا.
(8/318)
{ألم نَخْلُقْكُمْ من ماءٍ مهينٍ} ؛ حقير ، وهو النطفة ، {فجعلناه في قرارٍ مكينٍ} أي : مقرّ يتمكّن فيه ، وهو الرحم ، {إِلى قَدَرٍ معلوم} ؛ إلى مقدار معلوم من الوقت ، قدّره اللهُ تعالى في أزله ، لا يتقدّم عليه ولا يتأخر عنه ، وهو تسعة أشهر في الغالب ، أو أكثر أو أقل على حسب المشيئة ، {فقدّرنا} ذلك تقديراً لا يتبدل ، أو : فَقَدرْنا على ذلك {فَنِعْمَ القادرون} أي : المقدِّرون له نحن ، أو : فنعم القادرون على أمثال ذلك ، {ويل يومئذ للمُكذِّبين} لقدرتنا على ذلك ، أو : على الإعادة ، أو : بنعمة الفطرة من النشأة الدالة على صدق الوعيد بالبعث.
{ألم نجعل الأرضَ كِفَاتاً} ؛ ... وجامعة ، والكِفَات : اسم ما يَجمع ويضم ، من : كَفَتَ شعره : إذا ضمه بخرقة ، كالضمام والجماع لما يَضُمّ ويجمع ، أي : ألم نجعلها كفاتاً تكفت {أحياءً} كثيرة في ظهرها {وأمواتاً} غير محصورة في بطنها. ونظر الشعبي إلى الجبانة فقال : هذه كِفَاتُ الموتى ، ثم نظر إلى البيوت فقال : هذه كِفَات الأحياء. هـ. ولمّا كان القبر كفاتاً كالبيت قُطع مَن سَرق منه. و " أحياء وأمواتاً " منصوبان بـ " كِفاتاً " لأنه في معنى اسم الفاعل ، أي : كافتة أحياء وأمواتاً ، أو : بفعل محذوف ، أي : تكفت على الحال ، أي : تكفتهم في حال حياتهم ومماتهم.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 208
وجعلنا فيها رواسيَ} ، أي : جبالاً ثوابت {شامخاتٍ} ؛ طوالاً شواهق ، ووصْفُ جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد ، وتنكيرها للتفخيم ، وللإشعار بأنَّ فيها ما لم يُعرف ، {وأسقيانكم ماءً} بأن خلقنا فيها أنهاراً ومنابع {فُراتاً} ؛ عذباً صافياً {ويل يومئذ للمُكذِّبين} بأمثال هذه النِعم العظيمة.
(8/319)
الإشارة : ألم نُهلك الجبابرة الأولين ، المتكبرين على الضعفاء والمساكين ، ثم نُتبعهم الآخرين ، كذلك نفعل بالمجرمين في كل زمان ، أو : ألم نُهلك الغافلين المتقدمين والمتأخرين ، بموت قلوبهم وأرواحهم ، بالانهماك في الشهوات ، كذلك نفعل بالطغاة المتكبرين ، ويل يومئذ للمكذِّبين الشاكّين في وقوع هذا الوعيد. ألم نخلقكم من ماء مهين حقير ؟ فكيف تتكبّرون وأصلكم حقير ، وآخركم لحم منتن عقير ؟ ولعليّ كرّم الله وجهه : ما لابن آدم والفخر ، وأوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بينهما يحمل العذرة. هـ. هذا في الصورة البشرية ، وأمّا الروح السارية فيها ، فأصلها عز وشرف ، فمَن غلبت روحُه على بشريته ، وعقله على هواه ، التحق بالملائكة الكرام في الشرف والنزاهة ، ومَن غلبت بشريتُه على روحانيته ، وهواه على عقله ، التحق بالبهائم في الخسة والدناءة.
209
ألم نجعل أرض البشرية جامعة للقلوب والأرواح والأحياء بالعلم والمعرفة ، حين غلبت الروح والعقل على البشرية والهوى ، وللنفوس والقلوب الميتة ، حين غلب الهوى. وجعلنا فيها رواسي من العقول الثابتة ، لتميز بين النافع الضار ، وأسقيانكم من ماء العلوم التي تحيا به القلوب والأرواح ، ماءً عذباً لمَن وفّقه اللهُ لشُربه على أيدي الرجال. ويل يومئذ للمكذِّبين بها ، فإنه يعيش ظمآناً ، ويموت عطشاناً ، والعياذ بالله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 208
(8/320)
يقول الحق جلّ جلاله للكفرة المكذِّبين : {انطلِقوا} أي : سيروا {إِلى ما كنتم به تُكَذِّبون} من النار المؤبَدة عليكم ، {انطلقوا إِلى ظِلًّ} ؛ دخان جهنم {ذي ثَلاثٍ شُعَبٍ} ، يتشعّب لِعظَمه ثلاث شعب ، كما هو شأن الدخال العظيم ، تراه يتفرّق ذوائب ، وقيل : يخرج لسان من النار يحيط بالكفار كالسرداق ، ويتشعّب من دخانها ثلاث شُعب ، فتُظلم حتى يفرغ من حسابهم ، والمؤمنون في ظل العرش. قيل : الحكمة في خصوصية الثلاث : أن حجاب النفس عن أنوار القدس ثلاث ، الحس والخيال والوهم ، وقيل : إنّ المؤدِّي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية ، الحالة في الدماغ ، والقوة الغضبية التي عن يمين القلب ، والقوة الشهوانية البهيمية التي عن يساره ، ولذلك قيل : تقف شُعبة فوق الكافر ، وشُعبة عن يمينه ، وشُعبة عن يساره.
ثم وصف ذلك الظل بقوله : {لا ظليلٍ} أي : لا مُظِلّ من حرّ ذلك اليوم أو من حرّ النار ، {ولا يُغنِي من اللهب} أي : وغير مغنٍ عن حر اللهب شيئاً لعدم البرودة فيه ، وهذا كقوله : {وَظِلٍ مِن يَحْمُومٍ لاَّ بَارٍدٍ َولآ كَرِيمٍ} [الواقعة : 43 ، 44] ، {إِنها ترمي بشَرَرٍ} وهو ما تطاير من النار {كالقَصْرِ} في العِظم ، أي : كل شررة كقصر من القصور في العِظم. وقيل : هو الغليظ من الشجر ، الواحدة : قَصْرةٌ ، كجمْر وجمرة ، {كأنه جمالاتٌ} جمع جَمَلَ. وقرأ أهل الكوفة ، غير شعبة " جِمَالةٌ " وهو أيضاً جمع جَمَل ، وجمالات جمع الجمع. {صُفرٌ} فإنَّ الشرار لِما فيه من النار يكون أصفر ، وقيل : سود ؛ لأنَّ سواد الإبل يضرب إلى الصفرة ، والأول تشبيه لها في العِظم ، وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط. وقيل : الضمير في " إنه " يعود إلى القصر ، فيذهب به إلى تصوير عجيب وتطوير غريب. شبهت الشرارة حين تنقض من النار في العظم بالقصر ، ثم شبّه القصر
210
(8/321)
المشبّه به ، حين يأخذ في الارتفاع والانبساط ، بأن ينشق عن أعداد لا نهاية لها بالجمالات المتكاثرة ، فيتصوّر فيها حينئذٍ العِظَم أولاً ، والانشقاق مع الكثرة والصُفرة والحركة ثانياً ، فيبلغ بالتشبيه إلى الذروة العليا. هـ. من الحاشية.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
ويل يومئذٍ للمكذّبين} بنارٍ هذه صفتها مع شواهد القدرة على ذلك وعلى أكبر منه ، {هذا يومُ لا ينطقون} ، الإشارة إلى وقت دخولهم النار ، أي : هذا يوم لاينطقون فيه بشيءٍ ، إمَّا لأنَّ السؤال والجواب والحساب قد انقضت قبل ذلك ، ويوم القيامة طويل ، له مواطن ومواقيت ، فينطقون في وقتٍ دون وقتٍ ، فعبّر عن كل وقت بيوم ، أو : لا ينطقون بشيءٍ ينفعهم ، فإنَّ ذلك كلا نُطق. وقُرىءَ بنصب اليوم ، أي : هذا الذي ذكروا وقع يومَ لا ينطقون ، {ولا يُؤذَنُ لهم} في الاعتذار {فيعتذِرُون} : عطف على " يُؤذَن " منخرط في سلك النفي ، أي : لا يكون لهم إذن ولا اعتذار يتعقب له ، وليس الإذن سبباً للأعتذار وإلاّ لنصب. قال الطيبي عن صاحب الكشف : التقدير : هذا يوم لا ينطقون بمنطق ينفعهم ، ولا يعتذرون بعذرٍ يدفع عنهم ، فـ " يعتذرن " داخل في النفي ، ولو حملناه على الظاهر لتَنَاقض ؛ لأنه يصير : هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون ؛ لأن الاعتذار نُطق أيضاً. هـ. {ويل يومئذٍ للمكذِّبين} بالبعث وما بعده.
{هذا يومُ الفَصْلِ} بين الحق والباطل ، أو : بين المُحق والمُبطل ، {جمعناكم} فيه ، والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم {والأولينَ} من الأمم ، فيقع الفصل بين الخلائق ، {فإِن كان لكم كَيْدٌ} هنا كما كان في الدنيا {فكِيدُونِ} فإنَّ جميع مَن كنتم تُقلدون وتقتدُون بهم حاضرون معكم. وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا ، وإظهار لعجزهم هناك ، {ويل يومئذٍ للمكذِّبين} بهذا ، حيث أظهر ألاَّ حِيلة لهم في الخلاص من العذاب.
(8/322)
الإشارة : انطلِقوا إلى ضد ما كنتم به تُكذِّبونن مِن رفع درجات المجتهدين المقربين وسقوط درجة البطالين ، فانحطوا إلى نار البُعد والحجاب. وتكذيبهم بذلك هو من حيث لم يعملوا بمقتضاه. انطلقوا إلى ظل الحجاب ، ذي ثلاث شُعب ، تشعب عليه الحجاب ، وانسدل عليه ثلاث مرات ، ظِل حجاب الغفلة ، وظِل حجاب الهوى ، وظِل حجاب حس الكائنات. لا ظليل ؛ ليس فيه نسيم القُرب ، ولا برد الرضا والتسليم ، ولا يُغني من لهب حر القطيعة والبُعد ، أو حرّ التدبير والاختيار ، إنها ترمي بشررٍ ، مَن كان باطنه في نار القطيعة رمَى بشررها على ظاهره ، فيظهر منه الغضب والقسوة والغِلظة والفظاظة. قال القشيري : يُشير إلى ما يترتب على هذه الشُعب من الأوصاف البهيمية والسبُعية والشيطانية ، وأنَّ كل صفة منها بحسب الغلظة والشدة ، كالقصور المرتفعة ، والبروج المشيّدة ، كأنه جمالات عظيمة الهيكل ، طويلة الأثر ، صُفر من شدة قوة النارية في ذلك الشرر ، وهي القوة الغضبية. ويل يومئذ للمكذِّبين بهذه التشبيهات اللطيفة والإشعارات الظريفة ، المنبئة عن الحقائق والدقائق. هـ.
211
هذا يوم لا ينطقون من شدة تحيرهم ، وقوة دهشهم ، ولا يُؤذن لهم فيعتذرون عن بطالتهم وتقصيرهم وقلة استعدادهم لهذا اليوم. {ويل يومئذ للمكذِّبين} قال القشيري : لأنهم أفسدوا الاستعداد ، بالركون إلى الدنيا وشهواتها ، والميل عن الآخرة ودرجاتها. هـ. هذا يوم الفصل بين أهل الجد والاجتهاد ، وأهل البطالة والفساد ، أو بين أهل القرب والوصال ، وبين أهل البُعد والانفصال ، أو بين أهل الشهود والعيان وأهل الدليل والبرهان ، أو : بين المقربين وعامة أهل اليمين ، جمعناكم والأولين ، فيقع التمييز بين الفريقين من المتقدمين والمتأخرين ، فإن كان لكم كيد وحيلة ترتفعون بها إلى درجات المقربين ، فكيدونن ولا قُدرة على ذلك ، حيث فاتهم ذلك في الدنيا. ويل يومئذ للمكذَّبين بهذا الفصل والتمييز.
(8/323)
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ المتقين} الكفرَ والتكذيب {في ظلالٍ} ممدودة {وعيون} جارية {وفواكهَ مما يشتهون} ؛ مما يستلذون من فنون الترفُّه وأنواع التنعُّم. يقال لهم : {كُلوا واشربوا} ، فالجملة : حال من الضمير المستقر في الظرف ، أي : هم يستقرُّون في ظلالٍ مقولاً لهم : {كلوا واشربوا هنيئاً} لا تباعة عليه ولا عتاب ، {بما كنتم تعملون} في الدنيا من الأعمال الصالحة ، {إنَّا كذلك} أي : مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنينَ} في عقائدهم وأعمالهم ، فأحسِنوا تنالوا مثل هذا أو أعظم. {ويل يومئذ للمكذبين} بهذا ، حيث نال المؤمنون هذا الجزاء الجزيل ، وبقوا هم في العذاب المخلَّد الوبيل.
ويُقال لهم في الدنيا على وجه التحذير : {كُلوا وتمتعوا} كقوله : {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} [فصلت : 40] أو : في الآخرة ، أي : الويل ثابت لهم ، مقولاً لهم ذلك ، تذكيراً لهم بحالهم في الدنيا ، بما جَنوا على أنفسهم من إيثارهم المتاع الفاني عن قريب على التمتُّع الخالد ، أي : تمتّعوا زمناً {قليلاً} أو متاعاً قليلاً ، لأنَّ متاع الدنيا كله قليل ، {إِنكم مجرمون} أي : كافرون ، أي : إنَّ كلّ مجرم يأكل ويتمتّع أياماً قلائل ، ثم يبقى في الهلاك الدائم. {ويل يومئذ للمكذِّبين} ، زيادة توبيخ وتقريع ، أو : ويل يومئذ للمكذِّبين الذين كذَّبوا.
{وإِذا قيل لهم اركعوا} أي : أطيعوا الله واخشعوا وتواضعوا للّه ، بقبول وحيه واتباع رسوله ، وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة ، {لا يركعون} ؛ لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ،
212
(8/324)
ويُصرون على ماهم عليه من الاستكبار. وقيل : وإذا أُمروا بالصلاة لا يفعلون ، إذ رُوي أنها نزلت حين أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثقيفاً بالصلاة ، فقالوا : لا ننحني ، فإنها خسّة علينا ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود " وقيل : هو يوم القيامة ، حين يُدْعَوْن إلى السجود فلا يستطيعون.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 212
ويل يومئذ للمكذِّبين} بأمره ونهيه. وفيه دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع. {فبأيِّ حديث بعده} أي : بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين ، وأخبار النشأتين ، على نمط بديع ، ولفظ بليغ مُعجِز ، مؤسس على حُجج قاطعة ، وأنوار ساطعة ، فإذا لم يؤمنوا به {فبأي حديثٍ بعده يؤمنون} أي : إن لم يؤمنوا بالقرآن ، مع أنه آية مبصرة ، ومعجزة باهرة ، من بين الكتب السماوية ، فبأي كتاب بعده يؤمنون ؟ فينبغي للقارىء أن يقول : آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
الإشارة : إنَّ المتقين ما سوى الله في ظلال التقريب ، وبرد التسليم ، ونسيم الوصال ، فما أطيب نسيمهم ، وما ألذ مشربهم ، كما قال الشاعر :
يا نسيمَ القُرب ما أطيبكا
ذاق طعم الأُنس مَن حَلَّ بكا
أيُّ عيشٍ لأناس قُرِّبوا
قد سُقوا بالقدس من مشربكا
{وعيون} أي : مناهل الشرب من رحيق الوجدان ، وفواكه النظر ، مما يشتهون ، أي : وقت يشتهون ، كُلوا من رزق أرواحكم وأسراركم ، وهو الترقي في معاريج العرفان ، وأشربوا من رحيق أذواقكم ، هنيئاً بما كنتم تعملون أيام مجاهدتكم ، إنَّا كذلك نجزي المحسنين المتقين علومَهم وأعمالَهم. ويل يومئذ للمكذِّبين بطريق هذا المقام الرفيع ، يُقال لهم : كُلوا وتمتّعوا وانهمكوا في الشهوات أياماً قلائل ، إنكم مجرمون ، وسيندم المفرّط إذا حان وقت الحصاد. وإذا قيل لهم : اخضعوا لمَن يُربيكم ويُرقيكم إلى تلك المراتب العلية المتقدمة للمتقين ، لا يخضعون ، فالويل لهم على تكذيبهم ، فبأي حديث وأيّ طريق بعد هذا يؤمنون ، وأيّ طريق يسلكون ، وبأيّ كتاب يهتدون ؟ إن حادوا عن طريق السلوك على أيدي الرجال ، فماذا بعد الحق إلاّ الضلال. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم.
213
جزء : 8 رقم الصفحة : 212(8/325)
سورة النبأ
جزء : 8 رقم الصفحة : 213
يقول الحق جلّ جلاله : {عَمّ يتساءلون} ، وأصله : " عمّا " فحذفت الألف ، كما قال في الألفية :
وما في الاسْتِفهامِ إن جُرَّت حُذِفْ
أَلِفهَا وأَوْلهَا الها إنْ تَقْفِ
وحذفها إمّا للفرق بين الاستفهامية والموصولة ، أو للتخفيف ، لكثرة الاستعمال ، وقُرىء بالألف على الأصل ، أي : عن شيءٍ يتساءلون. والضمير لأهل مكة ، وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم ، يسأل بعضُهم بعضاً ، ويخوضون فيه إنكاراً واستهزاءً ، وليس السؤال عن حقيقته ، بل عن وقوعه ، الذي هو حال من أحواله ، ووصف من أوصافه ، فإنَّ " ما " كما يُسأل بها عن الحقيقة يُسأل بها عن الصفة ، فتقول : ما زيد ؟ فيقال : عالم أو طبيب.(8/326)
وقيل : النبأ العظيم هو القرآن ، عجب من تساؤلهم واختلافهم وتجادلهم فيه. والاستفهام للتفخيم والتهويل والتعجيب من الجدال فيه ، مع وضوح حقه وإعجازه الدالّ على صدق ما جاء به ، وأنه من عند الله ، فكان ينبغي ألاّ يجادل فيه ، ولا يتساءل عنه ، بل يقطع به ولا يشك فيه ، وقد قال تعالى : {قُلْ هُوَ نَبَؤاْ عَظِيمُ} [صا : 67] الآية. وقال الورتجبي : النبأ العظيم : كلامه القديم ، عظيم بعظم الله القديم ، لا يَنال بركته إلاّ أهل الله وخاصته. هـ. وقيل : كانوا يسألون المؤمنين ، فالتفاعل قد يكون من واحد متعدد ، كما في قولك : تراؤوا الهلال. انظر أبا السعود.
214
وقوله : {عن النبأ العظيم} يتعلق بمحذوف ، دلّ عليه ما قبله ، فيوقف على " يتساءلون " ثم ليستأنف " عن النبأ... " الخ ، أي : يتساءلون عن الخبر العظيم ، وهو البعث وما بعده ، أو القرآن ، فتكون المناسبة بين السورتين قوله : {فَبِأَيْ حَدِيِث بَعْدَهُ يُؤْمِنُون} [المرسلات : 50] مع قوله : {عن النبأ العظيم} ، والأحسن : أنه كل ماجاءت به الشريعة من البعث والتوحيد والجزاء وغير ذلك.
(8/327)
قال ابو السعود : هو بيان لشأن المسؤول عنه ، إثر تفخيمه بإبهام أمره ، وتوجيه أذهان السامعين نحوه ، وتنزيلهم منزلة المستفهمين ، لإيراده على طريقة الاستفهام من علاّم الغيوب ، للتنبيه على أنه لعدم نظيره خارج عن دائرة علم الخلق ، حقيق بأن يُعتنى بمعرفته ويُسأل عنه ، كأنه قيل : عن أي شيء يتساءلون ، هل أُخبركم به ، ثم قيل بطريق الجواب : عن النبأ العظيم ، على منهاج قوله تعالى : {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر : 16] فـ " عن " متعلقة بما يدل عليه المذكور ، وحقه أن يُقَدَّر مؤخراً ، مسارعة إلى البيان ، هذا هو الحقيق بالجزالة التنزيلية ، وقد قيل : هي متعلقة بالمذكور ، و " عَمَّ " متعلق بمضمر مفسَّر به ، وأيّد ذلك بأنه قُرِىء " عمَّه " ، والأظهر : أنه مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقيل : " عن " الأولى للتعليل ، كأنه قيل : لِمَ يتساءلون عن النبأ العظيم ؟ والنبأ : الخبر الذي له شأن وخطر. هـ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 214
(8/328)
الذين هم فيه مختلفون} ، فمنهم مَن يقطع بإنكاره ، ومنهم مَن يشك ، فمنهم مَن يقول : {مَاهِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية : 24] ومنهم مَن يقول : {مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ} [الجاثية : 32] ومنهم مَن يُنكر المعادين معاً ، كهؤلاء ، ومنهم مَن يُنكر المعاد الجسماني ، كبعض أهل الكتاب. أو : في القرآن ، فمنهم مَن يقول : سحر ، ومنهم مَن يقول : كهانة ، ومنهم مَن يقر بحقيّته ، ويُنكره حسداً وتكبُّراً. والضمير في " هم فيه " للتأكيد ، وفيه معنى الاختصاص ، ولم يكن لقريش اختصاص بالاختلاف ، لكن لمّا كان خوضهم فيه أكثر ، وتعقبهم له أظهر ، جعلوا كأنهم مخصوصون به. هـ. قاله الطيبي. فـ " فيه " متعلق بـ " مختلفون " ، قُدِّم اهتماماً به ورعاية للفواصل ، وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات ، أي : هم راسخون في الاختلاف ، وقيل : المراد بالاختلاف : مخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في إثباته ، حيث أنكروه ، فيحمل الاختلاف على صدور الفعل من متعدد ، لا علَى مخالفة بعضهم لبعض من الجانبين ، لأنَّ الكل وإن استحق الردع والوعيد ، لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر ، إذ لا حقيّة في شيء منهما حتى يستحق مَن يخالفه المؤاخذة ، بل لمخالفته له صلى الله عليه وسلم في إثباته. هـ. انظر أبا السعود.
{كلاَّ} ، ردع عن الاختلاف والتساؤل بالمعنى المتقدم ، {سيعلمون} عن قريبٍ حقيقة الحال إذا حلّ بهم العذاب والنكال ، {ثمَّ كلاَّ سيعلمون} ، تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشديد. والسين للتقريب والتأكيد. و " ثم " للدلالة على أنَّ الوعيد
215
الثاني أبلغ وأشد ، وقيل : الأول عند النزع ، والثاني عند القيامة ، وقيل : الأول للبعث ، والثاني للجزاء. وقُرىء " ستعلمون " بالخطاب على نهج الالتفات ، تشديداً للردع والوعيد ، لا على تقدير : قل لهم ؛ للإخلال بجزالة النظم الكريم.
(8/329)
الإشارة : إن ظهرت أنوار الطريق ، ولاحت أسرار أهل التحقيق ، كثر الكلام بين الناس فيها ، والتساؤل عنها ، فيُقال في شأنهم ، عمَّ يتساؤلون عن النبأ العظيم ، الذي هو ظهور الحق وشهوده ، الذي هم فيه مختلفون ، فمنهم مَن يُنكره رأساً ، ومنهم مَن يُقره في الجملة ، ويقول : هم لقوم أخفياء لا يعرفهم أحد ، كلاَّ سيعلمون يوم تحق الحقائق وتبطل الدعاوى ، ويندم المفرط ، حيث لا ينفع الندم وقد زلّت به القدم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 214
يقول الحق جلّ جلاله : {ألم نجعل الأرضَ مِهاداً} أي : بساطاً وفراشاً ، فرشناها لكم حتى سكنتموها. وقُرىء " مَهْداً " تشبيهاً لها بمهد الصبي ، وهو ما يمهّد له لينام عليه ، تسمية للممهود بالمصدر. ولمّا أنكروا البعث قيل لهم : ألم يَخلُق مَن أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة ، فلِمَ تُنكرون قدرته على البعث ؟ وما هو إلا اختراع مثل هذه الاختراعات ، أو : قيل لهم : لِمَ فعل هذه الأشياء ، والحكيم لا يفعل شيئاً عبثاً ، وإنكارُ البعث يؤدّي إلى أنه عابث في كل ما فعل ؟ ومن هنا يتضح أنَّ الذي وقع عنه التساؤل هو البعث ، لا القرآن أو نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل. والهمزة للتقرير. والالتفات إلى الخطاب على القراءة المشهورة للمبالغة في الإلزام والتبكيت.
{والجبالَ أوتاداً} للأرض ، لئلا تميد بكم ، فأرساها بها كما يُرسى البيت بالأوتاد ، {وخلقناكم أزواجاً} ذكراً وأنثى ، ليسكن كل من الصنفين إلى الآخر ، وينتظم أمر المعاشرة والمعاش ، ويتيسر التناسل. وقيل : خلقناكم أصنافاً وأنواعاً في ألوانكم وصوركم وألسنتكم ، وهو عطف على المضارع المنفي ، داخل في حكم التقرير ، فإنه في قوة : إنما جعلنا الأرض.. الخ.
(8/330)
{وجعلنا نَومكم سُباتاً} أي : راحة لكم ، أو : قطعاً للأعمال والتصرُّف ، فتريحون أبدانكم به من التعب. والسبْت : القطع. أو : موتاً ؛ لِما بينهما من المشاكلة التامة في انقطاع أحكام الحياة ، وعليه قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ} [الأنعام : 60] وقوله : {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر : 42].
216
{وجعلنا الليلَ لباساً} يستركم بظلامه ، كما يستركم اللباس ، شبّهه بالثياب التي تلبس ، لأنه يستر عن العيون ، وقيل : المراد به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه. {وجلعنا النهارَ معاشاً} أي : وقت حياة تتمعشون فيه من نومكم ، الذي هو أخو الموت ، كقوله : {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} [الفرقان : 47] أي : تنتشرون فيه من نومكم ، أو تطلبون فيه معاشكم ، وتتقلبون في حوائجكم ، على حذف مضاف ، أي : ذا معاش.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 216
وبنينا فوقكم سَبْعاً شِداداً} أي : سبع سموات ، قوية الخلق ، محكمة البناء ، لا يؤثّر فيها مرّ الدهور ، ولا المرور والكرور. والتعبير عنها بالبناء مبني على تنزيلها منزلة القبة المضروبة على الخلق ، وهو يؤيد كونها الأفلاك المحيطة. {وجعلنا} فيها {سِراجاً وهَّاجاً} أي : مضيئاً وقّاداً ، أي : جامعاً للنور والحرارة ، وهو الشمس ، والوهَّاج : الوقّاد المتلألىء ، من : وهجت النار إذا أضاءت ، أو البالغ في الحرارة ، من : الوهج ، وهو الحر. والتعبير عنها بالسراج مناسب للتعبير عن السموات بالبناء ، فالدنيا بيت وسراجه الشمس بالنهار والقمر والنجوم بالليل. والجعل هنا بمعنى الإنشاء والإبداع ، كالخلق ، غير أنَّ الجعل مختص بالإنشاء التكويني ، وفيه معنى التقدير والتسوية.
(8/331)
{وأنزلنا من المُعْصِرات} أي : السحاب إذا أعصرت ، أي : شارفت أن يعصرها الرياح فتمطر ، ومنه : أعصرت الجارية : إذا دنت أن تحيض ، والرياح : إذا حان لها أن تعصر السحاب ، وقد جاء : أنَّ الله تعالى يبعث الرياح ، فتحمل الماء إلى السحاب فتعصره كما يعصر الماء من الجفافة ، أي : أنزلنا من السحاب {ماءً ثَجَّاجاً} أي : منصباً بكثرة ، يقال : ثج الدم ، أي : أساله ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الحج العجّ والثج " أي : رفع الصوت بالتلبية ، وصب دم الهَدْي.
{لنُخرج به} ؛ بذلك الماء {حباً} يُقتات به ، كالحنطة والشعير ، ونحوهما {ونباتاً} يُعلف ، كالتبن والحشيش. قال الطيبي : النبات أريد به النابت. وتقديم الحب مع تأخره في الإخراج لشرفه ؛ لأنَّ غالبة قوت الإنسان. {وجناتٍ} ؛ بساتين ، من : جنّة إذا ستره ، فالجنة تطلق على ما فيه النخل والشجر المتكاثف ، لأنه يستر الأرض بظل أشجاره ، وقال الفراء : الجنة ما فيه النخل ، والفردوس مافيه الكرم. و {ألفافاً} صفة ، أي : ملتفّةَ الأشجار ، واحدها : " لِفّ " ككِن وأكنان ، أو : لَفيف ، كشريف وأشراف ، أو : لا واحد له ، كأوْزاع وأضياف ، أو جمع الجمع ، فألفاف جمع " لُفّ " بالضم ، و " لُفّ " ـ جمع " لَفَّاء " كخُضر وخضراء ، واللِّفُ : الشجر الملتف.
قال أبو السعود : اعلم أنَّ فيما ذكر تعالى من أفعاله ـ عزّ وجل ـ دلالة على صحة البعث من ثلاثة أوجه :
217
الأول : باعتبار قدرته تعالى ، فإنَّ مَن قَدَر على إنشاء هذه الأفعال البديعة ، من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه ، كان على الإعادة أقدر وأقوى.
الثاني : باعتبار علمه وحكمته ، فإنَّ مَن أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع ، مستتبع لغايات جليلة ، ومنافع جميلة ، عائدة إلى الخلق ، يستحيل أن يخليها من الحكمة بالكلية ، ولا يجعل لها عاقبة باقية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 216
(8/332)
والثالث : باعتبار نفس الفعل ، فإنَّ في اليقظة بعد النوم أنموذجاً للبعث بعد الموت ، يشاهدونها كل يوم ، وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض الميتة ، يعاينونه كل حين ، شاهد على إخراج الموتى من القبور بعد الفناء والدثور ، كأنه قيل : ألم يفعل هذه الأفعال الآفاقية والأنفسية ، الدالة بفنون الدلالات على حقيّة البعث ، الموجبة للإيمان به ، فما لكم تخوضون فيه إنكاراً ، وتتساؤلون عنه استهزاءً ؟ هـ.
الإشارة : ألم نجعل أرضَ البشرية مِهاداً للعبودية والقيام بآداب الربوبية ، وجبالَ العقل أوتاداً ، يسكنونها لئلا يميلها الهوى عن الاعتدال في الاستقامة وخلقناكم أزواجاً أصنافاً ؛ عارفين وعلماء ، وعُبَّاداً وزُهَّاداً ، وصالحين وجاهلين ، وعصاة وكافرين ، وجعلنا نومَكم ، اي : سِنَتكم عن الشهود ، بالميل إلى شيء من الحس في بعض الأوقات ، سُباتاً ، أي : راحة للقلوب ، لأنَّ دوام التجلَّي يمحقُ البشرية ، وفي الأثر : " رَوِّحوا قلوبكم بشيءٍ من المباحات " أو كما قال عليه الصلاة والسلام. أو : نومَكم الحسي راحة للأبدان ، لتنشط للعبادة ، وجعلنا ليل القطيعة لباساً ساتراً عن الشهود ، وجعلنا نهارَ العيان معاشاً ؛ حياة للأرواح والأسرار ، وبنينا فوقكم سبعَ مقامات شِداداً صعاباً ، فإذا قطعتموها وترقيتم عنها أفضيتم إلى فضاء الشهود ، وهي التوبة النصوح ، والورع ، والزهد ، والصبر على مجاهدة النفس ، وخرق عوائدها ، والتوكُّل ، والرضا ، والتسليم ، وجعلنا في قلوبكم بعد هذه المقامات سِراجاً وهّاجاً ، وهي شمس العرفان لا تغرب أبداً ، وأنزلنا من سماء الغيوب ماء ثجّاجاً ، تحيى به الأوراح والأسرار ، وهو ماء الواردات الإلهية ، والعلوم اللدنية ، لنُخرج به حبًّا ؛ حِكماً لقوت الأرواح ، ونباتاً ؛ علوماً لقوت النفوس ، وجنات : بساتين التوحيد ، مشتملة على أشجار ثمار الأذواق وظلال التقريب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 216
(8/333)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ يومَ الفَصْلِ} بين الخلائق ، فيتميز المحسن من المسيء ، والمحقّ من المبطل ، {كان} في علم الله تعالى وتقديره {ميقاتاً} ؛ وقتاً محدوداً ، ومُنتهى معلوماً لوقوع الجزاء ، أو : ميعاداً لجمع الأولين والآخرين ، وما يترتب عليه من الجزاء ثواباً وعقاباً ، لا يكاد يتخطاه بالتقدُّم ولا بالتأخُّر ، وهو {يوم ينفخ في الصور} نفخة ثانية ، فـ " يوم " بدل من " يوم الفصل " ، أو عطف بيان له ، مفيد لزيادة تخفيمه وتهويله في تأخير الفصل ، فإنه زمان ممتد ، في مبدئه النفحة ، وفي بقيته الفصل وآثاره. والصُور : القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لمّا خلق الله السموات والأرض خلق الصور ، فأعطاه إسرافيل ، فهو واضع له على فيه ، شاخص ببصره إلى العرش ، حتى يؤمر بالنفخ فيه ، فيؤمر به ، فينفخ نفخةً لا يبقى عندها في الحياة غير ما شاء الله ، وذلك قوله تعالى : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّماواتِ...} [الزمر : 68] الآية ، ثم يؤمر بأخرى ، فينفخ نفخه لا يبقى معها ميت إلاَّ بُعث وقام ، وذلك قوله تعالى : {ثُمََّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر : 68]. " والفاء في قوله تعالى : {فتأتون} فصيحة تفصح عن جملة حُذفت ثقةً بدلالة الحال عليها ، وإيذاناً بغاية سرعة الإتيان ، كما في قوله تعالى : {أّنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَـانفَلَقَ} [الشعراء : 63] أي : فتبعثون من قبوركم فتأتون عقب ذلك من غير لبث {أفواجاً} ؛ جماعات مختلفة الأحوال ، متباينة ، الأوضاع ، حسب اختلاف أعمالكم وتباينها ، مِن راكب ، وطائر ، وماش خفيف وثقيل ، ومكب على وجهه ، وغير ذلك من الأحوال العظيمة ، أو : أمماً ، كل أمة مع رسولها ، كما في قوله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُناَسِ بِإِمَامِهْم} [الكهف : 47].
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 218
(8/334)
وفُتِحت السماءُ} أي : تشققت لنزول الملائكة ، وصيغة الماضي لتحقُّق وقوعه ، {فكانت أبواباً} ؛ فصارت ذات أبواب وطرق وفروج ، وما لها اليومَ من فُروج. {وسُيْرت الجبالُ} في الجو على هيئتها بعد قلعها من مقارها ، {فكانت سَرَاباً} ؛ هباءً ، تخيل الشمس أنها سراب ، وهَل هذا التسيير قبل البعث ، فلا يقع إلاَّ على أرض قاع صفصف ، وهو ما تقتضيه ظواهر الآيات ، كقوله : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف : 47] وقوله : {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة : 14 ، 15] والفاء تقتضي الترتيب ، أو لا يقع إلاّ بعد البعث ، وهو ظاهر الآية هنا وسورة القارعة. وهو الذي اقتصر عليه أبو السعود ، قال : يُبدل اللهُ الأرض ، ويُغيّر
219
هيئاتها ، ويُسَيّر الجبال على تلك الهيئة الهائلة عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها. هـ. والله أعلم بحقيقة الأمر.
(8/335)
ثم شرع في تفصيل أحكام الفصل بعد بيان هوله ، وقدَّم بيان حال الكفرة ترهيباً ، فقال : {إنَّ جهنم كانت مِرْصَاداً} أي : موضع الرصد ، وهو الارتقاب والانتظار ، أي : تنتظر الكفار وترتقبهم ليدخلوا فيها ، أو طريقاً يمر عليه الخلق ، فالمؤمن يمر عليها ، والكافر يقع فيها ، أي : كانت في علم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه الخزنةُ الكفارَ ليعذبوهم فيها ، {للطاغين مآباً} : نعت لمرصاد ، أي : كائناً للطاغين مرجعاً يرجعون إليه لا محالة ، {لابثين فيها} ، ماكثين فيها ، وهو حال مُقدَّرة من المستكن في الطاغين. وقرأ حمزة (لبثين) ، وهو أبلغ من " لابثين " لأنَّ اللابث مَن يقع منه مطلق اللَّبْث ، واللَّبِث مَن شأنه اللبث والمقام ، و {أحقاباً} : طرف للبثهم ، جمع حُقب ، كقُفْل وأقفال ، وهو الدهر ، ولم يرد به عدداً محصوراً ، بل كلما مضى حُقب تبعه حقب ، إلى غير نهاية ، ولا يستعمل الحُقب إلاّ حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها. وقيل : الحقب ثمانون سنة ، ورُوي عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه ثلاثون ألف سنة. وقال الحسن : ليس للأحقاب عدة إلاّ الخلود.
(8/336)
{لا يَذُوقون فيها بَرْداً ولا شَراباً} : حال من ضمير " لابثين " أي : غير ذائقين فيها {برداً} أي : نسيماً بارداً ، بل لهباً حاراً ، {ولا شراباً} بارداً ، {إلاَّ حميماً} ؛ ماءً حاراً ، استثناء منقطع ، أي : لا يذوقون في جهنم ، أو في الأحقاب ، برداً ، ولا ينفس عنهم غم حر النهار ، أو : نوماً ، فإنَّ النوم يطلق عليه البرد ، لأنه يبرد سَوْرة العطش ، ولا شراباً يُسكن عطشهم ، لكن يذوقون فيها ماءً حاراً ، يحرق ما يأتي عليه ، {وغسَّاقاً} أي : صديداً يسيل من أجسادهم. وفي القاموس : وغَساق كسَحاب وشدّاد : البادرُ المنتن. وقال الهروي عن الليث : (وغساقاً) أي : مُنتناً ، ودلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " لو أنَّ دلواً من غساق يُهرَاقُ في الدنيا ، لأنتَنَ أهلُ الدنيا " ، وقيل : ما يسيل من أعينهم من دموعهم يسقون به مع الحميم ، يقال : غسقت عينه تغْسَق ، إذا سالت. ثم قال : ومَن قرأ بالتخفيف ، فهو البارد الذي يُحرق ببرده. هـ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 218
جزاءً وِفاقاً} أي : جُوزوا بذلك جزاءً موافقاً لأعمالهم الخبيثة ، مصدر بمعنى الصفة ، أو : ذا وفاق. {إِنهم كانوا لا يرجون حِساباً} أي : لا يخافون محاسبة الله إياهم ، أو : لا يؤمنون بالبعث فيرجعوا حسابه ، {وكذّبوا بآياتنا} الناطقة بذلك {كِذَّاباً} أي : تكذيباً مفرطاً ، ولذلك كانوا مصرِّين على الكفر وفنون المعاصي. و " فعّال " في باب فعّل فاش. {وكلَّ شيءٍ} من الأشياء ، ومِن جملتها أعمالهم الخبيثة ، {أحصيناه} أي : حفظناه وضبطناه {كِتاباً} ، مصدر مؤكد لأحصينا ؛ لأنَّ الإحصاء والكتابة من وادٍ واحد ،
220
(8/337)
أو : حال بمعنى مكتوب في اللوح المحفوظ ، أو في صحف الحفظة ، والجملة اعتراض ، وقولة تعالى : {فذُوقوا فلن نزيدكم إِلاَّ عذاباً} مسبب عن كفرهم بالحساب ، وتكذيبهم بالآيات ، أي : فذوقوا جزاء تكذيبكم والالتفات شاهد على شدّة الغضب. روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ هذه الآية أشدُّ ما في القرآن على أهل النار ". الإشارة : إنَّ يوم الفصل بين العمومية والخصوصية ، أو تقول : بين الانتقال من مقام أهل اليمين إلى مقام المقربين ، كان في علم الله ميقاتاً ، أي : مؤقتاً ، وهو يوم انتقاله من شهود الأكوان إلى شهود المكوِّن ، أو من مقام البرهان إلى مقام العيان. يوم يُنفخ في صور الأرواح التي سبقت لها العناية ، فيُزعجها شوق مقلق أو خوف مزعج ، فتأتون إلى حضرة القدس ، تسيرون إليها على يد الخبير أفواجاً ، وفُتحت سماء الأرواح ليقع العروج إليها من تلك الأرواح السائرة ، فكانت أبواباً ، وسُيرت جبال العقل حين سطوع أنوار الحقائق ، فكانت سراباً ، فلا يبقى من نور العقل إِلاّ ما يميز به بين الحس والمعنى ، وبين الشريعة والحقيقة. إنَّ جهنم البُعد كانت مِرصاداً ، للطاغين المتكبرين عن حط رؤوسهم للخبير ، الباقين مع عامة أهل اليمين ، مآباً لا يبرحون عنها ، لابثين فيها أحقاباً مدة عمرهم وما بعد موتهم ، لا يذوقون فيها برد الرضا ، ولا شراب نسيم التسليم ، إلاَّ حميماً : حر التدبير والاختيار ، وغساقاً : نتن حب الدنيا وهمومها ، جزاءً موافقاً لميلهم إلى الحظوظ والهوى ، إنهم كانوا لا يرجون حِساباً ، فلم يحاسبوا نفوسهم ، ولا التفتوا إلى إخلاصها ، وكذّبوا بأهل الخصوصية ، وهم الأولياء الدالون على الله ، ثم يقال لهم : ذّوقوا وبال القطيعة ، فلن نزيدكم إلاّ تعباً وحرصاً وجزعاً.عائذاً بالله من سوء القضاء ، وشماتة الأعداء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 218
(8/338)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ للمتقين مفازاً} أي : فوزاً ونجاة من كل مكروه ، وظفراً بكل محبوب ، وهو مَفْعَلٌ من الفوز ، يصلح أن يكون مصدراً ومكاناً ، وهو الجنة ، ثم أبدل البعض من الكل ، فقال : {حدائقَ} ؛ بساتين فيها أنواع الشجر المثمر ، جمع حديقة ، وأبدل من المفرد ، لأنَّ المصدر لا يجمع ، بل يصلح للقليل والكثير ، {وأعناباً} ، كرر لشرفه ، لأنه يخرج منه أصناف مِن النِعم ، {وكواعبَ} ؛ نساء نواهِد ، وهي مَن لم تسقط ثديها لصغرٍ ، {أتراباً} أي : لَدَاتٍ مستوياتٍ في السنّ ، {وكأساً دِهاقاً} ؛ مملوءة.
221
{لا يسمعون فيها} ؛ في الجنة ، حال من ضمير خبر " إن " ، {لَغْواً} ؛ باطلاً ، {ولا كِذَّاباً} أي : لا يكذّب بعضهم بعضاً ، وقرأ الكسائي بالتخفيف ، من المكاذبة ، أي : لا يُكاذبه أحد ، {جزاءً من ربك} : مصدر مؤكد منصوب ، بمعنى : إنَّ للمتقين مفازاً ، فإنه في قوة أن يقال : جازى المتقين بمفاز جزاء كائناً من ربك. والتعرُّض لعنوان الربوبية ، المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم مزيد تشريف له عليه الصلاة والسلام ، {عَطاءً} أي : تفضُّلاً منه تعالى وإحساناً ، إذ لا يجب عليه شيء ، وهو بدل مِن " جزاء " ، {حِساباً} أي : مُحسِباً ، أي : كافياً ، على أنه مصدر أقيم مقام الوصف ، أو بولغ فيه ، من : أحسبه إذا كفاه حتى قال حسبي ، أو : على حسب أعمالهم.
(8/339)
{ربِّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما} بدل من " ربك " ، {الرحمن} : صفة له ، أو للأول ، فمَن جَرَّهما فبدل من " ربك ". ومَن رفعهما فـ " رب " خبر متبدأ محذوف ، أو متبدأ خبره " الرحمن " ، أو " الرحمن " صفة ، و " لا يملكون " خبر ، أو هما خبران ، وأيًّا ما كان ففي ذكر ربوبيته تعالى للكل ورحمته الواسعة إشعار بمدار الجزاء المذكور ، {لا يملكون} أي : أهل السماوات والأرض {منه خِطاباً} ؛ معذرة أو شفاعة أو غيرهما إلاَّ بإذنه ، وهو استئناف مقرر لما أفادته الربوبية العامة ، من غاية العظمة والكبرياء ، واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء ، من غير أن يكون لأحد قدرة عليه ، والتنكير في للتقليل والنوعية. قال القشيري : كيف يكون للمكوَّن المخلوق المسكين مُكْنةٌ أن يملك منه خِطاباً ، أو يتنفَّسَ بدونه نفساً ؟ كلاَّ ، بل هو الله الواحدُ الجبّار. ثم قال : إنما تظهر الهيبةُ على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم. وأمّا الخصوص فهم أبداً بمشهدِ العز بنعت الهيبة. هـ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 221
(8/340)
يومَ يقومَ الرُّوحُ} ؛ جبريل عليه السلام عند الجمهور ، وقيل : مَلكٌ عظيم ، ما خلق الله تعالى بعد العرش أعظم منه ، يكون وحده صفًّا ، {والملائكةُ صفاً} : حال ، أي : مصطفين {لا يتكلمون} أي : الخلائق خوفاً ، {إِلاَّ مَن أّذِنَ له الرحمنُ} في الكلام أو الشفاعة ، {وقال صَواباً} أي : حقًّا. قال الطيبي عن الإمام : فإن قيل : لَمَّا أذن له الرحمن في التكلم عَلِمَ أنه حق وصواب ، فما الفائدة في قوله : {وقا صواباً} ؟ فالجواب من وجهين ، أحدهما : أنَّ التقدير : لا ينطقون إلاَّ بعد ورود الإذن والصواب ، ثم يجتهدون في ألاَّ ينطقوا إلاَّ بالحق والصواب ، وهذا مبالغة في وصفهم بالطاعة. وثانيهما : أنَّ التقدير : لا يتكلمون إلاَّ في محضر إذن الرحمن في شفاعته والمشفوع له ممن قال صواباً ، وهو قول لا إله إلاّ الله. هـ. قلت : والمعنى : أن يُراد بالصواب : استعمال الأدب في الخطاب ، بمراعاة التعظيم ، كما هو شأن الكلام مع الملوك.
ثم قال تعالى : {ذلك اليومُ الحق} أي : الثابت المحقَّق لا محالة ، من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه. والإشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور ، وما فيه من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار أليه للإيذان بعلو درجته ، وبُعد منزلته في الهول والفخامة.
222
وهو مبتدأ ، و " اليوم " خبره ، أي : ذلك اليوم العظيم الذي يقوم الروح والملائكة مصطفين ، غير قادرين على التكلم عنهم ولا عن غيرهم من الهيبة والجلال ، هو اليوم الحق ، {فمَن شاء اتخذ إَلى ربه مآباً} ؛ مرجعاً بالعمل الصالح. والفاء فصيحة تفصح عن شرط محذوف ، أي : إذا كان الأمر كذلك من تحقُّق اليوم المذكور لا محالة ، فمَن شاء أن يتخذ إلى ربه مرجعاً ، أي : إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم ، فليفعل ذلك بالإيمان والطاعة ، و " إلى ربه " يتعلق بـ " مآب " قُدّم اهتماماً وللفواصل.
(8/341)
{إِنَّا أنذرناكم} بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث وما بعده من الدواعي ، أو بسائر القوارع الواردة في القرآن ، أي : خوفناكم {عذاباً قريباً} هو عذاب الآخرة ، وقُربه لتحقُّق وقوعه ، وكل آتٍ قريب ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات : 46] ، وعن قتادة هو قتل قريش يوم بدر ويأباه قوله تعالى : {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} فإنه بدل من " عذاب " أو ظرف لمُضمر هو صفة له ، أي : عذاباً كائناً يوم ينظر المرء ، أي : يُشاهد ما قدَّمه من خير وشر. و " ما " موصولة ، والعائد محذوف ، أو استفهامية ، أي : ينظر الذي قدمته يداه ، أو : أي شيء قدمت يداه وقيل : المراد بالمرء : الكافر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 221
وقوله : {ويقول الكافرُ يا ليتني كنتُ تراباً} ، وضع الظاهرَ موضع الضمير ، لزيادة الذّم ، أي : يا ليتني كنتُ تراباً لم أُخلق ولم أُكلّف ، أو : ليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أُبعث. وقيل : يحشر اللّهُ تعالى الحيوان حتى يقتص للجماء من القرناء ، ثم يرده تراباً ، فيود الكافرُ أن يكون تراباً مثله ، وقيل : الكافر : إبليس يرى آدم وولده وثوابهم ، فيتمنى أن يكون من الشيء الذي احتقره حين قال : {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف : 12 و صا : 76]. قال الطيبي : والعموم في المرء هو الذي يساعده النظم. ثم قال عن الإمام : فإن قلتَ : لِمَ خصّ بعد العموم قول الكافر دون المؤمن ؟ قلت : دلّ قول الكافر على غاية التحسُّر ، ودلّ حذف قول المؤمن على غاية التبجُّح ونهاية الفرح بما لا يَحصُره الوصف. هـ. قال المحشي : والظاهر أنه اقتصر على قول الكافر بعد العموم في المرء ، لأنه المناسب للنذارة التي اقتضاها المقام. هـ. قلتُ : ولو ذكر قول المؤمن لقال : ويقول المؤمن هاؤم اقرؤوا كتابيه ، تبجُّحاً وفرحاً. والله تعالى أعلم.
(8/342)
الإشارة : إنَّ للمتقين الله حق تقاته مفازاً ، وهو التخلُّص من رؤية الأكوان ، والإفضاء إلى رؤية الشهود والعيان ، وهو دخول حدائق العرفان ، واقتطاف ثمار الوجدان ، ونكاح أبكار الحقائق ، وهنّ أتراب ، لاستوائها غالباً في لذة الشهود لمَن تمكن منها. ويشربون كأس الخمرة الأزلية ، لا يسمعون في حضرة القدس لغواً ولا كِذاباً ، لغاية أدبهم ، جزاء من ربك على مكابدتهم في أيام سيرهم ، عطاءً كافياً مغنياً من الرحمن ، لا يملكون منه خِطاباً ، لغاية هيبتهم ، وهذا لقوم أقامهم مقام الهيبة ، وثَمَّ آخرون أقامهم مقام البسط والإدلال ،
223
وهم المتمكنون في معرفته ، ينبسطون معه ، ويشفعون في عباده في الدارين. قال الورتجبي : مَن كان كلامه في الدنيا من حيث الكشف والمعاينة ، فهو مأذون في الدنيا والآخرة ، يتكلم مع الحق على بساط الحرمة والهيبة ، يُنقذ الله به الخلائق من ورطة الهلاك. هـ.
يوم يقوم الروح ، أي : جنس الروح ، وهي الأرواح الصافية ، التي التحقت بالملائكة ، فتقوم معهم صفاً في مقام العبودية التي شرفت بها ، لا يتكلمون هيبةً لمقام الحضرة ، إلاَّ مَن أّذِنَ له الرحمنُ في الشفاعة ، على قدر مقامه ، وقال صواباً ، أي : استعمل الأدب في مخاطبته فإذا استعمل الأدب شفع ، ولو قصر مقامه عن عدد المشفوع فيه. حُكي أنّ بعض الأولياء قال عند موته : يا رب شفِّعني في أهل زماني ، فقال له الهاتف من قِبل الله تعالى : لم يبلغ مقامك هذا ، فقال : يا رب إذا كان ذلك بعملي واجتهادي فلعَمري إنه لم يبلغ ذلك ، وإذا كان ذلك بكرمك وَجُودك ، فهو أعظم من ذلك ، فشَفَّعه الحقُّ تعالى في الوجود. هكذا سمعتُ الحكاية من شيخنا الفقيه العالم ، سيدي " التاودي بن سودة " رحمه الله ، فحُسن خطاب هذا الرجل بلّغه ما لم يبلغه قدره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 221
ذلك اليوم الحق ، تحِق فيه الحقائق ، وتبطل فيه الدعاوى ، ويفتضح أهلها ، فمَن شاء اتخذ إلى ربه مآباً ، يرجع به إلى ربه ، وهو حُسن التوجه إليه ، برفض كل ما سواه. {إنَّا أنذرناكم عذاباً قريباً} قال القشيري : أي : عذاب الالتفات إلى النفس والدنيا والهوى ، يوم ينظر المرءُ ما قدَّمت يداه من الإساءة والإحسان هـ. ويقول الكافر الجاحد لطريق الخصوصية ، حتى مات محجوباً : يا ليتني كنتُ تُراباً ، تحسُّراً على ما قاته من مقام المقربين. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
224
جزء : 8 رقم الصفحة : 221(8/343)
سورة النازعات
جزء : 8 رقم الصفحة : 224
فإنَّ جواب القسم : لتُبعثن ثم لتعذِّبن.
يقول الحق جلّ جلاله : {والنازعاتِ} أي : والملائكة التي تنزع الأرواح من أجسادها ، كما قال ابن عباس ، أو أرواح الكفرة ، كما قاله هو أيضاً وابن مسعود ، {غَرْقاً} أي : إغراقاً ، من : أَغرق في الشيء : بالغ فيه غايةً ، فإنها تُبالغ في نزعها فتخرجها من أقاصي الجسد. قال ابن مسعود : تنزع روح الكافر مِن جسده من تحت كل شعرة ، ومِن تحت الأظافر ، ومن أصول القدمين ، ثم تفرقها في جسده ، ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج تردها في جسده ، فهذا عملها بالكفار دون المؤمنين. أو : تُغرقها في جهنم ، فهو مصدر مؤكد.(8/344)
{والناشطاتِ نشطاً} أي : ينشطونها ويخرجونها من الجسد ، من : نَشط الدلو من البئر : أخرجها. {والسابحاتِ سَبْحاً} أي : يسبحون بها في الهوى إلى سدرة المنتهى. شبّه سرعة سيرهم بسبح الهوام ، أو يسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج من البحر ما يخرج ، {فالسابقاتِ سبقًا} فيسبقون بأرواح الكفرة إلى النار ، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة ، {فالمُدبراتِ أَمْراً} تُدبر أمر عقَابها وثوابها ، بأن تهيئها لإدراك ما أعدّ لها من الآلام والثواب ، أو السابحات التي تسبح في مضيها ، فتسبق إلى ما أمروا به ، فتدبر أمراً من أمور العباد ، مما يصلحهم في دينهم ودنياهم كما رُسم لهم.
225
أو : يكون تعالى أَقْسَم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ، غرقاً في النزع ، بأن تقطع الفلك حتى تنحطّ في أقصى المغرب ، وتنشط من برج إلى برج ، أي : تخرج ، من : نَشط الثور : إذا خرج من بلد إلى بلد ، وتَسْبح في الفلك ، فتسبق بعضها بعضاً ، فتُدبر أمراً نِيط بها ، كاختلاف الفصول ، وتقدير الأزمنة ، وتدبير مواقيت العبادة ، وحيث كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسرية ـ أي : قهرية - وحركاتها من برج إلى برج ملائمةً ، عبَّر عن الأولى بالنزع ، وعن الثانية بالنشط.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
أو : بأنفس الغُزاة ، أو : بأيديهم التي تنزع القِسي ، بإغراق السهام ، وينشطون بالسهم إلى الرمي ، ويَسْبحون في البر والبحر ، فيسبقون إلى حرب العدو ، فيُدبرون أمرها ، أو : بصفات خيلهم ، فإنها تنزع في أعنّتها نزعاً تغرق فيه الأعنّة لطول أعناقها ، لأنها عراب ، وتخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، وتَسْبح في جريها ، فتسبق إلى العدو ، فتدبر أمر الظفر والغلبة. وسيأتي في الإشارة أحسن هذه الأقوال إن شاء الله.
(8/345)
وانتصاب " نشطاً " و " سَبْحاً " و " سبقاً " على المصدرية ، وأما " أمراً " فمفعول به ، وتنكيره للتهويل والتفخيم. والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير العنواني منزلة المتغاير الذاتي ؛ للإشعار بأنَّ كل واحدٍ من الأوصاف المعدودة من معظّمات الأمور ، حقيق بأن يكون حياله مناطاً لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام بالإقسام من غير انضمام أوصاف الآخر إليه. والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتيبهما على ما قبلهما بلا مهلة. والمقسم عليه محذوف ، تعويلاً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه ، ودلالة ما بعد من أحوال القيامة عليه ، فإنَّ الإقسام بمَن يتولى نزع الأرواح ، ويقوم بتدبيرها ، يلُوح بكون المقسم عليه مِن قبل تلك الأمور لا محالة ، ففيه من الجزالة ما لا يخفى.
أي : لتُبعثن {يومَ ترجُفُ الراجِفةُ} ، فالعامل في الظرف هو الجواب المحذوف. والرجف : شدة الحركة. والراجفة : النفخة الأولى ، وُصفت بما حدث عندها لأنها تضطرب لها الأرض حتى يموت مَن عليها ، وتزلزل الجبال وتندك الأرض دكاً ، ثم {تتبعها الرادِفةُ} ؛ النفخة الثانية ، لأنها تردف الأولى ، وبينهما أربعون سنة ، والأولى تُميت الخلق والثانية تُحْييهم.
{قلوبٌ يومئذٍ} ، وهي قلوب منكري البعث ، {واجفةٌ} ؛ مضطربة ، من : الوجيف ، وهو الاضطراب ، {أبصارُها} أي : أبصار أصحابها {خاشعةٌ} ؛ ذليلة لهول ما ترى ، {يقولون} أي : منكرو البعث في الدنيا استهزاءً وإنكاراً للبعث : {أئنا لمردودون في الحافرة} ، استفهام بمعنى الإنكار ، أي : أنُردّ بعد موتنا إلى أول الأمر ، فنعود أحياءً كما كنا ؟ والحافرة : الحالة الأولى ، يُقال لمَن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه : رجع إلى حافرته ، أي : إلى حالته الأولى ، يُقال : لمَن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه : رجع إلى حافرته ، أي : إلى حالته الأولى ، ويُقال : رجع في حافرته ، أي : طريقته التي جاء فيها ، فحفر فيها ، أي : أثر فيها بمشيه ، وتسميتها حافرة مع أنها محفورة ، كقوله : {عيشة
(8/346)
226
راضية} [الحاقة : 21] على تسمية القابل بالفاعل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
أنكروا البعث ثم زادوا استبعاداً فقالوا : {أئذا كنا عظاماً نخرةً} ؛ بالية. ونخرة أبلغ من ناخرة ؛ لأنَّ " فَعِلٌ " أبلغ من فاعل ، يقال : نَخِرَ العظم فهو نَخِرٌ وناخر : بِلَى ، فالنَخِر هو البالي الأجوف الذي تمر به الريح فيسمع له نخير ، أي : أنُرد إلى البعث بعد أن صرنا عظاماً بالية ؟ . و " إذا " منصوب بمحذوف ، وهو : أنُبعث إذا كنا عظاماً بالية مع كونها أبعد شيء في الحياة.
{قالوا} أي : منكروا البعث ، وهو حكاية لكفر آخر ، متفرع على كفرهم السابق ، ولعل توسيط " قالوا " بينهما للإيذان بأنّ صدور هذا الكفر عنه ليس بطريق الاطراد والاستمرار ، مثل كفرهم الأول المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم ، حسبما يُنبىء عنه حكايته بصيغة المضارع ، أي : قالوا بطريق الاستهزاء ، مُشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة ، مشعرين بغاية بُعدها من الوقوع : {تلك إِذاً كرةٌ خاسرةٌ} أي : رجفة ذات خسران ، أو خاسر أصحابها ، والمعنى : أنها إن صحّت وبُعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها ، وهذا استهزاءُ منهم.
(8/347)
قال تعالى في إبطال ما أنكروه : {فإِنما هي زجرةٌ واحدة} أي : لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله ، بل هي أسهل شيء ، فما هي إلاّ صيحة واحدة ، يُريد النفخة الثانية ، من قولهم : زَجَر البعير : إذا صاح عليه. {فإِذا هم بالسَّاهرةِ} أي : فإذا هم أحياء على وجه الأرض ، بعدما كانوا أمواتاً في جوفها. والساهرة : الأرض البيضاء المستوية ، سُميت بذلك ، لأنَّ السراب يجري فيها ، من قولهم : عين ساهرة جارية ، وفي ضدها : عين نائمة ، وقيل : إنَّ سالكها لا ينام خوف الهلكة ، وقيل : أرض بعينها بالشام إلى جنب بيت المقدس ، وقيل : أرض مكة. وقيل : اسم لجهنّم. وعن ابن عباس : أنَّ الساهرة : أرض مِن فضة ، لم يُعص اللهَ تعالى عليها قط ، خلقها حينئذ. وقيل : أرض يُجددها الله تعالى يوم القيامة. وقيل : الأرض السابعة ، يأتي الله بها يوم القيامة فيُحاسب عليها الخلائق ، وذلك حين تُبدل الأرض غير الأرض ، وقيل : الساهرة : أرض صحراء على شفير جهنم. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
الإشارة : والأرواح النازعات عن ملاحظة السِّوى غرقاً في بحار الأحدية. والناشطات من علائق الدنيا ومتابعة الهوى نشطاً ، والسابحات بأفكارها في بحر أنوار الملكوت ، وأسرار الجبروت ، سبحاً ، فالسابقات إلى حضرة القدس سبقاً ، فالمدبرات أمر الكون ، بالتصرُّف فيه بالنيابة عن الحق ، وهو مقام القطبانية ، أو النازعات عن الحظوظ والشهوات غرقاً في التجرُّد إلى العبادات بأنواع الطاعات. وهذه أنفس العُبّاد ، والناشطات عن الدنيا ، وأهلها فراراً إلى الله نشطاً ، وهي أنفس الزُهّاد ، والسابحات بعقولها في أسرار العلوم ، فتستخرج من الكتاب والسنة درراً ويواقيت ، يقع النفع بها إلى يوم الدين ، وهي
227
(8/348)
أنفس العلماء الجهابذة ، فالسابقات إلى الله بأنواع المجاهدات والسير في المقامات ، حتى أفضت إلى شهود الحق عياناً ، سبقاً ، وهي أنفس الأولياء العارفين ، فالمُدبرات أمر الخلائق بقسم أرزاقها وأقواتها ورتبها ، وهي أنفس الأقطاب والغوث. وقال البيضاوي : هذه صفات النفوس ، وحال سلوكها ، فإنها تنزع من الشهوات ، وتنشط إلى عالم القدس ، فتسْبَح في مراتب الارتقاء ، فتسبق إلى الكمالات ، حتى تصير من المكمِّلات ، زاد الإمام : فتُدبْر أمر الدعوة إلى الله. وقال الورتجبي : إشارة النازعات إلى صولات صدمات تجلي العظمة ، فتنزع الأرواح العاشقة عن معادن الحدوثية. ثم قال : والناشطات : الأرواح الشائقة تخرج من أشباحها بالنشاط ، حين عاينت جمال الحق بالبديهة وقت الكشف. ثم قال : والسابحات تسْبَح في بحار ملكوته وقاموس كبرياء جبروته ، تطلب فيها أسرار الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية ، فالسابقات في مصاعدها عالم الملكوت ، وجنات الجبروت ، تُسابق كل همة ، فالمدبِّرات هي العقول القدسية تُدَبّر أمور العبودية بشرائط إلهام الحقيقة. هـ.
(8/349)
والمقسَم عليه : ليبعَثن اللهُ الأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة ، حين تنتبه إلى السير بالذكر والمجاهدة ، فإذا حييت بمعرفة الله كانت حياة أبدية. وذلك يوم ترجف النفس الراجفة ، وذلك حين تتقدّم لخرق عوائدها ومخالفة هواها ، تتبعها الرادفة ، وهي ظهور أنوار المشاهدة ، فحينئذ تُبعث من موتها ، وتحيا حياة لا موت بعدها ، وأمّا الموت الحسي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام. قلوب يومئذ ـ أي : يوم المجاهدة والمكابدة ـ واجفة ، لا تسكن حتى تُشاهد الحبيب ، أبصارُها في حال السير خاشعة ، لا يُخلع عليها خلعُ العز حتى تصل. يقول أهل الإنكار لهذه الطريق : أئِنا لمردودون إلى الحالة الأولى ، التي كانت الأرواح عليها في الأزل ، بعد أن كنا ميتين بالجهالة ، مُرْمى بنا في مزابل الغفلة ، كعِظام الموتى ، قالوا : تلك كرة خاسرة ، لزعمهم أنهم إذا صاروا إلى هذا المقام لم يبقَ لهم تمتُّع بشيء أصلاً ، مع أنَّ العارف إذا تحقق وصوله تمتع بالنعيمين ؛ نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. قال تعالى في رد ما استحالوه : فإنما هي زجرة واحدة من همة عارف ، أو نظرة وليّ كامل ، فإذا هم في أرض الحضرة القدسية. قال الشيخ أو العباس : والله ما بيني وبين الرجل إلاَّ أن أنظر إليه وقد أغنيته. قلت : والله لقد بقي في زماننا هذا مَن يفوق أبا العباس والشاذلي وأضرابهما في الإغناء بالنظرة والملاحظة ، والحمد لله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/350)
يقول الحق جلّ جلاله : {هل أتاك حديثُ موسى} ، تشويقاً لما يُلقى إليه مِن خبره ، أي : هل أتاك حديثه ، أنا أُخبرك به ، إن كان هذا أول ما أتاه من حديثه. وإن كان تقدّم قبل هذا حديثه ، وهو المتبادر ، فالمعنى : أليس قد آتاك حديثه. وقوله : {إِذْ ناداه رَبُّه} : ظرف للحديث لا للإتيان ، لاختلاف وقتهما ، أي : هل وصلك حديثه ناداه ربه {بالوادِ المقدّس} ؛ المبارك المطهّر ، اسمه : {طُوى} بالصرف وعدمه. فقال في ندائه له : {اذهبْ إِلى فرعون إِنه طَغَى} ؛ تجاوز الحدّ في الكفر والطغيان ، {فقلْ} له بعد أن تأتيه : {هل لك إِلى أن تزكَّى} أي : هل لك رغبة وتَوَجُّه إلى التزكية والتطهير من دنس الكفر والطغيان بالطاعة والإيمان. قال ابن عطية : " هل " هو استدعاء حسن. قال الكواشي : يقال : هل لك في كذا ؟ وهل لك إلى كذا ؟ كقولك : هل ترغب في كذا ، وهل ترغب إلى كذا. قال : وأخبر تعالى أنه أمر موسى بإبلاغ الرسالة إلى فرعون بصيغة الاستفهام والعرض ، ليكون أصغى لأذنه ، وأوعى لقلبه ، لِما له عليه من حق التربية. هـ. وأصله : " تتزكى " ، فحذف إحدى التاءين ، أو : أدغمت ، فيمن شدّد الزاي.
{وأهْدِيَكَ إِلى ربك} ؛ وأهديك إلى معرفته ، بذكر دلائل توحيده وصفات ذاته ، {فتخشَى} ، لأنَّ الخشية لا تكون إلاَّ مع المعرفة ، قال تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَـاؤُاْ} [فاطر : 28] أي : العلماء بالله. وقال بعض الحكماء : اعرفوا الله ، فمَن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفةَ عين. فالخشية ملاك الأمر ، فمَن خشي الله أتى منه كل خير ، ومَن أَمِنَ اجترأ على كل شر. ومنه الحديث : " مَن خشي أدلج ، ومَن أدلج بلغ المنزل " قال النسفي : بدأ مخاطبته بالاستفهام ، الذي معناه العرض ، كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا ؟ وأردفه الكلامَ الرقيق ، ليستدعيه باللطف في القول ، ويستنزله بالمداراة من عتوّه ، كما أمر بذلك في قوله : {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِِّناً} [طه : 44] هـ.
{
(8/351)
جزء : 8 رقم الصفحة : 228
فأراه الآيةَ الكبرى} ، الفاء : فصيحة تفصح عن جملة قد طويت تعويلاً على تفصيلها في السور الأخرى ، فإنه عليه السلام ما أراه إياها عقب هذا الأمر ، بل بعدما جرى بينه وبينه من المحاورات إلى أن قال : {إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ} [الأعراف : 106]. والآية الكبرى : العصا ، أو : هي واليد ، لأنهما في حكم آية واحدة. ونسبتُها إليه عليه السلام بالنسبة إلى الظاهر ، كما أنّ نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرَيْنَـاهُ ءَايَـاتِنَا كُلَّهَا} [طه : 56] بالنظر إلى الحقيقة {فكذَّب وعَصَى} أي : كذَّب موسى عليه السلام. وسمَّى معجزته سحراً ، وعصى اللهَ عزّ وجل بالتمرُّد ، بعدما عَلِمَ صحة
229
الأمر ووجوب الطاعة ، أشد العصيان وأقبحه ، حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأساً. وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عزّ وجل ، وترك القولة العظيمة التي يدّعيها الطاغية ، ويقبلها منه الفئة الباغية ، لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر فقط. قاله أبو السعود.
{ثم أّدْبَر} أي : تولَّى عن الطاعة ، أو : انصرف عن المجلس {يسعَى} في معارضة الآية ، أو : أدبر هارباً من الثعبان ، فإنه رُوي أنه عليه السلام لمّا ألقى العصا انقلب ثعباناً أشعر ، فاغراً فاه ، بين لحييه ثمانون ذرعاً ، فوضع لحيه الأسفل على الأرض ، والأعلى على القصر ، فتوجه نحو فرعون ، فهرب وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً من قومه وقيل : إنها ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون ، وجعلت تقول : يا موسى مُرني بما شئت ، وجعل فرعون يقول : بالذي أرسلك إلاّ أخذته ، فأخذه فعاد عصا..
(8/352)
{فحشَرَ} أي : فجمع السحرة ، كقوله : {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء : 53] أو : جمع الناس ، {فنادَى} في المقام الذي اجتمعوا فيه ، قيل : قام خطيباً ، {فقال أنا ربكم الأعلَى} لا رب فوقي ، وكان لهم أصنام يعبدونها. وهذه العظيمة لم يجترىء عليها أحد قبله. قال ابن عطية : وذلك نهاية في المخارقة ، ونحوُها باقٍ في ملوك مصر وأتباعهم. هـ. قيل : إنما قال ذلك ابنُ عطية لأنَّ ملك مصر في زمانه كان إسماعيليًّا ، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم. وكان أول مَن ملكها منهم : المعتز بن المنصور بن القاسم بن المهدي عبيد الله ، وآخرهم العاضد. وقد طهَّر الله مصر من هذا المذهب ، بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذا رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً. هـ. من الحاشية.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 228
فأخَذَه اللهُ نكال الآخرةِ والأُولى} بالإغراق ، فالنكال : مصدر بمعنى التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم ، وهو التعذيب الذي ينكل مَن رآه أو سمعه ، ويمنعه من تعاطي ما يُفضي إليه. وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد ، كوعْدَ الله وصبغةَ الله ، وقيل : مصدر لـ " أخذ " ، أي : أخذه الله أخذ نكال الآخرة ، وقيل : مفعول من أجله ، أي : أخذه الله لأجل نكال الآخرة. وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع بعض الأخذ فيهما ، لا باعتبار أنَّ ما فيه من المنع والزجر يكون فيهما ، فإنَّ ذلك لا يتصور في الآخرة ، بل في الدنيا ، فإنَّ العقوبة الأخروية تنكل مَن يسمعها ، وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها لا محالة. وقيل : المراد بالآخرة والأولى : قوله : {أنا ربكم الأعلى} وقوله : {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى} [القصص : 38]. قيل : كان بين الكلمتين أربعون سنة ، فالإضافة إضافة المسبب إلى السبب.
{إِنَّ في ذلك} أي : فيما ذكره من قصة فرعون وما فعل به {لَعِبرةً} عظيمة {لِمن} شأنه أن {يَخْشَى} وهو مَن عرف الله تعالى وسطوته.
(8/353)
230
الإشارة : جعل القشيري موسى إشارة إلى القلب ، وفرعون إشارة إلى النفس ، فيُقال : هل أتاك حديث القلب حين ناداه ربه بالحضرة المقدسة ، بعد طي الأكوان عن مرآة نظره ، فقال له : اذهب إلى فرعون النفس إنه طغى. وطغيانها : إرادتها العلو والاستظهار ، فقل له : هل لك إلى أن تَزَكَّى وتتطهر من الخبائث ، لتدخل الحضرة ، فأَهديك إلى معرفة ربك فتخشى ، فإنما يخشى اللهَ مَن عرفه. فأراه الآية الكبرى مِن خرق العوائد ومخالفة الهوى ، فكَذَّب وعصى ، حين رأى عزم القلب على مجاهدته ، فحشر جنوده مِن حب الدنيا والرئاسة ، وإقبال الناس والحظوظ والشهوات ، فنادى ، فقال : أنا ربكم الأعلى ، فلا تعبدوا غيري. هذا قول فرعون النفس ، فأخذه اللهُ نكال الآخرة والأولى ، أي : استولى جند القلب عليه ، فأغرقه في قلزوم بحر الفناء والبقاء. إنَّ في ذلك لعبرة لمَن يخشى ، ويسلك طريق التزكية ، فإنه يصل إلى بحر الأحدية. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 228
يقول الحق جلّ جلاله : مخاطباً أهلَ مكة ، المنكرين للبعث ، بناء على صعوبته في زعمهم ، وتوبيخاً وتبكيتاً ، بعدما بيّن سهولته على قدرته بقوله : {فَإِنَّمَا هِي زَجْرَةٌ وَاحدَةٌ} {أأنتم أشدُّ خَلْقاً} أي : أَخَلْقُكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم {أم السماءُ} أي : أم خلق السماء على عِظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها ، وهذا كقوله : {أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَـاواتِ وَالأَرْضَ بِقَـادِرٍ عَلَىا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى} [يَس : 81]. ثم بيَّن كيفية خلقها فقال : {بناها} أي : الله ، وفي عدم ذكر الفاعل ، فيه وفيما عطف عليه ، من التنبيه على تعينه وتفخيم شأنه عزّ وجل ما لا يخفى.
(8/354)
{رَفَعَ سَمْكَها} أي : أعلى سقفها من الأرض ، وذهب بها إلى سمت العلوّ مدًّا رفيعاً مسيرة خمسمائة عام {فسوّاها} أي : فعدّلها مستوية ملساء ، ليس فيها تفاوت ولا فطور ، أو : تممها بما جعل فيها من الكواكب والدراري ، وغيرها مما لا يعلمه إلاَّ الخلاَّق العليم ، من قولهم : سوَّى فلان أمره : إذا أصلحه.
{وأغْطشَ ليلها} أي : أظلمه ، ويُقال : غطش الليل وأغطشه الله ، كما يُقال : ظلُم وأظلمه الله. {وأخرج ضحاها} أي : أبرز نهارها ، عبّر عنه بالضُحى ، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها ، فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان. ويجوز أن يكون أضاف الضحى إليها
231
بواسطة الشمس ، أي : أبرز ضوء شمسها. والتعبير بالضُحى لأنه وقت قيام سلطانها وكما إشراقها.
{والأرضَ بعد ذلك دحاها} أي : بسطها ومهّدها لسكْنى أهلها وتقلُّبهم في أقطارها ، وكانت حين خُلقت كورة غير مدحوةٍ ، فدحيت من تحت مكة بعد خلق السماء بألفي عام. ثم فسّر الدحو فقال : {أخرج منها ماءها} بتفجير عيونها وإجراء أنهارها ، {ومرعاها} ؛ كلأها ، وهو ما ترعاه البهائم ، وهو في الأصل : موضع الرعي ، أو : مصدر ميمي بمعنى المفعول ، وتجريد الجملة من العاطف إِمّا لأنها تفسير لدحاها ، أو تكملة له ، فإنَّ السكنى لا تتأتى لمجرد البسط ، بل لا بد من تهيئة أمر المعاش من المأكل والمشرب حتماً ، أو : لأنها حال بإضمار " قد " عند الجمهور ، أو بدونه عند الكوفيين.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 231
(8/355)
والجبالَ أرساها} أي : أثبتها وأثبت بها الأرض أن تميد بأهلها ، وإرساء الجبال لها من باب الحكمة ، وإلاَّ فالقدرة هي الحاملة للكل. وانتصاب الأرض والجبال بفعل يُفسره ما بعده. ولعل تقديم إخراج الماء والمرعى ذكراً مع تقديم الإرساء عليه وجوداً ؛ لإبراز كمال الاعتناء بأمر المأكل والمشرب. وهذا كما ترى يدل بظاهره على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء وما فيها ، كما يروى عن الحسن : من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس ، كهيئة الفِهْر ، عليه دخان ملزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات ، وأمسك الفِهْرَ في موضعها وبسط منها الأرض ، وذلك قوله تعالى : {كَانَتَا رَتْقاً...} [الأنبياء : 30]. وفي القاموس : الفِهْرُ بالكسر : الحَجَرُ قَدْرَ ما يدق به الجَوْزُ ، أو ما يملأ الكفَّ. هـ.
والتحقيق في المسألة : أنَّ أول ما خلق اللهُ العرش من القبضة النورانية المحمدية ، ثم خلق ياقوتة صفراء ، فذابت من هيبته تعالى فصارت ماء ، ثم اضطرب الماء فعلته زبدة ، فخلق منها الأرض ، ثم علا منه دخان فخلق منه السماء ، ثم دحا الأرض وهيّأ فيها أقواتها للناس والأنعام وغيرهما ، كما قال تعالى : {متاعاً لكم ولأنعامكم} أي : فجعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعامكم ، فهو مفعول لأجله ؛ لأنَّ فائدة البسط والتمهيد وإخراج الماء والمرعى واصلة للإنسان والأنعام ، أو : مصدر من غير لفظه ، فإنَّ قوله تعالى : {أخرج منها ماءها ومرعاها} في معنى : متّعكم بذلك.
(8/356)
{فإذا جاءت الطامةُ الكبرى} أي : الداهية العُظمى التي تطمّ على سائر الدواهي ، أي : تعلوها وتغلبها ، من قولك : طمّ الأمر : إذا علا وغلب ، وهي القيامة ، أو النفخة الثانية ، أو : الساعة التي يُساق فيها الخلائق إلى محشرهم ، أو : التي يُساق فيها أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، {يوم يتذكَّرُ الإِنسانُ ما سعَى} أي : يتذكر فيه كل واحد ما عمله من خير وشر ، بأن يُشاهده مدوناً في صحيفته ، وقد كان نسيه مِن فرط الغفلة ، وطول الأمل ، كقوله تعالى : {أحْصَـاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة : 6]. و " يوم " : بدل من " إذا "
232
والأحسن : أنه مفعول بفعل محذوف ، أي : أعني. {وبُرّزَت الجحيمُ} أي : أظهرت إظهاراً بيناً لا يخفى على أحد {لمن يرى} كائناً مَن كان ، فلا تتوقف رؤيتها إلاّ على وجود حاسة البصر ، ولا مانع من الرؤية ولا حاجب. يُروى أنه يُكشف عنها فتلتظي نيرانها كل ذي بصر.
{فأمَّا مَن طَغَى} أي : جاوز الحدّ في العصيان {وآثر الحياةَ الدنيا} الفانية ، فانهمك فيما متع به فيها ، ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة ، {فإِنَّ الجحيم} التي ذكر شأنها {هي المأوى} أي : مأواه. فاللام سادّة مسد الإضافة للعلم بأنَّ صاحب المأوى هو الطاغي ، وجملة " فأمّا " : جواب " إذا " على طريقة : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّى هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ...} [البقرة : 38] ، وقيل : جواب " إذا " محذوف ، وهي تفصيل له ، أي : إذا جاءت انقسم الناس على قسمين ، فأمّا مَن طغى.. الخ ، والذي يستدعيه فخامة التنزُّل ، ويقتضيه مقام التهويل ؛ أنَّ الجواب المحذوف تقديره : يكون من عظائم الشؤون ما لم تُشاهده العيون ، ثم فصَّل أحوال الناس بقوله : فأمّا.. الخ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 231
(8/357)
وأمّا مَن خاف مَقامَ ربه} أي : مُقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى ، يوم يتذكر الإنسانُ ما سعى. {ونهى النفسَ عن الهوى} المُرْدِيِّ ، أي : زجرها عن اتّباع الشهوات الفانية ، ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها ، ولم يغتر بزخارفها وزينتها ، علماً منه بوَخَامة عاقبتها ، وقيل : هو الرجل يهم بالمعصية فيتذكّر مقامه للحساب فيتركها. والهوى : ميل النفس إلى ما تهوى من غير تقييد بالشريعة ، {فإِنَّ الجنة هي المأوى} له لا لغيره ، وسيأتي تحقيقه في الإشارة.
الإشارة : فإذا جاءت الطامة ، وهو التجلَّي الجلالي الذي لايعرفه فيه إلاّ الرجال ، يومئذ يتذكر الإنسان ما سعى فيه من علم التوحيد ، فمَن كان عارفاً بالله في جميع الأشياء عرفه في جميع التجليات ، كيفما تلوّنت ، ومَن كان قاصراً في المعرفة في البعض وأنكره في البعض ، كما في حديث القيامة ، حيث يتجلّى لبعض عباده في صورة لا يعرفونها ، فيُنكرونه ، ويقولون ، هذا موضعنا حتى يأتينا ربنا ، ثم يتجلّى لهم في صورة يعرفونها ، فيُقرونه ، وهذا لقصورهم في المعرفة ، ولو عرفوا الله في جميع تجلياته ما أنكروه في شيء منها ، وبُرّزت الجحيم لمَن يرى ، أي : وبُرّزت حينئذ نار القطيعة لمَن يرى. قال القشيري : أي : ظهرت جحيم الحجاب لمَن يراه غيرَ الأشياء ، فإنه عين الأشياء في جميع التجليات ، الجمالية والجلالية ، العلوية والسفلية ، الصورية والمعنوية. هـ.
فأمَّا مَن طغى وتبع هواه ، وآثر الحياة الدنيا ، والاشتغال بها عن الإقبال على الله ، فإنَّ الجحيم هي المأوى ، أي : جحيم الحرمان عن مشاهدة الرحمن ، وأمّا مَن خاف مقام ربه ، أي : قيام ربه بالأشياء ، أو على الأشياء ، واطلاعه عليها ، أو قيامه بين يدي الله غداً للحساب ، فالأول لأهل المشاهدة ، والثاني لأهل المراقبة ، والثالث لأهل المحاسبة ، ونهى
233
(8/358)
النفسَ عن الهوى ، عن كل ما يشغل عن الله ، ويُقسي القلبَ عن ذكر مولاه ، مما تهواه النفوس ، فإنّ الجنة هي المأوى ، جنة المعارف لمَن ترك ما تهوى نفسُه من المباحات ، وجنة الزخارف لمَن ترك ما تهواه من المحرّمات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 231
قال الورتجبي : خاطب تعالى العبادَ بهذه الآية في أوائل مقاماتهم ، حين وجب عليهم ترك النفوس ، وشرَه هواها ، والميل إلى حظوظها ، لأنهم في وقت قصودهم إلى الله لا يجوز لهم الرخص والرفاهية ، فقد وجب عليهم الإعراض عن حظوظ أنفسهم ، خوفاً من الاحتجاب عن الوصول إلى الله تعالى ، ولعلمهم بأنه محيط بحركات شهوات نفوسهم الخفية ، حين تميل بخفاياها إلى مرادها دون الله ، فإذا جادوها وقهروها بتأييد الله أوصلهم الله مقامَ مشاهدته ، وهي جنة العارفين ، فإذا ترقُّوا إلى درجات المعرفة لم يحتاجوا إلى قهر النفس عن الهوى ، فإنّ نفوسهم وأجسامهم وشياطينهم صارت روحانية ، فجانست الأرواح الملكوتية ، فشهوات نفوسهم هناك من تواثير حلاوة أرواحهم في مشاهدة الحق ، فتشتهي الأنفسُ ما تشتهي الأرواحُ في الغيوب والعقول والقلوب ، فيضطرهم هناك إلى كل شيء يكون للنفوس والأرواح ، جنات تظهر فيها أنوار شهود الحق ، وأين الكافر والمعطِّل والمدّعِي من هذا المقام ؟ وهم خلقوا من الجهالة ، فيموتون في الضلالة ، وأصحاب القلوب والمعارف عيش أرواحهم عيش الربانيين ، وعيش نفوسهم عيش الجنّانيين ـ أي أهل الجنة الحسية ـ والله قادر بذلك يختص برحمته مَن يشاء ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " أسلم شيطاني " وقال : " نحن معاشر الأنبياء أجسادنا روح " ثم قال عن سهل : لا يَسلم من الهوى إلاَّ الأنبياء وبعض الصدّيقين ، ليس كلهم ، وإنما يسلم من الهوى مَن ألزم نفسه الأدب. هـ. قلت : الذي يُلزم نفسه الأدب هو الذي ينزل إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين ، وقليل ما هم.
(8/359)
جزء : 8 رقم الصفحة : 231
يقول الحق جلّ جلاله : {يسألونك عن الساعةِ أيّان مُرْسَاها} أي : متى إرساؤها ، أي : إقامتها ، يُريدون : متى يُقيمها الله تعالى ويكوّنها ، وقيل : إيّان منتهاها ومستقرها ، كما أنّ مرسى السفينة المحل التي تنتهي إليه وتستقر فيه ، {فِيمَ أنتَ مِن ذِكراها} أيّ : في أي شيء أنت مِن أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به ؟ أي : ما أنت من ذكراها وتبيين وقتها لهم في شيءٍ حتى يسألونك بيانها ، إنما أنت نذير بها ، كقولك : ليس فلان من العلم في شيءٍ وهو إنكار ورد لسؤال المشركين عنها ، لأنَّ علمها مما استأثر به علاّم الغيوب
234
وقيل : كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت ، فكفّ ، فهو على هذا تعجيب من كثرة ذكره لها ، أي : أنت في شُغل وأي شغل أنت من الاهتمام بالسؤال عنها.
وقالت عائشة رضي الله عنها : كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيراً ، فما نزلت هذه الآية انتهى عن ذلك. ولا يرده قوله : {كَأَنَّكَ حَفِيُّ عَنْهَا} [الأعراف : 187] أي : إنهم يزعمون أنك مُبالغ في السؤال عنها حتى علمتها ولست كما يزعمون ، لأنّا نقول هذه الآية نزلت قبل تلك ، وأنه كان أولاً يسأل عنها حتى نُهي بهذه الآية فانتهى ، كما ذكر في الحديث المذكور ، فنزلت تلك مخبرة عن حاله بعد انتهائه. والله أعلم. قال القشيري : من أين لك علمها ولم نعلمك بذلك ، وقيل : يوقف على قوله : " فِيمَ " أي : هذا السؤال الذي يسألونك فيم ، أي : في أي شيء هو ، فيكون إنكاراً لسؤالهم ، ثم ابتدأ : " مِن ذكراها " أي : إن ظهورك وبعثك وأنت خاتم النبيين من جملة ذكراها ، أي : أشراطها وعلامتها ، ومؤذن بقيامها ، فلا حاجة لسؤالهم عنها ، ويرده : عدم الإتيان بهاء السكت ، ويجاب : بأنه ليس بلازم ، وإنما تَلزمُ فيما جرّ بإضافة اسم ، لبقائه على حرف واحد ، كما هو مقرر في محله ، مع عدم ثبوته في المصحف.
(8/360)
ثم أومأ تعالى إلى أنه مختص بحقيقة علمها ، فقال : {إِلى ربك منتهاها} ؛ منتهى علمها متى يكون ، لا يعلمها غيره ، {إِنما أنت منذرُ من يخشاها} أي : لم تُبعث لتُعلمهم وقت الساعة ، وإنما بُعثت لتُخوّف مِن أهوالها مَن يخاف شدائدها ، {كأنهم يوم يرونها} أي : الساعة {لم يَلبثوا} في الدنيا {إِلاَّ عشيةً أو ضُحاها} أي : ضحى العشية ، استقلُّوا مدّة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول ، كقوله : {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف : 35] وإنما صحّ إضافة الضحى إلى العشية للملابسة ، لاجتماعهما في نهارٍ واحد ، والمراد : أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً ، ولكن أحد طرفي النهار عشية يومٍ واحدٍ أوضحاه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 234
وقال أبو السعود : الآية إما تقرير وتأكيد لما يُنبىء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذَر به ، أي : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلاّ عشية يوم واحد أو ضحاه ، فلما ترك اليوم أضيف ضحاه إلى عشيته. وإمّا رد لما أدمجوه في سؤالهم ، فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستهزاء مسعجلين لها ، فالمعنى : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلاّ عشية أو ضُحاها ، واعتبار كون اللبث في القبور أو في الدنيا لا يقتضيه المقام ، وإنما الذي يقتضيه اعتبار كونه بعد الإنذار ، أو بعد الوعيد ، تحقيقاً للإنذار ، وردًّا لاستبطائهم. والجملة على الأول : حال من الموصول ، فإنه على تقدير الإضافة وعلى عدمها مفعول لمُنذر ، كما أنَّ قوله تعالى : {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارٍ} [يونس : 45] حال من الضمير في " نحشرهم " أي : نحشرهم مشبّهين بمَن لم يلبث في الدنيا إلاّ ساعة من النهار ، خلا أن التشبيه هناك في الأحوال الظاهرة من الزي والهيئة ، وفيما نحن فيه من الاعتقاد ، كأنه قيل :
235
عِدْهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمَن لم يلبث بعد الإنذار بها إلاّ تلك المدة اليسيرة ، وعلى الثاني : مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب. هـ.
الإشارة : يسألونك أيها العارف عن الساعة التي يفتح الله فيها على المتوجِّه بالدخول في مقام الفناء في الذات ، أيَّان مُرْساها ، إنما أنت منذر مَن يخشى فواتها ، أي : إنما أنت مُبَيّن الطريق التي توصل إليها ، وتُخوِّف من العوائق التي تعوق عنها ، وليس مِن وظيفتك الإعلام بوقتها ، لأنها موهبة من الكريم الوهّاب ، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاّ عشية أو ضحاها ، أي : يستصغرون مدة مجاهدتهم وسيرهم في جانب عظمها. وبالله التوفيق ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم.
236
جزء : 8 رقم الصفحة : 234(8/361)
سورة عبس
جزء : 8 رقم الصفحة : 236
يقول الحق جلّ جلاله : {عَبَسَ} أي : كلح {وتَوَلَّى} ؛ أعرض {أن جاءه} أي : لأن جاءه {الأعمَى} ، وهو عبدالله ابن أمِّ مكتوم ، وأمُّ مكتوم : أمُّ أبيه ، وأبوه : شريح بن مالك بن ربيعة الفهري ، وذلك أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش ، عُتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، يدعوهم إلى الإسلام ، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرُهم ، فقال : يا رسول الله ، علِّمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، وهو لا يعلم تشاغله صلى الله عليه وسلم بالقوم ، فَكَرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه ، فنزلت ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكرمه ، ويقول إذا رأه : " مرحباً بمَن عاتبني فيه ربي " ، ويقول : " هل لك من حاجة " ، واستخلفه على المدينة مرتين.(8/362)
ولم يُواجهه ـ تعالى ـ بالخطاب ، فلم يقل : عبستَ وتوليتَ ؛ رفقاً به وملاطفة ؛ لأنَّ مواجهة العتاب من رب الأرباب من أصعب الصعاب ، خلافاً للزمخشري وابن عطية ومَن وافقهما. و " أن جاءه " : علة لـ " تولَّى " ، أو " عبس " ، على اختلاف المذهبين في التنازع ، والتعرُّض لعنوان عماه إمّا لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه عليه السلام بالقوم ،
237
والإيذان باستحقاقه بالرفق والرأقة ، وإمّا لزيادة الإنكار ، كأنه تولَّى عنه لكونه أعمى. قاله أبو السعود.
{وما يُدْرِيك} أي : أيّ شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى حتى تُعرض عنه {لعله يَزَّكَّى} ؛ لعل الأعمى يتطهّر بما سمع منك من دنس الجهل ، وأصله : يتزكَّى ، فأدغم. وكلمة الترجي مع تحقق الوقوع وارد على سنن الكبرياء ، أو : على أنّ الترجّي بالنسبة إليه عليه السلام للتنبيه على أنَّ الإعراض عنه عند كونه مرجواً للتزكِّي مما لا ينبغي ، فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي ، وفيه إشارة إلى أنَّ مَن تصدّى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى لهم التزكّي والتذكُّر أصلاً. وقوله تعالى : {أو يذَّكَّرُ} : عطف على " يزّكى " ، داخل في حكم الترجي ، قوله : {فتَنفَعه الذِكرَى} : عطف على " يذَّكَّر " ، ومَن نصبه فجواب الترجي ، أي : أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم يبلغ درجة التزكي التام ، أي : إنك لا تدري ما هو مترقَب منه مِن تزكٍّ أو تذكُّر ، ولو دريت لَمَا فرط ذلك منك.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 237
(8/363)
أمَّا مَن استغنى} أي : مَن كان غنياً بالمال ، أو : استغنى عن الإيمان ، أو عما عندك من العلوم والمعارف التي انطوى عليه القرآن {فأنت له تَصَدّى} ؛ تتصدى وتتعرض له بالإقبال عليه ، والاهتمام بإرشاده واستصلاحه. وفيه مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم ، فإنّ الإقبال على المدبِر ليس من شأن الكرام ، أهل الغنى بالله. {وما عليك ألاَّ يزَّكَّى} أي : وليس عليك بأس في ألاَّ يزَّكّى بالإسلام حتى تهتم بأمره ، وتُعرض عمن أسلم وأقبل إليك ، وقيل : " ما " استفهامية ، أي : أيُّ شيء عليك في ألاّ يزكّى هذا الكافر.
{وأمّا مَن جاءك يسعى} أي : حال كونه مسرعاً طالباً لِما عندك من أحكام الرشد ، وخصال الخير ، {وهو يخشى} الله تعالى أو الكفار ، أي : أذاهم في إتيانك ، أو : الكبوة ، أي : السقطة ، كعادة العميان ، {فأنت عنه تَلَهَّى} ؛ تتشاغل ، وأصله : تتلهى. رُوي : أنه صلى الله عليه وسلم ما عبس بعدها في وجه فقير قط ، ولا تصدَّى لغَني بعدُ.
{كلاَّ} أي : لا تَعُدْ إلى مثلها. وحاصل العتاب : ترجيح الإقبال على مَن فيه القبول والأهلية للانتفاع ، دون مَن ليس كذلك ممن فيه استغناء ، وإن كان قصده عليه السلام صالحاً ، ولكن نبَّهه اللّهُ ـ تعالى ـ على طريق الأولى في سلوك الدعوة إليه ، وأنّ مظنة ذلك الفُقراء ؛ لتواضعهم ، بخلاف الأغنياء ، لتكبُّرهم وتعاظمهم. ولذلك لم يتعرض صلى الله عليه وسلم لغَنِي بعدها ، ولم يُعرض عن فقير ، وكذلك ينبغي لفضلاء أمته من العلماء الدعاة إلى الله ، وقد كان الفقراء في مجلس الثوري أُمراء. ثم قال تعالى : {إِنها تذكرةٌ} ؛ موعظة يجب أن يُتعظ بها ، ويُعمل بموجبها ، وهو تعليل للردع عما ذكر ببيان رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه مَن تصدّى له ، {فمَن شاء ذّكَرَه} أي : فمَن شاء اللّهُ أن يذكره ذكره. أي : ألهمه الله الاتعاظ به ، أو : مَن شاء حفظه واتعظ به ، ومَن رغب عنها ، كما فعله المستغني ، فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره.
238
(8/364)
وذكّر الضمير ؛ لأنَّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وقال أبو السعود : الضميران للقرآن ، وتأنيث الأول لتأنيث خبره ، وقيل : الأول للسورة ، أو للآيات السابقة ، والثاني للتذكرة ؛ لأنها في معنى الذكر والوعظ ، وليس بذلك ؛ فإنَّ السورة والآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي من الصفات الشريفة ، لكنها ليست مما ألقي على المستغنى عنه ، واستحق بسبب ذلك ما سيأتي من الدعاء عليه ، والتعجب مِن كفره المفرط ، لنزولها بعد الحادثة ، وأمّا مَن جَوْز رجوعهما إلى العتاب المذكور ، فقد أخطأ وأساء الأدب ، وخبط خبطاً يقضي منه العجب ، فتأمّل. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 237
(8/365)
وحاصِلُ المعنى : أنَّ هذه الآيات ـ أي آيات القرآن ـ تذكرة ، فمَن شاء فليتعظ بها ، حاصلة {في صُحُفٍ} منتسخة من اللوح ، {مُكَرَّمةٍ} عند الله عزّ وجل ، {مرفوعةٍ} في السماء السابعة ، أو : مرفوعة المقدار والمنزِلة ، {مُطَهَّرةٍ} عن مساس أيدي الشياطين ، أو : عما ليس من كلام الله تعالى أو : مِن خللٍ في اللفظ أو المعنى ، {بأيدي سَفَرَةٍ} أي : كَتَبَة من الملائكة ، يستنسخون الكتبَ من اللوح ، على أنه جمع : " سافِرٍ " ، من السَّفْر ، وهو الكتب ، وقيل : بأيدي رسل من الملائكة يَسْفِرون بالوحي ، بينه تعالى وبين أنبيائه ، على أنه جمع " سفير " من السِفارة ، وحَمْل " السَفَرة " على الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أو على القُراء ، لأنهم يقرؤون الأسفار ، أو على الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بعيد ؛ لأنَّ هذه اللفظة مختصة بالملائكة ، لا تكاد تُطلق على غيرهم ، وقال القرطبي : " المراد بقوله تعالى في الواقعة : {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة : 79] هؤلاء السَفَرة ". {كِرام} عند الله تعالى ، أو : متعطفين على المؤمنين يكلؤونهم ويستغفرون لهم ، {بررةٍ} ؛ أتقياء ، أو : مطيعين لله تعالى ، من قولهم : فلان يبر خالقه ، أي : يُطيعه ، أو : صادقين ، من قولهم : برّ في يمينه : صدق. والله تعالى أعلم.
(8/366)
الإشارة : ينبغي للداعي إلى الله أن ينبسط عند الضعفاء ، ويُقبل عليهم بكليته ويواجههم بالبشاشة والفرح ، سواء كانوا ضعفاء الأموال ، أو ضعفاء الأبدان ، كالعُميان والمحبوسين والمرضى ، أو : ضعفاء اليقين ، إن أقبلوا إليه ، فقد كان الشيخ أبو العباس المرسي يحتفل بملاقاة أهل العصيان والجبابرة أكثر مِن غيرهم ، فقيل له في ذلك ، فقال : هؤلاء يأتونا فقراء منكسرين ، بخلاف غيرهم من العلماء والصالحين. قلت : وكذلك رأيتُ حال أشياخنا ـ رضي الله عنهم ـ يَبرون بالجبابرة وأهل العصيان ، ليجرُّوهم بذلك إلى الله تعالى ، قالوا : يأتينا الرجل سَبُع فنهلس عليه فيرجع ذئباً ، ثم نهلس عليه فيرجع قِطاً ، ثم نجعل السلسلة في عنقه ونقوده إلى ربه. نَعَم إن تزاحم حق الفقراء وحق الجبابرة في وقت واحدٍ قدّم حقَّ الفقراء ؛ لشرفهم عند الله ، إلاّ إن كانوا راسخين ، فيُقَدِّم عليهم غيرهم ؛ لأنهم حينئذ يحبون الإيثار عليهم.
قال الورتجبي : بيَّن الله تعالى هنا ـ يعني في هذه الآية ـ درجةَ الفقر ، وتعظيم أهله ،
239
وخِسّة الدنيا ، وتحقير أهلها ، وأنَّ الفقير إذا كان بنعت الصدق والمعرفة والمحبة كان شرفاً له ، وهو من أهل الصُحبة ، ولا يجوز الاشتغال بصُحبة الأغنياء ، ودعوتهم إلى طريق الفقراء ، إذا كان سجيتهم لم تكن بسجية أهل المعرفة ، فإذا كان حالهم كذلك لا يأتون إلى طريق الحق بنعت التجريد ، فالصُحبة معهم ضائعة ، إلا ترى كيف عاتب الله نبيَّه بهذه الآية بقوله : {أمّا مَن استغنى..} الآية ، كيف يتزكَّى مَن خُلق على جبِلة حب الدنيا والعمى عن الآخرة والعُقبى. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 237
(8/367)
يقول الحق جلّ جلاله : {قُتِلَ الإِنسانُ} أي : لُعن ، والمراد : إمّا مَن استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نُعُوته الجليلة ، الموجبة للإقبال عليه ، والإيمان به ، وإمّا الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده ، وقيل : المراد : أُميّة أو : عُتبة بن ربيعة. {ما أكْفَرَه} ، ما أشد كفره! تعجبٌ من إفراطه في الكفران ، وبيانٌ لاستحقاقه الدعاء عليه ، وقيل : " ما " استفهامية ، توبيخي ، أي : أيُّ شيء حَمَلَه على الكفر ؟ ! {من أي شيءٍ خَلَقهُ} أي : من أيِّ شيءٍ حقيرٍ خلَقَه ؟ ثم بيّنه بقوله : {من نطفةٍ خَلَقَه} أي : مِن نطفة مذرة ابتداء خلقه ، {فقدَّره} ؛ فهيّأه لِما يصلح له ، ويليق به من الأعضاء والأشكال ، أو : فقدّره أطوراً إلى أن تَم خلقه.
{ثم السبيلَ يَسَّرهُ} أي : يَسّر له سبيل الخروج من بطن أمه ، بأن فتح له فم الرحم ، وألهمه أن يتنكّس ليسهل خروجه. وتعريف " السبيل " باللام للإشعار بالعموم ، أو : يَسْر له سبيل الخير أو الشر ، على ماسبق له ، أو يَسْر له سبيل النظر السديد ، المؤدِّي إلى الإيمان ، وهو منصوب بفعل يُفسره ما بعده.
{ثم أماته فأقْبَره} أي : جعله ذا قبرٍ يُوارَى فيه تكرمةً ، ولم يجعله مطروداً على وجه الأرض تأكله السباع والطير ، كسائر الحيوان. يُقال : قبرتَ الميت : إذا دفنته ، وأقبرته : أمرت بدفنه. وعدّ الإماتة من النِعم ؛ لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم ، ولأنها سبب وصول الحبيب إلى حبيبه. {ثم إِذا شاء أنْشَرَهُ} أي : إذا شاء نَشْرَه ، على القاعدة المستمرة مِن حذف مفعول المشيئة ، أي : ثم ينشره في الوقت الذي شاء ، وهو يوم القيامة ، وفي تعلُّق الإنشار بمشيئته ـ تعالى ـ إيذان بأنّ وقته غير متعين ، قال ابن عرفة : تعليق المعاد بالمشيئة جائز ، جارٍ على مذهب أهل السنة ؛ لأنهم يقولون : إنه جائز
240
عقلاً ، واجب شرعاً ، وأمّا المعتزلة فيقولون بوجوبه ، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين. هـ.
{
(8/368)
جزء : 8 رقم الصفحة : 240
كلاَّ} ، ردع للإنسان عما هو عليه ، ثم بيَّن سبب الردع فقال : {لمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ} أي : لم يقضِ العبد جميع ما أمَرَه اللهُ به ؛ إذ لا يخلوا العبد من تقصيرٍ ما ، فإن قلت : " لَمَّا " تقتضي توقع منفيها ، وهو هنا متعذر كما قلتَ ؟ . قلتُ : الأمر الذي أمر الله به عبادَه في الجملة : هو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان ، وهو ممكن عادة ، متوقع في الجملة ، وقد وصل إليه كثير من أوليائه تعالى ، فمَن وصل إليه فلا تقصير في حقه ، وإن كانت المعرفة غير متناهية ، ومَن لم يصل إليه فهومُقصِّر ، غير أنَّ عقابه هو احتجابه عن ربه. والله تعالى أعلم.
ثم أَمَرَ بالتفكُّر في نِعم الله ، ليكون سبباً للشكر ، الذي هو : صرف كلية العبد في طاعة مولاه ، فلعله يقضي ما أَمَرَه فقال : {فلينظر الإِنسانُ إِلى طعامه} أي : فلينظر إلى طعامه الذي هو قِوام بدنه ، وعليه يدور أمر معاشه ، كيف صيَّرناه ، {أَنَّا صَبَبْنَا الماءَ} أي : الغيث {صَبًّا} عجيباً ، فمَن قرأ بالفتح فبدل اشتمال من الطعام ، وبالكسر استئناف. {ثم شققنا الأرضَ} بإخراج النبات ، أو : بالحرث ، وهو فعل الله في الحقيقة ؛ إذ لا فاعل سواه ، {شَقًّا} بديعاً لائقاً بما يشقها من النبات ، صِغراً أو كِبراً ، وشكلاً وهيئة ، أو : شقاً بليغاً ؛ إذ لا ينبت بمطلق الشق ، وإذا نبت لا يتم عادة. و " ثم " للتراخي التي بين الصبّ والشق عادة ، سواء قلنا بالنبات أو بالكَراب ، وهو الحراثة.
(8/369)
{فأنبتنا فيها حَبًّا} كالبُر والشعير وغيرهما مما يتغذّى به. قال ابن عطية : الحب : جمع حبة ـ بفتح الحاء ، وهو : كل ما يتخذه الناس ويُرَبونه ، والحِبة ـ بكسر الحاء : كل ما ينبت من البذور ولا يُحْفل به ولا هو بمتخَذ. هـ. {وعِنباً} أي : ثمرة الكَرْم ، وهذا يؤيد أن المراد بالشق : حفر الأرض بالحرث أو غيره ، لأنَّ العنب لا يشق الأرض في نباته ، وإنما يغرس عوداً. وقال أبو السعود : وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيّد به المعطوف عليه ، فلا ضرر في في خُلُو نبات العنب عن شق الأرض. هـ. {وقَضْباً} وهو كل ما يقضب ، أي : يُقطع ليُؤكل رطباً من النبات ، كالبقول والهِلْيَوْن ونحوه مما يُؤكل غضاً ، وهو جملة النِعَم التي أنعم الله بها ، ولا ذكر له في هذه الآية إلاّ في هذه اللفظة. قاله ابن عطية. والهِلْيَوْن ـ بكسر الهاء وسكون اللام : جمع هليونة ، وهو الهِنْدَبا. قاله ابن عرفة اللغوي ، وقيل : هو الفِصْفَصَة ، وهو ضعيف ؛ لأنها للبهائم ، وهي داخلة في الأَبْ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 240
وزيتوناً ونخلا} ، الكلام فيهما كما تقدّم في العنب ، {وحدائقَ} ؛ بساتين {غُلْباً} : جمع غلباء ، أي : غلاظ الأشجار مع نعومتها ، وصفَ به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها ، {وفاكهةً} أي : ما تتفكهون به من فواكه الصيف والخريف ، {وأبًّا} أي :
241
مرعَى لدوابكم ، من : أبَّه : إذا أمَّه ، أي قصده ، لأنه يُؤم وينتجع ، اي : يُقصد ، أو : من أب لكذا : إذا تهيأ له ؛ لأنه مُتهيأ للرعي ، أو : فاكهة يابسة تُؤب للشتاء.
(8/370)
وعن الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه سُئل عن الأب ، فقال : أيُّ سماء تُظلني ، وأيّ أرض تُقلني إذا قلتُ في كتاب الله ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ، فقال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأبُّ ؟ ثم رفع عصاً كانت بيده ، فقال : هذا لعَمْرُ الله التكلُّف ، وما عليك يا ابن أمر عمر ، ألاَّ تدري ما الأبُّ ؟ ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم وما لا فلتَدعُوه. هـ. وهذه اللفظة من لغات البادية ، فلذلك خفيت على الحواضر. {متاعاً لكم ولأنعامكم} أي : جعل ذلك تمتيعاً لكم ولمواشيكم ، فإنّ بعض هذه المذكورات طعام لهم ، وبعضها علف لدوابهم ، و {متاعاً} : مفعول لأجله ، أو : مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد ، أي : متّعكم بذلك متاعاً ، والالتفات لتكميل الامتنان ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : قُتل الإنسان ؛ لُعن الغافل عن ذكر الله ، لقوله عليه السلام : " الدنيا مَلعونَةٌ ، ملعونٌ ما فيها ، إلاَّ ذِكْرُ الله وما وَالاهُ ، وعالماً ومُتَعلِّماً " ، فلم يخرج من اللعنة إلاّ الذاكر والعالِم والمتعلم إذا أخلصا ، ثم عجب تعالى من شِدة كفره لنِعمه ، حيث لم يُشاهد المُنعِّم في النِعم ، فيقبض منه ، ويدفع إليه ، ثم ذكر أول نشأته ومنتهاه ، وما تقوم به بِنْيتِه فيما بينهما ؛ ليحضه على الشكر. قال القشيري : {من أيّ شيء خلقه..} الخ ، يعني : ما كان له ليكفر ، لأنّا خلقناه من نطفة الوجود المطلق وهيأناه لمظهرية ذاتنا وصفاتنا ، وأسمائنا. هـ.
(8/371)
ثم قال : {ثم السبيل يَسَّره} أي : سهلنا عليه سبيل الظهور لِمَظاهر الأسماء الجلالية والجمالية ، ثم أماته عن أنانيته ، فأقبره في قبر الفناء عن رؤية الفناء ، ثم إذا شاء أنشره بالبقاء بعد الفناء. كلاَّ لِيرتدع عن كفرانه لنِعمنا ، وليستغرق أحواله في شهود ذاتنا ، ليكون شاكراً لأنعُمنا ، لمَّا يقضِ ما اَمَرَه ، وهو الوصول إلى حضرة العيان. فكل مَن وصل إلى حضرة الشهود بالفناء والبقاء فقد قضى ما أَمَرَه به مولاه ، وكل مَن لم يصل إليها فهو مُقَصِّر ، ولو أعطي عبادة الثقلين. قال القشيري : ويُقال : لم يقضِ الله له أمره به ، ولو قضى له ما أمره به لَمَا عصاه. هـ. وقال الورتجبي : لم يفِ بالعهد الأول ، حين خاطبه الحق بقوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف : 172] ولم يأتِ بمراد الله منه ، وهو العبودية الخالصة. هـ. قلت : يعني مع انضمام شهود عظمة الربوبية الصافية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 240
وقوله تعالى : {فلينظر الإنسانُ إلى طعامه} أي : الحسي والمعنوي ، وهو قوت القلوب والأرواح ، أنَّا صببنا الماء صبًّا ، أي : صببنا ماء العلوم والواردات على القلوب
242
الميتة فحييت. قال القشيري : صَبَبْنا ماءَ الرحمة على القلوب القاسية فَلاَنتْ للتوبة ، وماء التعريف على القلوب الصافية فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوارُ التجريد. هـ. ثم شققنا أرض البشرية بأنواع العبادات والعبودية ، شقًّا ، فأنبتنا فيها : في قلبها حَبَّ المحبة ، وكَرْمَ الخمرة الأزلية ، وقَضْب الزهد في زهرة الدنيا وشهواتها ، وزيتوناً يشتعل بزيتها مصابيح العلوم ، ونخلاً يجنى منها ثمار حلاوة المعاملة ، وحدائق ، أي : بساتين المعارف متكاثفة التجليات ، وأبًّا ، أي : مرعى لأرواحكم ، بالفكرة والنظرة في أنوار التجليات الجلالية والجمالية ، فيأخذ النصيب من كل شيء ، ويعرف الله في كل شيء ، كما قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه :
(8/372)
الخلقُ نوار ، وأنا رعيت فيهم
هم الحجب الأكبر والمدخل فيهم
متاعاً لكم ، أي : لقلوبكم وأرواحكم ، بتقوية العرفان في مقام الإحسان ، ولأنعامكم أي : نفوسكم بتقوية اليقين في مقام الإيمان. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 240
يقول الحق جلّ جلاله : {فإِذا جاءت الصَّاخةُ} أي : صيحة القيامة ، وهي في الأصل : الداهية العظيمة ، وسُميت بذلك لأنَّ الخلائق يَصخون لها ، اي : يُصيخون لها ، مِن : صَخَّ لحديثه : إذا أصاخ له واستمع ، وُصفت بها النفخة الثانية لأنَّ الناس يصخون لها ، وقيل : هي الصيحة التي تصخ الآذان ، أي : تصمها ، لشدة وقعها. وجواب (إذا) : محذوف أي : كان من أمر الله ما لا يدخل تحت نطاق العبارة ، يدل عليه قوله : {يومَ يفرُّ المرءُ من أخيه} ، فالظرف متعلق بذلك الجواب ، وقيل : منصوب بأعني ، وقيل : بدل من " إذا " أي : يهرب من أخيه لاشتغاله بنفسه ، فلا يلتفت إليه ولا يسأل عنه ، {و} يفرُّ أيضاً من {أُمهِ وأبيهِ} مع شدة محبتهم فيه في الدنيا ، {وصاحبتهِ} أي : زوجته {وبنيهِ} ، بدأ بالأخ ثم بالأبوين ؛ لأنهما أقرب منه ، ثم بالصاحبة والبنين ؛ لأنهم أحبُّ ، فالآية من باب الترقي. وقيل : أول مَن يفرُّ من أخيه : هابيل ، ومن أبويه : إبراهيم ، ومن صاحبته : نوح ولوط ، ومن ابنه : نوح. {لكل امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغْنيه} أي : لكل واحد من المذكورين شغل شاغل ، وخطب هائل ، يكفيه في الاهتمام به ، ويشغله عن غيره.
ثم بيَّن أحوال المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء ، بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء ، فقال : {وجوه يومئذٍ مُسْفِرةٌ} أي : مضيئة متهللة ، من : أسفر الصبح : إذا
243
(8/373)
أضاء ، قيل : ذلك مِن قيام الليل ، وقيل : مِن إشراق أنوار الإيمان في قلوبهم ، {ضاحكةٌ مستبشرةٌ} بما تُشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة. {ووجوه يومئذٍ عليها غبرةٌ} أي : غبار وكدور ، {تَرهقها} أي : تعلوها وتغشاها {قَتَرَةٌ} أي : سواد وظُلمة {أولئك هم الكفرةُ} ، الإشارة إلى أصحاب تلك الوجوه. وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتهم في السوء ، أي : أولئك الموصوفون بسواد الوجوه وغبرتها هم الكفرة {الفجرةُ} أي : الجامعون بين الكفر والفجور ، ولذلك جمع الله لهم بين السواد والغبرة. نسأل الله السلامة والعافية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 243
الإشارة : فإذا جاءت الصاخة ، أي : النفحة الإلهية التي تجذب القلوب إلى الحضرة القدسية ، فتأنّست القلوب بالله ، وفرتْ مما سواه فترى الرجل حين تهب عليه هذه النفحة ، بواسطة أو بغير واسطة ، يفر من الخلق ، الأقارب والأجانب ، أُنساً بالله وشُغلاً بذكره ، لا يزال هكذا حتى يصل إلى مولاه ، ويتمكن من شهوده أيَّ تمكُّن ، فحينئذ يخالط الناسَ بجسمه ، ويفارقهم بقلبه ، كما قالت رابعة العدوية رضي الله عنها :
إِنَّي جَعلتُكَ في الفُؤَادِ مُحَدّثي
وأَبَحْتُ جسمي مَنْ أراد جُلوسي
فَالْجِسْمُ مني لِلْجَلِيس مُؤَانِس
وحبيبُ قَلْبي في الفُؤادِ أنِيسي
قال القشيري : قالوا : الاستقامة أن تشهد الوقت قيامة ، فَما مِن وَلِيًّ وعارفٍ إلاّ وهو اليومَ يَفرُّ بقلبه من الجميع ؛ لأنّ لكل شأناً يُغنيه ، فالعارفُ مع الخَلْق لا بقلبه ، ثم ذكر شعر رابعةُ. وقال الورتجبي : أكّد الله أمر نصيحته لعباده ألاّ يعتمدوا إلى مَن سواه في الدنيا والآخرة ، وأنَّ ما سواه لا ينقذه مِن قبض الله حتى يفرّ مما دون الله إلى الله. هـ. وقال في قوله تعالى : {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يُغنيه} : لكل واحدٍ منهم شأن يشغله ، وللعارف شأن مع الله في مشاهدته ، يُغنيه عما سوى الله. هـ.
(8/374)
قوله تعالى : {وجوه يومئذ مُسْفِرة ضاحكة مستبشِرة} كل مَن أَسفر عن ليل وجوده ضياءُ نهار معرفته ، فوجهه يوم القيامة مُسْفِر بنور الحبيب ، ضاحك لشهوده ، مستبشر بدوام إقباله ورضوانه. وقال أبو طاهر : كشف عنها سُتور الغفلة ، فضحكت بالدنو من الحق ، واستبشرت بمشاهدته. وقال ابن عطاء : أسفر تلك الوجوه نظرُها إلى مولاها ، وأضحكها رضاه عنها. هـ. قال القشيري : ضاحكة مستبشرة بأسبابٍ مختلفة ، فمنهم مَن استبشر بوصوله إلى حبيبه ، ومنهم بوصوله إلى الحور ، ومنهم ، ومنهم ، وبعضهم لأنه نظر إلى ربِّه فرأه ، ووجوه عليها غبرة الفراقُ ، يرهقها ذُلُّ الحجاب والبعاد. هـ.
قال الورتجبي : {وجوه يومئذ مُسْفِرة} ، وجوه العارفين مُسْفرة بطلوع إسفار صبح تجلِّي جمال الحق فيها ، ضاحِكة مِن الفرح بوصولها إلى مشاهدة حبيبها ، مستبشرة بخطابه
244
ووجدان رضاه ، والعلم ببقائها مع بقاء الله. ثم وصف وجوه الأعداء والمدّعين فقال : {ووجوه يومئذٍ عليه غبرةُ} الفراقِ يوم التلاق ، وعليها قَتر ذل الحجاب ، وظلمة العذاب ـ نعوذ بالله من العتاب ـ قال السري : ظاهر عليها حزن البعاد ؛ لأنها صارت محجوبة ، عن الباب مطرودة ، وقال سَهْلٌ : غلب عليها إعراض الله عنها ، ومقته إياها ، فهي تزداد في كل يوم ظلمة وقترة. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 243
اللهم أسفر وجوهنا بنور ذاتك ، وأضحكنا وبَشِّرنا بين أوليائك في الدنيا والآخرة ، إنك على كل شيء قدير ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً.
245
جزء : 8 رقم الصفحة : 243(8/375)
سورة التكوير
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
يقول الحق جلّ جلاله : {إِذا الشمسُ كُوِّرتْ} أي : ذُهب بضوئها ، من كوَّرت العمامة : إذا لففتها ، أي : يُلفّ ضوؤها لفًّا ، فيذهب انبساطه وانتشاره ، أو : ألقيت عن فلكها ، كما وصفت النجوم بالانكدار ، من : طعنَة فكوّره : إذا ألقاه على الأرض. وعن أبي صالح : كُوِّرت : نُكّست ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : تكويرها : إدخالها في العرش. {وإِذا النجومُ انكَدرَتْ} أي : انقضّت وتساقطت ، فلا يبقى يومئذٍ نجمٌ إلاّ سقط على الأرض. قال ابن عباس رضي الله عنه : النجوم قناديل معلّقة بسلاسل من نور بين السماء والأرض ، بأيدي ملائكة من نور ، فإذا مات مَن في السموات ومَن في الأرض قطعت من أيديهم ، وقيل : انكدارها : انطماس نورها ، ويُروى : أن الشمس والنجوم تُطرح في جهنم ، ليراها مَن عبدها ، كما قال : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء : 98].
{وإِذا الجبال سُيِّرتْ} عن أماكنها بالرجعة الحاصلة ، فتسير عن وجه الأرض حتى تبقى قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً. {وإِذا العِشَار} جمع : عُشَرَاء ، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر ، وهو اسمها إلى أن تضع لتمام سنة ، وهي أنْفس ما يكون عند أهلها ، وأعزّها عليهم ، {عُطِّلَتْ} ؛ تُركت مهملة ؛ لاشتغال أهلها بأنفسهم ، وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذا الحال ، فتركوها أحبّ ما تكون إليهم ، لشدة الهول ، فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة ، تُبعث كذلك فيغيبون عنها لشدة الهول ، ويحتمل : إن يكون كناية عن
246(8/376)
شدة الأمر. {وإِذا الوحوشُ حُشِرت} أي : جُمعت من كل جانب ، وقيل : بُعثت للقصاص ، قال قتادة : يُحشر كلُّ شيءٍ حتى الذباب للقصاص ، فإذا قضى بينها رُدّت تراباً ، فلا يبقى منها إلاّ ما فيه سرور لبني آدم ، كالطاووس ونحوه. {وإِذا البحار سُجّرتْ} أي : أُحميت ، أو مُلئت وفُجر بعضها إلى بعض ، حتى تصير بحراً واحداً ، كما قال تعالى : {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الأنفطار : 3] ، من سَجر التنّور : إذا ملأه بالحطب ، وقيل : يُقذف بالكواكب فيها ، ثم تُضرم فتصير نيراناً ، فمعنى " سُجِّرتْ " حينئذ : قُذف بها في النار ، وقد ورد أنّ في النار بحاراً من نار.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 246
وإِذا النفوس زُوِّجتْ} أي : قُرنت بأجسادها ، أو : قرنت بشكلها ، الصالح مع الصالح في الجنة ، والطالح مع الطالح في النار ، أو : بكتابها ، أو بعملها ، أو : نفوس المؤمنين بالحُور ، ونفوس الكافرين بالشياطين. {وإِذا الموؤدةُ} أي : المدفونة حية ، وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق ، أو لخوف العار بهم من أجلهن ، وقيل : كان الرجل إذا وُلد له بنت ألبسها جبة من صوف أو شعر ، حتى إذا بلغت ست سنين ذهب بها إلى الصحراء ، وقد حفر لها حفرة ، فيلقيها فيها ، ويهيل عليها التراب. وقيل : كانت الحامل إذا اقترتب ، حفرت حفرة ، فتمتخض عليها ، فإذا ولدت بنتاً رمت بها ، وإذا ولدت ابناً ضَمّته ، فإذا كان يوم القيامة {سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ} ، وتوجيه السؤال لها لتسليتها ، وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها ، وإسقاطه عن درجة الخطاب ، والمبالغة في تبكيته. وفيه دليل على أنَّ أطفال المشركين لا يُعذّبون ، وأنَّ التعذيب لا يكون بغير ذنب.
(8/377)
{وإِذا الصُحفُ نُشِرَتْ} أي : صُحف الأعمال ، فإنها تُطوى عند الموت وتُنشر عند الحساب ، قال صلى الله عليه وسلم : " يُحشرُ الناس يوم القيامةِ حُفَاةً عراة " فقالت أمُ سلمة : فكيف بالنساء ؟ ! فقال : " شُغِل الناسُ يا أم سلمة " فقالت : وما شغلهم ؟ فقال : " نَشْرُ الصُّحُفِ ، فيها مثاقيلُ الذرِّ ، ومثاقيلِ الخَرْدل " وقيل : نُشرت : فُرقت على أصحابها ، وعن مرثد بن وَداعة : إذا كان يوم القيامة تطايرت الصُحف من تحت العرش ، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية ، وتقع صحيفة الكافرين في يده في سموم وحميم ، أي : مكتوب فيها ذلك ، وهذه صحف غير الأعمال.
{وإِذا السماءُ كُشِطَتْ} ، قُطعت وأزيلت ، كما يُكشط الجلد عن الذبيحة ، والغطاء عن الشيء المستور ، {وإِذا الجحيمُ سُعِّرتْ} أي : أوقدت إيقاداً شديداً ، غضباً على العصاة ، {وإِذا الجنة أُزْلِفَتْ} أي : قُربت من المتقين ، كقوله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [قَ : 31].
عن ابن عباس رضي الله عنه : إن هذه ثِنتا عشرة خصلة ، ستٌّ في الدنيا ، فيما بين
247
النفختين ، وهن من أول السورة إلى قوله تعالى : {وإذا البحار سُجرتْ} على أنَّ المراد بحشر الوحوش : جمعها من كل ناحية ، لا حشرها للقصاص ، وستٌّ في الآخرة ، أي : بعد النفخة الثانية. والمشهور من أخبار البعث : أنَّ تلك الخصال كلها بعد البعث ، فإنَّ الشمس تدنو من الناس في الحشر ، فإذا فرغ من الحساب كُوِّرت ، والنجوم إنما تسقط بعد انشقاق السماء وطيها ، وأمّا الجبال ففيها اختلاف حسبما تقدّم ، وأمّا العِشار فلا يتصور إهمالها إلاَّ بعد بعث أهلها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 246
(8/378)
وقوله تعالى : {علمتْ نفس ما أحضرت} : جواب " إذا " ، على أنَّ المراد زمان واحد ممتد ، يسع ما في سياقها وسياق ما عطف عليها من الخصال ، مبدؤه ، النفخة الأولى ، ومنتهاه : فصل القضاء بين الخلائق ، أي : تيقنت كلُّ نفس ما أحضرت من أعمال الخير والشر ، والمراد بحضورها : إمّا حضور صحائفها ، كما يُعرب عنه نشرُها ، وإمّا حضور أنفسها ، على أنها تُشكّل بصورة مناسبة لها في الحُسن والقُبح ، وعلى ذلك حمل قوله تعالى : {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة : 49 ، العنكبوت : 54] ، وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى...} [النساء : 10] ، الآية ، وقوله عليه السلام في حق مَن يشرب في آنية الذهب : " إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم " ولا بُعد في ذلك ، ألا ترى أنَّ العِلم يظهر في عالم الخيال على صورة اللبن ، كما لا يخفى على مَن له خبرة بأحوال الحضرات الخمس ، وقد رُوي عن عباس رضي الله عنه أنه قال : " يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة ، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة ، فتوضع في الميزان " ، وأيًّا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله عزّ وجل ، كما نطق به قوله تعالى : {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً..} [آل عمران : 30] الآية ؛ لأنها لمّا عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ، ومعنى علمها بها حنيئذ : أنها تُشاهد جزاءها ، خيراً كان أو شرًّا.
(8/379)
الإشارة : اعلم أنَّ النفس والروح والسر أسماء لمسمَّى واحد ، وهو اللطيفة اللاهوتية السارية في الأبدان ، فما دامت تميل إلى المخالفة والهوى سُميت نفساً ، فإذا تطهرت بالتقوى الكاملة سُميت روحاً فإذا تزكّت وأشرقت عليها أسرار الذات سُميت سرًّا ، فالإشارة في قوله : {إذا الشمس كُورت} إلى تكوير النفس وطيها ، حين انتقلت إلى مرتبة الروح ، وإذا النجوم : نجوم علم الرسوم ، انكدرت حين أشرقت عليها شمس العرفان ، فلم يبقَ منها للعارف إلاّ ما يحتاج إليه من إقامة رسم العبودية ، يعني يقع الاستغناء عنها ، فإذا تنزل إليها حققها أكثر من غيره ، إذا الجبال ؛ جبال العقل ، سُيرت ؛ لأنّ نوره ضعيف كنور القمر مع طلوع الشمس ، وإذا العِشارُ عُطلتْ ، أي : النفوس الحاملة أثقال الأعمال والأحوال ، وأعباء التدبير والاختيار ، فيقع الغيبة عنها بأثقالها ، وإذا الوحوش ، أي :
248
الخواطر الردية حُشرتْ وغرقتْ في بحر الأحدية ، وإذا البحارُ بحار الأحدية سُجرتْ ، أي : فُجرت وانطبقت على الوجود ، فصارت بحراً واحداً متصلاً أوله بآخره ، وظاهره بباطنه ، وإذا النفوس ، أي : الأرواح ، زُوجتْ بعرائس المعرفة في البقاء بعد الفناء ، على سُرر التقريب والاجتباء. وقال سهل : تآلفت نفس الطبع مع نفس الروح ، ففرحت في نعيم الجنة ، كما كانتا متآلفتين في الدنيا على إدامة الذكر. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 246
(8/380)
وإذا الموؤودة سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ ، أي : فكرة القلوب التي عطلت وأُميتت بحب الدنيا والفناء فيها ، حتى انصرفت إلى التفكُّر في خوضها ، وتدبير شؤونها ، فتُسأل بأي ذنب قُتلت ، حتى تعطّلت فكرتها في أسرار التوحيد ؟ وقال القشيري : هي الأعمال المشوبة بالرياء ، المخلوطة بالسمعة والهوى. هـ. وإذا الصُحف ؛ الواردات الإلهية نُشرتْ على القلوب القدسية ، فظهرت أنوارُها على الألسنة بالعلوم اللدنية ، وعلى الجوارح بالأخلاق السنية ، وإذا السماءُ كُشطتْ ، إي سماء الحس تكشطت عن أسرار المعاني ، وإذا الجحيم ، نار القطيعة ، سُعّرتْ لأهل الفرق ، وإذا الجنة جنة المعارف ، أُزلفت لأهل الجمع والوصال ، علمت نفس ما أحضرت من المجاهدة عند كشف أنوار المشاهدة. وبالله التوفيق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 246
يقول الحق جلّ جلاله : {فلا أُقسم} ، " لا " صلة ، أي : أُقسم {بالخُنَّس} أي : بالكواكب الرواجع ، مِن : خَنَس إذا تأخر ، وهي ما عدا النيرين من الدراريّ الخمسة ، وهي : بهرام [المريخ] ، وزحل ، وعطارد ، والزُّهرة ، والمشتري ، فترى النجم في آخر البرج إذا كرَّ راجعاً إلى أوله ، {الجَوَارِ} أي : السيّارة {الكُنَّس} أي : المستترة ، جمع كانس وكانسة ، وذلك أنَّ هذه النجوم تجري مع الشمس والقمر ، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس ، فخنوسها : رجوعها ، وكنوسها : اختفاؤها تحت ضوئها ، من كُنس الوحش : إذا دخل كناسه ، أي : بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر ، وقيل : هي جميع الكواكب ، تختنس بالنهار ، فتغيب عن العيون ، وتكنس بالليل ، أي : تطلع في أماكنها.
{والليلِ إِذا عسعس} ؛ أقبل بظلامه ، أو : أدبر ، فهو من الأضداد ، وقال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى عسعس : أدبر ، تقول العرب : عسعس الليل وسَعْسع : إذا
249
أدبر ولم يبقَ منه إلاّ اليسير ، قال الشاعر :
حَتَّى إذا الصُّبحُ لها تَنَفَّسَا
وانجابَ عنها ليلُها وعَسْعسا
(8/381)
والحاصل : أنهما يرجعان إلى شيء واحد ، وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره ، {والصبح إّذا تنفس} ؛ امتدّ ضوؤه وارتفع حتى يصير نهاراً ، ولمّا كان إقبال النهار يلازمه الروح والنسيم جعل ذلك نفساً له مجازاً ، فقيل : تنفس الصبح.
وجواب القسم : {إِنه} أي : القرآن {لقولُ رسولٍ كريم} على ربه ، وهو جبريل عليه السلام ـ قاله عن الله ـ عزّ وجل ، وإنما أضيف القرآن إليه ؛ لأنه هو الذي نزل به.
{ذي قوةٍ} ؛ ذي قدرة على ما كلف به ، لا يعجز عنه ولا يضعف ، {عند ذي العرش مكينٍ} أي : عند الله ذا مكانة رفيعة ورتبة عالية ، ولمّا كانت المكانة على حسب حال الممكن قال : {عند ذي العرش} ليدل على عظم منزلته ومكانته ، والعندية : عندية تشريف وإكرام ، لا عندية مكان. {مطاعٍ ثَمَّ} أي : في السموات يُطيعه مَن فيها ، أو عند ذي العرش تُطيعه ملائكتُه المقربون ، يصدون عن أمره ، ويرجعون إليه ، وقال بعضهم : ومن طاعتهم له : فتحوا أبواب السموات ليلة المعراج باستفتاحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح خزنةُ الجنة الجنةَ لمحمدٍ حتى دخلها ، وكذا النار حتى نظر إليها. هـ. {أمين} على الوحي.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 249
(8/382)
وما صاحِبُكم} هو الرسول صلى الله عليه وسلم {بمجنونٍ} كما تزعم الكفرة ، وهو عطف على جواب القسم ، مدخول في المقسَم عليه ، {ولقد رآه} أي : رآى محمدٌ صلى الله عليه وسلم جبريلَ على صورته التي خلقه اللهُ عليها ، {بالأُفق المبين} أي : بمطلع الشمس الأعلى ، وقال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل : " إني أُحب أن أراك في الصورة التي تكون عليها في السماء " قال : أتقدر على ذلك ؟ قال : " بلى " قال : فأين تشاء ؟ قال : " بالأبطح " ، قال : لا يسعني ، قال : " بمِنىً " ، قال : لا يسعني ، قال : " فبعرفات " قال : ذلك بالحري أن يسعني ، فواعده ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للوقت ، فإذا هو قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة ، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ، ورأسه في السماء ، ورجلاه في الأرض ، فلما رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم خرّ مغشيًّا عليه ، فتحوّل جبريلُ في صورته ، فضمّه إلى صدره ، وقال : لا تخف ، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ، ورجلاه في التخوم السابعة ، وإنَّ العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع أي : العصفورـ حتى ما يحمل عرش ربك إلاّ عظمته. هـ.
أو : ولقد رأى جبريلَ عليه السلام ليلة المعراج. أو : لقد رآى ربه ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم بالأُفق الأعلى.
{وما هو على الغيبِ} أي : وما محمد على الوحي ، وما يخبر به من الغيوب
250
{بضنين} ؛ ببخيل ، على قراءة الضاد ، من : ضنَّ بكذا : بخل به ، أي : لا يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة في الحُلْوان ، بل يُعلّمه لكل مَن يطلبه ولا يكتم شيئاً منه ، أو : بمتهم على قراءة : المشالة ، من الظنة وهي التهمة ، أي : لا ينقص شيئاً مما أوحى إليه أو يزيد فيه ، {وماهو بقول شيطان رجيم} ؛ طريد ، وهو كقوله : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء : 210] أي : ليس هو بقول المسترقة للسمع ، وهو نفي لقولهم : إنه كهانة أو سحر.
(8/383)
{فأين تذهبون} وتتركون الحقَّ الواضح ؟ وهو استضلال لهم ، كما يقال لتارك الجادة وذهب في التيه : أين تذهب ، مُثَّلت حالهم في تركهم الحقّ ، وعدولهم عنه إلى الباطل ، بمَن ترك طريق الجادة ، وسلك في غير طريق. وقال الزجاج : معناه : فأيُّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيَّنْتُ لكم ؟ وقال الجنيد : فأين تذهبون عنا ، وإن من شيء إلاَّ عندنا : هـ. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : لظهور أنه وحي مبين ، وليس مما يقولون في شيء فأين تذهبون عنه ؟ {إِن هو إِلاّ ذِكْرٌ للعالَمين} أي : موعظة وتذكير للخلق {لمَن شاء منكم} : بدل من العالمين بإعادة الجار ، {إن يستقيم} : مفعول " شاء " أي : القرآن تذكير وموعظة لمَن شاء الاستقامة ، يعني : إن الذي شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم ، {وما تشاؤون} الاستقامة {إِلاّ أن يشاء الله}.
جزء : 8 رقم الصفحة : 249
ولمّا نزل قوله تعالى : {لمَن شاء منكم أن يستقيم} قال أبو جهل : الأمر إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله تعالى : {وما تشاؤون إِلاّ أن يشاء الله رب العالمين} أي : مالك الخلق ومربيهم أجمعين ، قال ابن منبه : قرأت بضعاً وثمانين كتاباً مما أنزل الله ، فوجدتُ فيها : مَن جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر. وقال الواسطي : أعجزك في جميع أوصافك ، فلا تشاء إلاّ بمشيئته ، ولا تعمل إلاّ بقوته ، ولا تطيع إلاّ بفضله ، ولا تعصي إلاّ بخذلانه ، فماذا يبقى لك ، وبماذا تفتخر من أفعالك ، وليس لك منها شيء ؟ . هـ.
وقال الطيبي عن الإمام : إنَّ مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله ؛ لأن مشيئة العبد محدثة ، فلا بد لحدوثها من مشيئة أخرى ، ثم قال : وقول المعتزلة : إن هذه المشيئة مخصوصة بمشيئة القهر والإلجاء ضغيف ؛ لأنَّا بيَّنَّا أنّ المشيئة الاختيارية حادثة ، ولا بد من محدث يحدثها. هـ.
(8/384)
الإشارة : فلا أُقسم بالخُنَّس ؛ الحواس الخمس ، وهي : السمع والبصر والشم والذوق والوجدان الباطني ، فإنها تخنس ، أي : تتأخر عند سطوع حلاوة الشهود ، وهي الجوار الكُنَّس ؛ لأنها تجري في تحصيل هواها عند الغفلة أو الفترة ، وتستتر عند الذكر أو اليقظة ، والليل إذا عسعس ، أي : ليل القطيعة إذا أظلم على العبد برؤية وجوده ووقوفه مع
251
عوائده ، والصُبح ، أي : صُبح الاستشراف على نهار المعرفة ، إذا تنفَّس ثم تطلع شمسه شيئاً فشيئاً ، إنه ، أي : الوحي الإلهامي لَقَولُ رسول كريم واراد رباني ، ذي قوة ؛ لأنه يأتي من حضرة قهّار قوي متين ، فلا يُصادم شيئاً من المساوىء إلاّ دمغه ، عند ذي العرش مكين ، ولذلك تَمَكَّن صاحبه مع الحق ، واكتسب مكانة عنده ، حيث كان من المقرَّبين السابقين ؛ مطاع ثَمَّ أمين ؛ لأنّ الوارد الإلهي تجب طاعته ؛ لأنه يتجلّى من حضرة الحق ، وهو أمين على ما يأتي به من العلوم ، وما صاحبكم بمجنون ، يعني العارف صاحب الواردات الألهية ، ولقد رآه ، أي : رأى ربه بعين البصيرة والبصر ، بالأُفق المبين ، وهو على الأسرار والمعاني ، حيث عرج بروحه من عالم الحس إلى عالم المعنى ، أو : من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، وماه هو على الغيب بضنين ، أي : ليس العارف الذي يُخبر عن أسرار التوحيد الخاص بمُتَّهَم ، ولا بخيل ، بل يجود به على مَن يستحقه ، وما هو بقول شيطان رجيم ، إذ لم يبقَ لهم شيطان حتى يخلط وسوسته بواردات قلوبهم ، فأين تذهبون عن اتباع طريقة الموصلة إلى حضرة الحق ، إن هو إلا ذكر للعالمين ، أي : ما جعله الله في كل زمان إلاّ ليُذَكِّر أهل زمانه ، لمَن شاء أن يستقيم على طريق العبودية ويفضي إلى مشاهدة الربوبية ، ولكن الأمر كله بيد الله ، وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين. اللهم شِئنا بفضلك ، واقصدنا بعنايتك ، وخصنا برعايتك ، واجعلنا ممن سبقت لهم العناية الكبرى ، آمين.
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
252
جزء : 8 رقم الصفحة : 249(8/385)
سورة الانفطار
جزء : 8 رقم الصفحة : 252
يقول الحق جلّ جلاله : {إِذا السماءُ انفطرتْ} أي : انشقت لنزول الملائكة ، كقوله : {وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ : 19] ، {وإِذا الكواكبُ انتثرتْ} أي : تساقطت متفرقة ، {وإِذا البحار فُجِّرتْ} ؛ فُتح بعضها إلى بعض ، فاختلط العذب بالأُجاج ، وزال ما بينها من البرزخ والحاجز ، وصارت البحار بحراً واحداً. رُوي : أنَّ الأرض تنشق ، فتغور تلك البحار ، وتسقط في جهنم ، فتصير نيراناً ، وهو معنى التسجير المتقدم عند الحسن. {وإِذا القبورُ بُعْثرِتْ} أي : قُلب ترابها ، وأُخرج موتاها ، يقال : بعثرت الحوض وبحثرته : إذا جعلت أسفله أعلاه ، وجواب " إذا " : {عَلِمَتْ نفسٌ ما قدَّمتْ وأخَّرَتْ} أي : إذا كانت هذه الأشياء قرأ كلُّ إنسان كتابه ، وجُوزي بعمله ، لأنَّ المراد بها زمان واحد ، مبدأه : النفخة الأولى ، ومنتهاه : الفصل بين الخلائق ونشر الصُحف ، لا أزمنة متعددة حسب تعددها ، وإنما كررت لتهويل ما في حيّزها من الدواهي ، ومعنى " ما قَدَّم وأخَّر " : ما سلف مِن عملٍ ؛ خير أو شر ، من سَنّ سُنة حسنة أو سيئة يُعمل بها بعده ، قاله ابن عباس وابن مسعود. وعن ابن عباس أيضاً : ما قدّم من معصية وأخّر من طاعة ، وقيل : ما قدَّم من أمواله لنفسه ، وما أخَّر لورثته ، وقيل : ما قدَّم من فرض ، وأخّر منه عن وقته ، وقيل : ما قدمتْ من الأسقاط والأفراط ، وأخّرت من الأولاد. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا سماء المعاني انفطرت ، أي : تشققت وظهرت من أصداف الأواني ، وإذا نجوم على الرسوم انتثرت عند طلوع شمس العيان ، وإذا بحار الأحدية فُجِّرتْ وانطبقت على الكائنات فأفنتها ، وإذا القلوب الميتة بُعثت وحييت بالمعرفة ، عَلِمَتْ نفسٌ ما
253(8/386)
قدّمت من المجاهدة ، وما أخَّرت منها ؛ إذ بقدر المجاهدة في خرق العوائد تكون المشاهدة ، وبقدر الشكر يكون الصحو ، وبقدر الشُرب يكون الرّي ، فعند النهاية يظهر قدر البداية ، البدايات مجلاة النهايات " فمَن أشرقت بدايته ، أشرقت نهايته ". وبالله التوفيق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 253
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الإِنسانُ ما غرّكَ بربك الكريم} ؛ أيّ شيءٍ خدعك وجرّأك على عصيانه ، وقد علمتَ ما بين يديك من الدواهي التامة ، والعواطب الطَامّة ، وما سيكون حينئذ من مشاهدة ما قَدَّمتَ من أعمالِك ، وما أخّرت ؟ والتعرُّض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه مما لا يصلح أن يكون مداراً للاغترار ، حسبما يغويه الشيطان ، ويقول : افعل ما شئتَ فإنَّ ربك كريم ، قد تفضّل عليك في الدنيا ، وسيفعل مثله في الآخرة ، فإنه قياس عقيم ، وتمنية باطلة ، بل هو مما يُوجب الإقبال على الإيمان والطاعة ، والاجتناب عن الكفر والعصيان ، كأنه قيل : ما حملك على عصيان ربك ، الموصوف بالصفات الزاجرة عنه ، الداعية إلى خلافه.
رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لمّا قرأها قال : " غرَّه جهلُه " وعن عمر رضي الله عنه : غرّه حُمقه ، وقال قتادة : غرّه عدوه المسلّط عليه ـ يعني الشيطان ـ وقيل للفضيل : لو أقامك اللهُ تعالى يوم القيامة بين يديه فقال لك : {ما غرَّك بربك الكريم} ماذا كنتَ تقول ؟ قال : أقول : ستُورك المرخاة ، لأنَّ الكريم هو الستّار وأنشدوا :
يا كاتِمَ الذنْب أّمَا تَسْتَحِي
واللّهُ في الخلوة رَائِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّك إمْهَالُه
وسترُه طولَ مسَاوِيكا
(8/387)
وقال مقاتل : غرّه عفو الله حين لم يعجل عليه العقوبة ، وقال السدي : غرّه رفق الله به ، وقال يحيى بن معاذ : لو أقامني بين يديه ، فقال لي : ما غرّك بي ؟ لقلتُ : غرّني بك بِرّك سالفاً وآنفاً ، وقال آخر : أقول : غرّني حلمك ، وقال أبو بكر الورّاق : لو قال لي : ما غرَّك بي ؟ لقلتُ : غرّني بك كرم الكريم. وهذا السر في التعبير بالكريم ، دون سائر الصفات ، كأنه لقَّنه الإجابة حتى يقول : غرّني كرم الكريم ، وهكذا قال أبو الفضل العابد :
254
غرّني تقييد تهديدك بالكريم ، وقال منصور بن عمّار : لو قيل لي : ما غرّك ؟ قلت : ما غرّني إلا ما علمتُه من فضلك على عبادك ، وصفحك عنهم. هـ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 254
(8/388)
الذي خَلَقك فَسَوَّاكَ} أي : جعلك مستوي الخلْقِ ، سالم الأعضاء مُعَدّة لمنافعها ، {فعدلك} ؛ فصيّرك معتدلاً متناسب الخَلق ، غير متفاوت فيه ، ولم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا أحدى العينين أوسع ، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضه أسود ، أو : جعلك معتدلاً تمشي قائماً ، لا كالبهائم. وقراءة التخفيف كالتشديد ، وقيل : معنى التخفيف : صَرَفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال ، فيكون من العدول. {في أيّ صورةٍ ما شاء رَكَّبَك} أي : رَكَّبك في أيّ صورة شاءها من الصور المختلفة ، و " ما " : مزيدة ، و(شاء) : صفة لصورة ، أي : ركَّبك في أيّ صورة شاءها واختارها من الصور العجيبة الحسنة ، كقوله تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيا أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين : 4] وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها ؛ لأنها بيان لـ " عدلك ". {كلاَّ} ، ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى ، وجعله ذريعة إلى الكفر المعاصي ، مع كونه موجباً للشكر والطاعة. والإضرابَ في قوله تعالى : {بل تُكذِّبون بالدين} عن جملة مقدّرة ينساق إليها الكلام ، كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض : وأنتم لا ترتدعون عن ذلك ، بل تجترئون على أقبح من ذلك ، وهو تكذيبكم بالجزاء والبعث ، أو بدين الإسلام ، الذي هو من جملة أحكامه ، فلا تُصدقون به ، {وإِنَّ عليكم لَحافِظين} : حال مفيدة لبطلان تكذيبهم ، وتحقيق ما يُكذِّبون به ، أي : تُكذِّبون بالجزاء ، والحال أنَّ عليكم مِن قِبلنا لحافظين لأعمالكم ، {كِراماً} عندنا {كاتبين} لها ، {يعلمون ما تفعلون} من الخير والشر ، قليلاً أو كثيراً ، ويضبطونه نقيراً أو قطميراً. وفي تعظيم " الكاتبين " ، بالثناء عليهم ؛ تفخيم لأمر الجزاء ، وأنه عند الله من جلائل الأمور ، حيث يستعمل فيها هؤلاء الكِرام.
(8/389)
الإشارة : يا أيها الأنسان ، ما غرَّك بالله حتى لم تنهض إلى حضرة قدسه ؟ ! غرّه جهله ومتابعة هواه ، أو قناعته من ربه ، والقناعة من الله حرمان ، أو غلطه ، ظن أنه كامل وهو ناقص من كل وجهٍ ، أو ظنّ أنه واصل ، وهو ما رحل عن نفسه قدماً واحداً ، ظنّ أنه في أعلى عليين باق في أسفل سافلين ، وهذا الغلط هو الذي غَرّ كثيراً من الصالحين ، تراموا على مراتب الرجال ، وهم في مقام الأطفال ، سبب ذلك عدم صُحبتهم للعارفين ، ولو صَحِبوا الرجالَ لرأوا أنفسهم في أول قدم مِن الإرادة ، وهذا هو الجهل المركّب ، جَهلوا ، وجهلوا أنهم جاهلون. ثم شوّقه إلى السير إليه بالنظر إلى صورة بشريته ، فإنه عدلها في أحسن تقويم ، ثم نفخ فيه روحاً قدسية سماوية من روحه القديم ، ثم لمّا زجر عن الاغترار لم ينزجروا ، بل تمادوا على الغرور ، وفعلوا فعل المكذِّب بالبعث والحساب ؛ مع أنّ عليهم من الله حفظة كِراماً ، يعلمون ما يفعلون ، فلم يُراقبوا الله جلّ جلاله ، المُطَّلع على سرهم وعلانيتهم ، ولم يحتشموا من ملائكته المُطَّلعين على
255
أفعالهم. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 254
(8/390)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ الأبرارَ} أي : المؤمنين {لَفِي نعيم} عظيم ، وهو نعيم الجنان {وإِنَّ الفُجَّار} أي : الكفار {لَفِي جحيم} كذلك ، وفي تنكيرهما من التفخيم والتهويل ما لا يخفى ، {يَصْلَونها يومَ الدِّين} يُقاسون حرها يوم الجزاء ، وهو استئناف بياني منبىء عن سؤال نشأ عن تهويلها ، كأنه قيل : ما حالهم فيها ؟ فقال : يحترقون فيها يوم الدين ، الذي كانوا يُكذِّبون به ، {وما هم عنها بغائبين} طرفة عين بعد دخولها ، وقيل : معناه : وما كانوا عنها غائبين قبل ذلك ، بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم ، حسبما قال صلى الله عليه وسلم : " القَبْر رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّة ، أو حُفْرة مِنْ حُفَرِ النَّار ". {وما أدراك ما يومُ الدين ثم ما أدراك ما يومُ الدين} ، هو تهويل وتفخيم لشأن يوم الدين الذي يُكذِّبون به ، ببيان أنه خارج عن دائرة دراية الخلق ؛ فعلى أيّ صورة تصوروه ، فهو فوقها ، وكيفما تخيلوه فهو أهم من ذلك وأعظم ، أي : أيُّ شيء جعلك دارياً ما هو يوم الدين ؟ على أنَّ " ما " الاستفهامية خبر " يوم " ، كما هو رأي سيبويه ، لما مَرّ من أنّ مدار الإفادة هو الخبر لا المبتدأ ، ولا ريب أنّ مناط إفادة التهويل والفخامة هنا هو : ما يوم الدين أيّ شيء عجيب هو في الهول والفضاعة ؟ انظر أبا السعود. قال ابن عباس رضي الله عنه : كل ما في القرآن من قوله تعالى : {وما أدراك} فقد دراه ، وكل ما فيه من قوله : {وما يدريك} فقد طوي عنه. هـ. وينتقض بقوله تعالى : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىا} [عبس : 3].
(8/391)
ثم بيَّن شأن ذلك اليوم إجمالاً ، فقال : {يومَ لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً} أي : لا تستطيع دفعاً عنها ، ولا نفعاً لها بوجه ، وإنما تملك الشفاعة به بالإذن ، و(يوم) : مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من (يوم الدين) ، ومَن نصب ؛ فبإضمار " اذكر " ، كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وشويقه صلى الله عليه وسلم إلى معرفته : اذكر يوم لا تملك نفس إلى آخره ، فإنه يُدريك ماهو ، {والأمرُ يومئذ لله} لا لغيره ، فهو القاضي فيه وحده دون غيره ، ولا شك أنَّ الأمر لله في الدارين ، لكن لمّا كان في الدنيا خفياً ، لا يعرفه إلاَّ العلماء بالله ، وأمّا في الآخرة فيظهر المُلك لله لكل أحدٍ ، خصّه به هناك. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 256
256
(8/392)
الإشارة : قال القشيري : إنَّ الأبرار لفي نعيم الشهود والحضور ، وإنَّ الفجار لفي جحيم الحجاب والغيبة ، يَصْلونها يومَ الدين ، يحترقون بنار الحجاب ، ونيران الاحتجاب يوم الجزاء والثواب ، وما أدراك ما يوم الدين ، ثم ما أدراك ما يومُ الدين ، يُشير إلى التعجُّب من كُنه أمره ، وشأن شأنه ، يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً ، لفناء الكل ، ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً. هـ. {والأمر يومئذ للّه} ، قال الواسطي : الأمر اليوم ويومئذ ولم يزل ولا يزال لله ، لكن الغيب بحقيقته لا يُشاهده إلاّ الأكابر من الأولياء ، وهذا خطاب للعموم ، إذا شاهدوا الغيب تيقّنوا أنَّ الأمر كله لله. فأما أهل المعرفة فمُشَاهَد لهم الأمر كمشاهدتهم يومئذٍ ، لا تزيدهم مشاهدة الغيب عياناً على مشاهدته لهم تصديقاً ، كعامر بن عبد القيس ، حين يقول : لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً. هـ. وقاله أيضاً عليّ رضي الله عنه. وقال القشيري : الأمر يومئذ لله وقبله وبعده ، ولكن تنقطع الدعاوى ذلك اليوم ، ويتضح الأمر ، وتصير المعارف ضرورية. هـ. وقال الشيخ ابن عبّاد رضي الله عنه في رسائله الكبرى ، بعد كلام : وليت شعري ، أيّ وقت كان المُلك لسواه حتى يقع التقييد بقوله : {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} [الحج : 56] وقوله : {والأمر يومئذ لله} لولا الدعاوى العريضة من القلوب المريضة. هـ. وقال الورتجبي : دعا بهذه الآية العبادَ إلى الإقبال عليه بالكلية بنعت ترك ما سواه ، فإنَّ المُلك كله لله في الدنيا والآخرة ، يُضل مَن يشاء ، ويهدي مَن يشاء. هـ. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
257
جزء : 8 رقم الصفحة : 256(8/393)
سورة المطففين
جزء : 8 رقم الصفحة : 257
يقول الحق جلّ جلاله : {ويل للمطفيين} ، الويل : شديد الشر ، أو : العذاب الأليم ، أو : واد في جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ، وقيل : كلمة توبيخ وعذاب ، وهو مبتدأ ، سوّغ الابتداء به معنى الدعاء. والتطفيف : البخس في الكيل والوزن ، وأصله : من الشيء الطفيف ، وهو القليل الحقير ، رُوي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة فوجدهم يُسيئون الكيل جدًّا ، فنزلت ، فأحْسَنوا الكيلَ ، وقيل : قدمها وبها رجل يُعرف بأبي جهينة ، ومعه صاعان ، يكيل بأحدهما ، ويكتال بالآخر ، وقيل : كان أهل المدينة تُجاراً ، يطففون ، وكانت بياعتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ، فنزلت ، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خَمْسٌ بخمس ، ما نَقَض قومٌ العهد إلاّ سلَّط الله عليهم عدوّهم ، ولا حَكَموا بغير ما أنزل الله إلاَّ فَشَى فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشى فيهم الموت ، ولا طَفّفوا الكيل إلاَّ مُنِعُوا النبات ، وأُخذوا بالسنين ، ولا
258
مَنَعُوا الزكاة إلاَّ حبس اللهُ عنهم المطر ". ثم فسّر التطفيف الذي استحقوا عليه الذم والدعاء عليهم بالويل ، فقال : {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفُون} أي : إذا أخذوا بالكيل من الناس بالشراء ونحوه يأخذون حقوقهم وافية تامة ، ولمّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرّهم ، ويتحامل فيه عليهم ؛ أبدل " على " مكان " مِنْ " للدلالة على ذلك ، ويجوز أن يتعلّق " على " بـ " يستوفون " ، وتقدّم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص ، أي : يستوفون على الناس خاصة ، وقال الفراء : " مِنْ " و " على " يتعاقبان في هذا الموضع ؛ لأنه حقّ عليه ، فإذا قال : اكتلت عليه ، فكأنه قال : أخذت ما عليه ، وإذا قال : اكتلت منه ، فكأنه قال : استوفيت منه. هـ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 258(8/394)
وإِذا كالوهم أو وزنوهم} أي : كالوا لهم أو وزنوا لهم في البيع ونحوه ، فحذف الجار وأوصل الفعل ، {يُخْسِرون} ؛ ينقصون ، يقال : خَسر الميزان وأخسره : إذا نقصه. وجعلُ البارز تأكيداً للمستكن مما لا يليق بجزالة التنزيل ، ولعل ذكر الكيل والوزن في صور الإخسار ، والاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء لِما أنهم لم يكونوا متمكنين من الاحتيال عند الاتزان تمكُّنهم منه عند الكيل ؛ لأنهم في الكيل يزعزعون ويحتالون في الملء بخلاف الوزن ، ويحتمل أنّ المطففين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويوزن إلاّ بالمكاييل لتمكّنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرف ، كما تقدّم ، وهذا بعيد ، وإذا أعطوا كالُوا ووزنوا ، لتمكّنهم من البخس في النوعين.
{ألاَ يظنُ أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} وهو يوم القيامة ، وهو استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والتعجُّب من اجترائهم عليه. وأدخل همزة الاستفهام على (ألاَ) توبيخاً ، وليست " ألا " هذه للتنبيه ، و " أولئك " إشارة إلى المطففين ، ووضعه موضع ضميرهم ؛ للإشعار بمناط الحُكم الذي هو وصفهم ، فإنَّ الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه ، وأمّا الضمير فلا يتعرّض لوصفه ، وللإيذان بأنهم مُمازون بذلك الوصف القبيح أكمل امتياز ، وما فيه من معنى البُعد للإشارة إلى بُعد درجتهم في الشرارة والفساد ، أي : ألاَ يظنُّ أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع أنهم مبعوثون ليوم عظيم ولا يقادَر قدره ، ويُحاسبون فيه على قدر الذرّة والخردلة ، فإنَّ مَن يظن ذلك وإن كان ظنًّا ضعيفاً لا يكاد يتجاسر على تلك القبائح ، فكيف بمَن يتيقنه ؟ وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابياً قال له : قد سمعتَ ما قال الله في المطفّفين ـ أراد بذلك أنَّ المُطَفف قد توجّه عليه الوعيد العظيم الذي سمعتَ به ـ فما ظنّك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ؟ !. {يومَ يقومُ الناسُ} ، منصوب بـ " مبعوثون " ، أي : يُبعثون يومَ يقوم الناس {لرب
259
(8/395)
العالمين} أي : لحكمِه وقضائه ، أو لجزائه بعقابه وثوابه ، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه السورة ، فلمّا بلغ هنا بكى نحيباً ، وامتنع من قراءة ما بعده.
{كلاَّ} ردع وتنبيه ، أي : ارتدعوا عما كنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب ، وتنبّهوا أنه مما يجب أن يُنتهى به ويُتاب منه ، ثم علل الردع المذكور ، فقال : {إِنَّ كتابَ الفُجَّار} أي : صحائف أعمالهم {لفي سِجّينٍ} ، جمهور المفسرين أنَّ " سِجين " موضع تحت الأرض السابعة ، كما أنَّ " علِّيين " موضع فوق السماء السابعة ، وفي القاموس : عليون جمع " عِلِّيّ " في السماء السابعة ، تصعد إليه أرواح المؤمنين ، و " سجّين " موضع في كتاب الفجار ، ووادٍ في جهنم ، أو حجر في الأرض السابعة. هـ. وفي حديث أنس صلى الله عليه وسلم قال : " سجين أسفل سبع أرضين " وقال أبو هريرة : قال صلى الله عليه وسلم : " الفلق : جُب في جهنم مغطى ، وسِجين : جُب في جهنم مفتوح " والمعنى : إنّ تاب أعمال الفجار مثبت في سجين. هو علم منقول من الوصف " فعيل " من السجن ؛ لأنَّ أرواح الكفرة تسجن فيه ، وهو منصرف لوجود سبب واحدٍ فيه ، وهو العلميّة ، لأنه علم لموضع.
جزء : 8 رقم الصفحة : 258
(8/396)
ثم عَظَّم أمره فقال : {وما أدراك ما} هو {سِجّينٌ} أي : هو بحيث لا يبلغه دراية أحد ، وقوله تعالى : {كتاب مرقوم} ، قال الطيبي : هو على حذف مضاف ، أي : موضع كتاب مرقوم. هـ. أو : فيه كتاب مرقوم ، وهو بدل من " سِجّين " أو : خبر عن مضمر ، بحذف ذلك المضاف ، وأمّا مَن جعله تفسيراً لسجّين ، بأن جعل سجيناً هو نفس الكتاب المرقوم ؛ فلا يصح ؛ إذ يصير المعنى حينئذ : إنَّ كتاب الفجار لفي كتاب ، ولا معنى له. {ويل يومئذٍ للمكَذّبين} هو متصل بقوله : {يوم يقوم الناسُ لرب العالمين} وقيل : ويل يوم يخرج ذلك المكتوب للمكذّبين {الذين يُكَذِّبون بيوم الدين} ؛ الجزاء والحساب ، {وما يُكَذِّب به} ؛ بذلك اليوم {إِلاَّ كُل معتدٍ} ؛ مجاوِز للحدود التي حدّتها الشريعة ، أو مجاوِز عن حدود النظر والاعتبار حتى استقصر قدرة الله على إعادته ، {أثيمٍ} ؛ مكتسب للإثم منهمك في الشهوات الفانية حتى شغلته عما وراءها من اللذة الباقية ، وحملته على إنكارها ، {إِذا تُتلى عليه آياتُنا} التنزيلية الناطقة بذلك {قال} : هي {أساطيرُ الأولين} أي : أحاديث المتقدمين وحكايات الأولين ، والقائل : قيل : الوليد بن المغيرة ، وقيل : النظر بن الحارث ، وقيل : عام لمَن اتصف بالأوصاف المذكورة.
{كلاَّ} ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له ، {بل رانَ على قلوبهم ما كانوا يكسِبون} ، هو بيان لما أدّى بهم إلى التفوُّه بهذه العظيمة ، أي : ليس في آياتنا ما يصحح أن يُقال فيها هذه المقالات الباطلة ، بل رانت قلوبهم وغشّاها ما كانوا
260
يكسبون من الكفر والجرائم حتى صارت عليهم كالصدأ للمرآة ، فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن العبد كلما أذنب ذنباً حصل في قلبه نكتة سوداء ، حتى يسوّد قلبه.. " الحديث ، أي : ولذلك قالوا ما قالوا. والرين : الصدأ ، يقال : ران عليه الذنب وغان ريناً وغيناً.
(8/397)
{كلاَّ} ردع وزجر عن الكسب الرائن {إِنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} لَمَّا رانت قلوبهم في الدنيا حُجبوا عن الرؤية في الآخرة ، بخلاف المؤمنين ، لَمّا صفت مرآة قلوبهم حتى عرفوا الحق كشف لهم يوم القيامة عن وجهه الكريم. قال مالك : لَمّا حجب الله أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه. هـ. وقال الشافعي : في هذه الآية دلالة على أنَّ أولياء الله يرونه. هـ. وقال الزجاج : في هذه الآية دليل أن الله يُرى يوم القيامة ، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ، ولمَا خصّصت منزلة الكفار بأنهم محجوبون عن الله. انظر الحاشية. {ثم إِنهم لصالُو الجحيم} أي : داخلو النار ، و " ثم " لتراخي الرتبة ، فإنّ صَلي الجحيم أشد من الإهانة ، والحرمان من الرؤية والكرامة. {ثم يُقال} لهم : {هذا الذي كنتم به تُكَذِّبون} في الدنيا فذُوقوا وباله. وبالله التوفيق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 258
(8/398)
الإشارة : التطفيف يكون في الأعمال والأحوال ، كما يكون في الأموال ، فالتطفيف في الأعمال عدم إتقانها شرعاً ، ولذلك قال ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما : الصلاة مكيال ، فمَن وَفَّى وُفِّي له ، ومَن طفَّف فقد علمتم ما قال الله في المطففين. هـ. فكل مَن لم يُتقن عملَه فعلاً وحضوراً فهو مطفف فيه. والتطفيف في الأحوال : عدم تصفية القصد فيها ، أو بإخراجها عن منهاج الشريعة ، قال تعالى : {ويل للمطفيين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون...} الخ ، قال القشيري : يُشير إلى المقصّرين في الطاعة والعبادة ، الطالبين كمال الرأفة والرحمة ، الذين يستوفون من الله مكيال أرزاقهم بالتمام ، ويكيلون له مكيال الطاعة بالنقص والخسران ، ذلك خسران مبين ، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم المشهد ، مهيب المحضر ، فلذلك فسدت أعمالهم واعتقادهم. هـ. يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يوم يكثر فيه الهول ، ويعظم فيه الخطب على المقصّرين ، وتظهر فيه كرامة المجتهدين ووجاهة العارفين.
{كلاَّ} ليرتدع المقصّر عن تقصيره ؛ لئلا ينخرط في سلك الفجار ، {إن كتاب الفجّار لفي سجين} المراد بالكتاب هنا : كتاب الأزل ، وهو ما كتب لهم من الشقاوة قبل كونهم ، قال صلى الله عليه وسلم : " السعيد مَن سعد في بطن أمه ، والشقي مَن شقي في بطن أمه "
261
(8/399)
و {وما أدراك ما سجين} فيه {كتاب مرقوم} لأهل الشقاء شقاوتهم. {ويل يومئذ للمُكَذِّبين} بالحق وبالدالين عليه ، {الذين يُكَذِّبون بيوم الدين} وهم أهل النفوس المقبلين على الدنيا بكليتهم ، {وما يُكَذِّب به إلاّ كل معتد أثيم} ؛ متجاوز عن الذوق والوجدان ، محروم من الكشف والعيان ، {إذا تُتلى عليه آياتنا} الدالة علينا {قال أساطير الأولين} أي : إذا سمع الوعظ والتذكير من الدالين على الله قال : خرافات الأولين. وسبب ذلك : الرانُ الذي ينسج على قلبه ، كما قال تعالى : {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} لمّا رانت قلوبهم ، وتراكمت عليها الحظوظ والهوى ، حُجبوا عن شهود الحق في الدنيا ، ودام حجابهم في العقبى إلاَّ في أوقات قليلة ، قال الحسن بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. هـ. قال الواسطي : الكُفار في حجابٍ لا يرونه البتة ، والمؤمنون في حجاب يرونه في وقتٍ دون وقت. هـ. أي : والعارفون يرونه كل وقت ، ثم قال : ولا حجاب له غيره ، وليس يسعه سواه ، ما اتصلت بشريةٌ بربوبيته قط ، ولا فارقت عنه. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 258
(8/400)
وقال في الإحياء : النزوع إلى الدنيا يَحجب عن لقاء الله تعالى ، وعند الحجاب تتسلط عليهم نار جهنم ، إذ النار غير متسلطة إلاّ على محجوب ، قال تعالى : {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم} فرتَّب العذاب بالنار على ألم الحجاب ، وألم الحجاب كافٍ من غير عِلاوة النار ، فكيف إذا أضيفت العلاوة إليه! هـ. وقد رتَّب الحجاب على الران والصدأ المانع من كشف الحقيقة ، فكل من طهّر قلبه من ران الهوى ، وغسله بأنوار الذكر والفكر لاحت له أنوار المشاهدة وأسرار الحضرة ، حتى يشاهد الحق في الدنيا والآخرة ، ويكون من المقربين أهل عليين ، وكل مَن بقي مع حظوظ هواه حتى غلب على قلبه رانُ الشهوات بقي محجوباً في الدارين من عامة اليمين. وأنواع الران التي تحجب عن الشهود ست : ران الكفر ، وران العصيان ، وران الغفلة ، وران حلاوة الطاعات ، وران حس الكائنات ، فإذا تصفّى من هذه كلها أفضى إلى مقام العيان ، ولا طريق لرفع الران بالكلية إلاَّ بصُحبة المشايخ العارفين. وبالله التوفيق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 258
يقول الحق جلّ جلاله : {كلاَّ} ، ردع للمكذبين ، ثم بيّن حال الأبرار ، فقال : {إنَّ كتاب الأبرارِ} أي : ما كتب من أعمالهم ، والأبرار : المؤمنون المطيعون ، لأنه ذُكر في
262
(8/401)
مقابلة الفُجَّار ، وعن الحسن : البرّ : الذي لا يؤذي الذرّ ، {لفي عليين} ، قال الفراء : هو اسم على صيغة الجمع لا واحد له ، وقيل : واحده " عِلِّيّ " ، و " علِّيه " وأيًّا ما كان فهو موضع في أعلى الجنة ، يسكنه المقربون. قال ابن عمر رضي الله عنه : إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كوى ، فإذا أشرف رجل أشرقت له الجنة ، وقالوا : قد اطلع علينا رجل من أهل عليين ، وقال في البدور : " إنَّ الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه ، فلا تبقى خيمة من خيام الجنة إلا ويدخلها ضوء من وجهه ، حتى إنهم يستنشقون ريحه ويقولون : واهاً لهذه الريح الطيبة.. " الحديث.. وتقدّم قوله صلى الله عليه وسلم : " أكثر أهل الجنة البُله ، وعليون لذوي الألباب " وانظره في سورة المجادلة ، وفي حديث البراء : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " عليون في السماء السابعة تحت العرش " وفيه ديوان أعمال السعداء ، فإذا عمل العبدُ عملاً صالحاً عرج به وأثبت في ذلك الديوان ، وقد رُوي في الأثر : " أن الملائكة تصعد بصحيفةٍ فيها عمل العبد ، فإن رضيه الله قال : اجعلوه في عليين وإن لم يرضه قال : اجعلوه في سجين ". ثم نوّه بقَدْره فقال : {وما أدراك ما عليون كتابٌ مرقومٌ} أي : موضع كتاب ، أو فيه كتاب مرقوم {يشهده المقربون} أي : الملائكة المقربون ، أو أرواح المقربين ؛ لأنَّ عليين محل الكروبيين وأرواح المقربين. {إِنَّ الأبرار} من أهل اليمين {لفي نعيمٍ} عظيم ، {على الأرائك} ؛ على الأسرّة في الحِجال ، {ينظرون} إلى كرامة الله ونِعمه التي أولاهم ، أو : إلى أعدائهم يعذّبون في النار ، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدْراك ، {تعرف في وجوههم نضرةَ النعيم} أي : بهجة التنعُّم وطراوته ورونقه. والخطاب لكل أحد مما له حظ من الخطاب للإيذان بأنَّ حالهم من أثر النعمة وأحكام البهجة ، بحيث لا يختص برؤيته راءٍ دون راءٍ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 262
(8/402)
يُسقون من رحيقٍ} ؛ شراب خالص لا شوب فيه ، وقيل : هو الخمر الصافية ، {مختومٌ} ؛ مغلق عليه ، {ختامه مِسْكٌ} أي : مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين ، كما يفعل أهل الدنيا بأوانيهم إذا أرادوا حِفظها وصيانتها ، ولعله تمثيل لكمال نفاسته ، أو : أخره وتمامُه مسك ، أي : يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك. وقُرىء " خاتِمَه " بكسر التاء وفتحها. {وفي ذلك} الرحيق أو ما تقدّم من نعيم الجنان {فليتنافس المتنافسون} ؛ فليرغب الراغبون ، وليجتهد المجتهدون ، أو فليسبق المستبقون ، وذلك بالمبادرة إلى الخيرات ، والكفّ عن السيئات. وأصل التنافس : التغالب في الشيء النفيس ، وهو من النفس لعزتها ، وقال البغوي : وأصله : من الشيء النفيس الذي تحرص عليه النفوس ، ويريده كل أحد لنفسه ، وينفَسُ به على غيره ، أي : يضِنُّ به.
263
قوله تعالى : {ومِزَاجُه من تسنيمٍ} : عطف على (خِتامه) صفة أخرى للرحيق ، وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته ، أي : ما يمزَج به ذلك الرحيق هو من ماء التسنيم ، والتسنيم اسم لعين بعينها في الفردوس الأعلى ، سُميت بالتسنيم الذي هو مصدر من " سنّمه " إذا رفعه ، لأنها أرفع شراب في الجنة ، ثم فسّرها بقوله : {عيناً} ، فهو منصوب على المدح أو الاختصاص ، أو على الحال مع جمودها لوصفها بقوله : {يشربُ بها} أي : منها {المقربون} ، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما : فيشربها المقربون صِّرفاً ، وتمزج لأصحاب اليمين. هـ. والمقربون هم أهل الفناء في الذات ، أهل الشهود والعيان ، والأبرار أهل الدليل والبرهان ، وهم أهل اليمين ، وذلك أنَّ المقربين لَمّا أخلصوا محبتهم لله ، ولم يُحبوا معه شيئاً من الدنيا خلُصَ لهم الشراب في الآخرة ، وأهل اليمين ، لَمّا خلطوا في محبيتهم خلّط شرابهم ، فالدنيا مزرعة الآخرة ، فمن صَفّا صُفيَ له ، ومَن كَدّر كُدّر عليه.
(8/403)
فإن قلتَ : لِمَ أمر بالتنافس في الرحيق ، ولم يأمر به في التسنيم ، مع كونه أرفع ؟ قلتُ : قال بعضهم : إشارة إلى أن شربه لا يُنال بسبب ، بل بالسابقة ، وقيل : إنه مُقدّم من تأخير ، وإن التنافس حاصل في الجميع ، أو يؤخذ بالأحْرى ؛ لأنه إذا أمرَ بالتنافس في المفضول كان التنافس في الأفضل أحرى. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 262
الإشارة : قال الورتجبي : كتاب الأبرار كتابٌ مرقوم برقم الله ، رقمه بسعادتهم الأزلية ، وولايتهم الأبدية ، وذلك الكتاب عنده لا يطلع عليه إلاَّ المقربون المخاطبون بحديثه وكلامه ، المكاشفون بالحقائق الغيبية ، قال أبو عثمان المغربي : الكتاب المرقوم : هو ما يُجري اللّهُ على جوارحك من الخير والشر ، رقمها بذلك ، وهو لا يخاف ما رقم به ، وذلك الرقْم معلّق بالقضاء والقدر عن القدرة بمشيئته تعالى عليه ، ولا نزوع عن ذلك ولا حيلة له فيه ، فهو في ذلك معذور في الظاهر ، غير معذور في الحقيقة ، هذا لعوام الخلق ، وأمّا للخواص والأولياء وأهل الحقائق فإنه رقْم الله على كل شيء أوجده ، لم يُشْرف على ذلك الرقْم إلاَّ المقربون ، فهم أهل الإشراف ، فمَن شاهد ذلك الرقْم من المقربين عرف صاحبه بما رقم به من الولاية والعداوة ، فيُخبر عنه ، وهو الإشراف والفراسة ، كما كان لعُمر حين أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله : " كان في الأمم مُكلَّمون... " الحديث ، أي : فعُمر ممن أشرف على حقائق الرقْم ، وعلى معاني الكتاب المرقوم ، فمَن كان بذلك الحال فهو المكلّم من جهة الحق بلا واسطة. قال الجريري : رقْمٌ رَقَم اللّهُ به قلوبَ عباده بما قضى عليهم في الأزل من السعادة والشقاوة ، وبذلك الرقْم خَفي في أسرار العباد ، وظهر على هياكلهم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له ".
264
(8/404)
والحاصل : أنَّ الكتاب المرقوم : هو ما سطر لكل أحد في الأزل ، فإن رقم له بالسعادة جعلَ في عليين ، إشارة إلى أنَّ صاحبه يلحق به ، وإن رقم بالشقاوة جعل في سجين ، إشارة إلى لحوق صاحبه به. وقوله تعالى : {يشهده المقربون} أي : يشهدونه بعلوم أفكارهم ومكاشفة أسرارهم ، وقد ينطقون بذلك في حال الفيض أو الجذب ، وهؤلاء هم المكلَّمون ، وفي الحديث : " قد كان في الأمم مكلَّمون ، وإن يكن في أمتي فعُمر " والمقربون هم أهل الفناء والبقاء.
ثم قال تعالى : {إنَّ الأبرار لفي نعيم} لذة الطاعات وحلاوة المناجاة ، على أرائك المقامات ينظرون ما يفعل الله بهم. وقال القشيري : ينظرون في روضات الجنان الروحية والسرية والقلبية ، لكل منهم روضة مخصوصة. هـ. ولعل نظرهم علمياً لا ذوقياً ، لأنَّ الذوق للمقربين ، تَعْرِفُ في وجوههم نضرة النعيم ، وهو ما يظهر على وجوههم من بهجة المحبة ونضرة القُربة ، ولعل المراد بالأبرار هنا السائرون ، ولذلك قال : {يُسقَون من رحيق} خمرة المحبة الأزلية ، الصافية من كدر الهوى ، مختوم عليه في قلوب العارفين. قال القشيري : أواني ذلك الشراب هي قلوب الأصفياء والأولياء ، خِتامه مسك ، وهو محبة الحق ، لا يشرب من تلك الأواني المختومة إلاَّ الطالبون الصادقون في طريق السلوك إلى الله. هـ. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، فمَن فاته حظه من هذه الخمرة فهو محروم ، كما قال ابن الفارض :
جزء : 8 رقم الصفحة : 262
علَى نَفْسِه فَلْيبْك مَن ضاعَ عُمْرُه
وليس لَهُ مِنْها نَصيبٌ ولا سَهْمٌ
(8/405)
وقال القشيري : وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة ، وتعليق القلب بالله ، والانسلاخ من الأخلاق الدنية ، وجولان الهمم في الملكوت ، واستدامة المناجاة. هـ. ومِزاجه من تسنيم ، وهو عين بحر الوحدة الصافية ، التي قال فيها القطب ابن مشيش رضي الله عنه : وأغرقني في بحر الوحدة.. الخ ، ولذلك فسّرها تعالى بقوله : {عيناً يشرب بها المقربون} فالمقربون يشربونه صرفاً في الدنيا والآخرة ، ويمزج لغيرهم ، قال بعضهم : لأنه ليس مَن احتمل حمل الصفات كمن قَوِي على مشاهدة الذات ، وشربها المقربون صرْفاً لحملهم الذات والصفات جميعاً. هـ. ولأنهم صفّوا محبتهم في الدنيا من شوائب الهوى ، فصفّى شرابهم في دار البقاء ، وفي هذا المقام ينبغي التنافس الحقيقي ، كما قال الشاعر :
فروحي وريحاني إذا كنت حاضراً
وإن غبتَ فالدنيا عليّ محابسُ
إذا لم أنافس في هواك ولم أغر
عليكَ ففي مَن ليت شعري أنافس
فلا تمقتن نفسي فأنت حبيبُها
فكل امرىء يصبو إلى مَن يجانس
فتنافس الأبرار في حيازة النعيم ، وتنافس المقربين في حيازة المنعِم ، تنافسُ الأبرار
265
في نعيم الأشباح وتنافس المقربين في نعيم الأرواح ، ورضوان من الله أكبر ، ذلك هو الفوز العظيم ، جعلنا الله من أهل التنافس فيه وفي شهوده ، آمنين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 262
(8/406)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ الذين أجرموا} ؛ كفروا ، كأبي جهل والوليد والعاص بن وائل وأضرابهم ، {كانوا من الذين آمنوا} كعمّار وصُهيب وخباب وبلال {يضحكون} استهزاء بهم ، {وإِذا مَرُّوا بهم يتغامزون} ؛ يُشير بعضهم إلى بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم ، وقيل : جاء عليٌّ في نفر من المسلمين ، فسخر منهم المنافقون ، وضحكوا وتغامزوا ، وقالوا : أترون هذا الأصلع ؟ فنزلت قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكون الآية على هذا مدنية ، {وإِذا انقلبوا إلى أهلهم} أي : إذا رجع الكفار إلى منازلهم {انقلبوا فاكهين} ، متلذذين بذكرهم بالسوء ، أو متعجبين ، وقرأ حفص : {فكهين} بالقصر ، أي : أشرين أو فرحين ، وقال الفراء : هما سواء كطاعن وطعن.
{وإِذا رَأَوهم} أي : رأى الكافرون المؤمنين {قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون} أي : مخدوعون ، أي : خدع محمدٌ هؤلاء فضلُّوا وتركوا اللذّات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات ، فقد تركوا العاجل بالآجل ، والحقيقة بالخيال ، وهذا عين الضلال ، ولم يشعر هؤلاء الكفرة أنَّ ما اغترُّوا به وانهمكوا فيه هو عين الضلال ، قال تعالى : {وما أُرسلوا عليهم حافظين} أي : وما أرسل الكفّار على المسلمين ، يحفظون أعمالهم ، ويرقبون أحوالهم. والجملة حال ، أي : قالوا ذلك والحال أنهم ما أُرسلوا من جهة الله تعالى موكّلين بهم ، مهيمنين على أعمالهم ، يشهدون برُشدهم وضلالهم ، بل أُمروا بإصلاح أنفسهم ، فاشتغالهم بذلك أولى من تتبُّع عورات غيرهم.
(8/407)
{فاليومَ الذين آمنوا من الكفارِ يضحكون} ، حين يرونهم مغلولين أذلاء ، قد غشيتهم فنون العذاب والصغَار بعد العزة والاستكبار ، وهم {على الأرائك} آمنون ، ووجه ذلك : أنهم لمَّا كانو أعداءهم في الدنيا جعل لهم سروراً في تعذيبهم ، وقال كعب : بين الجنة والنار كُوَىً ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه الذي كان له في الدنيا نظر إليه ، دليله : {فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ} [الصافات : 55] فضحكوا منهم في الآخرة كما كانوا يضحكون منهم في الدنيا جزاءً وفاقاً. {على الأرائك ينظرون} حال ، أي : يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال ، وقيل : يُفتح إلى الكفار باب إلى
266
الجنة ، فيُقال لهم : هَلمُّوا إليها ، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم ، يفعل ذلك بهم مراراً ، ويضحك المؤمنون ، ويأباه قوله تعالى : {هل ثُوِّب الكفارُ ما كانوا يفعلون} فإنه صريح في أنَّ ضحك المؤمنين منهم جبراً لضحكهم منهم في الدنيا ، فلا بد من المجانسة والمشاكلة. والتثويب والإثابة : المجازاة ، أي : ينظرون هل جُوزي الكفار بما كانوا يفعلون من السخرية بالمؤمنين أم لا ؟
جزء : 8 رقم الصفحة : 266
ويحتمل أن يكون مفعول : " ينظرون " محذوفاً ، أي : ينظرون إلى أعدائهم في النار ، أو إلى ما هم فيه من نعيم الجنان ، ثم استأنف بقوله : {هل ثُوِّب الكفارُ ما كانوا يفعلون} أي : هل جُوزوا بذلك إذا فعل بهم هذا العذاب المهين ، و " هل " على هذا للتقرير ، قال الرضي : وتختص " هل " بحكمين دون الهمزة ، وهما : كونها للتقرير في الإثبات ، كقوله تعالى : {هل ثوب الكفار} أي : ألم يَثوبوا ، وإفادتها للنفي حتى جاز أن يجيء بعدها " إلاَّ " قصداً للإيجاب ، كقوله تعالى : {هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن : 60] وقول الشاعر :
وهل أنا إلاّ مِن غُزَيّةَ إن غوت
غَويتُ ، وإن تُرشَدْ غزية أرشد
(8/408)
الإشارة : ما قاله الكفرة في ضعفاء المسلمين قاله أهل الغفلة في المنتسبين الذاكرين ، حرفاً بحرف ، وما أُرسلوا عليهم حافظين ، فإذا تحققت الحقائق ، ورُفع الذاكرون مع المقربين ، وبقي أهل الغفلة مع الغافلين في أهل اليمين ، يضحكون منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى الطريق ، وصلّى الله عليى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
267
جزء : 8 رقم الصفحة : 266(8/409)
سورة الانشقاق
جزء : 8 رقم الصفحة : 267
يقول الحق جلّ جلاله : {إِذا السماءُ انشقتْ} أي : تشقّقت أبواباً لنزول الملائكة في الغمام ، أو : انشقت وطُويت كطي السجل للكتاب ، {وأَذِنَتْ لربها} أي : استمعت ، وفي الحديث : " ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ إذنه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن " أي : ما استمع ، أي : انقادت وأذعنت لتأثير قدرته تعالى حين تعلّقت إرادته بانشقاقها ، ولم تأبَ ولم تمتنع ، {وحُقَّتْ} أي : وحقَّ لها أن تسمع وتطيع لأمر ربها ، إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى.
{وإِذا الأرضُ مُدَّتْ} ؛ بُسطت وسُويت باندكاك جبالها وكِّل أمتٍ فيها حتى تصير كالصحفية الملساء ، عن أبن عباس : تُمدّ مَدَّ الأديم العُكاظي ، منسوب إلى عكاظ سوق بين نخلة والطائف ، كانت تعمره الجاهلية في ذي القعدة ، عشرين يوماً ، تجمع فيه قبائل العرب ، فيتعاكظون ، أي : يتغامزون ويتناشدون ، قاله في القاموس. {وألقتْ ما فيها} أي : رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز ، كقوله تعالى : {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة : 2]. {وتخلتْ} منها فلم يبقَ في جوفها شيء ، وذلك ما يُؤذن بعِظَم الأمر ، كما تلقي الحامل ما في بطنها قبل الوضع. {وأَذِنَتْ لربها} أي : استمعت في إلقاء ما في بطنها ، وتخليتها عنه ، {وحُقتْ} أي : وهي حقيقة بأن تنقاد لربها ولا تمتنع ، ولكن لا بُعد إن لم تكن كذلك ، بل في نفسها وحَد ذَاتِها ، من قولهم : هو محقوق بكذا ، أو حقيق به ، والمعنى : انقادت لربها وهي حقيقة بذلك مِن ذاتها ، وكذلك يقال في انشقاق السماء. انظر أبا السعود. وجواب (إذا) محذوف ، ليذهب المقدِّر كلَّ مذهب ، أي : كان من الأمر
268
الهائل ما يقصر عنه الوصف ، أو حذف اكتفاءً بما تقدّم في سورة التكوير والانفطار ، أو ما دلّ عليه {فملاقيه} أي : إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدْحَهُ. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 268(8/410)
الإشارة : إذا السماء ، أي : سماء الأرواح انشقت عن ظلمة الأشباح انشقاق الفجر عن ظلمة الليل ، فتغيب ظلمة الأشباح في نور عالَم الأرواح ، فحينئذ تظهر حقائق الأشياء على ما كانت عليه في الحقيقة الأزلية ، فينتفي الحدث ويبقى القِدم. قال الورتجبي : إذا أراد الله قلع الكون ، يلقي على السموات والأرض أثقال هيبة عظمته وكبريائه ، فتنشق السماء ، وتمد الأرض من عكس تجلي عظمته وكبريائه ، وحق لهما أن تتصدّعا ، لِما عليهما من أثقال قهريات جبروته ، حيث يشققهما ، وهما طائعتان لربهما ، وكيف لا تكون منهما طاعة ، وهما في قبضة قهر جلاله أقل من خردلة ، ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم : " الكونُ في يمين الرحمن أقلِّ من خَردلةٍ " وكذلك يتجلّى لسماء أرواح العارفين وأرض قلوب المحبين بنعت العظمة والكبرياء ، فتنشق الأرواح وتزلزل القلوب من وقوع نور هيبته عليها ، وبهذا الوصف وصف قلوب المقرّبين عند نزول خطاب الهيبة ، قال الله تعالى : {حَتَّىا إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ...} [سبأ : 23] الآية. قال بعضهم : خطاب الأمر إذا وقع على الهياكل فهي بين مطيع وعاصٍ ، وخطاب الهيبة إذا وردت تفني وتُعجز الإقرار معه كقوله : {إذا السماء انشقت} وَرَدَ عليها صفةُ الهيبة فانشقت وأذِنَتْ لربها وأطاعت وانقادت ، وحُق لها ذلك ، وهو الذي أوجدها. هـ وإذا الأرض أرض البشرية مُدت ، أي : بُسطت ولانت لأحكام الربوبية بالمجاهدة والرياضة ، وألقت ما فيها من الخبائث والعيوب ، وتخلّت عنها ، وأذنت لربها في أحكام العبودية والعبادة ، وحُقَّتْ بذلك ؛ لأنَّ في ذلك شرفَها وعزَّها ، وجواب " إذا " محذوف ، أي : كان من الأسرار والأنوار والمعارف ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ، ولا تحيط به الإشارة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 268
(8/411)
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الإِنسانُ} خطاب الجنس {إِنك كادِحٌ إِلى ربك كَدْحاً فمُلاقِيهِ} أي : جاهدٌ جادٌّ في السير إلى ربك. فالكدح في اللغة : الجد والاجتهاد ، أي : إنك في غاية الاجتهاد في السير إلى ربك ، لأنَّ الزمان يطير طيراً وأنت في كل لحظة تقطع حظًّا من عمرك القصير ، فإنك سائر مسرع إلى الموت ، ثم تلاقي ربك. قال الطيبي عن الإمام : في الآية نكتة لطيفة ، وهي : أنها تدل على انتهاء الكدح والتعب للمؤمن بانتهاء
269
هذه الحياة الدنيوية ، ويحصل بعد ذلك محض سعادته وراحته الأبدية. هـ.
قلتُ : إن كان كدحه في طلب مولاه ؛ حصل له بعد موته دوام الوصال ، وصار إلى روح وريحان ، وجنات ورضوان ، وإن كان كدحه في طلب الحُور والقصور ، بُشّر بدوام السرور ، وربما اتصلت روحه بما كان يتمنى ، وإن كان كدحه في طلب الدنيا مع إقامة الدين أفضى إلى الراحة من تعبه ، وإن كان في طلب الحظوظ والشهوات مع التقصير ، انتقل من تعب إلى تعبٍ ، والعياذ بالله. وقال أبو بكر بن طاهر : إنك تُعامل ربك معاملة ستعرض عليك في المشهد الأعلى ، فاجتهد ألاَّ تخجَل من معاملتك مع خالقك. أهـ.
(8/412)
ثم فصّل ما يلقى بعد اللقاء فقال : {فأمّا مَن أوتي كتابه بيمينه} أي : كتاب عمله {فسوف يُحاسب حساباً يسيراً} ؛ سهلاً هيناْ ، وهو الذي يُجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات. وفي الحديث : " مَن يحاسَب عُذِّب " فقيل له : فأين قوله تعالى : {فسوف يُحاسب حساباً يسيراً} فقال : " ذلكم العرض ، مَن نُوقش الحساب عُذِّب " والعرض : أن يُقال له : فعلتَ كذا وفعلتَ كذا ، ثم يُقال له : سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم. {وينقلبُ إِلى أهله} أي : إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين ، أو : إلى فريق المؤمنين ، أو : إلى أهله في الجنة من الآدمية أو الحور والغلمان ، أو : إلى مَن سبقه من أهله أو عشيرته ، إن قلنا : إنَّ الكتاب يُعطى بمجرد اللقاء في البرزخ ، فإنَّ الأرواح بعد السؤال تلحق بأهلها وعشيرتها ، حسبما تقدّم في الواقعة. وقوله تعالى : {مسروراً} أي : مبتهجاً بحاله ، قائلاً : {هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ} [الحاقة : 19] أو : مسروراً بلقاء ربه ودوام وصاله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 269
تنبيه : الناس في الحساب على أقسام ، منهم مَن لا حساب عليهم ولا عتاب ، وهم العارفون المقربون ، أهل الفناء في الذات ، ومنهم مَن يُحاسب حساباً يسيراً ، وهم الصالحون الأبرار ، ومنهم مَن يُناقش ويُعذِّب ثم ينجو بالشفاعة ، وهم عصاة المؤمنين ممن ينفذ فيهم الوعيد ، ومنهم مَن يُناقش ويخلد في العذاب ، وهم الكفرة ، وإليهم أشار بقوله :
(8/413)
{وأمّا مَن أُوتي كتابَه وراء ظهره} ، قيل : تغلّ يُمناه إلى عنقه ، وتُجعل شماله وراء ظهره. وقيل : يثقب صدره وتخرج منه إلى ظهره ، فيعطى كتابه بها وراء ظهره ، {فسوف يَدعو ثبُوراً} يقول : واثبوراه. والثبور : الهلاك ، {ويَصْلَى سعيراً} أي : يدخلها ، {إِنه كان} في الدنيا {في أهله} أي : معهم {مسروراً} بالكفر ، يضحك على مَن آمن بالبعث. وقيل : كان لنفسه متابعاً ، وفي هواه راتعاً ، {إِنه ظنّ أن لن يَحُورَ} ؛ لن يرجع إلى ربه ، تكذيباً بالبعث. قال ابن عباس : ما عرفتُ تفسيره حتى سمعت أعرابية تقول لبنتها : حُوري. أي : ارجعي. {بلى} جواب النفي ، أي : يرجع لا محالة ، {إِنَّ ربه كان به بصيراً} أي : إنَّ ربه الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء " بصيراً " بحيث لا تخفى
270
عليه منها خافية ، فلا بد من رجعه وحسابه عليها حتماً.
(8/414)
الإشارة : يا أيها الإنسان الطالب الوصول ، إنك كادح إلى ربك كدحاً بالمجاهدة والمكابدة فمُلاقيه بالمشاهدة المعاينة في مقام الفناء والبقاء ، فأمّا مَن أُوتي كتابه السابق له في الأزل " بيمينه " بكونه من أهل اليمين والسعادة " فسوف يُحاسب حساباً يسيراً " فيُؤدب في الدنيا إن وقع منه سوء أدب ، " وينقلب إلى أهله " إخوانه في الله " مسروراً " بوصوله إلى مولاه. قال الورتجبي : مسروراً بلقاء ربه ، وما نال من قُربه ووصاله ، وهذا للمتوسطين ، ومَن بلغ إلى حقيقة الوصال وصار أهلاً له لا ينقلب عنه إلى غيره. هـ. وأمّا مَن أُوتي كتابه السابق بخذلانه في الأزل ، وراء ظهره ، بحيث غفل عن التوجه إلى الله ، واتخذه وراء ظهره ، فسوف يدعو ثبوراً ، فيتمنى يوم القيامة أن لم يكن شيئاً ، ويصلى سعير القطيعة والبُعد إنه كان في أهله مسروراً منبسطاً في الدنيا ، مواجَهاً بالجمال من أهله وعشيرته ، ليس له مَن يؤذيه ، وهذا من علامة الاستدراج ، ولذلك لا تجد وليًّا إلاَّ وله مَن يُؤذيه ، يُحركه إلى ربه ، قال بعض الصوفية : قَلَّ أن تجد وليًّا إلاَّ وتحته امرأة تؤذيه. هـ. " إنه " أي : الجاهل ظنّ أن لن يحور إلى ربه في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يرده اللهُ ويُحاسبه على النقير والقطمير ، إنه كان به بصيراً بظاهره وباطنه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 269
يقول الحق جلّ جلاله : {فلا أُقسم بالشفقِ} وهي الحُمرة التي تُشاهد في أفق المغرب بعد الغروب ، أو : البياض الذي يليها ، سمي به لرقَّته ، ومنه : الشفقة التي هي رقة القلب. {والليلِ وما وَسَقَ} ؛ وما جمع وضمَّ ، يقال : وسقه فاتسق ، أي : جمعه فاجتمع ، أي : وما جمعه من الدواب وغيرها ، أو : ما جمعه من الظلمة والكواكب ، وما عمل فيه من التهجد ، {والقمرِ إِذا اتَّسَقَ} أي : اجتمع ضوؤه وتمّ نوره ليلة أربع عشرة.
(8/415)
{لتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طبق} ؛ لتُلاقُن حالاً بعد حال ، كل واحدة منها مطابقة لأختها في الشدّة والفظاعة ، كأحوال شدائد الموت ، ثم القبر ، ثم البعث ، ثم الحشر ، ثم الحساب ، ثم الميزان ، ثم الصراط. أو : حالاً بعد حال ، النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة ، ثم الجنين ، ثم الخروج إلى الدنيا ، ثم الطفولة ، ثم الكهولة ، ثم الشيخوخة ، ثم الهرم ، ثم الموت.. وما ذكر بعده آنفاً إلى دخول الجنة أو النار. وقال بعض الحكماء : يشتمل الإنسان من كونه نطفة إلى أن يَهرم على نيف وثلاثين اسماً : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ،
271
ثم عظاماً ، ثم خلقاً آخر ، ثم جنيناً ، ثم وليداً ، ثم رضيعاً ، ثم فطيماً ، ثم يافعاً ، ثم ناشئاً ، ثم مترعرعاً ، ثم مزوِّراً ، ثم مراهقاً ، ثم محتلماً ، ثم بالغاً ، ثم حَمَلاً ، ثم ملتحياً ، ثم مستوفياً ، ثم مصعَداً ، ثم مجتمعاً ـ والشباب يجمع ذلك ـ ثم مَلْهوراً ، ثم كهلاً ، ثم أشمط ، ثم شيخاً ، ثم أشيب ، ثم حَوْقلاً ، ثم مُقتاتاً ، ثم هما ، ثم هرماً ، ثم ميتاً. وهذا معنى قوله : {لتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طبق}. هـ. من الثعلبي. أو : لتركبن سنن مَن قبلكم ، حالاً بعد حال.
هذا على مَن قرأ بضم الباء ، وأمّا مَن قرأ بفتحها فالخطاب إمّا للإنسان المتقدم ، فيجري فيه ما تقدّم ، أو : للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي : لتركبَن مكابدة الكفار حالاً بعد حال ، أو : لتركبَن فتح البلاد شيئاً بعد شيء ، أو : لتركبَن السماوات في الإسراء ، سماء بعد سماء. أو : لتركبَن أحوال أيامك ، حالاً بعد حال ، حال البعثه ، ثم حال الدعوة ، ثم حال الهجرة ، ثم حال الجهاد وفتح البلاد ، ثم حال الحج وتوديع العباد ، ثم حال الرحيل إلى دار المقام ، ثم حال الشفاعة ، ثم حال المقام في دار الكرامة. فالطبق في اللغة يُطلق على الحال ، كما قال الشاعر :
جزء : 8 رقم الصفحة : 271
الصبر أجمل والدنيا مفجعةٌ
مَن ذا الذي لم يزوّر عيشه رنقا
إذا صفا لك من مسرورها طبق
(8/416)
أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا
ويطلق على الجيل من الناس يكون طباق الأرض ، أي : ملأها ، ومنمهم قول العباس في النبي صلى الله عليه وسلم :
تَنقَّل من صَالبٍ إلى رَحمٍ
إذا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
ومحل (عن طبق) : النصب ، على أنه صفة لطبق ، أي : طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو : حال من الضمير في " لتركبن " أي : مجاوزين لطبق. {فما لهم لا يؤمنون} ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، من أحوال يوم القيامة وأهوالها ، أي : إذا كان الأمر يوم القيامة كما ذكر ، فأيّ شيء حصل لهم حال كونهم غير مؤمنين ، أي : أيّ شيء يمنعهم من الإيمان ، وقد تعاضدت موجباته ؟ {وإِذا قُرىءَ عليهم القرآنُ لا يسجدون} ولا يخضعون ، وهي أيضاً جملة حالية ، نسقاً على ما قبلها ، أي : أيّ : مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة القرآن ؟ . قيل : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم : {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} [العلق : 19] فسجد هو ومَن معه من المؤمنين ، وقريش تُصَفِّق فوق رؤوسهم وتُصفِّر ، فنزلت. وبه احتجّ أبو حنيفة على وجوب السجدة وعن ابن عباس : " ليس في المفصل سجدة " ، وبه قال مالك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سجد فيها ، وقال : " والله ما سجدت إلاّ بعد أن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد
272
فيها " ، وعن أنس رضي الله عنه : " صليتُ خلف أبي بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ فسجدوا ". ولعلهم لم يبلغهم نسخ سجدتها.
(8/417)
{بل الذين كفروا يُكذّبون} بالقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها ، مع تحقُّق موجبات تصديقهم ، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته {واللهُ أعلم بما يُوعدون} ؛ بما يُضمرون في قلوبهم ، ويُخفون في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء ، أو : بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ، ويدّخرون لأنفسهم من أنواع العذاب ، {فبشَّرهم بعذابٍ أليمٍ} ؛ أخبرهم يظهر أثره على بشرتهم ، {إِلاَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات} ، استثناء منقطع ، {لهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ} ؛ غير مقطوع ، أو غير ممنونٍ به.
(8/418)
الإشارة : أقسم تعالى بنور بداية الإيمان ونهايته ، وما اشتمل عليه ليل الحجاب من أنواع العُمال ، فقال تعالى " فلا أُقسم بالشفق " ؛ بنور بداية الإيمان ، الذي هو كبياض الشفق ، " والليل وما وسق " ؛ وليل الحجاب ، وما اشتمل عليه من العُبّاد والزُهّاد والأبرار والعلماء الأتقياء ، وقمر الإيمان إذا جنح نوره ، وقَوِيَ دليله " لتَركبُن " أيها السالكون ، طبقاً عن طبق ؛ حالاً بعد حال ، حتى تنتهوا إلى شمس العيان ، فأول الأحوال : حال التوبة ، ثم حال اليقظة ، ثم حال المجاهدة في خرق عوائد النفس ، ثم حال المراقبة ، ثم حال الاستشراف ، على الحضرة ، ثم حال المشاهدة ، ثم حال المعاينة ، ثم حال المكالمة ، ثم حال الترقِّي إلى ما لا نهاية له. فما لهم ، أي : لأهل الإنكار ، لا يؤمنون بسلوك هذا الطريق ، وإذا قُرىء عليهم القرآن الدالّ على هذا المنهاج لا يخضعون ولا يتدبرونه حق تدبيره ، بل الذين كفروا بطريق الخصوص ، يُكّبون بها. والله أعلم بما يوعون في قلوبهم من الأمراض والعيوب ، أو من الإنكار ، فبشِّرهم بعذاب البُعد والحجاب ، إلاَّ الذين آمنوا وصدّقوا بطريق الخصوص ، وسَلَكوها معهم ، لهم آجر ، وهو مقام الشهود ، غير ممنون ؛ غير مقطوع ، بل تترادف الأنوار والأسرار والكشوفات إلى غير نهاية ، أو : غير ممنون به ، بل مواهب من الله بلا مِنّة. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
273
جزء : 8 رقم الصفحة : 271(8/419)
سورة البروج
جزء : 8 رقم الصفحة : 273
يقول الحق جلّ جلاله : {والسماءِ ذات البروج} الأثني عشر ، وهي الحَمَل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت. شُبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارة ، وتكون فيها الثوابت ومنازل القمر ، أو : عُظْم الكواكب ، سُميت بروجاً لظهورها ، من : التبرُّج ، أي الظهور ، أو : أبواب السماء ، فإنَّ النوازل تخرج منها ، {واليومِ الموعودِ} أي : يوم القيامة.
{وشاهدٍ ومشهودٍ} أي : وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه ، والمراد بالشاهد : مَن يشهد فيه من الخلائق كلهم ، وبالمشهود فيه : ما في ذلك اليوم من عجائبه وأهواله ، إذا أُريد بالشهود : الحضور ، وإذا أريد الشهادة ، فيُقَدّر المعمول ، أي : مشهود عليه أو مشهود به. وقد اضطربت الأقوال في الشاهد والمشهود ، فقيل : الشاهد : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود : سائر الأمم ؛ لأنه يشهدون عليهم كما تقدّم وقيل : الشاهد : عيسى
276
عليه السلام ، والمشهود : أمته ، لقوله : {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة : 117] ، وقيل : الشاهد : جميع الأنبياء ، والمشهود : أممهم ، وقيل : الشاهد : الملائكة الحفظة ، والمشهود : الناس ، لأنهم يشهدون عليهم يوم القيامة. وقيل : الشاهد : الجوارح ، والمشهود عليهم : أصحابها وقيل : الشاهد : الله والملائكة وأولو العلم ، والمشهود به : الوحدانية ، لقوله تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ} [آل عمران : 18] الخ. وقيل : الشاهد : جميع المخلوقات ، والمشهود به : وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة... وغير ذلك.(8/420)
وقيل : الشاهد : النجم ، للحديث : " لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد " أي : النجم والمشهود : الليل ، لأن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل. وقيل : الشاهد : الحجر الأسود ، والمشهود : الناس يحجون ، لأنه يشهد عليهم يوم القيامة لمَن قَبّله أو لمسه. وقيل : الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة ، لأنَّ يوم الجمعة يشهده بالأعمال ، ويوم عرفة يشهده الناس ، وهذا مروي عنه صلى الله عليه وسلم. وقيل : الشاهد : يوم عرفة ، والمشهود : يوم النحر. قاله عليّ رضي الله عنه ، انظر ابن جزي. وقيل : الشاهد : الأيام والليالي ، والمشهود : بنو آدم ، للحديث " ما من يوم إلاَّ وينادي : أنا يوم جديد ، وعلى ما يُفعل به شهيد ، فاغتنمني " وكذلك تقول الليلة ، وأنشدوا :
جزء : 8 رقم الصفحة : 276
مضى أمْسُك الماضي شهيداً معدّلاً
وخُلّفتَ في يوم عليك شهيدُ
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة
فَثَنهْ بإحسانٍ وأنت حميدُ
ولا تُرْج فعْل الخير يوماً إلى غدٍ
لعل غداً يأتي وأنت فقيدُ
فيومُك إن أتعبتَه نفعه غدا
عليك وماضي العَيْش ليس يعودُ
وجواب القسم إمّا محذوف يدلّ عليه : {قُتل...} الخ ، كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء أنّ كفار قريش ملعونون كما لُعن {أصحابُ الأخدود} أو : هو قتل بعينه على حذف اللام ، لطول الكلام ، أي : لقد قُتل أصحاب الأخدود ، والمراد : تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان ، وتصبيرهم على أذى الكفرة ، وتذكيرهم بما جرى على مَن تقدمهم من التعذيب ، وصبرهم على ذلك ، حتى يأنسوا ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ، ويعلموا أنَّ هؤلاء الكفرة بمنزلة أولئك ، ملعونون مثلهم. والأخدود : الخد في الأرض ، أي : الشق.
275
(8/421)
رُوي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان لبعض الملوك ساحر ، فلمّا كبر ، قال للملك : قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلّمه السحر ، فضمّ إليه غلاماً ليعلّمه ، وكان في طريق الغلام راهبٌ ، فسمع منه وأعجبه ، وكان يحتبس عنده ، فيضربه الساحرُ ، فقال له الراهبُ : إذاخشيت الساحرَ ، فقل له : حبسني أهلي ، وإذا خشيتَ أهلك ، فقل : حبسني الساحرُ ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس ، وقيل : كانت أسداً ، وقيل : ثُعباناً ، فأخذ حجراً ، وقال : اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها ، فقتلها ، وكان الغلام تعلَّم من الساحر اسم الله الأعظم ، فكان الغلام يُبرىء الأكمه والأبرص ، ويشفي من الأدواء ، فعمي جليس الملكُ فأبراه ، وأبصره الملكُ ، فقال : مَن ردَّ عليك بصرك ؟ فقال : ربي ، فغضب ، فعذّبه ، فدلّ على الغلام ، فعذّبه ، فدلّ على الراهب ، فلم يرجع عن دينه ، فقدّ بالمنشار ، وأبى الغلامُ ، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا ، فرجف بالقوم ، فطاحوا ، ونجا ، فذهب به إلى قُرْقُورة ـ وهي السفينة ـ فلجَجوا به ليغرقوه ، فدعا ، فانكفأتْ بهم السفينةُ ، فغرقوا ، ونجا ، فقال للملك : لستَ بقاتلي حتى تجمع الناسَ في صعيد ، وتصلبني على جذع ، وتأخذ سهماً من كنانتي ، وتقول : بسم الله ربّ الغلام ، ثم ترميني به ، فرماه فوقع في صدغه ، فوضع يده عليه ومات. فقال الناس : آمنا بربّ الغلام ، فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فخدّ أخدوداً ، فملأها ناراً ، فمَن لم يرجع عن دينه طرحه فيها ، حتى جاءت امرأة معها صبيٌّ ، فتقاعست ، فقال الصبيّ : يا أماه! اصبري ، فإنك على الحق ، فاقتحمت بصبيها. وقيل لها : قعي ولا تنافقي ، ما هي إلاّ غميضة " والحديث في صحيح مسلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 276
(8/422)
واسم الغلام : عبد الله بن الثامر ، واسم الراهب : فيميون ، واسم الملك : ذو نواس. وقد ذكر القصة الكلاعي بتمامها. وقيل : تعددت قضية الأخدود ، فكانت واحدة بنجران باليمن ، والأخرى بالشام ، والأخرى بفارس ، فنزل القرآن في الذي بنجران. انظر التثعلبي. قال سعيد بن المسيب : كنا عند عمر ، إذ ورد عليه أنهم وجدوا ذلك الغلام حين حفروا خربة ، وأُصْبعه على صُدْغِه كما قتل ، فكلما مدت يده رجعت مكانها ، فكتب عمر : أن واروه حيث وجدتموه.هـ.
وقوله تعالى : {النارِ} ؛ بدل اشتمال من " الأخدود " فحذف الضمير ، اي : فيه ، وقيل : قاعدة الضمير أغلبية ، و {ذات الوقود} وصَفٌ لها بغاية العظم ، وارتفاع اللهب ، وكثرة ما يوجبه من الحطب وأبدان الناس ، {إِذ هم عليها قعودٌ} ؛ ظرف لقُتل ، أي : لُعنوا حين حرّقوا المؤمنين بالنار ، قاعدين عليها في مكان مشرف عليها من جنبات الأخدود ،
276
{وهم معلى ما يفعلون بالمؤمنين} من الأحراق {شُهودٌ} يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنَّ أحداً منهم لم يُقَصِّر فيما أمر به ، وفوّض إليه من التعذيب ، أو : : إنهم {شهود} يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة ، يوم تشهد عليهم ألسنتُهم ، وقيل : " على " بمعنى " مع " أي : وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور ، ولا يَرقّون لهم ، لغاية قسوة قلوبهم. وهذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم ، وتنطق به الروايات المشهورة.
وقد رُوي أنَّ الجبابرة لمّا ألقوا بالمؤمنين في النار ، وهم قعود عليها ، علقت بهم النار ، فاحترقوا ، ونجّا اللهُ المؤمنين سالمين ، وإلى هذا القول ذهب الربيعُ بن أنس والواحدين وعلى ذلك حملا قوله تعالى : {ولهم عذاب الحريق}.
{وما نَقَمُوا منهم} أي : وما عابوا منهم وأنكروا عليهم ، يقال : نقم ـ بالفتح والكسر : عاب ، أي : عابوا منهم {إِلاَّ أن يؤمنوا بالله} وهذا كقول الشاعر :
ولا عَيْبَ فيهم غير أنَّ سيوفهم
بهن فُلولٌ من قِرَاع الكتائبِ
(8/423)
وكقوله تعالى : {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج : 40] وعبّر بلفظ المضارع ، ولم يقل : إلاَّ أن آمنوا ، مع أنَّ القصة قد وقعت ، لإفادة أنَّ التعذيب إنما كان دوامهم على الإيمان ، ولو كفروا بالرجوع عن الإيمان في المستقبل لم يعذبوهم. وقوله تعالى : {العزيزِ الحميدِ} ، ذكر الأوصاف الذي يستحقّ بها أن يؤمن به ، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً ، يُخشى عقابه ، حميداً منعماً ، يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه ، ليقرر أنَّ وصف الإيمان الذي عابوا منهم وصف عظيمٌ ، له جلالة ، وأنَّ مَن رام صاحبه بالانتقام والعيب كان مبطلاً مبالغاً في الغي ، يستحق أن ينتقم منه بعذاب لا يُقادر قدره.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 276
الذي له ملك السمواتِ والأرض} فكل مَن فيها يحق عليه عبادته والخضوع له ، {واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ} وعيد لهم شديد ، يعني : أنه تعالى عَلِمَ بما فعلوا وسيجازيهم عليه.
{إِنَّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي : محقوهم في دينهم ليرجعوا عنه ، والمراد بهم : إمّا أصحاب الأخدود خاصة ، وبالمفتونين : المطروحين في الأخدود ، وإمّا الذين بَلوْهم في ذلك بالإذاية والتعذيب على الإطلاق ، وهم داخلون في جملتهم دخولاً أولياً. قال ابن عطية : الأشبه أنَّ المراد بهؤلاء قريش ، حيث طانوا يُعَذَّبون مَن أسلم ، ويقويه بعض التقوية : قوله تعالى : {ثم لم يتوبوا} لأنه رُوي : أنّ أصحاب الأخدود ماتوا على كفرهم ، وأمّا قريش فكان منهم مَن تاب بعد نزول الآية.هـ. مختصراً. {فلهم عذابُ
277
(8/424)
جهنَّمَ} في الآخرة لكفرهم ، {ولهم عذابُ الحريق} في الدنيا لِما تقدّم أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ، أو : عذاب الحريق : نار أخرى عظيمة تحرقهم في الآخرة ، لسبب فتنتهم للمؤمنين. والجملة : خبر " إن " ودخلت الفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط ، ولا ضَرَرَ في نسخة بـ " إنَّ " وإن خالف في ذلك الأخفش. الإشارة : والسماء ذات البروج ، أي : سماء الحقائق ، صاحبة المنازل التي تنزل فيها السالك في ترقِّبه إليها ، مَن أرض الشرائع ، كمقام التوبة ، ثم الصبر ، ثم الورع ، والزهد ، ثم التكُّل ، ثم الرضا والتسليم ، ثم المراقبة ، ثم المشاهدة ، واليوم الموعود يوم الفتح الأكبر ، وهو وقت الخروج من شهود الكون إلى شهود المكوِّن ، وشاهد هو الذي يشهد ذات الحق عياناً ، ومشهود ، هو عظمة الذات العلية وأسرارها وأنوارها. وقال الورتجبي : الشاهد هو والمشهود هو ، يرى نفسه بنفسه ، أي : لا يراه أحد بالحقيقة سواه ، وأيضاً : الشاهد هو ، إذا تجلّى بتجلِّي الجمال والحس ، والمشهود قلوب العارفين شاهَدَها بنعت الكشف ، وأيضاً : اشاهد هو قلوب المحبين ، والمشهود لقاؤه ، وهو شاهدهم وهو مشهودهم ، هو شاهد العارف والعارف شاهده.هـ. قُتل أصحابُ الأخدود ، وهم الصادُّون عن طريق الحق أينما كانوا وكيف كانوا ، المعذِّبون لأهل التوجه ، وما نقموا منهم إلاّ طلب كمال الإيمان ، وتحقيق الإيقان. إنّ الذي فتنوا أهل التوجه ثم لم يتوبوا فلهم عذاب البُعد ولهم عذاب الاحتراق بالحرص والتعب والخوف والجزع.
ثم ثنى بأضدادهم ، فقال :
جزء : 8 رقم الصفحة : 276
(8/425)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنّ الذين آمنوا} وصبروا على الإيمان {وعَمِلوا الصالحات} من المفتونين وغيرهم {لهم} بسبب ذلك الإيمان والعمل الصالح {جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ} ، إن أُريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أُريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جريها الظاهرة ، فإنَّ أشجارها ساترة لساحتها ، كما يعرب عنه اسم الجنة. {ذلك هو الفوزُ الكبير} الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها ، والفوز : النجاة من الشر والظفر بالخير. والإشارة إمّا إلى الجنة الموصوفة بما ذكر ، والتذكير لتأويلها بما ذكر ، وإمّا إلى ما يفيده قوله : {لهم جنات...} الخ ، من حيازتهم لها ، فإنَّ حصولها لهم مستلزم لحيازتهم لها قطعاً ، وما فيه
278
من البُعد للإيذان بعلو درجته ، وبُعد منزلته في الفضل. ومحله : الرفع ، وخبره : ما بعده.
(8/426)
{إِنَّ بطشَ ربك لشديدٌ} ، البطش : الأخذ بعنف ، فإذا وُصف بالشدة فقد تفاقم وتعاظم أمره. والمراد : أخذ الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام ، وهو استئناف ، خواطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنَّ لكفار قوهه نصيباً موفوراً من مضمونه ، كما يُنبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره صلى الله عليه وسلم. {إِنه هو يُبدىء ويُعيد} أي : هو يُبدىء الخلق وهو يُعيده ، من غير دخلٍ لأحد في شيء منها. ففيه مزيد تقرير لشدة بطشه ، فقد دلّ باقتداره على البدء والإعادة على شدة بطشه ، أو : هو يُبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويُعيده في الآخرة. {وهو الغفورُ} الساتر للعيوب ، الغافر للذنوب ، {الودودُ} المحب لأوليائه ، أو : الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود ، من إعطائهم ما أرادوا ، {ذو العرش} أي : خالقه ومالكه ، وقيل : المراد بالعرش : المُلك ، أي : ذو السلطة القاهرة {المجيدُ} بالجر صفة للعرش ، وبالرفع صفة لذُو ، أي : العظيم في ذاته ، فإنه واجب الوجود ، تام القدرة {فعَّالٌ لما يُريد} بحيث لا يتخلّف عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال عباده ، ففيه دلالة على خلق أفعال العباد ، وهو خبر عن محذوف.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 278
هل أتاك حديثُ الجنود} أي : قد أتاك حديث الطاغية والأمم الخالية. وهو استفهام تشويق مقرر لشدّة بشطه تعالى بالظَلَمة العصاة ، والكفرة العتاة. وكونه فعال لما يُريد مع تسليته صلى الله عليه وسلم بأنه سيصيب قومه صلى الله عليه وسلم ما أصاب تلك الجنود. {فرعونَ وثمودَ} ؛ بدل من الجنود ؛ لأنَّ المراد بفرعون هو وقومه. والمراد بحديثهم : ما صدر منهم من التمادي على الكفر والضلال ، وما حلّ بهم من العذاب والنكال ، أي : قد أتاك حديثهم ، وعرفت ما فعل بهم ، فذكّر قومك ببطش الله تعالى ، وحذّرهم أن يُصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم.
(8/427)
{بل الذين كفروا في تكذيبٍ} ، إضراب عن مماثلتهم ، وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان ، كأنه قيل : ليسوا مثلهم في ذلك ، بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب ، فإنهم مستقرُّون في تكذيبٍ شديد للقرآن الكريم ، أو كأنه قيل : ليست جنايتهم مجرد عدم التذكُّر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم ، بل هم مع ذلك في تكذيب شديدٍ للقرآن الناطق بذلك ، لكن لا أنهم يكذبون بوقوع تلك الحادثات ، بل لكون ما نطق به قرآناً من عند الله تعالى مع وضوح أمره ، وظهور حاله ، بالبينات الباهرة. {واللهُ من ورائهم محيط} ؛ عالم بأحوالهم ، قادر عليهم ، لا يفوتونه. وهو تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوات المحاط المحيط.
{بل هو قرآن مجيد} أي : بل هذا الذي كذّبوا به قرآن شريف عالي الطبقة في الكتب السماوية ، وفي نظمه وإعجازه ، وهو رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم ، وتحقيق للحق ، أي : ليس الأمر كما قالوا ، بل هو كتاب شريف {في لوح محفوظ} من التحريف والتبديل. وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن ، والباقي بالجر صفة للوح ، أي : محفوظ من
279
وصول الشياطين إليه. واللوح عند الحسن : شيء يلوح للملائكة يقرؤونه ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : هو من درّة بيضاء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، قلمه نور ، وكل شيءٍ فيه مسطور. قال مقاتل : هو عن يمين العرش ، وقيل : أعلاه معقود بالعرش ، وأسفله في حِجْرِ ملَك كريم هـ.
(8/428)
الإشارة : إنَّ الذين آمنوا إيماناً حقيقيًّا شهوديًّا ، وعملوا الصالحات بأيدي القلوب والأرواح والأسرار ، يعني العمل الباطني ، لهم جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم ، ذلك هو الفوز الكبير والسعادة العظمى. إنَّ بطش ربك بأهل الإنكار الجاحدين لأهل الخصوصية لَشَدِيد ، وهو غم الحجاب وسوء الحساب ، إنه هو يُبدىء ويُعيد ، يُبدىء الحجاب للمحجوبين ، ويُعيد الشهود للعارفين ، وهو الغفور للتائبين المتوجهين ، الودود للسائرين المحبين. قال الورتجبي : الغفور للجنايات ، الودود بكشف المشاهدات. هـ. ذو العرش : ذو السلطة القاهرة على العوالم العلوية والسفلية. قال الورتجبي : وصف نفسه بإيجاد العرش ، ثم وصف نفسه بالشرف والتنزيه ، أي : بقوله : {المجيد} إعلاماً بأنه كان ولا مكان ، والآن ليس في المكان ، إذ جلاله وجماله منزَّه عن مماسة المكان ، والحاجة إلى الحدثان. هـ. قال القشيري : ويجوز أن يكون المراد بالعرش : قلب العارف المستَوي للرحمن ، كما جاء الحديث : " قلب العارف عرش الله " هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 278
(8/429)
فعّال لما يُريد ، يُقرِّب البعيد ويُبعد القريب إن شاء. قال القشيري : إنْ أراد أن يجعل أرباب الأرواح من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك ، وهو عادل في ذلك ، وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك. هـ. فلذا كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، هل أتاك حديث الجنود ، أي : جنود النفس التي تُحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض الأسفل ، ثم فسّرها بفرعون الهوى ، وثمود حب الدنيا ، والطبع الدني. بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب ، لهذا كله ، فلا يُفرقون بين الروح والنفس ، ولا بين الفرق والجمع ، والله من ورائهم محيط ، لا يفوته شيء ، لإحاطة المحيط بالأشياء ذاتاً وصفاتاً وفعلاً ، بل هو ـ أي : ما يوحي إلى الأسرار الصافية ، والأرواح الطاهرة ـ قرآن مجيد في لوح محفوظ عن الخواطر والهواجس الظلمانية ، وهو قلب العارف. والله تعالى أعلم.
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
280
جزء : 8 رقم الصفحة : 278(8/430)
سورة الطارق
جزء : 8 رقم الصفحة : 280
يقول الحق جلّ جلاله : {والسماءِ والطارقِ} ، عظّم تعالى قَدْر السماءِ في أعين الخلق ؛ لكونها معدن رزقهم ، ومسكن ملائكته ، وفيها خلق الجنّة ، فأقسم بها وبالطارق ، والمراد : جنس النجوم ، أو جنس الشهُب التي يُرجم بها ، لعِظم منفعتها ، ثم عظَّمه ونوّه به ، فقال : {وما أدراك ما الطارقُ} بعد أن فخّمه بالإقسام به ، تنبيهاً على رفعة قدره بحيث لا يناله إدراك الخلق ، فلا بد من تلقَّيه من الخلاّق العليم ، أي : أيّ شيء أعلمك بالطارق ، ثم فسّره بقوله : {النجمُ الثاقبُ} ؛ المضيء ، فكأنّه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل ، كما يُقال للآتي ليلاً : طارق ، أو : لأنه يطرق الجنِّيَّ ، أي : يُصكّه. وقيل : المراد به كوكب معهود ، قيل : هو الثريا ، وقيل زُحل ، وقيل الجدي.
ثم ذكر المقسَم عليه ، فقال : {إِن كُلُّ نفسٍ لمَّا عليها حافظٌ} ، " إن " نافية ، و " لمّا " بمعنى " إلاّ " في قراءة مَن شدّدها ، وهي لغة هذيل ، يقولون : " نشدتك الله لمّا قمت " أي : إلاّ قمت ، أي : ما كل نفس إلاّ عليها حافظ مهيمن رقيب ، وهو الله عزّ وجل ، كما في قوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [الأحزاب : 52] أو : مَن يحفظ عملها ، ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر ، كما في قوله تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10)} [الانفطار : 10] أو : مَن يحفظها من الآفات ، ويذب عنها ، كما في قوله تعالى : {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ
281
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد : 11] ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " وكِّل بالمؤمن ستون ومائة ملك ، يذبون عنه ما لم يُقدّر عليه ، كما يذب عن قصعة العسل الذبابَ ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم : {إن كل نَفْس..} الخ. و " ما " : صلة في قراءة من خفف ، أي : إنه ، أي : الأمر والشأن كل نفس لعليها حافظ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 281(8/431)
فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق} ، لمّا ذكر أنَّ على كل نفسٍ حافظاً ، أمره بالنظر في أوّل نشأته ، وبالتفكُّر فيها حق التفكُّر ، حتى يتضح له أنَّ مَن قَدَر على إنشائه من موادٍ لم تشم رائحة الحياة قط ، فهو قادر على إعادته ، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويُجزى به ، ولا يملي على حافظه ما يُرديه ، فالفاء فصيحة تُنبىء عن هذه الجُمل ، أي : إذا علم أنَّ على كل إنسان حفظة يحفظونه من الآفات ، أو يكتبون أعماله ، خيره وشرها ، دقيقها وجليلها ، وأنه لم يُخلَق عبثاً ، ولم يُترك سُدى ، فلينظر في أول نشأته حتى يتحقق أنَّ له صانعاً ، فيعبده ولا يشرك به شيئاً ، ثم فسَّر أصل نشأته فقال : {خُلق من ماء دافقٍ} ، فهو استئناف بياني ، كأنه قيل : مِمَّ خُلق ؟ فقال : خُلق من ماء دافق ، والدفق : صبٌّ فيه دفعٌ وسرعة ، والدفق في الحقيقة لصاحبه ، والاستناد إلى الماء مجاز ، ولم يقل : من ماءين ؛ لامتزاجهما في الرحم واتحادهما. {يَخرج من بين الصُلب والترائب} أي : صُلب الرجل وترائب المرأة ، وهي عِظام صدرها ، حيث تكون القلادة ، وقيل : العظم والعصب من الرَجل ، واللحم والدم من المرأة ، وقال بعض الحكماء : إنَّ النظفة تتولد من فضل الهضم الرابع ، وتنفصل عن جميع الأعضاء ، حتى تستعد لأنّ يتولّد منها مثل تلك الأعضاء ومقرها عروق مُلتف بعضها على بعض عند البيضتيْن ، فالدماغ أعظم معونة في توليدها ، ولذلك كان الإفراط في الجماع يُورث الضعف فيه ، وله خليفة هو النخاع ، وهو في الصلب ، وفيه شُعب كثيرة نازلة إلى الترائب ، وهما أقرب إلى أوعية المَني ، فلذا خُصّا بالذكر ، فالمعنى على هذا : يخرج من بين صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها ، وهو الأحسن ، وبه صدر ابن جزي.
(8/432)
{إِنه} أي : الخالق ، لدلالة " خُلِق " عليه ، أي : إنَّ الذي خلق الإنسانَ ابتداء من نُطفة ، {على رَجْعِه} ؛ على إعادته بعد موته {لقادرٌ} بيّن القدرة. وجِيء بـ " إنّ " واللام وتنكير الخبر ليدل على رد بليغ على مَن يدّعي أنه لا حشر ولا بعث ، حتى كأنه لا تتعلق القدرة بشيء إلاَّ بإعادة الأرواح إلى الأجساد ، {يومَ تُبلى السرائرُ} أي : تكشف ويُتصفَّح ما فيها من العقائد والنيات وغيرها ، وما أخفي من الأعمال ، ويتبين ما طاب منها وما خبث. والسرائر : القلوب ، هو ظرف لـ " رَجْعِه " ، أي : إنه لقادر على رده بالبعث في هذا
282
اليوم الذي تُفضح فيه السرائر ، {فما له مِن قوةٍ} في نفسه يمتنع بها {ولا ناصرٍ} ينتصر به ويدفع عنه غير الله تعالى. ولمّا كان رفع المكان في الدنيا إمّا بقوة الأنسان ، وإمّا بنصر غيره له ، أخبر الله بنفيهما يوم القيامة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 281
(8/433)
الإشارة : أقسم تعالى بقلب العارف ، لأنه سماءٌ لشمس العرفان وقمرِ الإيمان ونجوم العلم ، وبما يطرقه من الواردات الإلهية والنفحات القدسية ، ثم نوّه بذلك الطارق ، فقال : {وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب} أي : هو نجم العلم الثاقب لظلمة الجهل ، إمّا جهل الشرائع أو جهل الحقائق. إن كُلُّ نفس لمّا عليها حافظ ، وهو الله ، فإنه رقيب على الظواهر والبواطن ، ففيه حث على تدقيق المراقبة ظاهراً وباطناً. فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق في عالم الحكمة من جهة بشريته ، خُلق من ماء دافق ، يخرج من محل البول ويقع في محل البول ، فإذا نظر إلى أصل بشريته تواضع وانكسر ، وفي ذلك عِزُّه وشرفُه ، مَن تواضع رفعه الله. وفيه روح سماوية قدسية ، إذا اعتنى بها وزكّاها ، نال عز الدارين وشرف المنزلين " مَن عرف نفسه عرف ربه " فالإنسان من جهة بشريته أرضي ، ومن جهة روحانيته سماوي ، والحُكم للغالب منهما. إنه على رجعه : أي : رده إلى أصله ، حين برز من عالم الغيب ، بظهور روحه ، لقادر ، فيصير روحانيًّا سماويًّا ، بعد أن كان بشريًّا أرضيًّا ، وذلك يوم تُبلى السرائر بإظهار ما فيها من المساوىء ، ليقع الدواء عليها ، فتذهب ، فمَن لم يَفضح نفسه لم يظفر بها ، فما لها من قوةٍ على جهادها وإظهار مساوئها بين الأقران إلاّ بالله ، ولا ناصر ينصره على الظفر بها إلاَّ مِن الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 281
(8/434)
يقول الحق جلّ جلاله : {والسماءِ ذات الرجع} أي : المطر ، لأنه يرجع حيناً بعد حين ، وسمَّته العرب بذلك تفاؤلاً ، {والأرضِ ذات الصَّدْع} أي : الشق ، لأنها تنصدع عن النبات والأشجار ، لا بالعيون كما قيل ، فإنَّ وصف السماء بالرجع ، والأرض بالشق ، عند الإقسام بها على حقيّة القرآن الناطق بالبعث ؛ للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده ، وهو السر في التعبير عنه بالرجع والصدع ، لأنَّ في تشقُّق الأرض بالنبات محاكاة للنشور ، حسبما ذكر في مواضع من القرآن ، لا في تشققها بالعيون. {إِنه} أي : القرآن {لَقَولٌ فَصْلٌ} ؛ فاصل بين الحقّ والباطل ، كما قيل له : فرقاناً ، وصفَه بالمصدر ، كأنه نفس الفعل ، {وما هو بالهزلِ} أي : ليس في شيء منه شائبة هزل ، بل كله جد محض ، ومِن حقه ـ حيث وصفه الله بذلك ـ أن يكون مُهاباً في الصدور ، معظماً في القلوب ، يرتفع به قارئه وسامعه ، ويهتدي به الغواة ، وتخضع له رقاب العُتاة.
283
{إِنهم} أي : أهل مكة {يَكيدون} في إبطال أمره ، وإطفاء نوره {كيداً} على قدر طاقتهم {وأكيدُ كيداً} أي : أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده ، فأسْتدرجهم إلى الهلاك من حيث لا يعلمون. فسمي جزاء الكيد كيداً ، كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداءً وسيئة ، وإن لم يكن اعتداءً وسيئة ، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلاَّ على وجه المشاكلة ، كقوله : {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء : 142] إلى غير ذلك {فَمَهِّل الكافرين} أي : لا تدع بهلاكهم ، ولا تشغل بالانتقام منهم ، بل اشتغل بالله يكفِك أمرهم {أمهِلهم رُويداً} أي : إمهالاً يسيراً ، فـ " أمهِلهم " : بدل من " مَهِّل " ، وخالف بين اللفظتين لزيادة التسكين والتصبير. و " رويداً " : مصدر أرود ، بالترخيم ، ولا يتكلم به إلاَّ مصغراً ، وله في الاستعمال وجهان آخران : كونه اسم فعل ، نحو رُويد زيداً ، وكونه حالاً ، نحو : سار القوم رويداً ، أي : متمهلين.
(8/435)
الإشارة : اعلم أنَّ الحقيقة سماء ، والشريعة أرض ، والطريقة سُلّم ومعراج يصعد إليها ، فمَن لا طريقة له لا عروج له إلى سماء الحقائق ، فأقْسَم تعالى بسماء الحقائق ، وأرض الشرائع ، على حقيّة القرآن ، ووصف الحقيقة بالرجع ، لأنه يقع الرجوع إليها بالفناء ، ووصف أرض الشريعة بالصَدْع ؛ لأنها تتصدّع عن علوم وأنوار تليق بها ، ووصف القرآن بالفصل بين الحق والباطل ، فمَن طلب الحق من غيره أضلّه الله. ووصفه أيضاً بالجدّ غير منسوب لشيء من الهزل ، فينبغي للقارىء عند تلاوته أن يكون على حال هيبة وخشوع ، لا يمزج قراءته بشيء من الهزل أو الضحك ، كما يفعله جهلة القراء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 283
ثم أمر بالغيبة عن الأعداء ، والاشتغال بالله عنهم بقوله : {فَمَهِّل الكافرين أمهلهم رويداً} ، قال بعض العارفين : لا تشتغل قط بمَن يؤذيك ، واشتغل بالله يرده عنك ، فإنه هو الذي حرَّكه عليك ليختبر دعواك في الصدق ، وقد غلط في هذا خلق كثير ، اشتغلوا بإذاية مَن آذاهم ، فدام الأذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى الله لكفاهم أمرهم. هـ.
وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
284
جزء : 8 رقم الصفحة : 283(8/436)
سورة الأعلى
جزء : 8 رقم الصفحة : 284
يقول الحق جلّ جلاله : {سَبّح اسمَ ربك} أي : نزّه اسمه تعالى عن الإلحاد فيه ، بالتأويلات الزائغة ، وعن إطلاقه على غيره بوجهٍ يوجب الاشتراك في معناه ، فلا يُسمى به صنم ولا وثن ولا شيء مما سواه تعالى ، قال تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم : 65] فلا يُقال لغيره تعالى : رب وإله ، وإذا كان أَمَر بتنزيه اللفظ فتنزيه الذات أحرى ، أو : نزّه اسمه عن ذكره لا على وجه الإجلال والإعظام ، أو : نزّه ذاته المقدَّسة عما لا يليق بها ، فيكون " اسم " صلة. و " الأعلى " صفة لرب ، وهو الأظهر. وعُلوه تعالى : قهريته واقتداره ، أو : تعاليه عن سمة الحدوث وعن مدارك العقول ، فلا يُحيط به وصف واصف أو علم عارف ، لا علو مكان. أو صفة للاسم ، وعلوه بعلو مسماه ، وقيل : قل : سبحان ربي الأعلى. لمّا نزل : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة : 74] قال صلى الله عليه وسلم : " اجعلوه في ركوعكم " فلما نزل : {سبح اسم ربك الأعلى} قال : " اجعلوه في سجودكم " وكانوا يقولون في الركوع : لك ركعت ، وفي السجود : لك سجدت ، فجعلوا هذا مكانه.
{الذي خلق فسَوَّى} أي : خلق كل شيء فسَوَّى خلقه ، ولم يأتِ به متفاوتاً غير متلائم ، ولكن على إحكام وإتقان ، دلالةً على أنه صادر عن عالم حكيم ، أو : سَوَّاه على ما يتأتى به كماله ويتيسّر به معاشه ، {والذي قَدَّر فهدى} أي : قّدَّر الأشياء في أزله ، فهدى
285(8/437)
كل واحد إلى ما سبق له من شقاوة وسعادة ، ورزقٍ وأجل ، أو : ما قَدَّر لكل حيوان ما يُصلحه ، فهداه إليه ، وعرَّفه وجه الانتفاع به ، فترى الولد بمجرد خروجه من بطن أمه يلتمس غذاه ، وكذا سائر الحيوانات ، فسبحان المدبِّر الحكيم : {الذي أخرج المرعى} أي : أنبت ما ترعاه الدواب غضًّا طريًّا ، {فجعله} بعد ذلك {غُثاءً} يابساً هشيماً {أحوى} ؛ أسود ، فـ " أحوى " صفة لغُثاء ، وقيل : حال من المرعى ، أي : أخرجه أحوى من شدة الخضرة ، فمضت مدة ، فجعله غثاءً يابساً. وهذه الجمل الثلاث صفة للرب. ولمّا تغايرت الصفات وتباينت أتى لكل صفة بموصول. وعطف على كل صلة ما يترتب عليها.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/438)
سنُقرئك فلا تنسى} أي : سنعلمك القرآن فلا تنساه ، وهو بيان لهدايته تعالى الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم ، إثر بيان هدايته العامة لكافة مخلوقاته ، وهي هدايته صلى الله عليه وسلم لتلقي الوحي ، وحفظ القرآن الذي هو أهدى للعالمين ، مع ضمانه له. والسين إمّا للتأكيد ، وإمّا لأنَّ المراد إقراء ما أوحي إليه حنيئذٍ وما سيوحى إليه ، فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء ، أي : سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام ، أو : سنجعلك قارئاً فلا تنسى أصلاً ، من قوة الحفظ والإتقان مع أنك أُمِّي لا تدري ما الكتاب وما القراءة ، ليكون ذلك آية أخرى لك ، مع ما في تضاعيف ما تقرأ من الآيات البينات من حيث الإعجاز ، ومن حيث الإخبار بالمغيبات. وقوله تعالى : {إلاَّ ماشاء اللهُ} : استثناء مفرغ من أعم المفاعيل ، أي : فلا تنسى شيئاً من الأشياء إلاَّ ما شاء الله أن تنساه ؛ بأن ننسخ تلاوته ، وهذا إشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي ، فلا يتفلت منه شيءٌ ، إلاَّ ما شاء الله نسخه ، فيذهب به عن حفظه ، ويرفع حُكمه وتلاوته. قال الكواشي : إلاَّ ما شاء اللهُ أن ننسيكه على سبيل النسخ ، أو تنساه ثم تذكره بعد. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أسقط آية في الصلاة ، فظنّ أُبي أنها نُسخت ، فسأله ، فقال : " نسيتها " ، قال الشيخ السنوسي : والمحققون على منع النسيان لشيءٍ من الأقوال البلاغية قبل التبليغ ، لإجماع السلف ، وأما بعد التبليغ ، فجائز ؛ لأنه من الأعراض البشرية. هـ. وفي الحديث : " إنما أنا بشَرٌ ، أنسى كما تَنْسَوْن ، فإذا نسيتُ فذكِّروني " الحديث. فالسهو في حق الأنبياء جائز ، لأنه من قهرية الربوبية ، لتتميز به العبودية من الربوبية ، فليس بنقصٍ في حقهم ، بل كما ، ليحصل التشريع والاقتداء. وقيل : " لا " ناهية ، وإثبات الألف للفاصلة ، كقوله : {السَّبِيلاْ} [الأحزاب : 67] أي : لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه ، إلاَّ ما شاء الله أن ينسيك(8/439)
برفع تلاوته ، وهو ضعيف.
{إِنه يعلم الجهرَ وما يخفى} أي : يعلم ما ظهر وما بطن ، التي من جملتها ما أوحى
286
إليك ، فينسى ما شاء اللهُ إنساءه ، ويبقى محفوظاً ما شاء إبقاءه ، أو : يعلم جهرك بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلُّت ، وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر ، أو : ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان ، وما تجهر به ، أو : يعلم ما أعلنتم وما أسررتم من أقوالكم وأفعالكم ، وما ظهر وما بطن من أحوالكم. قال الورتجبي : السر والعلانية عنده تعالى سواء ، إذا هو يبصرهما ببصره القديم ، ويعلمهما بالعلم القديم ، وليس في القِدم نقص ، بحيث يتفاوت عنده الظاهر والباطن ؛ إذ هناك الظاهر هو الباطن ، والباطن هو الظاهر ؛ لأنَّ الظاهر ظهر من ظاهريته ، والباطن من باطنيته. هـ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
ونُيسّرك لليُسرى} ، معطوف على " سنقرئك " وما بينهما اعتراض ، أي : ونوفّقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، وهي الشريعة السمحة التي هي أسهل الشرائع ، أو : نوفّقك توفيقاً مستمراً للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين ، علماً وتعليماً ، هداية واهتداءً ، فيندرج فيه تلقي الوحي والإطاحة بما فيه من الأحكام التشريعية السمحة ، والنواميس الإلهية ، مما يتعلق بتكميل نفس صلى الله عليه وسلم وتكميل غيره ، كما يفصح عنه قوله : {فذَكِّر..} الخ. وتخصيص التيسير به عليه السلام ، مع أنه يسري إلى غيره ، للإيذان بقوة تمكنه صلى الله عليه وسلم من اليسرى والتصرُّف فيها ، بحيث صار ذلك ملكة راسخة له ، كأنه عليه السلام جُبل عليها. قاله أبو السعود.
(8/440)
الإشارة : نزِّه ربك أن ترى معه غيره ، وقدِّسه عن الحلول والاتحاد ، قال القشيري : أي : سبِّح ربك بمعرفة أسمائه ، واسبَح بسرّك في بحر عطائه ، واستخرج من بواهر علوه وسناه ما ترفع به عند مدحه من ثنائه. هـ. قال الورتجبي : أي : نزِّه اسمه عن أن يكون له سميًّا ، من العرش إلى الثرى ، حتى يكون بقدس اسمه مقدساً عن رؤية الأغيار ، ويصل بقدس اسمه إلى رؤية قدس الصفات ، ثم إلى رؤية قدس الذات. هـ. (الأعلى) فوق كل شيء ، والقريب دون كل شيء ، فهو عليٌّ في قربه ، قريب في علوه ، ليس فوقه شيء ، وليس دونه شيء ، الذي خلق ؛ أظهر الأشياءَ فسوَّى صورتها ، وأتقن خلقها. والذي قدّر المراتب ، فهدى إلى أسباب الوصول إليها ، والذي أخرج المرعى ، أي : ما ترعى في بهجته وحسن طلعته الأرواح من مظاهر الذات ، وأنوار الصفات ، فجعله غثاءً أحوى ، فتلوّن من طلعة الجمال إلى قهرية الجلال. قال القشيري : أخرج المرعى : أي : المراتع الروحانية لأرباب الأرواح والأسرار والقلوب ، لِيَرْعَوا فيها أعشاب المواهب الإلهية والعطايا اللاهوتية ، وأخرج المراتع الجسمانية لأصحاب النفوس الأمَّارة والهوى المتبع ، ليرتعوا فيها من كلأ اللذات الحيوانية الشهوانية. هـ. سنقرك : سنلهمك من العلوم والأسرار ما تعجز عنه العقول ، فلا تنسى ، إلاّ ما شاء اللهُ أن تنساه ، إنه يعلم الجهر ، أي : ما يصلح أن تجهر به من تلك العلوم ، وما يخفى وما يجب إخفاءه عن غير أهله. ونُيسرك للطريقة اليُسرى ، التي تُوصل إلى الحضرة الكبرى. قال القشيري : أي : طريق السلوك إلى
287
الله وهي الجذبة الرحمانية التي توازي عمل الثقلين. هـ. فحينئذ تصلح للدعاء إلى الله والتذكير به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/441)
يقول الحق جلّ جلاله : {فَذَكِّرْ} الناسَ حسبما سَيّرناك له بما يُوحى إليك من الحق الهادي إلى الحق ، واهدهم إلى ما فيه سعادتهم الأبدية ، كما كنت تفعل ، أي : دُم على تذكيرك. وتقييد التذكير لِمَا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طالما كان يُذَكرِّهم ويستفرغ جهده في وعظهم ، حرصاً على إيمانهم ، فما كان يزيد ذلك لبعضهم إلاَّ نفوراً ، فأمر عليه السلام أن يخص الذكر بمظان النفع في الجملة ، بأن يكون مَن يُذَكِّره ممن يُرجَى منه التذكُّر ، ولا يتعب نفسه في تذكير مَن لا ينفعه ولا يزيده إلاّ عتوًّا ونفوراً ، ممن طَبع اللهُ على قلبه ، فهو كقوله : {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [قَ : 45] وقوله تعالى : {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىا عَن ذِكْرِنَا} [النجم : 29] وقيل المعنى : ذَكّر إن نفعت وإن لم تنفع ، فحذف المقابل ، كقوله : {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل : 81] ، واستبعده ابن جُزي ؛ لأنَّ المقصود من الشرط استبعاد إسلامهم ، كقوله : عظ زيد إن سمع منك ، تريد : إن سماعه بعيد ، ونسب هذا ابن عطية لبعض الحُذَّاق ، قلت : الأَوْلى حمل الآية على ظاهرها ، وأنه لا ينبغي الوعظ إلاّ لمَن تنفعه وتؤثر فيه ، وأمّا مَن تحقّق عناده فلا يزيده إلاّ عناداً ، والقرائن تكفي في ذلك.
{سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى} ؛ سيتعظ ويقبل التذكرة مَن يخشى الله تعالى {ويَتجنَّبُها} أي : يتأخر عنها ولا يحضرها ولا يقبلها {الأشقى} الذي سبق له الشقاء ، أو : أشقى الكفرة لتوغُّله في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم. قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. {الذي يَصْلَى النارَ الكبرى} أي : الطبقة السفلى من طبقات جهنم ، وقيل : الكبرى نار جهنم ، والصغرى : نار الدنيا ، لقوله عليه السلام : " ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم " ، {ثم لا يموتُ فيها} حتى يستريح {ولا يحيا} حياة تنفعه ، و " ثم " للتراخي في مراتب الشدة ؛ لأنَّ التردُّد بين الموت والحياة أفظع من الصليِّ.
{
(8/442)
جزء : 8 رقم الصفحة : 288
قد أفلحَ} أي : نجا من كل مكروه وظفر بكل ما يرجوه {مَن تَزَكَّى} أي : تطهّر من الكفر المعاصي بتذكيرك ووعظك ، {وذَكَرَ اسمَ ربه} بقلبه ولسانه {فصَلَّى} ؛ أقام الصلوات الخمس ، أو : أفلح مَن زكَّى ماله ، وذكر الله في صلاته ، كقوله : {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ
288
لِذِكْرِيا} [طه : 14] فيكون تفعَّل من الزكاة ، أو : أفلح مَن تزكّى : أخرج زكاة الفطر ، وذكر اسم ربه في طريق خروجه إلى أن يخرج الإمام ، فصَلّى صلاةَ العيد ، وقد روي هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فتكون الآية مدنية ، أو : إخباراً بما سيكون ، إذ لم تُشْرَعْ زكاة الفطر ، ولا صىلا العيد إلاَّ بالمدينة.
{بل تُؤْثِرون الحياةَ الدنيا} على الآخرة ، فلا تفعلون ما به تفلحون ، وهو إضراب عن مُقَدَّر ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح : فلا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية ، فتسعون لتحصِيلها ، وتشتغلون بذلك عن التزوُّد للأخرة ، {والآخرةُ خير وأبقى} أي : خير في نفسها ، لنفاسة نعيمها ، وخلوصه من شوائب التكدير ، وأدوم لا انصرام له ولا تمام. والخطاب للكفرة. بدليل قراءة الغيب ، وإيثارها حينئذ : نسيانها بالكلية ، والإعراض عنها ، أو : للكل ، فالمراد بإيثارها : هو ما لا يخلوا الناس منه غالباً ، من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي ، إلاّ القليل. قال الغزالي : إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان ، قَلَّ مَن ينفك عنه ، ولذلك قال تعالى : {بل تؤثرون الحياة الدنيا}. وجملة : {والآخرة...} الخ : حال من فاعل {تُؤثرون} مؤكد للتوبيخ والعتاب ، أ ي : تؤثرونها على الآخرة والحال أنها خير منها وأبقى ، قال بعضهم لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من طين يبقى ، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى ، لا سيما والأمر بالعكس. هـ.
(8/443)
وقوله تعالى : {إِنَّ هذا لفي الصُحف الأُولى} الإشارة إلى قوله : {قد أفلح مَن تزكّى} إلى قوله : {وأبقى} ، قال ابن جزي : الإشارة إلى ما ذكر قبل من الترهيب من الدنيا ، والترغيب في الآخرة ، أو : إلى ما تضمنته السورة ، أو : إلى القرآن ، والمعنى : إنه ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين. هـ. وقوله تعالى : {صحف إِبراهيمَ وموسى} بدل من " الصُحف الأُولى ".
جزء : 8 رقم الصفحة : 288
وفي حديث أبي ذر : قلت : يا رسول الله : كم كتاباً أنزل اللهُ ؟ قال : " مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان " قال : قلت : يا رسول الله : ما كانت صُحف إبراهيم عليه السلام ؟ قال : " كانت أمثالاً كلها ، أيها الملك المسلّط المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكن بعثتك لِتَرُدّ على دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو من كافر. وكان فيها : وعلى العاقل أن تكون له ساعات ، ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يُحاسب فيها نفسه ، وساعة يُفكر في صنع الله عزّ وجل إليه ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألاَّ يكون ظاعناً إلا لثلاث : تزور لمعاد ، أو مرمة لمعاش ، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه ، ومَن حسب
289
(8/444)
كلامه من عمله قَلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه " قلت : يا رسول الله ؛ فما كانت صُحف موسى عليه السلام ؟ قال : " كانت عِبَراً كلها ؛ عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمَن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ـ أي يتعب ، عجبت لمَن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها ثم اطمأن إليها ، وعجبت لمَن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل " قلت : يا رسولَ الله ؛ وهل في الدنيا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى ، مما أنزل الله عليك ، قال : " نعم ، اقرأ يا أبا ذر : {قد أفلح مَن تزكى..} الآية إلى السورة " ثم قال : قلت : يا رسول الله ، أوصني. قال : " أوصيك بتقوى الله عزّ وجل ، فإنه رأس أمرك " قلت : زدني ، قال : " عليك بتلاوة القرآن وذكرِ الله عزّ وجل ، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض " قلت : يا رسول الله ؛ زدني ، قال : " إياك وكثرة الضحك ، فإنه يُميت القلب ، ويذهب بنور الوجه " ، قلت : يا رسول الله ؛ زدني ، قال : " عليك بالجهاد ، فإنه رهبانية أمتي " ، قلت : يا رسول الله ؛ زدني ، قال : " عليك بالصمت إلاَّ مِن خير ، فإنه مطردة للشيطان ، وعون لك على أمر دنياك " هـ.
وعن كعب الأحبار أنه قال : قرأتُ في العشر صحف التي أنزل ا للهُ على موسى عليه السلام سبعة اسطار متصلة ، أول سطر منها : مَن أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على الله ، الثاني : مَن كانت الدنيا أكبر همه نزع اللهُ خوف الآخرة من قلبه ، الثالث : مَن شكى مصيبة نزلت به كأنما شكى الله عزّ وجل ، الرابع : مَن تواضع لِمَلِك مِن ملوك الدنيا ذهب ثلث دينه ، الخامس : مَن لا يبالي من أي الأبواب أتاه رزقه لم يُبال اللهُ من أي أبواب جهنم يدخله ـ يعني من حلال أو حرام ، السادس : مَن أتى خطيئَة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي ، والسابع : مَن جعل حاجته إلى آدمي جعل اللهُ الفقر بين عينيه. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 288
(8/445)
الإشارة : فَذكِّرْ أيها العارف الدالّ على الله إن نفعت الذكرى ؛ إن رجوتَ أو توهمتَ نفع تذكيرك ، فإن تحققتَ عدم النفع فلا تتعب نفسك في التذكير ، فربما يكون بطالة ، كتذكير العدو الحاسد لك ، أو المعاند ، أو المنهمك في حب الرياسة ، فتذكير هؤلاء ضرب في حديد بارد. وينبغي للمذَكِّر أن يكون ذا سياسة وملاطفة ، قال تعالى : {ادْعُ إِلِىا سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...} [النحل : 125]الخ ، والحكمة : هي أن تٌقر كلَّ واحد في حكمته ، وتدسه منها إلى ربه ، فأهل الرئاسة تقرهم فيها وتدلهم على الشفقة والرحمة بعباد الله ، وأهل الدنيا تُقرهم فيها وتدلهم على بَذلها ، وأهل العلم تُقرهم في علمهم وتحضهم على الإخلاص وبذل المجهود في نشره ، وأهل الفقر تقرهم فيه وتُرغبهم في الصبر... وهكذا ، فإن رأيتَ أحداً تشوّف إلى مقام أعلى مما هو فيه فدُلّه عليه ، وأهل التذكير لهم عند الله جاه كبير ، فأحَبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله ، كما في الحديث. وفي
290
حديث آخر : " إنَّ أود الأوداء إليَّ مَن يحبني إلى عبادي ، ويحبِّب عبادي إليّ ، ويمشي في الأرض بالنصيحة " أو كما قال عليه السلام :
(8/446)
{سَيذَّكَّر مَن يخشى} أي : ينتفع بتذكيري مَن يخشى الله ، وسبقت له العناية ، ويتجنّبها الأشقى : أي : ويعرض عنها مَن سبق له الشقاء. قال القشيري : الشقي : مَن يعرف شقاوته ، والأشقى : مَن لا يعرف شقاوته ، الذي يصلى النار الكبرى ، وهي الخذلان والطرد والهجران ، والنار الصغرى : تتبع الحظوظ والشهوات. هـ. ثم لا يموت فيها ولا يحيى ، أي : لا تموت نفسه عن هذا ، ولا تحيا روحه بشهود هؤلاء. قد أفلح مَن تَزَكَّى ، أي : فاز بالوصول مَن تطهَّر مِن هوى نفسه ، بأن طَهَّر نفسه من المخالفات ، وقلبه من الغفلات والدعوات ، وروحه من المساكنات إلى الغير ، وسره عن الأنانية ، بل تُؤثرون الحياة الدنيا عن التوجُّه إلى الحضرة القدسية ، والدار الآخرة التي يدوم فيها الشهود خير وأبقى ، وهذا الأمر ، وهو التزهيد في الدنيا ، والتشويق إلى الله ، في صُحف الرسل والأنبياء ، قال القشيري : لأنَّ التوحيد والوعد والوعيد لا يختلف في الشرائع. هـ. وقال الورتجبي : (إنَّ هذا) أي : الخروج عما سوى الله بنعت التجريد ، في صحف إبراهيم ، كما قال : {إِنِّي بَرِياءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام : 78] والإقبال على الله ، بقوله : {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام : 79] الخ. وفي صحف موسى : سرعة الشوق إلى جماله والندم على الوقوف في المقامات : بقوله : {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 143]. هـ. أي : وبقوله : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىا} [طه : 84]. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
291
جزء : 8 رقم الصفحة : 288(8/447)
سورة الغاشية
جزء : 8 رقم الصفحة : 291
يقول الحق جلّ جلاله : {هل أتاك حديثُ الغاشيةِ} أي : قد أتاك ، والأحسن : أنه استفهام أُريد به التعجُّب مما في حيّزه ، والتشويق إلى استماعه ، وأنه من الأحاديث البديعة التي من حقها أن تتناولها الرواية ، ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد. والغاشية : الداهية الشديدة التي تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها ، من قوله تعالى : {يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ} [العنكبوت : 55] الخ.
ثم فصّل أحوالَ الناس فيها ، فقال : {وجوه يومئذٍ خاشعةٌ} ، فهو استئناف بياني نشأ عن سؤال من جهته صلى الله عليه وسلم ، كأنه قيل : ما أتاني حديثها فما هو ؟ فقال : {وجوه يومئذ} أي : يوم إذ غشيت {خاشعة} ؛ ذليلة ، لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان ، و {وجوه} متبدأ ، سوّغه التنويع ، و(خاشعة) خبر ، و {عاملة ناصبة} : خبران آخران ، أي : تعمل أعمالاً شاقة في النار ، تتعب فيها مِن جرّ السلاسل والأغلال ، والخوض في النار خوض الإبل في الوحل ، والصعود والهبوط من تلال النار ووهادها ، وقيل : عملت في الدنيا أعمال السوء ، والتذّت بها ، فهي يومئذ ناصبة منها ، {تَصلى} أي : تدخل {ناراً حامية} ؛ متناهية في الحر مُدداً طويلة ، {تُسْقَى من عينٍ آنيةٍ} أي : من عين ماء متناهية في الحرّ ، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجع إلى الوجوه ، والمراد أصحابها ، بدليل قوله : {ليس لهم طعامٌ إِلاّ من ضريع} ، وهو نبت يقال لِرَطْبِه : الشَّبرِق على وزن زِبْرج ، تأكله الإبل رطباً فإذا يبس عافته ، وهو الضريع ، وهم سمٌّ قاتل ، وفي الحديث : " الضريع شيء
292(8/448)
في النار ، أمرُّ من الصبر ، وأنتن من الجيفه ، وأشد حَرًّا من النار " ، وقال ابن كيسان : هو طعام يضرعون منه ويذلّون ، ويتضرعون إلى الله تعالى طلباف للخلاص منه. وقال أبو الدرداء والحسن : يقبح اللهُ وجوهَ أهل النار يوم القيامة ، تشبيهاً بأعمالهم الخسيسة في الدنيا ، وإنَّ الله تعالى يُرسل على أهل النار الجوع ، حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون ، فيُغاثون بالضريع ، ثم يَستغيثون فيُغاثون بطعام ذي غُصّة ، فيذكرون أنهم كانوا يحيزون الغصص في الدنيا بالماء ، فيستسقون ، فيعطشهم ألف سنة ، ثم يسقون من غين آنية شديدة الحر ، لا هنيئة ولا مريئة ، فكلما أدنوه من وجوههم سلخ جلودَ وجوههم وشواها ، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها ، قال تعالى : {فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد : 15] هـ. والعذاب ألوان ، والمعذّبون طبقات ؛ فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم آكلة الضريع.. فلا تناقض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 292
ولمَّا نزلت هذه الآية ؛ قال المشركون : إنَّ إبلنا لتسمن من الضريع ، فنزلت : {لا يُسمن ولا يُغني من جوع} أي : ليس مِن شأنه الإسمان والإشباع ، كما هو شأن طعام أهل الدنيا ، وأنما هو شيء يضطرون إلى أكله دفعاً لضرورتهم ، والعياذ بالله من سخطه.
الإشارة : الغاشية هي الدنيا ، غشيت القلوب بظلمات محبتها ، ومودتها بحظوظها وشهواتها ، وجوه فيها يومئذ خاشعة ، بذُلّ طلبها ، عاملة بالليل والنهار في تحصيلها ، ناصبة في تدبير شؤونها ، لا راحة لطالبها أبداً حتى يأخذ الموت بعُنقه ، تصلى نار القطيعة والبُعد تُسقى من عين حر التدبير والاختيار ، ليس لطُلابها طعام لقلوبهم وأرواحهم إلاّ من ضريع شبهاتها أو حُرماتها ، لا يُسمن القلب عن هزال طلبها ، بل كلما زاد منها شيئاً ، زاد جوعه إليها ، ولا يغني الروح من جوع منها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 292
(8/449)
يقول الحق جلّ جلاله في بيان حال أهل الجنة ، بعد بيان حال أهل النار ، ولم يعطفهم عليهم ، بل أتى بالجملة استئنافية ؛ إيذاناً بكمال تباين مضمونيهما ، فقال : {وجوه يومئذٍ ناعمةٌ} أي : ذات بهجة وحُسن ، كقوله تعالى : {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)} [المطففين : 24] ، {لسعيها راضية} أي : لأجل سعيها في الدنيا هي راضية في الآخرة بما
293
أعطاها عليه من الثواب الجسيم ، أو : رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب ، {في جنةٍ عالية} علو المكان أو المقدار ، {لا تسمع فيها لاغية} أي : لغو ، أو كلمة ذات لغو ، أو نفسٌ لاغية ، فإنَّ كلام أهل الجنة كله أذكار وحِكم ، أو : لا تسمع يا مخاطَب ، فيمن بناه للفاعل.
{فيها عين جاريةٌ} أي : عيون كثيرة تجري مياهها ، كقوله : {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير : 14] أي : كل نفس ، {فيها سُررٌ مرفوعة} رفيعة السمْك أو المقدار ، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله رَبُّه من المُلك والنعيم ، {وأكواب موضوعة} بين أيديهم ليتلذذوا بالرؤية إليها ، أو موضوعة على حافات العيون مُعَدّة للشرب ، {ونمارقُ} ؛ وسائد ومرافق {مصفوفة} بعضها إلى جنب بعض ، بعضها مسندة ، وبعضها مطروحة ، أينما أراد أن يجلس جلس على وسادة ، وأستند إلى أخرى ، {وزرابيّ} أي : بُسُط فاخرة ، جمع " زِرْبيَّة " ، {مبثوثةٌ} ؛ مبسوطة ، أو مُفرّقة في المجالس.
(8/450)
ولمّا أنزل الله هذه الآيات ، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فسّرها بأنَّ ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ ، والأكواب الموضوعة لا تدخل تحت حساب ، لكثرتها ، وطول النمارق كذا ، وعرض الزاربيِّ كذا ، أنكر المشركون ذلك ، وقالوا : كيف يصعد على هذا السرير ؟ وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة ، وتطول النمارق هذا الطول ، وتُبسط الزاربي هذا الانبساط ، ولم نشهد ذلك في الدنيا ؟ ! ذكَّرهم الله بقوله : {أفلا ينظرون إِلى الإِبل كيف خُلقت} طويلة عالية ، ثم تبرك حتى تُركب ؛ ويحمل عليها ، ثم تقوم ، وكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما تطأطىء الإبل حتى يركب عليها ، أو : أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي نُصب أعينهم ، يستعملونها كل حين ، كيف خُلقت خلقاً بديعاً معدولاً عن سَنَن سائر الحيوانات ، في عظم جثتها وشدّة قوتها ، وعجيب هيئاتها اللائقة بتأتي ما يصدر منها من الأفاعيل الشاقة ، كالنوْء بالأوقار الثقيلة ، وحمل الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة ، وفي صبرها على الجوع والعطش ، حتى إنَّ ضمأها ليبلغ العشْر فصاعداً ، واكتفائها باليسير ، ورعيها كل ما تيسّر من شوك وشجر ، وانقيادها إلى كل صغير وكبير ، حتى إن فأرة أخذت بزمام ناقة فجرته إلى غارها ، فتبعتها الناقة إلى فم الغار. وفي الإبل خصائص أُخر تدل على كمال قدرته تعالى ، كالاسترواح مع الحَدَّاء إذا عيت ، إلى ما فيها من المنافع من اللحوم والألبان والأوبار والأشعار ، وغير ذلك ، والظاهر ما قاله الإمام ، وتبعه الطيبي ، من أنه احتجاج بشواهد قدرته تعالى على فاتحة السورة من مجيء الغاشية ، وأنَّ المخبر بها قادر عليها ، فيتوافق العقل والنقل. هـ. قاله المحشي.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 293
(8/451)
وإِلى السماء كيف رُفعت} رفعاً بعيداً بلا عُمُد ولا مُسَّاك ، أو بحيث لا ينالها فَهم ولا إدراك ، {وإِلى الجبال} التي ينزلون في أقطارها ، وينتفعون بمياهها وأشجارها في رعي تلك الإبل وغيرها {كيف نُصبت} نصباً رصيناً ، فهي راسخة لا تميل ولا تميد ،
294
{وإِلى الإرض كيف سُطحت} سطحاً بتوطئة وتمهيد وتسوية حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق.
قال الجلال : وفي الآية دليل على أنَّ الأرض سطح لا كرة ، كما قال أهل الهيئة ، وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع. هـ. وفي ابن عرفة ، في قوله تعالى : {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ...} [الزمر : 5] أنَّ الآية تدل على أنَّ السماء كروية ، قال : لأنَّ من لوازم تكويرهما تكوير محلهما لاستحالة تعلقهما دون مكان. هـ. وفي الأبي : الذي عليه الأكثر من الحكماء وغيرهم أنَّ السموات والأرض كرتان. هـ.
(8/452)
الإشارة : وجوه يومئذ ناعمة بلذة الشهود والعيان ، لأجل سعيها بالمجاهدة ، راضية ، حيث وصَّلتها إلى صريح المشاهدة ، في جنة عالية ، جنان المعارف ، لا تسمع فيها لاغية ؛ لأنَّ أهلها مقدّسون من اللغو والرفث ، كلامهم ذكر ، وصمتهم فكر ، فيها عين جارية من قلوبهم بالعلوم والحِكم ، فيها سُرر المقامات مرفوعة ، يرتفعون منها إلى المعرفة ، وأكواب موضوعة ؛ كِيسَان شراب الخمرة ، وهي محافل الذكر والمذاكرة ، ونمارق مصفوفة ، وسائد الرّوح والريحان حيث سقطت عنهم الكلف ، ورموا حِملهم على الحي القيوم ، وزرابي مبثوثة ؛ بُسط الأنس في محل القدس ، أفلا يستعملون الكفرة والنظرة ، حتى تقيم أرواحهم في الحضرة ، فإنَّ الفكرة سِراج القلب ، فإذا ذهبت فلا إضاءة له ، وهي سير القلب إلى حضرة الرب ، فينظرون إلى الإبل كيف خُلقت ، فإنه تجلي غريب ، وإلى السماء كيف رُفعت به ، وإلى الأرض كيف سُطحت من هيبته ، وقال : القشيري : الإبل : النفوس الأمّارة ، لقوله عليه السلام : " الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة " هـ وإلى الأرواح كيف رُفعت ؛ لأنها محل أفكار العارفين ، وإلى جبال العقل كيف نُصبت لتمييز الحس من المعنى ، والشريعة من الحقيقة ، وإلى الأرض البشرية كيف سُطحت ، حيث استولت عليها الروحانية ، وتصرفت فيها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 293
يقول الحق جلّ جلاله : {فَذَكِّر} الناس بالأدلة العقلية والنقلية ، {إنما أنت مُذكِّّر} ليس عليك إلاَّ التبليغ {لستَ عليهم بمصيطرٍ} ؛ بمسلط ، كقوله : {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} [قَ : 45] ، وفيه لغات : السين ، وهي الأصل ، والصاد ، والإشمام. {إِلاَّ مَن تولَّى وكَفَرَ فيعذبه اللهُ العذابَ الأكبر} ، الاستثناء منقطع ، أي : لست بمُسلط عليهم ، تقهرهم على
295
(8/453)
الإيمان ، لكن مَن تولى وكفر ، فإنَّ لله الولاية والقهر ، فهو يعذبه العذاب الأكبر ، وهو عذاب جهنم ، وقيل : متصل من قوله : (فذكر) أي : فذَكِّر إلاَّ مَن انقطع طمعك من إيمانه وتولَّى ، فاستحق العذاب الأكبر ، وما بينها اعتراض.
{إِنَّ إِلينا إِيابهم} ؛ رجوعهم ، وفائدة تقديم الظرف : التشديد في الوعيد ، وأنَّ إيابهم ليس إلاَّ للجبّار المقتدر على الانتقام ، {ثم إِنَّ علينا حسابهم} فنُحاسبهم على أعمالهم ، ونجازيهم جزاء أمثالهم ، و " على " لتأكيد الوعيد لا للوجوب ، إذ لا يجب على الله شيء. وجمع الضمير في إيابهم وحسابهم ، باعتبار معنى " من " ، وإفراده فيما قبله باعتبار لفظها ، و " ثم " للتراخي في الرتبة لا في الزمان ، فإنَّ الترتيب الزماني إنما هو بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم. انظر أبا السعود.
الإشارة : ما قيل للرسول يُقال لخلفائه من أهل التذكير ، ومَن تولَّى منهم يُعذَّب بعذاب الفرق والحجاب وسوء الحساب. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
296
جزء : 8 رقم الصفحة : 295(8/454)
سورة الفجر
جزء : 8 رقم الصفحة : 296
يقول الحق جلّ جلاله : {والفجر} ، إمّا وقته ، أقسم به لشرفه ، كما أقسم بالصُبح ، لِمَا في ذلك من الاقتدار ، أو : صلاته ؛ لكونها مشهودة ، {وليالٍ عشر} ؛ عشر ذي الحجة ، أو العشر الأُول من المحرم ، أو الأواخر من رمضان ، ونُكِّرت للتفخيم ، {والشفع والوتر} أي : شفع كل الأشياء ووترها ، أو : شفع هذه الليالي ووترها ، أو : شفع الصلوات ووترها ، أو : يوم النحر ، لأنه اليوم العاشر ، ويوم عرفة لأنه التاسع ، أو الخلق والخالق ، او صلاة النافلة والوتر بعدها ، أو الأعداد ؛ لأنَّ منها شفعاً ومنها وتراً ، والمختار العموم ، كأنه تعالى أقسم بكل شيء ؛ إذ لا يخلو شيء من أن يكون شفعاً وهو الزوج ، أو وتراً وهو الفرد ، والوتر بالفتح والكسر لغتان.
ولمَّا أقسم بالليالي المخصوصة ، أقسم بالليالي على العموم ، فقال : {والليلِ إِذا يَسْرِ} إذا ذهب ، أو : يسري فيه السائر ، وقيل : أُريد به ليلة القدر ، وحُذفت الياء في الوصل ؛ اكتفاءً بكسرتها ، وسُئل الأخفش عن سقوطها ، فقال للسائل : لا أجيبك حتى تخدمني سنة ، فسأله بعد سنة ، فقال : الليل لا يسري ، وإنّما يُسرى فيه ، فلمّا عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقةً. هـ. ويرد عليه : أنها حُذفت في كلمات كثيرة ، ليس فيها هذه العلة.
{هل في ذلك} أي : فيما أقسمت به من هذه الأشياء {قَسَمٌ} أي : مٌقسم به ، أو
297
إقسام ، والمعنى : مَن كان ذا لُبٍّ عَلِمَ أنَّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية ، فهو حقيق بان يُقسم به ، وهذا تفخيم لشأن المقسَم بها ، وكونها أموراً جليلة حقيقة بالإقسام بها لذوي العقول ، وهذا كقوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} [الواقعة : 76] وتذكير الإشارة لتأويلها بما ذكر ، وما فيها من معنى البُعد للإيذان ببُعد مرتبة المشار إليه ، وبُعد منزلته في الشرف والفضل ، {لذي حِجْرٍ} ؛ لذي عقل ؟ سُمِّي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي ، كما سُمِّي عقلاْ ونُهْيَةً لأنه يعقل صاحبه وينهاه عن الرذائل ؛ والمعنى : هل يحقُّ عند ذوي العقول أن تُعَظَّم هذه الأشياء بالإقسام بها ؟ أو : هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر ، أي : هل هو قسم عظيم يؤكّد بمثله المقسَم عليه ؟ أو : هل في القسم بهذه الأشياء قسم مُقنع لذي لُب وعقل ؟ والمقسَم عليه محذوف ، أي : لتهلكنّ يا معشر الكفار ثم لتبنؤن بالحساب ، يدلّ عليه قوله تعالى :
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 297(8/455)
ألم تَرَ كيف فعل ربُّك بعادٍ} فإنه استشهاد بعلمه صلى الله عليه وسلم بما فعل بعاد وأضرابهم المشاركين لقومه صلى الله عليه وسلم في الطغيان والفساد ، أي : ألم تعلم علماً يقيناً كيف عذَّب ربُّك عاداً ونظائرهم ، فيُعذّب هؤلاء أيضاً لاشتراكهم فيما يوجبه من الكفر والمعاصي ، والمراد بعاد : أولاد عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام قوم هود عليه السلام ، سُمُّوا باسم أبيهم ، وقد قيل لأوائلهم : عاد الأولى ، ولآخرهم عاد الآخرة ، وقوله تعالى : {إِرَمَ} عطف بيان لعاد ؛ للإيذان بأنهم عاد الأولى بتقدير مضاف ، أي : سبط إرم ، أو : أهل إرم ، على ما قيل : من أنَّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها ، كقوله : {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] ، ويؤيده قراءة ابن الزبير بالإضافة ، ومنعت الصرف للتعريف والتأنيث ، قبيلةً ، كانت أو أرضاً. وقوله تعالى : {ذاتِ العماد} صفة لإِرم ، فإذا كانت قبيلة فالمعنى : أنهم كانوا بدويين أهل عمد ، أو : طِوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة ، وإن كانت صفة للبلدة ، فالمعنى : أنها ذات عماد طِوال لخيامهم على قدر طول أجسامهم ، رُوي : أنها كانت من ذهب ، فلما أرسل اللهُ عليهم الريح دفنتها في التراب ، أو ذات أساطين.
(8/456)
رُوي : أنه كان لعاد ابنان شدّاد وشديد ، فمَلَكا وقَهَرا ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد ، فملك الدنيا ، ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنة ، فقال : أبني مثلها ، فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة ، وهي مدينةٌ عظيمةٌ ، قصورها من الذهب والفضة ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار ، ولمَّا تمَّ بناءها سار إليها بأهل مملكته ، فلمّا كان منها على مسيرة يوم وليلةٍ ، بعث اللهُ عليه صيحة من السماء فهلكوا ، وقيل : غطتها الريح بالرمل فما غمًّا عليها. وعن عبد الله بن قلابة : أنه خرج في طلب إبل له ، فوقع عليها ، فحمل ما قدر عليه ممّا ثمَّ ، فبلغ خبره معاوية ، فاستحضره فقصَّ عليه ، فبعث إلى كعب فسأله ، فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك ، أحمر أشقر ، قصير ، على حاجبه
298
خال ، وعلى عنقه خال ، يرخج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن قلابة ، فقال : هذا واللهُ ذلك الرجل. انظر الثعلبي.
{التي لم يُخْلَق مثلُها في البلاد} أي : مثل عادٍ في قوتهم ، كان الرجل منهم يحمل الصخرة ، فيجعلها على الحق فيهلكهم ، وطُولِ قامتهم ، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع ، أو : لم يُخلق مثل مدينة " شدّاد " في جميع بلاد الدنيا ، ذكر في القوت : أنَّ بعض الأولياء قال : دخلتُ مائة مدينة ، أصغرها إرم ذات العماد ، ثم قال : وقوله تعالى على هذا : {لم يخلق مثلها في البلاد} أي : بلاد اليمن. هـ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 297
وثمودَ الذين جابوا الصَّخْرَ بالوادِ} أي : قطعوا صخر الجبال ، واتخذوا فيها بيوتاً ، قيل : أوّل مَن نحت الجبال والصخور ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينةٍ كلها من الحجارة ، والمراد بالواد وادي القُرى ، وقيل غيره. والوادي : ما بين الجبلين ، وإن لم يكن فيه ماء.
(8/457)
{وفرعونَ ذي الأوتاد} أي : وكيف فعل بفرعون صاحب الأوتاد ، أي : الجنود الكثيرة ، وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي كانوا يضربونها في منازلهم إذا نزلوا ، وقيل : كان له أوتاد يُعذّب الناسَ بها ، كما فعل بآسية. {الذين طَغَوا في البلاد} ؛ تجاوزوا الحدّ ، والموصول إمّا مجرور صفة للمذكورين ، أو منصوب ، أو مرفوع على الذم ، أي : طغى كل طائفة منهم في بلادهم ، وكذا قوله تعالى : {فأكثَرُوا فيها الفسادَ} بالكفر القتل والظلم ، {فصبَّ عليهم ربُّك} أي : أنزل إنزالاً شديداً على كل طائفة من أولئك الطوائف عقب ما فعلت من الطغيان والفساد {سوطَ عذابٍ} أي : عذاباً شديداً لا يُدرك غايته ، وهو عبارة عما حلَّ بكل واحدٍ منهم من فنون العذاب التي بُينت في سائر السور الكريمة ، وتسميته سوطاً ؛ للإشارة إلى أنَّ ذلك بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في الآخرة بمنزلة السوط عند السيف ، والتعبير بالصب ، للإيذان بشدته وكثرته ، واستمراره ، أي : عُذِّبوا عذاباً دائماً مؤلماً ، والعياذ بالله من أسباب المحن.
الإشارة : أقسم تعالى بأول فجر نهار الإحسان ، وتمام قمر نور الإيمان ، ليلة العشر ، وشفعية الأثر ، ووتر الوحدة ، لتُسْتَأصلَن القواطع عمن توجه إليه بالصدق والإخلاص ، ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد النفس الأمّارة العاتية ، الشبيهة بعاد إرم ذات العماد في العتو ، التي لم يُخلق مثلُها في البلاد ؛ في بلاد القواطع ، إذ هي أقبح من سبعين شيطاناً ، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي. القشيري : يشير إلى ثمود القوة الشهوانية القاطعة لصخرات الشهوات الجثمانية ، وفرعون ذي الأوتاد ، يُشير إلى فرعون القوة الغضبية ، وكثرة تباعته ، وأنواع عقوباته وتشدداته. هـ. فأكثَروا فيها الفساد ، أي : مدينة القلب ، فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب بأنواع المجاهدات والرياضات ، ممن أراد الله تأييده وولايته.
299
جزء : 8 رقم الصفحة : 297
(8/458)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ ربك لبالمرصاد} ، قال ابن عباس : بحيث يرى ويسمع فلا يعزب عنه شيء ، ولا يفوته أحد ، فتجب مراقبته لا الغفلة عنه في الانهماك في حب العاجلة ، كما أشار إليه بقوله : {فأمّا الإنسان..} الخ ، فإنه بضد المراد مما تقتضيه حال المراقبة لمَن بالمرصاد. هـ. وأصل المرصاد : المكان الذي يترقّب فيه الرَّصَد ، أي : الانتظار ، مفعال ، من : رصَده ، كالميقات من وقته ، وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة ، وأنهم لا يفوتونه ، قال الطيبي : لمّا بيّن تعالى ما فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون ، حيث صَبَّ عليهم سوط العذاب ، أتبعه قوله : {إِنَّ ربك لبالمرصاد} تخلُّصاً ، أي : فعل بأولئك ما فعل ، وهو يرصد هؤلاء الكفار الذين طغوا على أفضل البشر وسيد الرسل ، مما جاء به من الأمر بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور ، والنهي عن سفسافها ، ورذائلها ، فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب ، ويُعذبهم في الآخرة عذاباً فوق كل عذاب ، كما قال : {لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} [الفجر : 25].
جزء : 8 رقم الصفحة : 300
(8/459)
ثم فصّل أحوال الناس بعد أن أعلم أنه مطلع عليهم ، فقال : {فأمّا الإِنسانُ} ، فهو متصل بما قبله ، كأنه قيل : إنه تعالى بصدد مراقبته أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيراً أو شرًّا {فأمّا الإنسان} الغافل فلا يهمه ذلك ، وإنما مطمح نظره ومرصد أفكاره الدنيا ولذائذها ، {إِذا ما ابتلاه ربُّه} أي : عامله معاملة مَن يبتليه ويختبره {فأكْرَمَه ونَعَّمه} ، الفاء تفسيرية ، فالإكرام والتنعُّم هو عين الابتلاء ، {فيقول ربي أكرمنِ} أي : فضّلني بما أعطاني من الجاه والمال حسبما كنت أستحقه ، ولا يخطر بباله أنه أعطاه ذلك ليبلوه أيشكر أم يكفر ، وهو خبر المتبدأ الذي هو " الإنسان " ، والفاء لما في " أمَّا " من معنى الشرط ، والظرف المتوسط على نية التأخُّر ، كأنه قيل : فأمّا الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام ، وإنما قدّمه للإيذان من أول مرة بأنّ الإكرام والتنعُّم بطريق الابتلاء. ونقل الرضي أن " إذا " هنا جزائية ، فقال : وقد تقع كلمة الشرط مع الشرط في جملة أجزاء الجزاء ، ثم استشهد بالآية ، وقال : والتقدير : فمهما يكن من شيء فإذا ابتلاه يقول. هـ. وقال المرادي : إذا توالى شرطان دون عطف فالجواب لأولهما ، والثاني مقيد للأول ، كتقييده بحال واقعة موقعه ، ثم استشهد بما حاصله في الآية : فأمّا الإنسان حال كونه مبتلى فيقول... الخ ، فالشرط الثاني في معنى الحال ، والحال لا تحتاج إلى جواب. هـ. مختصراً انظر الحاشية الفاسية.
300
(8/460)
{وأمّا إِذا ما ابتلاه فَقَدَرَ عليه رزقَه} أي : ضَيّق عليه رزقه ، وجعله بمقدار بلغته ، حسبما تقتضيه ميشئته المبينة على الحِكَم البالغة ، {فيقول ربي أهاننِ} ، ولا يخطر بباله أنَّ ذلك لِيبلوه أيصبر أم يجزع ، مع أنه ليس من الإهانة في شيءٍ بل التقتير قد يُؤدي إلى كرامة الدارين ، والتوسعة قد تفضي إلى خسرانهما ، فالواجب لمَن علم أنَّ ربه بالمرصاد منه أن يسعى للعاقبة ، ولا تَهمّه العاجلة ، وهو قد عكسن فإذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر قال ربي أكرمني ، وفضّلني بما أعطاني ، فيرى الإكرام في كثرة الحظّ من الدنيا ، وإذا امتحنه بالفقر ، فَقَدَر عليه رزقه ليصبر ، قال : ربّي أهانني ، فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا ؛ لأنه لا يهمه إلاَّ العاجلة ، وهو ما يلذّه وينعِّمه فيها ، وإنما أنكر قوله : {ربي أكرمن} مع أنه أثبته بقوله : {فأكرمه ونعَّمه} ، لأنه قاله على قصد خلاف ما صحّحه الله عليه وأثبته ، وهو قصده إلى أن الله أعطاه إكراماً له لاستحقاقه ، كقوله : {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِيا} [القصص : 78] وإنما أعطاه الله ابتلاءً من غير استحقاق منه ، فردّ تعالى عليه زعمه بقوله : {كلاَّ} أي : ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلّته ، بل الإكرام في التوفيق للطاعة ، والإهانة في الخذلان فـ " كلا " ردع للإنسان عن مقالته ، وتكذيب له في الحالتين ، قال ابن عباس : المعنى : لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ ، بل ذلك بمحض القضاء والقدر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 300
(8/461)
وقوله تعالى : {بل لا تُكرِمون اليتيمَ} انتقال من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله ، والالفتات إلى الخطاب ؛ للإيذان بمشافهته بالعتاب ، تشديداً للتقريع ، وتأكيداً للتشنيع ، والجمع باعتبار معنى الإنسان ، إذ المراد به الجنس ، أي : بل لكم أحوال أشد شرًّا مما ذكر ، وأدل على تهالككم على المال ، حيث يُكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبّرة به.
{ولا تَحاضُّون على طعام المسكين} أي : يحض بعضُكم بعضاً على إطعام المساكين ، {وتأكلون التراثَ} أي : الميراث ، وأصله الوُراث ، فقلبت الواو تاء ، {أكلاً لمّا} أي : ذا لَمّ ، وهو الجمع بين الحلال والحرام ، فإنهم كانوا لا يُورِثون النساء والصبيان ، ويأكلون أنصباءهم ، ويأكلون كل ما تركه المُورّث من حلال وحرام ، عالمين بذلك ، {وتُحبون المالَ حباً جماً} أي : كثيراً شديداً ، مع الحرص ومنع الحقوق ، {كَلاًّ} ردعٌ عن ذلك ، وإنكارٌ عليهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إنَّ ربك لبالمرصاد ، المطلع على أسرار العباد ، العالم بمَن أقبل عليه أو أدبر عنه ، ثم يختبرهم بالجمال والجلال ، فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربُّه فأكْرَمه ونَعَّمَه في الظاهر ، فيقول ربي أكرمني ، ويبطر ويتكبّر ، وأمّا إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني ، ويقنط ويتسخّط ، كَلاَّ لِينزجرا عن اعتقادهما وفعلهما ، وليعلما أنه اختبار من الحق ، فمَن شكر النِعم ، وأطعم الفير والمسكين ، وأبرّ اليتيم والأيم ، كان من الأبرار ،
301
(8/462)
وإن عكس القضية كان من الفُجّار ، ومَن صبر على الفقر ، ورضي بالقسمة ، وفرح بالفاقة ، فهو من الأولياء ، ومَن عكس القضية كان من البُعداء ، فَمن نظر الإنسان القصير ظنُ النقمة نعمة ، والنعمة نقمة ، فبسطُ الدنيا على العبد قبل معرفته بربه هوانٌ ، وقبضها عنه أحسان ، وفي الحكم : " ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك ". ثم زجر الحقُّ تعالى عن التمتُّع الشهواني البهيمي ، وعن محبة المال الفاني ، وهو من فعل أهل الانهماك في الغفلة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 300
يقول الحق جلّ جلاله : {كلا إِذا دُكَّتِ الأرْضُ} أي : زُلزلت {دَكاً دَكاً} أي : دكاً بعد دكّ ، أي : كرّر عليها الدكّ حتى صارت هباءً منبثاً ، أو قاعاً صفصفاً ، {وجاء ربُّك} أي : تجلّى لفصل قضائه بين عباده ، وعن ابن عباس : أمره وقضاؤه ، {والمَلكُ صفاً صفاً} أي : نزل ملائكة كل سماء فيصفون صفاً بعد صف محدقين بالإنس والجن ، {وجيء يومئذٍ بجهنمَ} ، قيل : بُرِّزت لأهلها ، كقوله : {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)} [الشعراء : 91] وقيل : يجاء بها حقيقة ، وفي الحديث : " يؤتى بجهنم يومئذٍ ، لها سبعونَ ألفَ زمامٍ ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجرُّونها ، حتى تنصب عن يسار العرش ، لها لغيط وزفير " رواه مسلم.
{يومئذ يتذكّرُ الإِنسانُ} أي : يتّعظ ، وهو بدل من (إذا دُكت) والعامل فيه : (يتذكّر) أي : إذا دُكت الأرض ووقع الفصل بين العباد يتذكر الإنسان ما فرّط فيه بمشاهدة جزائه ، {وأنَّى له الذِّكْرَى} أي : ومن أين له الذكرى ؟ لفوات وقتها في الدنيا ، {يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي} هذه ، وهي حياة الآخرة ، أي : يا ليتني قدّمتُ الأعمالَ الصالحة في الدنيا الفانية لحياتي الباقية.
(8/463)
{فيومئذٍ لا يُعَذِّبُ عذابَه أحدٌ} أي : لا يتولّى عذاب الله أحد ؛ لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم ، {ولا يُوثِقُ وثاقه أحدٌ} ، قال صاحب الكشف : لا يُعدِّب بالسلاسل والأغلال أحدٌ كعذاب الله ، ولا يوثِق أحدٌ أحداً كوثاق الله. وقرأ الأخوان بفتح الذال والثاء ، بالبناء للمفعول ، قيل : وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره ، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف ، وهو الكافر. وقيل : هو أُبيّ بن خلف ،
302
أي : لا يُعذِّب أحدٌ مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه ؛ لتناهيه في كفره وعناده.
(8/464)
ثم يقول الله تعالى للمؤمن : {يا أيتها النفسُ} يخاطبه تعالى إكراماً له بلا واسطة ، أو على لسان ملك ، {المطمئنةِ} بوجود الله ، أو بذكره ، أو بشهوده ، الواصلة إلى بَلَج اليقين ، بحيث لا يخالطها شك ولا وهم ، وقيل : المطمئنة ، أي : الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، ويؤيده : قراءة مَن قرأ : يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. ويقال لها هذا عند البعث ، أو عند تمام الحساب ، أو عند الموت : {ارجعي إِلى ربك} إلى وعده ، أو : إلى إكرامه ، {راضيةً} بما أُوتيت من النعيم {مرضيةً} عند الله عزّ وجل ، {فادخلي في عبادي} أي : في زمرة عبادي الصالحين المخلصين ، وانتظمي في سلكهم ، {وادخلي جنتي} معهم. وقال أبو عبيدة : أي : مع عبادي وبين عبادي. أي : خواصّي ، كما قال : {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل : 19]. وقيل : المراد بالنفس : الروح ، أي : وادخلي في أجساد عبادي ، لقراءة ابن مسعود : " في جسد عبادي " ولمّا مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم يُرَ على خلقته ، فدخل في نعشه ، فلما دُفن تُليت هذه الآية على شفا قبره ، ولم يُدْرَ مَن تلاها ، وقيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب ، وقيل : في خُبيْب بن عدي ، الذي صلبه أهلُ مكة ، والمختار : أنها عامة في المؤمنين ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الإشارة : إذا دُكت أرض الحس ، باستيلاء المعنى عليها ، أو أرض البشرية ، باستيلاء الروحانية عليها ، دكاً بعد دكٍّ ، بالتدريج والتدريب ، حتى يحصل التمكين من أسرار المعاني ، وجاء ربك ، أي : ظهر وتجلّى للعيان ، والملَك صفاً صفاً ، أي : وجاءت الملائكة صفوفاً ، وجيء يومئذٍ بجهنم ، أي : بنار البُعد لأهل الفرق ، يومئذ يتذكّر الإنسانُ ما فاته من المجاهدة وصُحبة أهل الجمع ، وأنَّى له الذكرى مع إقامته في الفَرْق طول عمره ، يقول : يا ليتني قدمتُ لحياتي ؛ رُوحي بالمشاهدة بعد المجاهدة ، فيومئذٍ يتولى الحق تصرُّفه في عباده بقدرته ، فيُعَذِّب أهل الحجاب بسلاسل العلائق(8/465)
والشواغل ، ويُقيدهم بقيود البين ، ثم يُنادي روح المقربين أهل الأرواح القدسية : يا أيتها النفس المطمئنة ، التي اطمأنت بشهود الحق ، ودام فناؤها وبقاؤها بالله ، ارجعي إلى ربك ؛ إلى شهود ربك بعد أن كنت عنه محجوبة ، راضية عن الله في الجلال والجمال ، مرضية عنده في حضرة الكمال ، وعلامة الطمأنينة : أنَّ صاحبها لا ينهزم عند الشدائد وتفاقم الأهوال ، لأنَّ مَن كانت يده مع الملك صحيحة لا يبالي بمَن واجهه بالتخويف أو التهديد. وقال الورتجبي : النفس المطمئنة هي التي صدرت مِن نور خطاب الأول الذي أوجدها من العدم بنور القِدم ، واطمأنت بالحق وبخطابه ووصاله ، فدعاها الله إلى معدنها الأول ، وهي التي ما نالت من الأول إلى الآخر غير مشاهدة الله ، راضية من الله بالله ، مرضية عند الله بالاصطفائية الأزلية. هـ. والنفوس ثلاثة : أمّارة ، ولوّامة ، ومطمئنة ، وزاد بعضهم : اللاّمة. والله تعالى أعلم ، صلّى الله على سيدنا محمد وآله.
303
جزء : 8 رقم الصفحة : 302(8/466)
سورة البلد
جزء : 8 رقم الصفحة : 303
يقول الحق جلّ جلاله : {لا أُقسم بهذا البلد} ؛ أَقسم تعالى بالبلد الحرام ، وما عطف عليه على أنّ الإنسان خُلق مغموراً بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاقّ. واعترض بين القسم وجوابه بقوله : {وأنت حِلّ بهذا البلد} ، أي : وأنت حالّ ساكن به ، فهو حقيق بأن يُقسم به لحلولك به ، أو : وأنت حِل ، أي : تُستحل حرمتُكَ ، ويُؤذيك الكفرةُ مع أنَّ مكة لا يَحل فيها قتل صيد ولا بشر ، ولا قطع شجر ، وعلى هذا قيل : " لا أٌقسم " نفي ، أي : لا أقسم بهذا وأنت تلحقك فيه إذاية ، وهذا ضعيف ، أو : وأنت حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت مِن قتل كافر وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك ، وهذا هو الأظهر ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ هذا البلد حرام ، حرّمه اللهُ يومَ خلق السموات والأرض ، لم يَحِلَّ لأحدٍ قبلي ، ولا يحل لأحد بعدي ، وإنما أُحل لي ساعة من نهارٍ " ، يعني : فتح مكة ، وفيه أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَل ، وهو متعلّق بأستار الكعبة.
فإن قلتَ : السورة مكية ، وفتح مكة كان سنَة ثمان من الهجرة ؟ قلتُ : هو وعد بالفتح وبشارة. انظر ابن جزي. وكثير من الآيات نزلت بمكة ولم يتحقق مصداقها إلاّ بعد الهجرة ، كقوله تعالى : {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت : 6 ، 7] وقوله تعالى : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيا إِسْرَائِيلَ عَلَىا مِثْلِهِ} [الأحقاف : 10] وغير ذلك.
304(8/467)
{ووالدٍ وما وَلَد} أي : وآدم وجميع ولده ، أو نوح وولده ، أو إبراهيم وولده ، أو إسماعيل ونبينا صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده أنه حَرَمُ إبراهيم ومنشأ إسماعيل ، ومسكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أو محمد صلى الله عليه وسلم وولده ، أو جنس كل والد ومولود. {لقد خلقنا الإِنسانَ} أي : جنسه {في كبدٍ} ؛ في تعب ومشقة ، فإنه لا يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها ، يُكابد مشاق التعلُّم ، ثم مشاق القيام بأمور الدين وأمور معاشه وهموم دنياه وآخرته ، ثم يكابد نزع روحه ، ثم سؤاله في قبره ، ثم تعب حشره ، ومقاساة شدائد حسابه ، ثم مروره على الصراط ، فلا راحة له إلاّ بعد دخول الجنة لتكون حلوة عنده ، هذا في عموم الناس ، وأمّا خواص العارفين فقد استراحوا حين وصلوا إلى معرفة الحق ، فأسقطوا عنهم الأحمال ؛ لتحققهم أنهم محمولون بالقدرة الأزلية ، فلما أَسقطوا حِمْلَهم قام الله بأمرهم ، لقوله : {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق : 3] ، يقال : كَبِدَ الرجل كَبَداً : إذا وجعت كبده من مرض أو تعب.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 304
(8/468)
أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ} أي : أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد ، أو : أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن ، قيل : هو أبو الأشدّين الجمحي ، رجل من قريش كان شديد القوة ، مغترًّا بقوته ، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ، ويقول : مَن أزالني عنه فله كذا ، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ، ولا تزال قدماه ، وقيل : عَمْرو بن عبد ود ، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة ، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. {يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً} أي : كثيراً ، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض ، يريد كثرة ما أنفقه ، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي ، رياءً وفخراً. {أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ} ؟ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً ، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه ، يعني : أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه.
ثم ذكر نِعمه عليه ، فقال : {ألم نجعل له عينين} يُبصر بهما المرئيات ، {ولساناً} يُعَبِّرُ به عما في ضميره ، {وشفتين} يستر بهما فاه ، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها ، {وهديناه النجدين} أي : طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار ، فهو كقوله : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ...} [الإنسان : 3] الآية. وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد ، بل معنى الإلهام ، أو : الثديين ، وأصل النجد : المكان المرتفع ، ومنه سُميت نجد ، لارتفاعها عما انخفض من الحجاز.
الإشارة : أقسم تعالى ببلد المعاني ، التي هي أسرار الذات ، ووالد ، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات ، لقد خلق الإنسانَ في كبد : في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله ، أعني : روحانيًّا قدسيًّا ، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع. قال الكواشي : عن بعضهم : الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه ، واقفاً بحاله ، فإنه في ظلمة وبلاء ، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته ، بفناء طبائعه عنه ، صار في راحةٍ. هـ.
305
(8/469)
والحاصل : أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان ، فإنه في روح وريحان ، وجنات ورضوان. أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه ، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا. ألم نجعل له عينين ، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض ، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله ؟ فليرح نفسه من تعب التدبير ، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه ، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه ، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه ، وهديناه الطريقين ؛ الشريعة والحقيقة ، فإذا سلكهما وصلناه إلينا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 304
أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ} أي : أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد ، أو : أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن ، قيل : هو أبو الأشدّين الجمحي ، رجل من قريش كان شديد القوة ، مغترًّا بقوته ، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ، ويقول : مَن أزالني عنه فله كذا ، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ، ولا تزال قدماه ، وقيل : عَمْرو بن عبد ود ، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة ، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. {يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً} أي : كثيراً ، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض ، يريد كثرة ما أنفقه ، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي ، رياءً وفخراً. {أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ} ؟ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً ، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه ، يعني : أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه.
(8/470)
ثم ذكر نِعمه عليه ، فقال : {ألم نجعل له عينين} يُبصر بهما المرئيات ، {ولساناً} يُعَبِّرُ به عما في ضميره ، {وشفتين} يستر بهما فاه ، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها ، {وهديناه النجدين} أي : طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار ، فهو كقوله : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ...} [الإنسان : 3] الآية. وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد ، بل معنى الإلهام ، أو : الثديين ، وأصل النجد : المكان المرتفع ، ومنه سُميت نجد ، لارتفاعها عما انخفض من الحجاز.
الإشارة : أقسم تعالى ببلد المعاني ، التي هي أسرار الذات ، ووالد ، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات ، لقد خلق الإنسانَ في كبد : في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله ، أعني : روحانيًّا قدسيًّا ، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع. قال الكواشي : عن بعضهم : الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه ، واقفاً بحاله ، فإنه في ظلمة وبلاء ، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته ، بفناء طبائعه عنه ، صار في راحةٍ. هـ.
305
والحاصل : أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان ، فإنه في روح وريحان ، وجنات ورضوان. أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه ، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا. ألم نجعل له عينين ، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض ، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله ؟ فليرح نفسه من تعب التدبير ، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه ، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه ، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه ، وهديناه الطريقين ؛ الشريعة والحقيقة ، فإذا سلكهما وصلناه إلينا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 304
(8/471)
يقول الحق جلّ جلاله : {فلا اقتحم العقبةَ} ، الاقتحام : الدخول بشدة ومشقة ، والعقبة : كل ما يشق على النفس من الأعمال الصالحات ، و " لا " هنا إمّا تحضيضية ، أي : هلاَّ اقتح العقبة ، وإمّا نافية ، أي : فلم يشكر تلك الأيادي والنِعم ، من البصر وما بعده ، بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وما سيذكره ، فإن قلت : " لا " النافية إذا دخلت على الماضي ولم تكن دعائية وجب تكرارها ؟ فأجاب الزمخشري : بأنها مكررة في المعنى ، أي : فلا اقتحم ولا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً..الخ.
ثم عظَّم تلك العقبة بقوله : {وما أدراك ما العقبةُ} أي : أيّ شيء أعلمك ما هي العقبة التي أُمر الإنسان باقتحامها ، أو نفي عنه اقتحامها ؟ ثم فسّرها بقوله : {فَكُ رقبةٍ} أي : هي إعتاق رقبة ، أو إعانة في أداء كتابتها. قال ابن جُزي : وفك الأسارى من الكفار أعظم أجراً من العتق ؛ لأنه واجب ولو استغرقت فيه أموال المسلمين ، ولكنه لا يجزي في الكفارات. هـ.
{أو إِطعامٌ في يومٍ ذي مَسْغَبةٍ} أي : مجاعة {يتيماً ذا مقربةٍ} أي : قرابة ، {أو مسكيناً ذا متربةٍ} ؛ ذا فقر ، يقال : ترِب فلان : إذا افتقر والتصق بالتراب ، ومَن قرأ " فكَ " و " أطعمَ " بصيغة الماضي فبدل من " اقتحم " ، {ثم كان من الذين آمنوا} اي : دام على إيمانه ، أو : ثُم كان حين فعل ما تقدّم من المؤمنين فيحنئذ ينفعه ذلك ، وإنما جاء بـ " ثم " لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة ، لا في الوقت ، إذ الإيمان هو السابق على غيره ، إذ لا يقبل عمل صالح إلاّ به ، {وتَوَاصَوا بالصبرِ} عن المعاصي وعلى الطاعات ، أو : المحن التي يُبتلى بهما المؤمن ، {وتَوَاصَوا بالمرحمةِ} ؛ بالتراحم
306
(8/472)
فيما بينهم. {أولئك أصحابُ الميمنةِ} أي : الموصوفون بهذه الصفات هم أصحاب اليمين واليمْن ، {والذين كفروا بآياتنا} ؛ بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة ، أو بالقرآن {هم أصحابُ المشئمةِ} أي : الشمال أو الشؤم ، {عليهم نار موصدة} ؛ مُطْبَقة ، من أوصدت الباب وآصدته : إذا أغلقته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 306
الإشارة : هلاَّ اقتحم مريد الوصول العقبةَ ، وهي سلوك الطريق ، بخرق عوائد النفس وترك هواها ، وجَرِّها إلى مكروهها ، وعن الحسن رضي الله عنه : عقبة ـ والله ـ شديدة ، يُجاهد الإنسانُ نفسَه وهواه ، وعدوه الشيطان. هـ. ثم فسَّرها بفك الرقبة ، أي : رقبة نفسه يفكها من أن يملكه السِّوى ، أو : يفكها من الذنوب والعيوب ، أو فكها من رِقّ الطمع في الخلق ، فإنه بذر شجرة الذل ، أو : فكها من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المكوِّن ، أو : فك رقبة الغافل الجاهل من رِقّ نفسه بتذكيره ووعظه أو تربيته ، أو إطعام روح جائعة من اليقين ، إمّا يتيماً لا أب له روحاني ، أي لا شيخ له ، فتذكِّره بما يتقوّى به إيقانه ، أو فقيراً من أسرار التوحيد ترابيًّا أرضيًّا ، فترقّيه إلى سماء الأسرار ، ثم كان ممن آمن بطريق الخصوص ، وتواصَى بالصبر على مشاق السير ، والتراحم والتوادد والتواصل ، كما هو شأن أهل النسبة ، فهؤلاء هم أهل اليُمْن والبركة ، وضدهم ممن جحدوا أهل الخصوصية هم أهل الشؤم. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
307
جزء : 8 رقم الصفحة : 306(8/473)
سورة الشمس
جزء : 8 رقم الصفحة : 307
يقول الحق جلّ جلاله : {والشمسِ وضُحاها} أي : وَضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها ، {والقمرِ إِذا تلاها} ؛ تبعها في الضياء والنور ، وذلك في النصف الأول من الشهر ، يخلف القمرُ الشمسَ في النور ، {والنهارِ إِذا جلاَّها} أي : جلّى الشمسَ وأظهرها للرائين ، وذلك عند افتتاح النهار وانبساطه ؛ لأنَّ الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء ، وقيل : الضمير للظلمة ، أو الأرض ، وإن لم يجر لها ذكر ، كقوله : {مَا تَرَكَ عَلَىا ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} [فاطر : 45] ، {والليلِ إِذا يغشاها} أي : يستر الشمس ويُظْلِمُ الأفاق ، والواو الأولى في هذه الأشياء للقسم باتفاق ، وكذا الثانية عند البعض ، وعند الخليل : الثانية للعطف ؛ لأنَّ إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز ، ألا ترى : أنك لو جعلت مرضعها كلمة الفاء أو " ثم " لكان المعنى على حاله ، وهما حرفا عطف ، وكذا الواو ، ومَن قال : إنها للقسَمَ احتجّ بأنها لو كانت للعطف لكان عطفاً على عاملين ، لأنَّ قوله : {وَالْلَّيْلِ} [الليل : 1] ـ مثلاً ـ مجرور بواو القسم ، {إِذا يغشى} منصوب بالفعل المقدّر الذي هو أقسم ، فلو جعلت الواو التي في {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا} [الليل : 2] للعطف لكان النهار معطوفاً على الليل جرًّا ، و {إذا تجلى} معطوفاً على " يغشى " نصباً ، وكان كقولك : إنَّ في الدار زيداً ، والحُجرة عَمْراً ، وأجيب بأنّ واو القسم تنزّلت منزلة الباء والفعل ، حتى لم يجز إبراز الفعل معها ، فصار كأنها العاملة جرًّا ونصباً ، وصارت كعاملٍ واحد له معمولان ، وكلُّ عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحدٍ بالاتفاق ، نحو : ضرب زيدٌ
308
عمراً وأبو بكر خالداً ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام العامل.(8/474)
{والسماءِ وما بناها} أي : ومَن بناها ، وإيثار " ما " على " مَنْ " لإرادة الوصفيّة تفخيماً ، كأنه قيل : والقادر العظيم الذي بناها ، وجعلُها مصدرية مخلّ بالنظم الكريم ، وكذا في قوله : {والأرضِ وما طحاها} أي : بسطها من كل جانب ، كـ " دحاها ".
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ونفسٍ وما سوَّاها} أي : والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها وأتقن صورتها ، مستعدة لكمالاتها ، والتنكير للتفخيم ، على أنَّ المراد نفس آدم عليه السلام أو للتكثير ، وهو الأنسب للجواب ، أي : ومَن سوّى كلَّ نفس ، {فألْهَمَها فجورَها وتقواها} أي : ألهمها طاعتها ومعصيتها ، وأفهمها قبح المعصية وحسن الطاعة ، أو عَرَّفها طرق الفجور والتقوى ، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين ، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى " أو " كقوله : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان : 3] أي : ألهم مَن أراد شقاوتها فجورها فسعت إليه ، وألهم مَن أراد سعادتها تقواها ، فسعت إليه. {قد أفلح مَن زَكَّاها} أي : فاز بكل مطلوب ، ونجا مِن كل مكروه مَن طَهَّرَها وأصلحها وجعلها زكيةً بالإيمان والطاعة ، {وقد خاب مَن دسَّاها} ؛ أغواها ، قال عكرمة : " أفلحت نفس زكّاها اللهُ ، وخابت نفس أغواها الله " ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد. والتدسية : النفس والإخفاء ، أي : خسر مَن نقصها وأخفاها بالفجور ، وأصل دسّى : دسّس ، كتقضى وتقضض ، فأبدل من الحرف الثالث ياء ، قال في الكافية :
وثالث الأمثال أبدلنه ياء
نحو تظنا خالد تظنينا
وجواب القسم محذوف ، والتقدير : ليهلكنّ الله مَن كفر من قريش ويُدمدم عليهم كما دمدم على ثمود ، وقيل : " قد أفلح " وليس بشيء ، وقيل : " كذبت ثمود " على إضمار " قد " والأول أحسن ، والله تعالى أعلم.
(8/475)
الإشارة : والشمس شمس العرفان ، وابتداء ضُحاها في أول الفناء ، والقمر قمر الإيمان ، إذا تلاها بالرجوع للأثر بالتنزُّل لعالم الحكمة كمالاً وتكميلاً ، والنهار نهار التمكين إذا جلاّها ، أي : ظلمة حس الكائنات ، وقلعها مِن أصلها بشهود المكوِّن ، والليل ؛ ليل القطيعة ، إذا يغشاها بقهرية الحق اختباراً ، هل يضطرب ويفزع فيُردّ عليه ، أو يتسلّى فيُسلب ، أو نهار البسط إذا جلاّها ، أي : ظلمة القبض ، وليل القبض إذا يغشاها ، أي : شمس نهار البسط ، أقسم تعالى بتعاقبهما والسماء سماء الأرواح ، وما بناها ؛ رفعها ، والأرض أرض الأشباح ، وما طحاها ، أي : بسطها للعبودية ، ونفسٍ وما سوّاها ؛ ألقى صورتها وهيّأها للقُرب والبُعد ، فألهمها فجورها وتقواها بما أعطاها من نور العقل ، قال الورتجبي : سوّاها بتسوية الصِفة ، ورقمها بنور الآزلية ، ثم بيَّن أنه تعالى عرّفها طرق لطيفات الذات ، وقهرية الصفات بنفسه بلا واسطة بقوله : {فألهمها فجورها وتقواها} عرّفها أولاَ طريق القهر حتى عرفت المهلكات ، ثم عرَّفها طريق اللطف حتى عرفت
309
معالجتها من المنجيات ، والمقصود منها : عرفانها عند الحق بطريق القهر واللطف ، حتى تكمل معرفةُ صانعها. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
قال القشيري : فألهمها فجورها وتقواها : بأن خَذَلَها ووَفَّقَها ، ويقال : فجورها : حركتها في طلب الرزق ، وتقواها : سكونها لحُكْم التقدير. ثم قال : ويُقال : أفلح مَن طهَّرها من الذنوب والعيوب ، ثم عن الأطماع في الأَعواض ، ثم العبد نفسه عن الاعتراض على الأنام ، وعن ارتكاب الحرام ، وقد خاب مَن خان نفسه وأهملها عن المراعاة ، ودسَّها بالمخالفات ، وفي نوادر الأصول ما حاصله : أنَّ دسّاها بمنزلة مَن دسّ شيئاً في كوة ، يمنع من دخول الضوء ، كذلك الهوى والشهوة سدّ وغلّق على القلب من حصول ضوء القربة والوصلة. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
(8/476)
يقول الحق جلّ جلاله : {كذبتْ ثمودُ} صالحاً {بطغواها} أي : بسبب طغيانها ، إذ الحامل لهم على التكذيب هو طغيانهم ، وفيه وعظ لأمثالهم ، وتهديد للحاضرين الطاغين ؛ لأنَّ الطغيان أجرم الجرائم الموجبة للهلاك والخيبةِ في الدنيا والآخرة. {إِذ انبعث أشقاها} ، منصوب بـ " كذبتْ " ، أي : حين قام أشقى ثمود ، وهو : قُدّار بن سالف ، أو : هو ومَن تصدّى معه للعقر من الأشقياء ، فإنَّ أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد ، والمذكر والمؤنث. وفضل شقاوتهم على مَن عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به.
{فقال لهم} أي : لثمود {رسولُ الله} صالح عليه السلام ، عبَّر عنه بعنوان الرسالة إيذاناً بوجوب طاعته ، وبياناً لغاية عتوهم ، وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في تقوله : {ناقةَ الله} أي : احذروا عقرها ، أو احفظوها ، {و} الزموا {سُقياها} فلا تُدَوروها في نوبتها ، وهما منصوبان على التحذير. {فكذّبوه} فيما حذّرهم به من نزول العذاب بقوله : {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف : 73] ، {فعقروها} ، أسند الفعل إليهم ، وإن كان العاقر واحداً ، لقوله : {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىا فَعَقَرَ (29)} [القمر : 29] لرضاهم به. قال قتادة : بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم. وذكرانهم وإناثهم ". {فَدَمْدَمَ عليهم ربُّهم} ؛ فأطبق عليهم العذاب حتى استأصلهم. قال الهروي : إذا كررت الإطباق قلت : دمدمت عليه ، أي : أدمت عليه الدمدمة ، وقيل : فدمدم عليهم : عَضِبَ عليهم ، {بذنبهم} ؛ بسبب ذنبهم ، وصّرح به مع دلالة الفاء عليه للإيذان بأنه عاقبة كل ذنب ليعتبر
310
(8/477)
به كل مذنب. {فسوَّاها} أي : الدمدمةّ بينهم ، لم يفلت منهم أحد من صغيرهم وكبيرهم ، أو فسوّى ثمود بالأرض بتسوية بنائها وهدمه ، {وَلآ يَخَافُ عُقْبَآهَا (15)} [الشمس : 15] أي : عاقبتها وتَبِعَتها ، كما يخاف سائر المعاقِبين أي : فعل ذلك غير خائف أن يلحقه تبعة مِن أحد ، كما يخاف مَن يعاقب مِن الملوك وغيرهم ، لأنه تصرف في ملكه ، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء : 23]. ومَن قرأ بالواو فهو للحال ، أو الاستئناف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 310
الإشارة : قال القشيري : كذبت ثمودُ النفس بسبب طغيانها على القلب بالشهوات الحيوانية ، واللذات الجسمانية ، إذ انبعث أشقاها ، هو الهوى المتبع ، الساعي في قتل ناقة الروح ، فقال لهم رسول الله ؛ القلب الصالح : ناقةَ الله ، أي : اتركوا ناقةَ الله ترعى في المراتع الروحانية ، من المكاشفات والمشاهدات والمعاينات ، فكذّبوه ؛ فكذبت ثمود النفس وجنودُها رسولَ القلب ، فعقروها ، أي : الروح بالظلمة النفسانية والشهوة الحيوانية ، فَدَمْدَم عليهم ربُّهم ؛ على ثمود النفس وقومها عذاب البُعد والطرد ، بذنبهم ، فسوّاها ، أي : فسوّى الدمدمة ، وهي الإطباق على النفس وجنودها ، فلا يخاف عقباها لغناه عن العالمين. هـ. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
311
جزء : 8 رقم الصفحة : 310(8/478)
سورة الليل
جزء : 8 رقم الصفحة : 311
يقول الحق جلّ جلاله : {والليلِ إِذا يغشى} أي : حين يغشى الشمس ، كقوله تعالى : {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)} [الشمس : 4] أو : كل ما يواريه بظلامه. وقال القشيري : إذا يغشى الأفق وما بين السماء والأرض فيستره بظلمته. {والنهارِ إِذا تَجَلَّى} أي : ظهر وأسفر ووضح ، {وماخَلَقَ الذكَرَ والأُنثى} أي : والقادر الذي خلق الذكر والأنثى من كل ما له توالد مِن ماءٍ واحد ، وقيل : هما آدم وحواء ، و " ما " بمعنى " من " أو مصدرية. وقُرىء " والذكر والأنثى " وقرىء " الذي خلق الذكر والأنثى ". جواب القسم : {إِنَّ سعيَكم} أي : عملكم {لشتَّى} ؛ لمختلف ، جمع شتيت ، أي : إنّ مساعيكم لأشتات مختلفة.
ثم فصّله فقال : {فأّمَّا مَن أعطى} حقوق ماله {واتقى} محارمَ الله التي نهى عنها ، {وصدَّق بالحسنى} ؛ بالخصلة الحُسنى ، وهي الإيمان ، أو بالكلمة الحسنى ، وهي كلمة التوحيد ، أو بالملة الحسنى ، وهي الإسلام ، أو بالمثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، والتصديق هو أن يرى أنَّ ما وعده اللهُ به يوصله إليه ، ولا يجري على قلبه خاطر شك ، {فسَنُيَسِّره لليُسرى} ؛ فسنهيئه للطريقة التي تؤدي إلى الراحة واليُسر ، كدخول الجنة ومبادئه. قال ابن عطية : معناه : سنظهر عليه تيسيرنا إياه بما يتدرج فيه من أعمال الخير ، وحَتْم تيسيره كان في علم الله أزلاً. هـ. يقال : يسَّرَ الفرس ، إذا أسرجها وألجمها.
{وأمّا مَن بَخِلَ} بماله ، فلم يبذله في سبيل الخير ، {واستغنَى} أي : زهد فيما عند الله تعالى ، كأنه مستغنٍ عنه فلم يتقه ، أو : استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ،
312(8/479)
{وكَذَّب بالحُسنى} أي : بالخصلة الحسنى ، على ما ذكر من معانيها ، {فسَنُيَسِّره للعُسرى} أي : للخصلة المؤدّية إلى العسر والشدة ، كدخول النار ومقدماته ، لاختياره لها. وقال الإمام ـ أي الفخر ـ : كل ما أدّت عاقبته إلى الراحة والأمور المحمودة ، فذلك اليسرى ، وهو وصف كل الطاعات ، وكل ما أدّت عاقبته إلى التعب والردى ، فذلك العُسرى ، وهو وصف كل المعاصي. هـ. {وما يُغني عنه مالُه} الذي بَخِلَ به ، أي : لا ينفعه شيئاً {إِذا تَرَدَّى} ؛ هَلَكَ ، تفعّل ، من الردى ، أو تردَّى في حفرة القبر ، أو في قعر جهنّم ، والعياذ بالله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 312
الإشارة : أقسم تعالى بليل الحجاب ، إذا يغشى القلوبَ المحجوبة ، ونهار التجلِّي إذا يغشى القلوب الصافية ، وكأنه تعالى أقسم بقهر جلاله ، ولُطف جماله ، وقدرته على خلق أصناف الحيوانات ، إنَّ سعي الناس لشتى ، فأمّا مَن أعطى مالَه ونفسَه ، واتقى كلَّ ما يشغله عن المولى ، فَسنُيَسِّره لسلوك الطريق اليُسرى ، التي توصل إلى حضرة المولى. وقال الورتجبي : سهّل له طريقَ الوصول إليه ، ويرفع عنه الكلفة والتعب في العبودية. وقال القشيري : نُسَهِّلُ عليه الطاعات ، ونُكَرِّه إليه المخالفات ، ونهيىء له القُربَ ، ونُحَبِّبُ له الإيمان ، ونُزَيِّن في قلبه الإحسان. هـ. وأمَّا مَن بَخِلَ بماله ونفسه ، واستغنى عن معرفة ربه معرفة العيان ، وقنع بمقام الإيمان ، فسَنُيسره للعُسرى ، وهي طريق البُعد والحجاب ، كاشتغاله بحب الدنيا ، وجمع المال ، وما يُغني عنه ماله إذا تردى في مهاوي البُعد والردى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 312
(8/480)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ علينا لَلْهُدى} ؛ إنَّ علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل ، وتبيين الشرائع ، أو : إن علينا بموجب قضائنا المَبْنيِّ على الحِكَم البالغة ، حيث خلقنا الخلق للعبادة ، أن نُبيّن لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه ، وقد فعلنا ذلك مما لا مزيد عليه ، حيث بَيَّنَّا حال مَن سلك كلا الطريقين ، ترغيباً وترهيباً ، فتبيّن أنَّ الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى البُغية ، لا الدلالة الموصلة إليها حتماً. قاله أبو السعود.
{وإِنَّ لنا للآخرة والأُولى} أي : التصرُّف الكلي فيهما ، كيفما نشاء ، فنفعل فيهما ما نشاء ، فنُعطي الدنيا لمَن نشاء ، والآخرة لمَن نشاء ، أو نجمع له بينهما ، أو نحرمه منهما ، فمَن طلبهما مِن غيرنا فقد أخطأ ، أو : إنَّ لنا كُلَّ ما في الدنيا والآخرة ، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهُدانا.
313
{فَأّنْذَرتكم} ؛ خوَّفتكم {ناراً تلضى} ؛ تتلهب ، {لا يَصْلاها إِلاّ الأشقى} ؛ لا يدخلها للخلود فيها إلاّ مَن سبق له الشقاء ، {الذي كذَّب وتَوَلَّى} أي : الكافر الذي كذّب الرسولَ صلى الله عليه وسلم ، وتَوَلى عن الإيمان ، {وسَيُجنبها} ؛ وسيبعِّدها {الأتقى} ؛ المؤمن المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي ، فلا يحوم حولها ، فضلاً عن دخولها ، وأمّا مَن دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي فلا يبعد هذا البُعد ، وذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور ، فلا يُنافي الحصر المذكور. {الذي يُؤتى مالَه} للفقراء {يتزكَّى} أي : يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، لا يُريد به رياءً ولا سمعةً ، من : الزكا ، وهو الزيادة ، أو : تفعّل من الزكاة ، أو : يتطهر من الذنوب والعيوب ، وهو حال من ضمير " يؤتى ". {وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى} أي : ليس لأحدٍ عنده نعمة من شأنها تجزى وتكافأ ، {إِلاَّ ابتغاءَ وجه ربه} : استثناء منقطع ، أي : لكن يفعل ذلك ابتغاء وجه ربه {الأعلى} أي : الرفيع بسلطانه ، المنيع في شأنه وبرهانه.
(8/481)
جزء : 8 رقم الصفحة : 313
والآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً في جماعة كان المشركون يؤذونهم ، فأعتقهم. ولذلك قالوا : المراد بالأشقى : أبو جهل وأمية بن خلف. وعن ابن عباس رضي الله عنه : عذَّب المشركون بلالاً ، وبلالٌ يقول : أَحَدٌ أَحَدٌ ، فمرّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال : " ينجيك أحد أحد " ثم أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، وقال له : " إنَّ بلالاً يُعذَّب في الله " فعرف مراده ، فاشتراه برطل من ذهب ، وقيل : اشتراه بعبدٍ كان عنده اسمه " نسطاس " وكان له عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ، وكان مشركاً ، فقال له الصدِّيق : أسْلِم ولك جميع مالك ، فأبى ، فدفعه لأمية بن خلف ، وأخذ بلالاً ، فأعتقه ، فقال المشركون : ما أعتقه إلا ليدٍ كانت له عنده ، فنزلت. رُوي أنه اشتراه ، وهو مدفون بالحجارة ، يُعَذَّب على الإسلام ، قال عروة : أَعتق أبو بكر سبعة ، كلهم يُعذب في الله ، بلال وعامر بن فهيرة ، والنجدية وبنتها ، وزِنِّيرة ، وبيرة ، وأم عُبيس ، وأمة بني المؤمِّل. قال : وأسْلَم وله أربعون ألفاً ، فأنفقها كلها في سبيل الله. وقال ابن الزبير : كان أبو بكر يشتري الضعفة فيعتقهم ، فقال له أبوه : لو كنت تبتاع مَن يمنع ظهرك ، فقال : مَنْعَ ظهري أريد ، فنزلت فيه : {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17)} [الليل : 17] الآية. واسمه : عبد الله بن عثمان ، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة ، فسمّاه الرسولُ صلى الله عليه وسلم عبد الله.
وقوله تعالى : {ولسوف يرضى} جواب قسم مضمر ، أي : والله لسوف نُجازيه فيرضى ، وهو وعد كريم لنيل جميع ما يبتغيه على أفضل الوجوه وأكملها ، إذ به يتحقق رضاه ، وهو كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا (5)} [الضحى : 5].
(8/482)
الإشارة : إنّ علينا لبيان الطريق لِمن طلب الوصول إلى عين التحقيق ، فإنا أنزلنا كتاباً ما فرطنا فيه من شيء ، وبعثنا رسولاً يهدي إلى الرشد ، وجعلنا له خلفاء في كل زمان ،
314
يهدون بأمرنا إلى حضرة قدسنا ، وإنَّ لنا للآخرةَ لِمن طلبها ، والأوُلى لِمن طلبها ، وأظهرنا أسرار ذاتِنا لمَن طلبها ، فأنذرتكم ناراً تلظى ، وهي نار البُعد لا يصلاها إلاّ الأشقى ، الذي سبق له البُعد منا. {الذي كذَّب وتولَّى} ، قال القشيري : أي كذَّب الحق في مظاهر الأولياء والمشايخ وأرباب السلوك ، وأعْرَض عن قبول إرشادهم ونصائحهم ، وعن استماع معارفهم ومواجيدهم الكشفية الشهودية ، وسيُجنبها الأتقى ، أي : يُجنب طريق البُعد ونار الحجاب مَن اتقى السِّوى ، الذي يؤتى ماله تقرُّباً إلى الله ليتزكّى من العيوب والأنانية ، {وما لأحدٍ عنده من نعمة تُجزى} أي : ليس إحسانه في مقابلة حرف {إلاّ ابتغاء وجه ربه الأعلى} أي : إلاّ طلب معرفة ذاته العلية ، {ولَسَوف يَرضى} بدوام شهود الذات الأقدس. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
315
جزء : 8 رقم الصفحة : 313(8/483)
سورة الضحى
جزء : 8 رقم الصفحة : 315
يقول الحق جلّ جلاله : {والضُحى} ، المراد به : وقت الضحى ، وهو حدود النهار حتى ترتفع الشمس ، وإنما خُصّ بالإقسام به لأنه الساعة التي كلّم الله فيها موسى عليه السلام ، والتي وقع فيها السحرة ساجدين ، أو : النهار كلّه ؛ لمقابلته بالليل في قوله : {والليلِ إِذا سجى} ؛ سَكَن ، المراد : سكون الناس والأصوات فيه ، أو ركد ظلامه ، من : سجا البحر إذا سكنت أمواجه ، وقيل : المراد بالضحى : ساعة مناجاة موسى ، وبالليل : ليلة المعراج.
وجواب القسم : {ما ودّعَكَ ربُّك} أي : ما تركك منذ اختارك ، {وما قَلَى} أي : وما أبغضك منذ أحبك ، والتوديع : مبالغةٌ في الودْع ، وهو الترك ؛ لأنَّ مَن ودّعك مفارقاً فقد بالغ في تركك. رُوي أنَّ الوحي تأخّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً ، فقال المشركون : إنَّ محمداً ودَعَهُ ربُّه وقلاه ، فنزلت ردًّا عليهم ، وتبشيراً له صلى الله عليه وسلم بالكرامة الحاصلة. وحذف الضمير من " قَلَى " إمّا للفواصل ، أو للاستغناء عنه بذكره قبل ، أو : للقصد إلى نفس صدور الفعل عنه تعالى ، مع قطع النظر عما يقع عليه الفعل بالكلية ، وحيث تضمّن ما سبق من نفي التوديع ، والقَلى أنه تعالى يُواصله بالوحي والكرامة في الدنيا بَشَّر صلى الله عليه وسلم بأنّ ما سيؤتاه في الآخرة أجلّ وأعظم بذلك ، فقيل : {وللآخرةُ خير لك من الأُولى} ، لأنَّ ما فيها من النِعم
316
صافية من الشوائب على الإطلاق ، وهذه فانية مشوبة بالمضار ، وما أوتي صلى الله عليه وسلم من شرف النبوة ، وإن كان مما لا يُعادله شرف ، ولا يُدانيه فضل ، لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض الشاقة على النفس.
ووجه اتصال الآية بما قبلها : أنه لمَّا كان في ضمن نفي التوديع والقَلي أنَّ الله يُواصلك بالوحي إليك ، وأنك حبيب الله ، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ، أخبر أن ما له في الآخرة أعظم وأشرف ، وذلك لتقدُّمه على الأنبياء في الشفاعة الكبرى ، وشهادة أمته على الأمم ، ورفع درجات المؤمنين ، وإعلاء مراتبهم بشفاعته ، وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تُحيط بها العبارة.(8/484)
وقوله تعالى : {ولَسَوْفَ يُعطيك ربُّك فترضى} وَعْد كريمٌ شاملٌ لِما أعطاه الله تعالى في الدنيا ، من كما اليقين ، وعلوم الأولين والآخرين ، وظهور أمره ، وإعلاء دينه بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله عليه وسلم ، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك الإسلامية ، وفشو الدعوة ، وإعلاء منار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، ولِما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلاَّ الله عزّ وجل ، وقد أنبأ ابنُ عباسٍ عن شيء منها ، حيث قال : " أعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ، ترابه المسك ". وفي الحديث : لَمَّا نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : " أنا لا أرضى وواحد من أمتي في النار " قال بعضهم : هذه أرجى أية في القرآن. ودخل صلى الله عليه وسلم على فاطمة ، وعليها ثياب من صوف وشعر ، وهي تطحن وتُرضع ولدها ، فدمعت عيناه ، وقال : " يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة " ثم تلا : {ولسوف يعطيك ربك فترضى}. واللام للقسم ، وإنما لم تدخل نون التوكيد لفصل السين بين القسم والفعل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 316
الإشارة : قال القشيري : يُشير إلى القسم بضحوة نهار قلب الرسول ، عند انتشار شمس روحه على بشريته ، وبِلَيل بشريته عند أحكام الطبيعة وسلوك آثار البشريه لغلبة سلطان الحقيقة ، ما ودَّعك ربك بقطع فيض النبوة والرسالة عن ظاهرك ، وما قَلَى بقطع فيض الولاية عن قلبك ، {وللآخرةُ خير لك من الأولى} يعني : أحوال نهايتك أفضل وأكمل من أحوال بدايتك ، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يطير بجناحي الشريعة والطريقة في جو سماء الحقيقة ، ويترقّى في مقامات القٌرب والكرامة. هـ. ويمكن الخطاب بالسورة الكريمة لخليفته من العارفين ، الدعاة إلى الله. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 316
(8/485)
يقول الحق جلّ جلاله : {أَلمْ يَجِدْكَ يتيماً} من أبويك {فآوى} أي : ضمَّك إلى جدك ، ثم إلى عمك أبي طالب. رُوي أنَّ أباه مات وهو جنين ، قد أتت عليه ستة أشهر ، وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين ، فكلفه أولاً جدُّه عبد المطلب ، فلما مات جده كَفَلَه عَمُّه أبو طالب ، فأحسن تربيته ، وذلك إيواؤه ، وقال القشيري : ويُقال : بل آواه إلى ظل كَنَفِه ، وربَّاه بلطف رعايته. هـ.
والحكمة في يُتمه صلى الله عليه وسلم : ألاّ يكون عليه منّة لأحدٍ سوى كفالة الحق تعالى. وقيل : هو من قول العرب : دُرة يتيمة إذا لم يكن لها مِثل ، أي : ألم يجدك وحيداً في شرفك وفضلك ، لا نظير لك فآواك إلى حضرته.
(8/486)
{وَوَجَدَك ضالا} ؛ غافلاً عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول ، {فَهَدَى} ؛ فهداك إليها ، كقوله : {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} [الشورى : 52]. وقال القشيري : أي : ضالاًّ عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها ، وعَرَّفناك تفصيلَها. هـ. أو : ضالاً عما أنت عليه اليوم من معالم النبوة ، ولم يقل أحد من المفسرين : ضالاًّ عن الإيمان. قاله عياض : وقيل : ضلّ في صباه في بعض شِعاب مكة ، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب ، وقيل : ضلّ مرة أخرى ، وطلبوه فلم يجدوه ، فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً ، وتضرّع إلى الله ، فسمعوا هاتفاً يُنادي من السماء : يا معشر الناس ، لا تضجُّوا ، فإنَّ لمحمدٍ ربَّا لا يخذله ولا يُضيّعه. وأنَّ محمداً بوادي تهامة عند شجرة السمر ، فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة ، يلعب بالإغصان والأوراق. وقيل : أضلته مرضعته حليمة عند باب الكعبة حين فطمته ، وجاءت به لترده على عبد المطلب ، وقيل : ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب ، يُروى أن إبليس أخذ بزمام ناقته في ليل ظلماء ، فعدل به عن الطريق ، فجاء جبريلُ عليه السلام ، فنفخ إبليسَ نفخة وقع منها إلى أرض الهند ، وردّه إلى القافلة. وقوله تعالى : {فَهَدَى} أي : فهداك إلى منهاج الشرائع المنطوية في تضاعيف ما يُوحى إليك من الكتاب المبين ، وعلَّمك ما لم تكن تعلم. {ووجدك عائلاً} ؛ فقيراً من حس الدنيا ، {فأَغْنَى} ؛ فأغناك به عما سواه ، وزوّجك خديجة ، فقامت بمؤونة العيش ، أو بما أفاء عليك من الغنائم ، قال صلى الله عليه وسلم :
جزء : 8 رقم الصفحة : 317
(8/487)
" جعل رزقي تحت ظل رمحي ". {فأمَّا اليتيمَ فلا تقهرْ} ، قال المفسرون : أي : لا تغلبه على ماله وحقه ، لأجل ضعفه ، وأذكر يتمك ، ولا تقهره بالمنع من مصالحه ، ووجوه القهر كثيرة ، والنهي يعم جميعها ، أي : دُم على ما أنت عليه من عدم قهر اليتيم. وقد ورد في الوصية باليتيم
318
أحاديث ، منها : قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا وكافلُ اليتيم في الجنة كهاتين إذا اتقى الله " وأشار بالسبابة والوُسطى ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ، فيقول الله تعالى : يا ملائكتي ؛ مَن أبكى هذا اليتيم الذي غيبتُ أباه في التراب ؟ فتقول الملائكة : ربنا أنت أعلم ، فيقول الله تعالى : يا ملائكتي فإني أُشهدكم أنَّ لمن أسكته وأرضاه أنْ أُرضيه يوم القيامة " ، فكان عمر إذا رأى يتيماً مسح رأسه وأعطاه شيئاً. وقال أنس : " مَن ضمّ يتيماً ، فكان في نفقته ، وكفاه مؤنته ، كان له حجاباً من النار يوم القيامة ، ومَن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ".
{وأمَّا السائِلَ فلا تنهرْ} أي : لا تزجره ولا تعبس في وجهه ، ولا تغلظ له القول ، بل ردّه ردًّا جميلاً ، قال إبراهيم بن أدهم : نِعم القوم السُؤَّال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي : السائل بريد الآخرة ، يجيء إلى باب أحدكم فيقول : أتبعثون إلى أهليكم بشيء. وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعنّ أحدُكم السائلَ وإن في يديْه قُلْبَين ، من ذهب " أي : سوارين. وقال أيضاً : " أعط السائل ولو على فرسه " وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا رددت السائل ثلاثاُ فلم يرجع عليك أن تَزْبُرَه " وقال الحسن : المراد بالسائل هنا : السائل عن العلم.
(8/488)
{وأمَّا بنعمةِ ربك فحدِّث} بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها ، يرد ما أفاضه الله تعالى عليه من فنون النعم ، التي من جملتها المعدودة والموعودة ، والنبوة التي آتاه الله تأتي على جميع النِعم ، ويَدخل في النِعم تعلُّم العلم والقرآن ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " التحدُّث بالنِعَم شكر " ولذلك كان بعض السلف يقول : لقد أعطاني الله كذا ، ولقد صلَّيتُ البارحة كذا ، وهذا إنما يجوز إذا ذكره على وجه الشكر ، أو ليُقتدى به ، فأمّا على وجه الفخر والرياء فلا يجوز. هـ.
319
انظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم ، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث وصايا ، فقال في قوله : {ألم يجدك يتيماً} بقوله : {فأمّا اليتيم فلا تَقْهَر} وقابل قولَه : {ووجدك ضالاً} بقوله : {وأمّا السائل فلا تَنْهَر} على مَن قال : إنه طالب العلم ، وقابل بقوله : {وأمّا بنعمة ربك فَحَدِّث} على القول الآخر ، وقابل قوله : {ووجدك عائلاً فأَغْنَى} بقوله : {وأمّا السائل فلا تَنْهر} على القول الأظهر ، وقابله بقوله : {وأمَّا بنعمة ربك فحدِّث} على القول الآخر هـ. من ابن جزي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 317
ولمَّا قرأ صلى الله عليه وسلم سورة الضحى كبّر في آخرها ، فسُنَّ التكبير آخرها ، وورد الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها في رواية البزي.
(8/489)
الإشارة : ألم يجدك يتيماً فرداً من العلائق ، مجرداً مما سوى الله ، فآواك إليه ، وهي طريقة كل متوجه ، لا يأويه الحق إليه حتى يكون يتيماً من الهوى ، بل بقلبٍ مُفرد ، فيه توحيد مجرد. قال القشيري : ويُقال فآواك إلى بساط القربة ، بحيث انفردْتَ بمقامِك ، فلم يُشاركك فيه أحد. هـ. {ووجدك ضالاًّ} قيل : متردداً في معاني غوامض المحبة ، فهداك بلطفه لها ، أو : وجدك مُتحيراً عن إدراك حقيقتنا ، فكملناك بأنوار ربوبيتنا حتى أدركتنا بنا ، وفي هذا ملاءمة لمعنى الافتتاح. قال القشيري : ويُقال : ضالاًّ عن محبتي لكن فعرَّفْتُك أني أُحبك ، ويقال : جاهلاً شرفَك فعرَّفْتُك قَدْرَكَ. هـ. ووجدك عائلاً فقيراً مما سواه ، فأغناك به عن كل شيء ، إلاّ طلب الزيادة في العلوم والعرفان ، فلا قناعة من ذلك ، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه : 114]. وفي القوت : إنما أغناه بوصفه ، لا بالأسباب ، وهو أعز على الله من أن يجعل غناه من الدنيا أو يرضاها له. هـ. وكما أنَّ الله تعالى غَنِيّ بذاته ، لا بالأعراض والأسباب ، فالرسول صلى الله عليه وسلم غَنِيّ بربه لا بالأعراض. قاله في الحاشية. قلت : وكذلك الأولياء ـ رضي الله عنهم ـ سَرَى فيهم اسمه تعالى " الغَنيِّ " فصاروا أغنياء بلا سبب ، وما وصّى به الحقٌّ تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم يُوصَّى به خلفاؤه من قوله : {فأمّا اليتيم فلا تقهر...} الخ. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
320
جزء : 8 رقم الصفحة : 317(8/490)
سورة الشرح
جزء : 8 رقم الصفحة : 320
يقول الحق جلاّ جلاله : {ألم نشرحْ لك صدرك} أي : ألم نوسعه ونفسحه حتى حوى عالَم الغيب والشهادة ، وجمع بين ملَكتي الاستفادة والإفادة ، فما صدتك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملِكات الروحانية ، وما عاقك التعلُّق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شهود الحق ، وقيل : المراد شرح جبريل صدرَه في حال صباه ، حين شقّه وأخرج منه علقة سوداء ، أو ليلة المعراج فملأه إيماناً وحكمة. والتعبير عن الشرح بالاستفهام الإنكاري للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يُجِيب عنه بغير " بلى ".
وزيادة " لك " وتوسُّطه بين الفعل ومفعوله للإيذان بأنَّ الشرح من منافعة صلى الله عليه وسلم ومصالحة ، مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه صلى الله عليه وسلم وتشويقاً إلى ما يعقبه ، ليتمكن عنده وقتَ وروده فضل تمكُّن. وقال في الوجيز : هو استفهام معناه التقرير ، أي : ألم نفتح ونُوسِّع لك قلبك بالإيمان والنبوة والعلم والحكمة. قال في الحاشية الفاسية : والظاهر أنه
321
إيثار بما طلبه موسى عليه السلام بقوله : {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه : 25] ، وأنه بادَاه به من غير طلب ، وهو قَدْر زائد على مطلق الرسالة ، متضمن حمل ثقل تبليغها ، لكونه في ذلك بربه ، ويناسبه ما بعده من وضع الوزر ، وهو لغة : الحمل الثقيل ، كما في الوجيز ، وشرح الصدر : بسطه بنور إلهي. هـ.(8/491)
{ووضعنا عنك وِزْرَكَ} ، عطف على مدلول الجملة السابقة ، كأنه قيل : قد شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك ، أي : حططنا عنك عبأك الثقيل ، {الذي أَنْقَضَ ظهرك} أي : أثقله حتى سمع له نقيض ، وهو صوت الانتقاض ، أي : خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها ، أو : يُراد ترك الأفضل مع إتيان الفاضل ، والأنبياء يعاتبون بمثلها ، ووضعه عنه : أن يغفر له. قال ابن عرفة : التفسير السالم فيه : أن يتجوّز في الوضع بمعنى الإبعاد ، أو يتجوّز في الوزر ، فإن أريد بالوزر حقيقته فيكون المعنى : أبعدنا عنك ما يتوهم أن يلحقك من الوزر اللاحق لنوعك ، وإن أريد بالوزر المجازي ، وهو ما يلحقه قِبَل النبوة من الهم والحزن بسبب جهلك ما أنت الآن عليه من الأحكام الشرعية ، فيكون الوضع حقيقة ، والوزر مجازاً. هـ. قلت : والظاهر : أنَّ كل مقام له ذنوب ، وهو رؤية التقصير في القيام بحقوق ذلك المقام ، فحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فكلما علا المقام طُولب صاحبه بشدة الأدب ، فكأنه صلى الله عليه وسلم خاف ألاّ يكون قام بحق المقام الذي أقامه الحق فيه ، فاهتمّ من أجله ، وجعل منه حملاً على ظهره ، فأسقطه الحق تعالى عنه ، وبشَّره بأنه مغفور له على الإطلاق ؛ ليتخلّى من ذلك الاهتمام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 321
(8/492)
وزاده شرفاً بقوله : {ورفعنا لك ذِكرك} أي : نوّهنا باسمك وجعلناه شهيراً في المشارق والمغارب ، ومِن رَفْعِ ذكره صلى الله عليه وسلم أن قرن اسمَه مع اسمِه في الشهادة والأذان والإقامة والخُطب والتشهُّد ، وفي مواضع من القرآن : {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} [النساء : 59] {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء : 13] {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة : 62] ، وتسميته رسول الله ، ونبي الله ، وقد ذكره في كتب الأولين. قال ابن عطية : رَفْعُ الذكر نعمة على الرسول ، وكذا هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس ، وخمول الذكر والاسم حسن للمنفردين للعبادة. هـ. قلت : والأحسن ما قاله الشيخ المرسي رضي الله عنه : مَن أحبّ الظهور فهو عبد الظهور ، ومَن أحبّ الخفاء فهو عبد الخفاء ، ومَن أحبّ الله فلا عليه أخفاه أو أظهره. هـ. والخمول للمريد أسلم ، والظهور للواصل أشرف وأكمل.
ثم بشّر رسولَه وسلاَّه عما كان يلقى من أذى الكفار بقوله : {فإِنَّ مع العُسْرِ يُسراً} أي : إنّ مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يُسراً بإظهاره إياك عليهم حتى تغلبهم. وقيل : كان المشركون يُعيّرون رسول الله والمسلمين بالفقر ، حتى سبق إلى وهمه أنهم رَغِبُوا عن الإسلام لافتقار أهله ، فذكّره ما أنعم به عليه من جلائل النعم ، ثم قال :
322
(8/493)
{فإِنَّ مع العسكر يُسراً} كأنه قال : خوّلناك ما خوّلناك فلا تيأس من فضل الله ، {إِنَّ مع العسر} الذي أنتم فيه {يُسراً} ، وجيء بلفظ " مع " لغاية مقارنة اليسر للعسر ؛ زيادةً في التسلية وتقوية لقلبه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك تكريره ، وإنما قال صلى الله عليه وسلم عند نزولها : " لن يغلب عسر يسرين " لأنَّ العسر أعيد مُعرّفاً فكان واحداً ، لأنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى ، واليُسر أعيد نكرة ، والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى ، فصار المعنى : إنَّ مع العُسر يسريْن ، وبعضهم يكتبه بياءين ، ولا وجه له.
{فإِذا فرغتَ} من التبليغ أو الغزو {فانصبْ} ؛ فاجتهد في العبادة ، وأَتعب نفسك شكراً لما أولاك من النِعم السابقة ، ووعدك من الآلاء اللاحقة ، أو : فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الحق ، وقيل : فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء ، أو : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب في الشفاعة ، أي : في سبب استحقاق الشفاعة ، {وإِلى ربك فارغبْ} في السؤال ، ولا تسأل غيره ، فإنه القادر على إسعافك لا غيره. وقُرىء : " فرغِّب " أي : الناس إلى ما عنده.
جزء : 8 رقم الصفحة : 321
الإشارة : ما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم من تعديد النعم عليه واستقراره بها ، يُقال لخليفته العارف الداعي إلى الله ، حرفاً بحرف ، فيقال له : ألم نُوسع صدرك لمعرفتي ، ووضعنا عنك أوزارك حين توجهتَ إلينا ، أو : وضعنا عنك أثقال السير ، فحملناك إلينا ، فكنت محمولاً لا حاملاً ، ورفعنا لك ذكرك حين هيأناك للدعوة ، بعد أن أخملنا ذكرك حين كنت في السير لئلا يشغلك الناسُ عنا ، فإنَّ مع عسر المجاهدة يُسر المشاهدة ، فإذا فرغت من الدعوة والتذكير ، فأَتْعِب نفسك في العكوف في الحضرة ، أو : فإذا فرغت مِن كمالك فانصب في تكميل غيرك ، وارغب في هداية الخلق. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
323
جزء : 8 رقم الصفحة : 321(8/494)
سورة التين
جزء : 8 رقم الصفحة : 323
يقول الحق جلّ جلاله : {والتينِ والزيتونِ} ، أقسم بهما تعالى لِما فيهما من المنافع الجمّة. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أُهْدِي له طبقٌ من تينٍ فأكل منه ، وقال لأصحابه : " كُلوا ، فلو قلتُ إنَّ فاكهةً نزلت من الجنة لقُلتُ هذه ، لأن فاكهة الجنة ، بلا عَجَمِ ، فكلوها فإنها تقْطَعُ البواسير ، وتنفَعُ من النقْرسِ ". وهو أيضاً فاكهة طيبة لا فضل له ، وغذاء لطيف سريع الهضم ، كثير النفع ، ملين الطبع ، ويحلل البلغم ، ويُطهر الكليتين ، ويزيل ما في المثانة من الرمل ، ويسمن البدن ، ويفتح سُرد الكبد والطحال. وعن عليّ بن موسى الرضا : التين يزيل نكهة الفم ، ويطيل الشعر ، وهو أمان من الفالج. هـ.
وأمّا الزيتون فهو فاكهة وإدام ودواء ، ولو لم يكن له سوى اختصاصه بدُهن كثير المنافع لكفى به فضلاً. وشجرته هي الشجرة المباركة ، المشهود لها في التنزيل. ومرّ معاذُ بن جبل بشجرة الزيتون ، فأخذ منها قضيباً واستاك به. وقال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " نعم السواك الزيتون ، هي الشجرة المباركة ، يطيب الفم ، ويذهب بالحفرة " وقال : " هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي " وعن ابن عباس : هو تينكم هذا ، وزيتونكم هذا. وقيل : هما جبلان بالشام ينبتانهما.
{وطُورِ سينينَ} ، أضيف الطور وهو الجبل إلى " سينين " وهو البقعة ، وهو الجبل
324
الذي ناجى موسى عليه السلام ربَّه عليه ، ويُقال له : سينين وسيناء. {وهذا البلد الأمين} وهو مكة ، شرّفها الله ، وأمانتها أنها تحفظ مَن دخلها كما يحفظ الأمين ما يُؤتمن عليه. ووجه الإقسام بهاتين البقعتين المباركتين المشحونتين بخيرات الدنيا والآخرة غني عن الشرح والتبيين.(8/495)
وجواب القسم : {لقد خلقنا الإِنسانَ} أي : جنس الإنسان {في أحسن تقويمٍ} أي : كائناً في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورةً ومعنى ، حيث جعله اللهُ مستوي القامة ، متناسب الأعضاء ، متصفاً بصفات البارىء تعالى من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله خلق آدم على صورته " ، وفي رواية : " على صورة الرحمن " على بعض الأقوال. وشرح عجائب الإنسان يطول.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 324
(8/496)
ثم رددناه أسفلَ سافلين} أي : جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح ، وأسفل من كل سافل ، لعدم جريانه على موجب ما خَلَقَه عليه من الصفات ، التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين. وقيل : رددناه إلى أرذل العمر ، وهو الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القدرة ، كقوله تعالى : {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يَس : 68] أي : ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتعديل أسفلَ مَن سفُلَ في حُسن الصورة والشكل حيث ننكسه في خلقه ، فقوَّس ظهره بعد اعتداله ، وابْيَضَّ شعره بعد سواده ، وتكمش جلده ، وكَلّ سمعه وبصره. {إِلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ، استثناء متصل على التفسير الأول ، ومنقطع على الثاني ، {فلهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ} أي : رددناه أسفل السافلين إلاَّ مَن آمن ، أو : لكن الذين آمنوا وكانوا صالحين من الهرمى ، فلهم ثواب غير منقطع ، لطاعتهم وصبرهم على الشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاقّ والقيام بالعبادة ، خصوصاً وقت الكبر. وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفّف الله حسابه ، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة ، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء ، فإذا بلغ ثمانين كُتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته ، فإذا بلغ تسعين غُفرت ذنوبه ، وشفع في أهل بيته ، وكان أسير الله في أرضه ، فإذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له ما كان يعمله في صحته وشبابه ". ودخلت الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين المعنيين هنا. قاله النسفي. والخطاب في قوله : {فما يُكَذِّبُك بعدُ بالدين} للإنسان ، على طريقة الالتفات ، أي : فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع ، والبرهان الساطع بالجزاء ، والمعنى : إنَّ خلق الإنسان من نطفةٍ ، وتسويته بشراً سويًّا ، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي ،
325
(8/497)
ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر ، لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق ، وأنَّ مَن قدر على خلق الإنسان على هذا النمط العجيب لم يعجز عن إعادته ، فما سبب تكذيبك بالجزاء ؟ ! أو : بالرسول صلى الله عليه وسلم : أي : فمَن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل القاطع ؟
{أليس اللهُ بأحكم الحاكمين} وعيد للكفار ، وأنّه يحكم عليهم بما هو أهله ، وهو من الحُكم والقضاء ، أي : أليس الله بأفضل الفاصلين فيفصل بينك وبين مكذِّبِيك. وقيل : مِن الحِكمة ، بمعنى الإتقان ، أي : أليس مَن خلق الإنسان وصوّره في أحسن تقويم بأحكم الحكماء. وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال : " بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين ". الإشارة : حاصل ما ذكره القشيري : أنه تعالى أقسم بأربعة أشياء ، لغاية شرفها ؛ الأولى شجرة القلب التينية المثمِرة للعلوم اللدنية الخالصة عن نوى الشكوك العقلية والشبهة الوهمية ، والثانية : شجرة الروح المستضيئة من نور السر لكمال استعدادها ، وإليه الإشاره بقوله : {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِياءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور : 35] الخ. والثالثة : شجرة السر ، الذي هو طور التجلِّي محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة. والرابعة : البلد الأمين ، الذي هو حال التلبيس والخفاء ، بعد التمكين ، وهو الرجوع للأسباب ، قياماً بآداب الحكمة ورسم العبودية ، وهو مقام الكملة. والمقسَم عليه : {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} قال القشيري : أي : في المظهر الأكمل والأتم ، والمحل الأعم ، حامل الأمانة الإلهية ، وصاحب الصورة الرحمانية ، روحانيته أُم الروحانيات ، وطبيعته أجمع الأمزجة وأعدلها ، ونشأته أوسع النشآت وأشملها. هـ. قلت : وإليه أشار الششتري بقوله :
جزء : 8 رقم الصفحة : 324
وفيك يطوى ما انتشر من الأواني
وقول الشاعر :
يا تائهاً في مهمهٍ عن سره
انظر تجد فيك الوجودَ بأسره
أنت الكمال طريقة وحقيقة
يا جامعاً سر الإله بأسره
وقال في لطائف المنن ، حاكياً عن شيخة أبي العباس المرسي : قرأتُ ليلة {والتين والزيتون} إلى أن انتهيت إلى قوله : {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين} ففكرتُ في معنى الآية ، فكشف لي عن اللوح المحفوظ ، فإذا فيه مكتوب : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحاً وعقلاً ، ثم رددنا أسفل سافلين نفساً وهوى. هـ. فقوله تعالى : {إلاّ الذين آمنوا..} الخ ؛ هم أهل الروح والعقل ، الباقون في حسن التقويم ، وغيرهم أهل النفس والهوى ، والله تعالى أعلم. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
326
جزء : 8 رقم الصفحة : 324(8/498)
سورة العلق
جزء : 8 رقم الصفحة : 326
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، في أول الوحي : {اقرأ باسم ربك} أي : اقرأ هذا القرآن مفتتحاً باسم ربك ، أو مستعيناً به ، فالجار في محل الحال. ويحتمل أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو باسم ربك ، كأنه قيل له : اقرأ هذا اللفظ. والتعرُّض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية والروحانية بإنزال الوحي المشتمل على نهاية العلوم والحكم. وقوله تعالى : {الذي خلقَ} صفة للرب ، ولم يذكر له مفعولاً ؛ لأنَّ المعنى : الذي حصل منه الخلق ، واستأثر به ، لا خالق سواه ، أو تقديره : خلق كلَّ شيء ، فتناول كلَّ مخلوق ؛ لأنه مطلق ، فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من البعض.(8/499)
وقوله تعالى : {خَلَق الإِنسانَ} بتخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله لشرفه ، ولأنَّ التنزيل إنما هو إليه ، ويجوز أن يُراد : الذي خلق الإنسان ، إلاَّ أنه ذكر مبهماً ، ثم فسّر تفخيماً لخلقه ، ودلالةً على عجيب فطرته. قيل : لمَّا ذكر فيما قبل أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك ، ذكره هنا منبهاً على شيءٍ من أطواره ، وذكر نعمته عليه ، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك ، وما يؤول إليه حاله في الآخرة ، فإنه تفسير لقوله : {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيا أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين : 4 ، 5] ، ثم ذكر أصل نشأته بقوله : {مِن علقٍ} ولم يقل من علقة ؛ لأنَّ الإنسان في معنى الجمع. وفيه
327
إشارة إلى أنَّ ابتداء الدين كابتداء خلق الإنسان ، كان ضعيفاً ثم تقوّى شيئاً فشيئاً حتى انتهى كماله.
ثم كرّر الأمر بالقراءة بقوله : {اقرأْ} أي : افعل ما أُمرتَ به ، تأكيداً للإيجاب وتمهيداً لقوله : {وربُّك الأكرمُ} فإنه كلام مستأنف ، وارد لإزاحة ما أظهر عليه السلام من العُذر بقوله : " ما أنا بقارىء " يريد أنّ القراءة من شأن مَن يكتب ويقرأ ، وأنا أمي ، فقيل له : {وربك} الذي أمرك بالقراءة مستعيناً باسمه هو {الأكرم} أي : مِن كل كريم ، يُنعم على عباده بغاية النعم ، ويحلم عنهم إذا عصوه ، فلا يعاجلهم بالنقم ، فليس وراء التكرُّم بهذه الفوائد العظيمة تكرُّم. {الذي عَلَّم} الكتابة {بالقلم عَلَّم الإِنسانَ ما لم يعلم} فدلّ على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. ونبّه على فضل علم الكتابة لِما فيه من المنافع العظيمة ، وما دُوّنت العلوم ولا قُيّدت الحِكم ولا ضُبِطت أخبار الأولين ، ولا كُتب الله المنزّلة ، إلاَّ بالكتابة ، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى دليل إلاّ أمر القلم والخطّ لكفى به وفي ذلك يقول ابن عاشر الفاسي :
(8/500)
جزء : 8 رقم الصفحة : 327
لله في خلقه مِن صنعه عجبُ
كادت حقائقُ في الوجود تنقلب
كلم بعين تُرى لا الأذنُ تسمعها
خطابُها حاضر وأهلها ذهبوا
الإشارة : اقرأ بربك لتكون به في جميع أمورك ، الذي أظهر الأشياء ليُعرف بها ، وأظهر المظهر الأكبر ـ وهو الإنسان ـ من علقة مهينة ، ثم رفعه بالعلم إلى أعلى عليين ، فرفعه من حضيض النطفة الخبيثة إلى ارتفاع العلم والمعرفة ، ولذلكم قال : (اقرأ وربك الأكرم) الذي تكرَّم عليك وعلّمك ما لم تكن تعلم ، الذي علَّم بالقلم ، علَّم الإنسان ما لم يكن يعلم. والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 327
يقول الحق جلّ جلاله : {كلاَّ} ، هو ردع لمحذوف ، دلّ الكلام عليه ، كأنه قيل : خلقنا الإنسان من علق ، وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة ، فكفر وطغى ، كلا لينزجر عن ذلك {إِنَّ الإِنسان ليطغى} ؛ يجاوز الحد ويستكبر عن ربه. قيل : هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد زمان ، وهو الظاهر. وقوله : {أن رآه استغنى} مفعول له ،
328
أي : ليطغى لرؤية نفسه مستغنياً ، على أنَّ " استغنى " مفعول لرأى ، لأنه بمعنى عَلِم ، ولذلك شاع كون فاعله ومفعوله ضميريْ واحد كما في " ظننتني وعَلِمتني " وإن جوّزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضاً ، وجعل من ذلك قول عائشة رضي الله عنها : " رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان ، الماء والتمر " ، والمشهور أنه خاص بأفعال القلوب. وحاصل الآية : أن سبب طغيان الإنسان هو استغناؤه بالمال ، وسبب تواضعه هو فقره.
(8/501)
ثم هدّد الإنسان وحذّره من عاقبة الطغيان ، على طريق الالتفات ، فقال : {إِنَّ إِلى ربك الرُّجعى} أي : الرجوع ، فيجازيك على طغيانك. {أرأيت الذي ينهَى عبداً إِذا صلَّى} أي : أرأيت أبا جهل ينهى محمداً صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، وهو تشنيع بحاله ، وتعجيب منها ، وإيذان بأنه من البشاعة والغرابة بحيث يراها كل مَن يأتي منه الرؤية. رُوي أنَّ أبا جهل كان في ملأ من قريش ، فقال : لئن رأيت محمداً لأطأنّ عنقه ، فرأه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، فجاءه ، ثم نكص على عقبيه ، فقالوا : مالك ؟ فقال : حال بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة ، فنزلت ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لو دنا من لاختطفته الملائكة ". وتنكير العبد تفخيم لشأنه صلى الله عليه وسلم ، والرؤية هنا بصرية ، وأمّا في قوله : {أرأيت إن كان على الهدى أو أّمَرَ بالتقوى} وفي قوله : {أرأيتَ إِن كَذَّب وتولَّى} فعلمية ، أي : أخبرني فإنَّ الرؤية لمَّا كانت سبباً للإخبار عن المرائي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها. والخطاب لكل مَن يصلح للخطاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 328
(8/502)
قال في الكشاف : قوله تعالى : (الذي ينهى) هو المفعول الأول لقوله : (أرأيت) الأول ، والجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني ، وكررت (أرأيت) بعد ذلك للتأكيد ، فلا تحتاج إلى مفعول. وقوله : {ألم يعلم بأنَّ الله يرى} هو جواب قوله : {إن كذَّب وتولى} ، وجواب قوله : {إن كان على الهدى} محذوف ، يدل عليه جواب قوله : {إن كذَّب وتولى} فهو في المعنى جواب للشرطين معاً. والضمير في قوله : {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} للناهي ، وهو أبو جهل ، وكذا في قوله : {إن كذَّب وتولَّى} ، والتقدير على هذا : أخبرني عن الذي ينهى عبداً إذا صلّى إن كان هذا الناهي على الهدى أو إن كَذّب وتولّى ، ألم يعلم بأنّ الله يرى جميع أحواله ، فمقصود الآية : تهديد له وزجر ، وإعلام بأنّ الله يراه. وخالفه ابن عطية في الضمائر ، فقال : إنَّ الضمير في قوله : {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} للعبد الذي صلَّى ، وأنّ الضمير في قوله : {إن كذَّب وتولّى} للناهي ، وخالفه في جعل " أرأيت " الثانية مكررة للتأكيد ، فقال : " أرأيت " في المواضع الثلاثة توقيف ، وأنّ جوابها في المواضع الثلاثة : قوله : {ألم يعلم
329
بأن الله يرى} فإنه يصلح مع كل واحدة منها ، ولكنه جاء في آخر الكلام اقتصاراً. انظر ابن جزي. وما قاله ابن عطية أظهر ، فكأنه تعالى حاكِمٌ قد حضره الخصمان ، يُخاطب هذا مرة والآخر أخرى ، وكأنه قال : يا كافر إن كانت صلاته هُدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى ، ثم أقبل على الآخر ، فقال : أرأيت إن كذَّب. الخ.
وقال الغزنوي : جواب {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} محذوف ، تقديره : أليس هو على الحق واتباعه واجب ، يعني : فكيف تنهاه يا مكذّب ، متولي عن الهدى ، كافر ، ألم تعلم أن الله يراك. هـ.
(8/503)
{كلاَّ} ، ردع للناهِي عن عبادة الله {لئن لم ينتهِ} عما هو عليه {لَنَسْفعاً بالناصيةِ} ؛ لنأخذن بناصية ولنسحبنّه بها إلى النار. والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدة. وكَتْبُها في المصحف بالألف على حكم الوقف. واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور ، ثم بيّنها بقوله : {ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ} فهي بدل ، وإنما صَحّ بدلها من المعرفة لوصفها ، ووصفها بالكذب والخطأ على المجاز ، وهما لصاحبهما. وفيه من الجزالة ما ليس في قوله : ناصية كاذب خاطىء.
{فَلْيَدْعُ ناديَه} ، النادي : المجلس الذي يجتمع فيه القوم. رُوي أنَّ أبا جهل مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلّي ، فقال : ألم أَنْهكَ ؟ فأغلط له النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً ؟ فنزلت. {سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النار. والزبانية : الشُّرَطِ ، واحدة : زِبْنِيَّة أو زِبْنى ، من الزبن ، وهو الدفع. عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لَوْ دَعَا نَادِيهُ لأخَذَتْه الزَّبانِيةُ عِياناً ". {كلاَّ} ، ردع لأبي جهل {لا تُطِعْهُ} أي : أثبت على ما أنت عليه من عصيانه ، كقوله : {فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)} [القلم : 8] {واسجدْ} ؛ واظب على سجودك وصلاتك غير مكترث {واقترب} ؛ وتقرّب بذلك إلى ربك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 328
الإشارة : كل مَن أنكر على المتوجهين ، الذين هم على صلاتهم دائمون ، يُقال في حقه : أرأيت الذي يَنهى عبداً إذا صلّى.. إلى آخر الآيات. ويُقال للمتوجه : لا تُطعه واسجد بقلبك وجوارحك ، وتقرّب بذلك إلى مولاك ، حتى تظفر بالوصول إليه. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
330
جزء : 8 رقم الصفحة : 328(8/504)
سورة القدر
جزء : 8 رقم الصفحة : 330
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر} ، نوّه بشأن القرآن ، حيث أسند إنزاله إليه بإسناده إلى نون العظمة ، المنبىء عن كمال العناية به ، وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للإيذان بغاية ظهوره ، كأنه حاضر في جميع الأذهان ، وقيل : يعود على المقروء المأمور به في قوله : {اقْرَأْ} [العلق : 1] فتتصل السورة بما قبلها. وعظَّم الوقت الذي أنزله فيه بقوله : {وما أدراك ما ليلةٌ القَدْر} لِما فيه من الدلالة على أنَّ علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق ، لا يدريها إلاّ علاَّم الغيوب ، كما يُشعر به قوله تعالى : {ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهرٍ} أي : ليس فيها ليلة القدر ، فإنه بيان إجمالي لشأنها إثر تشويقه صلى الله عليه وسلم إلى درايتها ، فإنَّ ذلك مُعْرِب عن الوعد بإدرائها على ما تقدّم. وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التفخيم ما لا يخفى.
والمراد بإنزاله : إمّا إنزاله كله إلى سماء الدنيا ، كما رُوي أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم نزل نجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنة ، وإمّا ابتداء نزوله ، وهو الأظهر. وسُميت ليلة القدر لتقدير الأمور فيها ، وإبراز ما قضى تلك السنة ، لقوله تعالى : {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان : 4] ، فالقَدْر بمعنى التقدير ، أو لشرفها على سائر الليالي ، فالقَدْر بمعنى الشرف ، وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان على المشهورِ. لما رُوي أنَّ أُبي بن كعب كان يحلف أنها ليلة السابع والعشرين ، وقيل غير ذلك ومظان التماسها في الأوتار من العشر الأواخر. ولعل السر
331
في إخفائها تعرض مَن يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالي في طلبها ، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى ، واسمه الأعظم ، وساعة الجمعة ، ورضاه في الطاعات ، وغضبه في المعاصي ، وولايته في خلقه ليحسن الظن بالجميع.(8/505)
وتخصيص الألف بالذكر إمّا للتكثير ، أو لما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأُعطوا ليلةَ القدر هي خيرٌ من عمل ذل الغازي. وقيل : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم كافة ، فاستقصر أعمار أمته ، فخاف ألاّ يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم ، فأعطاه الله ليلة القدر ، جعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم. وقيل : كان مُلك سليمان خمسمائة شهر ، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر ، فجعل الله هذه الليلة لِمن قامها خيراً من ملكيهما.
جزء : 8 رقم الصفحة : 331
(8/506)
ثم بيّن وجه فضلها ، فقال : {تَنزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها} ، والروح إمّا جبريل عليه السلام ، أو خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلاّ تلك الليلة ، أو الرحمة. والمراد بتنزلهم : نزولهم إلى الأرض يُسلمون على الناس ويؤمِّنون على دعائهم ، كما في الأثر. وقيل : إلى سماء الدنيا. وقوله : {بإِذنِ ربهم} يتعلق بـ " تنزلُ " ، أو بمحذوف هو حال من فاعله ، أي : ملتبسين بأمر ربهم ، أو : ينزلون بإذنه ، {من كل أمرٍ} أي : من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى قابل ، رُوي أنَّ الله تعالى يُعْلِم الملائكة بكل ما يكون في ذلك العام كله ، وقيل : يَبرز ذلك مِن علم الغيب ليلة النصف من شعبان ، ويُعْطَى الملائكةً ليلة القدر ، فلما كان أهم نزولهم هذا الأمر جعل نزولهم لأجله ، فلا ينافي كون نزولهم للتسليم على الناس والتأمين ، كما قال تعالى : {سلامٌ هيَ} أي : ما هي إلاَّ سلام على المؤمنين ، جعلها نفس السلام لكثرة ما يُسلِّمون على الناس ، فقد رُوي أنهم يُسلِّمومن على كل قائم وقاعد وقارىء ومُصَلِّ ، أو : ما هي إلاِّ سلامة ، أي : لا يُقَدِّر الله تعالى فيها إلاّ السلامة والخير ، وأمّا في غيرها فيقضي سلامةً وبلاء ، وقال ابن عباس : قوله : (هي) إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين ؛ لأنّ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة.
ثم ذكر غايتها ، فقال : {حتى مطلَعِ الفجر} أي : تنتهي إلى طلوع الفجر ، أو : تُسلِّم الملائكة إلى مطلع الفجر ، أو : تنزل الملائكة فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر. و " مَطْلَع " بالفتح : اسم زمان ، وبالكسر مصدر ، أو اسم زمان على غير قياس ؛ لأنّ ما يضم مضارعه أو يفتح يتحد فيه الزمان والمكان والمصدر ، يعني " مَفْعَل " في الجميع.
(8/507)
الإشارة : أهل القلوب من العارفين ، الأوقاتُ كلها عندهم ليلة القدر ، والأماكن عندهم كلها عرفات ، والأيام كلها جمعات ، لأنّ المقصود من تعظيم الزمان والمكان هو باعتبار ما يقع فيه من التقريب والكشف والعيان ، والأوقات والأماكن عند العارفين كلها سواء في هذا المعنى ، كما قال شاعرهم :
332
لولا شهود جمالكم في ذاتي
ما كنت أرضى ساعة بحياتي
ما ليلةُ القدر المعظَّم شأنها
إلاَّ إذا عمرَتْ بكم أوقاتي
إنَّ المحب إذا تمكّن في الهوى
والحب لم يحتج إلى ميقات
وقال آخر :
وكل الليالي ليلةُ القدر إن بدا
كما كلُّ أيام اللقا يومُ جمعةِ
جزء : 8 رقم الصفحة : 331
وسعيٌ له حجٌّ ، به كلُّ وقفةٍ
على بابه قد عادلت ألف وقفةِ
وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : نحن ـ والحمد الله ـ أوقاتنا كلها ليلة القدر. هـ. لأنَّ عبادتهم كلها قلبية ، بين فكرة واعتبار ، وشهود واستبصار ، و " فكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة " ، كما في الأثر ، بل فكرة العيان تزيد على ذلك ، كما قال الشاعر :
كلُّ وقت من حبيبي
قَدْرُه كألف حجه
وقد يقال : ثواب هذه العبادة كشف الحجاب ، وشهود الذات الأقدسن هو لا يقاس بمقياس. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
333
جزء : 8 رقم الصفحة : 331(8/508)
سورة البينة
جزء : 8 رقم الصفحة : 333
يقول الحق جلّ جلاله : {لم يكن الذين كفروا} أي : بالرسول وبما أنزل عليه {من أهل الكتاب} اليهود والنصارى ، {والمشركين} ؛ عبَدة الأصنام {منفكِّين} منفصلين عن الكفر ، وحذف لأنَّ صلة " الذين " يدل عليه ، {حتى تأتِيَهم البَيِّنَةُ} الحجة الواضحة ، وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم. يقول : لم يتركوا كفرهم حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فلمّا بُعِثَ أسلم بعض ، وثبت على الكفر بعض. أو : لم يكونوا منفكين ، أي : زائلين عن دينهم حتى تأتيَهم البَينة ببطلان ما هم عليه ، فتقوم الحجة عليهم. أو : لم يكونوا لينفصلوا عن الدنيا حتى بَعَثَ اللهُ محمداً فقامت عليهم الحجة ، وإلاّ لقالوا : {لَوْلاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً...} [طه : 134] الآية.
وتلك البينة هي {رسولٌ من الله} أي : محمد صلى الله عليه وسلم وهو بدل من " البينة " {يتلو} يقرأ عليهم {صُحفاً} كتباً {مُطَهَّرةً} من الباطل والزور والكذب ، والمراد : يتلو ما يتضمنه المكتوب في الصحف ، وهو القرآن ، يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه ، ولم يكن يقرأ مكتوباً ؛ لأنه كان أُميًّا لا يكتب ولا يقرأ الصحف ، ولكنه لَمَّا كان تالياً معنى ما في الصُحف فكأنه قد تلى الصُحف. ثم بيّن ما في الصُحف ، فقال : {فيها} أي : في الصُحف {كُتب قَيِّمةٌ} مستقيمة ناطقةٌ بالحق والعدل. ولَمّا كان القرآن جامعاً لِما في الكتب المتقدمة صدق أنَّ فيه كُتباً قيمة.
334(8/509)
{وما تَفَرَّقَ الذين أُوتوا الكتاب إِلاَّ مِن بعد ما جاءتهم البينةٌ} أي : وما اختلفوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ مِن بعد ما عَلِموا أنه حق ، فمنهم مَن أنكر حسداً ، ومنهم مَن آمن. وإنّما أفرد أهل الكتاب بعدما جمع إولاً بينهم وبين المشركين ؛ لأنهم كانوا على علمٍ به ؛ لوجوده في كتبهم ، فإذا وُصفوا بالتفرُّق عنه كان مَن لا كتاب له أدخل في هذا. وقيل : المعنى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ، أي : منفصلين عن معرفة نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى بعثه الله.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 334
وما أُمروا إِلاَّ ليعبدوا اللهَ} أي : ما أُمروا في التوراة والإنجيل إلاّ لأجل أن يعبدوا الله وحده من غير شرك ولا نفاق ، ولكنهم حرّفوا وبدّلوا. وقيل : اللام بمعنى " أن " أي : إلاّ بأن يعبدوا الله {مخلصين له الدينَ} أي : جاعلين دينَهم خالصاً له تعالى ، أو : جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين. قال ابن جُزي : استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء ، وهو بعيد ؛ لأنَّ الإخلاص هنا يُراد به التوحيد وترك الشرك ، أو ترك الرياء. انظر كلامه ، وسيأتي بعضه في الإشارة. {حنفاءَ} مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام ، {ويُقيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاةَ} إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة ، فالأمر ظاهر ، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم بالدخول في شريعتنا ، {وذلك دِينُ القيِّمة} أي : الملة المستقيمة. والإشارة إلى ما ذكر من عبادة الله وحده وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعُلو رتبته وبُعد منزلته.
(8/510)
الإشارة : لم يكن الذين جحدوا وجودَ أهل الخصوصية من العلماء والجهّال منفكين عن ذلك حتى جاءتهم الحُجة القائمة عليهم ، وهو ظهور شيخ التربية خليفة الرسول ، يتلو كتابَ الله العزيز على ما ينبغي ، وما تَفَرَّقوا في التصديق إلاّ بعد ظهوره. وما أُمروا إلاّ بالإخلاص وتطهير سرائرهم ، وهو لا يتأتى إلاّ بصُحبته. وتكلم ابنُ جزي هنا على الإخلاص ، فقال : اعلم أنَّ الأعمال على ثلاثة أنواع : مأمورات ومنهيات ومباحات ؛ فأمّا المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن : خلوص النية لوجه الله ، بحيث لا يشوبها أُخرى ، فإن كانت كذلك فالعمل خالص ، وإن كانت لغير وجه الله من طلب منفعة دنيوية أو مدح أو غير ذلك ، فالعمل رياء محض مردود ، وإن كانت النية مشتركة ؛ ففي ذلك تفصيل ، فيه نظر واحتمال. قلت : وقد تقدّم كلام الغزالي في سورة البقرة عند قوله : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة : 198] ، وحاصله : أنَّ الحكم للغالب وقوة الباعث. انظر لفظه.
ثم قال ابن جزي : وأمَّا المنهيات فإنْ تَرَكها دون نية خرج عن عهدتها ولم يكن له أجر في تركها ، وإن تركها بنية وجه الله خرج عن عهدتها وأُجر. وأمَّا المباحات ، كلأكل والشرب ، والنوم والجماع وغير ذلك ، فإن فَعَلَها بغير نية لم يكن له فيها أجر ، وإن فَعَلَها
335
بنية وجه الله فله فيها أجر ، فإنَّ كُلَّ مباح يمكن أن يصير قُربة إذا قصد به وجه الله ، مثل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة ، ويقصد بالجِمَاع التعفُّف عن الحرام ، وشبه ذلك. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 334
ودرجات الإخلاص ثلاث : الأولى : أن يعبد الله لطلب غرض دنيوي أو أخروي من غير ملاحظة أحد من الخلق ، والثانية : أن يعبد الله لطلب الآخرة فقط ، والثالثة : أن يعبد الله عبودية ومحبة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 334
(8/511)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} المتقدمين في أول السورة ، {في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شَرُّ البريَّةِ} أي : الخليقة ؛ لأنّ الله بَراهم ، أي : أوجدهم. قُرىء بالهمزة ، وهو الأصل ، ويعدمه مع الإدغام ، وهو الأكثر.
{إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خيرُ البريَّةِ} لا غيرهم ، {جزاؤُهم عند ربهم جناتُ عدنٍ} إقامة ، {تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورَضُوا عنه} حيث بلغوا من الأماني قاصيها ، وملكوا من المآرب ناصيتها ، وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. {ذلك لِمَنْ خَشِيَ ربَّه} ، فإنَّ الخشية التي هي مِن خصائص العلماء به مناطاة بجميع الكمالات العلمية والعملية ، المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية. والتعرُّض لعنوان الربوبية ، المعربة عن المالكية والتربية ؛ للإشعار بعلو الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية. قاله ابو السعود.
وقوله : {خير البرية} يدل على فضل المؤمنين من البشر على الملائكة. وفيه تفصيل تقدّم ذكره في النساء. قال القشيري : قوله تعالى : {خير البرية} يدل على أنهم أفضل من الملائكة. هـ. قال في الحاشية : أي : في الجملة ، ثم ذكر حكاية الرجل الذي أحياه الله بعد موته بدعوة عيسى ، فقال : إنه كان في الجنة ، وأنه مرّ بملأ من الملائكة ، وهم يقولون : إنَّ من بني آدم لَمَنْ هو أكرم على الله من الملائكة. ثم ذكر عن نوادر الأصول : أنَّ المؤمن أكرم على الله من الملائكة المقربين ، فانظره. وقال بعضهم : الملائكة عقل بلا شهوة ، والبهائم شهوة بلا عقل ، والآدمي فيه عقل وشهوة ، فمَن غلب
336
عقلُه على شهوته كان كالملائكة أو أفضل ، ومَن غلبت شهوتُه على عقله كان كالبهائم أو أضلّ. هـ.
(8/512)
الإشارة : مَن كفر بأهل الخصوصية مِن أهل العلم وغيرهم لهم نار الحجاب والقطيعة ، ومَن آمن بهم ، ودخل تحت تربيتهم ، له جنات المعارف خالداً فيها ، رضي الله عنهم حيث قرَّبهم إليه ، ورَضُوا عنه حيث سلّموا الأمر إليه ، وخشوا بعُده وطرده. قال الإمام الفخر : اعلم أنَّ العبد مُركَّب من جسد وروح ، فجَنّة الجسد هي الموصوفة في القرآن ، وجنة الروح هي رضا الرب. والأُولى مبدأ أمره ، والثانية منتهى أمره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 336
وقال الورتجبي : عن الواسطي : الرضا والسخط نعتان قديمان ، يجريان على الأبد بما جرى في الأزل ، يظهران الوسْم على المقبولين والمطرودين. فقد بانت شواهد المقبولين بضيائها عليهم ، كما بانت شواهد المطرودين بظلمتها عليهم. ثم قال عن سهل : الخشية سر والخشوع ظاهر. هـ. فالخشية محلها البواطن ، والخشوع ظهور أثر الخشية في الظاهر. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
337
جزء : 8 رقم الصفحة : 336
سورة الزلزلة
جزء : 8 رقم الصفحة : 337(8/513)
سورة الزلزلة
جزء : 8 رقم الصفحة : 337
يقول الحق جلّ جلاله : {إِذا زُلزلت الأرضُ} أي : حُركت تحريكاً عنيفاً مكرراً متداركاً ، {زِلزالها} أي : الزلزلة المخصوصة بها على مقتضى المشيئة الإلهية ، وهو الزلزال الشديد الذي لا غاية وراءه ، أو : زلزالها العجيب الذي لا يُقادر قدره. قال ابن عرفة : المراد : الأرض الأولى ؛ لأنّ الثانية ليس فيها أموات. ولكن السموات عند المنجِّمين متلاصقة بعضها مع بعض ، وكذلك الأرضون ، وعندنا يجوز أن يكون بينهما تخلُّل ، وهو ظاهر حديث الإسراء. هـ.
وذلك عند النفخة الثانية لقوله تعالى : {وأخرجت الأرضُ أثقالها} أي : ما في جوفها من الأموات والدفائن ، جمع : ثِقُل ، وهو : متاع البيت ، جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها. وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير ، أو : للإيماء إلى تبدُّل الأرض غير الأرض. {وقال الإنسانُ} أي : كل فرد مِن أفراده ، لِما يدهمهم من الطامة التامة ، ويبهرهم من الداهية العامة : {ما لها} زُلزلت هذه الزلزلة الشديدة ، وأخرجت ما فيها من الأثقال ، استعظاماً لِما شهدوه من الأمر الهائل ، وقد سُيرت الجبال وفي الجو فصارت هباءً. وهذا قول عام يقوله المؤمن بطريق الاستعظام ، والكافر بطريق التعجًّب.
338
{يومئذٍ تُحَدِّثُ أخبارَها} يوم إذا زلزلت الأرض تُحَدِّث الناس أخبارها بما وقع على ظهرها ، قيل : يُنطقها اللهُ وتُحدِّث بما وقع عليها خيرٍ وشر ، رُوي عنه صلى الله عليه وسلم : " أنها تشهد على كل أحدٍ بما عمل على ظهرها " {بأنّ ربك أوْحى لها} أي : بسبب أنَّ ربك أوحى لها بأن تُحَدِّث ، أي : أَمَرَها بذلك. والحديث يستعمل بالباء وبدونها ، يقال : حدثت كذا وبكذا ، و " أوحى " يتعدى باللام وبـ " إلى ".
{يومئذٍ} أي : يوم إذ يقع ما ذكر {يَصْدُر الناسُ} من قبورهم إلى موقف الحساب {أشتاتاً} متفرقين طبقات ، منهم بِيض الوجوه آمنين ، ومنهم سُود الوجوه فزعين ، كما في قوله تعالى : {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ : 18] وقيل : يصدرون غن الموقف أشتاتاً ، ذات اليمين إلى الجنة ، وذات الشمال إلى النار ، {لِيُرَوا أعمالَهم} أي : جزاء أعمالهم ، خيراً أو شراً.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 338(8/514)
فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يَرَهُ} ، والذرة : النملة الصغيرة. وقيل : ما يرى في شعاع الشمس من البهاء. و " خيراً " : تمييز ، {ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شراً يَرَهُ} قيل : هذا في الكافر ، والأُولى في المؤمنين. وقال ابن عباس رضي الله عنه : ليس مؤمن ولا كافر ، عَمِلَ خيراً ولا شرًّا في الدنيا إلاّ يراه في الآخرة ، فأمّا المؤمن فيرى حسناته وسيئاته ، فيغفر اللهُ سيئاته ويُثيبه بحسناته ، وأمّا الكافر فيَرُدُّ اللهُ حسناته ويُعذبه بسيئاته. وقال محمد بن كعب : الكافر يرى ثوابه في الدنيا ، في أهله وماله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير ، والمؤمن يرى عقوبته في الدنيا ، في نفسه وأهله وماله ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. وفي الحديث : " إذا تاب العبدُ عن ذنبه أَنْسَى الله الحفظةَ ذنوبه ، وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض ، حتى يلقى الله وليس عليه شاهد بذنب ". قال ابن جُزي : هو على عمومه في الكافر ، وأمّا المؤمنون فلا يُجْزَون بذنوبهم إلاَّ بستة شروط ؛ أن تكون ذنوبهم كِبار ، وأن يموتوا قبل التوبة منها ، وألاَّ يكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها ، وألاّ يُشفع فيهم ، وألاّ يكونوا ممن استحق المغفرة بعملٍ ، كأهل بدر ، وإلاّ يعفو الله عنهم ، فإنّ المؤمن العاصي في مشيئة الله ، إن شاء عذَّبه ، وإن شاء غفر له. هـ.
الإشارة : إذا زُلزلت أرضُ النفوس زلزالها اللائق بها ، وحُركت بالواردات والأحوال ، وتحققت الغيبة عنها بالكلية ، أشرقت شمس العرفان ، فغطّت وجودَ الأكوان ، كما قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه مُنشِداً :
339
فلوا عاينت عيناك يوم تزلزلت
أرض النفوس ودُكت الأجبال
لرأيتَ شمس الحق يسطع نورها
يوم التزلزل والرجال رجال
وأخرجت حينئذ ما فيها من العلوم ، يومئذ تُحَدِّث أخبارها : أخبار الأسرار الكامنة فيها ، بأنّ ربك أوحى لها إلهاماً. يومئذ يَصْدُر الناسُ من الفناء إلى البقاء ، أشتاتاً ، فمنهم الغالب حقيقته ، ومنهم الغالب شريعته ، ومنهم المعتدل. أو : فمنهم الغالب عليه القبض والقوة ، ومنهم الغالب عليه البسط والليونة ، وهذا أعم نفعاً. والله أعلم. وذلك لِيُروا أعمال مجاهدتهم بالتنعُّم في مشاهدتهم ، فمَن يعمل مثقال ذرة خيراً ـ بأن ينقص من نفسه عادةً في سيره ـ يرَ جزاء ذلك ، ومَن يعمل مثقال ذرة شرًّا ـ بأن يزيد من الحس شيئاً في الظاهر ـ يره ، فإنه ينقص من معناه في الباطن ، إلاّ إذا تمكّن من الشهود. وبالله التوفيق وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
340
جزء : 8 رقم الصفحة : 338(8/515)
سورة العاديات
جزء : 8 رقم الصفحة : 340
يقول الحق جلّ جلاله : {والعادياتِ ضَبْحاً} ، أقسم تعالى بخيل الغزاة تعدو فتضبَح ، والضبح : صوت أنفاسها إذا عَدَون ، وحكى صوتها ابنُ عباس ، فقال : أحْ ، أحْ. وانتصاب " ضبحاً " على المصدر ، أي : يضبحن ضبحاً ، أو : بالعاديات ، فإنَّ العَدْو يستلزم الضبح ، كأنه قيل : والضابحات ضبحاً ، أو : حال ، أي : ضابحات. {فالمُورِيات قَدْحاً} ، الإيراء : إخراج النار ، والقدح : الصكّ ، يقال : قدح فأوْرى ، أي : فالتي تُوري النارَ من حوافرها عند العَدْو. وانتصاب " قدحاً " كانتصاب ضبحاً. {فالمُغيراتِ} التي تغير على العدوّ ، {صُبْحاً} أي : وقت الصبح ، وهو المعتاد في الغارات ، يعدون ليلاً لئلا يشعر بهم العدو ، ويهجمون عليهم صباحاً ليروا ما يأتون وما يذرون. وإسناد الإغارة ـ التي هي متابعة العدو ، والنهب والقتل والأسر ـ إلى الخيل ، وهي حال الراكب عليها ، إيذاناً بأنها العمدة في إغارتهم.(8/516)
وقوله تعالى : {فأثَرْنَ به نَقْعاً} أي : غباراً ، عطف على الفعل الذي دلّ عليه اسم الفاعل ، إذا المعنى : واللاتي عدون فأَوْرَين فأغرن فأثرن ، أي : هيّجن به غباراً ، وتخصيص إثارته بالصُبح لأنه لا تظهر إثارته بالليل ، كما أنَّ الإيراء الذي لا يظهر بالنهار واقع بالليل. والحاصل : أنّ العَدْو كان بالليل وبه يظهر أثر القدح من الحوافر ، ولا يظهر النقع إلاّ في الصبح. {فَوسَطْنَ به} أي : فوسطن بذلك الوقت {جَمْعاً} من جموع الأعداء ، والفاء
341
لترتيب ما بعد كل على ما قبله ، فإنَّ توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتب على الإغارة ، المترتبة على الإيراء ، والمترتب على العدْو.
وجواب القسم : قوله تعالى : {إِنَّ الإِنسانَ لِربه لَكَنُود} أي : لَكفور ، من : كند النعمة : كَفَرها. وقيل : الكنود هو الذي يمنع رفده ، ويأكل وحده ، ويضرب عبده. وقيل : اللوّام لربه ، يَعْد المحنَ والمصائبَ ، وينسى النعم والراحات. وعلى كل حالٍ فلا يخرج عن أن يكون فسقاً أو كفراً أو تقصيراً في شكر الله على نعمه ، وتقصيراً وتفريطاً في الاستعداد للقائه ، وفي التعظيم لجنابه ، وبالجملة فهو القليل الخير ، ومنه : الأرض الكنود ، التي لا تُنبت شيئاً. قال : في الحاشية الفاسية : والظاهر من سياق السورة أنّ الكنود هو مَن اهتمامه بدنياه دون آخرته ، ولذلك كان حريصاً على المال ، ويرتكب المشاق في جمعه ، ولا يُبالي بآخرته ، ولا يستعد لمآله ولا لآخرته ، ولا يُقَدِّم لها ، وذلك لغفلته وجهله بربه وما أراده منه ، وطلبه من السعي للآخرة ، وقد ضَمِنَ له رزقه ، فلذلك بعد أن عدّد مذامّه هدّده ورهّبه بقوله : {أفلا يعلم...} الآية. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 341
(8/517)
والآية إمّا في جنس الإنسان إلاَّ مَن عصمه الله ، وهو الأظهر ، أو في مُعَيَّن ، كالوليد أو غيره. قيل : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أُناس من بني كنانة سرية ، واستعمل عليها المُنذر بن عمرو الأنْصاريّ ، وكان أحد النقباء ، فأبطأ خبره عنه صلى الله عليه وسلم شهراً ، فقال المنافقون : إنهم قُتلوا ، فنزلت السورة بسلامتها ، بشارةً له صلى الله عليه وسلم ونعياً على المرجفين وهذا يقتضي أن السورة مدنية ، وهو خلاف قول الجمهور ، كما تقدّم. {وإِنه} أي : الإنسان {على ذلك} أي : على كنوده {لَشَهِيدٌ} يشهد على نفسه بالكنود ، لظهور أثره عليه ، {وإِنه لِحُبّ الخير} أي : المال {لَشَدِيدٌ} أي : قويٌّ مُطيق مُجد في طلبه ، متهالك عليه ، وقيل : لشديد : لبخيل ، أي : وإنه لأجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبَخِيل مُمْسِك ، ولعل وصفه بهذا الوصف اللئيم بعد وصفه بالكنود للإيماء إلى أنَّ مِن جملة الأمور الداعية المنافقين إلى النفاق حب المال ؛ لأنهم بما يُظهرون من الإيمان يعصمون أموالهم ، ويحوزون من الغنائم نصيباً.
ثم هدّد الكَنود ، فقال : {أفلا يعلمٌ إِذا بُعْثِر ما في القبور} أي : بُعث فيها ، و " ما " بمعنى " من " ، {وحُصِّلَ ما في الصدور} ؛ مُيِّز ما فيها من الخير والشر ، أي : أفلا يعلم مصيره ، وأنَّ الله مُطلع عليه ، في سيرته وسريرته ، فيُجازيه على تفريطه في جنبه وطاعته واتباع هواه وشهواته ، فآثر العاجلةَ على الآخرة ، وحظوظَه ، على حقوق ربه والقيام بعبوديته. {إِنَّ ربهم بهم يومئذٍ لَخبير} أي : عالم بظواهر ما عمِلوا وباطنه ، عِلماً موجباً للجزاء ، متصلاً به ، كما يُنبىء عنه تقييده بذلك اليوم ، إلاَّ فعلمه سبحانه مطلق محيط بما كان وما سيكون. وقوله : " بهم " و " يومئذ " يتعلقان بـ " بخبير " قُدما لرعاية الفواصل ، واللام غير قادحة ، وذلك لما يغتفر في المجرورات ، وقرأ ابن السمّاك : " أن ربهم بهم يومئذ خبير ".
342
(8/518)
الإشارة : أقسم تعالى بأرواح المتوجهين ، التي تعدو على الخواطر الردية ، فتمحوها بقهرية المراقبة ، وتقدح من زند القلب نور الفكرة والنظرة ، وتُغِير على أعدائها من الدنيا والهوى والنفس والشيطان ، فتقهرهم بسيوف المخالفة عند سطوع المشاهدة ، وتُثير غبار المساوىء والذنوب بريح الهداية والتوبة ، فيذهب في الهواء ، وتوسط جمعاً من العلوم والأسرار ، فتحوزهم في خزانة قلبها وسِرها ، غنيمةً وذخيرةً ، وجوابه : إنّ الإنسان لربه لكنود ، مع أنه مغروق في النعم ، وهو لا يشعر ولا يشكر ، لغفلته وعدم تفكُّره ، وهذا الإنسان هو الغافل الجاهل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 341
قال الورتجبي : الإنسانُ لا يعرف ما أعطاه الله من نعمه بالحقيقة ، وإنه لكفور إذ لا يعرف مُنعمه ، ثم قال عن الواسطي : الكنود يعدّ ما مِنه من الطاعات ، وينسى ما مّن الله به عليه من الكرامات. هـ. وإنه على ذلك لشهيد ؛ يشهد كفره وعصيانه وبُخله بحسب جبلته ، وإنه لِحُب الخير لشديد ، يأثره على معرفة مولاه ، فخسر خسراناً مبيناً ، أفلا يعلم ما يحلّ به إذا بُعثر ما في القبور ، فتظهر الأبطال من الأرذال ، وحُصِّل ما في الصدور من المعارف وأنواع الكمال ، إنّ ربهم بهم يومئذ لخبير ، فيُجازي أهلَ الإحسان وأهل الخذلان ، كُلاًّ بما يليق به. وبالله التوفيق وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
343
جزء : 8 رقم الصفحة : 341(8/519)
سورة القارعة
جزء : 8 رقم الصفحة : 343
يقول الحق جلّ جلاله : {القارعةُ ما القارعةُ} القرع هو الضرب باعتماد ، بحيث يحصل منه صوت شديد ، وهي القيامة التي مبدؤها النفخة الأولى ، ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق ، سُميت بها لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال. وهي مبتدأ ، خبرها : قوله : (ما القارعةُ) على أنَّ " ما " استفهامية خبر ، والقارعة مبتدأ ، لا بالعكس ؛ لما مرّ من أنَّ محط الإفادة هو الخبر لا المبتدأ. ولا ريب في أنَّ مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو " ما القارعة " أيّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة ، وقد وقع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل. {وما أدراك ما القارعةُ} هو تأكيد لهولها وفضاعتها ، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق ، أي : أيُّ شيء أعلمك ما شأن القارعة ؟ ومن أين علمت ذلك ؟ و " أدري " يتعدى إلى مفعولين ، علقت عن الثاني بالاستفهام.
ثم بيّن شأنها فقال : {يومَ يكونُ الناسُ كالفراش المبثوثِ} أي : هي يوم ، على أنَّ " يوم " مبني لإضافته إلى الفعل ، وإن كان مضارعاً على رأي الكوفيين ، والمختار أنه منصوب باذكر ، كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها : اذكر يوم يكون الناس كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار والضعف والذلّة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار. والفراش : صِغار الجراد ، ويسمى : غوغاء الجراد ، وبهذا يوافق قوله تعالى : {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر : 7] وقال أبو عبيدة : الفراش : طير لا بعوض ولا ذباب ، والمبثوث : المتفرق. وقال الزجاج :
344(8/520)
الفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار. هـ. والمشهور أنه الطير الذ يتساقط في النار ، ولا يزال يقتحم على المصباح ، قال الكواشي : شبّه الناسَ عند البعث بالفراش لموج بعضهم في بعض ، وضعفهم وكثرتهم ، وركوب بعضهم بعضاً ؛ لشدة ذلك اليوم ، كقوله : {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتِشِرٌ} [القمر : 7] وسمي فراشاً لتفرُّشه وانتشاره وخفته. هـ. واختار بعضهم أن يكون هذا التشبيه للكفار ؛ لأنهم هم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش المنتشر.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 344
(8/521)
وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ المنفوشِ} كالصوف الملون بالألوان المختلفة في تفرُّق أجزائها وتطايرها في الجو ، حسبما نطق به قوله تعالى : {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً...} [النمل : 88] الآية ، وكلا الأمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق ، يُبدِّل الله الأرضَ غير الأرض ، بتغيير هيئاتها وتسير الجبال سيراً عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة ليشاهدها أهل المحشر ، وهي وإن اندكت وتصدّعت عند النفخة الأولى ، لكن تسيير وتسويتها يكونان بعد النفخة الثانية ، كما ينطق به قوله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105)} [طه : 105] الآية ، ثم قال : {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} [طه : 108] وقوله تعالى : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم : 48] ، الآية ، فإنَّ اتباع الداعي ، وهو إسرافيل ، وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلاَّ بعد النفخة الثانية. قاله أبو السعود. قلت : دكّ الأرض كلها مع بقاء جبالها غريبَ مع أنَّ قوله تعالى : {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ...} [الحاقة : 14] الخ صريح في دك الجبال وتسويتها مع دك الأرض قبل البعث ، ويمكن الجمع بأن بعضها تدك مع دك الأرض ، وهو ما كان في طريق ممر الناس للمحشر ، وبعضها تبقى ليشاهدها أهلُ المحشر ، وهو ما كان جانباً ، والله تعالى أعلم بما سيفعل ، وسَتَرِد وترى.
(8/522)
ولمّا ذكر ما يَعُمّ الناس ذَكَر ما يخص كل واحد ، فقال : {فأمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه} باتباعه الحق ، وهو جمع " موزون " ، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله ، أو جمع ميزان ، قال ابن عباس رضي الله عنه : هو ميزان له لسان وكفّتان ، تُوزن فيه الأعمال ، قالوا : تُوضع فيه صحائف الأعمال ، فينظر إليه الخلائق ، إظهاراً للمعدلة ، وقطعاً للمعذرة. قال أنس : " إنَّ ملكاً يوُكّل يوم القيامة بميزان ابن آدم ، يُجاء به حتى يوقف بين كفي الميزان ، فيُوزن عمله ، فإن ثقلت حسناته نادى بصوت يُسْمِع جميعَ الخلائق باسم الرجل : إلاَ سَعِدَ فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وإن خفّت موازينه نادى : شَقِيَ فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً " وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السَّوي ، والحكم العَدْل ، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك ، واختاره كثير من المتأخرين ، قالوا : الميزان لا يتوصل به إلى معرفة مقادير الأجسام ، فكيف يُمكن أن يعرف مقادير الأعمال. هـ. والمشهور أنه محسوس.
جزء : 8 رقم الصفحة : 344
وقد رُوي عن ابن عباس أنه يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة ، وبالأعمال
345
(8/523)
السيئة على صورة قبيحة ، فتُوضع في الميزان ، فمَن ترجحت موازين حسناته {فهو في عيشةٍ راضيةٍ} أي : ذات رضاً ، أو مرضية ، {ومَن خَفَّتْ موازينُه} باتباعه الباطل ، فلم يكون له حسنات يُعتد بها ، أوترجحت سيئاته على حسناته ، {فأُمُّهُ هاويةٌ} ، هي من أسماء النار ، سُميت بها لغاية عمقها ، وبُعد مداها ، رُوي أنَّ أهل النار يهووا فيها سبعين خريفاً. وعبَّر عن المأوى بالأم لأنَّ أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه ، وعن قتادة وغيره : فأم رأسه هاوية ، لأنه يُطرح فيها منكوساً. والأول هو الموافق لقوله : {وما أدراك مَا هِيَهْ} فإنه تقرير لها بعد إبهامها ، وللإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتفخيم والتهويل ، وهي ضمير الهاوية ، والهاء للسكت ، ثبت وصلاً ووقفاً ، لثبوتها في المُصحف ، فينبغي الوقف ليوافق ثبوتها ، ثم فسَّرها فقال : {نارٌ حامية} بلغت النهاية في الحرارة ، قيل : وصفها بحامية تنبيهاً على أنَّ نار الدنيا بالنسبة إليها ليست بحامية ؛ فإنَّ نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً منها ، كما في الحديث.
(8/524)
الإشارة : القارعة هي سطوات تجلِّي الذات عند الاستشراف على مقام الفناء ، لأنها تقرع القلوب بالحيرة والدهش في نور الكبرياء ، ثم قال : {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} أو كالهباء في الهواء ، إن فتشته لم تجده شيئاً ووجد الله عنده ، يعني : إنَّ الخلق يصغر من جهة حسهم في نظر العارف ، فلم يبعد في قلبه منهم هيبة ولا خوف. وتكون الجبال ، جبال العقل ، كالعهن المنفوش ، أي : لا تثبت عند سطوع نور التجلِّي ؛ لأنّ نور العقل ضعيف كالقمر ، عند طلوع الشمس ، فأمّا مَن ثقُلت موازينه بأن كان حقاً محضاَ ؛ إذ لا يثقل في الميزان إلاَّ الحق ، والحق لا يُصادم باطلاً إلاَّ دمغه ، فهو في عيشة راضية ، لكونه دخل جنة المعارف ، وهي الحياة الطيبة ، وأمّا مَن خفّت موازينه باتباع الهوى فأُمُّه هاوية ، نار القطيعة ينكس فيها ويُضم إليها ، يحترق فيها بالشكوك والأوهام والخواطر ، وحر التدبير والاختيار. ورُوي في بعض الأثر : إنما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينُهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله في الدنيا ، وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه إلاَّ الحق أن يَثقل ، وإنما خفَّتْ موازينُ مَن خفت موازينُهم باتباعهم الباطلِ وخفته في الدنيا ، وحُق لميزان لا يُوضع فيه إلاَّ الباطل أن يخف. هـ. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
346
جزء : 8 رقم الصفحة : 344(8/525)
سورة التكاثر
جزء : 8 رقم الصفحة : 346
يقول الحق جلّ جلاله : {ألهاكم التكاثُر} أي : شغلكم التغالب في الكثرة والتفاخر بها. رُوي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا ، وتعادُّوا بالسادة والأشراف ، فقال كُلُّ فريق منهم : نحن أكثر منكم سيداً ، وأعز عزيزاً ، وأعظم نفراً ، فكثرهم بنو عبد مناف ، فقالت بنو سهم : إنَّ البغي في الجاهلية أهلكنا ، فعادّونا بالأحياء والأموات ، ففعلوا ، وقالوا : قبر فلان ، وهذا قبر فلان ، فكثرهم بنو سهم. والمعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء {حتى زُرتم المقابر} أي : إذا استوعبتم عددكم صرتم إلى الأموات ، فعبّر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكُّماً بهم. وقيل : كانوا يزورون القبور ، ويقولون هذا قبر فلان ، يفتخرون بذلك ، وقيل : المعنى : ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد ، حتى متُّم وقُبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا ، معرضين عما يمهمكم من السعي للآخرة ، فيكون زيارة القبور عبارة عن الموت.
قال عبد الله بن الشخِّير : قرأ النبيًّ صلى الله عليه وسلم {ألهاكم التكاثر} فقال : " يقول ابن آدم : ما لي ، وليس له من ماله إلا ثلاث ، ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو تَصَدَّق فأبقى " وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس. واللام في (التكاثر) للعهد الذهني ، وهو التكاثر بما يشغل عن الله ، فلا يشمل التكاثر في العلوم والمعارف والطاعات والأخلاق ، فإنَّ ذلك مطلوب ؛ لأنَّ بذلك تُنال السعادة في الدارين ، وقرينة ذلك قوله تعالى : {ألهاكم} فإنه
347
خاص بما يُلهي عن ذكر الله والاستعداد للآخرة ، حتى أنه لو تناول الدنيا على ذكر الله لم تُذمّ ، وليست بلهو حينئذ ، ولذلك جاء : " الدنيا ملعونةٌ ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله وما والاه " قال الإمامُ : ولم يقل : ألهاكم التكاثر عن كذا ، بل تركه مطلقاً ؛ ليدخل تحته جميع ما يحتمله اللفظ ، فهو أبلغ ؛ لأنه يذهب فيه الوهم كُلَّ مذهب ، أي : ألهاكُم عن ذكر الله ، وعن التفكًّر في أمور القارعة ، وعن الاستعداد لها ، وغير ذلك. هـ.(8/526)
وقال بان عطية في قوله : {حتى زُرتم المقابرَ} : عن عمر بن عبد العزيز ، قال : الآية : تأنيب عن الإكثار من زيارة القبور تكثُّراً بمَن سلف وإشادة عن ذكره ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " كنت نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها ، ولا تقولوا هُجْراً " فكان نهيه صلى الله عليه وسلم في معنى الآية ، ثم أباح بَعْدُ للاتعاظ ، لا لمعنى المباهاة والافتخار ، كما يصنع الناس في ملازمتها وتعليتها بالحجارة والرخام ، وتلوينها شرفاً وبنيان النواويس عليها. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 347
وقال ابن عرفة : زيارة المقابر محدودة ، أي : كيوم في شهر ، مثلاً ، وكان بعضهم يقول : إذا رأيتم الطالب في ابتداء أمره يستكثر من زيارة المقابر ، ومن مطالعة رسالة القشيري ، فاعلم أنه لا يفلح ؛ لاشتغاله عن طلب العلم بما لا يُجدي شيئاً. هـ. أي : لا يفوز بعلم الظاهر ؛ لأنَّ علم الباطن يُفتِّر عن الظاهر ، فينبغي لمَن كان فيه أهلية للعلم أن يفرده ، حتى يحرز منه ما قسم له ، ثم يشتغل بعلم الباطن ، بصُحبة أهله ، وإلاَّ فمطالعة الكتب بلا شيخ لا توصل إليه ، وإنما ينال بمحبة القوم فقط ، وفيها مقنع لمَن ضعفت همته.
ثم زجر عن التكاثر فقال : {كَلاَّ} أي : ليس الأمر على ما أنتم عليه ، أو كما يتوهمه هؤلاء ، فهو رَدْع وتنيبه على أنَّ العاقل ينبغي ألاَّ يكون معظم همه مقصوراً على الدنيا ، فإنَّ عاقبة ذلك وخيمة ، {سوف تعلمون} سوء عاقبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته ، {ثم كّلاَّ سوف تعلمون} ، تكرير
348
للتأكيد ، و(ثم) دلالة على أنَّ الثاني أبلغ من الأول ، والأول عند الموت أو في القبر ، والثاني عند النشور.
(8/527)
{كَلاَّ لو تعلمون عِلمَ اليقين} أي : لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين ، كعلمكم ما تستيقنونه لفعلتم من الطاعات ما لا يوصف ، ولا يكتنه كنهة ، فحذف الجواب للتهويل. قال الفخر : الآية تهديد عظيم للعلماء ، فإنها دلّت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر ، وهذا يقتضي أنَّ مَن لا يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلاً له ، فالويل للعالم الذي لا يكون عاملاً ، ثم الويل له. هـ. {لَتَرَوُنَّ الجحيمَ} : جواب قسم محذوف ، أكّد به الوعيد وشدّد به التهديد ، {ثم لَتَرَوُنَّها} : تكرير للتأكيد ، أو : الأولى إذا رأتهم من مكان بعيد ، والثانية إذا وردوها ، أو الأولى بالقلب ، والثانية بالعين ، ولذلك قال : {عَينَ اليقين} أي : الرؤية التي هي نفس اليقين وحاصلته ، فإنَّ علم المشاهدة أقْصَى مراتب اليقين. {ثم لتُسألُن يومئذٍ عن النعيم} أي : عن النعيم الذي ألهاكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه ، فإنَّ الخطاب مخصوص بمَن عكفت همته على استيفاء اللذات ، ولم يعش إلاَّ ليأكل الطَيّب ، ويلبس الطَيّب ، وقطع أوقاته في اللهو والطرب ، لا يعبأ بالعلم والعمل ، ولا يحمل نفسه على مشاق الطاعة ، فأمّا مَن تمتّع بنعمة الله تعالى ، وتقوّى بها على طاعته ، قائماً بالشكر ، فهو من ذلك بمعزلٍ بعيد. وفي الحديث : " يقول الله تبارك وتعالى : ثلاث من النعم لا اسأل عبدي عن شكرهن ، وأسأله عما سواه : بيت يكنُّه ، وما يُقيم به صلبه من الطعام ، وما يُواري به عورَته من اللباس " فالخلائق مسؤولون يوم القيامة عما أنعم عليهم به في الدنيا. والله تعالى أعلم بحالهم ، فالكافر يُسأل تبكيتاً وتوبيخاً على شِركه بمَن أنعم عليه ، والمؤمن يُسأل عن شكر ما أنعم عليه. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 347
(8/528)
قلت : فكل مَن استعمل الأدب في تناول النعمة ، بأن شَهِدَها من المنعِم بها ، وذكر الله عند أخذها أو أَكْلِها ، وشكر عند تمامها ، فلا يتوجه إليه سؤال ، أو يتوجه إظهاراً لمزيته وشرفه ، وعليه يتنزّل قوله صلى الله عليه وسلم : " هذا من النعيم الذي تُسألون عنه " في حديث أبي الهيثم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد ، أو بالعلوم الرسمية ، عن التوجُّه إلى الله ، لتحصيل معرفة العيان ، حتى متُّم غافلين ، كلاَّ سوف تعلمون عاقبةَ أمركم ، حين يرتفع أهل العيان مع المقربين ، وتبقوا معاشر أهل الدليل مع عامة أهل اليمين ، كلاَّ لو تعلمون علم اليقين ؛ لتوجهتم إليه بكل حال ، لَترون الجحيم ، أي : نار القطيعة ، ثم لَترونها عين اليقين ، ثم لتُسألن يومئذ عن النعيم ، هل قمتم بشكره أو لا ، وشكره : شهود المنعِم في النعمة ، فقد رأيتُ في عالم النوم شيخين كبيرين ، فقلت لهما : ما حقيقة الشكر ؟ فقال أحدهما : ألاَّ يُعصى بنعمه ، فقلت : هذا شكر العوام ، فما شكر الخواص ؟ فسكتا ، فقلت لهما : شكر الخواص : الاستغراق في شهود المنعِم. هـ. وهو كذلك ؛ لأنَّ عدم العصيان بالنِعم يحصل من بعض الأبرار ، كالعُبَّاد والزُهَّاد ، بخلاف الاستغراق في الشهود ، فإنه خاص بأهل العرفان ، أهل الرسوخ والتمكين ، وقد تقدّم في سورة المعارج التفريق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
349
جزء : 8 رقم الصفحة : 347(8/529)
سورة العصر
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
يقول الحق جلّ جلاله : {والعَصْرِ} أقسم تعالى بصلاة العصر لفضلها الباهر ، إذ قيل : هِي الصلاة الوسطى ، أو : بالعشيِّ الذي هو مابين الزوال والغروب ، كما أقسم بالضُحى ، أو بعصر النبوة ، لظهور فضله على سائر الأعصار ، أو بالدهر مطلقاً ؛ لانطوائه على تعاجيب الأمور النافعة والضارة ، وجوابه : {إِنَّ الإِنسانَ لفي خُسْرٍ} ؛ لفي خسران في متاجرهم ومساعيهم ، وصرف أعمارهم في حظوظهم وأمانيهم. {إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ، فربحوا وسعدوا ، أو : فإنهم في تجارةٍ لن تبور ، حيث باعوا الفاني الخسيس ، وآثروا الباقي النفيس ، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالعاديات الرائحات ، فيا لها من صفقة ما أربحها!.
وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم ، وقوله تعالى : {وتواصَوْا بالحق} بيان لتكميلهم لغيرهم ، أي : وصَّى بعضُهم بعضاً بالأمر الثابت ، الذي لا سبيل إلى إنكاره ، ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره ، وهو الخير كله ، من الإيمان بالله عزّ وجل ، واتباع كتبه ورسله في كل عقد وعمل ، {وتواصَوْا بالصبرِ} عن المعاصي التي تُساق إليها النفس الأمّارة ، وعلى الطاعة التي يشق عليها أداؤها ، وعلى البلية التي تتوجه إليه من جهة قهريته تعالى ، وعلى النعمة بالقيام بتمام شكرها ، وتخصيص هذا التواصي بالذكر ، مع اندراجه تحت التواصي بالحق ؛ لإبراز كمال الاعتناء به ، أو : لأن الأول عبارة عن رتبة العبادة ، التي هي فعل ما يُرضي الله عزّ وجل ، والثاني عن العبودية التي هي الرضا بما فعل اللهُ تعالى ، فإنَّ المراد ليس مجرد حبس النفس عمّا تتوق إليه من فعلٍ وترك ، بل هو تلقي ما يَرِد منه تعالى بالجميل والرضا ظاهراً وباطناً. قاله أبو السعود.
350
الإشارة : والعصر ، أي : عصر الذاكرين ، إنَّ الإنسان لفي خُسر ، حيث احتجب عن ربه بنفسه وبرؤيته وجوده ، إلاّ الذين آمنوا إيمان الخصوص ، وعملوا عمل الخصوص ، وهو خرق العوائد واكتساب الفوائد ، حتى وصلوا إلى كشف الحجاب ، فلم يروا مع الله غيره ، غابوا عن أنفسهم ، وعن وجودهم ووجود غيرهم ، في شهود محبوبهم ، فلمّا تكملوا اشتغلوا بتكميل غيرهم ، كما قال تعالى : {وتواصَوْا بالحق} أي : بفعل الحق ، وهو ما يثقل على النفس ، حتى لا يثقل عليها شيء ، أو بالإقبال على الحق ، وتواصَوْا على مشاق السير ، ثم على عكوف الهم في حضرة الحق. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم.
351
جزء : 8 رقم الصفحة : 350(8/530)
سورة الهمزة
جزء : 8 رقم الصفحة : 351
يقول الحق جلّ جلاله : {ويلٌ لكل هُمَزَةٍ لُمزةٍ} ، " ويل " : مبتدأ ، و " لكل " : خبره ، والمُسوِّغ : الدعاء عليهم بالهلاك ، أو بشدة الشر ، والهَمْز : الكسر ، واللمز : الطعن ، أي : ويل للذي يحط الناس ويُصغِّرهم ، ويشتغل بالطعن فيهم. قال ابن جزي : هو على الجملة : الذي يعيب الناسَ ويأكل أعراضَهم ، واشتقاقه من الهمز واللمز ، وصيغة فعْلَة للمبالغة ، واختلف في الفرق بين الكلمتين ، فقيل : الهمز في الحضور ، واللمز في الغيبة ، وقيل العكس ، وقيل : الهمز باليد ، واللمز باللسان. وقيل : هما سواء. ونزلت السورة في الأخنس بن شريق ، لأنه كان كثير الوقيعة في الناس ، وقيل : في آميّة بن خلف ، وقيل : في الوليد بن المغيرة. ولفظها مع ذلك يعم كل مَن اتصف بهذه الصفة. هـ. وبناء " فُعَلة " يدل أن ذلك عادة منه مستمرة.(8/531)
وقوله : {الذي جَمَعَ مالاً} : بدل من " كل " ، أو : نصب على الذم ، وقرأ حمزة والشامي والكسائي " جَمَّعَ " بالتشديد للتكثير ، وهو الموافق لقوله : {عدَّده} أي : جعله عُدَّةً لحوادث الدهر ، {يَحْسَبُ أنَّ مالَه أخلده} أي : يتركه خالداً في الدنيا لا يموت ، وهو تعريض بالعمل الصالح ، فإنه أخلد صاحبه في النعيم المقيم ، فأمَّا المال فما أخلد أحداً ، إنما يخلد العلم والعمل ، ومنه قول علِيّ كرّم الله وجه : (مات خُزّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر) فالحسبان إمّا حسبان الخلود في الدنيا أو في الآخرة ، كما قال القائل : {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىا رَبِّي...} [الكهف : 36] الآية.
{كلاَّ} ردع له عن حسبانه. {لَيُنْبَذَنَّ} ليطرحن {في الحُطَمَة} في النار التي من
352
شأنها أن تحطم كلَّ ما يُلقى فيها ، {وما أدراك ما الحُطَمَة} تهويل لشأنها ، {نارٌ الله الموقدة} أي : هي نار الله التي تتقد بأمر الله وسلطانه ، {التي تَطَّلِعُ على الأفئدة} يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم ، وتطلع على أفئدتهم ، وهي أوساط القلوب ، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من فؤاده ، ولا أشد تألُّماً منه بأدنى أذى يمسّه ، فكيف إذا طلعت عليه نار جهنم ، واستولت عليه ؟ وقيل : خصّ الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الزائغة ، ومعنى اطلاع النار عليها : أنها تشتمل عليها وتعمها.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 352
(8/532)
إِنها عليهم} أي : النار ، أو الحُطَمَة ، {مُّؤْصَدَةٌ} مُطبقة {في عَمَدٍ} جمع عماد. وفيه لغتان " عُمُد " بضمتين ، و " عَمَد " بفتحتين ، {مُمَدَّدة} أي : تؤصد عليهم الأبواب وتُمدّد على الأبواب العمد ، استيثاقاً في استيثاق ، والجار صفة لمؤصدة. وفي الحديث : " المؤمن كَيِّسٌ فَطنٌ ، وقّاف متثبّت ، لا يعجل ، عالم ، ورع ، والمنافق هُمزة ، لُمزة ، حُطَمَة ، كحاطب الليل ، لا يُبالي من أين اكتسب وفيم أنفق ". الإشارة : ويل لمَن اشتغل بعيب الناس عن عيوب نفسه ، قال الورتجبي : ويل الحجاب لمَن لا يرى الأشياء بعين المقادير السابقة ، حتى يشتغل بالوقيعة في الخلق بالحسد ، وهو مقبل على الدنيا بالجمع والمنع. هـ.
(8/533)
وقوله تعالى : {الذي جَمَعَ مالاً وعدَّدَه} ذّمٌّ لمَن يجمع المال ويُعدده ، كائناً مَن كان ، والعجب من صُلحاء زماننا ، يجمعون القناطير المقنطرة ، ويترامون على المقام الكبير من الخصوصية ، وما هذا إلاَّ غلط فاحش ، فأين يوجد القلب مع نجاسة الدنيا ؟ ! وكيف يطهُر وتُشرق فيه الأنوار ، وصور الأكوان منطبعة في مرآته ؟ ! وقد قال بعض العارفين : عبادة الأغنياء كالصلاة على المزابل ، وعبادة الفقراء في مساجد الحضرة. هـ. {يحسب أنَّ ماله أخلدهُ} ، أي : يبقيه بالله ، كلا. قال الورتجبي : وَصَفَ الحقُّ تعالى الجاهلَ بالله بأنَّ ماله يُصله إلى الحق ، لا والله ، لا يصل إلى الحق إلاّ بالحق. وقال أبو بكر بن طاهر : يظن أنَّ مالَه يُوصله إلى مقام الخلد. هـ. كلاَّ ، ليُنبذن في الحُطمة التي تحطم كل ما تُصادمه ، وهي حب الدنيا ، تحطم كل ما يُلقى في القلب من حلاوة المعاملة أو المعرفة ، فلا يبقى معها نور قط ، وهي نار الله الموقدة ، التي تَطَّلع على الأفئدة ، فتُفسد ما فيها من الإيمان والعرفان ، إنها عليه مؤصدة ، يعني أنَّ الدنيا مُطْبقة عليهم ، حتى صارت أكبر همومهم ، ومبلغ علمهم. قال الورتجبي : لله نيران ، نار القهر ونار اللطف ، نار قهره : إبعاد قلوب المنكرين عن ساحة جلاله ، ونار لطفه نيران محبته في قلوب أوليائه من المحبين والعارفين. ثم قال : عن جعفر : ونيران المحبة إذا اتقدت في قلب المؤمن تحرق كل همّة غير الله ، وكل ذِكْرٍ سوى ذكره. هـ. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
353
جزء : 8 رقم الصفحة : 352(8/534)
سورة الفيل
جزء : 8 رقم الصفحة : 353
يقول الحق جلّ جلاله : {ألم تَرَ كيف فَعَلَ ربُّكَ بأصحابِ الفيل} الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام ، أو لكل سامع ، والهَمزة للتقرير ، و " كيف " معلقة لفعل الرؤية ، منصوبة بما بعدها. والرؤية : علمية ، أي : ألم تعلم علماً ضرورياً مزاحماً للمشاهدة والعيان باستماع الأخبار المتواترة ، ومعاينة الآثار الظاهرة. وتعليق الرؤية بكيفية فعله ـ عزّ وجل ـ لا بنفسه ، بأن يُقال : ألم ترَ ما فعل ربُّك لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة ، وهيئة عجيبة ، دالة على عِظم قدرة الله عزّ وجل ، وكمال عِلمه وحكمته ، وعزة بيته ، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإنَّ ذلك مِن الإرهاصات له ، لِما رُوي أنَّ الوقعة وقعت في السنة التي وُلد فيها صلى الله عليه وسلم.
وتفصيلها : إنَّ أُبرهة بن الصَبَّاح الأشرم ، مالك اليمن من قِبل النجاشي ، بنى بصنعاء كنيسة ، سماها القُلَّيس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج رجل من كنانة ، فأحدث فيها ليلاً ، وذكر الواقدي : أنَّ الرجل لطّخ قبلتها بالعذرة ، ورمى فيها الجيف ، قال : واسمه " نفيل الحضرمي " فغضب أبرهة ، وحلف ليهدمنّ الكعبة ، فخرج من الحبشة ، ومعه فيل ، اسمه " محمود " وكان قويًّا عظيماً ، بعثه النجاشي إليه ، ومعه اثنا عشر فيلاً غيره ، وقيل : ثمانية ، فلما بلغ " المُغَمسَ " خرج إليه عبد المطلب ، وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع ، فأبى وعبّأ جيشه ، وقدّم الفيل ، فأخذ نفيل بن حبيب بأُذنه ، وقال : أبرك محمود ، فإنك في حرم الله ، وارجع من حيث جئت راشداً ، فبرك ، فكان كُلما وجَّهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجَّهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول ، فأرسل اللهُ عليهم سحابة من الطير خرجت من البحر ، مع كل طائر حجر في منقاره ، وحجر في رجليه ، أكبر
354(8/535)
من العدسة ، وأصغر من الحمّصَةِ ، فكان الحجرُ يقع على رأس الرجل ، ويخرج من دُبره ، وعلى كل حجر اسم مَن يقع عليه ، ففرُّوا وهلكوا في كل طريق ومنهل ، ورُمي أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت وزيره " أبو يسكوم " ، وطائر يُحلّق فوقه ، حتى بلغ النجاشي ، فقصّ عليه القصة ، فلما أتمها وقع عليه الحجر ، فخرّ ميّتاً بين يديه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 354
ورُوي : أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير ، فخرج إليه في شأنها ، فلما رآه أبرهة عَظُمَ في عينه ، وكان وسيماً جسيماً ، فقيل له : هذا سيّد قريش ، وصاحب عير مكّة ، الذي يُطعم الناس في السهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، فنزل أبرهة عن سريره ، وجلس معه على بساطه ، وقيل : أَجلسه معه ، وقال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ فلما ذكر له حاجته ، وهو : أن يرد إليه إبله ، قال : سَقَطت من عيني ، جئتُ لأهدم البيت ، الذي هو دينك ودين آبائك ، وعِصمتكم ، وشرفكم في قديم الدهر ، لا تكلمني فيه ، ألهاك عه ذود أُخذت لك ؟ فقال عبد المطلب : أنا ربّ الإبل ، وإنَّ للبيت ربًّا يحيمه ، قال أبرهة : ما كان ليحميه مني ، فقال : ها أنت وذلك. ثم رجع وأتى باب الكعبة ، وأخذ بحلقته ، ومعه نفر من قريش ، فدعوا الله عزّ وجل ، فالتفت وهو يدعو ، فإذا هو بطير من نحو اليمن ، فقال : والله إنها لطير غريبة ، ما هي نجدية ولا تهامية ، فأرسل حلقة الباب ، ثم انطلق مع أصحابه ينظرون ماذا يفعل أبرهة ، فأرسل الله تعالى عليهم الطير ، فكان ما كان.
وقيل : كان أبرهة جد النجاشي ، الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة رضي الله عنها : رأيت قائد الفيل وسائقه أعميَيْن مُقعدين يستطعمان.
(8/536)
وقوله تعالى : {ألم يجعل كَيْدَهُمْ في تضليلٍ} بيان إجمالي لما فعل اللهُ بهم ، والهمزة للتقرير كما سبق ، ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها ، كأنه قيل : جعل كيدهم للكعبة وتخريبها في تضييع وإبطال بأن دَمَّرهم أشد تدمير. يقال : ضلّ كيده ، أي : جعله ضالاًّ ضائعاً ، وقيل لامرىء القيس : الملِك الضلّيلِ ؛ لأنه ضيّع ملك أبيه باشتغاله بالهوى.
{وأَرْسَل عليهم طيراً أبابيلَ} أي : جماعات تجيء شيئاً بعد شيء. والجمهور : أنه لا واحد له من لفظه ، كشماطيط وعبابيد ، وقيل : واحدها : إبّالة. قالت عائشة رضي الله عنها : أشبهُ شيء بالخطاطيف. قال أبو الجوز : أنشأها الله في الهواء في ذلك الوقت ، وقال محمد بن كعب : طيرد سود بَحرية ، وقيل : إنها شبيهة بالوطواط حُمْر وسُود. {ترميهم بحجارةٍ} صفة لطير ، {من سِجّيلٍ} من طين متحجر مطبوخ مثل الآجر ، قال ابن عباس : " أدركت عند أم هاني نحو قفيز من هذه الحجارة ". {فجعلهم كعَصْفٍ مأكولٍ} كورَق زرع وقع فيه الأكل ، أي : أكلته الدود ، أو : كَتِبن أكلته الدواب فراثته ، فجمع لهم الخسة والمهانة والتلف ، أو : كتبن علفته الدواب وشتته.
355
فائدة : قال الغزالي عن غير واحد من الصالحين وأرباب القلوب : إنه مَن قرأ في ركعتي الفجر في الأولى بالفاتحة و " ألم نشرح " ، والثانية بالفاتحة و " ألم تر " قََصرت يد كُل عدو عنه ، ولو يُجعل لهم إليه سبيلاً ، قال : وهذا صحيح لا شك فيه. ذكره في الجواهر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 354
الإشارة : قلب العارف هو كعبة الوجود ، وهو بيت الرب ، وجيوش الخواطر والوساوس تطلب تخريبه ، فيحميه اللهُ منهم ، كما حمى بيتَه من أبرهة ، فيقال : ألم ترَ أيها السامع كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، وهم الأخلاق البهيمية والسبعية ، والخواطر الردية ، ألم يجعل كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طير الواردات الإلهية ، فرمتهم بحجارة الأذكار وأنوار الأفكار ، فأسْحقتهم فجعلتهم كعصفٍ مأكول. والله تعالى أعلم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
356
جزء : 8 رقم الصفحة : 354(8/537)
سورة قريش
جزء : 8 رقم الصفحة : 356
قلت : (لإيلافِ) : متعلق بقوله : " فليعبدوا " ، والفاء لِما في الكلام من معنى الشرط ، إذ المعنى : أنَّ نعم الله تعالى على قريش غير محصورة ، فإن لم يَعبدوا لسائر نِعَمه فليعبدوا لإيلافهم الرحلتين ، وجاز أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها ؛ لانها زائدة غير عاطفة ، ولو كانت عاطفة لم يجز التقديم ، وقيل : يتعلق بمُضمر ، أي : فعلنا من إهلاك أصحاب الفيل لإيلاف قريش ، وقيل : بما قبله من قوله : {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)} [الفيل : 5] ، ويؤيده : أنهما في مصحف " أُبيّ " سورة واحدة بلا فصل ، والمعنى : أهلك مَن قصدهم مِن الحبشة ليتسامع الناس بذلك ؛ فيتهيبوا لهم زيادة تهيُّب ، ويحترموهم فضل احترام ، حتى يتنظم لهم الأمن في رحلتيهم.(8/538)
يقول الحق جلّ جلاله : {لإِيلافِ قريشٍ} أي : فلتعبد قريش رب هذا البيت لأجل إيلافهم الرحتلين ، وكانت لقريش رحلتان ، يرحلون في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، فيمتارون ويتّجرون ، وكانوا في رحلتهم آمنين ؛ لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته العزيز ، فلا يُتَعرّض لهم ، والناس بين مختطف ومنهوب. و(الإيلاف) : مصدر ، من قولهم : ألفت المكان إيلافاً وإلافاً وإلفاً. وقريش : ولد النضر بن كنانة ، وقيل : ولد فهر بن مالك ، سُمُّوا بتصغير القِرْش ، وهو دابة عظيمة في البَحر ، تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار ، والتصغير للتفخيم ، سُمُّوا بذلك لشدتهم ومنعتهم تشبيهاً بها. وقيل : مِن القَرْش ، وهو الجمع والكسب ؛ لأنهم كانوا كسّابين بتجارتهم وضربهم في البلاد.
وقوله تعالى : {إِيلافهم رحلةَ الشتاءِ والصيف} بدل من الأول ، أطلق الإيلاف ، ثم أبدل منه المقيّد بالرحلتين تفخيماً لأمر الإيلاف ، وتذكيراً لعظيم هذه النعمة. و " رحلة "
357
مفعول بإيلاف ، وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس.
{فليعبدوا رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهم} بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منها بواسطة كونهم من جيرانه ، {من جوعٍ} شديد كانوا فيه قبلهما. قال الكلبي : أول مَن حمل السمراء من الشام ، ورحل إليها : هاشم بن عبد مناف. هـ. ولمّا بعث اللهُ نبيه ، الذي هو نبي الرحمة ، وأسلمت قريش ، أراح اللهُ الناسَ من تعب الرحلتين ، وجلبت إلى مكة الأرزاق من كل جانب ، ببركة طلعته صلى الله عليه وسلم. قال مالك بن دينار : ما سقطت أُمة من عين الله إلاّ ضرب أكبادهم بالجوع. وكان عليه الصلاة والسلام يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الجوع ، فإنه بئس الضجيع " والمذموم هو الجوع المفرط ، الذي لم يصحبه في الباطن قوة ولا تأييد ، وإلاَّ فالجوع ممدوح عند الصوفية ، أعني الوسط.
جزء : 8 رقم الصفحة : 357
(8/539)
ثم قال تعالى : {وآمنهم من خوف} أي : من خوف عظيم ، وهو خوف أصحاب الفيل ، أو : من خوف الناس في أسفارهم ، أو : من القحط في بلدهم. وقيل : كان أصابتهم شدة حتى أكلوا الجِيَف والعظام المحرقة ، فرفعه الله عنهم بدعوته صلى الله عليه وسلم ، فهذا معنى : {أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} ، وقيل : الجذام ، فلا يصيبهم ببلدهم ، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام بقوله : {اجْعَلْ هَاذَا بَلَداً آمِناً} [البقرة : 126] الآية.
الإشارة : كما أمَّن اللهُ أهل بيته أمَّن أهل نسبته ، فلا تجد فقيراً متجرداً إلاّ آمناً حيث ذهب ، والناس يُختطفون من حوله. قلت : وقد رأينا هذا الأمر عامَ حصر " سلامة " على تطوان ، فكان كل مَن خرج من تطوان يُنتهب أو يُقتل ، ونحن نذهب حيث شئنا آمنين بحفظ الله ، وهذا إذا لبسوا زي أهل النسبة ، من المُرقَّعة والسبحة والعصا ، فإن ترك زيَّه وأُخذ فقد ظلم نفسه ، وقد ترك بعضُ الفقراء زيَّه ، وسافر فتكشّط ، فقال له شيخه : أنت فرَّطت ، والمفرط أولى بالخسارة. هـ. ويُقال لأهل النسبة : فليعبدوا رَبَّ هذا البيت ، أي : بيت الحضرة التي طلبتموها ، أو : بيت النسبة التي سكنتم فيها ، الذي أطعمكم من جوعٍ ، حيثما توجتهم ، مائدتكم منصوبة ، وآمنكم من خوفٍ حيث سِرتم. والله تعالى أعلم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
358
جزء : 8 رقم الصفحة : 357(8/540)
سورة الماعون
جزء : 8 رقم الصفحة : 358
يقول الحق جلّ جلاله : {أرأيت الذي يُكذِّبُ بالدين} استفهام أُريد به تشويق السامع إلى معرفة مَن سبق له الكلام والتعجب منه ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع. والرؤية بمعنى المعرفة ، والفاء في قوله : {فذلك الذي يَدُعْ اليتيمَ} : جواب شرط محذوف ، والمعنى : هل عرفتَ هذا الذي يُكذِّب بالجزاء أو بالإسلام ، فإنْ أردت أن تعرفه فهو الذي يَدُعُّ ، أي : يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً ، ويزجره زجراً قبيحاً ، قيل : هو أبو جهل ، كان وصيًّا ليتيم ، فأتاه عُرياناً يسأله مِن مال نفسه فدفعه دفعاً شديداً ، وقيل : هو الوليد بن المغيرة ، وقيل : العاص بن وائل. وقيل : أبو سفيان ، نحر جزوراً فسأله يتيمٌ لحماً فقرعه بعصاه ، وقيل : على عمومه. وقُرىء : " يَدَع " أي : يتركه ويجفوه. {ولا يَحُضُّ} أهلَه وغيرهم من الموسرين {على طعام المسكين} فأَولى هو لا يُطعمه ، جعل علامة التكذيب بالجزاء : منع المعروف ، والإقدام على أذى الضعيف ؛ إذ لو آمن بالجزاء ، وأيقن بالوعيد ، لخشي عقاب الله وغضبه.
{فويل للمُصَلِّين الذي هم عن صلاتهم ساهون} غير مبالين بها ، {الذين هم يُراؤون} الناس بأعمالهم ، ليُمدحوا عليها ، {ويمنعونَ الماعونَ} أي : الزكاة. نزلت في المنافقين ؛ لأنهم كانوا يسهون عن فعل الصلاة ، أي : لا يُبالون بها ، لأنهم لا يعتقدون وجوبها.
قال الكواشي عن بعضهم : ليس المراد السهو الواقع في الصلاة ، الذي لا يكاد يخلو منه مسلم ، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يسهو ، ويُعضد هذا ما رُوي عن أنس أنه قال : الحمد لله الذي لم يقل " في صلاتهم " لأنهم لمّا قال : " عن صلاتهم " كان المعنى : أنهم
359(8/541)
ساهون عنها سهو ترك وقلة مبالاة والتفات إليها ، ولو قال " في صلاتهم " كان المعنى : أنّ السهو يعتريهم وهم في الصلاة ، والخلوص من هذا شديد. وقيل " عن " بمعنى " في " ، أي : في صلاتهم ساهون. ثم قال عن ابن عطاء : ليس في القرآن وعيد صعب إلاّ وبعده وعيد لطيف ، غير قوله : {فويل للمصلِّين..} الآية ، ذكل الويل لمَن صلاّها بلا حضور في قلبه ، فكيف بمَن تركها رأساً ؟ فقيل له : ما الصلاة ؟ فقال : الاتصال بالله من حيث لا يعلم إلاّ الله. ثم قال الكواشي : ومما يدل على أنَّ مَن شَرَعَ في الصلاة خالصاً لله ، واعترضه السهو مع تعظيمه للصلاة ولشرائع الإسلام ، ليس بداخل مع هؤلاء : أنه وصفهم بقوله : {الذين هم يراؤون}. ثم قال : وفي اجتناب الرياء صُعوبة عظيمة ، وفي الحديث : " الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء ، في الليلة الظلماء ، على المسح الأسود " وقال بعضهم : هم الذين لا يُخلصون لله عملاً ، ولا يُطالبون أنفسهم بحقيقة الإخلاص ، ولا يَرِد عليهم وارد من ربهم يقطعهم عن رؤية الخلق والتزيُّن لهم. هـ.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 359
ويمنعون الماعُونَ} قيل : الماعون : كل ما يُرتفق به ، كالفأس والماء والنار ، ونحوها ، أي : الماعون المعروف كله ، حتى القِدْر والقصعة ، أو : ما لا يحل منعه ، كالماء والملح والنار ، قالوا : ومَنْع هذه الأشياء محظور شرعاً ، إذا استعيرت عن ضرورة ، وقُبْح في المروءة إذا استعيرت في غير حال الاضطرار. قال عكرمة : ليس الويل لمَن منع هذه الأشياء ، إنما الويل لمَن جمعها فراءى في صلاته وسهى عنها ، ومَنَع هذه الأشياء. هـ.
قال ابن عزيز : الماعون في الجاهلية : كل عطية ومنفعة ، والماعون في الإسلام : الزكاة والطاعة ، وقيل : هو ما ينتفع به المسلم من أخيه ، كالعارية والإغاثة ونحوهما ، وقيل : الماعون : الماء ، نقله الفراء ، وفي البخاري : الماعون : المعروف كله ، أعلاه الزكاة ، وأدناه عارية المتاع. والله تعالى أعلم.
(8/542)
الإشارة : الدين هو إحراز الإسلام والإيمان والإحسان ، فمَن جمع هذه الثلاث تخلّص باطنه ، فكان فيه الشفقة والرأفة والكرم والسخاء ، وتحقق بمقام الإخلاص ، وذاق حلاوة المعاملة ، وأمّا مَن لم يظفر بمقام الإحسان فلا يخلو باطنه من عُنف وبُخل ودقيق رياء ، ربما يصدق عليه قوله تعالى : {أرأيت الذي يُكذِّب بالدين فذلك الذي يَدُعُّ اليتيم..} الخ. وقال القشيري في قوله تعالى : {فويل للمُصلّين الذين هم عن صلاتهم ساهون} : يُشير إلى المحجوبين عن أسرار الصلاة ودقائقها ، الساهين عن شهود مطالعها وطرائقها ، الغافلين الجاهلين عن علومها وأحكامها ، {الذين هم يُراؤون} في أعمالهم وأحوالهم ، بنسبتها وإضافتها إلى أنفسهم الظلمانية ، {ويمنعون الماعون} أي : ما يُفيد السالك إلى طريق الحق ، من الإرشاد والنُصح ، وانظر عبارته نقلتها بالمعنى. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
360
جزء : 8 رقم الصفحة : 359(8/543)
سورة الكوثر
جزء : 8 رقم الصفحة : 360
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّا أعطيناك الكوثرَ} أي : الخير الكثير ، مَن شرف النبوة الجامعة لخير الدارين ، والرئاسة العامة ، وسعادة الدنيا والآخرة ، " فَوْعل " من الكثرة ، وقيل : هو نهر في الجنة ، أحلى من العسل ، وأشد بياضاً منَ اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد ، حافتاه : اللؤلؤ والزبرجد ، وأوانيه من فضّةٍ عدد نجوم السماء ، لا يظمأ مَن شرب منه أبداً ، وأول وارديه : فقراء المهاجرين ، الدنسو الثياب ، الشعث الرؤوس ، الذي لا يتزوّجون المنعَّمات ، ولا يفتح لهم أبواب الشُدد ـ أي : أبواب الملوك ـ لخمولهم ، يموت أحدهم وحاجته تلجلج في صدره ، لو أقسم على الله لأبرَّه. هـ.
وفسَّره ابن عباس بالخير الكثير ، فقيل له : إنَّ الناس يقولون : هو نهر في الجنة ، فقال : النهر من ذلك الخير ، وقيل : هو : كثرة أولاده وأتباعه ، أو علماء أمته ، أو : القرآن الحاوي لخيَري الدنيا والدين.
رُوي : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا رب اتخذت إبراهيم خليلاً ، وموسى كليماً ، فبماذا خصصتني ؟ " فنزلت : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىا (6)} [الضحى : 6] ، فلم يكتفِ بذلك ، فنزلت : {إِنَّا أعطيناك الكوثر} فلم يكتفِ بذلك ، وحُقَّ له ألاَّ يكتفي ؛ لأنَّ القناعة من الله حرمان ، والركون إلى الحال يقطع المزيد ، فنزل جبريلُ ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنَّ الله تبارك وتعالى يقرئك السلام ، ويقول لك : إن كنتُ اتخدتُ إبراهيم خليلاً ، وموسى كليماً ، فقد اتخذتك حبيباً ، فوعزتي وجلالي لأختارن حبيبي على خليلي وكليمي ، فسكن صلى الله عليه وسلم.
361
والفاء في قوله : {فَصَلِّ لربك وانْحَرْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإنَّ إعطاءه تعالى إياه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما ذكر من العطية التي لم يُعطها ولن يُعطها أحد من العالمين ، مستوجبة للمأمور به أيّ استيجاب ، أي : فدُم على الصلاة لربك ، الذي أفاض عليك هذه النِعم الجليلة ، التي لا تُضاهيها نعمة ، خالصاً لوجهه ، خلافاً للساهين المرائين فيها ، لتقوم بحقوق شكرها ، فإنَّ الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر. {وانْحَرْ} البُدن ، التي هي خيار أموال العرب ، وتصدَّق على المحاويج ، خلافاً لمَن يَدَعَهم ويمنعهم ويمنع عنهم الماعون ، وعن عطية : هي صلاة الفجر بجَمْعٍ ، والنحر بمِنى ، وقيل : صلاة العيد والضَحية ، وقيل : هي جنس الصلاة ، والنحر وضْعُ اليمين على الشمال تحت نحره. وقيل : هو أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وعن ابن عباس : استقبل القبلة بنحرك ، أي : في الصلاة. وقاله الفراء والكلبي.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 361(8/544)
إِنَّ شَانِئَكَ} أي : مُبغضك كانئاً مَن كان {هو الأبْتَرُ} الذي لا عَقِب له ، حيث لم يبق له نسْل ، ولا حُسن ذكر ، وأمّا أنت فتبقى ذريتك ، وحُسن صيتك ، وآثار فضلك إلى يوم القيامة ، لأنَّ كل مَن يُولد مِن المؤمنين فهم أولادك وأعقابك ، وذِكْرك مرفوع على المنابر ، وعلى لسان كل عالم وذاكر ، إلى آخر الدهر ، يبدأ بذكر الله ، ويُثني بذكرك ، ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان ، فمثلك لا يقال فيه أبتر ، إنما الأبتر شانئك المَنْسي في الدنيا والآخرة. قيل : نزلت في العاص بن وائل ، كان يُسَمِّي النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه " عبد الله " : أبتر ، ووقف مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : مع مَن كنت واقفاً ؟ فقال : مع ذلك الأبتر ، وكذلك سمّته قريش أبتر وصُنبوراً ، ولمّا قَدِمَ كعب بن الأشرف ـ لعنه الله ـ لمكة ، يُحرِّض قريشاً عليه صلى الله عليه وسلم قالوا له : نحن أهل السِّقايةِ والسِّدَانة ، وأنت سَيِّدُ أهل المدينة ، فنحن خير أمْ هذا الصنبور المُنْبَتِر من قومه ؟ فقال : أنتم خير ، فنزلت في كعب : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ..} [النساء : 51] ، الآية ، ونزلت فيهم : {إن شانئك هو الأبتر}.
الإشارة : يُقال لخليفة الرسول ، الذي تَخلَّق بخُلقه ، وكان على قدمه : إنَّا أعطيناك الكوثر : الخير الكثير ، لأنَّ مَن ظفر بمعرفة الله فقد حاز الخير كله " ماذا فقد مَن وجدك " فَصَلّ لربك صلاة القلوب ، وانحر نفسك وهواك ، إنَّ شانئك ومُبغضك هو الأبتر ، وأمَّا أنت فذكرك دائم ، وحياتك لا تنقطع ، لإنَّ موت أهل التُقى حياة لا فناء بعدها. وقال الجنيد : إن شانئك هو الأبتر ، إي : المنقطع عن بلوغ أمله فيك. هـ. وصلّى الله على سيدنا محمد ، وآله.
362
جزء : 8 رقم الصفحة : 361(8/545)
سورة الكافرون
جزء : 8 رقم الصفحة : 362
يقول الحق جلّ جلاله : {قل يا أيها الكافرون} المخاطَبون كفرة مخصوصون ، عَلِمَ الله أنهم لا يُؤمنون. رُوي أنَّ رهطاً من صناديد قريش قالوا : يا محمد هلم تتبع ديننا ونتبع دينك ، تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة ، فإن كان دينك خيراً شَرَكْناك فيه ، وإن كان ديننا خيراً شركتنا في أمرنا ، فقال : " معاذ الله أن نُشرك بالله غيره " فنزلت ، فغدا إلى المسجد الحرام ، وفيه الملأ من قريش ، فقرأها عليهم ، فأيسوا.
أي : قل لهم : {لا أعْبُدُ ما تعبدون} فيما يُستقبل ؛ لأنَّ " لا " إذا دخلت على المضارع خلصته للاستقبال ، أي : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، {ولا أنتم عابدون ما أعبدُ} أي : ولا أنتم فاعلون في الحال ما أطلب منكم من عبادة إلهي ، {ولا أنا عابد ما عبدتم} أي : وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ، ولم يعهد مني عبادة صنم ، فكيف يرجى مني في الإسلام ؟ {ولا أنتم عابدون ما أعبدُ} أي : وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته. وقيل : إنَّ هاتين الجملتين لنفي العبادة حالاً ، كما أنَّ الأوليين لنفيها استقبالاً. وإيثار " ما " في (ما أعبد) على " من " ؛ لأنَّ المراد هو الوصف ، كأنه قيل : ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يُقادر قدر عظمته. وقيل " ما " مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي ، وقيل : الأوليان بمعنى " الذي " ، والأخريان مصدريتان.
وقوله تعالى : {لكم دينكُم وليَ دِينِ} تقرير لِما تقدّم ، والمعنى : إنَّ دينكم الفاسد ، الذي هو الإشراك ، مقصور عليكم ، لا يتجاوزه إلى الحصول ليّ ، كما تطمعون فيه ، فلا
363
تُعلِّقوا به أطماعكم الفارغة ، فإنَّ ذلك من المحالات ، كما أنَّ ديني الحق لا يتجاوزني إليكم ، لِما سبق لكم من الشقاء. والقصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتماً. والله تعالى أعلم.(8/546)
الإشارة : إذا طلبت العامةٌ المريدَ بالرجوع ، إلى الدنيا والاشتغال بها ، يُقال له : قل يا أيها الكافرون بطريق التجريد ، والتي هي سبب حصول التوحيد والتفريد ، لا أعبدُ ما تعبدون من الدينا وحظوظها ، أي : لا أرجع إليها فيما يُستقبل من الزمان ، ولا أنتم عابدون ما أعبدُ من إفراد الحق بالمحبة والعبادة ، أي : لا تقدرون على ذلك ، ولا أنا عابد ما عبدتم من الدنيا في الحال ، لكم دينكم المبني على تعب الأسباب ، وليَ ديني المبني على التعلُّق بمسبِّب الأسباب ، أو لكم دينكم المكدّر بالوساوس والخواطر والأوهام ، ولي ديني الخالص الصافي ، المبني على تربية اليقين ، أو : لكم دينكم المبني على الاستدلال ، ولي ديني المبني على العيان. أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان ، كما قال الشاذلي رضي الله عنه. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
364
جزء : 8 رقم الصفحة : 363(8/547)
سورة النصر
جزء : 8 رقم الصفحة : 364
يقول الحق جلّ جلاله : {إِذا جاء نَصْرُ اللهِ} " إذا " ظروف لِما يُستقبل ، والعامل فيه : {فسبِّح} ، والنصر : الإعانة والإظهار على العدوّ ، والفتح : فتح مكة ، أو فتح البلاد ، والإعلام بذلك قبل الوقوع من أعلام النبوة ، إذا قلنا نزلت قبل الفتح ، وعليه الأكثر ، والمعنى : إذا جاءك نصر الله ، وظَهَرْتَ على العرب ، وفتح عليك مكة أو سائر بلاد العرب ، فَأَكْثِر من التسبيح والاستغفار ، تأهُّباً للقاء أو شكراً على النِعم ، والتعبير عن حصول الفتح بالمجيء للإيذان بأنّ حصوله على جناح الوصول عن قريب.
وقيل : نزلت أيام التشريق بمِنىً في حجة الوداع ، وعاش بعدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً ، فكلمة (إذا) حينئذ باعتبار أنَّ بعض ما في حيزها ـ أعني : رؤية دخول الناس أفواجاً ـ غير منقض بعدُ. وكان فتح مكة لعَشْرٍ من شهر رمضان ، سنة ثمان ، ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب ، وأقام بها خمس عشرة ليلة. وحين دخلها وقف على باب الكعبة ، ثم قال : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهَزَم الأحزابَ وحده " ، ثم قال : " يا أهل مكة ؛ ما ترون إني فاعل بكم ؟ " قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : " اذهبوا فأنتم الطُلقاء " فأعتقهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا لهم فيئاً ، ولذلك سُمي أهل مكة الطُلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام ، ثم خرج إلى هوازن.
ثم قال تعالى : {ورأيتَ الناسَ} أي : أبصرتهم ، أو علمتهم {يدخلون في دينِ الله} أي : ملة الإسلام ، التي لا دين يُضاف إليه تعالى غيرها. والجملة على الأول : حال من " الناس " ، وعلى الثاني : مفعول ثان لرأيت ، و {أفواجاً} حال من فاعل " يدخلون " أي :
365
يدخلون جماعة بعد جماعة ، تدخل القبيلة بأسرها ، والقوم بأسرهم ، بعدما كانوا يدخلون واحداً واحداً ، وذلك أنَّ العرب كانت تقول : إذا ظفر محمدٌ بالحرم ـ وقد كان آجرهم الله من أصحاب الفيل ـ فليس لكم به يدان ، فلما فُتحت مكة جاؤوا للإسلام أفواجاً بلا قتال ، فقد أسلم بعد فتح مكة بَشَرٌ كثير ، فكان معه في غزوة تبوك سبعون ألفاً. وقال أبو محمد بن عبد البر : لم يمت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب كافر ، وقد قيل : إنَّ عدد المسلمين عند موته : مائة ألف وأربعة عشر ألفاً. هـ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 365(8/548)
فإذا رأيتَ ما ذكر من النصر والفتح {فَسَبِّح بحمد ربك} أي : قل سبحان الله ، حامداً له ، أو : فصلّ له {واستغفره} تواضعاً وهضماً للنفس ، أو : دُمْ على الاستغفار ، {إِنه كان} ولم يزل {تواباً} ؛ كثير القبول للتوبة. روت عائشةُ رضي الله عنها أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم : لَمّا فتح مكة ، وأسلمت العرب ، جعل يُكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، وأستغفرك وأتوب إليك ، يتأوّل القرآن " يعني في هذه السورة. وقال لها مرة : " ما أراه إلاَّ حضور أجلي " ، وتأوَّله العباس وعمر رضي الله عنهما بذلك بمحضره صلى الله عليه وسلم فصدّقهما ، ونزع هذا المنزع ابن عباس وغيره.
الإشارة : إذا جاءتك أيها المريد نصر الله لك ، بأن قوّاك على خرق عوائد نفسك ، وأظفرك بها (والفتح) وهو دخول مقام الفناء ، وإظهار أسرار الحقائق ، ورأيت الناسَ يدخلون في طريق الله أفواجاً ، فسبّح بحمد ربك ، أي : نزّه ربك عن رؤية الغيرية والأثنينية في ملكه ، واستغفره من رؤية وجود نفسك. قال القشيري : ويقال النصر من الله بأن أفناه عن نفسه ، وأبعد عنه أحكام البشرية ، وصفّاه من الكدورات النفسانية ، وأمّا الفتح فهو : أن رقَّاه إلى محل الدنو ، واستخلصه بخصائص الزلفة ، وألبسه لباس الجمع ، وعرّفه من كمال المعرفة ما كان جميع الخلق متعطشاً إليه. هـ. وقال الورتجبي (فَسَبِّح بحمد ربك) أي : سبِّحه بحمده لا بك ، أي : فسبِّحه بالحمد الذي حمد به نفسه ، واستغفِره من حمدك وثنائك وجميع أعمالك وعرفانك ، فإنّ الكل معلول ؛ إذ وصف الحدثان لا يليق بجمال الرحمن ، إنه كان قابل التوب من العجز عن إدراك كنه قدسه ، والاعتراف بالجهل عن معرفة حقيقة وجوده. هـ. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
366
جزء : 8 رقم الصفحة : 365(8/549)
سورة المسد
جزء : 8 رقم الصفحة : 366
يقول الحق جلّ جلاله : {تَبَّتْ} ، أي : هلكت {يَدَا أبي لهبٍ} هو عبد العزى بن عبد المطلب ، عم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وإيثار لفظ التباب على الهلاك ، وإسناده إلى يديه ، لِما رُوي أنه لمّا نزل : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(214)} [الشعراء : 214] رقى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصفا ، وقال : " يا صباحاه " فاجتمع إليه الناسُ من كل أوب ، فقال : " يابني عبد المطلب! يابني فهر! أرأيتم إن أخبرتكم أنَّ بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي ؟ " قالوا نعم ، قال : " فإني نذير لكم بين يديْ عذابٍ شديدٍ " فقال أبو لهب : تبًّا لك سائر اليوم ، ما دعوتنا إلاّ لهذا ؟ وأخذ حجراً ليرميه به عليه الصلاة والسلام ، فنزلت ، أي : خسرت يدا أبي لهب {وتَبَّ} اي : وهلك كله ، وقيل : المراد بالأول : هلاك جملته ، كقوله : {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج : 10]. ومعنى " وتَبَّ " : وكان ذلك وحصل ، ويؤيده قراءة ابن مسعود " وقد تب ". وذكر كنيته للتعريض بكونه جهنميًّا ، لاشتهاره بها ، ولكراهة اسمه القبيح. وقرأ المكي بسكون الهاء ، تخفيفاً.
{ما أَغْنَى عنه مالُه وما كَسَبَ} أي : لم يُغن حين حلّ به التباب ، على أنّ " ما " نافية ، أو : أيّ شيء أغنى عنه ، على أنها استفهامية في معنى الإنكار ، منصوبة بما بعدها ، أي : ما أغنى عنه أصل ماله وما كسب به من الأرباح والمنافع ، أو : ما كسب من الوجاهة والأتباع ، أو : ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه ، أو : ما كسب من عمله الخبيث ، الذي هو كيده في عداوته عليه الصلاة والسلام ، أو : عمله الذي ظنّ أنه منه على شيء ،
367(8/550)
لقوله تعالى : {وَقَدِمْنَآ إِلَىا مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً (23)} [الفرقان : 23] ، وعن ابن عباس : " ما كسب ولده " ، رُوي أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فأنا أفدي منه نفسي بمالي وولدي ، فاستخلص منه ، وقد خاب مرجاه ، وما حصل ما تمناه ، فافترس ولده " عُتبة " أسدٌ في طريق الشام ، وكان صلى الله عليه وسلم دعا عليه بقوله : " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك " وهلك هو نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال ، فاجتنبه الناسُ مخالفةَ العدوى ، وكانوا يخافون منها كالطاعونن فبقي ثلاثاً حتى تغيّر ، ثم استأجروا بعض السودان ، فحملوه ، ودفنوه ، فكان عاقبته كما قال تعالى :
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 367
سَيصْلى ناراً} أي : سيدخل لا محالة بعد هذا العذاب الأجل ناراً {ذاتَ لهبٍ} أي : ناراً عظيمة ذات اشتعال وتوقُّد ، وهي نار جهنم. قال أبو السعود : وليس هذا نصًّا في أنه لا يؤمن أبداً ، فيكون مأموراً بالجمع بين النقيضين ، فإنَّ صَلْي النار غير مختص بالكفار ، فيجوز أن يُفهم من هذا أنَّ دخوله النار لفسقه ومعاصيه ، لا لكفره ، فلا اضطرار إلى الجواب المشهور ، من أنّ ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً ، لا الإيمان بما نطق به القرآن ، حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر. هـ.
(8/551)
{وامرأتُه} : عطف على المستكن في " يَصْلى " لمكان الفعل. وهي أم جميل بنت حرب ، أخت أبي سفيان ، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعد ، فتنثرها بالليل في طريق النبي ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير. وقيل كانت تمشي بالنميمة ، ويقال لمَن يمشي بالنميمة ويُفسد بين الناس : يحمل الحطب بينهم ، أي : يُوقد بينهم النار ، وهذا معنى قوله : {حمّالةَ الحطبِ} بالنصب على الذم والشتم ، أو : الحالية ، بناء على أنَّ الإضافة غير حقيقية ، لوجوب تنكير الحال ، وقيل : المراد : أنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب جهنم كالزقوم والضريع. وعن قتادة : أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها ، لشدة بُخلها ، فعيرت بالبخل ، فالنصب حينئذ على الذم حتماً. ومَن رفع فخبر عن " امرأته " ، أو : خبر عن مضمر متوقف على ما قبله. وقُرىء " ومُرَيَّتُه " فالتصغير للتحقير ، {في جِيدِها} في عُنقها {حَبْلٌ من مَسَد} والمسد : الذي فُتل من الحبال فتلاً شديداً ، من ليف المُقْل أو من أي ليفٍ كان ، وقيل : من لحاء شجر باليمن ، وقد يكون من جلود الإبل وأوبارها.
قال الأصمعي : صلّى أربعة من الشعراء خلف إمام اسمه " يحيى " فقرأ : " قل هو الله أحد " فتعتع فيها ، فقال أحدهم :
أكثَرَ يَحْيى غلطا
في قل هو الله أحد
368
وقال الثاني :
قام طويلاً ساكتاً
حتى إذا أعيا سجد
وقال الثالث :
يزْحَرُ في محرابه
زحيرَ حُبْلى بوتد
وقال الرابع :
كأنما لسانه
شُدّ بحبلٍ من مسد
والمعنى : في جيدها حبل مما مُسد من الحبال ، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك ، وتربطها في جيدها ، كما يفعل الحطّابون ، تحقيراً لها ، وتصويراً لها ، بصورة بعض الحطّابات ، لتجزع من ذلك ، ويجزع بعلُها ، وهما من بيت الشرف والعزّ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 367
(8/552)
رُوي أنها لمّا نزلت فيها الآية أتت بيتَه صلى الله عليه وسلم ، وفي يدها حجر ، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه الصدّيق ، فأعماها اللهُ عن رسول صلى الله عليه وسلم ولم ترَ إلاّ الصدّيق ، قالت : أين محمد ؟ بلغني أنه يهجوني ، لئن رأيته لأضربن فاه بهذا الفِهر. هـ. ومن أين ترى الشمسَ مقلةٌ عمياء ، وقيل : هو تمثيل وإشارة لربطها بخذلانها عن الخير ، ولذلك عظم حرصها على التكذيب والكفر. قال مُرة الهمداني : كانت أم جميل تأتي كل يوم بحزمة من حسك ، فتطرحها في طريق المسلمين ، فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت ، فقعدت على حجر لتستريح ، فجذبها الملك من خلفها بحبلها فاختنقت ، فهلكت. هـ.
الإشارة : إنما تبّت يدا أبي لهب ، وخسر ، وافتضح في القرآن على مرور الأزمان ، لأنه أول مَن أظهر الكفر والإنكار ، فكان إمام المنكِرين ، فكل مَن بادر بالإنكار على أهل الخصوصية انخرط في سلك أبي لهب ، لا يُغني عنه مالُه وما كسب ، وسيصلى نارَ القطيعة والبُعد ، ذات احتراق ولهب ، وامرأته ، اي : نفسه ، حمّالة حطب الأوزار ، في جيدها حبل من مسد الخذلان. وبالله التوفيق وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
369
جزء : 8 رقم الصفحة : 367(8/553)
سورة الإخلاص
جزء : 8 رقم الصفحة : 369
قلت : {هو} ضمير الشأن مبتدأ ، والجملة بعده خبر ، ولا تحتاج إلى رابط ، لأنها نفس المبتدأ ، فإنها عين الشأن الذي عبّر عنه بالضمير ، ورفعه من غير عائد يعود عليه ؛ للإيذان بأنه الشُهرة والنباهة بحيث يستحضرة كلُّ أحد ، وإليه يُشير كل مُشير ، وعليه يعود كل ضمير ، كما يُنبىء عنه اسم الشأن ، الذي هو القصد. والسر في تصدير الجملة به للتنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها ، وجلالة حيزها ، مع ما فيه من زيادة تحقيقٍ وتقرير ، فإنَّ الضمير لا يُفهم منه من أول الأمر إلاّ شأن مبهم ، له خطر جليلٍ ، فيبقى الذهن مترقباً لِما أمامه مما يفسره ويزيل إبهامه ، فيتمكن عند وروده له فضل تمكُّن. وكل جملة بعد خبره مقرِّره لِما قبلها على ما يأتي.
يقول الحق جلّ جلاله مجيباً للمشركين لَمّا قالوا : صِفْ لنا ربك الذي تدعونا إليه ، وانسبه ؟ فسكت عنهم صلى الله عليه وسلم فنزلت ، أو اليهود ، لَمّا قالوا : صِفْ لنا ربك وانسبه ، فإنه وَصَفَ نفسه في التوراة ونَسَبَها ، فارتعد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى خَرّ مغشيًّا عليه ، فنزل جبريلُ عليه السلام بالسورة. ويمكن أن تنزل مرتين كما تقدّم.
فقال جلّ جلاله : {قل هو اللهُ} المعبود بالحق ، الواجب الوجود ، المستحق
370
للكمالات {أحَدٌ} لا شريك له في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، لا يتبعّض ولا يتجزّأ ، ولا يُحد ، ولا يُحصَى ، أول بلا بداية ، وآخر بلا نهاية ، ظاهر بالتعريف لكل أحد ، باطن في ظهوره عن كل أحد.
وأصل {أحد} هنا " وَحَد " فأبدلت الواو همزة ، وليست كأحد ، الملازم للنفي ، فإنَّ همزة أصلية. ووصفه تعالى بالوحدانية له ثلاث معان ، الأول : أنه لا ثاني له ، فهو نفي للعدد ، والآخر : أنه واحد لا نظير له ولا شريك له ، كما تقول : فلان واحد عصره ، أي : لا نظير له ، الثالث : أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعّض. والأظهر أن المراد هنا : نفي الشريك ، لقصد الرد على المشركين. انظر ابن جزي.(8/554)
{اللهُ الصمدُ} وهو فَعَلٌ بمعنى مفعول ، من : صمد إليه : إذا قصده ، أي : هو السيّد المصمود إليه في الحوائج ، المستغني بذاته عن كل ما سواه ، المفتقِر إليه كلُّ ما عداه ، افتقاراً ضرورياً في كل لحظة ، إذ لا قيام للأشياء إلاّ به. أو الصمد : الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال ، أو : الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، والذي يُطْعِم ولا يُطْعَم ولا يأكل ولا يشرب ، أو : الذي لا جوف له ، وتعريفه لعلمهم بصمديته ، بخلاف أحديته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 370
وتكرير الاسم الجليل ، للإشعار بأنَّ مَن لم يتصف بذلك فهو بمعزلٍ عن استحقاق الألوهية ، والتلذُّذ بذكره. وتعرية الجملة عن العاطف ، لأنها كالنتيجة عن الأولى ، بيَّن أولاً ألوهيته عزّ وجل ، المستوجبة لجميع نعوت الكمال ، ثم أحديته الموجبة لتنزّهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجهٍ من الوجوه ، وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها ، ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتي عما سواه ، وافتقار المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها ، تحقيقاً للحق ، وإرشاداً إلى التعلُّق بصمديته تعالى. ثم صرّح ببعض أحكام مندرجة تحت الأحكام السابقة ، فقال : {لم يلدْ} أي : لم يتولد عن شيء ، ردًّا على المشركين ، وإبطالاً لاعتقادهم في الملائكة والمسيح ، ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي ، أي : لم يصدر عنه ولد ؛ لأنه لا يُجانسه شيء يمكن أن يكون له من جنسه صاحبة ليتوالدا ، كما ينطق به قوله تعالى : {أَنَّىا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام : 101] ، ولا يفتقر إلى ما يُعينه أو يخلفه ؛ لاستحالة الحاجة عليه ، لصمدانيته وغناه المطلق.(8/555)
{ولم يُولدْ} أي : لم يتولد عن شيءٍ ، لا ستحالة نسبة العدم إليه سابقاً ولاحقاً. والتصريح به مع كونهم معترفين بمضمونه لتقرير ما قبله وتحقيقه ، وللإشارة إلى أنهما متلازمان ، إذ المعهود أنَّ ما يلد يولد ، وما لا فلا ، ومِن قضية الاعتراف بأنه لم يلد : الاعتراف بأنه لم يُولد ، {ولم يكن له كُفُواً أحَدٌ} أي : ولم يكن أحد مماثلاً له ولا مشاكلاً ، مِن صاحبة أو غيرها. و(له) : متعلق بـ " كُفُواً " ، قدمت عليه للاهتمام بها ؛ لأنَّ المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى ، وأمّا تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل. ووجه
371
الوصل في هذه الجُمل غَنِي عن البيان.
هذا ولانطواء السورة الكريمة ، مع تقارب قطريها ، على أنواع المعارف الإلهية والأوصاف القدسية ، والرد على مَن ألحد فيها ، ورد في الحديث النبوي : أنها تعدل ثلث القرآن ، فإنّ مقاصده منحصرة في بيان العقائد والأحكام والقصص ، وقد استوفت العقائد لمَن أمعن النظر فيها. عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أُسست السموات السبع والأرضون السبع على {قل هو الله أحد} " أي : ما خلقت إلاَّ لتكون دلائل توحيده ، ومعرفة ذاته ، التي نطقت بها هذه السورة الكريمة.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يقرؤها ، فقال : " " وجبت " فقيل : وما وجبت ؟ فقال : " الجنة " ، وشكى إليه رَجُلٌ الفقرَ وضيق المعاش ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " إذا دخلت بيتك فسَلِّم ، إن كان فيه أحد ، وإلا فسَلِّم عليّ واقرأ : {قل هو الله أحد} " ففعل الرجل ، فأدرّ اللهُ عليه الرزق ، حتى أفاض على جيرانه " ، وخرّج الترمذي : أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ {قل هو الله أحد} مائتي مرة في يوم غُفرت له ذنوب خمسين سنة ، إلاّ أن يكون عليه دَيْن " ، وفي الجامع الصغير أحاديث في فضل السورة تركناه خوف الإطناب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 370(8/556)
الإشارة : قد اشتملت السورةُ على التوحيد الخاص ، أعني : توحيد أهل العيان ، وعلى التوحيد العام ، أعني : توحيد أهل البرهان ، فالتوحيد الخاص له مقامان : مقام الأسرار الجبروتية ، ومقام الأنوار الملكوتية ، فكلمة (هو) تُشير إلى مقام الأسرار اللطيفة الأصلية الجبروتية. و(الله) يشير إلى مقام الأنوار الكثيفة المتدفقة من بحر الجبروت ؛ لأنّ حقيقة المشاهدة : تكثيف اللطيف ، وحقيقة المعاينة : تلطيف الكثيف ، فالمعاينة أرقّ ، فشهود الكون أنواراً كثيفة فاضت من بحر الجبروت مشاهدة ، فإذا لَطَّفها حتى اتصلت بالبحر اللطيف المحيط ، وانطبق بحر الأحدية على الكل سُميت معاينةً ، ووصفه تعالى بالأحدية والصمدية والتنزيه عن الولد والوالد يحتاج إلى استدلال وبرهان ، وهو مقام الإيمان ، والأول مقام الإحسان ، فالآية من باب التدلي.
قال القشيري : يقال كاشَفَ تعالى الأسرارَ بقوله (هو) والأرواحَ بقوله : (الله) وكاشف القلوبَ بقوله : (أحد) وكاشف نفوسَ المؤمنين بباقي السورة. ويُقال : كاشف الوالهين
372
بقوله : (هو) والموحِّدين بقوله : (الله) والعارفين بقوله : (أحد) والعلماء بالباقي ، ثم قال : ويُقال : خاطب خاصة الخاص بقوله : (هو) فاستقلوا ، ثم خاطب الخواص بقوله (الله) فاشتغلوا ، ثم زاد في البيان لمَن نزل عنهم ، فقال : (أحد) ، ثم نزل عنهم بالصمد ، وكذلك لمَن دونهم. هـ. وقال في نوادر الأصول : هو اسم لا ضمير ، من الهوية ، أي : الحقيقة. انظر بقية كلامه.(8/557)
سورة الفلق
جزء : 8 رقم الصفحة : 373
يقول الحق جلّ جلاله : {قلْ} يا محمد {أعوذُ بربِّ الفلقِ} أي : أتحصّن وأستجيرُ برب الفلق. والفلق : الصُبح ، كالفرق ، لأنه يفلق عنه الليل ، فعل بمعنى مفعول. وقيل : هو كل ما يفلقه الله تعالى ، كالأرض عن النبات ، والجبال عن العيون ، والسحاب عن الأمطار ، والحب والنوى عما يخرج منهما ، والبطون والفروج عما يخرج منهما ، وغير ذلك مما يفلق ويخرج منه شيء. وقيل : هو جب في جهنم.
وفي تعليق العياذ بالرب ، المضاف إلى الفلق ، المنبىء عن النور بعد الظلمة ، وعن السعة بعد الضيق ، والفتق بعد الرتَق ، عِدَة كريمة بإعاذة العامة مما يتعوّذ منه ، وإنجائه منه وفَلْق ما عقد له من السحر وانحلاله عنه ، وتقوية رجائه بتذكير بعض نظائره ، ومزيد ترغيب في الاعتناء بقرع باب الالتجاء إلى الله تعالى.(8/558)
قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن العارف : والحاصل : أنَّ الإشارة بـ " هو " مختصة بأهل الاستغراق والتحقُّق في الهوية الحقيقة ، فلانطباق بحر الأحدية عليهم ، وانكشاف الوجود الحقيقي لديهم ، فقدوا مَن يشار إليه إلاّ هو ، لأنّ المُشار إليه لمّا كان واحداً كانت الإشارة مطلقة لا تكون إلاّ إليه ، لفقد ما سواه في شعورهم ، لفنائهم عن الرسوم البشرية بالكلية ، وغيبتهم عن وجودهم ، وعن إحساسهم وأوصافهم الكونية ، وذلك غاية في التوحيد والإعظام. منحنا اللهُ ذلك على الدوام ، وجعلنا من أهله ، ببركة نبيه عليه الصلاة والسلام. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
373
جزء : 8 رقم الصفحة : 370
ثم ذكر المتعوَّذ منه فقال : {من شرِّ ما خَلَقَ} من الثقلين وغيرهم ، كائناً ما كان ، وهذا كما ترى شامل لجميع الشرور الجمادية ، والحيوانية ، والسماوية ، كالصواعق وغيرها. وإضافة الشر إليه ـ أي : إلى كل ما خلق ـ لاختصاصه بعالَم الخلق ، المؤسس على امتزاج المراد المتباينة ، وتفاصيل كيفياتها المتضادة المستتبعة للكون والفساد في عالَم الحكمة ، وأمّا عالَم الأمر فهو منزّه عن العلل والأسباب ، والمراد به : كن فيكون.
وقوله تعالى : {ومن شر غَاسِقٍ إِذا وَقَبَ} تخصيص لبعض الشرور بالذكر ، بعد اندراجه فيما قبله ، لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه ، لكثرة وقوعه ، أي : ومن شر الليل إذا أظلم واشتد ظلامه ، كقوله تعالى : {إِلَىا غَسَقِ الْلَّيْلِ} [الإسراء : 78]. وأصل الغسق : الامتلاء. يقال : غسقت عينيه إذا امتلأت دمعاً ، وغَسَقُ الليل : انضباب ظلامه. وقوله : {إذا وقب} أي : دخل ظلامه ، وإنما تعوَّذ من الليل لأنه صاحب العجائب ، وقيل : الغاسق : القمر ، ووقوبه : دخوله في الكسوف واسوداده ، لِما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، وقال : " تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب " وقيل : وقوب القمر : محاقه في آخر الشهر ، والمنجِّمون يعدونه نحساً ، ولذلك لا تستعمل السحرةُ السحرَ المُورث للمرض إلاَّ في ذلك الوقت ، قيل : وهو
375
المناسب لسبب النزول. وقيل : الغاسق : الثريا ، ووقوبها : سقوطها ، لأنها إذا سقطت كثرت الأمراض والطواعين. وقيل : هو كل شر يعتري الإنسان ، ووقوبه هجومه ، فيدخل فيه الذكَر عند الشهوة المحرمة وغيره.
{
جزء : 8 رقم الصفحة : 375(8/559)
ومن شر النفاثاتِ في العُقَد} أي : ومن شر النفوس ، أو : النساء النفاثات ، أي : السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط ، وينفثن عليها ، والنفث : النفخ مع ريق ، وقيل : بدون ريق ، وتعريفها إمّا للعهد الذهني ، وهن بنات لَبِيد ، أو : للجنس ، لشمول جميع أفراد السواحر ، وتدخل بنات لَبيد دخولاً أولياً. {ومن شر حاسدٍ إِذا حَسَدَ} إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه ، بترتيب مقدمات الشر ، ومبادىء الإضرار بالمحسود ، قولاً وفعلاً ، والتقييد بذلك ؛ لأنَّ ضرر الحسد قبله إنما يحيق بالحاسد ، وقد تكلم ابن جزي هنا على الحسد بكلام نقلناه في سورة النساء ، فانظره فيه. الإشارة : الفلق هو النور الذي انفلق عنه بحر الجبروت ، وهي القبضة المحمدية ، التي هي بذرة الكائنات ، فأمر الله بالتعوُّذ بربها الذي أبرزها منه ، من شر كل ما يشغل عن الله ، من سائر المخلوقات ، ومن شر ما يهجم على الإنسان ، ويقوم عليه من نفسه وهواه وغضبه وسخطه ، ومن شر ما يكيده من السحرة أو الحُساد. والحسد مذموم عند الخاص والعام ، فالحسود لا يسود. وحقيقة الحسد : الأسف على الخير عند الغير ، وتمني زواله عنه ، وأمّا تمني مثله مع بقائه لصاحبه فهي الغِبطة ، وهي ممدوحة في الكمالات ، كالعلم والعمل ، والذوق والحال. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
376
جزء : 8 رقم الصفحة : 375(8/560)
سورة الناس
جزء : 8 رقم الصفحة : 376
يقول الحق جلّ جلاله : {قل أعوذُ بربِّ الناس} مربّيهم ومُصلحهم ، {مَلِكِ الناس} مالكهم ومدبر أمورهم. وهو عطف بيان جيء به لبيان أنَّ تربيته تعالى ليست بطريق تربية سائر المُلاك لِما تحت أيديهم من ممالكهم ، بل بطريق المُلك الكامل ، والتصرُّف التام ، والسلطان القاهر. وكذا قوله تعالى : {إِلهِ الناس} فإنه لبيان أنَّ مُلكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم ، والقيام بتدبير أمور سياستهم ، والمتولِّي لترتيب مبادىء حِفظهم وحمايتهم ، كما هو قصارى أمر الملوك ، بل هو بطريق العبودية ، المؤسَّسة على الألوهية ، المقتضية للقدرة التامة على التصرُّف الكلي فيهم ، إحياءً وإماتةً ، وإيجاداً وإعداماً. وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظام جميع العالَمين في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته للإرشاد إلى مناهج الاستعاذة المرضية عنده تعالى ، الحقيقة بالإعاذة ، فإنَّ توسل العبد بربه ، وانتسابه إليه تعالى بالمربوبية والملكية والمعبودية ، في ضمن جنس هو فرد من أفراده ، من دواعي الرحمة والرأفة. أمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ، ولأنَّ المستعاذ منه شر الشيطان ، المعروف بعداوتهم ، مع التنصيص على انتظامه في سلك عبوديته تعالى وملكوته ، رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلُّطه عليهم ، حسبما ينطق به قوله تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء : 65] فمَن جعل مدارَ تخصيص الإضافة مجرد كون الاستعاذة من المضار المختصة بالنفوس البشرية فقد قصر في توفية المقام حقه. وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف. قاله أبو السعود.
والآية من باب الترقِّي ، وذلك أنَّ الرب قد يُطلق على كثير من الناس ، فتقول : فلان
377(8/561)
رب الدار ، وشبه ذلك ، فبدأ به لاشتراك معناه ، وأمَّا المَلك فلا يُوصف به إلاَّ آحاد من الناس ، وهم الملوك ، ولا شك أنهم أعلى من سائر الناس ، فلذلك جيء به بعد الرب ، وأمَّا الإله فهوأعلى من المَلك ، ولذلك لا يَدَّعي الملوكُ أنهم آلهة ، وإنما الإله واحد لا شريك له ولا نظير قاله ابن جزي.
{من شَرَّ الوسواس} أي : الموسوس ، فالوسواس مصدر ، كالزلزال ، بمعنى اسم الفاعل ، أو سمي به الشيطان مبالغةً ، كأنه نفس الوسوسة ، و {الخناس} الذي عادته أن يخنس ، أي : يتأخر عند ذكر الإنسان ربَّه ، {الذي يُوَسْوِسُ في صدور الناس} إذا غفلوا عن ذكر الله ، ولم يقل : في قلوب الناس ؛ لأنَّ الشيطان محله الصدور ، ويمدّ منقاره إلى القلب ، وأمّا القلب فهو بيت الرب ، وهو محل الإيمان ، فلا يتمكن منه كل التمكُّن ، وإنما يحوم في الصدر حول القلب ، فلو تمكّن منه لأفسد على الناس كلهم إيمانهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 377
قال ابن جزي : وسوسة الشيطان بأنواع كثيرة ، منها : فساد الإيمان والتشكيك في العقائد ، فإن لم يقدر على ذلك ثبّطه عن الطاعات ، فإن لم يقدر على ذلك أدخل الرياء في الطاعات ليُحبطها ، فإن سَلِمَ من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه ، واستكثار عمله ، ومن ذلك : أنه يُوقد في القلب نار الحسد والحقد والغضب ، حتى يقود الإنسان إلى سوء الأعمال وأقبح الأحوال. وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء ، وهي : الإكثار من ذكر الله ، والإكثار من الاستعاذة منه ، ومن أنفع شيءٍ في ذلك : قراءة سورة الناس. هـ. قلت : لا يقلع الوسوسة من القلب بالكلية إلاّ صُحبة العارفين ، أهل التربية ، حتى يُدخلوه مقامَ الفناء ، وإلاَّ فالخواطر لا تنقطع عن العبد.(8/562)
ثم بَيّن الموسوِس بقوله : {مِن الجِنة} أي : الجن {والناس} ووسواس النار أعظم ؛ لأنَّ وسواس الجن يذهب بالتعوُّذ ، بخلاف وسوسة الناس ، والمراد بوسوسة الناس : ما يُدخلون عليك من الشُبه في الدين ، وخوض في الباطن ، أو سوء اعتقاد في الناس ، أو غير ذلك.
قال ابن جزي : فإن قلت : لِمَ ختم القرآن بالمعوذتين ، وما الحكمة في ذلك ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه ، الأول : قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لمَّا كان القرأنُ من أعظم نِعم الله على عباده ، والنعمة مظنة الحسد ، ختم بما يُطفىء الحسد ، من الاستعاذة بالله. الثاني : يَظهر لي أنَّ المعوذتين ختم بهما لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما : " أنزلت علي آيات لم يُر مثلهن قط " كما قال في فاتحة الكتاب : " لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها " فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها ، واختتم بسورتين
378
لم يرَ مثلهما ، للجمع بين حسن الافتتاح والاختتام. ألا ترى أن الخُطب والرسائل والقصائد ، وغير ذلك من أنواع الكلام ، يُنظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها.
والوجه الثالث : أنه لمّا أمر القارىء أن يفتح قراءته بالتعوُّذ من الشيطان الرجيم ، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن ، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء ، فيكون القارىء محفوظاً بحفظ الله ، الذي استعاذ به مِن أول أمره إلى آخره. هـ.
الإشارة : لا يُنجي من الوسوسة بالكلية إلاّ التحقُّق بمقام الفناء الكلي ، وتعمير القلب بأنوار التجليات الملكوتية والأسرار الجبروتيه ، حتى يمتلىء القلب بالله فحينئذ تنقلب وسوسته في أسرار التوحيد فكرةً ونظرةً وشهوداً للذات الأقدس ، كما قال الشاعر :
جزء : 8 رقم الصفحة : 377
إن كان للناس وسواس يوسوسهم
فأنت والله وسواسي وخناسي(8/563)
وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلّى الله على سيدنا محمد ، وآله وصحبه ، وسلّم تسليماً.
كَمِل " البحر المديد في تفسير القرآن المجيد " بحول الله وقوته. نسأل الله سبحانه أن يكسوه جلباب القبول ، ويُبلغ به كل مَن طالعه ، أو حصّله القصدَ والمأمول ، بجاه سيد الأولين والآخرين ، سيدنا ومولانا محمد ، خاتم النبيين وإمام المرسلين. وعُمْدَتنا فيه : تفسير البيضاوي ، وأبي السعود ، وحاشية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي ، وشيء من تفسير ابن جزي والثعلبي والقشيري. وكان الفراغ من تبييضه زوال يوم الأحد ، سادس ربيع النبوي ، عام واحد وعشرين ومائتين وألف ، على يد جامعه ، العبد الضعيف ، الفقير إلى مولاه ، أحمد بن محمد بن عجيبة الحَسَنِي ، لطف الله به في الدارين. آمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
379
جزء : 8 رقم الصفحة : 377
تم الكتاب والحمد لله أولا وآخر وظاهرا وباطنا.(8/564)
فهرس أجزاء الكتاب
1 ـ الجزء الأول من أول سورة الفاتحة وحتى آخر سورة آل عمران
2 ـ الجزء الثانى من أول سورة النساء وحتى آخر سورة الأعراف
3 ـ الجزء الثالث من أول سورة الأنفال وحتى آخر سورة الحجر
4 ـ الجزء الرابع من أول سورة النحل وحتى آخر سورة الحج
5 ـ الجزء الخامس من أول سورة المؤمنون وحتى آخر سورة السجدة
6 ـ الجزء السادس من أول سورة الأحزاب وحتى آخر سورة الشورى
7 ـ الجزء السابع من أول سورة الزخرف وحتى آخر سورة المجادلة
8 ـ الجزء الثامن من أول سورة الحشر وحتى آخر سورة الناس(8/565)