{وما أنتم بمعجزين} أي : بفائتين ربكم إن هربتم من حكمه وقضائه ، {في الأرض} الفسيحة ، {ولا في السماء} التي هي أفسح منها وأبسط ، لو كنتم فيها. {وما لكم من دون الله من وليٍّ} يتولى أموركم ، {ولا نصير} ؛ ولا ناصر يمنعكم من عذابه. {والذين كفروا بآيات الله} ؛ بدلائله على وحدانيته ، أو كتبه ، أو معجزاته ، {ولقائه} ؛ وكفروا بلقائه ، {أولئك يئِسُوا من رحمتي} ؛ جنتي ، {وأولئك لهم عذابٌ أليم} موجع. وبالله التوفيق.
الإشارة : أَوَلَمْ ير أهل فكرة الاستبصار كيف يظهر الحقُّ تجلياته من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ثم يبطنها ، فيردها لأصلها من اللطافة ، ثم ينشأها النشأة الثانية ، تكون معانيها أظهر من حسها ، وقدرتُها أظهر من حكمتها ، فليس عند أهل التوحيد الخاص شيء يفنى ، وإنما يُبطن ما ظهر ، ويُظهر ما بطن ، ولا زائد على أسرار الذات وأنوار الصفات. وهذا أمر لا يدركه إلا أفراد الرجال بصحبة أكابر الرجال ، وهو لُب العلم ، وخالصة طريقة ذكر الله ، والتفرغ عن كل شيء ما يشغل عن الله ، بعد قتل النفوس وحط الرؤوس وبذل الفلوس. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 303
قلت : {مودَّةَ بينكم} : مَنْ نَصَبَها : فله وجهان ؛ أحدهما : على التعليل ، أي لتوادوا بينكم ، والمفعول الثاني محذوف ، أي : اتخذتم أوثاناً آلهة. والثاني على المفعول الثاني لاتخذتم ، كقوله : {اتخذ آلهه هواه} [الفرقان : 43]. و(ما) : كافة ، أي : اتخذتم الأوثان سَبَبَ المودَّةِ على حَذْفِ مضاف ، أو : اتخذتموها مَوْدُودَةً بينكم. و(بينكم) : نصب على الظرفية ؛ نعت لمودة ، أي : حاصلة بينكم. ومن رفع : فله وجهان ؛ إما خبر إن ، و(ما) موصولة ، أو : عن مبتدأ محذوف ، أي : هي مودة بينكم ، و(بينكم) : مضاف إليه ما قبله.
يقول الحق جل جلاله : {فما كان جوابَ قومه} ؛ قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الله
305
(5/464)
{إلا أن قالوا اقتلوه أو حَرِّقوه} ، قاله بعضهم لبعض ، أو : قاله واحد منهم ، وكان الباقون راضين ، فكانوا جميعاً في الحكم القائلين. فاتفقوا على تحريقه ، {فأنجاه الله من النار} حين قذفوه فيها ؛ بأن جعلها برداً وسلاماً. وتقدم في الأنبياء تمام القصة.
{إن في ذلك} ؛ فيما فعلوه به وفعلناه {لآياتٍ} دالةً على عظم قدرته {لقوم يؤمنون} ؛ لأنهم المنتفعون بالفصح عنها والتأمل فيها. رُوي أنه لم ينتفع بها في تلك الأيام أحد لذهاب حرها ؛ لأن كل نار سمعت الخطاب فامتثلت.
{وقال} إبراهيمُ لقومه : {إِنما اتخذتم من دون الله أوثاناً} ؛ أصناماً آلهة {مودَّةَ بينكم في الحياة الدنيا} أي : لتوادوا بينكم في الحياة الدنيا ، وتواصلوا ؛ لاجتماعكم على عبادتها ، واتفاقكم عليها كما تتفق الناس على مذهب أو طريق ، فيكون ذلك سبب تحابهم. أو : إنما اتخذتم الأوثان سبب المودة ، أو اتخذتموها مودودة ومحبوبة بينكم ، أو : إن التي اتخذتموها أوثاناً تعبدونها هي مودة بينكم في الدنيا ، {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} أي : تتبرأ الأصنام من عابديها ؛ كقوله : {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف : 67]. {ويعلن بعضُكم بعضاً} ، فتلعن الأتباعُ الرؤساء : ؛ {ومأواكم النار} أي : مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع. {وما لكم من ناصرين} يحصنونكم منها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 305
الإشارة : الإنكار على أهل الخصوصية سنَّة الله في خلقه ، فلا يأنف منها إلا جاهل ، والاجتماع على التودد على غير ذكر الله ومحبته وما يقرب إليه ، كله يؤدي إلى التباغض والتلاعن يوم القيامة ؛ {الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} ، وهم المتحابون في الله ، والمجتمعون على ذكر الله والعلم به. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 305
(5/465)
يقول الحق جل جلاله : {فآمن} لإبراهيم ، أي : انقاد {له لوطٌ} ، وكان ابنَ أخيه ، وأول من آمن به حين رأى النار لم تحرقه. {وقال} إبراهيم : {إني مهاجرٌ إلى ربي} ؛ إلى حيث أمرني ربي بالهجرة ، وهو الشام ، فخرج من " كوثى " ، وهي من سواد الكوفة ، إلى حرّان ، ثم منها إلى فلسطين ، وهي من برية الشام ، ونزل لوط بسدوم ، ومِنْ ثَمَّ قالوا لكل نبي هجرة ، ولإبراهيم هجرتان. وكان معه ، في هجرته ، لوط وسارة زوجته.
وقيل : القائل : {إني مهاجرٌ إلى ربي} هو لوط ، فأول من هاجر من الأنبياء إبراهيم ولوط. وذكر البيهقي : إن أول من هاجر منا في الإسلام بأهله : عثمان. ورفع الحديث إلى
306
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه قال : إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. هـ. يعني : الهجرة إلى الحبشة. وكانت - فيما ذكر الواقدي - سنة خمس من البعثة ، وأما الهجرة إلى المدينة ؛ ففي البخاري عن البراء : أولُ من قَدِمَ المدينة من الصحابة ، مهاجراً ، مُصعبُ بن عُمير ، وابن أم مكتوم ، ثم جاء عمَّارُ ، وبلال ، وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم.
{إنه هو العزيزُ} الذي يمنعني من أعدائي ، {والحكيمُ} الذي لا يأمرني إلا بما هو خير لي.
(5/466)
{ووهبنا له إسحاقَ} ولداً ، {ويعقوبَ} وَلَدَ وَلَدٍ ، ولم يذكر إسماعيل ؛ لشهرته ، أو : لأن إسحاق ولد بعد اليأس من عجوز عاقر ، فَعَظُمَتْ المِنَّةُ به. {وجعلنا في ذريته النبوةَ} أي في ذرية إبراهيم فإنه شجرة الأنبياء ، {والكتابَ} يريد به الجنسَ ، ليتناول التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. {وآتيناه أجْرَه في الدنيا} أي : الثناء الحسن ، والصلاة عليه آخر الدهر ، ومحبة أهل الملل له ، أو : هو بقاء ضيافته عند قبره ، وليس ذلك لغيره ، أو : المال الحلال ، واللفظ عام. وفيه دليل على أن الله تعالى قد يعجل لأوليائه بعض الأجر في الدنيا ، ولا يخل بعلو منصبهم {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} لحضرتنا ، والسكنى في جوارنا. أسكننا الله معهم في فسيح الجنان. آمين.
الإشارة : الهجرة سُنَّة الخواص ، وهي على قسمين : هجرة حسية وهجرة معنوية ، فالحسية هي هجرة العبد من وطن تكثر فيه الغفلة والعوائق عن الله ، أو الإذاية والإنكار ، إلى وطن يجد فيه اليقظة وقلة العوائق. والهجرة المعنوية : هي هجرة القلب من وطن المعصية إلى وطن التوبة ، ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة ، ومن وطن الحرص إلى وطن الزهد والقناعة ، ومن وطن الحظوظ والشهوات إلى وطن العفة والحرية ، ومن وطن الشواغل إلى وطن التفرغ ، ومن وطن رؤية الحس إلى رؤية المعاني ، وهذه نهاية الهجرة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 306
قال القشيري : لا تَصحُّ الهجرةُ إلى الله إلا بالتبرِّي بالقلب من غير الله ، والهجرةُ بالنفس يسيرةٌ بالنسبة إلى الهجرة بالقلب ، وهي هجرة الخواص ، وهي الهجرة عن أوطان التفرقة إلى ساحة الجمعِِ ، والجمعُ بين التعريج في أوطان التفرقة والكونِ في مشاهدة الجمع متنافٍ. هـ. وقالَ في قوله تعالى : {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أي : للدنوِّ والقربة والتخصيص بالزلفة. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 306
(5/467)
يقول الحق جل جلاله : {و} اذكر {لوطاً إِذْ قال لقومه إِنكم لتأتون الفاحشةَ} أي : الفعلة البالغة في القُبح ، وهي اللواطة ، {ما سَبَقَكم بها من أحدٍ من العالمين} : جملة مستأنفة مقررة لفحش تلك الفعلة ، كأن قائلاً قال : لِمَ كانت فاحشة ؟ فقال : لأن أحداً ممن قبلهم لم يقدم عليها ، قالوا : لم يَنْزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط. {أئِنكم لتأتون الرجالَ وتقطعون السبيلَ} اي : تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال ، كما هو شأن قُطاع الطريق ، وقيل : اعتراضهم السابلة لقصد الفاحشة ، {وتأتون في ناديكم} ؛ في مجالسكم الغاصة بأهلها ، ولا يقال للمجلس : ناد ، إلا ما دام فيه أهله ، {المنكرَ} فعلهم الفاحشة بالرجال ، أو المضارطة ، أو : السباب والفحش في المزاح ، أو الحذف بالحصى ، أو : مضغ العلك ، أو الفرقعة.
وعن أم هانىء - رضي اله عنها - أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله : {وتأتون في ناديكم المنكر} ؟ فقال : " كانوا يحذفون من يمرّ بهم الطريق ، ويسخرون منهم " وقال معاوية : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم ، وعند كل قصعة من الحصى ، فإذا مر بهم عابر قذفوه ، فأيهم أصابه ؛ كان أَوْلَى به ". {فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذابِ الله إن كنت من الصادقين} فيما تعدنا من نزول العذاب ، أو في دعوى النبوة ، المفهومة من التوبيخ ، {قال ربِّ انصرني} بإنزال العذاب {على القوم المفسدين} بابتداع الفاحشة وحمل الناس عليها ، وسَنِّهَا لِمَنْ بعدهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 307
وصفهم بذلك ؛ مبالغة استنزال العذاب ، وإشعاراً بأنهم أحِقاء بأن يعجل لهم العذاب ،
{ولما جاءت رسلُنا إبراهيم بالبشرى} ، جاءت الملائكة بالبشارة لإبراهيم ؛ بالولد ،
308
(5/468)
والنافلة إسحاق ، ويعقوب ، أي : مروا عليه ، حين كانوا قاصدين قوم لوط ، {قالوا إنا مهلكوا أهْلِ هذه القرية} ؛ سدوم ، والإشارة بهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام ، قالوا : إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم ، قاله النسفي. {إن أهلها كانوا ظالمين} ، تعليل للإهلاك ، أي : إن الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة ، وهم عليه مُصِرُّونَ ، وهو كفرهم وأنواع معاصيهم. {قال} إبراهيم : {إن فيها لوطاً} أي : أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم ، أو : وفيهم نبي بين أظهرهم ؟ {قالوا} أي : الملائكة : {نحن أعلمُ} منك {بمن فيها لننجيَّنه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} ؛ الباقين في العذاب.
ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم ، فقال : {ولما أن جاءتْ رُسُلُنَا لوطاً سِيء بهم} أي : ساءه مجيئُهم وغمه ، مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. و " أن " : صلة ؛ لتأكيد الفعلين ، وترتيب أحدهما على الآخر ، كأنهما وُجِدا في جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : لمَّا أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ترتيب. {وضاق بهم ذَرْعاً} أي : ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعُه وطاقته ، وقد جعلوا ضيقَ الذرعِ والذراع عبارةً عن فقد الطاقة ، كما قالوا : رحْب الذراع ، إذا كان مُطيقاً للأمور ، والأصلَ فيه : إن الرجل إذا طالت ذراعه نال مالا يناله القصير ، فاستعير للطاقة والقوة وعدمها.
(5/469)
{وقالوا} ، لمّا رأوا فيه أثر الضجر والخوف : {لا تخفْ ولا تحزنْ} على تمكنهم منا ، {إنا منجُّوكَ وأهلَكَ} أي : وننجي أهلك ، فالكاف في محل الجر ، و " أهلك " : نصب بفعل محذوف ، {إلا إمرأتكَ كانت من الغابرين}. في الكلام حذف يدل عليه ما في هود ، أي : لا تخف ولا تحزن من أجلنا ، إنهم لن يصلوا إليك ونحن عندك ، بل يهلكون جميعاً ، وأما أنت ؛ فإنا منجوك... إلخ ؛ لأن خوفه إنما كان عليهم لا على نفسه. أو يقدر : إنا منجوك وأهلك بعد هلاكهم. ثم قالوا : {إنا منزلون على أهلِ هذه القرية رِجْزاً} ؛ عذاباً {من السماء بما كانوا يَفْسُقُون} ؛ بسبب فسقهم.
{ولقد تركنا منها} ؛ من القرية {آية بينةً} هي حكايتها الشائعة ، أوآثار منازلهم الخربة ، وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض ، حيث بقيت أنهارهم مسودة ، وقيل : الحجارة المسطورة ، فإنها بقيت بعدهم آية {لقومٍ يعقلون} ؛ يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 307
الإشارة : قوله تعالى : {وتأتون في ناديكم المنكر} قال القشيري : من جملة المنكر : تخلية الفُسَّاق مع فِسقهم ، وترك القبض على أيديهم ، ومن ذلك : ترك الاحتشام للشيوخ والأكابر. هـ. وقال في قوله تعالى : {إن فيها لوطاً} ، لما أخبروه بمقصدهم من
309
إهلاك قوم لوط ، تكلم في شأن لوط ، إلى أن قالوا : {لننجينه...} إلخ ، فدلّ ذلك على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط ، ولو كان بريئاً ، لم يكن ظلماً ، لو كان كذلك قبيحاً لما كان إبراهيم - مع وفْر علمه - يُشكل عليه ، حتى كان يجادل عنه ، بل لله أن يعذِّبُ مَنْ يعذِّب ويعافي ، من يعافي بلا حَجر هـ.
(5/470)
قال شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته : وما ذكره واضح من حيث العقيدة ، وإن كانت الآية ، وقولُ إبراهيم يحتمل أن يكون من نوع قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال : 33]. والمعنى الأول معلوم من قوله تعالى : {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} [المائدة : 17] الآية. هـ. قلت : ظاهر قوله تعالى : {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود : 74] ؛ أن مجادلته كانت عن قومه فقط ؛ لغلبة الشفقة عليه ، كما هو شأنه ، ولذلك قال تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود : 75]... حتى قال له تعالى : {يَـاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَآ عَنْ هَذَا} [هود : 76] لَمَّا تَحَتَّمَ عليهم العذاب ، فتأمله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 307
يقول الحق جل جلاله : {و} أرسلنا {إلى مدينَ أخاهم شعيباً فقال يا قوم اعبدوا الله} وحده ، {وارجُوا اليومَ الآخر} أي : خافوه ، واعملوا ما ترجون به الثواب فيه ، {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} ؛ قاصدين الفساد ، {فكذّبوه فأخذتهم الرجفةُ} ؛ الزلزلة الشديدة ، أو : الصيحة من جبريل عليه السلام ؛ لأن القلوب رجفت بها ، {فأصبحوا في دارهم} ؛ بلدهم وأرضهم ، {جاثمين} ؛ باركين على الرُكب ؛ ميتين.
الإشارة : العبادة مع الغفلة عن العواقب الغيبية المستقبلة ، لا جدوى لها ، كأنها عادة ، وخوف العواقب ، من غير استعداد لها ، خذلان ، والاجتهاد في العمل ، مع ارتقاب العواقب الغيبية ، فلاح ، من شأن أهل البصائر ، كما قال تعالى في حق من مدحهم من أكابر الرسل : {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص : 45 ، 46].
جزء : 5 رقم الصفحة : 309
(5/471)
يقول الحق جل جلاله : {وعاداً وثمودَا} أي : اذكر عاداً وثموداً ، أو أهلكنا عاداً ، وثموداً يدل عليه {فأخذتهم الرجفة} ؛ لأنه في معنى الإهلاك ، {وقد تبيَّنَ لكم} ما وصفنا من إهلاكهم {من مساكنهم} الدارسة. أو تبين لكم بعض مساكنهم الخربة إذا مررتم بها خالية. {وزيَّنَ لهم الشيطانُ أعمالهم} من الكفر والمعاصي ، {فصدَّهم عن السبيل} ؛ عن الطريق الذي أُمروا بسلوكه ، وهو الإيمان بالله ورسوله. {وكانوا مستبصرين} ؛ متمكنين من النظر والاستبصار وتميز الحق من الباطل ، ولكنهم لم يفعلوا. أو عارفين الحق من الباطل ؛ بظهور دلائله ، لكنهم عاندوا ، حسداً. يقال : استبصر : إذا عرف الشيء على حقيقته. أو : متيقنين أن العذاب لاحق بهم ؛ بإخبار الرسول ، لكنهم لجّوا. أو : مستبصرين في ضلالتهم معجبين بها.
وقال الفراء : عقلاء ذوو بصائر ، يعني : علماء في أمور الدنيا ، كقوله : {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم : 7] الآية. وقال مجاهد : حسبوا أنهم على الحق ، وهم على الباطل. هـ.
{وقارونَ وفرعونَ وهامان} : أي : أهلكناهم ، {ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين} ؛ فائتين ، بل أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. يقال : سبق طالبه : فاته ، {فكُلاًّ أخذنا} ؛ عاقبناه {بذنبه} ، فيه رد على من يُجوز العقوبة بغير ذنب. قاله النسفي ، وهو جائز عقلاً في حقه تعالى ، لكنه لم يقع ؛ لإظهار عدله. {فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} أي : ريحاً عاصفة فيها حصباء أو : مَلِكاً رماهم بها.
قال ابن جزي : فيحتمل عندي أنه أراد به المعنيين ؛ لأن قوم لوط هلكوا بالحجارة ، وعاداً هلكوا بالريح. وإن حملناه على المعنى الواحد ؛ نقض ذكر لآخر ، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد ؛ في معنيين ، ويقوي ذلك إن المقصود عموم أصناف الكفار. هـ.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 310
(5/472)
ومنهم من أخذتهم الصيحةُ} ؛ كمدين وثمود ، {ومنهم من خسفنا به الأرضَ} كقارون ، {ومنهم من أغرقنا} ؛ كقوم نوح ، وفرعون وقومه ، {وما كان الله ليظلمهم} فيعاقبهم بغير ذنب ؛ إذ ليس ذلك من عادته - عز وجل - ، وإن جاز في حقه ، {ولكن كانوا أنفسَهم يَظْلِمُون} ؛ بالتعرض للعذاب بالكفر والطغيان. وبالله التوفيق.
الإشارة : الاستبصار في أمور الدنيا والتحديق في تدبير شؤونها ، حمق وبطالة ،
311
وقد وسم به الحق تعالى الكفرة بقوله : {وكانوا مستبصرين} ، والاستبصار في أمور الله تعالى وما يقرب إليه وما يبعد عنه ، والفحص عن ذلك ، والتفكر في عواقب الأمور ؛ من شأن العقلاء الأكياس ، قال صلى الله عليه وسلم : " ألا وإن من علامات العقل : التجافي عن دار الغرور ؛ والإنابة إلى دار الخلود ، والتزود لسكنى القبور ، والتأهب ليوم النشور " ، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بعدَ الموت ، والأحمق من أتْبَعَ نفسه هواها ، وتمنَّى على اللهِ الأماني " ، وقيل للجنيد رضي الله عنه : متى يكون الرجل موصوفاً بالعقل ؟ فقال : إذا كان للأمور متميزاً ، ولها متصفحاً ، وعما يوجبه عليه العقل باحثاً ، فيتخيرُ بذلك طلب الذي هو أولى ، ليعمل به ، ويُؤْثِرَهُ على ما سواه. ثم قال : فمن كانت هذه صفته ترك العمل بما يفنى وينقضي ، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا ، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل ، ويسير حائل ، يصده التشاغُلُ به ، والعملُ له ، عن أمور الآخرة ، التي يدوم نعيمها ونفعها ، ويتأبد سرورها ، ويتصل بقاؤها.. إلخ كلامه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 310
(5/473)
يقول الحق جل جلاله : {مَثَلُ الذين اتخذوا من دون اللهِ أولياءَ} ؛ أصناماً يعبدونها ، أي : مَثَلُ من أشرك بالله الأوثان ؛ في الضعف ، وسوء الاختيار ، {كَمَثَل العنكبوتِ اتخذت بيتاً} ، أي : كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت ؛ فإنه لا يدفع الحر والبرد ، ولا يقي ما تقي البيوت ، فكذلك الأوثان ، لا تنفعهم في الدنيا والآخرة ، بل هي أَوْهَى وأضعف ، فإن لبيت العنكبوت حقيقةً وانتفاعاً عاماً ، وأما الأوثان فتضر ولا تنفع ، {وإنَّ أوْهَنَ البيوتِ} أي : أضعفها {لبيتُ العنكبوت} ؛ لا بَيْتَ أوهن من بيته ؛ إذْ أضعف شيء يسقطها. عن عليّ رضي الله عنه : " طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت ، فإن تركه يُورث الفقر ".
والعنكبوت يقع على الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث ، ويجمع على عناكيب وعناكب وعِكاب وعكَبَة وأعكُب. {لو كانوا يعلمون} لعلموا أن هذا مثلُهم ، وأنَّ ما
312
تمسكوا به من الدين أرق من بيت العنكبوت. وقال الزجاج : تقدير الآية : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء ، لو كانوا يعلمون ، كمثل العنكبوت. وقيل : معنى الآية : مَثَلُ المشركِ يعبد الوثن ، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله ، مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجُرٍّ وجص ، أو جص وصخور ، فكما أن أوهن البيوت ، إذا استقرأتَهَا بيتاً بيتاً ، بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان ، إذا تتبعتها ديناً ديناً ، عبادةُ الأوثان.
(5/474)
وقال الضحاك : ضرب مثلاً لضعف آلهتهم ووهنها ، فلو علموا أن عبادة الأوثان ، في عدم الغنى ، كما ذكرنا في المثل ، لَمَا عبدوها ، ولكنهم لا يعلمون ، بل الله يعلم ضَعف ما تعبدون من دونه وعجزه ، ولذلك قال : {إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء} ، أي : يعلم حاله ، وصفته ، وحقيقته ، وعدم صلاحيته لِمَا تؤملونه منه ، فما : موصولة ، مفعول " يعلم " ، وهي تامة ، أي : يتعلق علمه بجميع ما يعبدونه من دونه ، أيّ شيء كان. أو ناقصة ، والثاني محذوف ، أي : يعلمه وهياً وباطلاً. وقيل : استفهامية معلقة ، وأما كونها نافية فضعيف ، و " من " الثانية ؛ للبيان ، ومن قرأ بالخطاب ؛ فعلى حذف القول ، أي : ويقال للكفرة : إن الله يعلم ما تعبدونه من دونه من جيمع الأشياء ، أو : أيّ شيء كان.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 312
وهو العزيزُ} الغالب الذي لا شريك له ، {الحكيمُ} في ترك المعاجلة بالعقوبة ، وفيه تجهيل لهم ، حيث عبدوا جماداً لا علم له ولا قدرة ، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء ، الحكيم الذي لا يفعل إلا لحكمة وتدبير.
{وتلك الأمثالُ} الغريبة ، أي : هذا المثل ونظائره {نضربها للناس} ؛ نُبّيِّنُها لهم ؛ تقريباً لما بَعُدَ عن أفهامهم. كان سفهاء قريش وجهَلَتُهم يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، فلذلك قال تعالى : {وما يعقلها إلا العالِمون} ، أي : بالله وصفاته وأسمائه ، وبمواقع كلامه وحِكَمه ، أي : لا يعقل صحتها وحُسنها ، ولا يفهم حكمتها ، إلا هم ؛ لأن الأمثال والتشْبيهات إنما هي طرق إلى المعاني المستورة ، حتى يبرزها ويصورها للأفهام ، كما صور هذا التشبيه الذي بيّن فيه حال المشرك وحال المؤمن. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا في هذه الآية ، وقال : " العالِم : مَنْ عقل عن الله ، فعمل بطاعته ، واجتنب سخطه " ، وَدَلَّتْ هذه الآية على فضل العلم وأهله.
(5/475)
{خلقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ بالحق} أي : محقاً ، لم يخلقها عبثاً ، كما لم يضرب الأمثال عبثاً ، بل خلقها لحكمة ، وهي أن تكون مساكن عباده ، وعبرة للمعتبرين منهم ودلائل على عظم قدرته ، بدليل قوله : {إن في ذلك لآيةً للمؤمنين} ؛ لأنهم هم المنتفعون
313
بها. وقيل : بالحق ؛ العدل ، وقيل : بكلامه وقدرته ، وذلك هو الحق الذي خلق به الأشياء. وخص السموات والأرض ؛ لأنها المشهودات. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من اعتمد على غير الله ، أو مال بالمحبة إلى شيء سواه ، كان كمن اعتمد على خيط العنكبوت ، فعن قريب يذهب ويفوت ، يا من تعلق بمن يموت ؛ قد تَمَسَّكَتَ بأضعف من خيط العنكبوت.
تنبيه : الأشياء الحسية جعل الله فيها القوي والضعيف ، والعزيز والذليل ، والفقير والغني ؛ لِحكمة ، وأما أسرار المعاني القائمة بها ؛ فكلها قوية عزيزة غنية ، فالأشياء ، بهذا الإعتبار - أعني : النظر لحسها ومعناها - كلها قوية في ضعفها ، عزيزة في ذلها ، غنية في فقرها. ولذلك تجد الحق تعالى يدفع بأضعف شيء وأقوى شيء ، وينصر بأذل شيء على أقوى شيء. رُوي أنه لما نزل قوله تعالى : {وإن أوْهَن البيوت لبيتُ العنكبوت} ؛ شكى العنكبوتُ إلى الله تعالى ، وقال ربِّ خلقتني ضعيفاً ، ووصفتني بالإهانة والضعف ، فأوحى الله تعالى إليه : انكسر قلبك من قولنا ، ونحن عند المنكسرة قلوبهم من أجلنا ، وقد صددنا بنسجك الضعيف صناديد قريش ، وأغنينا محمداً عن كل ركن كثيف ، فقال : يا رب حسبي أن خلقت في ذلي عزتي ، وفي إهانتي قوتي. هـ. ذكره في اللباب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 312
(5/476)
يقول الحق جل جلاله : {اتْلُ ما أُوحي إليك من الكتابِ} ؛ تَنَعُّماً بشهود أسرار معانيه ، وبشهود المتكلم به ، فتغيب عن كل ما سواه ، واستكشافاً لحقائقه ، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وقد كان من السلف من يبقى في السورة يكررها أياماً ، وفي الآية يرددها ليلة وأكثر ، كلما رددها ظهر له معان أُخر.
{وأَقِم الصلاةَ} أي : دم على إقامتها ، بإتقانها ؛ فعلاً وحضوراً وخشوعاً ، {إن الصلاةَ تنهى عن الفحشاء} ؛ الفعلة القبيحة ؛ كالزنى ، والشرب ، ونحوهما ، {والمنكرِ} ، وهو ما يُنكره الشرع والعقل. ولا شك أن الصلاة ، إذا صحبها الخشوع والهيبة في الباطن ، والإتقان في الظاهر ، نهت صاحبها عن المنكر ، لا محالة ، وإلا فلا.
رُوي أن فتًى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله الصلوات ، ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه ، فَوُصِفَ حَالُهُ له صلى الله عليه وسلم فقال : " إن صلاته تنهاه " ، فلم يلبث أن تاب. هـ.
314
وأما من كان يصليها فلم تنهه ؛ فهو دليل عدم قبولها ، ففي الحديث : " من لمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عن الفحشاء والمنكر لم يَزْدَدْ من الله إلا بُعْداً " رواه الطبراني. وقال الحسن : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست بصلاة ، وهي بال عليه. وقال ابن عوف : إن الصلاة تنهى ؛ إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة ، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر. هـ. فخص النهي بكونه ما دام فيها ، وعليه حَمَلَهُ المَحلِّي.
(5/477)
قال المحشي : يعني : أن مِنْ شأنها ذلك ، وإن لم يحصل ذلك فلا تخرج عن كونها صلاة ، كما أن من شأن الإيمان التوكل ، وإن قدر أن أحداً من المؤمنين لا يتوكل ؛ فلا يخرج ذلك عن الإيمان. وقيل : الصلاة الحقيقية : ما تكون لصاحبها ناهيةً عن ذلك ، وإن لم ينته فالصلاةُ ناهيةٌ على معنى : ورود الزواجر على قلبه ، ولكنه أصر ولم يطع. ويقال : بل الصلاة الحقيقية ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، فإن كان ، وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها. انظر القيشيري.
وقال ابن عطية : إذا وقعت على ما ينبغي ؛ من الخشوع ، والإخبات لذكر عظمة الله ، والوقوف بين يديه ، انتهى عن الفحشاء والمنكر ، وأما مَنْ كانت صلاته لا ذكر فيها ولا خشوع ، فتلك تترك صاحبها بمنزلته حيث كان. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
فائدة : ذكر في اللباب أن أول من صلى الصبح آدم عليه السلام ، لأنه لم يكن رأى ظلمة قط ، فلما نزل ، وجنَّه الليل خرّ مغشياً ، فلما أصبح ورأى النور صلى ركعتين ، شكراً. وأول من صلى الظهر إبراهيم ، فلما فدى ولده ، وقد كان نزل به أربعة أهوال ، هم الذبح وهم الولد ، وهم والدته ، وهم مرضاة الرب ، فصلى أربع ركعات ، شكراً لله تعالى. وأول من صلى العصر سليمان عليه السلام ، لمَّا رد الله عليه ملكه. وأول من صلى المغرب عيسى عليه السلام ، كفارة عما اعتقد فيه من أنه ثالث ثلاثة. وأول من صلى العشاء يونس عليه السلام ، ولعله هذا الوقت الذي نُبذ فيه بالعراء. وأول من توضأ آدم ؛ كفارة لأكله. هـ. مختصراً بزيادة بيان. وجمعها الحق تعالى لهذه الأمة المحمدية ؛ لتحوز فصائل تلك الشرائع ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جَامِعٌ لِمَا افْتَرَقَ في غيره.
(5/478)
ثم قال تعالى {ولذكرُ الله أكبرُ} ، أي : ولذكر الله ، على الدوام ، أكبر ، في النهي من الفحشاء والمنكر ، من الصلاة ؛ لأنها في بعض الأوقات. فالجزء الذي في الصلاة ينهى عن الفحشاء الظاهرة ، والباقي ينهى عن الفحشاء الباطنة ، وهو أعظم ، ولأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكرٍ لله ، مراقبٍ له ، وثواب ذلك الذكر أن يذكر الله تعالى ؛ لقوله : {فَاذْكُرُونِيا أَذْكُرْكُمْ} [البقرة : 152]. ومن ذَكَرَه حَفِظَهُ ورعاه. أو : لذكر الله أكبر ؛ أجراً ، من
315
الصلاة ، ومن سائر الطاعات ، كما في الحديث : " ألا أنبئكم بخيرِ أعمالكمْ ، وأزكْاهَا عند مليككم ، وأرفَعِهَا في درجاتكم ، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق ، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوْا عدوكم فتضربُوا أعناقهم ويضربوا اعناقكمْ ؟ قالوا : وما ذلك يا رسول الله ؟ قال ذِكْرُ الله " وسئل أي الأعمال أفضل ؟ قال : " أن تموتَ ولسانُكَ رَطْبٌ من ذكر الله " قيل : المراد بذكر الله هو الصلاة نفسها ، أي : وَللصلواتُ أكبر من سائر الطاعات ، وإنما عبّر عنها بذكر الله ؛ ليشعر بالتعليل ، كأنه قال : والصلاة أكبر ؛ لأنها ذكر الله. وعن ابن عباس : ولذكر الله لكم إياكم ، برحمته ، أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وقال ابن عطاء ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له ؛ لأن ذكره بلا علة ، وذكركم مشوب بالعلل والأماني ، ولأن ذكره لا يفنى ، وذكركم يفنى. أو : لذكر الله أكبر من أن تفهمه أفهامكم وعقولكم. أو : ذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية. {والله يعلم ما تصنعون} من الخير والطاعة ، فيثيبكم أحسن الثواب. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
(5/479)
الإشارة : الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر المتعلِّقَيْنِ بالجوارح الظاهرة ، والذكر ينهى عن الفحشاء والمنكر والمتعلقين بالعوالم الباطنة ، وهي المساوئ التي تحجب العبد عن حضرة الغيوب فإذا أكثر العبد من ذكر الله ، على نعت الحضور والتفرغ من الشواغل ، تنور قلبه ، وتطهر سره ولُبه ، فاتصف بأوصاف الكمال ، وزالت عن جميع العلل ، ولذلك جعلته الصوفية مُعْتَمَدَ أعمالِهِمْ ، والتزموه مع مرور أوقاتهم وأنفاسهم ، ولم يقتنعوا منه بقليل ولا كثير ، بل قاموا بالجد والتشمير ، فيذكرون أولاً بلسانهم وقلوبهم ، ثم بقلوبهم فقط ، ثم بأرواحهم وأسرارهم فيغيبون حينئذٍ في شهود المذكور عن وجودهم وعن ذكرهم ، وفي هذا المقام ينقطع ذكر اللسان ، ويصير العبد محواً في وجود العيان ، فتكون عبادتهم كلها فكرة وعبرة ، وشهوداً ونظرة ، وهو مقام العيان في منزل الإحسان ، فيكون ذكر اللسان عندهم بطالة ، وفي ذلك يقول الشاعر :
مَا إِنْ ذَكَرْتُكِ إلاّ همَّ يَلْعَنُني
سِرِّي وَقَلْبِي وروحي ، عند ذِكْرَاكَ
حَتَّى كَأَنَّ رَقيباً مِنْكَ يَهْتِفُ بِي :
إِيَّاكَ ، وَيْحَك ، والتَّذْكَارَ ، إِيَّاكَ
أَمَا تَرَى الْحقَّ قَدْ لاَحَتْ شَوَاهِدُهُ ؟
وَوَاصَلَ الْكُلَّ ، مِنْ مَعْنَاهُ ، مَعْنَاكَ ؟ !
قال القشيري : ويقال : ذكر الله أكبر من أن يبقى معه ذكر مخلوق أو معلوم للعبد ، فضلاً أن يبقى معه للفحشاء والمنكر سلطان. هـ. وقال في القوت على هذه الآية : الذكر عند الذاكرين : المشاهدة ، فمشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة. هذا أحد
316
(5/480)
الوجهين في الآية : ثم قال : ورُوي في معنى الآية ؛ عن رسول لله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما فرضت الصلاة ، وأمر بالحج والطواف ، وأشعرت المناسك ، لإقامة ذكر الله - عز وجل - " قال تعالى : {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكري} [طه : 14] ، أي : لتذكرني فيها. ثم قال : فإذا لم يكن في قلبك للمذكور ، الذي هو المقصود والمُبْتغى ، عظمة ولا هيبة ، ولا إجلالُ مقامٍ ، ولا حلاوة فهْم ، فما قيمة ذكرك فإنما صلاتك كعمل من أعمال دنياك. وقد جعل الرسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قسماً من اقسام الدنيا ، إذ كان المصلي على مقام من الهوى ، فقال : " حُبب إليَّ من دنياكم.. " ذكر منها الصلاة ، فهي دنيا لمن كان همه الدنيا ، وهي آخرة لأبناء الآخرة ، وهي صلة ومواصلة لأهل الله - عز وجل- ، وإنما سميت الصلاة ؛ لأنها صلة بين الله وعبده ، ولا تكون المواصلة إلا لتقي ، ولا يكون التقي إلا خاشعاً ، فعند هذا لا يعظم عليه طول القيام ، ولا يكبر عليه الانتهاء عن المنكر كما قال الله : {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
يقول الحق جل جلاله : {ولا تُجادلوا أهلَ الكتاب إلا بالتي هي أحسن} ؛ إلا بالخصلة التي هي أحسن ، أي : ألطف وأرفق ، وهي مقابلة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم ، والمشاغبة بالنصح ، بأن تدعوه إلى الله تعالى برفق ولين ، وتبين له الحجج والآيات ، من غير مغالبة ولا قهر. وأصل المجادلة : فتلُ الخصم عن مذهبه بطريق الحجج ، وأصل : شدة الفتل ، ومنه قيل للصقر : أجدل ؛ لشدة فتل بدنه وقوة خلقه. والآية ؛ قيل : منسوخة بآية السيف ، وقيل : نزلت في أهل الذمة.
(5/481)
{إلا الذين ظلموا منهم} ، فأفرطوا في الاعتداء والعناد ، ولم يقبلوا النصح ، ولم ينفع فيهم الرفق ، فاستعمِلوا معهم الغلظة. وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو : إلا الذين أثبتوا الولد والشريك ، وقالوا : يد الله مغلولة. أو معناه : ولا تُجادلوا الذين دخلوا في الذمة ، المؤدين للجزية ، إلا بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا : فنبذوا الذمة ، ومنعوا الجزية ، فمجادلتهم بالسيف. والآية تدل على جواز مناظرة الكفرة في الدين ، وعلى جواز تعلم علم الكلام ، الذي به تتحقق المجادلة. قاله النسفي. {وقولو آمنا بالذي أُنزل إلينا
317
وأُنزل إليكم وإلهُنا وإلهكم واحد} ؛ هذا من حسن المجادلة. قال صلى الله عليه وسلم : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقالوا : آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً ؛ لم تصدقوهم ، وإن كان حقاً ؛ لم تكذبوهم " {ونحن له مسلمون} ؛ مطيعون له خاصة ، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارَهُم ورهبانَهم أرباباً من دون الله.
الإشارة : المناظرة بين العلماء ، والمذاكرة بين الفقراء ، ينبغي أن تكون برفق ولين على قلب سليم ، بقصد إظهار الحق وتبيين الصواب ، أو تنبيه عن الغفلة ، أو ترقية في المنزلة ، من غير ملاححة ، أو مخاصمة ، ولا قصد مغالبة ؛ لأن العلم النافع ، وذكر الله الحقيقي ، يُهذب الطبع ، ويحسن الأخلاق.
قال في الحاشية : ثم تذكّر حسن رده صلى الله عليه وسلم للقائلين له : السام عليكم ، ورفقَه ، وقوله لعائشة : " متى عَهدْتِنِي فاحشاً " ؟ يتبين لك مناسبة الوصية بحسن المجادلة في الآية مع ما قبلها ، وأن ذلك حال المقيمين للصلاة ، الذاكرين الله حقيقة ، وأنهم على خُلق جميل وحلم وسمت ، لا يستفزهم شيء من العوارض ؛ لِمَا رسخ في قلوبهم من نور القُرب الذي محى الطبع وفُحْشه. والله تعالى أعلم. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 317
(5/482)
يقول الحق جل جلاله : {وكذلك} أي : ومثل ذلك الإنزال البديع {أنزلنا إليك الكتاب} مصدقاً لسائر الكتب السماوية وشاهداً عليها ، {فالذين آتيناهم الكتاب} ؛ التوراة والإنجيل ، {يؤمنون به} ، وهم عبد الله بن سلام ومن آمن معه ، وأصحاب النجاشي ، أو : من تقدم عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، {ومن هؤلاء} ، من أهل مكة ، {من يؤمن به} ، أو : فالذي آتيناهم الكتب قبلك يؤمنون به قبل ظهوره ، ومن هؤلاء الذين أدركوا زمانك من يؤمن به. وإذ قلنا : إِنّ السورة كلها مكية ، يكون إخباراً بغيب تحقق وقوعه ، {وما يجحد بآياتنا} ، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، {إلا الكافرون} ؛ إلا المتوغلون في الكفر ، المصممون عليه ، ككعب بن الأشرف وأضرابه ، أو كفار قريش ، إذا قلنا : الآية مكية.
{وما كنت تَتْلوا من قبله} ؛ من قبل القرآن {من كتاب ولا تَخُطُّه بيمينك} ، بل
318
كنت أمياً ، لم تقرأ ولم تكتب ، فظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة والأخبار السالفة ، على يد أُمي ؛ لم يُعْرَفْ بالقراءة والتعلم ، خرق عادة ، قاطعة لبغيته. وذكر اليمين ، لأن الكتابة ، غالباً ، تكون به ، أي : ما كنت قارئاً كتاباً من الكتب ، ولا كَاتِباً {إِذاً لارتابَ المبطلون} أي : لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا : تعلمه ، والتقطه من كتب الأقدمين ، وكتبه بيده. أو : يقول أهل الكتاب : الذي نجده في كتابنا أُمي لا يكتب ولا يقرأ ، وليس به. وسماهم مبطلين ، لإنكارهم النبوة ، أو : لارتيابهم فيها ، مع تواتر حججها ودلائلها.
(5/483)
هذا ، وكونه صلى الله عليه وسلم أُمياً كَمَالٌ في حقه صلى الله عليه وسلم ، مع كونه أمياً أحاط بعلوم الأولين والآخرين ، وأخبر بقصص القرون الخالية والأمم الماضية ، من غير مدارسة ولا مطالعة ، وهو ، مع ذلك ، يُخبر بما مضى ، وبما يأتي إلى قيام الساعة ، وسرد علم الأولين والآخرين مما لا يعلم القصة الواحدة منها إلا الفاذ من أحبارهم ، الذي يقطع عمره في مدارسته وتعلمه ، وهذا كله في جاهلية جهلاء ، بَعُد فيها العهد بالأنبياء ، وبدّل الناس ، وغيَّروا في كتب الله تعالى ؛ بالزيادة والنقصان ، ففضحهم صلى الله عليه وسلم وقرر الشرائع الماضية ، فهذا كله كاف في صحة نبوته ، فكانت أميته صلى الله عليه وسلم وَصْفَ كمال في حقه ، ومعجزةً دالة على نبوته ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ، مع كونه أُمياً ، ظهر عليه من العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، ما يعجز عنه العقول ، ولا تُحيط به النقول ، مع إحكامه لسياسة الخلق ، ومعالجتهم ، مع تنوعهم ، وتدبير أمر الحروب ، وإمامته في كل علم وحكمة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 318
وأيضاً : المقصود من القراءة والكتابة : ما ينتج عنهما من العلم ؛ لأنهما آلة ، فإذا حصلت الثمرة استغنى عنهما. والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتب قط. وقال الباجي وغيره : إنه كتب ، لظاهر حديث الحديبية. وقال مجاهد والشعبي : ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ. وهذا كله ضعيف.
(5/484)
قال تعالى : {بل هو} أي : القرآن {آيات بيناتٌ في صدور الذين أُوتوا العلم} اي : في صدور العلماء وحُفاظه ، وهما من خصائص القرآن كون آياتِ بيناتِ الإعجاز ، وكونه محفوظاً في الصدور ، بخلاف سائر الكتب ، فإنها لم تكن معجزات ، ولم تكن تُقرأ إلا بالمصاحف. قال ابن عباس : {بل هو} أي : محمد ، والعلم بأنه أُمي ، {آيات بينات} ؛ في صدور أهل العلم من أهل الكتاب ، يجدونه في كتبهم. هـ. و(بل) : للإضراب عن محذوف ، ينساق إليه الكلام ، أي : ليس الأمر مما يمكن الارتياب فيه ، بل هو آيات واضحات. و(في صدور) : متعلق ببينات ، أو : خبر ثان لهو. {وما يجحدُ بآياتنا} الواضحة {إلا الظالمون} ؛ المتوغلون في الظلم. قال ابن عطية : الظالمون والمبطلون هم كل مُكذب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن عُظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم. قاله مجاهد. هـ.
319
الإشارة : كم من وليٍّ يكون أُمياً ، وتجد عنده من العلوم والحِكَم والتوحيد ما لا يوجد عند نحارير العلماء. ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علَّمه ولقد سمعت من شيخنا البوزيدي رضي الله عنه علوماً وأسراراً ، ما رأيتها في كتاب ، وكان يتكلم في تفسير آيات من كتاب الله على طريق أهل الإشارة ، قلّ أن تجدها عند غيره ، وسمعته يقول : والله ما جلست بين يدى عالم قط ، ولا قرأت شيئاً من العلم الظاهر. قال القشيري : قلوبُ الخواص من العلماء بالله خزائنُ الغيب ، فيها أودع براهين حقه ، وبينات سرِّه ، ودلائل توحيده ، وشواهد ربوبيته ، فقانون الحقائق في قلوبهم ، وكلُّ شيء يُطلب من موطنه ومحله ، فالدر يُطلب من الصدف ؛ لأنه مسكنه ، كذلك المعرفة ، ووصف الحق يُطْلَبُ من قلوب خواصه ؛ لأن ذلك قانون معرفته ، ومنها ترفع نسخةُ توحيده. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 318
(5/485)
يقول الحق جل جلاله : {وقالوا} أي كفار قريش : {لولا أُنزل عليه آية من ربه} تدل على صدقه ، مثل ناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى ، ونحو ذلك. وقرأ نافع وابن عامر وحفص : بالجمع ؛ " آيات " ، كثيرة {قل إنما الآيات عند الله} ، يُنزل منها ما شاء متى شاء ، ولست أملك منها شيئاً ، {وإنما أنا نذير مبين} ؛ إنما كلفت بالإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات ، وليس من شأني أن أقول : أنزل على آية كذا دون آية كذا ، مع علمي أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة على نبوتي ، والآيات كلها في حُكم آية واحدة في ذلك. {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم} ، أي أَوَلَمْ يكفهم إنزال آية مغنية عن سائر الآيات ، إن كانوا طالبين للحق ، غير متعنتين ، وهو هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل زمان ومكان ، فلا يزال معهم آية ثابته ، لا تزول ولا تنقطع ، كما انقطع غيره من الآيات ، وفي ذلك يقوم البوصيري :
دامَتْ لَدَيْنا ؛ فَفاقَتْ كلَّ مُعْجِزَةٍ
مِنَ النَّبِيِّينَ ، إِذْ جاءَتْ ولَمْ تَدُمِ
{إن في ذلك} أي : هذه الآية الموجودة في كل زمان إلى آخر الدهر ، {لرحمة} ؛ لنعمة عظيمة ، {وذكرى} ؛ وتذكرة {لقوم يؤمنون} من دون المتعنتين. قال يحيى بن جعدة : إن ناساً من المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بكتب قد كتبوها ، فيها بعض ما يقول اليهود ، فألقاها ، وقال : كفى بها حماقة ، أو ضلالة قوم ، أن يرغبوا عما جاء به
320
نبيهم ، فنزل : {أولم يكفهم...} إلخ.
(5/486)
{قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً} أي : شاهداً بصدق ما أدعيه من الرسالة وإنزال القرآن عليّ ، وتكذبيكم ، {يعلم ما في السماوات والأرض} ، فهو مطلع على أمري وأمركم ، وعالم بحقي وباطلكم ، فلا يخفى عليه شيء. {والذين آمنوا بالباطل} ، وهو ما يُعبد من دون الله ، {وكفروا بالله} وبآياته منكم {أولئك هم الخاسرون} ؛ المغبونون في صفقتهم ، حيث اشتروا الكفر المؤدي إلى النيران ، بالإيمان المؤدي إلى الخلود في الجنان. رُوي أن كعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود قالوا : من يشهد لك بأنك رسول الله ؟ فنزل : {قل كفى...} إلخ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 320
الإشارة : اقتراح الآيات والكرامات كله جهل وحمق ؛ إذ ليس بيد النبي أو الولي شيء من ذلك ، وإنما هو مأمور بالوعظ والدلالة على الله ، والدعاء إليه ، والكرامة لا تدل على كمال صاحبها ، " ربما رُزق الكرامة من لم تَكْمُلْ له الاستقامة " ، ليس كل من ثبت تخصيصه كَمُلَ تخليصه. وقد تظهر الكرامات في البدايات وتخفى في النهايات ، والكرامة العظمى هي الاستقامة وكشف الحجاب بين الله وعبده حتى يشاهده عياناً ، ويذهب عنه الأوهام والشكوك ، وأما غير هذا فقد يكون استدراجاً لمن يقف معه. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 320
يقول الحق جل جلاله : {ويستعجلونك بالعذاب} ، كقولهم : أمطر علينا حجارة من السماء ، {ولولا أجلٌ مسمىًّ} المضروب لعذاب كل قوم ، أو : القيامة ، أو : يوم بدر ، أو : وقت فنائهم بأجلهم. والمعنى : ولو أجل قد سمّاه الله وعيَّنه في اللوح المحفوظ ، {لجاءهم العذاب} عاجلاً. والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى ، {وليأتينهم} العذاب في الأجل المسمى {بغتةً} : فجأة {وهم لا يشعرون} بإيتانه.
(5/487)
{يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي : لتحيط بهم ، أو : هي كالمحيطة بهم ، لإحاطة أسبابها بهم من الكفر والمعاصي. واللام للعهد ، على وضع الظاهر موضع المضمر ؛ للدلالة على موجب الإحاطة ، وهو الكفر ، أو الجنس ، فيدخل المخاطبون دخولاً أولياً. وتكرير استعاجلهم ؛ لاختلاف ما يترتب على كل واحد ، فرتب على الأول حكمة تأخيره ، وعلى الثاني تهديهم وزجرهم عنه.
321
ثم قال تعالى : {يوم يغشاهم العذابُ من فوقهم ومن تحت أرجلهم} ، هذا وقت إحاطتها بهم ، أي : تحيط من جميع جوانبهم ، كقوله : {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر : 16]. {ويقولوا ذُوقوا ما كنتم تعملون} أي : باشروا جزاء أعمالكم.
الإشارة : ما قيل في حق استعجل العذاب من الأنبياء ، يقال في حق استعجله من الأولياء ، بحيث يؤذيهم ويقول : ليُظهروا ما عندهم ، فهذا حمق كبير ، ولا بد أن يلحقه وبال ذلك ، عاجلاً ، أو آجلاً ، إما ظاهراً أو باطناً ، وقد لا يشعر ، وقد يسري ذلك إلى عَقبه ، فيصيبه ذلك الوبال ، كما أصاب أباه والعياذ بالله من التعرض لأوليائه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 321
(5/488)
يقول الحق جل جلاله : {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعةً} ، فإذا لم يتيسر لكم إقامةُ دينِكُمْ في بلد ، فاخرجوا منها إلى أرض يتهيأ لكم فيها استقامة دينكم ، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كبيراً ، والناس مختلفون ، فأهل الشرائع يطلبون البقاع التي يتيسر لهم فيها استقامة ظواهرهم ، كالمدن والقرى الكبار ، التي يكثر فيها العلم وأهله. وأهل الحقائق من الصوفية يطلبون البقاع التي تسلم فيها قلوبهم من العلائق والشواغل ، أينما وجدوها عمروها ، إن تهيأ لهم الاجتماع على ربهم. وعن سهل رضي الله عنه : إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض ، فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من فرّ بدينه من أرض ، إلى ارض ، وإن كان بشيراً ، استوجب الجنة ، وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام ". {فإياي فاعبدون} أي : فخصوني بالعبادة. وإياي : مفعول لمحذوف ، ومفعول " اعبدوني " : الياء المحذوفة ، أي : فاعبدوا إياي ، فاعبدوني. والفاء : جواب الشرط ، محذوف ، إذ المعنى ، إن أرضي واسعة ، فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض ، فاخلصوا لي في غيرها.
ثم شجع المهاجرين بقوله : {كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت} ، أي : واجدة مرارته وكربه ؛ لأنها إذا تيقنت بالموت ؛ سهل عليها مفارقة وطنها. {ثم إلينا تُرجعون} بالموت ، فتجاوزن على ما أسلفتم. ومن عَلِمَ أن هذا عاقبته ، ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له ، فإن لم يتهيأ في أرض فليهاجر منها.
322
(5/489)
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم} ؛ لنُنزلنهم {من الجنة غُرَفاً} ؛ علالي ، عالية ، وقرأ حمزة والكسائي : {لنثوينهم} ؛ لنقيمنهم ، من الثَّوَى ، وهو الإقامة ، وثوى : غَيْرُ متعد ، فإذا تعدى ؛ بزيادة الهمزة لم يجاوز مفعولاً واحداً. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف : إما إجراؤه مجرى " لننزلنهم " ، أو : بحذف الجار ، وإيصال الفعل ، أو : شبه الظرف المؤقت ، بالمبهم ، أي : لنقيمنهم في غرف {تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها نِعْمَ أجرُ العاملين} أجرهم هذا. وهم {الذين صبروا} على مفارقة الأوطان وأذى المشركين ، وعلى المحن والمصائب ، ومشاق الطاعات ، وترك المحرمات ، {وعلى ربهم يتوكلون} ، أي : لم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله ، فكفاهم شأنهم. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
الإشارة : كل من لم يَتَأَتَّ له جَمْعُ قَلْبِهِ في بلده ؛ فليهاجر منها إلى غير ، وليسمع قول سيده : {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة} ، فإن شق عليه مفارقة الأوطان ، فليذكر مفارقته للدنيا في أقرب زمان. وكان الصدِّيق رضي لَمَّا هاجر إلى المدينة ، وأصابته الحمى ، يتسلى بذكر الموت ، ويُنشد :
كُلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلهِ
والمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وقد أكثر الناس في الوعظ بالموت وهجومه ، نظماً ونثراً ، فمن ذلك قول الشاعر :
المَوْتُ كَأسٌ ، وكُلُّ النَاس شَارِبُه
والقَبْرُ بَابٌ ، وكُلُّ الناس دَاخِلُهُ
وقال آخر :
اعْلَمْ بِأَنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ قَاطِعَةٌ
بِكُلِّ مُدِّرع فِيهَا وَمُتَّرِسِ
ركوبُك النعشُ يُنْسِيكَ الرُّكُوبَ إلى
مَا كُنْتَ تَرْكَبُ مِنْ نَعْلٍ ومَنِ فَرَسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ ، وَلَمْ تَسْلُكْ طَرِيَقَتَهَا
إنَّ السَّفَينَةَ لاَ تَجْرِيَ علَى يَبَسِ
إلى غير ذلك مما يطول.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
(5/490)
يقول الحق جل جلاله : {وكأيِّن من دابة} أي : وكم دابة من داوب الأرض ،
323
عاقلة وغير عاقلة ، {لا تحملُ رِزْقَها} ؛ لا تطيق أن تحمله ؛ لضعفها عن حمله ، {اللهُ يرزقها وإياكم} أي : لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله ، ولا يرزقكم أنتم أيها الأقوياء إلا الله ، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها ؛ لأنه لو لم يخلق فيكم قدرة على كسبها ، لكنتم أعجز من الدواب. وعن الحسن : {لا تحمل رزقها} : لا تدخره ، إنما تصبح خِمَاصاً ، فيرزقها الله. وقيل : لا يدخر من الحيوان قوتاً إلا ابن آدم والفأرة والنملة. {وهو السميع} لقولكم : نخشى الفقر والعيْلة إن هاجرنا ، {العليم} بما في ضمائركم من خوف فوات الرزق.
ثم ذكر دلائل قدرته على الرزق وغيره فقال : {ولئن سألتهم} أي : المشركين وغيرهم {مَنْ خَلَقَ السماوات والأرض} على كبرهما وسعتهما ، {وسخَّرَ الشمسَ والقمرَ} يجريان في فلكهما ، {ليقولُنَّ اللهُ} ؛ لا يجدون جواباً إلا هذا ، لإقرارهم بوجود الصانع ، {فأنى يؤفكون} ؛ فكيف يُصرفون عن توحيد الله ؟ مع إقرارهم بهذا كله ، إذ لوتعدد الإله لفسد نظام العالم.
{الله يَبسُطُ الرِزْقَ لمن يشاءُ من عباده} هاجر أو أقام في بلده ، {ويقدرُ له} ؛ ويضيق عليه ، أقام أو هاجر ، فالضمير في {له} لمن يشاء ؛ لأنه مبهم غير معين ، {إن الله بكل شيء عليم} ؛ يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم ، فمنهم من يصله الفقر ، ومنهم من يُفسده ، ففي الحديث القدسي : " إن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلى الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك " ذكره النسفي.
(5/491)
{ولئن سألتهم من نزَّل من السماءِ ماء فأحيا به الأرضَ من بعد موتها ليقولن اللهُ} ؛ معترفين بأنه الموجد للكائنات بأسرها ، أصولها وفروعها ، ثم إنهم يُشركون به بعض مخلوقاته الذي هو أضعف الأشياء. {قل الحمد لله} على إظهار قدرته ، حتى ظهرت لجميع الخلق ، حتى أقرت بها الجاهلية الجهلاء. أو : على ما عصمك مما هم عليه ، أو : على تصديقك وإظهار حجتك ، أو : على إنزاله الماء لإحياء الأرض ، {بل أكثرُهُم لا يعقلون} ؛ لا عقول لهم ، فلا يتدبرون فيما يُريهم من الآيات ويقيم عليهم من الدلالات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 323
والله تعالى أعلم.
الإشارة : الرزق مضمون بيد من أَمْرِ بين الكاف والنون ، لا يزيد بحرص قوي ، ولا ينقص بعجز ضعيف ، بل قد ينعكس الأمر ، كما الشاعر :
كَمْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ في تقلبه
ترى عَنْهُ أَمْرَ الرَّزْقِ يَنْحَرفُ
324
وكم ضعيفٍ ضعيفٍ في تصرفه
كأنه من خليجِ البحرِ يَغْتَرِفُ
وقد يبسطه الله لأهل الغفلة والبُعد ، ويقدره لأهل الولاية والقُرب ، كما قال القائل :
اللهَ يَرْزُق قَوْماً لاَ خَلاَقَ لَهُمْ
مِثْلَ الْبَهَائِمِ في خَلْقِ التَّصَاوِيرِ
لَوْ كَانَ عَنْ قُوَّةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ
طَارَ البُزَاةُ بِأرْزَاقِ الْعَصَافِيرِ
وقال عليه الصلاة والسلام - في بعض خطبه - : " أيها الناس ، إن الرزق مقسوم ، لن يعدو امْرُؤٌ ما كُتِبَ له ، فاتقوا الله ، وأَجْمِلُوا في الطَلَبِ. وإن الأمر محدود ، لن يجاوز أحد ما قُدر له ، فبادروا قبل نفود الأجل ، وإن الأعمال محصاة ، لن يُهْمَلَ منها صغيرةٌ ولا كبيرةٌ ، فأكثروا من صالح الأعمال... " الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم : " لو توكلتمْ على الله حقَّ توكلِهِ ، لرَزقتم كما تُرزق الطير ؛ تغدو خِمَاصاً وتروح بِطَانا ".
جزء : 5 رقم الصفحة : 323
(5/492)
يقول الحق جل جلاله : {وما هذه الحياةُ الدنيا إلا لهوٌ ولعب} أي : وما هي ؛ لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ، ثم يفترقون متعبَين بلا فائدة. وفيه ازدراء بالدنيا وتحقير لشأنها ، وكيف لا يحقرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة ؟ واللهو : ما يتلذذ به الإنسان ، فيلهيه ساعة ، ثم ينقضي. {وإنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان} ، أي : الحياة الحقيقية ؛ لأنها دائمة. والحيوان : مصر ، وقياسه : حيَيَان ، فَقَلَبَ الياءَ الثانية واواً. ولم يقل : لهي الحياة ؛ لِمَا في بناء فَعَلاَن من معنى الحركة والاضطراب. وفي المصباح : الحيوان : مبالغة في الحياة ، كما قيل : للموت الكثير مَوَتَان. هـ. {لو كانوا يعلمون} حقيقة الدارين ؛ لَمَا اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي.
{فإذا رَكِبُوا في الفلك} ، هو مرتب على محذوف ، دل عليه ما وصفهم به قَبْلُ ، والتقدير : هم على ما هم عليه من الشرك والعناد ، وإذا ركبوا في الفلك {دَعَوا الله مخلصين له الدين} ، أي : كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا الله ، ولا يدعون معه إلهاً آخر ، {فلما نجاهم إلى البر} ، وأمنوا من الغرق ، {إذا هم يُشركون} ، أي : عادوا إلى حال الشرك ، {ليكفروا بما آتيناهم} من النعمة ، {وَلِيَتَمَّتعوا} باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها. واللام فيهما : إما لاَمُ كي ،
325
أي : يعودون إلى شركهم ؛ ليكونوا به كافرين بنعمة النجاة ، قاصدين التمتع بها والتلذذ ، لا غير ، على خلاف عادة المؤمنين المخلصين ، فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم ، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى توحيده وطاعته ، لا إلى التلذذ والتمتع. أو : لام الأمر ، علة وجه التهديد ، كقوله : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29] ، ويقويه : قراءةُ مَنْ سَكَّنَ الثانية ، أي : ليكفروا وليتمتعوا {فسوف يعلمون} تدبيرهم عند تدميرهم.
(5/493)
الإشارة : الدنيا عند أهل الجد والاجتهاد جد ، يتوصلون فيها إلى معرفة الحق ، ويترقون منها إلى أسرار ومعارف لا يحصرها عقل ؛ ولا يحيط بها نقل ، لأن في هذه الدار : عرفه من عرف ، وجَهِلَهُ من جهله. والترقي عند العارفين فيها أكثر ؛ لأنه يسير بين جلاله وجماله ، وهناك ليس إلا الجمال ، والترقي بين الضدين أعظم ، فإذا مات بقي يترقى في أنوار الجمال على قدر ما أدرك هنا. والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 325
فتحصل أن الدنيا في حق أهل الغفلة لعب ولهو ؛ لأنها شغلتهم وغرتهم بزخارفها عن معرفة الله والوصول إليه ، ولذلك حذّر منها صلى الله عليه وسلم ، فقد قال في بعض خطبه : " أيها الناس ، لا تكونوا ممن خَدَعَتْهُ العاجلة ، وغرته الأمنية ، واستهوته الخدعة ، فركن إلى دار سريعة الزوال ، وشيكة الانتقال ؛ إذ لن يبقى من دنياكم هذه في جنب ما مضى إلا كإناخة راكب ، أو درّ حالب ، فعلام تعرجون ؟ وما تنتظرون ؟ فكأنكم ، والله ، بما قد أصبحتم فيه من الدنيا ، كأن لم يكن ، وما تصيرون إليه من الآخرة ، لم يزل ، فخذوا في الأهْبة لأزُوف النقلة ، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة ، واعلموا أن كل إمرىء على ما قَدَّمَ قادِمٌ ، وعلى ما خَلَّفَ نادمٌ " وفي حق أهل الجد جدٌ وحق ؛ لأنها مزرعة للآخرة ، ومتجر من أسواق الله ، فيها ربحهم وغنيمتهم. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 325
(5/494)
يقول الحق جل جلاله : {أَوَلَمْ يَرَوا} أي : أهل مكة {أنا جعلنا} بلدهم {حَرَماً} أي : ممنوعاً مصوناً من الهبب ، {آمِنا} ؛ يأمن كل من دخله ، أو آمناً أهله من القتل والسبي ، {ويُتَخَطّفُ الناس من حولهم} أي : يخطف بعضهم بعضاً ، قتلاً وسبياً ، إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب ، {أفبالباطل يؤمنون} ؛ أبعد هذه النعمة العظمى يُؤمنون بالأصنام ويعبدونها ، أو : الشيطان ، {وبنعمة الله يكفرون} ؛ حيث أشركوا به غيْرَهُ ، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ إذ هو النعمة المهداة ، أو : الإسلام. وتقديم المعمولين ؛ للاهتمام ، أو للاختصاص.
326
{ومَنْ أظلمُ} أي : لا أحد أظلم {ممن افترى علىا لله كذباً} ؛ بأن جعل له شريكاً ، {أو كذّب بالحق} ؛ الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو : الكتاب ، {لمَّا جاءه} أي : لم يتعلثموا في تكذيبه لَمّا سمعوه ، وفي " لَمَّا " ، المقتضية للاتصال ، تسفيه لرأيهم ، حيث لم يتوقفوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم ، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. {أليس في جهنم مَثْوىً} ؛ مقاماً {للكافرين} ، وهو تقرير لمثواهم في جهنم ، لأن همزة الإنكار ، إذا دخلت على النفي ، صار إثباتاً ، كقوله :
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطايا
أي : أتم خير من ركب المطايا ، والتقدير : ألا يستوجبون الثوى فيها ؟ وقد افتروا مثل هذه العظيمة ، كذبوا على الله وكذّبوا بالحق الذي جاء من عنده ، أو : ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين ؟ حين اجترأوا مثل هذه الجرأة ، بل لهم فيها مثوى وإقامة. وهذه الآية في مقابلة قوله : {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً} [العنكبوت : 58]. لا سيما في قراءة الثاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الحرم الآمن ، في هذه الدار ، هو التبتل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها ، والتجريد من أسبابها ، فمن دخله أَمِنَ ظاهراً وباطناً ، ومن هجرها ، وترك الناس حوله يتخطفون ويتهارجون عليها ، وهو يتفرج عليهم ، فالدنيا جيفة والناس كلابها ، فإن خالطتهم ناهشوك ، وإن تركت لهم جيفتهم سَلِمتَ منهم ، فمن كذّب بهذا فقد كذَّب بالحق وآمن بالباطل ، فلا أحد أظلم منه. وبالله التوفيق.
327
جزء : 5 رقم الصفحة : 326(5/495)
سورة الروم
جزء : 5 رقم الصفحة : 327
يقول الحق جل جلاله : بعد التسمية {الـاـم} أي : أيها المصطفى ، أو : المرسل ، {غُلبت الرومُ} أي غلبت فارسُ الرومَ {في أدنى الأرض} أي : في أقرب أرض العرب ؛ لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم ، أي : غلبوا في أدنى أرض العرب منهم ، وهي أطراف الشام. أو أراد أرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه ، أي : في أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال ابن عطية : قرأ الجمهور : " غُلبت " ؛ بضم الغين. وقالوا : معنى الآية : أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزَم جيشَ الروم بأذرعاتِ ، وهي أدنى أرض الروم إلى مكة ، فسُر لذلك كفارُ قريش ، فبشر المؤمنين بأن الروم سيغلبون. هـ. وهذا معنى قوله : {وهم} أي : الروم {من بعد غَلَبِهم} ، وقرئ : بسكون اللام ؛ كالحلَب والحلْب ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : وهم من بعد غلبة فارس إياهم {سيَغْلِبون} فارس ، وتكون الدولة لهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 329
وذلك {في بِِضْعِ سنين} ، وهو ما بين الثلاث إلى العشر. قال النسفي : قيل : احتربت الروم وفارس ، بين أذرعاتِ وبُصرى ، فغلبت فارسُ الروم ، والمَلِكُ بفارس ، يومئذٍ ، كسرى " أبرويز " ، فبلغ الخبر مكة ، فشقَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ؛ لأنَّ
329(5/496)
فارسَ مجوسٌ ؛ لا كتاب لهم ، والروم أهل كتاب ، وفرح المشركون وشمتوا ، وقالوا : أنتم والنصارى أهل الكتاب ، ونحن فارس أُمِّيُّون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، ولنظهرنَّ نحن عليكم ، فنزلت الآية. فقال أبو بكر : والله ليَظْهَرَنَّ الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أُبَيُّ بنُ خلف : كذبت ، فناحبه - أي : قامره - على عشر قلائص من كل واحد منهما ، وجعل ثلالث سنين ، فأخبر أبو بكر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال - عليه الصلاة والسلام- : " زِدْ في الخطر وأبعد في الأجل " ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ، ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يو أحد ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، أو : يوم بدر ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أُبَيَّ ، فقال عليه الصلاة والسلام - : " تصدَّقْ به ". وهذه آية بينة على صحة نبوته ، وأن القرآن من عند الله ؛ لأنها إنباء عن علم الغيب. وكان ذلك قبل تحريم القمار ، عن قتادة. ومذهب ابي حنيفة ومحمد - رضي الله عنهما - : أن العقود الفاسدة ؛ كعقد الربا وغيره ، جائز في دار الحرب بين المسلمين والكفار ، واحتجا بهذه القصة. هـ. زاد البيضاوي : وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار. هـ وقرئ : " غلبت " ؛ بالفتح ، " وسيُغلبون " بالضم ، ومعناه : أن الروم غَلَبُوا على ريف الشام ، وسيغلبهم المسلمون ، وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها ، وفتحوا بعض بلادهم ، وعلى هذا يكون إضافة الغلَب إلى الفاعل. {لله الأمرُ من قبلُ ومن بعد} أي : من قبل كل شيء ، ومن بعد كل شيء. أو : من قبل الغلبة وبعدها ، كأنه قيل : من قبل كونهم غالبين - وقبله : وهو وقت كونهم مغلوبين - ومن بعد كونهم مغلوبين - وهو وقت كونهم غالبين ، يعني : أن كونهم مغلوبين أولاًُ ، وغالبين آخراً ، ليس إلا بأمر الله وقضائه. {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران : 140]. {ويومئذٍ} أي : ويوم تغلب الرومُ فارسَ ، ويحل ما وعده الله من غلبتهم ، (5/497)
{يفرح المؤمنون بنصر الله} ، وتغلب من له كتاب على مَن لا كتاب له ، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 329
وقيل : نصر الله : هو إظهار صدق المؤمنين ، بما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. {ينصُر من يشاء} فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى ، {وهو العزيزُ} : الغالب على أعدائه {الرحيمُ} : العاطف على أوليائه.
{وَعْدَ اللهِ} اي : وعد ذلك وعداً ، فسينجزه لا محالة ، فهو مصدر مؤكّد لِمَا قبله ؛ لأن قوله : {سيغلبون} وعد ، {لا يُخْلِفَ الله وعْدَه} ؛ لامتناع الكذب عليه تعالى ، فلا بد من نصر الروم على فارس. {ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون} صحة وعده ، وأنه لا يُخلف ، أو : لا يعلمون أن الأمور كلها بيد الله ؛ لجهلهم وعدم تفكرهم. وإنما {يعلمون ظاهراً
330
من الحياة الدنيا} ؛ ما يشاهدونه منها من التمتع بزخارفها. وفيه دليل أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها : ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها. قال بعض الحكماء : إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار ، فإنها مجمع الأكدار ، ومنبع المضار ، وسجن الإبرار ، ومجلس الأشرار ، الدنيا كالحية ، تجمع سموم نوائبها ، وتفرغه في صميم قلوب أبنائها. هـ. وباطنها : أنها مجازٌ إلى الآخرة ، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة. وتنكير (ظاهِراً) : مُفيدٌ أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها. {وهم عن الآخرة هم غافلون} ؛ لا تخطر ببالهم ، ولا يتفكرون في أهوالها ونوائبها. فهم ، الثانية : مبتدأ ، و(غافلون) : خبره ، والجملة : خبرالأولى ، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها. والله تعالى أعلم.
(5/498)
الإشارة : كما تقع الدولة بين الأشباح ، تقع بين النفوس ، والأرواح. فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح ، فتحجبها عن الله ، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس ، فتستر ظلمة حظوظها ، ويرتفع الحجاب بين الله وعبده. آلم. غُلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس ، في أدنى أرض العبودية ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، فتغلب أنوار الأرواح المطهرة ، على ظلمة نفوس الظلمانية ، وذلك في بضع سنين ، مدة المجاهدة ، والبُضع : من ثلاث إلى عشر ، على قدر الجد والاجتهاد ، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع ، فمنهم من يظفر بنفسه في مدة يسيره ، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة. لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون السائرون بنصر الله ، حيث نصرهم على نفوسهم ، فظفروا بها. ينصر من شاء حيث يشاء وهو العزيز الرحيم. قال بعضهم : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا. هـ.
وقال الورتجبي : قوله : {غُلبت الروم..} الآية ، إشارة إلى أن الأرواح ، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة ، والشياطين الكافرة ؛ امتحاناً من الله ، وتربيةً لها بمباشرة القهريات ، فإنها تغلب على النفوس ، من حيث تخرج من مقام الاختيار. انظر تمامه. وقال القشيري : قوله تعالى : {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا} : استغراقُهم في الاشتغال بالدنيا ، وانهماكهم بما مَنَعهم عن العلم بالآخرة وقيمة كل امرىءٍ عِلمُه ؛ كما في الأثر عن عليّ رضي الله عنه. قال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 329
وَقِيمَةُ كُلِّ امْرِىءٍ مَا كَانَ يُتْقِنُهُ
والجاهلون لأهلِ العِلْمِ أعداءُ
فأهل الدنيا في غفلة عن الآخرة ، والمشتغلون بعلم الآخرة ، هم بوجودها ، في غفلة عن الله. هـ. قلت : وأهل المعرفة بالله لم يشغلهم عنه دنيا ولا آخرة. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 329
331
(5/499)
قلت : " في أنفسهم " : يحتمل أن يكون ظرفاً ، أي : أَوَ لمْ يحدثوا التفكر فيها ، وأن تكون صلة للتفكر ، نحو : تفكر في الأمر : أجال فيه فكره. والأول أظهر.
يقول الحق جل جلاله : {أَوَ لَمْ يَتَفَكروا في أنفسهم} أي : أَوَ لَمْ يثبتوا التفكر في أنفسهم ، أي : في قلوبهم الفارغة ، فيتفكروا بها في مصنوعات الله ، حتى يعلموا أنها ما خُلِقَتْ عبثاً ، والتفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكن زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقوله : اعتقده في قلبك. أو : أَوَلَمْ يتفكروا في أنفسهم ، التي هي أقرب إليهم من غيرها ، وهم أعلم بأحوالها ، فيتدبروا ما أودعها الله تعالى ، ظاهراً وباطناً ، من غرائب الحكمة الدالة على التدبير من الحكيم القديم ، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى وقت تجازي فيه ، على الإحسان إحساناً ، وعلى الإساءة مثلها ، حتى يعلموا ، عند ذلك ، أن سائر الخلائق مثلها ، وأنه لا بُدَّ لهم من الانتهاء إلى ذلك الوقت ، فعلموا أن {ما خَلَقَ الله السماواتِ والأرض وما بينهما إلا بالحقِ وأَجَلٍ مُّسَمىًّ} أي : ما خلقها باطلاً وعبثاً من غير حكمة ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة البالغة ، وتنتهي إلى أجل مسمى ، وهو قيامُ الساعة ، ووقت الحساب ، بالثواب والعقاب ، فيخرب هذا العالم ، ويقوم عالم آخر ، لا انتهاء لوجوده.
(5/500)
قال في الحاشية الفاسية : وبالجملة : فخلقُ السموات والأرض ؛ للدلالة على التوحيد بوجودهما ، وعلى الآخرة بفنائهما ، وانقضاء أجلهما. ثم قال : والحاصل أن خلقه بمقتضى الحكمة يقتضي جزاء أوليائه ، وتعذيب أعدائه. وقد نصب تعالى القلب شاهداً ومُنزلاً منزلة الآخرة ، والقلب منزلة الدنيا ، وكما أن عمل القالب يعود نفعه ، إذا فعل الطاعة ، على القلب ؛ بالتنوير والتقريب لحضرة الربوبية ، ويعود ضرره عليه ، إذا فعل ضد ذلك ، كما يعرفه أهل القلوب ، وأنه مزرعة للقلب ، ولا بقاء له ، وإنما خلق لقضاء ذلك ، فكذلك الدنيا مزرعة للآخرة ، وإنما خلقت لذلك ، كما يعرفه أهل القلوب والبصائر الصافية السالمة ، فاعتبر ذلك. هـ.
{وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم} ؛ بالبعث والجزاء {لكافرون} : لجاحدون.
جزء : 5 رقم الصفحة : 331
الإشارة : قد تقدم الكلام على فضل التفكر في آل عمران. وقوله تعالى : {إلا بالحق} أي : ما خلق الكائنات إلا بالحق ، من الحق إلى الحق ، فهي من تجليات الحق ، ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فالحق عبارة عن عين الذات عند أهل الحق ، فافهم.
332
جزء : 5 رقم الصفحة : 331
قلت : من رفع " عاقبة الذين أساءوا " ؛ فالسوأى منصوب خبر كان ، ومن نصب " عاقبة " ؛ فالسُّوأى : مرفوع اسمها ، أو : مصدر لأساؤوا. انظر البيضاوي. والسُّوأى : تأنيث أسوأ. و(أن كذبوا) : مفعول من أجله ، أو : بدل ، على أن معنى (أساءوا) : كفروا.
(5/501)
يقول الحق جل جلاله : {أوَ لَمْ يَسيروا} اي : أَعَمُوا ولم يسيروا {في الأرض} ، ثم قرره بقوله : {فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم} أي : فينظروا إلى آثار الذين من قبلهم ؛ كيف دمرهم الله ، وأخلا بلادهم ، وبقيت دارسة بعدهم ، كعاد وثمود ، وغيرهم من الأمم العاتية ، والجبابرة الطاغية ، {كانوا أشدَّ منهم قوةً} حتى كان منهم من يفتل الحديد بيده ، {وأثاروا الأرض} ؛ قلبوا وجهها بالحراثة ، واستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وغير ذلك. {وعَمَروها} اي : عمرَ المدمَّرون الأرض {أكثرَ مما عَمَروها} أي : أهل مكة ، فأكثر : صفة لمصدر محذوف. و(ما) : مصدرية ، أي : عمارة هؤلاء ، فإنهم أهل واد غير ذي زرع ، ولا تَبَسُّطَ لهم في غيرها. وفيه تهكم بهم ؛ من حيث أنهم عمروا الأرض ، مغترون بالدنيا ، مفتخرون بها ، وهو أضعف حالاً فيها ؛ إذ مدار أمرها على التبسّط في البلاد ، والتسلط على العباد ، والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة ، وهم ضعفاء مُلْجؤونَ إلى واد لا نفع فيه. قال البيضاوي.
{وجاءتهم رسلُهم بالبينات} ؛ بالمعجزات الواضحات ، فلم يؤمنوا ؛ فأُهلِكوا ، {فما كان الله ليظلمهم} ؛ بأن دمرهم بلا سبب ، أو : من غير إعذار ، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} ؛ حيث ارتكبوا ما أدى إلى تدميرهم.
(5/502)
{ثم كان عاقبةُ الذي أساءوا} بالكفر والمعاصي {السُّوأى} أي : العقوبة السوأى ، والأصل : ثم كان عاقبتهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ؛ للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم ، وهو إساءتهم. والمعنى : أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ، ثم كان عاقبتهم في الآخرة العقوبة التي هي أسوأ العقوبات ، وهي انار التي أُعدت للكافرين. لأجل {أن كذَّبوا} أو : بأن كذَّبوا {بآيات الله} الدالة على صدق رسله ، أو : على وحدانيته. {وكانوا بها يستهزؤون} ؛ حيث قابلوها بالتكذيب ، أو : غفلوا عن التفكر فيها. أو : ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة السُّؤاى أن طبع الله على قلوبهم ، حتى كذّبوا بالآيات ، واستهزءوا بها. أو : ثم كان عاقبة الذين فعلوا الفعلة السوأى ، وهو أن كذّبوا واستهزءوا ، أن يلحقهم ما تعجز عنه نطاق العبارة ، فخبر كان ، على هذا : محذوف ؛
333
للتهويل. و(أن كذبوا) : بيان ، أو : بدل من السوأى. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 333
(5/503)
الإشارة : السير إلى الله على أقسام : سَيْرُ النفوس : بإقامة عبادة الجوارح ؛ لطلب الأجور ، وسَيْرُ القلوب : بجَولاَنها في ميادين الأغيار ، للتبصر والاعتبار ، طلباً للحضور ، وسير الأرواح : بجولان الفكرة في ميادين الأنوار ؛ طلباً لرفع الستور ودوام الحضور ، وسير الأسرار : الترقي في أسرار الجبروت ، بعد التمكن من شهود أنوار الملكوت على سبيل الدوام. قال القشيري : سَيْرُ النفوس في أوطان الأرض ومناكبها لأداء العبادات ، وسَيْرُ القلوب بجَوَلاَن الفكْر في جميع المخلوقات ، وغايته : الظَّفَرُ بحقائق العلوم التي تُوجبُ ثلج الصدور - ثم تلك العلوم علىدرجات - وسَيْرُ الأرواح في ميادين الغيب : بِنَعْتِ خَرْقِ سُرَادِقَات الملكوت. وقُصَاراه : الوصولُ إلى ساحل الشهود ، واستيلاء سلطان الحقيقة. وسَيْرُ الأسرار : بالترقي - أي : الغيبة - عن الحِدْثان بأَسْرها ، والتحقق ، أولاً ، بالصفات ، ثم بالخمود ، بالكلية ، عمَّا سوى الحق. هـ.
وقال في قوله : {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السُّوأى} : من زَرَعَ الشوكَ لم يحصدُ الوَرْدَ ، ومَنْ استنبت الحشيش لم يقطف البهار ، ومَنْ سَلَكَ سبيل الغيّ لم يَحْلُلْ بساحة الرشد. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 333
يقول الحق جل جلاله : {الله يَبدأُ الخلقَ} ؛ ينشئهم ، {ثم يُعيده} ؛ يحييهم بعد الموت ، {ثم إليه تُرْجَعونَ} ؛ للجزاء ؛ بالثواب والعقاب. والالتفات إلى الخطاب ؛ للمبالغة في إثباته. وقرأ أبو عمرو وسهل وروح : بالغيب ، على الأصل. {ويوم تقوم الساعة يُبْلِسُ} : ييأس ويتحير {المجرمون} ؛ المشركون ؛ يُقال : ناظرته فأبلس ، أي : أُفْحِمَ وأَيِسَ من الحجة ، أو : يسكتون متحيرين ، {ولم يكنُ لهم من شركائهم} التي عبدوها من دون الله {شفعاء} يشفعون لهم ويجيرونهم من النار ، {وكانوا بشركائهم كافرين} ؛ جاحدين لها ، متبرئين من عبادتها ، حين أيسوا من نفعها. أو : كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتها.
(5/504)
{ويوم تقوم الساعةُ يومئذٍ يتفرقون} أي : المسلمون والكافرون ، بدليل قوله : {فأما
334
الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضةٍ} ، أي : بستان ذي أزهار وأنهار ، وهي الجنة. والتنكير ؛ لإبهام أمرها وتفخيمه ، {يُحْبَرون} : يُسرّون ، يقال : حبره ، إذا سرّه سروراً تهلّل به وجهه ، وظهر فيه أثره.
ووجوه المسار كثيرة ، فقيل : يُكرمون ، وقيل : يُحلّون. وقيل : هو السماع في الجنة. قاله غير واحد. قال أبو الدرداء : كان عليه الصلاة والسلام يذكَّر الناس بنعيم الجنان ؛ فقيل : يا رسول الله ؛ هل في الجنة من سماع ؟ قال : " نعم ، إنَّ فِي الجنْة لنَهَراً حَافَتاهُ الأبْكَار مِنْ كُل بَيْضَاءَ خَمْصانة ، يَتَغَنيْنَ بأصْواتٍ لَمْ تَسْمَعِ الخلائِقُ بمِثْلها قَطُّ ، فَذلك أفْضَلُ نعيم أهل الجنَّة " قال الرواي : فسألت أبا الدرداء : بم يتغنين ؟ قال : بالتسبيح إن شاء الله. والخمصانة : المرهفة الأعلى ، الضخمة الأسفل. هـ. انظر الثعلبي. وذكر غيره أن هذا السماع يكون في نُزْهَةٍ تكون لأهل الجنة على شاطئ هذا النهر ، وقد ذكرناها في شرحنا الكبير على الفاتحة.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 334
وأما الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا ولقاءِ الآخرة} ؛ بالبعث {فأولئك في العذاب مُحضرون} : مقيمون ، لا يغيبون عنه. عائذاً بالله من غضبه.
(5/505)
الإشارة : من اعتمد على غير الله ، أو ركن إلى شيء سواه ، فهو مجرم عند الخصوص ، وذلك الشيء الذي ركن إليه صنم في حقه ، يتبرأ منه يوم القيامة ، ويُبلس من نفعه ، {يوم تقوم الساعة يُبلس المجرمون} : الآية. {ويوم تقوم الساعة يومئذٍ يتفرقون} ؛ فريقٌ هم أهل الوصلة ، وفريق هم أهل القطعة ، فريق في المنة ، وفريق في المحنة ، فريق في السرور ، وفريق في الثبور ، فريقٌ في الثواب ، وفريق في العقاب ، فريق في الفراق ، وفريق في التلاق. قال القشيري : وإذا كان الأمر هكذا ، فَجِدَّ ، أيها المؤمن ، في طاعة مولاك ، وأَكْثِرْ من ذكره ، صباحاً ومساء ، وليلاً ونهارا ؛ لتنال ذلك الوعد ، وَتَنْجَو من الوعيد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 334
قلت : " فسبحان " : مصدر لمحذوف ، أي : سبحوا سبحان. و(حين) : متعلق بذلك المحذوف ، وجملة : (وله الحمد) : معترضة بين معطوفات الظروف. و(في السموات) : حال من الحمد ، أي : وله ، على عباده ، الحمد ؛ كائناً في السموات... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : {فسبحانَ اللهِ} أي : فسبّحوا الله ونزّهوه تنزيهاً يليق به
335
في هذه الأوقات التي تظهر قدرته ، وتجدد فيها نعَمه ، وهي {حينَ تُمسون} ؛ تدخلون في المساء {وحين تُصبحون} تدخلون في الصباح. {وله الحمدُ في السماوات والأرض} أي : وله ، على المميّزين كلّهم ، من أهل السموات والأرض ، أن يحمدوه ، {وعشيّاً} أي : وسبحوه عشياً ؛ آخر النهار ، {وحين تُظْهِرُون} ؛ تدخلون في وقت الظهيرة.
(5/506)
قال البيضاوي : وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح ؛ لأن آثار العظمة والقدرة فيهما أظهر ، تخصيص الحمد بالعشي - الذي هو آخر النهار ، من عشى العين ؛ إذ نقص نورها - والظهيرة - التي هي وسطه ؛ لأن تجدد النعم فيها أكثر. ويجوز أن يكون {عَشِيّاً} معطوف على {حين تُمسون} ، وقوله : {وله الحمد..} إلخ - اعتراضاً. وعن ابن عباس : الآيةُ جامعة للصلوات الخمس ، (تُمسون) : صلاتا المغرب والعشاء ، (تصبحون) : صلاة الفجر ، (وعشياً) : صلاة العصر ، (وتُظهرون) صلاة الظهر. ولذلك زعم الحسن أنها مَدَنِيَّةٌ ؛ لأنه كان يقول : كان الواجب عليه بمكة ركعتين ، في أي وقت اتفقت ، وإنما فرضت الخمس بالمدينة. والأكثر على أنها فرضت بمكة. هـ.
ثم ذكر وجه استحقاقه للحمد والتنزيه بقوله : {يُخرج الحيَّ من الميت} ، الطائر من البيضة ، والإنسان من النطفة ، أو : المؤمن من الكافر ، والعالم من الجاهل. {ويُخرج الميتَ من الحيّ} ، البيضة من الطائر ، والنطفة من الإنسان ، أو : الكافر من المؤمن ، والجاهل من العالم. {ويحيي الأرضَ} بالنبات {بعد موتها} بيبسها ، {وكذلك تخرجون} ، والمعنى : أن الإبداء والإعادة متساويان في قدرة مَن هو قادر على إخراج الحي من الميت ، وعكسه.
رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ {فسبحان الله حين تمسون}.. إلى الثلاث آيات ، وآخر سورة الصافات : {سبحان ربك رب العزة..} إلخ.. دُبُرَ كُلّ صلاة ، كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء ، وقطر الأمطار ، وورق الأشجار ، وتراب الأرض. فإذا مات ؛ أجرى له بكل لفظ عشر حسنات في قبره " نقله الثعلبي والنسفي. وعنه - عليه الصلاة والسلام : " مَن قَالَ حِينَ يُصْبِحُ : {فسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ}... إلى قوله : {وكذلك تخرجون} ؛ أدْرَكَ ما فَاتَهُ في يوْمِهِ ، ومن قاله حين يُمْسِي ؛ أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ " رواه ابو داود.
(5/507)
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
وقال الضحاك : من قال : {فسبحان الله حين تمسون..} إلخ ؛ كان له كعدل مائتي رقبة من ولد إسماعيل. هـ. زاد كعب : ولم يفته خَيْرٌ كان في يومه ، ولا يدركه شر كان فيه.
336
وإن قالها في السماء ؛ فكذلك. وكان إبراهيم الخليل عليه السلام يقرها ست مرات في كل يوم وليلة. هـ.
الإشارة : أما وجه الأمر بالتنزيه حين المساء والصباح ؛ فلأنَّ المجوس كانوا يسجدون للشمس في هذين الوقتين ؛ تسليماً وتوديعاً ، فأمر الحق تعالى المؤمنين أن ينزهوه عمن يستحق العبادة معه ، وأما العشي ؛ فلأنه وقت غفلة الناس في جميع حوائجهم ، وأما وقت الظهيرة ؛ فلأن جهنم تشتعل فيه ؛ كما في الحديث ، وأمر بحمده والثناء عليه في كل وقت ؛ لما غمرهم من النِعَم الظاهرة والباطنة.
قال القشيري : فمن كان صباحُه بالله ؛ بُوركَ له في يومه ، ومن كان مساؤه بالله ؛ بورك له في ليلته ، وأنشدوا :
وإنَّ صَبَاحاً نلتقي في مسائه
صَبَاحٌ على قلب الغريب حبيبُ
شتَّان بين عبد : صباحُه مُفْتَتَحٌ بعبادته ، ومساؤه مُخْتَتَمٌ بطاعته ، وبين عبدٍ : صباحه مُفتتح بمشاهدته ، ورواحه مختتم بعزيز رؤيته. قلت : الأول من عامة الأبرار ، والثاني من خاصة العارفين الكبار ، وبقي مقام الغافلين ، وهو : من كان صباحه مفتتح بهم نفسه ، ومساؤه مختتم برؤية حسه ، ثم ذكر احتمال الصلوات الخمس في الآية ، كما تقدم - ثم قال : وأراد الحق من أوليائه أن يجددوا العبودية في اليوم والليلة خمس مرات ، فيقف على بساط المناجاة ، ويستدرك ما فاته بين الصلاتين من صوارف الزلات. هـ.
(5/508)
وقوله تعالى : {يُخرج الحي من الميت} يُخرج الذاكر من الغافل ، والغافل من الذاكر ، والعارف من الجاهل ، والجاهل من العارف ، ويُحيي أرض النفوس باليقظة والمعرفة ، بعد موتها بالغفلة والجهل ، وكذلك تُخرجون من قبوركم على ما متم عليه ، من معرفة أو جهل ، من يقظة أو غفلة ، يموت المرء على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
يقول الحق جل جلاله : {ومن آياته} الدالة على قدرته ، الشاملة للبعث وغيره : أو : ومن علامات ربوبيته : {أن خلقكم} أي : أباكم {من ترابٍ} ؛ لأن أصل الإنشاء منه ، {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} أي : ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض ، آدم
337
وذريته. {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها} ؛ لأن حواء خُلقت من ضلع آدم ، والنساء بعدها خُلقن من أصلاب الرجال. أو : من شكل أنفسكم وجنسها ، لا مِنْ جنس آخر ، وذلك لما بين الاثنين - إِذْ كَانَا من جنس واحد - من الألفة والمودة والسكون ، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر. ويقال سكن إليه : إذا مال إليه. {وجعل بينكم مودة ورحمة} أي : جعل بينكم التوادد والتراحم بسبب الزواج.
وعن الحسن : المودة كناية عن الجماع ، والرحمة هي الولد. وقيل المودة للشابة الجميلة ، والرحمة للعجوز ، وقيل : المودة والرحمة من الله ، والفَرْك من الشيطان - أي : البغض من الجانبين. {إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون} ؛ فيعلمون ما في ذلك من الحِكم ، وأن قوام الدنيا بوجود التناسل.
(5/509)
الإشارة : أصل النشأة البشرية من الطين ، وأصل الروح من نور رب العالمين. فإذا غلبت الطينة على الروح جذبتها إلى عالم الطين ، فكان همها الطين ، وهوت إلى أسفل سافلين ، فلا تجد فكرتها وحديثها ، في الغالب ، إلا في عالم الحس ، ويكون عملها كله عَمَلَ الجوارح ، يفنى بفنائها. وإذا غلبت الروح على الطينة ؛ وذلك بدخول مقام الفناء ، حتى تستولي المعاني على الحسيات. وتنخنس البشرية تحت سلطان أنوار الحقيقة ، جذبتها إلى عالم الأنوار والأسرار ، فلا تجد فكرتها إلا في أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وعملها كله قلبي وسري. بين فكرة واعتبار ، وشهود واستبصار ، يبقى مع الروح ببقائها ، يجري عليها بعد موت البشرية ، ويبعث معها ، كما تقدم في الحديث : " يموت المرء... " إلخ.
قال القشيري : يقال : الأصل تُربة ، ولكن العِبرَة بالتربية لا بالتربة. هـ. قلت : إذ بالتربية تغلب الروح على البشرية ، ثم قال : اصطفى الكعبة ، فهي خير من الجنة ، مع أن الجنة جواهر ويواقيت ، والكعبة حجر ومدر ، أي : كذلك المؤمن الكامل ، وإن كان أصله من الطين ، فهو أفضل من كثير العوالم اللطيفة. ثم قال في قوله تعالى : {ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم أزواجاً} الآية : رَدَّ المِثْلَ إلى المِثْل ، وربط الشكلَ بالشكل ، وجعل سكونَ البعض إلى البعضِ ، وذلك للأشباح والصُّورَ ، والأرواح صحِبت الأشباح ؛ كرهاً لا طوعاً ، وأما الأسرار فمُعْتَقَةٌ ، لا تساكن الأطلال ، ولا تتدنس بالأغيار. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 337
(5/510)
قلت : وكأنه يشير إلى أن المودة التي انعقدت بين الزوجين إنما هي نفسية ، لا روحانية ، ولا سرية ؛ إذ الروح والسر لا يتصور منها ميل إلى غير أسرار الذات العلية ؛ إذ محبة الحق ، جذبتها عن الميل إلى شيء من السّوى. واختلف الصوفية : هل تُخِلُّ هذه المودة بين الزوجين يمحية الحق ، أم لا ؟ فقال سهل رضي الله عنه : لا تضر الروح ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " حُبب إلي َّمن دنياكم ثلاث... " فذكر النساء ، إذا كان على وجه الشفقة
338
والرحمة ، لا على غلبة الشهوة. وعلامة محبة الشفقة : أنه لا يتغير عند فَقْدها ، ولا يحزن بفواتها. وهذا هو الصحيح. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 337
قلت : (يُريكم البرق) : فيه وجهان ، أحدهما : إضمار " أن " ؛ كما في حرف ابن مسعود ، والثاني : تنزيل الفعل منزلة المصدر ، كما قيل في قولهم ، في المثل : " تَسْمعَ بالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ من أن تراه ". أي : إن تسمع ، أو : سماعك. و(خوفاً وطمعاً) : مفعولان له ؛ على حذف مضاف ، أي : إرادة خوف ، وإرادة طمع ، أو : على الحال ، أي : خائفين وطامعين. و(إذا دعاكم) : شرطية ، و(إذا) ، الثانية ؛ فجائية ، نابت عن الفاء. و(من الأرض) : يتعلق بدعاكم.
(5/511)
يقول الحق جل جلاله : {ومن آياته} الدالة على باهر قدرته {خلقُ السماوات والأرض}. قال القشيري : السموات في علوِّها. والأرض في دنوِّها ، هذه بنجومها وكواكبها ، وهذه بأقطارها ومناكبها ، هذه بشمسها وقمرها ، وهذه بمائها ومدرها ، واختلاف لغات أهلها في الأرض ، واختلاف تسبيح الملائكة - عليهم السلام - الذين هم سكان السماء. هـ. {واختلافُ ألسنتكم} باختلاف اللغات ، وبأجناس النطق وأشكاله ، {وألوانكم} ، كالسواد والبياض وغيرهما ، حتى لا تكاد تجد شخصين متوافقين ؛ إلا وبينهما نوع تخالف في اللسان واللون ، وباختلاف ذلك وقع التعارفُ والتمايز ، فلو توافقت وتشاكلت لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت المصالح. وفي ذلك آية بينة ، حيث وُلدوا من أب واحد ، وهم على كثرتهم متفاوتون. {إن في ذلك لآيات للعالمين} ؛ بفتح اللام وكسره. ويشهد للكسر قوله تعالى : {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت : 43]. قال القشيري : واختصاص كلِّ شيء من هذه ببعض جائزات حكمها ؛ شاهدٌ عَدْلٍ ، ودليلٌ صِدْقٍ ، يناجي أفكار المستيقظين ، وتنادي على أنفسها : أنها ، بأجمعها ، بتقدير العزيز العليم. هـ.
339
{ومن آياته منامُكُم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} ، أي منامكم بالليل ، وابتغاؤكم من فضله بالنهار ، أو : منامكم في الزمانين ، وابتغاؤكم من فضله فيهما ، وهو حسن ؛ لأنه إذا طال النهار يقع النوم فيه ، وإذا طال الليل يقع الابتغاء فيه. {إِن في ذلك لآياتٍ لقوم يسمعون} ؛ سماع تدبر ، بآذان واعية. قال القشيري : غَلَبةُ النوم لصاحبه من غير اختيار ، وانتباهُه بلا اكتساب ، يدلُّ على موته ثم بَعْثِهِ ، ثم في حال منامه يرى ما يسرُّه وما يضرُّه يدل على حاله في قبره. الله أعلمُ كيف حاله ، في أمره ، فيما يلقاه من خيره وشره. هـ.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 339
(5/512)
ومن آياته يُريكُمُ البرقَ خوفاً وطمعاً} ، أي : خوفاً من الصواعق ، وطمعاً في الغيث ، أو : خوفاً للمسافر وطمعاً للحاضر ، {ويُنزّل من السماء ماءً} ؛ مطراً {فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} : يتفكرون بعقولهم.
{ومن آياته أن تقومَ السماءُ} بغير عمد {والأرضُ} على ماء جماد {بأمره} أي : بإقامته ، أو تدبيره وقدرته. {ثم إذا دعاكم} للبعث {دعوةً من الأرض إذا أنتم تخرجون} من قبوركم. وسبك الآية : ومن آياته قيام السماوات والأرض ، واستمساكها بغير عمد ، ثم إذا دعاكم دعوة واحدة ، يا أهل القبور ، خرجتم بسرعة. وإنما عطف هذا بثم ؛ بياناً لعِظَم ما يكون من ذلك الأمر ، وإظهار اقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور ، قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر ، كقوله : {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىا فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر : 68].
تنبيه : عبّر عن مودة الزوجين بيتكفرون ؛ لأن المودة قلبية ، لا تُدْرَكُ إلا بتفكر القلب ، وعبّر عن خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان بالعالِمين ؛ لأن أمر ذلك يدركه كل أحد ، ممن له عقل أو علم ، وعبّر عن النوم واليقظة بيسمعون ؛ لأن من كان في الغفلة لا يسمع أمثال هذه المواعظ ، وإنما يسمعها مَنْ كان متيقظاً ، وعبّر عن إظهار البرق ، وإنزال المطر ، وإحياء الأرض ، بيعقلون ؛ لأن أمر البرق وما معه يبصره كل من له مسكةٌ عن عقل سليم ، ويعلم أنه من الله بلا واسطة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما نُصِبَتْ هذه الكائنات لتراها ، بل لترى فيها مولاها ، فما هذه الأكوان الحسية إلا تجليات من تجليات الحق ، ومظاهر من مظاهره ، وأنوار من أنوار ملكوته ، متدفقة من بحر جبروته. كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان. لكن لا يعرف هذا إلا العارفون بالله ، وأما غيرهم فحسبهم أن يستدلوا على عظمة خالقها ، وباهر قدرته وحكمته ، فيقوي إيمانهم ويشتد إيقانهم.
(5/513)
قال في الإحياء : وبحر المعرفة لا ساحل له ، والإحاطة بكنْه جلال الله محال ، وكلما كثرت المعرفة بالله سبحانه ، وبأفعال مملكته ، وأسرار مملكته ، وقويت ، كثر النعيم في الآخرة وعَظُم ، كما أنه كلما كثر البذر وحَسُن ؛ كثر الزعر وحَسُن ، وقال أيضاً ،
340
في كتاب شرح عجائب القلب : ويكون سعة ملك العبد في الجنة بحسب سعة معرفته بالله ، وبحسب ما يتجلى له من عظمة الله سبحانه ، ومن صفاته وأفعاله. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 339
ومن آياته خلق سماوات أرواحكم ، وأرض نفوسكم ، لتقوم الأرواح بشهود عظمة الربوبية ، والنفوس بآداب العبودية ، واختلاف ألسنتكم ؛ فبعضها لا تتكلم إلا في الفَرْق ، وبعضها إلا في الجمع. وألوانكم ؛ بعضها طهر فيها سيما العارفين ، وبهجة المحبين ، وبعضها لم يظهر عليها شيء من ذلك. ومن آياته منامكم في ليل الغفلة والبطالة ، وَقْتَ غفلَتِكُمْ ، وابتغاؤكم من فضله ؛ بزيادة معرفته وَقْتَ يقظتِكُمْ. ومن آياته يُريكم البرق ، أي : يُلْمِعُ عليكم أسرَار المعاني ، ثم تخفى عند الاستشراف على بحر الحقيقة ، خوفاً من الاصطلام والرجوع ، وطمعاً في الوصول والتمكين. ومن آياته أن تقوم الأشياء به وبأسرار ذاته ، ثم إذا دعاكم دعوة من أرض القطيعة إذا أنتم تخرجون ، فتعرجون بأرواحكم إلى سماء وصْلته وتمكن معرفته. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 339
(5/514)
يقول الحق جل جلاله : {وله من في السماوات والأرض} ؛ ملكاً ومُلكاً ، {كل له قانتون} أي : مطيعون ، كلُّ لما أراد ، لا يستطيع التغيرَ عن ذلك. أو مُقرّون بالعبودية ، أو : قائمون بالشهادة على وحدانيته. {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يُعيده} أي : يُنشئهم ثم يعيدهم للبعث ، {وهو} أي : البعث {أهونُ} ؛ أيسر {عليه} عندكم ؛ لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء ، فلِمَ أنكرتم الإعادة ، مع إقراركم بأن الإنشاء منه تعالى ؟ وقال الزجاج وغيره : أهون بمعنى " هيّن " ؛ كقوله : {وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء : 30] ، كما قالوا : أكبر ، بمعنى كبير. والإعادة في نفسها عظيمة ولكنها هُوّنت بالقياس إلى الإنشاء ؛ إذ هو أهون عند الخلق من الإنشاء ؛ لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نُطفاً ، ثم عُلقاً ، ثم مضغاً ، إلى تكميل خلقهم. قاله النسفي.
{وله المَثَلُ الأعلى في السماوات والأرض} أي : الوصف الأعلى ، الذي ليس لغيره ، وقد عُرف به ، ووُصف في السموات والأرض ، على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاءٍ وإعادة ، وغيرهما من المقدورات ، {وهو العزيزُ} أي : القاهر لكل مقدور ، {الحكيم} الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه. وعن ابن عباس : المثل الأعلى هو : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى : 11]. وعن مجاهد : هو قول : " لا إله إلا الله ". ومعناه : وله
341
الوصف الأرفع ، وهو اختصاصه بالألوهية في العالم العلوي والسفلي ، ويعضده : ما بعده مِنْ ضرب المثل. والله تعالى أعلم.
(5/515)
الإشارة : الاشياء كلها ، من عرشها إلى فرشها ، حيها وجامدها ، قانتة وساجدة لله تعالى ، من حيث حِسُّها الذي هو مَقَر العبودية ، وغنية عن السجود من حيث معناها ؛ لأنها من أسرار الربوبية. فالعبد ، من حيثُ حِسُّها الذي هو مَقَر العبودية ، وغنية عن السجود من حيث معناها ؛ لأنها من أسرار الربوبية. فالعبد ، من حيثُ فرقه ، عبد خاضع ، ومن حيث جمعه : حُر مُطاع.
قال القشيري : قوله : {وهو أهون عليه} أي : في ظنِّكم وتقديركم. وفي الحقيقة السهولة والوعورة على الحق لا تجوز. {وله المثل الأعلى} والصفات العلى في الوجود بحق القِدَم ، وفي وجوده - أي : للأشياء - بنعت الكرم ، وفي القدرة بوصف الشمول ، وفي النظرة بوصف الكمال ، وفي العلم بعموم التعلق ، وفي الحكْم بوجود التحقق ، وفي المشيئة بوصف البلوغ ، وفي القضية بحكم النفوذ ، وفي الجبروت بعين العز والجلال ، وفي الملكوت بنعت الجد والكمال. هـ. قلت : والحاصل ان المثل الأعلى يرجع إلى كمال ذاته ، تعالى ، وصفاته وأفعاله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 341
(5/516)
يقول الحق جل جلاله : {ضَرَبَ لكم مثلاً} لقُبح الشرك وبشاعته ، منتزعاً {من أنفسكم} التي هي أقرب شيء إليكم ، وهو : {هل لكم} ، معَاشرِ الأحْرَارِ ، {مما ملكت أيمانُكُم} اي من عبيدكم {من شركاءَ فيما رزقناكم} من الأموال وغيرها. فَمِنْ ، الأولى : للابتداء ، والثانية : للتبعيض ، والثالثة : مزيدة ؛ لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والمعنى : هل لكم ، من بعض عبيدكم ، شرك فيما رزقناكم ، اي : هل ترضون أن يكون عبيدكم شركاء لكم ، فيما رزقناكم ؟ {فأنتم فيه سواء} ؛ فتكونون أنتم وهم ، فيما رزقناكم من الأموال ، سواء ؛ يتصرفون فيه كتصرفكم ، ويحكمون فيه كحكمكم ، مع أنهم بشرٌ مثلكم ، حال كونكم {تخافونهم} أي : يستبدوا بالتصرف فيه ، {كخِيفَتِكُم أنفُسَكُم} أي : كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض - فيما هو مشترك بينهم - أن يستبد فيه بالتصرف دونه. أو : تخافونهم أن يقاسموكم تلك الأموال ، أو : يرثونها بعدكم ، كما تخافون ذلك من بعضكم ، فإذا لم تَرْضَوْا ذلك لأنفسكم ، فكيف ترضونه لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد ، أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء في استحقاق العبادة ؟ !
{كذلك} ، أي : مثل هذا التفصيل البديع ، {نُفصِّلُ الآياتِ} ؛ بينهما ؛ لأن التمثيل
342
مما يكشف المعاني ويوضحها {لقوم يعقلون} ؛ يتدبرون في ضرب الأمثال ، ويعرفون حكمها وأسرارها ، فلما لم ينزجروا أضرب عنهم ، فقال : {بل اتَّبعَ الذين ظلموا} أنفسهم بالشرك {أهواءَهم بغير علمٍ} ، أي : تبعوا أهواءهم ، جاهلين ، ولو كان لهم عِلْمٌ ؛ لَرُجِيَ أن يزجرهم ، {فمن يهدي من أضل الله} ؟ اي : لا هادي له قط ، {وما لهم من ناصرين} يمنعونهم من العذاب ، أو : يَحْفُظونهم من الضلالة ، أو : من الإقامة فيها.
الإشارة : ما قيل في الشرك الجلي يجري مثله في الشرك الخفي ؛ فأن الحق تعالى غيور ، لا يُحب العمل المشترك ، ولا القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشترك لا يُقبل عليه ، وأنْشَدُوا :
(5/517)
جزء : 5 رقم الصفحة : 342
لِي محْبوبٌ إنما هُوَ غَيُورْ
يُطِلُّ في الْقَلْبِ كَطَيْر حَذُورْ
ذَا رَأَى شيئاً امتَنَعَ أَنْ يَزُورْ
فكما أنك لا ترضى من عبدك أن يُحب غيرك ، ويخضع له ، كذلك الحق تعالى ، لا يرضى منكُ أن تميل لغيره. قال القشيري. قوله : {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم} : أشدُّ الظلم متابعةُ الهوى ؛ لأنه قريب من الشِّرْكِ. قال الله تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاهُ} [ الجاثية : 23] ، ومن اتَّبع هواه ؛ خالف رضا مولاه ، فهو ، بوضع الشيء في غير موضعه ، صار ظالماً ، كما أن العاصي ، بوضع المعصية في موضع الطاعة ، صار ظالماً ، كذلك بمتابعة هواه ، بَدَلاً عن موافقة ومتابعة رضا مولاه ، صار في الظلم متمادياً. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 342
قلت : (حنيفاً) : حال من (الدين) ، أو : من المأمور ، وهو ضمير (أقم) ، و(فطرة) : منصوب على الإغراء.
يقول الحق جل جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أو : لكل سامع : {فأَقِمْ وَجْهَكَ للدين} أي : قوّم وجهك له ، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ عنه ؛ يميناً ولا شمالاً. وهو تمثيلٌ لإقباله على الدين بكُلِّيته ، واستقامته عليه ، واهتمامه بأسبابه ؛ فإنَّ من اهتم بالشيء توجه إليه بوجهه ، وسدّد إليه نظره ، {حنيفاً} ؛ أي : مائلاً عن كل ما سواه من الأديان ، {فِطْرَتَ الله} ؛ أي : الزموا فطرة الله. والفطرة : الخلقة : أَلاَ ترى إلى قوله : {لا تبديلَ لخلقِ الله} ؟ فالأرواح ، حين تركيبها في الأشباح ، كانت قابلة للتوحيد ، مُهَيَّأَةً له ، بل عالمة به ، بدليل إقرارها به في
343
(5/518)
عالم الذر ، حتى لو تُركوا لَما اخْتَارُوا عليه ديناً آخر ، ومَن غوى فإنما غوى منهم بإغواء شياطين الإنس والجن. وفي حديث قدسي : " كُلٌّ عِبَادي خَلَقْتُ حنيفاً ، فاجتالتَهُمْ الشّيَاطِينُ عنْ دِينهمْ ، وأمَرُوهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي غيري " وفي الصحيح : " كُلُّ مولود يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنصِّرانِهِ أو يُمجِّسَانِهِ " قال الزجّاج : معناه : أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به ، على ما جاء في الحديث : " إن الله عز وجل أخرج من صلب آدم ذريته كالذرّ ، وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم ، فقالوا : بلى " ، وكل مولود فهو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى رَبُّهَا وخالقها. هـ. قال ابن عطية : الذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة : أنها الخِلقة والهيئة في نفس الطفل ، التي هي مهيئة لمعرفة الله والإيمان به ، الذي على الإعداد له فطرَ البشر ، لكن تعرض لهم العوارض ؛ على حسب ما جرى به القدر ، ولا يلزم من الإعداد وجعله على حالة قابلة للتوحيد ألا يساعده القدر ، كما في قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56] ، أي : خلقهم معَدين لذلك ، فأمر من ساعده القدر ، وصرف عن ذلك من لم يُوفق لما خلق له. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
(5/519)
فقوله في الحديث : " كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ " أي : على القابلية والصلاحية للتوحيد ، ثم منهم من يتمحض لذلك ، كما سبق في القدر ، ومنهم من لم يوفق لذلك ، بل يخذل ويُصرف عنه ؛ لما سبق عليه من الشقاء. وقال في المشارق : أي : يخلق سالماً من الكفر ، متهيئاً لقبول الصلاح والهدى ، ثم أبواه يحملانه ، بَعْدُ ، على ما سَبق له في الكتاب. هـ. قال ابن عطية : وذِكْرُ الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. ثم قال : وقد فطر الله الخلق على الاعتراف بربوبيته ، ومن لازم ذلك توحيده ، وإن لم يُوَفِّقُوا لذلك كُلُّهم ، بل وَحِّدَه بعضُهم ، وأشرك بعضهم ، مع اتفاق الكل على ربوبيته ؛ ضَرُورَة أن الكلَّ يشعر بقاهر له مدبر. قال في الحاشية : والحاصل : أنه تعالى فطر الكل في ابتداء النشأة ، على الاعتراف بربوبيته ، ولكن كتب منهم السعداء موحدين ، وكتب الأشقياء مشركين ، مع اعتراف الجميع بربوبيته ، ولم يوفق الأشقياء لكون الربوبية تستلزم الوحدانية ، فأشركوا ، فناقضوا لازم قولهم. هـ.
وهذا معنى قوله تعالى : {التي فَطَرَ الناسَ عليها} ، أي : خلقهم في أصل نشأتم عليها ، {لا تبديل لخق الله} أي : ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تُغير. وقال الزجاج : معناه : لا تبديل لدين الله ، ويدل على قوله : {ذلك الدين القيم} أي : المستقيم ، {ولكن أكثر الناسِ لا يعلمون} حقيقة ذلك. حال كونكم.
344
{مُنيبين إليه} أي : راجعين إليه ، فهو حال من ضمير : الزموا. وقوله : {واتقوه وأقيموا الصلاة} : عطف على الزموا. أو : على (فأقم) ؛ لأن الأمر له - عليه الصلاة والسلام - أمرٌ لأمته ، فكأنه قال : فأقيموا وجوهكم ، منيبين إليه ، {واتقوه} أي : خافوا عقوبته ، {وأقيموا الصلاة} أي : أَتْقِنُوهَا وأدّوها في وقتها ، {ولا تكونوا من المشركين} ؛ ممن يشرك به غيره في العبادة.
(5/520)
{من الذين فرقوا دينهم} : بدل من " المشركين " ؛ بإعادة الجار ، أي : لا تكونوا من الذين جعلوا دينهم أدياناً مختلفة باختلاف ما يعبدونه ؛ لاختلاف أهوائهم. وقرأ الأَخَوَان : (فارقوا) أي : تركوا دين الإسلام الذي أُمروا به ، {وكانوا شِيَعاً} أي : فرقاً ، كل فرقة تشايع إمامها الذي أضلها ، أي : تشيعه ، وتقوي سواده ، {كل حزب} منهم {بما لديهم فرحون} ؛ مسرورون ، ظناً بأنه الحق ، ثُم يبدوا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. والعياذ بالله.
الإشارة : الفطرة التي فَطَر الله الأرواحَ عليها في معرفة العيان ، لأنها كلها كانت عارفة بالله ، لصفائها ولطافتها ، فما عاقها عن تلك المعرفة إلا كَثَافَةُ الأبدان ، والاشتغالُ بحظوظها وهواها ، حتى نسيت تلك المعرفة. وفي ذلك يقول ابن البنا في مباحثه :
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
وَلَمْ تَزَلْ كُلُّ نُفُوسٍ الأَحْيَا
لأمَةً دَرَّاكَةً للأَشْيَا
وَإِنَّمَا تَعُوقُهَا الأَبْدَانُ
وَالأَنْفُسُ النُّزَّعُ وَالشَّيْطَانُ
فَكُلُّ مَنْ أذاقهم جِهَادَهْ
أَظْهَرَ لِلْقَاعِدِ خَرْقَ الْعَادَهْ
قال بعضهم : إنما حجب الله عنها تلك العلوم ؛ غيرة أن تكشف سر الربوبية ، فيظهر لغير أهله ، قال القشيري : {فأَقِمْ وجْهَك} أي : أَخِلْصْ قَصْدَك إلى الله ، واحفَظْ عهدك معه ، وأَفْرِدْ عملك ، في سكناتِك وحركاتك وجميع تصرفاتِك ، له. {حنيفاً} أي : مستقيماً في دينه ، مائلاً عن غيره ، مُعْرِضاً عن سواه. والزَمْ (فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها) ، ثم ذكر ما تقدم لنا. ثم قال : {منيبين إليه} ؛ راجعين إلى الله بالكلية ، من غير أن تبقى بقية ، متصفين بوفائه ، منحرفين بكل وجهٍ عن خلافه ، مُتَّقينٍ صغير الإثم وكبيره ، وقليله وكثيره ، مقيمين الصلاة بأركانها وسننها وآدابها ؛ جهراً ، متحققين بمرعاة فضلها ؛ سِراً.
(5/521)
وقال في قوله تعالى : {من الذين فَرَّقوا دينهم} : أقاموا في دنياهم في دار الغفلة ، وعناد الجهل والفترة ، فركنوا إلى ظنونهم ، واستوطنوا مركب أوهامهم ، وثَمِلُوا بِسُكْرِ غَيِّهِمْ ، وظنوا أنهم على شيء ، فإذا انكشف ضبابُ وقتهم ، وانقشع سحابُ هجرهم ، انقلب فرحُهم تَرَحاً ، واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة ، ولم يعرجوا إلا في أوطان الجهالة. هـ.
345
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
قلت : (إِذَا هُمْ) : جواب (إن). و(إذا) ؛ الفجائية ، تَخْلُفُ الفاء ، لتآخيهما في التعقيب.
يقول الحق جل جلاله : {وإِِذا مَسَّ الناسَ ضُرُّ} ؛ كمرض ، وفقر ، وشدة ، أو غير ذلك ، {دَعَوا ربهم منيبين} ؛ راجعين {إليه} من دعاء غيره. {ثم إذا أذاقهم منه رحمةً} ؛ خلاصاً من الشدة {إذا فريق منهم بربهم يُشركون} شركاً جلياً أو خفياً ، أي فاجأ بعضهم الإشراك بربهم الذي عافاهم ، {ليكفروا} ؛ إما : لام كي ، أو : لام الأمر ؛ للوعيد والتهديد ، أي : أشركوا كي يكفروا {بما آتيناهم} من النعم ، التي من جملتها : نجاتهم وخلاصهم من كل شدة ، {فتمتعوا} بكفركم قليلاً ؛ أمر تهديد ، {فسوف تعلمون} وبال تمتعكم.
{أم أنزلنا عليهم سلطاناً} ؛ حجّة على عبادة أصنامهم ، {فهو يتكلمُ} ، وتكلمه مجاز ، كما تقول : كتابه ناطق بكذا ، وهذا مما نطق به القرآن ، ومعناه : الشهادة ، كأنه قال : يشهد بصحة ما {كانوا به يشركون} ، فما : مصدرية ، أي : بصحة كونهم بالله يشركون ، أو : موصولة ، أي : بالأمر الذي بسببه يشركون.
{وإِذا أذقنا الناسَ رحمةً} أي : نعمة ؛ من مطر ، أو : سعة رزق ، أو : صحة ، {فَرِحُوا بها} فرح بَطَرَ وافتخار وغفلة. {وإن تُصبهم سيئة} ؛ بلاء ؛ من جدب ، أو ضيق ، أو مرض ، {بما} ؛ بسبب ما {قدمتْ أيديهم} من المعاصي ، أي : بشؤمها ، {إِذا هم يَقْنَطُون} ؛ ييأسون من رحمة الله ، وفرجِهِ بعد عسره. يقال : قَنِطَ يَقْنَطُ ، كفرح يفرح ، وكعلم.
(5/522)
الإشارة : الواجب على المؤمنين أن يختلفوا بضد ما تخلق به الكافرون ، فإذا مسهم ضر أو شدة ، توجهوا إلى الله ، إما بالتضرع والابتهال ؛ عبودية ، منتظرين ما يفعل الله ، وإما بالصبر ، والرضا ، والسكون تحت مجاري الأقدار. فإذا جاء الفرج والنعمة ؛ شكروا الله وحمدوه ، ونسبوا الفرج إليه وحده ، فإن كان وقع منهم سبب شرعي ؛ لم يلتفتوا إليه قط ؛ إذ لا تأثير له أصلاً ، وإنما الفرج عنده لا به ، فلا يقولوا : فلان ولا فلانة ، وإنما الفاعل هو الله الواحد القهار.
346
وهذا الشرك الخفي مما ابتلى به كثير من الناس ، علماء وصالحين ، وخصوصاً منهم من يتعاطى كتب الفلسفة ، كالأطباء وغيرهم ، إذا أصابهم شيء فزعوا ، فإذا فَرَّجَ عنهم ؛ قالوا : فلان داوانا ، وفلان فرَّج عنا ، والدواء الفلاني هو شفاني ، فتعالى الله عما يشكرون. فليشدّ العبدُ يده على التوحيد ، ولا يرى في الوجود إلا الفرد الصمد ، الفعّال لما يريد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 346
ومن أوصاف أهل الغفلة : أنهم ، إذا أصابتهم نعمة ، فرحوا وافتخروا بها ، وإذا أصابتهم شدة قنطوا وأيسوا من روح الله ، والواجب : ألا يفرح بما هو عارض فانٍ ، ولا ييأس من روح الله عند الشدة ، بل ينتظر من الله الفرج ، فإنَّ مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسرا. قال تعالى : {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِيا أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىا مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} [الحديد : 22 -23] الآية. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 346
(5/523)
يقول الحق جل جلاله : {أَوَلَمْ يروا أن الله يبسط الرزقَ لمن يشاءُ ويقدرُ} أي : يضيق على من يشاء ، فينبغي للعبد أن يكون راجياً ما عند الله ، غير آيس من روح الله ؛ إذ دَوَامُ حَالٍ من قضايا المحال ، {إن في ذلك لآياتٍ لقوم يؤمنون} ؛ فيستدلون بها على كمال قدرته وحكمته ، ولا يقفون مع شيء دونه. قال النسفي : أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه القابض الباسط ، فما لهم يقنطون من رحمته ؟ وما لهم لا يرجعون إليه ، تائبين من معاصيهم ، التي عوقبوا بالشدّة من أجلها ، حتى يعيد عليهم رحمته ؟
ولما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم ، أتبعه ذكر ما يحب أن يفعل وما يجب أن يترك ، يعني : عند البسط ؛ فقال : {فآت ذا القربى} ؛ أعطِ قريبك {حَقَّهُ} من البر والصلة مما بسط عليك. {و} أعط {المسكينَ وابنَ السبيل} حقهما ؛ من الصدقة الواجبة أو التطوعية ، حسبما تقتضيه مكارم الأخلاق. والخطاب لمن بسط عليه ، أو : للنبي - عليه الصلاة والسلام ، وغيره تبع. {ذلك} أي : إيتاء حقوقهم الواجبة ، والتطوعية ، {خيرٌ للذين يُريدون وَجْهَ الله} أي : ذاته المقدسة ، أي : يقصدون ، بمعروفهم ، إياه ، خالصاً. {وأولئك هم المفلحون} ؛ الفائزون بكل خير ، قد حَصَّلوا ، بما بسط لهم ، النعيم المقيم.
{وما آتيتم من رباً ليربو في أموالِ الناس} أي : وما أعطيتم من مال ؛ لتأخذوا من
347
أموال الناس أكثر منه ، كَيْفِيَّةً أو كَمِّيَّةً ، {فلا يربوا عند الله} ؛ ولا يبارك فيه ، بل يُسحته ويمحقه ، ولو بعد حين. وهذه صورة الربا المحرمة ، إجماعاً ، وقيل : وما أعطيتم من هدية ؛ لتأخذوا أكثر منها ، فلا يربو عند الله ، لأنكم لم تقصدوا به وجه الله. وهذه ؛ هدية الثواب ، جائزة ، إلا في حقه - عليه الصلاة والسلام ؛ لقوله تعالى : {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر : 6]. وقرأ ابن كثير : " أتيتم " ؛ بالقصر ، بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. وقرأ نافع : " لتُرْبُوا " بالخطاب ، أي : لتصيروا ذَوِي ربا ، فتزيدوا في أموالكم.
{
(5/524)
جزء : 5 رقم الصفحة : 347
وما آتيتم من زكاةٍ} ؛ صدقة ، {تُريدون وجه الله} ؛ تبتغون به وجهه ؛ خالصاً ، لا تطلبون به زيادة ، ولا مكافأة ، ولاسمعة ، {فأولئك هم المضْعِفُونَ} أي : ذوو الأَضْعَافِ من الحسنات ، من سبعمائة فأكثر. ونظير المُضْعِفِ : المقوي ، والموسر ، لذي القوة واليسار. والالتفات إلى الخطاب في (أولئك...) إلخ في غاية الحسن ؛ لما فيه من التعظيم ، كأنه خاطب الملائكة وخواص الخلق ؛ تعريفاً بحالهم ، وتنويهاً بقدرهم ، ولأنه يفيد التعميم ، كأنه قيل : مَنْ فَعَلَ هذا فسبيله سبيل المخاطبين المقبول عليهم. ولا بد من ضمير يعود إلى " ما " الموصولة ، أي : المضعفون به. أو : فَمُؤْتُوه أولئك هم المضعفون. وقال الزجاج : أي : فأهلها هم المضعفون ، أي : يضاعف لهم الثواب ، من عشر إلى سبعمائة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : البسط والقبض يتعاقبان على العبد تَعَاقُبَ الليل والنهار. فالواجب على العبد : الرجوعُ إلى الله في السراء والضراء ، فالبسط يشهد فيه المنّة من الله ، ومقتضى الحق منك الحمدُ والشكر. والقبض يشهده من الله امتحاناً وتصفية ، ومقتضى الحق منك الصبرُ والرضا ، وانتظار الفرج من الله ؛ فإن انتظار الفرج ، مع الصبر ، عبادة. قال القشيري : الإشارة إلى ألا يُعلِّق العبدُ قلبَه إلا بالله ، لأن ما يسوءهم ليس زواله إلا من الله ، وما يسرهم ليس وجودُه إلا من الله. فالبسطُ ، الذي يسرهم ويؤنسهم منه ، وجوده ، والقبض ، الذي يسوءهم ويحوشهم منه ، حصولُه. فالواجب : لزوم عهوده بالإسرار ، وقطعُ الأفكار عن الأغيار. هـ.
(5/525)
وقال في قوله : {فآتِ ذا القربى حَقَّه} : القرابة على قسمين ؛ قرابةُ النسب وقرابةُ الدين ، وهي أمسُّ ، وبالمواساة أحقُّ. وإذ كان الرجلُ مشتغلا بالعبادة ، غيرُ متفرَغ لطلب المعيشة ، فالذي له إيمان بحاله ، وإشرافٌ على وقته ، يجب عليه أن يقوم بشأنه ، بقدر ما يمكنه ، مما يكون له عونٌ على طاعته ، مما يشوش قلبه ، من حديث عياله ، فإن كان اشتغال الرجل بشيء من مراعاة القلب فحقّه آكد ، وتَفَقُّدَه أوْجَب ، {ذلك خير للذين يريدون وجه الله} ، والمريدُ هو الذي يُؤْثِرُ حقَّ الله على حظِّ نَفْسِه. فإيثارُ الإخوان ، لمن يريد وجه الله ، أتمُّ من مراعاة حال نفسه ، فهمّه بالإحسان لذوي القربى والمساكين يتقدم على نظره لنفسه وعَيْلَتِهِ ، وما يهمه من نصبيه. هـ.
348
وقال في قوله : {يُريدون وجه الله} : لا تستخدم الفقير بما تُريده به من رفق ، بل أفضل الصدقة على ذي رَحمٍ كاشح ، أي : قاطع ؛ حتى يكون إعطاؤُه لله مجرداً عن كل نصيبٍ لَكَ. فهؤلاء هم الذين يتضاعِفُ أجِرْهم بمجاهدتهم لنفوسهم ، حيث يخالفونها ، وفوزهم بالعِوَضِ من قِبَل الله. ثم الزكاة هي التطهير ، فتطهيرُ المال معلومٌ ببيان الشريعة ، وزكاة البَدَنِ ، وزكاةُ القلبِ ، وزكاةُ السِّر ، كلُّ ذلك يجب القيام به. هـ. قلت : فزكاة البدن : إتعابه في القيام بوظائف العبودية الظاهرة ، وزكاة القلب : تطهيره من الرذائل وتحليته بالفضائل ، وزكاة السر : صيانته من الميل إلى شيء من السِّوى. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 347
قلت : (الله) : مبتدأ ، و (الذي خلقكم) خبر.
(5/526)
يقول الحق جل جلاله : {الله الذي خلقكم} ؛ أظهركم {ثم رزقكم} ما تقوم به أبدانكم ، {ثم يُميتكم} عند انقضاء آجالكم ، {ثم يُحييكم} ؛ عند بعثكم ؛ ليجازيكم على فعلكم ، أي : هو المختص بالخلق والرزق ، والإماتة ، والإحياء. {هل من شركائكم} ؛ أصنامكم {من يفعل من ذلكم من شيء} أي : الخلق ، والرزق ، والإماتة ، والإحياء ، {هل من شركائكم} ؛ أصنامكم {من يفعل من ذلكم من شيء} أي : الخلق ، وارزق ، والإماتة ، والإحياء ، {من شيء} أي : شيئاً من تلك الأفعال ؟ فلم يجيبوا ، عجزاً ، فقال استبعاداً وتنزيهاً : {سبحانه وتعالى عما يشركون}.و " من " ؛ الأولى ، والثانية ، والثالثة : زوائد ؛ لتأكيد عجز شركائهم ، وتجهيل عَبَدَتِهِمْ.
الإشارة : ذكر الحق تعالى أربعة أشياء متناسقة أنه هو فاعلها ، فأقر الناس بثلاثة ، وشكُّوا في الرزق ، وقالوا : لا يكون إلا بالسبب ، والسبب إنما هو ستر لسر الربوبية. فإذا تحقق وجوده في حق العامة ارتفع حق الخاصة ، فيرزقهم بلا سبب ، لقوله تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق : 2 ، 3].
قال القشيري : حين قذفك في بَطْنِ أُمّك قد كنت غنياً عن الأكل والشراب بقدرته أو مفتقراً إليه ، فأجرى رزقه عليك مع الطمث ، على ما قالوا ، وإذا أخرجك من بطن أمك رزقك على الوجه المعهود في الوقت المعلوم ، فيسر لك أسباب الشُرْب والأكل من لبن الأم ، ثم من فنون الطعام ، ثم أرزاق القلوب والسرائر ، من الإيمان والعرفان ، وأرزاق التوفيق ؛ من الطاعات والعبادات ، وأرزاق اللسان ؛ من الأذكار ، وغير ذلك مما جرى ذكره. {ثم يُميتكم} بسقوط شهواتكم ، ويُميتكم عن شواهدكم ، {ثم يحييكم} بحياة
349
(5/527)
قلوبكم ، ثم بأن يحييكم بربكم. ويقال : من الأرزاق ما هو وجود الأرفاق ، ومنها ما شهود الرزاق ، ويقال : لا مُكْنَةَ لك في تبديل خلقك ، فكذلك لا قدرة لك على تغيير رزقك. فالمُوَسَّع عليه : رزقه بفضل ربه ، لا بمناقب نفسه. والمُقَتّر عليه رزقُه بحُكم ربه لا بمعايب نفسه. هـ. وبعضه بالمعنى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 349
يقول الحق جل جلاله : {ظهر الفسادُ في البر والبحر} ، أما الفساد في البر ، فكالقحط ، وقلة الأمطار ، وعدم الريع في الزراعات والربح في التجارات ، ووقوع الموتان في الناس والدوابّ ، ومحق البركات من كل شيء. وأما في البحر ؛ فبكثرة الغرق ، وانقطاع صيده. {بما} ؛ وذلك بسبب ما {كسبتْ أيدي الناس} من الكفر والمعاصي ، ولو استقاموا على الطاعة لدفع الله عنهم هذه الآفات. أظهر فيهم ذلك {ليذيقهم بعض الذي عملوا} أي : ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا ، قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة ، عن " قُنْبل ويعقوب " : بنون التكلم. {لعلهم يرجعون} عما هم عليه من المعاصي.
{قل} لكفار قومك {سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلُ} ؛ لتُعاينوا ما فعلنا بهم بسبب كفرهم ومعاصيهم ؛ لأنه {كان أكثرُهم مشركين} ؛ فدمرناهم ، وخربنا ديارهم ، فانظروا : كيف كان عاقبتهم ، لعلكم ترجعون عن غَيكم.
الإشارة : قال القشيري : الإشارة في البَرِ إلى النَّفْسه ، وفي البحر إلى القلب ، وفسادُ البرّ بأَكْلِ الحرام وارتكاب المحظورات ، وفسادُ البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة ، مثل سوء العزم ، والحسد والحقد ، وإرادة الفسوق ، وغير ذلك. وعَقْدُ الإصرار على المخالفات من أعظم فساد القلب ، كما أنَّ العَزْمَ على الخيرات ، قبل فِعْلها ، من أعظم الخيرات. ومن جملة الفساد : التأويلاتُ بغير حقٍّ ، والانحطاطُ إلى الرُّخَصِ من غير قيام بحقٍ ، والإغراق في الدعاوى من غير استحياء. هـ.
(5/528)
قال الورتجبي : إن الله غلب الإنسانية على الكون ؛ طاعةً ومعصية ، فإذا رزق الإنسان الطاعة صلح الأكوان ببركتها ، وإذا رزق المعصية فسد الحدثان بشؤم معصيته ؛ لأن طاعته ومعصيته من تواثير لطفه وقهره ، عَلاَ بنعت الاستيلاء على الوجود ، فإذا فسادها يؤثر في بَرِّ النفوس وبحار القلوب ، ففساد بَرَّ النفوس : فَتْرَتُهَا عن العبودية ، وفساد بحر القلب :
350
احتجابه عن مشاهدة أنوارالربوبية. هـ.
قلت : وقد يقال : ظهر الفساد في بر الشريعة ؛ بذهاب حَمَلَتِهَا ، ومن يحفظها ، ويذب عنها ، وفي بحر الحقيقة ؛ بقلة صدق من يطلبها ، وغربة أهلها ، واختفائها حتى اندرست أعلامها ، وخفي آثارُها ، والبركة لا تنقطع. وذلك بسبب ما كسبت أيدي الناس ؛ من إيثار الدنيا على الله ؛ ليذيقهم وبال القطيعة ، لعلهم يرجعون إليه ، إما بملاطفة الإحسان ، أو بسلاسل الامتحان.
جزء : 5 رقم الصفحة : 350
قال في لطائف المنن : سأل بعضُ العارفين عن أولياء العدد ، هل ينقصون ؟ فقال : لو نقص منهم واحد ؛ ما أرسلت السماء قَطْرَهَا ، ولا أنبتت الأرض نباتها ، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم ، ولا بنقص أمداداهم ، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع اختفائهم ، مع وجود بقائهم. فإذا كان أهل الزمان مُعْرضين عن الله ، مؤثرين لما سوى الله ؛ لا تنجح فيهم الموعظة ، ولا تميلُهم التذكرة ، لم يكونوا أهلاً لظهور أولياء الله تعالى فيهم ، ولذلك قالوا : أولياء لله عرائس ولا يرى العرائسَ المجرمون. هـ.
قال القشيري : (قل سيروا) ؛ بالاعتبار ، واطلبوا الحقَّ بنعت الافتكار ، وانظروا : كيف كان حال من تقدمكم من الأشكال والأمثال ؟ وقيسوا عليها حُكْمَكم في جميع الأحوال ، (كان أكثرهم مشركين) : كان أكثرهم عدداً ، ولكن أقل في التحقيق ؛ وزناً وقَدْراً. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 350
(5/529)
يقول الحق جل جلاله : {فأقمْ وجهَكَ} أي : قوّمه وَوَجّهّه {للدين القَيِّم} ؛ البليغ في الاستقامة ، الذي لا يتأتى فيه عوج ولا خلل. وفيه ، من البديع ، جناس الاشتقاق.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأمتُه تبع ، أو : لكل سامع. {من قبل أن يأتي يومٌ} ؛ وهو البعث ، {لا مَرَدَّ له} أي : لا يقدر أحد على رده ، {من الله} : متعلّق بيأتي ، اي : من قبل ان يأتي من الله يوم لا يردّه أحد ، أو بمرد ؛ لأنه مصدر ، أي : لا مرد له من جهة الله ، بعد أن يجيء ؛ لتعلق الإرادة به حينئذٍ. {يومئذ يَصَّدَّعُونَ} ؛ يتصدّعون ، فأدغم التاء في الصاد.
وفي الصحاح : الصدع : الشق ، يقال صدعته فانصدع ، أي : انشق. وتصدّع القوم : تفرقوا. هـ. أي : يفترقون ؛ فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم أشار إلى غِنَاهُ عنهم ، فقال : {من كَفَرَ فعليه كفرُهُ} ؛ وبال كفره ، لا يحمله عنه غيره. {ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يَمْهَدُون} أي : يسوون لأنفسهم في قبورهم ، أو : في
351
الجنة ما يسوي لنفسه الذي يمهد فراشه ويُوطئه ؛ لئلا يصيبه في مَضْجَعِهِ ما ينغص عليه مَضْجَعَهُ. وتقديم الظرف في الموضعين ؛ للاختصاص ، أي : فلا يجاوز عمل أحد لغيره.
ثم علل ما أمر به من التأهب ، فقال : {ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصاحات} ، أظهر في موضع الإضمار ، أي : ليجزيهم ، ليدل عى أنه لا ينال هذا الجزاءَ الجميلَ إلا المؤمن ، لصلاح عمله. أثابه ذلك {من فضله} أي : بِمَحْضِ تفضله ، إذ لا يجب عليه شيء ، {إنه لا يُحب الكافرين} ، بل يبغضهم ويمقتهم ، وفيه إيماء إلى أنه يحب المؤمنين ، وهو كذلك ، ولا سيما المتوجهين.
(5/530)
الإشارة : أمر الحق تعالى بالتوجه إليه ، والتمسك بالطريق التي تُوصل إليه ، قبل قيام الساعة ؛ لأن هذه الدار هي مزرعة لتلك الدار ، فمن سار إليه هنا وعرفه ؛ عرفه في الآخرة ، ومن قعد هنا مع هواه ، حتى مات جاهلاً به ، بُعِثَ كذلك ، كما هو معلوم. ولا يمكن التوجه والظفر بالطريق الموصلة إليه تعالى إلا بشيخ كامل ، سلك الطريق وعرفها. ومن رام الوصول بنفسه ، أو بعلمه ، أو بعقله ؛ انقطع لا محالة. قال القشيري : {فأقم وجهك للدين القيّم} : أَخْلِص قصْدَك ، وصِدْقَ عَزْمِكَ ، بالموافقة للدين القيِّم ، بالاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع. ومَنْ لم يتأدب بمَنْ هو إمامُ وقته ، ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته ، كان خُسْرانُه أتَمَّ من ربْحه ، ونقصانُه أَعَمَّ من نفعه. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 351
قلت : (وليذيقكم) : عطف على (مبشرات) ؛ على المعنى ، كأنه قيل : لتبشركم وليذيقكم ، أو : على محذوف ، أي : ليغيثكم وليذيقكم.
يقول الحق جل جلاله : {ومن آياته} الدالة على كمال قدرته : {أن يُرسلَ الرياحَ} ، وهي الجَنُوبُ ، والصَّبا ، والشمال والدَّبُورُ ، فالثلاث : رياح الرحمة ، والدبور : ريحُ العذاب ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " اللهم اجعلها رياحاً ، ولا تجعلها ريحاً " وقال : " نُصرْتُ بالصِّبَا ، وأُهْلِكتَ عادٌ بالدَّبُورُ " ، وهي الريح العقيم. وقرأ ابن كثير والأَخَوان : بالإفراد ، على إرادة الجنس.
ثم ذكر فوائد إرسالها بقوله : {مبشرات} أي : أرسلها بالبشارة بالغيب {وليُذِيقَكُم من رحمته} ؛ ولإذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر ، وحصول الخصب الذي يتبعه ، والرّوح
352
الذي مع هبوب الريح ، وزكاء الأرض ، أي : ربوها وزيادتها بالنبات ، وغير ذلك من منافع الرياح والأمطار. قال الحسن : لو أمسك الله عن أهل الأرض الريح ساعة لَمَاتُوا ؛ غَمَّا.
(5/531)
{ولِتجريَ الفلكُ} في البحر عند هبوبها {بأمره} ؛ بتدبيره ، أو بتكوينه ، لقوله : {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً...} [يس : 82] الآية. قيل : إنما زاد بأمره ؛ لأنها قد تهب غير مُوَاتِيَةٍ ، فتُغرق ، وهي عند أمره أيضاً ، فهي على حسب أمره ، ولأن الإسناد وقع للفلك ؛ مجازاً ، فأخبر أنه بأمره ، {ولتبتغوا من فضله} ، يريد به تجارة البحر ، {ولعلكم تشكرون} هذه النعم ؛ فيزيدكم من فضله.
الإشارة : ومن آياتِ فَتْحِهِ على أوليائه : أن يرسل رياح الهداية أولاً ، ثم رياح التأييد ، ثم رياح الواردات ، تحمل هدايا التَّعَرُّفَاتِ ، مبشرات بالفتح الكبير ، والتمكين في شهود العلي الكبير ، وليذيقكم من رحمته ، وهي حلاوة معرفته ، ولتجريَ سفن الأفكار في ميادين بحار توحيده ، ولتبتغوا من فضله ، هو الترقي في الكشوفات والعلوم والأسرار ، أبداً سرمداً ، ولعلكم تشكرون ؛ بالقيام برسوم الشريعة وآداب العبودية.
قال القشيري : يرسل رياحَ الرجاءِ على قلوب العُبَّاد ، فتكنس قلوبهم من غبار الحسد وغُثَاء النفس ، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق ، فتحملهم إلى بساط الجُهْدِ ، وتكرمهم بقوى النشاط. ويرسل رياحَ البَسْطِ على أرواح الأولياء فتطهرها من وَحْشَةِ القبض ، وتنشر فيه لذاذات الوصال ، ويرسل رياحَ التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء ، فتطهرها من آثار الأغيار ، وتبشرها بدوام الوصال ، فذلك ارتياحٌ به ، ولكن بعد اجتناحٍ عنك. هـ. أي : بعد ذهابٍ عنك وزوال. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 352
قلت : (حقاً) : خبر " كان " ، و(نصر) : اسمها. أو : (حقاً) : خبر " كان " ، واسمها : ضمير الانتقام ، فيوقف عليه ، و(علينا نصر) : مبتدأ وخبر.
(5/532)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد أرسلنا مِن قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءهم بالبينات} ؛ بالمعجزات البينات الواضحات ، فكذبوهم ؛ {فانتقمنا من الذين أجرموا} بالتدمير ، {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين} أي : وكان نصر المؤمنين ، بإنجائهم من العذاب ، حقاً واجباً علينا بإنجاز وعدنا ؛ إحساناً. أو : وكان الانتقام من المجرمين حقاً لا شك فيه ، ثم علينا ، من جهة الإحسان ، نصر المؤمنين. قال البيضاوي : فيه إشعار بأن الانتقام لهم - أي : من عدوهم - إظهار لكرامتهم ، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم. وعنه. صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يُردّ عن عِرْضِ أَخِيه ، إلا كان حقاً على الله أن
353
يردّ عنْه نارَ جهنم " ، ثم تلا الآية. أي : {وكان حقاً علينا..} إلخ. الإشارة : هكذا جرت سُنَّة الله تعالى ، مع خواصه ، أن ينتقم ممن آذاهم ، ولو بعد حين. وقد يكون الانتقام باطناً ، بنقص الإيمان وقساوة القلب ، وهو أقبح. قال القشيري : فانتقمنا من الذين أجرموا ، وأخذناهم من حيث لا يحتسبوا ، وشَوَّشْنا عليهم ما أمَّلوا ؛ ونقصنا عليهم ما استطابوا وتَنَعَّموا. {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين}. وَطِئَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ بأعقابهم فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى رَقَّيْنَاهُمْ فوق رقابهم ، وخرَّبنا أوطانهم ، وهدَّمنا بنيانهم ، وأخمدنا نيرانهم ، وعَطَّلْنا عليهم ديارَهم ، ومحونا ، بقهْر التدمير ، آثارَهم ، فظَلتْ شموسُهم كاسفة ، ومكيدةُ قهْرنا لهم ، بأجمعهم ، خاسفة. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 353
(5/533)
يقول الحق جل جلاله : {اللهُ الذي يُرسل الرياحَ} الأربع. وقرأ المكي : بالإفراد. {فتُثير} أي : تزعج {سحاباً فيبسُطُه في السماء} أي : يجعله منبسطاً ، متصلاً بعضه ببعض في سَمت السماء ، كقوله : {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ} [إبراهيم : 24] ، أي : جهته. فيبسطها في الجو {كيف يشاء} ؛ سائراً أو واقفاً ، مطبقاً وغير مطبق. من ناحية الشمال أو الجنوب ، أو الدََّبُورِ ، أو الصَّبَا ، {ويجعله كِسَفا} أي : قطعاً متفرقة. والحاصل : أنه تارة يبسطه متصلاً مطبقاً ، وتارة يجعله قطعاً متفرقة ، على مشيئته وحكمته. {فترى الوَدْقَ} ؛ المطر {يَخْرجُ من خِلاله} ؛ وسطه.
{فإِذا أصاب به} ؛ بالودق {من يشاء من عباده} ، يريد إِصابةَ بلادهم وأراضيهم ، {إذا هم يستبشرون} ؛ يفرحون بالخصب ، {وإن كانوا من قبل أن يُنَزَّل عليهم} المطر {من قبله لمُبلسينَ} ؛ آيسين ، وكرر " من قبله " ؛ للتوكيد ، وفائدته : الإعلام بسرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار ، أو : على أن عهدهم بالمطر قد تطاول ؛ فاستحكم يأسُهُم ، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
{فانظرْ إلى آثار رحمةِ الله} أي : المطر {كيف يُحيي الأرضَ} بالنبات وأنواع الثمار {بعد موتها} ؛ يبسها {إن ذلك} أي : القادر عليه {لمحيي الموتى} ؛ فكما أحيا الأرض بعد يبسها ، يحيي الأجساد بعد رميمها ، {وهو على كل شيءٍ قدير} ، وهذا من
354
جمل مقدوراته تعالى.
(5/534)
الإشارة : الله الذي يرسل رياح الواردات الإلهية ، فتنزعج سحاب الآثارعن عين الذات العلية ، فتبقى شمس العرفان ، ليس دونها سحاب ، فيبسطه في سماء القلوب كيف يشاء ، فيقع الاحتجاب لبعضها ، ويصرفه عمن يشاء فيقع التجلي والظهور ، ويجعله كسفاً لأهل الاستشراف ، فتارة ينجلي عنهم سحاب الآثار ، فيشاهدون الأنوار ، وتارة تغطيهم سُحب الآثار ، فيشاهدون الأغيار ، فترى مَطَرَ خَمْرَةِ الفناءِ تخرج من خلاله ، فإذا أصاب به من يشاء من عباده ، إذا هم يستبشرون بأنوار معرفته وأسرار ذاته. وقد كانوا قبل ذلك مبلسين ، آيسين ، حين كانت نفوسهم غالبةً عليهم. فانظر كيف أحيا أرض قلوبهم بعد موتها بالجهل والغفلة. وهذا مثال من كان منهمكاً ثم سقط على شيخ ذي خمرة أزلية ، فسقاه حتى حَيِيَ بمعرفة الله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 354
قال القشيري : الله الذي يرسل رياح عَطْفِه وجُودِه ، مبشراتٍ بجوده ووَصْله ، ثم يُمْطِر جودَ غيثِه على أسراره ، ويطوي بساطَ الحشمة عن مناجاة قُرْبِه ، وبضرب قبابَ الهيبة بمشاهد كَشْفِه ، وينشر عليهم أزهار أُنْسِه ، ثم يتجلَّى لهم بحقائق قُدْسِه ، ويسقيهم بيده شراب حُبِّه. وبعد ما محاهم عن أوصافهم ؛ أصحاهم ، لا بهم ، ولكنْ بِنَفْسه. والعبارات عن ذلك خُرْسٌ ، والإشارات ، دونه ، طُمْسٌ.
(5/535)
وقال في قوله تعالى : {فانظر إلى آثار رحمة الله...} الآية : يحيي الأرض بأزهارها وأنوارها عند مجيء أمطارها ، ليُخرجَ زَرْعَها وثمارَها ، ويحي النفوس بعد تَفْرِيقها ، ويوفقه للخيرات بعد فترتها ، فتعمر أوطان الوفاق بصدق إقدامهم ، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم ، وتحيي القلوبُ ، بعد غفلتها ، بأنواع المحاضرات ، فتعود إلى استدامة الذكر بحُسْنِ المراعاة ، ويهتدي بأنوار أهلها أهلُ العصر من أهل الإرادات ، ويحيي الأرواح بعد حجْبتَها بأنوار المشاهدات ، فتطلع شموسُها من بُرْجِ السعادة ، ويتصل ، بمشامِّ أسرار الكافة نسيمُ ما يُفيض عليهم من الزيادات ، فلا يبقى صاحبُ نَفَسٍ إلا حَظِيَ منه بنصيب ، ويُحْيي الأسرارَ بأنوار المواجهات. وما كان لها إلا وَقْفَةٌ في بعض الحالات ، فتنتفي ، بالكلية ، آثارُ الغَيْرِيَّةِ ، ولا يَبْقَى في الديار ديَّار ، ولا من سكانها آثار ، وسَطَواتُ الحقائق لا تثبت لها ذَرَّةٌ من صفات الخلائق ؛ هنالك الولاية لله الحق.. انتهى المراد منه مع زيادة بيان.
جزء : 5 رقم الصفحة : 354
355
قلت : اجتمع القسم والشرط ، فذكر جواب القسم وأغنى عن جواب الشرط.
والضمير في (رأوه) : يعود على النبات المفهوم مما تقدم من أحياء الأرض ، أو : على السحاب.
(5/536)
يقول الحق جل جلاله : {و} الله {لئن أرسلنا ريحاً} عاصفة على ما نبت في الأرض من الزروع وسائر الأشجار ، الذي هو أثر رحمة الله ، {فَرَأَوْه} أي : ما نبت في الأرض ، {مُصْفَرّاً} يابساً {لظلُّوا} أي : ليظلون {من بعده} أي من بعد اصفراره {يكفرون} ، ويقولون : ما رأينا خيراً قط ، فينسون النعم السابقة بالنقم اللاحقة. وهذه صفة أهل الغفلة ، وأما أهل اليقظة ؛ فيشكرون في أوقات النعم ، ويصبرون ويرضون في أوقات النقم ، وينتظرون الفرح بعد الشدة ، واليسر بعد العسر ، غير قَانِطِينَ ولا ضَجِرين. أو : ولئن أرسلنا ريحاً ؛ لتعذيبهم ، فرأوا سحابة صفراء ، لأنَّ اصفراره علامة على أنه لا مطر فيه ، لظلوا ، أي : للجوا من بعد ذلك على كفرهم وطغيانهم ، لانهماكهم.
قال البيضاوي : وهذه الآية ناعية على الكفار ، لقلة تثبيتهم ، وعدم تدبرهم ، وسرعة تزلزلهم ، لعدم تفكرهم ، وسوء رأيهم ، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله ، ويلتجئوا إليه ؛ بالاستغفار ، إذا احتبس القطر عنهم ، ولا ييأسوا من رحمته ، وأن يبادروا إلى الشكر واستدامة الطاعة ، إذا أصابهم برحمته ، ولم يبطروا بالاستبشار ، وأن يصبروا على بلائه ؛ إذا ضرب زروعهم بالاصفرار ، ولم يكفروا نعمه. هـ.
قال النسفي : ذمهم الله تعالى بأنهم ، إذا حبس عنهم المطر ، قنطوا من رحمته ، وضربوا أذقانهم على صدورهم ، مبلسين ، فإذا أصابهم برحمته ، ورزقهم المطر ، استبشروا ، فإذا أرسل الله ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ضجّوا ، وكفروا بنعمه ، وهم في جميع هذه الأحوال على صفة مذمومة ، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله. فقنطوا ، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها صفة مذمومة ، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله ، فقنطوا ، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ، ففرحوا وبطروا ، وأن يصبروا على بلائه ، فكفروا. هـ.
(5/537)
وهذه حال من مات قلبه ، قال تعالى : {فإنك لا تُسمع الموتى} أي : موتى القلوب ، وهؤلاء في حكم الموتى ؛ فلا تطمع أن يقبلوا منك ، {ولا تُسمع الصمَّ الدعاءَ} أي : لا تقدر أن تُسْمِعَ من كان كالأصم دعاءك إلى الله ، او : لا يقدرون أن يسمعوا منك ، {إِذا ولوا مدبرين} ، فإن قلت : الأصم لا يسمع ؛ مقبلاً أو مدبراً ، فما فائدة التخصيص ؟ قلت : هو إذا كان مُقبلاً يفهم بالرمز والإشارة ، فإذا ولّى فلا يفهم ، ولا يسمع ، فيتعذر إسماعه بالكلية. قاله النسفي.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 355
وما أنت بهادِ العُمي} أي : عُمْي القلوب. وقرأ حمزة : " ومات أنت تهدي العمي " ، {عن ضلالتهم} أي : لا تقدر أن تهدي الأعمى عن طريقه إذا ضلّ عنه ، بالإشارة إليه ، {إنْ} ؛ ما {تُسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} ؛ منقادون لأوامر الله ونواهيه.
356
الإشارة : من أصول طريقة التصوف : الرجوع إلى الله في السراء والضراء ، فالرجوع في السراء : بالحمد والشكر ، وفي الضراء : بالرضا والصبر. قال القشيري : {فإنك لا تُسمع الموتى..} إلخ : مَنْ فَقَدَ الحياةَ الأصلية ؛ لم يَعِشْ بالرُّقَى والتمائم ، وإذا كان في السريرة طَرَشٌ عن سماء الحقائق ، فَسَمْعُ الظواهر لا يفيد إلا تأكيد الحُجَّة ، وكما لم يُسمع الصمّ الدعاء ، فكذلك لا يمكنه أن يهدي العُمْيَ عن ضلالتهم. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 355
قلت : " الله " : مبتدأ ، والموصول : خبره.
يقول الحق جل جلاله : {الله} الذي يستحق ان يعبد وحده هو {الذي خلقكم من ضَعْف} أي : ابتدأكم ضُعفاء ، وجعل الضعف أساس أمركم ، أو : خلقكم من أصل ضعيف ، وهو النطفة ؛ كقوله : {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [المرسلات : 20] ، {ثم جعل من بعد ضعف قوةً} ، يعني : حال الشباب إلى بلوغ الأشد ، {ثم جعل من بعد قوةٍ ضَعْفاً وشَيْبَةً} ، يعني : حال الشيخوخة والهرم.
(5/538)
وقد ورد في الشيب ما يسلي عن روعة هجومه فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " من شاب شيبة الإسلام ؛ كانت له نوراً يوم القيامة " ، ولما رأى إبراهيم عليه السلام الشيب في لحيته قال : يارب ، ما هذا ؟ قال : هذا وقار. وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : " يا داود ، إني لأنظر الشيخ الكبير ، مساء وصباحاً ، فأقول له : عبدي ، كَبِرَ سِنُّكَ ، ورق جلدك ، ووهن عظمك ، وحان قدومك عليّ ، فاستحي مني ، فإني أستحيي أن أُعذب شَيْبَةًً بالنار ". ومن المُسْتَمْلَحَات ، مما يسلي عن رَوْعِ الشيب ، ما أنشد القائل :
لاَ يَرُوعُكِ الشِّيبُ يَا بِنْتَ
عَبْدِ الله ، فالشَّيبُ حُلْة وَوَقاَرُ
إِنَّمَا تَحْسُنُ الرِّيَاضُ إِذَا مَـ
ـا ضَحِكَتْ في خِلاَلِهَا الأَزْهَارُ
ثم قال تعالى : {يخلق ما يشاء} ؛ مِنْ ضعفٍ ، وقوةٍ ، وشباب ، وشيبة ، {وهو العليمُ} بأحوالهم ، {القديرُ} على تدبيرهم ؛ فيصيرهم إلى ذلك. والترديد في الأحوال أبين دليل على وجود الصانع العليم القدير. وفي " الضعف " : لغتان ؛ الفتح والضم. وهو أقوى سنداً في القراءة ، كما روي ابن عمر. قال : قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ضَعف " فأقرأني : " من ضُعْفٍ ".
357
الإشارة : إذا كُثف الحجاب على الروح ، وكثرت همومها ، أسرع لها الضعف والهرم ، وإذا رقّ حجابها ، وقلّت همومها ؛ قويت ونشطت بعْد هرمها ، ولا شك أن توالي الهموم والأحزان يهرم ، وتوالي البسط والفرح ينشط ، ويرد الشباب من غير إِبَّانِهِ ، والعارفون : فرحهم بالله دائم ، وبسطهم لازم ؛ إذ لا تنزل بساحتهم الهموم والأحزان ، وإنما تنزل بمن فقد الشهود والعيان ، كما قال في الحكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 357
(5/539)
قال القشيري : {خلقكم من ضعف} ، أي : ضعف عن حال الخاصة ، ثم جعل من بعد ضعف قوة ؛ بالوصول إلى شهود الوجود القديم ، ثم من بعد قوة ضعفاً ؛ بالرجوع إلى المسكنة أي : في حال البقاء ، قال صلى الله عليه وسلم : " اللهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين " هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 357
قلت : " لبثوا " : جواب القسم ؛ على المعنى ، وإلا لقيل : ما لبثنا.
يقول الحق جل جلاله : {ويوم تقوم الساعةُ} ، أي : القيامة. وسميت بذلك ؛ لأنها تقوم آخر ساعة من ساعات الدنيا ، ولأنها تقوم في ساعة واحدة ، وصارت عَلَماً لها بالغلبة ، كالنجم للثريا ، فإذا قامت {يُقسم المجرمون} ؛ يحلف الكافرون : {ما لبثوا} في قبورهم ، أو : في الدنيا ، {غيرَ ساعة} ، استقلّوا مدّة لبثهم في القبور ، أو : الدنيا ، لشدة هول المطلع ، أو : لطول مقامهم في أهوالها ، أو : ينسون ما لبثوا ، أو : يكذبون. {كذلك كانوا يُؤفكون} ، أي : مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الصدق والتصديق ، أو : عن الحق حتى يروا الأشياء على غير ما هي عليه ، ويقولون : ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.
{وقال الذين أُوثوا العلم والإيمان} ، أي : حَصَّلوا العلم بالله والإيمان بالبَعْثِ وهم الملائكة والأنبياء ، والمؤمنون : {لقد لبثتمْ في كتاب الله} ؛ في علم الله المثبت في اللوح ، أو : في حكم الله وقضائه ، أو : القرآن ، وهو قوله تعالى : " ومن ورائهم برزخ.. " إلخ ، أي : لقد مكثتم مُدَّةَ البرزخ {إلى يوم البعث} ، ردّوا عليهم ما قالوه ، وحلَّفُوهم عليه ، وأطلعوهم على حقيقة الأَمر ، ثم وَبَّخُوهُمْ على إنكار البعث بقولهم : {فهذا يَوْمُ
358
البعث} الذي كنتم تنكرونه ، {ولكنكم كنتم لا تعلمون} في الدنيا أنه حق ؛ لتفريطكم في طلب الحق ، واتباعه. والفاء جواب شرط مقدر ، ينساق إليه الكلام ، أي : إن كنتم منكرين للبعث ؛ فهذا يومه.
(5/540)
{فيومئذٍ لا تنفع الذين ظلموا} كفروا {مَعْذِرَتُهُم} : اعتذارهم ، والمعذرة : تأنيثها مجازي ، فيجوز التذكير والتأنيث ، {ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ} أي : لا يقال لهم : أَرْضُوا رَبَّكُمْ بالتوبة ، ولا يُدْعَوْنَ إلى استرضائه ، يقال : استعتبني فلان فأعْتَبْتُهُ ، أي : استرضاني فأرضيته.
الإشارة : كل من قصر في هذه الدار ، وصرف أيام عمره في البطالة ، يقصر عليه الزمان عند موته ، ويرجع عنده كأنه يوم واحد ، فحينئذٍ يستعتب ؛ فلا يُعتب ، ويطلب الرجعى ؛ فلا يُجاب ، فلا تسأل عن حسرته وخسارته ، والعياذ بالله ، وهذا كله مبين في القرآن.
جزء : 5 رقم الصفحة : 358
يقول الحق جل جلاله : {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مَثَلٍ} أي : بيَّنا لهم فيه من كل مثل ، ينبؤهم عن التوحيد والمعاد ، وصدق الرسل ، وغير ذلك ، مما يحتاجون إلى بيانه ، {ولئن جئْتَهم بآيةٍ} من الآيات الدالة على صدقك ، أو : القرآن. {ليقُولَنَّ الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون} ؛ مزورون. وإسناد الإبطال إلى الجميع ، مع أن المجيء بالحق واحد ؛ مراعاة لمن شايعه معه من المؤمنين ، أو : ولقد وصفنا كلّ صفة ، كأنها مثل ؛ في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن كقصة المبعوثين يقوم القيامة. وما يقولون ، وما يُقال لهم ، وما لا ينفع من اعتذارهم ، ولا يُسمع من استعتابهم ، ولكنهم ؛ لقسوة قلوبهم ، إذا جِئْتَهُمْ بآية من آيات القرآن ، قالوا : جئتنا بزور باطل. {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} ، أي : مثل ذلك الطبع - وهو الختم - يطبع الله على قلوب الجهلة ؛ الذين عِلَمَ اللهُ منهم اختيارَ الضلال ، حتى سمّوا المحققين مبطلين ، وهم أغرقُ خلق الله في تلك الصفة.
(5/541)
{فاصبرْ} على أذاهم وعدواتهم ، {إن وعْدَ الله} بنصرتك ، وإظهار دين الإسلام على كل دينٍ ، {حقٌ} لابد من إنجازه والوفاء به ، {ولا يستخفَّنَّك الذين لا يُوقنون} ؛ لا يحملَنَّك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفّة والعجلة في الرد عليهم ، أو : لا يحملنَّك على الخفة والقلق ؛ فزعاً مما يقولون ؛ فإنهم ضُلاَّل ، شاكّون ، لا يستغرب منهم ذلك. وقرأ يعقوب : بسكون النون ؛ على أنه نون التوكيد الخفيفة.
359
الإشارة : فقد بين الله في القرآن ما يحتاج السائرون إليه ، من علم الشريعة والطريقة والحقيقة ، لمن خاض بحر معانيه وأسراره. ولئن جئتهم بآية ، من غوامض أسراره ؛ ليقول أهل الجمود. هذا إلْحَاد وباطل. فاصبر ؛ إن وعد الله بالنصر لأوليائه حق ، ولا يحملنك علىالعجلة من لا يقين عنده. وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلَّم.
360
جزء : 5 رقم الصفحة : 359(5/542)
سورة لقمان
جزء : 5 رقم الصفحة : 360
قلت : {هُدىً ورحمةً} : حالان من الآيات ، والعامل : معنى الإشارة. ورفعمها حمزة على الخبر لتلك بعد حبر ، أو : خبر عن محذوف ، أي : هو ، أو : هي هُدى. والموصول : نعت للمحسنين ؛ تفسير لإحسانهم ، و(هم) : مبتدأ ، و(يُوقنون) : خبر. وتكريره الضمير ؛ للتوكيد ، ولِمَا حيل بينه وبين خبره.
يقول الحق جل جلاله : {الاـم} ؛ أيها المصطفى المقرب ، {تلك} الآيات التي تتلوها هي {آياتُ الكتابِ الحكيم} أي : ذي الحكمة البالغة ، أو : الذي أُحكمت آياته وأُتقنت ، أو : المحكَم الذي لا ينسخه كتاب. أو : المصون من التغيير والتبديل. حال كونه {هُدىً ورحمةً} ؛ هادياً لظواهرهم بتبيين الشرائع ، ورحمة لقلوبهم بتبين حقائق الإيمان ، ولأرواحهم بإظهار حقائق الإحسان. وقد تقدم هذا البيان في قوله : {إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ} [المائدة : 93] الآية. ولذلك خصه بقوله : {للمحسنين} ، فإنما يكون هدى ورحمة لأهل الإحسان ؛ لأنهم هم الذين يغوصون على أسراره ومعانيه. وهم {الذين يقيمون الصلاة} ؛ يتقنونها ، {ويؤتون الزكاة} على الوجه المشروع ، ويدفعونها لمن
361
يستحقها ، لا جزاءً ولا شكوراً ، ولا لجلب نفع أو دفع شر ، {وهم بالآخرة هم يوقنون} ، كأنها نُصْبَ أعينهم. وخص بالذكر هذه الثلاثة ؛ لفضلها ؛ فإن الصلاة عماد الدين ، والزكاة قرينتها ؛ لأن الأولى عبادة بدنية ، والثانية مالية ، والآخرة هي دار الجزاء ، فلولا وقوعها لكان وجود هذا الخلق عبثاً ، وتعالى الله عنه علواً كبيراً.
ثم مدح المتصف بتلك الخصال فقال : {أولئك على هُدىً من ربهم} أي : راكبون على متن الهداية ، متمكنون منها ، {وأولئك هم المفلحون} ، الفائزون بكل مطلوب.
الإشارة : قال القشيري : {الاـم} ، الألف إشارة إلى آلائه ، واللام إلى لطفه ، والميم إل مجده وسنائه ، فبآلائه دفع الجَحْدَ عن قلوب أوليائه ، وبلطف عطائه أثبت المحبةَ في أسرار أصفيائه ، وبمجده وسنائه هو مستغنٍ عن جميع خَلْقِه بوصف كبريائه. هـ.(5/543)
ثم وصف كتابه بأنه هاد للسائرين ، رحمة للواصلين ؛ إذ لاتكمل الرحمة إلا بشهود الحبيب ، يكلمك ويناجيك ، وهذه حالة أهل مقام الإحسان. قال القشيري : وشَرْطُ المحْسِنِ أن يكون محسناً إلى عباد الله : دانيهم وقاصيهم ، مطيعِهم وعاصيهم. ثم قال : {الذين يُقيمون الصلاة} ؛ يأتون بشرائطها في الظاهر - ثم ذكرها - ، وفي الباطن يأتون بشروطها ؛ من طهارة السَّرَّ عن العلائق ، وسَتْرِ عورة الباطن ، بتنقيته من العيوب ؛ لأن ما كان فيه فالله يراه. فإذا أرَدْتَ أن لا يرى اللهُ عيوبَك فاحْذَرْها حتى لا تكون. والوقوف على مكان طاهر : هو وقوف القلب على الحدِّ الذي أُذن فيه ، مما لا يكون فيه دعوى بلا تحقيق ، بل رَحِمَ الله مَن وقف عند حدِّه بالمعرفة بالوقت ، فيعلم وقت التذلُّل والاستكانة ، ويميز بينه وبين وقت السرور والبسط ، ويستقبل القبلة بَنْفسِه ، ويعلق قلبه بالله ، من غير تخصيص بقطْرِِ أو مكان {أولئك على هدى من ربهم} ؛ وهم الذين اهتدوا في الدنيا ، وسَلِموا ونَجوْا في العُقْبَى. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
يقول الحق جل جلاله : {ومن الناس من يشتري لَهْوَ الحديث} أي : ما يلهى به عما يقرب إلى الله ؛ كالأحاديث التي لا أصل لها ، والخرافات التي لا حقيقة لها ، والمضاحك ، وفضول الكلام. قيل : نزلت في النَّضر بن الحارث ، كان يخرج إلى فارس للتجارة ، فيشتري أخبار الأعاجم ، ثم يُحدث قريشاً بها ، ويقول : إن محمداً يُحدثكم بأخبار عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رُسْتُم ، وأخبار الأكاسرة ، فيستملحُون حديثه ولا يسمعون القرآن.
362
وقيل : كان يشتري القيان ، ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ؛ ليصده عنه.
(5/544)
والإشتراء من الشراء ، كما تقدم عن النضر ، ومن البدل ، كقوله : {اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} [آل عمران : 177]. استبدلوه واختاروه ، أي : يختار حديث الباطل على حديث الحق. وإضافة اللهو إلى الحديث ، للتبيين بمعنى " من " ؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره ، فيبين بالحديث ، والمراد بالحديث : الحديث المكروه ، كما جاء في الحديث : " الحديث في المسجد يأكل الحسنات ، كما تأكل البهيمة الحشيش " ، أو : للتبعيض ، كأنه قيل : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي فيه اللهو. وقال مجاهد : يعني : شراء المغنيات والمغنيين ، أي : يشتري ذات لهو ، أو ذا لهو الحديث. وقال أبو أمامة : قال عليه الصلاة والسلام : " لا يحل تعليم المغنيات ، ولا بيعهن ، وأثْمانُهنَّ حرام " وفي مثل هذا نزلت هذه الآية ، ثم قال : " وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب ، والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يسكت ". قلت : هذا مقيد بِشِعْرِ الهوى لأهل الهوى ، وأما أهل الحق الذين يسمعون من الحق ، فلا يتوجه الحديث لهم ، وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. ثم قال أبو أمامة رضي الله عنه عَنْهُ صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى بعثني هدةى ورحمة للعالمين ، وأمرني ربي بمحو المعازف والمزامير والأوثان ، والصلب وأمر الجاهلية ، وحلف ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة خمر متعمداً إلا سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة ، مغفوراً له أو معذباً ، ولا سقاها غيره إلا فعلت به مثل ذلك ، لا يتركها عبد من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة " انظر الثعلبي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 362
(5/545)
ثم قال تعالى : {ليضل عن سبيل الله} أي : فعل ذلك لِيَضل هو عن طريق الله ودينه ، أو ليُضل غيره عنه ، أو عن القرآن ، {بغير علم} أي : جهلاً منه بما عليه من الوزر. {ويتخذها} أي : السبيل {هُزُواً} وسخرية. فمن رفع : استأنف ، ومن نصب ، عطفها على (ليضل) ، {أولئك لهم عذاب مهين} يُهِينُهم ويخزيهم ، و " مَنْ " ، لإبهامه ، يقع على الواحد والجمع ، والمراد : النضر ومن تبعه. {وإذا تُتلى عليه آياتنا وَلَّى مُستكبراً} ؛ أعرض عن تدبرها متكبراً رافعاً نفسه عن الإصغاء إلى القرآن ، {كأن لم يَسْمَعْهَا} ؛ كأنه لم يسمعها ، ولا ذُكرت على سمعه. شبَّه حاله بحال من لم يسمعها قط ، {كأنَّ في أذنيه
363
وقراً} ؛ ثَِقَلاً وصمماً ، {فبشره بعذابٍ أليم} ؛ أَخْبِرْه بأن العذاب يُوجعه لا محالة. وذكر البشارة على سبيل التهكم. وهذا في مقابلة مدح المحسنين المقيمين المزكين. فكما قال في المحسنين : {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} ، قال في هؤلاء : {أولئك لهم عذاب مهين} ، بعد أن وصفهم بالضلال والإضلال ، في مقابلة المحسنين بالهداية والفلاح. والله تعالى أعلم.
(5/546)
الإشارة : لهو الحديث هو كل ما يشغل عن الله ، ويصد عن حضرة الله ، كائناً ما كان ، سواء كان غناء أو غيره ، وإذا كان الغناء يهيج لذكر الله ، ويحرك الروح إلى حضرة الله ، كان حقاً ، وإذا كان يحرك إلى الهوى النفساني كان باطلاً. والحاصل : أن السماع عند الصوفية ركن من أركان الطريقة ، بشروط الثلاثة : الزمان والمكان والإخوان. وقد ألف الغزالي تأليفاً في تكفير من أطلق تحريم السماع. وقال في الإحياء ، في جملة من احتج به المُحَرِّمُ للسماع : احتج بقوله تعالى : {ومن الناس من يشتري لَهْوَ الحديث} ، وقد قال ابن مسعود والنخَعي والحسن : إنه الغناء. وأجاب ما حاصله : أنه إنما يحرم إذا كان استبدالاً بالدين ، وليس كل غناء بدلاً عن الدين ، مُشْتَرَىً به ، ومضلاً عن سبيل الله ، ولو قرأ القرآن ليضل عن سبيل الله كان حراماً. كما حكي عن بعض المنافقين ؛ أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا بسورة عبس ، لما فيها من العتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهَمَّ عمرُ بقتله. فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم. هـ. وأما إن لم يكن شيء من ذلك ، فلا يحرم.
وقال في القوت ، في كتاب المحبة : ولم يزل الحجازيون ، عندنا بمكة ، يسمعون السماع في أفضل أيام السنة ، وهي الأيام المعدودات ، التي أمر الله عز وجل عبادَه فيها بذكره ، أيام التشريق ، من وقت عطاء بن أبي رباح ، إلى وقتنا هذا ، ما أنكره عالم ، وكان لعطاء جاريتان تُلَحِّنانِ ، فكان إخوانه يستمعون إليهما ، ولم يزل أهل المدينة مواطئين لأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا. وأدركنا أبا مروان القاضي ، له جوار يسمعن التلحين ، قد أعدهن للطوافين. فكان يجمعهن لهم ، ويأمرهن بالإنشاد ، وكان فاضلاً. وسئل شيخنا أبو الحسن بن سالم ، فقيل له : إنك تنكر السماع ، وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون ؟ فقال : كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير مني. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 362
(5/547)
وقال ابن ليون التجيبي في الإنالة : رُوي عن مصعب بن الزبير ، قال حضرت مجلس مالك ، فسأله أبو مصعب عن السماع ، فقال : ما أدري ، إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ، ولا يقعدون عنه ، ولا ينكره إلا غبي جاهل ، أو ناسك عراقي غليظ الطبع. قال التجيبي : وعن أنس ؛ كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ نزل عليه جبريل ، فقال : يا رسول الله فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ، وهو نصف يوم ، ففرح فقال : أفيكم من ينشدنا ؟ فقال بدوي : نعم ، يارسول الله ، فقال : هات ، هات ، فأنشد البدوي يقول :
364
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الهَوى كَبِدِي
فَلاَ طَبِيبٌ لَهُ وَلاَ رَاقِي
إلاَّ الحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ
فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وتِرْيَا قِي
فتواجد عليه السلام ، وتواجد أصحابه معه ، حتى سقط رداؤه عن مَنْكِبَيْهِ ، فلما خرجوا ، أوى كل واحد إلى مكانه ، فقال معاوية : ما أحسن لَعِبَكُمْ يا رسول الله! فقال : " مَهْ ، مَهْ ، يا معاوية ، ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب ، " ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة. وذكر المقدسي هكذا ، والسهروردي في عوارفه ، وتكلم الناس في هذا الحديث.
وقد تخلف الحسن البصري ذات يوم عن أصحابه ، وسئل عن تخلفه ، فقال : كان في جيراننا سماع. وقال الشبلي : السماع ظاهرة فتنة ، وباطنه عبرة. فمن عرف الإشارة حلَّ له سماع العبرة ، وإلا فقد استدعى الفتنة. هـ. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى : {وإذا تُتلى عليه...} إلخ ، هذا مثال لمن يَقبل الوعظ ؛ لقسوة قلبه وحُكم المشيئة يُبعده ، فلا يزيده كثرة الوعظ إلا نفورً ، فسماعه كلا سماع ، ومعالجته عنىً وضياع ، كما قال القائل :
إذَا أَنَا عَاتبتُ المُلولَ ؛ فإِنَّمَا
أخُط بأفلك على الماء أَحرُفَا
جزء : 5 رقم الصفحة : 362
(5/548)
يقول الحق جل جلاله : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحت لهم جناتُ النعيم} ، قيل : معكوس ، أي : لهم نعيم الجنات ، أو : لهم بساتين ، أو : ديار النعيم. {خالدين فيها} : حال من ضمير " لهم ". والعامل : الاستقرار. {وَعْدَ الله حقاً} أي : وعدهم ذلك وعداً ، وثبت لهم حقاً مُهماً ، مصدران مؤكدان ، الأول لنفسه ، والثاني لغيره ، إذ قوله : {لهم جنات النعيم} ؛ في معنى : وعدهم الله جنات النعيم : {وحقا} : يدل على معنى الثبات المفهوم من انجاز الوعد. {وهو العزيزُ} الغالب ، الذي لا يُعارَض في حكمه ، فينفذ وعده لا محالة. {الحكيمُ} الذي لا يفعل إلا ما استدعته حكمته.
الإشارة : إن الذين آمنوا في البواطن ، وحققوا ذلك بالعمل الصالح في الظواهر ، لهم جنات المعارف معجلة ، وجنات الزخارف مؤجلة ، وعداً حقاً وقولاً صدقاً ، فما كَمُنَ في السرائر ظهر في شهادة الظواهر ، وإلا كان دعوى ونفاقاً ، والعياذُ بالله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 364
قلت : " بغير عمد " : يتعلق بحال محذوفه ، أي : مُمْسَكَةً أو مرفوعة بغير عمد ، و(عمد) : اسمع جمع على المشهور ، وقيل : جمع عماد أو عامد. وجملة (ترونها) : إما استئنافية ، لا محل لها ، أو صفة لعمد.
يقول الحق جل جلاله : {خلق السماواتِ} ورفعها {بغير عَمَدٍ ترونها} ، الضمير : إما للسموات ، أي : خلقها ، ظاهرة ، ترونها ، أو لعمد ، أي : بغير عمد مرئية بل بعمد خفية ، وهي إمساكها بقدرته تعالى. {وألقى في الأرض رواسي} أي : جبالاً ثوابت ، كراهة {أن تميد بكم} أي : لئلا تضطرب بكم ، {وبثَّ} : نشر {فيها من كل دابةٍ وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوجٍ كريمٍ} ؛ صنف من أصناف النبات ، {كريم} : حسن بهيج ، أو كثير المنفعة. وكأنه استدل بذلك على عزته ، التي هي كمال القدرة ، وحكمته التي هي كمال العلم ، فهي مقررة لقوله : (العزيز الحكيم).
(5/549)
ثم أمر بالتفكر في هذه المصنوعات ؛ استدلالاً على توحيده بقوله : {هذا خلقُ الله} أي : هذا الذي تُعاينونه من جملة مخلوقاته ، {فأَرُوني ماذا خلقَ الذين من دونه} ، يعني : آلهتهم. بكَّتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلق الله ، فأروني ماذا خلق آلهتكم حتى استوحبوا عندكم العبادة ؟ {بل الظالمون في ضلال مبين} ، أضرب عن تبكيتهم ؛ إلى التسجيل عليهم بالظلم والتورط في ضلال ليس بعده ضلال.
الإشارة : خلق سموات الأرواح - وهو عالم الملكوت - مرفوعاً غنياً عن الاحتياج إلى شيء ، وألقى في أرض النفوس - وهو عالم الأشباح - من العقول الراسخة ، لئلا تميل إلى جهة الانحراف ، إما إلى الحقيقة المحضة ، أو الشريعة. ونشر في أرض النفوس دواب الخواطَر والوساوس ، وأنبتنا فيها من علوم الحكمة والقدرة ، من كل صنف بهيج قال القشيري : {وألقى في الأرض رواسي} ؛ في الظاهر : الجبال ، وفي الحقيقة : الأبدال ، الذين هم أوتاد ، بهم يقيهم ، وبهم يَصرِف عن قريبهم وقاصيهم ، {وأنزلنا من السماء ماء..} ؛ المطر من سماء الظاهر في رياض الخُضْرَةَ ، ومن سماء الباطن في رياض أهل الدنوِّ والحَضْرَة. هذا خلق الله العزيز في كبريائه ، فأروني ماذا خَلَقَ الذين عَبَدْتم من دونه في أرضه وسمائه ؟ هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 365
366
قلت : (يا بُني) ؛ فيه ثلاث قراءات ؛ كسر الياء ، وفتحها ؛ مُشَدَّدةً ، وإسكانها. وقد تتبعنا توجيهاتها في كتابنا " الدرر الناثرة فيه توجيه القراءات المتواترة ".
(5/550)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد آتينا لقمان الحكمةَ} وهو لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب ، أو ابن خالته ، وقيل : كان من أولاد آزر ، وقيل : أخو شداد بن عاد ، أُعطى شداد القوة ، وأُعطى لقمان الحكمة ، وعاش ألف سنة ، وقيل : أكثر ، وسيأتي. وأدرك داود عليه السلام ، وأخذ منه العلم. وكان يُفتي قبل مبعث داود ، فلما بُعث قطع الفتوى ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : ألا أكتفي إذا كُفيت. وقيل : كان خياطاً ، وقيل : نجاراً ، وقيل : راعياً. وقيل : كان قاضياً في بني إسرائيل. وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً ، والجمهور على أنه كان حكيماً فقط. وقد خُير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة ، وهي الإصابة في القول والعمل. وقيل : تتلمذ لألف نبي وتتلمذ له ألف نبي. قاله النسفي.
قال ابن عمر : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر ، حسن اليقين ، أحب الله فأحبه ، فمنَّ عليه بالحكمة. كان قائماً فجاءه نداء : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض ، تحكم بين الناس بالحق ؟ فأجاب الصوت ، فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة ، فإني أعلم إن فعل ذلك بي عصمني وأعانني. قالت الملائكة بصوت ولا يراهم : لِمَ يا لقمان ؟ فقال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاه الظلم من كل مكان ، إن يُعَن ، فالبحري أن ينجو ، وإن أخطأ ؛ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً ، خير من أن يكون شريفاً ، ومن يختر الدنيا على الآخرة ؛ تفُته الدنيا ، ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأُعطى الحكمة ، فانتبه وتكلم بها " هـ.
(5/551)
قال مجاهد : كان لقمان عبداً أسود ، عظيم الشفتين ، مُشققَّ القدمين. زاد في اللباب : وكانت زوجته من أجمل أهل زمانها. قيل : لم يزل لقمان ، ومن زمن داود مظهراً للحكمة والزهد ، إلى أيام يونس بن متى. وكان قد عَمَّرَ عُمر سبعة أنسر ، فكان آخر نسوره " لبذ ". رُوي أنه أخذ نسراً صغيراً فربّاه ، وكان يصرفه في حوائجه ، فعاش ذلك النسر ألف سنة ومات ، قم أخذ نسراً آخر ، فعاش خمسمائة سنة ، ثم أخذ آخر ، فعاش مثل ذلك ، إلى السابع ، عاش خمسمائة سنة ، واسمه لبذ ، فقال له لقمان يوماً : يا لبذ انهض إلى كذا ، فأراد النهوض فلم يستطع ، وإذا بوتر لقمان قد اختلج ، وكان لم يألم قط ، فنادى بأهله وعشيرته ، وعلم أن أجله قد قرب ، وقال : إن أجلي قد حضر بموت هذا النسر ، كما أعلمني ربي ، فإذا مت فلا تدفنوني في الكهوف والمقابر ، كما [تدفنون] الجبابرة ، ولكن ادفنوني في ضريح الارض ، فدفنوه كما أوصاهم ، فقال ابن ثعلبة : رَأَيْتُ الْفَتَى يَنْسَى مِنَ الْمَوتِ حَتْفَهُ
حَذُوراً لِرَيْبِ الدَّهْرِ ، والدَّهْرُ آكِلُهْ
جزء : 5 رقم الصفحة : 366
فَلَوْ عَاشَ مَا عَاشَت بِلُقْمَانَ أَنْسُرٌ
لَصَرْفْ المَنَايَا ، بعد ذلك ، حَافِلْهُ
367
(5/552)
قال البيضاوي : والحكمة ، في عرف العلماء : استكمال النفس الإنسانية ؛ باقتباس العلوم النظرية واكتساب الْمَلَكَةِ التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها. ومن حكمته أنه صحب داود شهوراً ، وكان يسرد الدرع ، فلم يسأله عنها ، فلما أتمها لبسها ، فقال : نِعْمَ لبوسُ الحرب أنتِ ، فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله ، وأن داود قال له يوماً : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت في يَدَيْ غيري. وأنه أمر لقمان بأن يذبح شاة ويأتيه بأطيب مُضْغَتين منها ، فأتى باللسان والقلب ، ثم بعد أيام أمر بأن يأتي بأخبث مضغتين منها ، فأتى بهما أيضاً ، فسأله عن ذلك ، فقال : هما أطيب شيء ؛ إذا طابا ، وأخبث شيء ؛ إذا خبثا. والذي عند الثعلبي : أن الآمر له بإتيان المضغتين سيدهُ ، لا داود عليه السلام قيل له : بِمَ نلت هذه الحكم ، وقد كنت راعياً ؟ فقال بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني. هـ.
قال صلى الله عليه وسلم : " أول ما رؤى من حكمة لقمان : أن مولاه أطال الجلوس في المخرج ، فناداه لقمان : إن الجلوس على الحاجة ينخلع منه الكبد ، ويورث الباسور ، ويُصعد الحرارة إلى الرأس ، فاجلس هويناً ، وقم هويناً " وروي أنه قَدِمَ من سفر ، فقيل له : مات أبوك ، فقال : الحمد لله ، ملكتُ أمري ، فقيل له : ماتت امرأتك ، فقال : الحمد لله ؛ جُدِّدَ فراشي ، فقيل له : ماتت أختك ، فقال : سُترت عورتي ، فقيل له : مات أخوك ، فقال : انقطع ظهري. هـ.
و " أَنْ " - في قوله : {أن أشكر} : مفسرة ؛ لأنَّ إيتاء الحكمة في معنى القول ، أي : وقلنا له اشكر الله على ما أعطاك من الحكمة ، وفيه تنبيه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما ، وعبادةُ الله والشكر له ، حيث فسر الحكمة بالحث على الشكر. وقيل : لا يكون الرجل حكيماً حتى يكون حليماً في قوله وفعله ومعاشرته وصُحبته.
(5/553)
وقال الجنيد : الشكر : ألا يُعْصَى اللهُ بنعمه. وقال أيضاً : ألا ترى مع الله شريكاً في نعمه. وقيل : هو الإقرار بالعجز عن الشكر. والحاصل : أن شكر القلب : المعرفة ، وشكر اللسان : الحمد ، وشكر الأركان : الطاعة. ورؤية العجز في الكل دليل القبول. {ومن يشكرْ فإنما يشكر لنفسه} ؛ لأن منفعته تعود عليه ، لأنه يريد المزيد ، {ومن كفرَ فإِنَّ الله غنيٌّ} ؛ غير محتاج إلى شكر أحد ، {حميد} ؛ حقيق بأن يُحمد ، وإن لم يَحْمَدْهُ أحد. {و} اذكر {اذ قال لقمان لابنه} ، واسمه : أنعم ، أو أشكم ، أو ناران ، {وهو يَعِظُهُ يا بُنَي} ، تصغير ابن ، لا تُشرك بالله ؛ {إن الشرك لظلم عظيم} ؛ لأنه تسوية بين مَنْ لاَ نِعْمَةَ
368
إلا منه ، ومن لا نعمة منه أصلاً. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 366
الإشارة : قال القشيري : الحكمة : الإصابة في الفعل والعقد والنطق. ويقال : الحكمة : متابعة الطريق ، مِنْ حَيْثُ توفيق الحق ، لا من حيث هِمة النفس. ويقال : الحكمة : ألا يكون تحت سلطان الهوى. ويقال : هي معرفةُ قدْر نَفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجاً عن كسائك. ويقال : ألا تستعصي على منْ تعلم أنك لا تقاومه. وحقيقة الشكر : انفتاح عين القلب لشهود ملاطفات الحق. ويقال : الشكرُ : تَحَقُّقُكَ بعجزك عن شكره. ويقال : ما به يَحْصُلُ كَمَالُ استلذاذِ النعمة. ويقال : هو فضلةٌ تظهر على اللسان من امتلاء القلب من السرور ، فينطق بمدح المشكور. ويقال : الشكر : نعتُ كُلّ غنيٍّ ، كما أن الكفران وصف كلِّ لئيم. ويقال : الشكر : قرعُ باب الزيادة. هـ. قلت : والأحسن : أنه فرح القلب بإقبال المنعم ، فيسري ذلك في الجوارح.
(5/554)
ثم قال في قوله : {لا تُشرك بالله} : الشركُ على ضربين : جَليّ وخفيّ ، فالجليُّ ؛ عبادة الأصنام ، والخفيّ : حسبان شيء من الحدثان من الأنام - أي : أن تظن شيئاً مما يحدث في الوجود أنه من الأنام - ويقال : الشرك : إثباتُ غَيْنٍ مع شهود العين ، ويقال : الشرك ظلمٌ عَلَى القلب ، والمعاصي ظلمٌ على النفس ، فظلم النفس مُعَرَّضٌ للغفران ، وظلم القلب لا سبيل للغفران إليه. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 366
قلت : الجملتان معترضتان بين أجزاء توصية لقمان لابنه. و(وَهْناً) : حال من (أمه) ، أي : حملته حال كونها ذَاتَ وَهْنٍ ، أو من الضمير المنصوب ، أي : حملته نُطْفَةً ، ثم علقة... إلخ ، أو مصدر ، أي : تهن وهناً.
يقول الحق جل جلاله : {ووصينا الإنسانَ بوالديه} ؛ أن يَبَرَّهُمَا ويُطِيعَهُمَا ، ثم ذكر الحامل على البر فقال : {حَمَلَتْهُ أُمُّه وَهْناً على وَهْنٍ} أي : تضعف ضعفاً فوق ضعف ، أي : يتزايد ضعفها ويتضاعف ؛ لأن الحمل ، كلما ازداد وعظم ، ازدادت ثِقلاً. {وفِصَالهُ في عامين} أي : فطامه لتمام عامين. وهذا أيضاً مما يهيج الولد على بر والديه ، فيتذكر مَرْقده في بطن أمه ، وتعبَها معه في مدة حَمْلِةِ ، ثم ما قاست من وجع الطلق عند خروجه ، ثم ما عالجته في أيام رضاعه ؛ من تربيته ، وغسل ثيابه ، وسهر الليل في بكائه ، إلى غير ذلك.
{أن اشكر لي ولوالديك} ، هو تفسير لِوَصَّينَا ، أو على حذف الجار ، أي : وصيناه
369
بشكرنا وبشكر والديه. وقوله : {حملته أمه..} إلخ : اعتراض بين المفسَّر والمفسِّر ، لأنه لَمَّا وصى بالوالدين ، ذكر ما تُكابده وتُعاينه من المشاق في حمله وفصاله ، هذه المدة الطويلة ؛ تذكيراً لحقها ، مفرداً.
(5/555)
وعن ابن عُيَيْبَةَ : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين ، في أدبار الصلوات الخمس ، فقد شكرهما. هـ. وقال القشيري : والإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما. ثم قال : فشكرُ الحقِّ بالتعظيم والتكبير ، وشكرُ الوالدين بالإشفاق والتوقير. هـ.
ثم قال تعالى : {إليَّ المصيرُ} فأحاسبك على شكرك ، أو كفرك. {وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به عِلْمٌ} ، أراد بنفي العلم به نفيَه من أصله ، أي : أن تشرك بي ما ليس بشيء. أو : ما ليس لك به علم باستحقاقه الإشراك مع الله ، بل تقليداً لهما ، {فلا تُطِعْهُما} في ذلك الشرك. {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} أي : صِحَاباً معروفاً يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم ، وهو الخُلُقُ الجميل ، بِحِلْمٍ ، واحتفالٍ ، وبر ، وصلة. وقد تقدم تفسيره في الإسراء.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 369
واتبع سبيل من أناب إلي} أي : اتبع طريق مَنْ رَجَعَ إليَّ بالتوحيد والإخلاص ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، ولاتتبع سبيلهما ، وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا ، وقال ابن عطاء : اتبع سبيل من ترى عليه أنوار خدمتي. هـ. {ثم إليَّ مرجِعكُم} أي : مرجعك ومرجعهما ، {فأُنَبِئُكم بما كنتم تعملون} ؛ فأجازيك على إيمانك وَبِرِّكَ ، وأجازيهما على كفرهما. وَاعْتَرَضَ بهاتين الآيتين ، على سبيل الاستطراد ؛ تأكيداً لِمَا في وصية لقمان من النهي عن الشرك ، يعني : إنما وصيناه بوالديه ، وأمرناه ألا يطيعَهُمَا في الشرك ، وإن جاهدا كل الجهد ؛ لقبح الشرك.
وتقدم أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وأنه مضت لأمه ثلاث ليال لم تَطْعم فيها شيئاً ، فشكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت ، وقيل : من أناب : أبو بكر ؛ لأن سعداً أسلم بدعوته. والله تعالى أعلم.
(5/556)
الإشارة : بر الوالدين واجب ، لاسيما في حق الخصوص ، فيطيعهما في كل شيء ، إلا إذا منعاه من صحبة شيخ التربية ، الذي يُطهر من الشرك الخفي ، الذي لا ينجو منه أحد ، فإن الآية تشمله بطريق العموم والإشارة. أي : وإن جاهداك على أن تشرك بي متابعة هواك وحظوظك ومحبتهن ، فلا تُطعهما ، وصاحبهما في الدنيا معروفاً ، واتبع سبيل من أناب إليَّ ، هو شيخ التربية في علم الإشارة. وقد تقدم قول الجنيد : أمرني أبي بشيء ،
370
وأمرني السّري بشيء ، فقدمت أمر السّري ، فرأيت سراً كبيراً. وكان شيخ شيوخنا الولي الشهير ، سيدي يوسف الفاسي ، يأتيه شاب من أولاد كبراء فاس ، وكان أبوه ينهاه ويزجره عن صحبته ، وربما بلغ لمجلس الشيخ فيؤذيه ، فكان الشيخ يقول للشاب : أطع أباك في كل شيء إلا في الإتيان إلينا. هـ. وكان بعض المشايخ يقول : ائتوني ولو بسخط الوالدين ، إذ لا يضره ذلك ، حيث قصد إصلاح نفسه ودواءها.
(5/557)
وقال الشيخ السنوسي ، في شرح عقائد الجزائري ، ما نصه : وحاصل الأمر في النفس : أنها شبيهة ، في حالها ، بحال الكافر الحَرْبِيّ ، الذي يريد أن تكون كلمة الكفر هي العليا ، وكلمة التوحيد السفلى ، وكذلك النفس ؛ تريد أن تكون كلمة باطلها من الدعاوى للحظوظ العاجلة ، المُشْغِلة عن إخلاص العبودية لمولانا جل وعلا ، وعن القيام بوظائف تكاليفه ، على الوجه الذي أمر به ، هي العليا ، النافذ أمرها ونهيها في مُدُنِ الأجسام وما تعلق بها ، بعد أن نزلت ساحة الأبدان ، واتصلت اتصالاً عظيماً لا انفكاك له إلا بالموت ، فوجب ، لذلك ، على كل مؤمن يُعظّم حرمات الله تعالى أن ينهض كل النهوض ، بغاية قواه العِلمية والعملية ، لجهادها وقتالها. وفي مثل هذا القتال الذي نزل العدو فيه بساحة الأبدان ، وهو فرض عين على كل مؤمن ، يسقط فيه استئذان الأبوين وغيرهما. هـ. فأنت ترى كيف جعل قيام النفس على العبد ، وحجابها له عن ربه ، كعدو يجب جهاده ولو خالف الوالدين ، وهو كذلك ؛ إذ طاعة الوالدين لا تكون في ترك فرض ، ولا في ارتكاب معصية ، ومن جملة المعاصي ، عند الخواص ، رؤية النفس والوقوف معها ، وفي ذلك يقول الشاعر :
جزء : 5 رقم الصفحة : 369
فَقلتُ : ومَا ذنبي ؟ فَقَالَتْ ؛ مُجِيبَةً
: وُجُودُكَ ذَنْبٌ لا يُقاس بِهِ ذَنْبُ
وتطهير النفس فرض عين ، ولا طاعة للوالدين في فرض العين. وقوله تعالى : (وصاحبهما في الدنيا معروفاً) قال الورتجبي : المعروف ، ها هنا ، أن تُعرفهما مكان الخطأ والغلط في الدين عند جهالتهما بالله. {واتبع سبيل من أناب إليَّ} ، نهاه عن متابعة المخلَّطِين ، وحثه على متابعة المنيبين. هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 369
371
(5/558)
قلت : الضمير في (إنها) : للقصة ، ومن قرأ " مثقال " : بالرفع ؛ ففاعِلُ كَانَ التامة ، ومن قرأ بالنصب ؛ فخبرها ، والضمير : للخطيئة أو الهيئة. وأنث " المثقال " ؛ لإضافته إلى الحبة.
يقول الحق جل جلاله : وقال لقمان لابنه ، حين قال له : يا أبت : إن عَمِلْتُ بالخطيئة ، حين لا يراني أحد ، كيف يعلمها الله ؟ فقال : {يا بُنيَّ إنها} ، أي : القصة أو الخطيئة {إن تكُ مثقال حبةٍ من خَرْدَلٍ} أي : إن تك المعصية ؛ في الصغر والحقارة ، مثالَ حَبَّةٍ من خردل ، أو : إن تقع مثقالُ حَبَّةٍ من المعاصي {فتكن في صخرةٍ} ، أي : فتكن ، مع صغرها ، في أخفى مكان ، أو في جبل. وقال ابن عباس : هي صخرة تحت الأَرَضين السبع ، وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار ، وخضرة الماء منها. هـ. قال السدي : خلق الله تعالى الأرض على حوت ، والحوت في الماء ، والماء على ظهر صَفَاةٍ - أي : صخرة - والصفاة على ظهر ملَكَ ، والملك على صَخْرَة. وهي الصخرة التي ذكر لقمان. ليست في السماء ولا في الأرض ، والصخرة على الريح. هـ.
أي : إن تقع المعصية في أخفى مكان {يأتِ بها اللهُ} يوم القيامة ؛ فيحاسب عليها عاملها. {إن الله لطيفٌ} : يتوصل علمه إلى كل خفي ، {خبير} : عالم بكنهه ، أو : لطيف باستخراجها خبير بمستقرها.
{يا بُني أقم الصلاةَ} : أتقنها ، وحافظ عليها ؛ تكميلاً لنفسك ، {وأْمُر بالمعروف وَانْهَ عن المنكر} ؛ تكميلاً لغيرك ، {واصبرْ على ما أصابك} في ذات الله تعالى ، إذا أمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ؛ فإن فعل ذلك تعرض للأذى ، أو : على ما أصابك من الشدائد والمحن ؛ فإنها تورث المنح والمنن. {إِن ذلك} ؛ الذي وصيتك به ، {من عزم الأمور} أي : مما عزمه الله من الأمور ، أي : قَطَعَه قطع إيجاب وإلزام ، أي : أمر به أمراً حتماً. وهو مصدر بمعنى المفعول ، أي : من معزومات الأمور ، أي : مقطوعاتها ومفروضاتها. وفيه دليل على أن هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم.
{
(5/559)
جزء : 5 رقم الصفحة : 371
ولا تُصَعِّر خَدكَ للناس} أي : تُمله عنهم ، ولا تولهم صفَحة خدك ، كما يفعله المتكبرون. والتصعير : داء يصيب العير ، فيلوى عُنُقَهُ منه. والمعنى : أَقْبِل على الناس بوجهك ؛ تواضعاً ، ولا تُولهم شق وجهك وصفحته ؛ {ولا تمشِ في الأرض مرحاً} ؛ خُيَلاَءَ ؛ متبختراً ، فهو مصدر في موضع الحال ، أي : مَرِحاً ، أو تمرح مرحاً ، أو : لأجل المرح ، {إن الله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ} ، علة النهي. والمختال هو المرِحُ الذي يمشي خيلاء ، والفخور هو المُصَعِّرُ خَدَّهُ ؛ تكبراً. وتأخير الفخور ، مع تقدمه ؛ لرؤوس الآي.
{واقصِدْ في مشيك} ؛ توسط فيه بين الدبيب والإسراع ، فلا تدب دبيب المتماوتين ، ولا تثب وثوب الشطارين ، قال عليه الصلاة والسلام : " إنَّ سُرْعَةَ المَشي
372
تُذْهِبُ بَهَاءِ المُؤْمِنِ " وأما قول عائشة ـ رضي الله عنها : (كان إذا مَشَى أسْرَع) ؛ فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب التماوت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا ينهون عن خَبَبِ اليهود ودبيب النصارى ، ولكن مشياً بين ذلك. وقيل : {واقصد في مشيك} : انظر موضع قدميك ، أو : اقصد : تَوَسَّطْ بين العلو والتقصير.
{واغضض من صوتك} ؛ وانقص منه ، أي : اخفض صوتك. كانت العرب تفخر بمجاهرة الصوت ، فنهى الله عن خُلُق الجاهلية ، فذكره لوصية لقمان ، وأنه لو كان شيء يُهَابْ ، لرفع صوته لكان الحمار ، فجعلهم في المثل سواء. وهو قوله : {إِن أنكَرَ الأصواتِ} ؛ أوحشها وأقبحها {لصوتُ الحمير} ؛ لأن أوله زفير ، وآخره شهيق ، كصوت أهل النار. وعن الثوري : صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار ، فإنه يصيح لرؤية الشيطان ، وقد سماه الله منكراً ، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير ؛ تنبيه على أن رفع الصوت في غاية البشاعة ، ويؤيده : ما رُوِيَ أنه : عليه الصلاة والسلام - كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ، ويكره أن يكون مجهور الصوت.
(5/560)
وقال بعضهم : رفع الصوت محمود في مواطن ؛ منها : الأذان والتلبية. وقال في الحاشية الفاسية : بل ينبغي الاقتصاد في ذلك ، كما قال عمر بن عبد العزيز : أَذِّن أذاناً سنِّياً ، وإلا اعتزلنا. هـ. وقال عليه الصلاة والسلام : " ارْبَعُوا على أنفسكم ، فإنكم لاَ تَدْعُون أصمَّ ولا غَائباً " وإنما وحّد صوت الحمير ولم يجمع ؛ لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من هذا الجنس حتى يجمع ، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس ، فوجب توحيده.
جزء : 5 رقم الصفحة : 371
الإشارة : قد اشتملت وصية لقمان على خصال صوفية ، تدل على كمال صاحبها ، منها : استحضار مراقبة الحق ومشاهدته ، في السر والعلانية ، في الجلاء والخفاء. وهو قوله : {يا بُني إنها تلك مثقالَ حبة...} إلخ. ومنها : القيام بوظائف العبودية ، بدنية ولسانية ، وهو قوله : {يا بُني أقم الصلاة...} إلخ ، ويقاس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سائر عبادات اللسان ، ومنها الصبر على النوائب ، سواء كانت من جهة الخلق ، أو من قهرية الحق ، وهو ركن في الطريق. وتقدم تفصيله في آخر النحل. ومنها : التواضع والليونة ، وهما مصيدة الشرف ، ومن شأن أهل السياسة. ومن تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره. وهو قوله : {ولا تُصعر خدَّك للناس ولا تمش في الأرض مرحا}. ومنها : السكينة والوقار والرزانة ، وهي نتيجة عمارة القلب بالهيبة والإجلال.
373
وهو قوله : {واقصد في مشيك}. ومنها : خفض الصوت في سائر الكلام ، وهو من علامة وجدان هيبة الحضرة ، والقرب من الحق ، قال تعالى : {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه : 108] ، وهو من آكد الآداب مع الأشياخ والفقراء.
(5/561)
قال القشيري : قوله تعالى : {وأْمُر بالمعروف...} ، الأمر بالمعروف يكون بالقول ، وأبلغُهُ أن تمنع نفسك عما تنهى عنه ، واشتغالك ، واتصاف نفسك ، بما تأمر به غيرك ، ومنْ لا حُكْم له على نفسه ؛ لا حُكْم له على غيره. والمعروف الذي يجب الأمر به : ما يُوَصِّلُ العبدَ إلى مولاه ، والمنكر الذي يجب النهي عنه : ما يشغل العبد عن الله. ثم قال : وقوله تعالى : {واصبر على ما أصباك} : تنبيه على أنَّ مَنْ قام لله بحقِّ امْتُحِنَ في الله ، فسبيله أن يصبرَ في الله ، فإنَّ من صبر لله لم يخسر على الله.
ثم قال : قوله تعالى : {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} ؛ لا تتكبرْ عليهم ، وطالِعْهم مِنْ حَيْثُ النسبة ، وتحقق بأنكَ بمشهدٍ من مولاك. ومن عَلِمَ أن مولاه ينظر إليه ؛ لا يتكبرُ ولا يتطاول ، بل يتخاضع ويتضاءل. قوله تعالى : {واقصد في مشيك..} الآية ، أي : كُنْ فانياً عن شواهدك ، مُصْطَلَماً عن صَوْلَتِك ، مأخوذاً عن حَوْلِكَ وقوتك ، متشبهاً بما استولى عليك من كشوفات سِرِّك. وانظر مَنِ الذي يسمع صوتك حين تستفيق من خُمَارِ غفلتك ، {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} : في الإشارة : أنه الذي يتكلم بلسان المعرفة بغير إذنٍ من الحق. وقالوا : هو الصوفي يتكلم قبل أوانه. هـ. أي يتكلم على الناس ، قبل أن يأذن له شيخه في التذكير. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 371
(5/562)
يقول الحق جل جلاله : {أَلَمْ تَرَوْا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض} ، يعني : الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ، والمطر ، وغير ذلك ، {وما في الأرض} ، يعني : البحار والأنهار ، والأشجار ، والثمار ، والدواب ، والمعادن ، وغير ذلك ، {وأسْبَغَ} : أتم {عليكم نِعَمَه} ، بالجمع ، والإفراد ؛ إرادة الجنس. والنعمة : ما يسر به الإنسان ويتلذذ به ، حال كونها {ظاهرةً} ؛ ما تدرك بالحس ، {وباطنة} ؛ ما تدرك بالعلم والوجدان. فقيل : الظاهرة. السمع ، والبصر ، واللسان ، وسائر الجوارح الظاهرة ، والباطنة : القلب ، والعقل ، والفهم ، وما أشبه ذلك. أو : الظاهرة : الصحة والعافية ، والكفاية ؛ والباطنة : الإيمان ، واليقين ، والعلم والمعرفة بالله ، وسيأتي في الإشارة بقيتها.
374
رُوي أن موسى عليه السلام قال : دُلني على أخفى نعمتك على عبادك ، فقال : أخفى نعمتي عليهم : النَّفسُ. هـ. قلت : إذ بمجاهدتها تحصل السعادة العظمى ، ولا وصول إليه إلا بمجاهدتها والغيبة عنها. وفي هذا المعنى كان شيخ شيخنا يقول : جزاها الله عنا خيراً ؛ ما ربحنا إلا منها. هـ. وقيل : الظاهرة : تحسين الخلْق ، والباطنة : حُسْنُ الخلقُ. وقال ابن عباس : الظاهرة : ما سوى من خلقك ، والباطنة : ما ستر من عيوبك.
{ومن الناس من يُجادل في الله} بعد هذه النعم المتواترة ، أي : في توحيده وصفاته ودينه ، {بغير علم} مستفاد من دليل ولا برهان ، {ولا هُدىً} اي : هداية رسول ، {ولا كتاب منير} أنزله الله ، بل بمجرد التقليد الردي. نزلت في النضر بن الحارث. وقد تقدمت في الحج.
(5/563)
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله} على رسوله ؛ من التوحيد ، والشرائع ، {قالوا بل نتبعُ ما وجدنا عليه آباءنا} من عبادة الأصنام. وهو دليل منع التقليد في الأصول. قاله البيضاوي قلت : والمشهور أن إيمان المقلِّد صحيح. وأما من قلَّد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولم ينظر ، فهو مؤمن ، اتفاقاً. قال تعالى : {أَوَ لَو} ؛ أيتبعونهم ، ولو {كان الشيطانُ يدعوهم إلى عذاب السعير} ، يحتمل أن يكون الضمير لهم ، أي : أيقلدونهم ، ولو كان يدعوهم بذلك التقليد إلى العذاب ، أو : لآبائهم ، أي : أيتبعون آباءهم ، ولو كان الشيطان في زمانهم يدعوهم إلى عذاب السعير.
جزء : 5 رقم الصفحة : 374
الإشارة : الأكوان كلها خُلِقَتْ لك أيها الإنسان ، وأنت خُلِقْتَ للحضرة ، فاعرف قَدْرَكَ ، ولاتتعدَّ طَوْرَكَ ، واشكر النعم لتي أسبغ عليك ؛ ظاهرة وباطنة. الظاهرة : استقامة الظواهر في عمل الشرائع ، والباطنة : تصفية البواطن ؛ لتتهيأ لأنوار الحقائق ، أو : الظاهرة : المنن ، والباطنة : المحن. قال القشيري : قد تكلموا في الظاهرة واباطنة وأكثروا.
(5/564)
فالظاهرةُ : وجودُ النعمة ، والباطنةُ : شهودُ المنعِم ، أو : الظاهرةُ : الدنيويةُ ، والباطنة : الدينية. أو : الخلْق والخُلق ، أو : نَفْس بلا زَلَّة ، وقلبٌ بلا غفلة ، أو : عطاء ورضى. أو : الظاهرة : في الأموال ونمائها ، والباطنة : في الأحوال وصفائها ، أو : الظاهرة : النعمةُ ، والباطنة : العصمةُ ، أو : الظاهرةُ : توفيقُ الطاعات ، والباطنة : قبولُها ، أو : الظاهرة : صحبة العارفين ، والباطنةُ : حِفْظُ حُرْمَتِهم وتعظيمهم. أو : الظاهرة : الزهدُ في الدنيا ، والباطنة : الاكتفاءُ بالله من الدنيا والعُقبى. أو : الظاهرة : الزهد ، والباطنة : الوَجْدُ. أو : الظاهرة : توفيق المجاهدة ، والباطنة : تحقيقُ المشاهدة ، أو : الظاهرة : وظائف النَّفْس ، والباطنة : لطائف القلب ، أو : الظاهرة : اشتغالُك بنفسك عن الخلق ، والباطنة : اشتغالك بربَّك عن نفسك ، أو : الظاهرة : طَلَبَهُ ، والباطنة : وجودُه ، أو : الظاهرةُ : أنْ تَصِلَ إليه ، والباطنة : أن
375
تبقى معه. هـ. ببعض المعنى.
ثم قال القشيري : {وإذا قيل لهم أتبعوا ما أنزل الله...} الآية : لم يتخطوا أمثالَهم ، ولم يهتدوا إلى تحوِّل أحوالهم. هـ. يعني : قلدوا أسلافكم في الإقامة مع الرسوم والأشكال ، والانهماك في الحظوظ ، فعاقبهم ذلك عن السير والوصول. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 374
(5/565)
قلت : قال في الحاشية : لّمَّا ذكر حال الكافر المجادل ذكر حال المسلم ، وعدّاه هنا بإلى ، وفي قوله : {بَلَىا مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة : 112] ، باللام ؛ لأنه لَمَّا كان المجادل غير مُعين ، ولم يخص له واحداً بعينه ، عقَّبه بحال من حصل منه مطلق الاستسلام ، ومَدْحُهُ يتناول مَدْحَ مَنِ اتصف بأخص الاستسلام. أو : في الآية الأخرى أتى به خاصاً ، لما رتب عليه من الثواب الجزيل بقوله : {فله أجره...} إلخ ، الذي لم يذكر هنا إلا بعضه ، فإن اللام تقتضي الاختصاص والقصد إلى الشيء ، و " إلى " : لا تقتضي ذلك. انظر ابن عرفة.
وقال النسفي : عدّاه هنا بإلى وهناك باللام ؛ لأن معناه ، مع اللام : أنه جعل وجهه - وهو ذاته ونفسه - سالماً لله ، أي : خالصاً له ، ومعناه ، مع " إلى " : أنه سلّم نفسه كما يُسلم المتاع إلى الرجل ، إذا دفع إليه. والمراد : التوكل عليه والتفويض إليه. هـ. أي : فهو أبلغ من اللام ، ومثله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : {ومن يُسْلِمْ وَجْهَه إلى الله} أي : ينقد إليه بكليته ، وينقطع إليه بجميع شراشره ، بأن فوض أمره إليه ، وأقبل بكُلِّيَّتِهِ عليه ، {وهو محسن} في أعماله. قال القشيري : من أَسْلَمَ نَفْسُه ، وأخلص في الله قَصْدَهُ ، فقد استمسك بالعروة الوثقى. هـ. فالاستسلام قد يكون بغير إخلاص ، فلذلك قال : {وهو محسن}. قاله المحشي. وقلت : وفيه نظر ؛ فإن الحق تعالى إنما عبَّر بالإسلام لا بالاستسلام ، وإنما المعنى : أسلم وجهه في الباطن ، وهو محسن بالعمل في الظاهر ، {فقد استمسك بالعُرْوَةِ الوُثْقَى} ، أي : تعلق بأوثق ما يتعلق به ؛ فالعروة : ما يستمسك به. والوثقى : تأنيث الأوثق. مثّلَ حال المسلم المتوكل بحال من أراد أن يَتَدَلَّى من شاهق جبل ، فاحتاط لنفسه ، بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين ، مأمونٍ انقطاعُهُ. قال الهروي : أي : تمسك بالعقد الوثيق. وقال الأزهري :
376
(5/566)
أصله : من عروة الكلأ ، وهو : ماله أصل ثابت في الأرض ، من الشيح وغيره من الشجر المستأصل في الأرض. ضُربَتْ مثلاً لكل ما يُعْتَصَمُ به ويُلْجأُ إليه. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 376
وهو إشارة لكون التوحيد سبباً وأصلاً ، والآخِذُ به ، مُّتصلاً بالله ، لا يخشى انقطاعاً ولا هلاكاً ، بخلاف الشرك ، فإنه على الضد ، كما يرشد إليه قوله تعالى : {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ...} [إبراهيم : 26] الآية. وقوله تعالى : {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ} [الحج : 31] الآية.
{وإلى الله عاقبة الامور} أي : صائرة إليه فيُجازى عليها.
{ومن كَفَرَ} ؛ ولم يسلم وجهه لله ، {فلا يَحْزُنك كُفْرُه} ؛ فلا يهمك شأنه ، فَسَيَقْدِمُ علينا ونجازيه ، {إلينا مرجعُهم فننبئهم بما عملوا} ، أي : فنعاقبهم على أعمالهم ، {إن الله عليم بذات الصور} ، أي : عالم بحقائق الصدور ، وما فيها ، فيجازى على حسبها ، فضلاً عما في الظواهر ، {نُمتعهم قليلاً} ، أي : نمتعهم زماناً قليلاً بدنياهم ، {ثم نضطرهم} ، نلجئهم {إلى عذابٍ غليظٍ} شديد. شبَّه إلزامهم التعذيب ، وإرهاقهم إليه ، باضطرار المضطر إلى الشيء. والغِلظ : مستعار من الأجرام الغليظة ، والمراد : الشدة والثَّقَلُ على المُعَذِّبِ. عائذاً بالله من موجبات غضبه.
(5/567)
الإشارة : ومن يَنْقَدْ بكليته إلى مولاه ، وغاب عن كل ما سواه ، وهو من أهل مقام الإحسان ، بأن أشرقت عليه شمس العيان ، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أبداً. ومن أمارات الانقياد : ترك التدبير والاختيار ، والرضا والتسليم لكل ما يبرز من عنصر الاقتدار ، وترك الشكوى بأحكام الواحد القهار. {وإلى الله عاقبة الأمور} ؛ فيوصل من يشاء برحمته ، ويقطع من يشاء بعدله. ومن يجحد طريق الخصوص من أهل زمانه ؛ فلا يحزنك ، أيها العارف ، فعله ، إلينا إيابهم ، وعلينا حسابهم ، فَسَنُمَتَّعهُمْ بحظوظهم ، والوقوف مع عوائدهم ، زماناً قليلاً ، ثم نضطرهم إلى غم الحجاب وسوء الحساب. والعياذ بالله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 376
يقول الحق جل جلاله : {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُنَّ الله} ؛ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره ، فيضطرون إلى الإقرار بذلك ، {قل الحمدُ لله} على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم من شرك الأصنام ، {بل أكثرهم لا يعلمون} إن ذلك يلزمهم إذا نبهوا عليه ، ولم ينتبهوا ، فالإضراب عن كلام محذوف ، أي : فيجب عليهم أن يعبدوا الله وحده ، لمّا اعترفوا ،
377
ولكنهم لا يعلمون ، {لله ما في السماوات والأرض} ملكاً وعبيداً ، {إنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ} ، أي : الغني عن حمد الحامدين ، المستحق للحمد وإن لم يحمدوه.
الإشارة : قد اتفقت الملل على وجود الصانع. ثم وقفت العقول في مقام الحيرة والاستدلال ، وامتدت الأرواح والأسرار بأعناقها إلى معرفة الذات وشهودها ، فمن وَجَدَتْ عارفاً كاملاً سلك بها الطريق ، حتى أوقعها على عين التحقيق ، فأشرفت على البحر الزاخر ، فغرقت في بحر الذات وتيار الصفات ، ثم رجعت إلى بر الشريعة لتدل غيرها على الوصول. وقل الحمد لله أَنْ وَجَدْتَ من يعرفك بالله ، وأكثر الخلق حائدون عن العلم بالله.
(5/568)
جزء : 5 رقم الصفحة : 377
قلت : (ولو أنما في الأرض) : مذهب الكوفيين وجماعة : أن ما بَعد " لو " : فاعل بفعل محذوف ، أي : ولو ثبت كون ما في الأرض.. إلخ. ومذهب سيبويه : أنه مبتدأ ، أي : ولو كون ما في الأرض واقع ، و(البحر) : مبتدأ ، و(يمده) : خبره ، أي : يمد ما ذكر من الأقلام. و(من بعده سبعةُ أبحر) : مبتدأ وخبر. وحذف التمييز ، أي : (مداداً) ، يدل عليه (يمده) ، أو (سبعة) : فاعل (يمده) ، أي : يصب فيه سبعةُ أبحر ، والجملة : حال ، أي : ولو أن الأشجار أقلام ، في حال كون البحر ممدوداً ، ما نفذت... إلخ. وجملة (يمده) : خبر (البحر). ومن قرأ بالنصب فعطف على اسم " إن " ، وهو (ما).
يقول الحق جل جلاله : {ولو أنّ ما في الأرض من شجرة} من الأشجار {أقلام} ، والبحر يمد تلك الأقلام ، يصب في ذلك البحر {سبعةُ أبحر} ، وتلك الأقلام كلها تكتب كلمات الله الدالة على عظمته وكمالاته ، {ما نَفِدَتْ} كلماته ، ونفدت الأقلام ، وجفت تلك الأبحر ، وهذا كقوله : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف : 109] مع زيادة المبالغة بذكر السبعة أبحر ، يقال : مد الدواة وأمدها : جعل فيها مداداً ، فجعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، والأبحر السبعة مدادها ، وفروع الأشجار كلها أقلام تكتب كلماته تعالى ، فلو قدر ذلك لتكسرت الأقلام وجفت الأبحر ، قبل ان تنفد كلماته تعالى ؛ لأنها تابعة لعلمه ، وعلمه لا نهاية له.
وإنما وحدَّ الشجرة ؛ لأن المراد تفصيل الشجر وتقَصِيها ؛ شجرة شجرة ، حتى ما يبقى من جنس الشجر ، ولا واحدة إلا وقد بُريت أقلاماً. وأوثر الكلمات ، وهي من حيز
378
جمع القلة ، على الكَلِم ، الذي هو جمع الكثرة ؛ لأن المعنى : أن كلماته لا يفي بها الأقلام ؛ فكيف بكلامه الكَثير ؟ .
(5/569)
{إن الله عزيزٌ} لا يُعجزه شيء ، {حكيم} لا يخرج عن علمه وحكمته شيء ، فلا تنفد كلماته وحكمته. والآية جواب اليهود ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن قلنا : الآية مدنية ، أو : أَمروا وَفد قريش أن يسألوه عن قوله : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء : 85] ، فقالوا : هل عنيتنا أمْ قومك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " كُلاّ قد عنيت " فقالوا : أليس فيما قد أوتيت أنَّا قد أُوتينا التوراة ، فيها علم كل شيء ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " هي في علم الله قليل " ، فأنزل الله : {ولو أنما...} إلخ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 378
ولما ذكر شأن كلامه وعلمه ؛ ذكر شأن قدرته ، فقال : {ما خلْقُكُمْ ولا بعثُكُم إلا كنَفْسٍ واحدةٍ} ، أي : إلا كخلق نفس واحدة ، وبعث نفس واحدة. فحُذف ، للعلم به ، أي : القليل والكثير في قدرة الله تعالى سواء ، فلا يشغله شأن عن شأن ، وقدرته عامة التعلق ، تَنْفُذُ أسرع من لمح البصر. قال الغزالي في الإحياء : ومن غريب حِكَم الآخرة أن الرجل يُدعى به إلى الله تعالى ، فيُحاسب ويُوبخ ، وتُوزن له حسناته وسيئاته ، وهو في ذلك كله يظن أن الله لم يحاسب إلا هو ، ولعل آلاف آلاف ألف مثله في لحظة واحدة. وكل منهم يظن ظنه ، لا يرى بعضهم بعضاً ، ولا يسمعه ، وهو قوله تعالى : {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة}. هـ.
{إن الله سميع} لقول من يُنكر البعث من المشركين ، {بصيرٌ} بأعمالهم ، فيجازيهم.
(5/570)
الإشارة : أوصاف الباري سبحانه كلها كاملة ، غير محصورة ولا متناهية ؛ من علم ، وقدرةٍ ، وإرادة ، وكلام ، وغيرها. وأوصاف العبد كلها قصيرة متناهية ، وقد يمد الحقُّ عبده بصفة من صفاته التي لا تتناهى ، فإذا أمده بصفة الكلام تكلم بكلام تعجز عنه العقول ، لا يقدر على إمساكه ، فلو بقي يتكلم عمرَه كله ما نفد كلامه ، حتى يُسكته الحق تعالى. وقد كان بعض السادات يقول لأصحابه ، حين يتكلم عليهم : إني لأستفيد من نفسي كما تستفيدون أنتم مني ، وذلك حين الفيض الإلهي. وإذا أمده بصفة القدرة ، قدر على كل شيء ، وإذا أمده صفة السمع ؛ سمع كل شيء ، وإذا أمده بصفة البصر ، أبصر كل موجود... وهكذا. وهذه الأوصاف كامنة في العبد من حيث معناه ، احتجبت بظهور أضدادها ؛ صوناً لسِّر الربوبية. والله تعالى أعلم.
379
جزء : 5 رقم الصفحة : 378
يقول الحق جل جلاله : {ألم تَرَ أن الله يُولج الليلَ في النهارِ} ؛ يُدخل ظلمة الليل في وضوء النهار ، إذا أقبل الليل ، {ويُولج النهارَ في الليل} ؛ يُدخل ضوء النهار في ظلمة الليل ، إذا أقبل النهار. أو : بإدخال جزء أحدهما في الآخر ؛ بزيادة الليل أو النهار. {وسخَّر الشمسَ والقمرَ} لمنافع العباد ، {كلٌّ} ، أي : كل واحد من الشمس والقمر {يجري} في فلكه ، ويقطعه ، {إلى أجل مُسَمّى} ؛ إلى يوم القيامة : أو : إلى وقت معلوم للشمس ، وهو تمام السنة ، والقمر إلى آخر الشهر. {وإن الله بما تعملون خبير} ؛ عالم بكنهه ، لا يخفى عليه شيء. فدل ، بتعاقب الليل والنهار ، أو بزيادتهما ونقصانهما ، وَجَرْي النيرين في فلكهما ، على تقدير وحساب معلوم ، وبإحاطته جميع أعمال الخلق ، على عظيم قدرته ، وكمال علمه وحكمته.
(5/571)
{ذلك} شاهد {بأن الله هو الحقُّ} ، وما سواه باطل ، {وأن ما تدعون من دونه الباطل} ؛ المعدوم في حد ذاته ، لا حقيقة لوجوده. أو : ذلك الذي وصف بما وصف به ، من عجائب قدرته وباهر حكمته ، التي يعجر عنها الأحياء القادرون العالمون ، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله ؟ إنما هو بسبب أنه الحق الثابت الإلهية ، وأن مَن دونه باطل ألوهيته ، {وأن الله هو العلي الكبير} ، أي : العلي الشأن ، الكبير السلطان.
{ألم تَرَ أن الفلكَ} ؛ السفن {تجري في البحر بنعمةِ الله} بإحسانه ورحمته ، أو : بالريح ، لأن الريح من نعم الله. أو : ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والمتاع ، فالباء ، حينئذٍ ، للأرزاق ، وهو استشهاد آخر على باهر قدرته ، وكمال حكمته ، وشمول إنعامه. {ليُريَكم من آياته} ؛ من عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموه ، {إن في ذلك لآياتٍ} دالة على وحدانيته وكمال صفاته ؛ {لكل صبَّارٍ} في بلائه ، {شكورٍ} لنعمائه. وهما من صفة المؤمن. فالإيمان نصفان ، نصف شكر ونصب صبر ، فلا يَعْتَبِرُ بعجائب قدرته إلا من كان هكذا.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 380
وإِذا غَشِيَهُم} ، أي : الكفار ، أي : علاهم وغطاهم {موجٌ كالظُّلَلِ} ، أي : كشيء يظل ؛ من جبل ، أو سحاب ، أو غيرهما ، فالموج الكبير يرتفع فيعود كالظلل ؛ جمع ظُلة ، وهو ما أظلك من جبل أو سقف. فإذا غشيهم ذلك ؛ {دَعَوُاْ الله مخلصين له الدينَ} ، لا
380
(5/572)
يدعون معه غيره ، لزوال ما ينازع الفطرة بالقهرية. {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقْتَصِدٌ} ؛ مقيم على الطريق القصد ، باقٍ على الإيمان ، الذي هو التوحيد ، الذي كان منه في حال الشدة ، لم يعد إلى الكفر ، أو : متوسط في الظلم والكفر ، انزجر بعض الانزجار. ولم يَغْلُ في الكفر والعدوان. أو مُقْتَصِدٌ في الإخلاص الذي كان عليه في البحر ، يعني : أن ذلك الإخلاص لحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط ، إلا النادر ، {وما يجحد بآياتنا} أي : بحقيقتها {إلا كل ختَّارٍ} ؛ غدار. والختْر : أقبح الغدر ، {كفورٍ} لنعم ربه. وهذه الكلمات متقابلة ؛ لفظاً ومعنى ، فَخَتَّارٌ : مقابل صبّار ، وكفور : مقابل شكور ؛ لأن من غدر لم يصبر ، ومن كفر لم يشكر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ألم تر أن الله يُولج ليل القبض في نهار البسط ، ونهار البسط في ليل القبض ، فهما يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار ، فإذا تأدب مع كل واحد منهما ؛ زاد بهما معاً ، وإلا نقص بهما ، أو بأحدهما. فآداب القبض : الصبر والرضا ، والسكون تحت مجاري الأقدار. وآداب البسط : الحمد ، والشكر ، والإمساك عن الفضول في كل شيء. وسخَّر شمس العيان وقمر الإيمان ، كلٌّ يجري إلى أجل مسمى ؛ فقمر الإيمان يجري إلى طلوع شمس العرفان ، وشمس العرفان إلى ما لا نهاية له من الأزمان. ذلك بأن الله هو الحق ، وما سواه باطل. فإذا جاء الحق ، بطلوع شمس العيان ، زهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقاً. وإنما أثبته الوهم والجهل. ألم تر أن سفن الأفكار تجري في بحار التوحيد ، لترى عجائب الأنوار وغرائب الأسرار ، من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ؟ إن في ذلك لآياتٍ لكل صبَّار على مجاهدة النفس ، شكور على نعمة الظَّفَرِ بحضرة القُدُّوسِ.
(5/573)
وإذا غشيهم ، ، في حال استشرافهم على بحر الحقيقة ، موج من أنوار ملكوته ، فكادت تدهشهم ، تضرعوا والتجأوا إلى سفينة الشريعة ، حتى يتمكنوا فلما نجاهم إلى بر الشريعة ، فمنهم مقتصد ؛ معتدل بين جذب وسلوك ، بين حقيقة وشريعة ، ومنهم : غالبٌ عليه السكر والجذب ، ومنهم : غالب عليه الصحو والسلوك. وكلهم أولياء الله ، ما ينكرهم ويجحدهم إلا كل ختَّار جاحد. قال القشيري : {وإذا غشيهم موج كالظلل} ؛ إذا تلاطمت عليهم أمواجُ بحارالتقدير ، تمنوا أن تلفظهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة ، فإذا جاء الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 380
فَكَمْ قدْ جَهِلْتُمْ ، ثم عُدْنا بِحِلْمِنَا ،
أَحِبَّاءَنَا : كَمْ تَجْهَلُونَ وَنَحْلُمُ!
جزء : 5 رقم الصفحة : 380
قلت : (بأي أرض) ؛ قال في المصباح : الأفصح : استعمال " أي " في الشرط والاستفهام بلفظ واحد ، للمذكر والمؤنث ، وعليه قوله تعالى : {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [غافر : 81] ، وقد تطابق في التذكير والتأنيث ، نحو أَيُّ رَجُلٍ ، وأي وأية امرأة. وفي الشاذ : بأية أرض تموت. هـ.(5/574)
يقول الحق جل جلاله : {أيها الناس اتقوا ربكم} ؛ اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية ، بطاعته وترك معصيته. {واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده} شيئاً ، لا يقضى عنه شيئاً ، ولا يدفع عنه شيئاً. والأصل : لا يجزى فيه ، فحذف. {ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً} ، وتغيير النظم في حق الولد ، بأن أكده بالجملة الاسمية ، وبزيادة لفظ (هو) ، وبالتعبير بالمولود ؛ للدلالة على حَسْمِ أطماعهم في أن ينفعوا آبائهم الذين ماتوا على الكفر ؛ بالشفاعة في الآخرة. ومعنى التأكيد في لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل منه ، فضلاً عن أن يشفع لأجداده ، لأن الولد يقع على الولد وولد الولد ، بخلاف المولود ؛ لأنه لِمَا وُلِدَ منك. كذا في الكشاف. قلت : وهذا في حق الكفار ، وأما المؤمنون ؛ فينفع الولد والده ، والوالد ولده بالشفاعة ، كما ورد في قارئ القرآن والعالمِ ، وكل من له جاه عند الله ، كما تقدم في سورة مريم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 381
(5/575)
ثم قال تعالى : {إِنَّ وعدَ الله} بالبعث والحساب والجزاء ، {حقٌّ} لا يمكن خلفه ، {فلا تغرنكم الحياةُ الدنيا} ؛ بزخارفها الغرارة ؛ فإِنَّ نعمها دانية ، ولذاتها فانية ، فلا تشغلكم عن التأهب للقاء ، بالزهد فيها ، والتفرغ لِمَا يرضي الله ، من توحيده وطاعته ، {ولا يغُرُّنَّكم بالله} ، أي : لا يعرضنكم لخطر الغرة بالله وبحلمه ، أو : لا يوقعنكم في الجهل بالله والغرة به ، {الغرورُ} أي : الشيطان ، أو : الدنيا ، أو : الأمل. وفي الحديث : " الكيسَ من دَانَ نَفسَهُ وعَمِلَ لَمَا بَعْدَ المَوْتِ ، والأحمقُ من أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وتمنَّى عَلَى الله الأمَاني " وفي الحديث أيضاً : " كَفَى بخشية الله علماً ، وبالاغترار به جهلاً ". {إن الله عنده علمُ الساعة} أي : وقت قيامها ، فلا يعلمه غيره ، فتأهبوا لها ، قبل أن تأتيكم بغتة. {ويُنزل الغيث} : عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل ، أي : إن الله يُثبت عنده علم الساعة ، ويُنزل الغيث في وقته ، من غير تقديم ولا تأخير ، وفي محله ، على ما سبق في التقدير ، ويعلم كم قطرة ينزلها ، وفي أي بقعة يمطرها. {ويعلم ما في الأرحام} ؛ أذكر أم أنثى ، أتام أم ناقص ، وشقي أو سعيد ، وحسن أو قبيح. {وما تدري نفس ماذا تكْسِبُ غداً} من خير أو شر ، ووفاق وشقاق ، فربما كان عازمة على الخير
382
فعملت شراً ، أو على شر فعملت خيراً. {وما تدري نفس بأي أرضٍ تموتُ} أي : أين تموت ، فربما أقامت بأرض ، وضربت أوتادها ، وقالت : لا أبرحُها ، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت بمكان لم يخطر ببالها. رُوي أن ملك الموت مرَّ على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه ، فقال الرجل : مَن هذا ؟ فقال : ملك الموت ، فقال : كأنه يُريدني ، فسأل سليمانَ أن يحمله الريح ويلقيه ببلاد لهند ، ففعل ، ثم قال ملك الموت لسليمان : كان دوام نظري إليه تعجباً منه ، لأني أُمرت أن أقبض روحه بالهند ، وهو عندك. هـ.
(5/576)
وجعل العلم لله والدرايةَ للعبد ، لِمَا في الدراية من معنى التكسب والحيلة ، فهذه الأمور الخمسة قد اختص الله بعلمها. وأما المنجم الذي يُخبر بوقت الغيث والموت ؛ فإنه يقول بالقياس والنظر في المطالع ، وما يُدرَك بالدليل لا يكون غيباً ، على أنه مجرد الظن ، والظن غير العلم. وعن ابن عباس : من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب. وجاءه يهودي منجم ، فقال : إن شئت أنبأتك أنه يحم ابنك ويموت بعد عشرة أيام ، وأنت لا تموت حتى تعمى ، وأنا لا يحول عليّ الحول حتى أموت. قال له : أين موتك ؟ قال : لا أدري ، فقال ابن عباس : صدق الله : {وما تدري نفس بأي أرض تموت}. ورأى المنصورُ في منامه ملك الموت ، وسأله عن مدة عمره ، فأشار بأصابعه الخمس ، فعبرها المعبرون بخمس سنين ، وبخمسة أشهر ، وبخمسة أيام. فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : هو إشارة إلى هذه الآية ، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 381
وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته : قيل : أن الله تعالى يعلم الأشياء بالوَسم والرسم ، والرسم يتغير ، والوسم لا يتغير ، فقد أخفى الله تعالى الساعة ، ولم يخف أمارتها ، كما جاء عن صاحب الشرع. وكذا قد يطلع أولياءه على بعض غيبه ، ولكن لا من كل وجوهه ، فقد يعلم نزول المطر من غير تعين وقته واللحظة التي ينزل فيها ومقداره ، وبالجملة فعلمُ ما يكون من الخواص ، جُملة لا تفصيلي ، وجزئي لا كُلي ، ومقيد لا مطلق ، وعرضي لا ذاتي ، بخلاف علمه تعالى. هـ.
(5/577)
قال المحلي : روى البخاري ؛ عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب الخمس : {إن الله عنده علم الساعة...} إلى آخر السورة.. ونقل ابن حجر عن ابن أبي جمرة ، بعد كلام ، ما نصه : والحكمة في جعلها خمسة : الإشارة إلى حصر العوالم فيها ، ففي قوله : {ما تغيض الأرحام} : الإشارة إلى ما يزيد في الإنسان وما ينقص. وخص الرحم بالذكر ، لكون الأكثر يعرفونها بالعادة ، ومع ذلك فنفى أن يعرفها أحد بحقيقتها ، فغيرها بطريق الأولى. وفي قوله : لا يعلم متى يأتي المطر : إشارة إلى أمور العالم العلوي ، وخص المطر مع أن
383
له أسباباً قد تدل على وقوعه ، لكنه من غير تحقيق. وفي قوله : " لا تدري نفس بأي أرض تموت " : إشارة إلى أمور العالم السفلي ، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده ، ولكن ليس ذلك حقيقة ، وإن مات ببلده لا يعلم بأي بقعة يُدفن فيها ، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه ، بل قبر أعده هو له. وفي قوله : " ولا يعلم ما في غد إلا الله " : إشارة إلى أنواع الزمان ، وما فيها من الحوادث ، وعبَّر بلفظ (غدٍ) ؛ لكون حقيقته أقربَ الأزمنة إليه ، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه ، مع إمكان الأمارة والعلامة ، فما بعدُ عنه أولى. وفي قوله : " متى تقوم الساعة إلا الله " ؛ إشارة إلى علوم الآخرة ، فإن يوم القيامة أولها ، وإذا نفى علم الأقرب انتقى علم ما بعدُ ، فجمعت الآية أنواع الغيوب ، وأزالت جميع الدعاوى الفاسدة. وقد بيّن في قوله تعالى ، في الآية الأخرى ، وهي قوله : {فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا} [الجن : 26 ، 27] الآية ، أن الإطلاع على شيء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوقيف. هـ ملخصاً.
(5/578)
والحاصل : أن العوالم التي اختص الله بها خمسة : عالم القيامة وما يقع فيه ، والعالم العلوي وما ينشأ منه ، وعالم الأرض وما يقع فيه ، وعالم الإنسان وما يجري عليه ، وعالم الزمان وما يقع فيه. {إن الله عليم خبير} عليم بالغيوب ، خبير بما كان وبما يكون. وعن الزهري : أَكْثِرُوا من قراءة سورة لقمان ؛ فإن فيها أعاجيب هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 381
الإشارة : يا أيها الناس المتوجهون إلى الله ، إنَّ وَعْدَ الله بالفتح ، لمن أنهض همته إليه ، حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأشغالها ، عن النهوض إليها ، ولا يغرنكم بكرم الله الشيطانُ الغرور ، فيغركم بكرم الله ، ويصرفكم عن المجاهدة والمكابدة ؛ إذ لا طريق إلى الوصول إلا منهما ، إن الله عنده علم الساعة التي يفتح عليها العبد فيها ، وينزل غيث المواهب والواردات ، ويعلم ما في أرحام الإرادة ، من تربية المعرفة واليقين ، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً من زيادة الإيمان ونقصانه ، وما تلقاه من المقادير الغيبية ، فيجب عليها التفويض والاستسلام ، وانتظار ما يفعل الله بها في كل غد ، وما تدري نفس بأي أرض من العبودية تموت فيها ، إن الله عليم خبير.
قال القشيري : في قوله : {يا أيها الناس اتقوا ربكم} : خوّفهم ، تارةً ، بأفعاله ، فيقول : {اتقوا الله} [البقرة : 48 وغيرها] ، وتارة بصفاته ، فيقول : {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىا} [العلق : 14] ، وتارة بذاته ، فيقول : {وَيُحِذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمرآن : 28]. هـ. وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
384
جزء : 5 رقم الصفحة : 381(5/579)
سورة السجدة
جزء : 5 رقم الصفحة : 384
قلت : (تنزيل) : إما خبر عن (الاـم) ، إن جُعِلَ اسماً للسورة ، أو : خبر عن محذوف ، أي : هذا تنزيل. أو : مبتدأ ، خبره : (لا ريب فيه). وعلى الأول (لا ريب) : خبر بعد خبر ، و(من رب العالمين) : خبر ثالث. أو : خبر عن " تنزيل " ، و(لا ريب فيه) : معترض. والضمير في (فيه) : راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي : كونه منزلاً من رب العالمين ، و " أم " : منقطعة بمعنى : " بل ".
يقول الحق جل جلاله : {الاـم} ؛ أيها المصطفى المقرب ، هذا الذي تتلوه هو {تنزيلُ الكتاب لا ريبَ فيه} ، لأنه معجز للبشر ، ومثله أبعد شيء عن الريب ، وهو {من ربِّ العالمين} لا محالة. {أم يقولون افتراه} ، أي : اختلقه محمد من عنده ، وهو إنكار لقولهم ، وتعجيب منه ؛ لظهور أمره في عجزهم عن الإتيان بسورة منه. قال تعالى : {بل هو الحقُّ} الثابت {من ربك} ، ولم تفتره ، كما زعموا ؛ تعنتاً وجهلاً ، أنزله عليك {لتُنذر قوماً} أي : العرب ، {ما أتاهم من نذير من قَبلك} ، بل طالت عليهم الفترة من زمن إسماعيل وعيسى - عليهما السلام - {لعلهم يهتدون} إلى الصواب من الدين. والترجي مصروفٌ إلى
385
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه : 44] مصروفاً إلى موسى وهارون.
الإشارة : (الاـم) الألف : أَلِفَ المحبون قُربى ، فلا يصبرون عني. اللام : لمع نوري لقلوب السائرين ، فزاد شوقهم إليّ. الميم : مَلَك الواصلون ملكي وملكوتي ، فلا يغيبون عني. تنزيل الكتاب ، إذا طال أمد لقاء الأحباب ، فأعزّ شيء على المحبين كتاب الأحباب. أنزلت على أحبابي كتابي ، وحَمَلتْ إليهم بالرسل خطابي ، ولا عليهم إن قرع أسماعَهم عتابي ، فإنهم مني في أمان من عذابي. {أم يقولون افتراه} ، إنكار الأعداء على المحبين سُنَّة لازمة. فإن أُلبِسَ الحق على الأعداء فلا يضركم ، ولا عليكم ، فإنَّ صحبة الحبيب للحبيب أَلَدُّ ما تكون عند فقد الرقيب. قاله القشيري.(5/580)
جزء : 5 رقم الصفحة : 385
يقول الحق جل جلاله : {اللهُ الذي خلق السماوات والأرضَ وما بينهما في} مقدار {ستةِ أيام ثم استوى على العرش} أي : استولى بقهريه ذاته. وسئل مالك عنه ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عن هذا بدعة. هـ. ولم تتكلم الصحابة على الاستواء ، بل أمسكوا عنه ، ولذلك قال مالك : السؤال عنه بدعة. وسيأتي شيء في الإشارة. {ما لكم من دونه} ؛ من دون الله {من وليٍّ ولا شفيعٍ} أي : إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً ، أي : ناصراً ينصركم ، ولا شفيعاً يشفع لكم ، {أفلا تتذكرون} ؛ تتعظون بمواعظ الله.
{يُدبّرُ الأمرَ} أي : أمر الدنيا. وما يكون من شؤونه تعالى في ملكه ، فهو كقوله : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن : 29] ، أي : يُبديه لا يبتديه. وهو إشارة إلى القضاء التفصيلي ، الجزئي ، لا الكلي ، فإنه كان دفعة. يكون ذلك التدبير {من السماء إلى الأرض} ، فيدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية ، نازلة آثارها إلى الأرض. {في يوم كان مقداره ألفَ سنةٍ مما تعدُّون} من أيام الدنيا.
قال الأقليشي : جاء في حديث : " إن بُعد ما بين السماء والأرض ، وما بين سماء إلى سماء ، مسيرة خمسمائة سنة " وفي حديث آخر : " إن بين ذلك نَيِّفاً وسبعين سنة " ، وإنما وقع الاختلاف في ذلك بالنسبة إلى سير الملائكة. وإن سرعة بعضها أكثر من سرعة بعض. كما يقول القائل : من موضع كذا إلى كذا مسيرة شهر للفارس وشهرين للراجل ، وعليه يخرج قوله تعالى : {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}.
386
(5/581)
وقال في آية أخرى : {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج : 4]. وهكذا الوجود مَنْ علوه إلى سفله ، مِنْ الملائكة من يقطعه في مدةٍ ما ، ويقطعه غيره في أكثر منها أو أقل. هـ. وقيل : المعنى : أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر ، فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة ، أو خمسين ألف سنة. فقد قيل : إن مواقف يوم القيامة خمسون موقفاً ، كل موقف ألف سنة. وقد حكى هذا ابن عطية ، فقال : يُدبر الأمر في مدة الدنيا ، ثم يعرج إليه يوم القيامة. ويوم القيامة : مقداره ألف سنة ؛ من عَدِّنا. وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة ؛ لِهوله ، حسبما في سورة المعارج. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 386
قلت : والتحقيق ، في الفرق بين الآيتين ، أن الحق تعالى ، حيث لم يختص بمكان دون مكان ، وكانت الأمكنة في حقه تعالى كلها واحدة ، وهو موجود معها وفيها بعلمه وأسرار ذاته ، كان العروج إنما هو إليه على كل حال ، بعدت المسافة أو قربت. لكن لما علقَ العروج بتدبير الأمور وتنفيذها ، قرّب المسافة ؛ ليعلم العبد أن القضاء نافذ فيه بسرعة. ولمَّا عَلَّقَ عروج الملائكة والروح إلى مطلق الذات المقدسة بَعَّدَ المسافة ؛ زيادة في علو شأنه ورفعة قدره. وكل هذا العروج في دار الدنيا. على قول من عَلَّقَ (في يوم) بتَعْرج في سورة المعارج. فتأمله.
{ذلك عالمُ الغيب والشهادة} ، أي : ذلك الموصوف بتلك الصفات العظام هو عالم ما غاب عن الأبصار من عجائب أسرار عالم الملكوت ، وما شوهد في عالم الحس من عجائب عالم الملك. {العزيزُ} ؛ الغالب أمره وتدبيره ، {الرحيم} ؛ البالغ لطفُه وتيسيره.
(5/582)
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى تجلى بهذه الكائنات ، قطعة من نور ذاته ، على ترتيب وتمهيل. فتجلى بالعرش ، ثم بالماء ، فكان عرشه على الماء ، ثم بالكرسي ، ثم بالأرض ، ثم بالسموات ، ولما أكمل أمر مملكته تجلى بنور صمداني رحماني من بحر جبروته ، استوى به على عرشه ؛ لتدبير ملكه ، ثم تجلى بآدم على صورة ذلك التجلي. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم على صورته " وفي رواية : " على صورة الرحمن " وبذلك التجلي يتجلى يوم القيامة لفصل عباده ، ولرؤيته - باعتبار العامة - ، وهذا التجلي كله ، من جهة معناه ، متصل بسائر التجليات ، جزئي من جهة تشكيله للمعنى الكلي ، والفرق بينه وبين التجليات الظاهرة للحس : أن التجلي المستولي غَيْرُ مُرْتَدٍ برداء الحس ؛ إذ لا عبودية فيه ، ولا قهرية تلحقه. ولأنه لم يظهر للعيان حتى يحتاج إلى رداء ، لأن كنزه ما زال مدفوناً ، حيث ارتفع فوق تجليات الأكوان. فتأمل ، وسَلِّمْ ، إن لم تفهم ، ولا تبادر بالإنكار حتى تصحب الرجال ، فيخوضون بك بحر الأحدية الحقيقية ، فتفهم أسرار التوحيد. وبالله التوفيق.
387
جزء : 5 رقم الصفحة : 386
قلت : (الذي) : صفة للعزيز ، أو : خبر عن مضمر. ومن قرأ {خَلَقَهُ} ؛ بالفتح ؛ فصفة لكل ، ومن سَكَّنَهُ ، فبدل منه ، أي : أَحْسَنَ خَلْقَ كل شَيْءٍ.
(5/583)
يقول الحق جل جلاله في وصف ذاته : {الذي أحسن كلَّ شيءٍ خلقه} أي : أبدع خلق كل شيء ، أتقنه على وفق حكمته. أو : أتقن كل شيء من مخلوقاته ، فجعلهم في أحسن صورة. ثم {بدأ خَلْقَ الإنسان} ؛ آدم {من طين ثم جعل نسله} ؛ ذريته {من سلالةٍ} أي : نطفة مسلولة من سائر البدن ، {من ماءٍ} أي : مَنِيٍّ ، وهو بدل من سلالة ، {مِّهِينٍ} ؛ ضعيف حقير. {ثم سوّاه} أي : سوّى صورته في أحسن تقويم ، {ونفخ فيه من روحه} ، أضافه إلى نفسه ، تشريفاً ، إشارة إلى أنه خلق عجيب ، وأن له شأناً ومناسبة إلى حضرة الربوبية ، ولذلك قيل : من عرف نفسه عرف ربه. وقد تقدم في سورة الإسراء ، في الكلام على الروح ، وجه المعرفة منه. {وجعل لكم السمعَ والأَبْصارَ والافئدة} لتسمعوا كلامه ، وتُبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته ، وتعقلوا ، فتعرفوا صانعكم ومُدبرَ أمرِكم. {قليلاً ما تشكرون} أي : تشكرون شكراً قليلاً على هذه النعم ؛ لقلة التدبر فيها.
{وقالوا} ؛ منكرين للبعث : {أئذا ضللنا في الأرض} ، أي : صِرْنَا تراباً ، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض ، لا نتميز منه ، كما يضل الماء في اللبن. أو : غبنا في الأرض بالدفن فيها ، يقال : ضَلَلَ ؛ كضرب ، وضِلل ؛ كفرح. وانتصب الظرف في (أإذا) بقوله : {أئنا لفي خلق جديد}. أي : أُنبعث ، ونُجدد ، إذا ضللنا في الأرض ؟ والقائل لهذه المقالة أُبيّ بن خلف ، وأسند إليهم ؛ لرضاهم بذلك ، {بل هم بلقاء ربهم كافرون} ؛ جاحدون. لَمّا ذكر كفرهم بالبعث ؛ أضرب عنه إلى ما هو أبلغ ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة ، لا بالبعث وحده. وقال المحشي : أي : ليس لهم جحود قدرته تعالى على الإعادة ؛ لأنهم يعترفون بقدرته ، ولكنهم اعتقدوا ألاَّ حساب عليهم ، وأنهم لا يَلْقَوْنَ الله تعالى ، ولا يصيرون إلى جزائه. هـ. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 388
(5/584)
الإشارة : كل ما أظهر الحق تعالى : من تجلياته الكونية ؛ فهي في غاية الإبداع والاتفاق في أصل نشأتها ، كما قال صاحب العينية :
وَكُلُّ قَبِيح ، إنْ نَسَبْتَ لحُسْنِه
أَتَتْكَ مَعَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقْصَانَ القَبِيحِ جَمَالُهُ
فَمَا ثَمّ نُقْصَانٌ ، وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ
388
وأكملُها وأعظمُها : خلقةُ الإنسان ، الذي خُلِقَ على صورة الرحمن ، حيث جعل فيه أوصافه ؛ من قدرة ، وإرادة ، وعلم ، وحياة ، وسمع ، وبصر ، وكلام ، وهيأه لحضرة القدس ومحل الأنس ، وسخّر له جميع الكائنات ، وهيأه لحمل الأمانة ، إلى غير ذلك مما خص به عبده المؤمن. وأما الكافر فهو في أسفل سافلين. قال الورتجبي : ذكر حسن الأشياء ، ولم يذكر هنا حسن الإنسان ؛ غيرةً ، لأنه موضع محبته ، واختياره الأزلي ، كقول القائل :
وكم أبصرتُ مِن حُسْنٍ ، ولكن
عليك ، من الورى ، وقع اختياري
قال الواسطي : الجسم يستحسن المستحسنات ، والروح واحديةٌ فردانيةٌ ، لا تستحسن شيئاً. وقال ابن عطاء في قوله : {ثم سواه...} : قوّمه بفنون الآداب ، ونفخ فيه من روحه الخاص ، الذي ، به ، فَضَّله على سائر الأرواح ، لما كان له عنده من محل التمكين ، وما كان فيه من تدبير الخلافة ، ومشافهة الخطاب - بعد أن قال الورتجبي - : أخص الخصائص هو ما سقط من حُسْنِ تَجلِّي ذاته في صورته ، كما ذكر بقوله : {ونفخ فيه من روحه}. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 388
(5/585)
يقول الحق جل جلاله : {قل يتوفاكم مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّل بكم} ؛ بقبض أرواحكم فتموتون ، {ثم إلى ربكم تُرجعون} ؛ بالبعث للحساب والعقاب. وهذا معنى لقاء الله الذي أنكروه. والتوفي : استيفاء الروح ، أي : أخذها ، من قولك : توفيت حقي من فلان ، إذا أَخَذْتُه وافياً من غير نقصان. وعن مجاهد : زُويت الأرض لملك الموت ، وجُعلت مثل الطست ، يتناول منها حيث يشاء. وعن مقاتل والكلبي : بلغنا أن اسم ملك الموت " عزرائيل " وله أربعة أجنحة : جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، والخلق بين رجليه ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض ، وله الدنيا مثل راحة اليد ، فهو يقبض أنفس الخلائق بمشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وعن معاذ بن جبل : أن لملك الموت حربة ، تبلغ ما بين المشرق والمغرب ، وهو يتصفح وجوه الموتى ، فما من أهل بيت إلا وهو يتصفحهم كل يوم مرتين - وفي حديث آخر ،
389
خمس مرات ، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ؛ ضربه بتلك الحربة. وقال : الآن يُزار بك عسكر الأموات.
فإن قيل : ما الجمع بين قوله : {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام : 61] و {تَوَفَّاهُمُ الْمَلاائِكَةُ} [النساء : 97] و {قُل يَتَوَفَاكُم مَّلَكُ المَوتِ} وقوله : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ} [الزمر : 42] ؟ فالجواب : أن توفي الملائكة ، القبضُ والنزعُ ، وتوفي ملك الموت الدعاء والأمر ، يدعو الأرواح فتجيبه ، ثم يأمر أعوانه بقبضها ، ثم يذهبون بها إلى عليين ، وقبض الحق تعالى : خَلْقُ الموتِ فيه : والحاصل : أنَّ قبض الملك : المباشرة ، وقبض الحق : الإخراجُ ؛ حقيقةً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 389(5/586)
قال الورتجبي : قال الحسن : ملك الموت هو الموكل بأرواح بني آدم ، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم. فانظر فيه. وأما حديث ملكي الموت والحياة ، فقال العراقي : لم أجد له أصلاً. ويعني بملك الحياة : كون الأرواح أنفاسَ ملك الحياة ؛ كما في الإِحْيَاء. ومذهب أهل السُنَّة قاطبة : أن ملك الموت هو الّذي يقبض جميع الأرواح ، من بني آدم والبهائِم وسائر الحيوانات. وبه قال مالك وأشهب. وذهب قوم إلى أن أرواح البهائم وسائر الحيوانات إنما تَقبض أرواحَهَا أعوانُ ملك الموت. وذهب قوم إلى أن الموت في حق غير بني آدم ، إنما هو عَدَمٌ مَحْضٌ ، كيبس الشجر وجفاف الثياب ، فلا قبض لأرواحها ، وهو أعم من كونها تُبعث ، أو : لا ؛ بأن تعاد عن عدم ، بخلاف المكلف ، فإن روحه لا تعدم ، خلافاً للملاحدة ، فإنهم جعلوا الموت كله عدماً محضاً ، كجفاف العود الأخضر ، وهو كفر.
هذا وقد اختلف في كون الموت ضد الحياة ، فيكون معنىً وجودياً ، أو هو عدم الحياة ، فيكون عدماً ، وعلى كلا القولين فألأرواح باقية بعد مفارقة الأبدان ، منعّمة أو معذبة.
{ولو ترى} يا محمد {إذِ المجرمون} وهو الذين قالوا : {أئذا ضللنا في الأرض...} إلخ ، و " لو " و " إذ " للماضي ، وإنما جاز هنا ؛ لأن المُتَرَقَّبَ محقق الوقوع ، و " ترى " هنا ، تامة لا مفعول لها ، أي : لو وقعت منك رؤيةٌ {إذ المجرمون ناكسوا رؤوسِهم} أي : وقت كون المجرمين ناكسي رؤوسهم من الذل والحياء والندم ، {عند ربهم} ؛ عند حساب ربهم ، قائلين : {ربنا أبصَرْنا وسَمِعْنا} أي : صدَّقنا الآن وعدك ووعيدك ، وأبصرنا ما حدثَتْنَأ به الرسلُ ، وسمعنا منك تصديق رسلك ، {فارجعنا} إلى الدنيا {نعملْ صالحاً} من الإيمان والطاعة ، {إِنا موقنون} بالبعث والحساب الآن. وجواب " لو " : محذوف ، أي : لرأيت أمراً فظيعاً.
(5/587)
{ولو شئنا لآتَيْنَا كلَّ نفسٍ هُداها} أي : ما تهتدي به إلى الإيمان والطاعة ، أي : لو شئنا لأعطيناه في الدنيا ، كل نفس ما عندنا من اللُطف الذي ، لو كان منهم اختيارُ ذلك ،
390
لاهتدوا. لكن لم نعطهم ذلك اللطف ؛ لِمَا علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره. وهو حجة على المعتزلة ؛ فإن عندهم : قد شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت ، وقد أعطاها ، لكنها لم تهتد وأَوّلوا الآية بمشيئة الجبر ، وهو فاسد. قال تعالى : {ولكن حقَّ القولُ مني لأملأنّ جهنمَ من الجِنّة والناس أجمعين} ، أي : ولكن وجب القول مني لأعمرنّ جهنم من الجِنَّة والناس ، الذين علمت منهم أنهم يختارون الكفر والتكذيب. وفي تخصيص الجن والإنس : إشارة إلى أنه عصم الملائكة من عمل يستوجبون به جهنم. وفي الآية ما يقتضي تخصيص أهل النار بالجن والإنس ، فيرد ما يُذكر أنه كان قبل آدم أُمم كفروا ، ولا يصح ذلك ، إلا أن يكونوا من الجن.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 389
فذُوقُوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} أي : باشروا وبال ترككم العمل للقاء يومكم هذا ، وهو الإيمان به. {إِنا نَسيناكم} : تركناكم في العذاب ، {وذوقوا عذابَ الخُلْدَ} أي : العذاب الدائم الذي لا انقطاع له {بما كنتم تعملون} من الكفر والمعاصي.
ثم ذكر ضدهم بقوله : {إنما يُؤمن بآياتنا} ؛ القرأن {الذين إذا ذُكَّروا بها خَرّوا سُجَّداً} ؛ سجدوا لله ؛ تواضعاً وخشوعاً ، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام ، {وسبَّحوا بحمد ربهم} أي : نزَّهوا الله عما لا يليق به ، وأثنوا عليه ؛ حامدين له ، {وهم لا يستكبرون} عن الإيمان والسجود له. جعلنا الله منهم بمنِّه ، آمين.
(5/588)
الإشارة : أهل الفَرْقِ من أهل الحجاب ، يتوفاهم ملك الموت ، وأهل الجمع مع الله من أهل العيان ؛ يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام ؛ كما قيل في الأخفياء من الأولياء ؛ الذين اختص الله تعالى بعلمهم - أنه يتولى قبض أرواحهم بيده ، فتطيب أجسادهم به ، فلا يعدوا عليها الثرى ، حتى يُبعثوا بها ، مُشْرِقَةً بنور البقاء المجعول فيهم ، بالرجوع إليه من الفناء ، فيكون بقلوبهم بَقَاءُ الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. وقد ورد في الخبر ؛ " من واظب على قراءة آية الكرسي ، دُبر كل صلاة ، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال الإكرام " يعني : من تدبر معناها. والمراد بذلك خطفتها بالتجلي ، واستغراقها في الشهود ، وغيبتها عن الغير في ذلك الوقت الهائل ، فيغيب عن الواسطة في شهود الموسوط ، مع وجود الواسطة ؛ لعموم الآية. والله تعالى أعلم.
قال القشيري : لولا غفلةُ القلوب لما أحال قبض أرواحهم على مَلَكِ الموت ؛ لأنَّ مَلَكَ الموتِ لا أَثَرَ منه في أحد ، وما يحصل في التوفِّي فمن خصائص قدرة الحق ، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربِّ ، فخاطبهم على قدر أفهامهم ، وعلَّقَ بالأغيار قلوبهم. وكلَّ يُخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه. هـ. وقال في قوله : {ولو ترى إذ المجرمون....} الآية : مَلَكَتْهُم الدهشةُ وَغَلبتهم الحجة ، فاعترفوا ، حينَ لا عُذْرَ ، واعترفوا ، حينَ لا اعتراف. هـ.
قوله تعالى : {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها..}. قال القشيري : لو شاء سَهَّل
391
(5/589)
سبيلَ الاستدلال ، وأدَام التوفيق لكلِّ أحدٍ ، ولكن تَعلَّقَتْ المشيئةُ بإغواء قوم ، وأردنا أن يكون للنار قُطان ، كما يكون للجنة سُكان ، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قومٌ وقومٌ. فَمن المحال أن نريد ارتفاعَ معلومنا ، إذ لو لم يقع ، ولم يحصل ؛ لم يكن عِلْماً. فإذا لا أكون إلها. ومن المحال أن أُريد ذلك. ويقال : من يتسلَّطْ عليه من يحبه ؛ لم يجد في مُلْكِه ما يكرهه. يا مسكين أفنيت عُمْرَك في النكد والعناء ، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء ، غيَّرت صفتك ، وأكثرتَ مجاهدتك ، فما تفعل فيما مضى ، كيف تبدله ؟ وما تصنع في مشيئتي ، وبأي وسع ترُدُّها ؟ وأنشدوا :
جزء : 5 رقم الصفحة : 389
شكا إليك ما وَجَدْ
من خَانَهُ فيك الجَلَدْ
حيرانُ ، لو شئتَ ، اهتدى
ظمآنُ ، لو شئتَ ، وَرَدْ. هـ.
قوله تعالى : {إنما يؤمن...} الآية ، خروا سُجداً بظواهرهم في التراب ، وبسرائرهم ، بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب ، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب ، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد الله ، كانت وسيلة بلا غاية. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 389(5/590)
يقول الحق جل جلاله : {تتجافى} أي ترتفع وتتنحى {جُنُوبهم عن المضاجع} ؛ عن الفُرش ومواضع النوم للصلاة والذكر. قال سهل : وَهَب لقوم هِبَةً ، وهو ان أَذِن لهم في مناجاته ، وجعلهم من أهل وسيلته ثم مدحهم عليه فقال : ( {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} ) ، {يَدْعُونَ} أي : داعين {ربَّهم خوفاً} ، أي : لأجل خوفهم من سخطه {وطمعاً} في رحمته ، وهم المجتهدون أو المتفكرون في الليل. وسيأتي في الإشارة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها : " هو قيامُ العبد من الليل ". وعن ابن عطاء : أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة ، وطلبت بساط القربة ، وعن أنس : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة ، فنزلت فيهم. وقال ابن عمر رضي الله عنه : قال صلى الله عليه وسلم : " من عَقَب - أي : أحيا - ما بين المغرب والعشاء ؛ بُني له في الجنة قصران مسيرة عام ، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة. وهي صلاة الأوابين وغفلة الغافلين. وإن من الدعاء المستجاب الذي
392
لا يُرد : الدعاء بين المغرب والعشاء " هـ. وقيل : هم الذين يَصلُّونَ العَتَمَةَ ، ولا ينامون عنها.
{ومما رزقناهم ينفقون} في طاعة الله ، يعني : أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس. {فلا تعلم نفس ما أُخْفِيَ لهم من قُرة أعين} أي : لا يعلم أحد ما أعد الله لهم من الكرامة ، مما تقرّ به العينُ من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. وقرأ حمزة ويعقوب : " أَخْفَى " ؛ على المضارع. {جزاء بما كانوا يعملون} ، وعن الحسن : في القوم أعمالهم في الدنيا ؛ فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وفيه دليل على أن المرادَ الصلاةُ في جوف الليل ؛ ليكون الجزاء وفاقاً. قاله النسفي.(5/591)
وفي حديث أسماء ، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذَا جَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِين ، يوم القيامة ، جاء مُنَادٍ يُنادِي بصوت يسمعه الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع ، اليوم ، مَنْ أَوْلَى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فيقومون ، وهم قليل. ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء ، فيقومون ، وهم قليل ، يسرحون جميعاً إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس " وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : " يقول الله - عز وجل - : أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " قال أبو هريرة : واقرؤوا ، إن شئتم : {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
جزء : 5 رقم الصفحة : 392
وقال في " البدور السافرة " : أخرج الترمذي ، عن أبي سعيد الخدري ؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ في الجّنَّة مَائَةَ دَرَجَةٍ ، لَوْ أَنَّ العَالَمِينَ اجتَمَعُوا في إحدَاهُنَّ لَوَسعَتْهُمُ " هـ. وقال ابن وهب : أخبرني عبد الرحمن بن زياد أنه سمع عُتبة بن عُبيد ، الضبي ، يذكر عمن حدَّثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة مائة درجة ، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض ، أول درجة منها دورُها وبيوتها وأبوابها وسرُرُها ومغاليقها ، من فضة ، والدرجة الثانية : دورها وبيوتها وسُرُرها ومغاليقها من ذهب ، والدرجة الثالثة : دورها وبيوتها وأبوابها وسُرُرها ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد. وسَبْع وتسعون درجة ، لا يعلم ما هي إلا الله تعالى " هـ.
وقيل : المراد بقرة الأعين : النظر إلى وجه الله العظيم. قلت : قرة عين كل واحد : ما كان بغيتَه وهِمَّته في الدنيا ، فمن كانت همته القصور والحور ، أعطاه ما تقر به عينه من
393(5/592)
ذلك ، ومن كانت بغيته وهمته النظرة ، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك ، على الدوام. قال أبو سليمان : شتان بين مَنْ هَمُّهُ القصور والحور ، ومن همه الحضور ورفعُ الستور. جعلنا الله من خواصهم. آمين.
الإشارة : قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية ، وهم العُبّاد والزهاد من الصالحين ، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم ؛ من نعيم الصقور ، والحور ، والولدان ، وغير ذلك. وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقطة ، وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة والحرية ، ثم عن مضاجع الفَرْقِ ، إلى حال الجمع ، ثم من الجمع إلى جمع الجمع. فهؤلاء على صلاتهم دائمون ، وفي حال نومهم عابدون ، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون ، وفي معاريج بحر عرفانهم سائحون ، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهؤلاء من دوام النظرة ، والعكوف في الحضرة ، واتصال الحبرة. فعبادة هؤلاء قلبية ، سرية ؛ خفية عن الكرام الكاتبين ، بين فكرة وشهود ، وعبرة واستبصار ، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، وقد ورد : (تفكر ساعة أفضل من عبَادَةِ سَبْعينَ سَنَة). هذا تفكر الاعتبار ، وأما تفكر الشهود والاستبصار ، فكل ساعة ، أفضل من ألف سنة ، كما قال الشاعر :
كُلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي
قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّه
(5/593)
أي : سنة ، ومع هذا لا يُخلون أوقاتهم من العبادة الحسية ، شكراً ، وقياماً بآداب العبودية ، وهي في حقهم كمال ، كما قال الجنيد : عبادة العارفين تاج على الرؤوس. هـ. وفي مثل هؤلاء ورد الخبر : " إن أهل الجنة بينما هم في نعيمهم ، إذ سطع عليهم نور من فَوق ، أضاءت منه منازلهم ، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا ، فنظروا إلى رجالٍ مِنْ فوقهم ، أهل عليين يرونهم كما يُرى الكوكب الدري في أفق السماء ، وقد فُضِّلُوا عليهم في الأنوار والنعم ، كما فضل القمر على سائر النجم ، فينظرون إليهم ، يطيرون على نجب ، تسرح بهم في الهواء ، يزورون ذا الجلال الإكرام ، فينادون هؤلاء : يا أخواننا ، ما أنصفتمونا ، كنا نُصلي كما تُصلون ، ونصوم كما تصومون ، فما هذا الذي فضلتمونا به ؟ فإذا النداء من قِبل الله تعالى : كانوا يجوعون حين تشبعون ، ويعطشون حين تروون ، ويعرون حين تكسون ، ويذكرون حين تسكتون ، ويبكون حين تضحكون ، ويقومون حين تنامون ، ويخافون حين تأمنون ، فلذلك فُضِّلوا عليكم اليوم " فذلك قوله تعالى : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ". هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 392
قال القشيري : (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ، في الظاهر ، عن الفراش ، قياماً بحقِّ العبادة والجهد والتِهجد ، وفي الباطن : بِتَبَاعُدِ قلوبِهم عن مضاجعات الأحوال ، ورؤية قَدرِ النفس ، وتوهم المقام ؛ لأن ذلك بجملته ، حجابٌ عن الحقيقة ، وهو للعبد سُمٍّ قاتل ، فلا يساكنون أعمالهم ، ولا يلاحظون أحوالهم ، ويفارقون مآلِفَهم ، ويَهجُرون
394
معارفهم. والليل زمان الأحباب ، قال الله تعالى : {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [القصص : 73] يعني : عن كلّ شُغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم ، والنهارُ زمان أهل الدنيا. قال الله تعالى : {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} [النبأ : 11].. انظر بقية كلامه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 392
(5/594)
يقول الحق جل جلاله : {أفمن كان مؤمناً} بالله ورسله {كمن كان فاسقاً} ؛ خارجاً عن الإيمان {لا يستوون} أبداً عند الله تعالى. وأفرد ، أولاً ؛ مراعاةً للفظ " من " ، وجمع ثانياً مراعاة لمعناها. ثم فصّل حالهم بقوله : {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جناتُ المأوى} أي : المسكن الحقيقي ، وأما الدنيا ، فإنها منزل انتقال وارتحال ، لا محالة ، وقيل : المأوى : جنة من الجنان. قال ابن عطية سميت جنة المأوى لأن أرواح المؤمنين تأوي إليها. هـ. أي : في الدنيا ؛ لأنها في حواصل طير خضر ، كما ورد في الشهداء ، وأما الصدِّيقون فإنها تشكل على صور أجسادها ، تسرح حيث شاءت. {نُزُلاً بما كانوا يعملون} أي : عطاء معجلاً بأعمالهم. والنُزُل : ما يقدم للنازل ، ثم صار عاماً.
(5/595)
{وأما الذين فسقوا فمأواهم النارُ} أي : هي ملجأهم ومنزلُهم ، {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها} ، فلا خروج منها ، ولا موت ، {وقيل} لهم : {ذُوقُوا عذابَ النار الذي كنتم به تُكذِّبون} ، هذا دليل على أن المراد بالفاسق : الكافر ؛ إذ التكذيب يقابل الإيمان. قال ابن جزي : فإن قيل : لِمَ وصف ، هنا ، العذاب ، وأعاد عليه الضمير ، ووصف ، في سبأ ، النار وأعاد عليها الضمير ، فقال : {عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ : 42] ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أنه خص العذاب في السجدة بالوصف ؛ اعتناء به ؛ لَمَّا تكرر ذكره في قوله : {لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر..} ، الثاني : أنه تقدم في السجدة ذكر النار ، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ المضمر ، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر ، فكما لا يوصف المضمر ؛ لم يوصف ما قام مقامه ، وهو النار ، فوصف العذاب ، ولم يصف النار ، الثالث - وهو الأقوى : أنه امتنع في السجدة وصف النار ، فوصف العذاب ، وإنما امتنع وصفها ؛ لتقدم ذكرها ، فإنك إذا ذكرت شيئاً ثم كررت ذكره لم يجز وصفه ، كقولك : رأيت رجلاً فأكرمت الرجل. فلا يجوز وصفه لما يوهم أنه غيره. هـ.
395
الإشارة : أفمن كان مصدقاً بطريق الخصوص ، داخلاً فيها ، شارباً من خمرتها ، كمن كان فاسقاً خارجاً عنها ، مشتغلاً بنفسه ، غريقاً في هواه ، لا يستوون أبداً. أما الذين آمنوا بها ، وصدقوا أهلها ، ودخلوا في تربيتهم ، فلهم جنات المعارف ، هي مأواهم ومعشش قلوبهم ، إليها يأوون ، وفيها يسكنون ، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن تربيتهم ، فمأواهم نار القطيعة ، وعذاب الحرص ، وغم الحجاب ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها ؛ إذ لا خروج منها إلا بصحبة أهلها. وقيل لهم : ذوقوا وبال الإنكار ، وحرمان الخصوصية ، التي كنتم بها تكذبون.
جزء : 5 رقم الصفحة : 395
(5/596)
يقول الحق جل جلاله : {ولنذيقنَّهم من العذاب الأدنى} أي : عذاب الدنيا ؛ من القتل ، والأسر في بدر ، أو ما مُحنوا به من السَّنَةِ ، سَبْعَ سنين. {دون العذاب الأكبر} أي : قبل عذاب الآخرة ، الذي هو أكبر ، وهو الخلود في النار. وعن الداراني : العذاب الأدنى : الخذلان ، والعذاب الأكبر : الخلود في النيران. وقيل : الأدنى : عذاب القبر ، والأكبر : النار. {لعلهم يرجعون} ؛ يتوبون عن الكفر.
{ومن أظلم} أي : لا أحد أظلم {ممن ذُكِّر} أي : وُعظ {بآياتِ ربه} ؛ القرآن ، {ثم أعرض عنها} اي : تولى عنها ، ولم يتدبر في معناها. و " ثم " ؛ للاستبعاد ؛ فإن الإعراض عن مثل هذه في ظهورها ، وإنارتها ، وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة العظمى ، بعد التذكر بها ، مُسْتَبْعَدٌ في العقل ، كما تقول لصاحبك : وجدت تلك الفرصة ثم لم تنتهِزْها - ؛ استبعاداً لتركه الانتهاز. {إنا من المجرمين منتقمون} ، ولم يقل : " منه " ، تسجيلاً عليه بإعراضه بالإجرام ، ولأنه إذا جعله أظلم مِنْ كل ظالم ، ثم توعد المجرمين ، عامة ، بالانتقام ، دلّ على إصابة الأظلم أوفَرُ نصيب الانتقام ، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
الإشارة : ولنذيقن أهل الغفلة والحجاب ، من العذاب الأدنى ، وهو الحرص والطمع والجزع والهلع ، قبل العذاب الأكبر ، وهو غم الحاجب وسوء الحساب. قال القشيري : قومٌ : الأدنى لهم : مِحَنُ الدُنيا ، والأكبر : عقوبة العُقبى. وقومٌ : الأدنى لهم : فترةٌ تُداخلهم في عبادتهم ، والأكبر : قسوةٌ تُصيبهم في قلوبهم. وقومٌ : الأدنى لهم : وقفة مع سلوكهم تمسهم. والأكبرُ : حَجْبَةٌ عن مشاهدتهم بسرهم - قلت : الأول في حق العوام ، والثاني : في حق الخواص ، وهم العباد والزهاد. والثالث : في حق أهل التربية من الواصلين - ثم قال : ويقال : الأدنى : الخذلان في الزلة ، والأكبر : الهجران في الوصلة. ويقال : الأدنى :
396
تكدّرُ مَشَارِبِهم ، بعد صفوها ، والأكبر : تَطَاوُلُ أيامِ الحَجْب ، من غير تبيين آخرها. وأنشدوا :
(5/597)
تَطَاوَلَ بُعْدُنَا ، يا قومُ ، حتى
لقد نَسَجَتْ عليه العنكبوتُ
هـ. ببعض المعنى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 396
أذقناهم ذلك ؛ لعلهم يرجعون إلى الله ، في الدنيا ؛ بالتوبة واليقظة. فإن جاء من يُذكِّرهم بالله ؛ من الداعين إلى الله ، ثم أعرضوا عنه ، فلا أحد أظلم منهم ، ولا أعظم جُرماً. إنا من المجرمين منتقمون.
جزء : 5 رقم الصفحة : 396
يقول الحق جل جلاله : {ولقد آتينا موسى الكتابَ} ؛ التوراة {فلا تكن في مِرْيةٍ} ؛ شك {من لقائه} ؛ من لقاء موسى الكتاب ، أو : من لقائك موسى ليلة المعراج ، أو : يوم القيامة ، أو : من لقاء موسى ربَّه في الآخرة ، كذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} ؛ وجعلنا الكتاب المنزَّل على موسى عليه السلام هُدىً لقومه ، {وجعلنا منهم أئمةً يَهْدُون} الناس ، ويدعون إلى الله وإلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه ، {بأمرنا} إياهم بذلك ، أو بتوفيقنا وهدايتنا لمن أردنا هدايته على أيديهم ، {لمّا صبروا} على مشاق تعليم العلم والعمل به. أو : على طاعة الله وترك معصيته. وقرأ الأَخَوَان : بكسر اللام ، أي : لصبرهم عن الدنيا والزهد فيها. وفيه دليل على أن الصبر ؛ ثمرته إمامة الناس والتقدم في الخير. {وكانوا بآياتنا} ؛ التوراة {يُوقنون} ؛ يعلمون علماً لا يخالجه شك ولا وَهْم ؛ لإمْعانِهم النظر فيها ، أو هِبَةٌ من الله تعالى : {إن ربك هو يَفْصِلُ} ؛ يقضي {بينهم يومَ القيامة} أي : بين الأنبياء وأممهم ، أو : بين المؤمنين والمشركين ، {فيما كانوا فيه يختلفون} من الدين ، فيظنه المُحِقُّ من المبطل.
(5/598)
الإشارة : أئمة الهدى على قسمين : أئمة يهدون إلى شرائع الدين ، وأئمة يهدون إلى التعرف بذات رب العالمين ، أئمة يهدون إلى معرفة البرهان ، وأئمة يهدون إلى معرفة العيان. الأولون : من عامة أهل اليمين ، والآخرون : من خاصة المقربين. الأولون صبروا على حبس النفس على ذل التعلم ، والآخرون صبروا على حبس النفس على الحضور مع الحق على الدوام. صبروا على مجاهدة النفوس ، حتى وردوا حضرة القُدُّوس. قال القشيري ، في شأن القسم الثاني : لمّا صبروا على طلبنا ؛ سَعِدوا بوجودنا ، وتعدّى ما نالوا
397
من أفضالنا إلى متَّبِعِيهم وانبسط شعاعُ شموسهم على جميع أهلِيهم ، فهم للخلق هُداةً ، وفي الدين عيون ، وللمسترشدين نجوم. هـ.
وفي الإحياء : للإيمان ركنان : أحدهما اليقين ، والآخر : الصبر : والمراد باليقين : المعارف القطعية ، الحاصلة بهداية اللهِ عَبْدَهُ إلى أصول الدين ، والمراد بالصبر ، العمل بمقتضى اليقين ؛ إذ النفس تعرف أن المعصية ضارة والطاعة نافعة. ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر. فيكون الصبر نصف الإيمان لهذا الاعتبار. هـ. وقوله تعالى : {إن ربك هو يفصل بينهم..} ، قال القشيري : يحكم بينهم ، فيُبين المقبول من المردود ، والمهجور من الموصول ، والرّضي من الغَويّ ، والعدو من الوليّ. فكم من بَهجةٍ دامت هناك! وكم من مهجةٍ ذابت كذلك. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 397
قلت : فاعل " يهد " : هو الله ، بدليل قراءة زيد عن يعقوب " نهد " بالنون ، ولا يجوز أن يكون الفاعل ، " كم " ؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام ، فلا يَعْمَلُ فيه بما قَبْله.
(5/599)
يقول الحق جل جلاله : {أَوَ لَمْ يَهْدِ لهم} أي : يُبين لهم الله تعالى ما يعتبرون به ، فينظروا {كم أهلكنا مِن قبلهِم من القرون} ؛ كعاد وثمود ، وقوم لوط ، {يمشون} يعني : قريشاً ، {في مساكنهم} حين يمرون على ديارهم ، ومنازُلُهمْ ، خاوية ، في متاجرهم إلى الشام ، {إن في ذلك لآياتٍ} دالة على قدرتنا ، وقهريتنا {أفلا يسمعون} المواعظ ، فيتعظون بها ؟ .
الإشارة : قال القشيري : لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حَبْرَةٍ ، فصاروا في عَبرةً ، كانوا في سرورِ ، فآلوا إلى ثبور ، فجميع ديارهم وتراثِهم صارت لأغيارهم ، وصُنوفُ أموالهم عادت إلى أشكالهم ، سكنوا في ظِلالهم ، ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم ، وفي مثلهم قيل :
نِعَمٌ ، كانت على قو
مٍ زمانا ، ثم فاتت ،
هكذا النعمةُ والإحـ
سانُ قد كانت وكانت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 397
يقول الحق جل جلاله : {أوَلَمْ يَرَوا أَنَّا نسوقُ الماءَ} : المطر {إلى أرض الجُرُز} أي : التي جُرِزَ نباتها ، أي : قُطِعَ ، ولم يَبْقَ منه شيء ؛ إما لعدم الماء ، أو لأنه رُعِيَ. يقال : جرزت الجراد الزرع ؛ إذ استأصلته ، وفي القاموس : وأرض جرز : لا تنبت ، أو أكل نباتها ، أو لم يصبها مطر. ثم قال : وأرض جارزة : يابسة غليظة ، وفيه أربع لغات : جُرْز وجُرُز وجَرَز وجُرَز. ولا يقال للتي لا تنبت ؛ كالسباخ : جرز ، بدليل قوله : {فنُخرج به} أي : بالماء ، {زرعاً تأكل منه} أي : الزرع ، {أنعامُهم} ؛ كالتبن والورق ، {وأنفسُهم} ؛ كالحب والتمر ، المراد بالزرع : كل ما يُزرع ويُستنبت ، (أفلا يُبصرون) ، فيستدولون به على قدرته على إحياء الموتى ؟ .
{ويقولون متى هذا الفتحُ} أي : النصر ، أو الفصل بالحكومة ؛ من قوله {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا} [الأعراف : 89]. وكان المسلمون يقولون : إن الله سيفتح لنا على المشركين ، أو يفتح بيننا وبينهم ، فإذا سمع المشركون ، قالوا : متى هذا الفتح ؟ أي : في أي وقت يكون {إن كنتم صادقين} في أنه كائن ؟ .
(5/600)
{قل يومَ الفتح} أي : يوم القيامة هو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم. أو : يوم نصرهم عليهم. أو : يوم بدر ، أو يوم فتح مكة ، {لا ينفعُ الذين كفروا إيمانُهم} ؛ لفوات محله ، الذي هو الإيمان بالغيب ، {ولا هم يُنْظَرون} ؛ يُمْهِلون ، وهذا الكلام لم ينطبق ؛ جواباً عن سؤالهم ؛ ظاهراً ، ولكن لمّا كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم ، على وجه التكذيب والاستهزاء ، أُجيبوا على حسب ما عُرف من غرضهم من سؤالهم ، فقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا ، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم ، فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم عند درك العذاب فلم تُمهلوا. ومن فسره بيوم بدر أو بيوم الفتح ، فهو يريد المقتولين منهم ؛ فإنهم لا ينفعهم إيمانهم في حال الفعل ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند دَرَك الغرق. {فأَعْرِضْ عنهم وانتظرْ} النصر وهلاكهم ، {إنهم مُنتظِرون} الغلبة عليكم وهلاككم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 398
قال عليه الصلاة والسلام : " من قرأ {الم تَنزِيلُ} في بيته ، لم يدخل الشيطان به ثلاثة أيام ". الإشارة : أولم يروا أنا نسوق الماء الذي تحيا به القلوب على يد المشايخ ، إلى القلوب الميتة بالجهل والغفلة ، فنخرج به ثمار الهداية إلى الجوارح ، تأكل منه ، من لذة حلاوته ، جوارحُهم وقلوبُهم ، أفلا يبصرون ؟ . ويقول أهل الإنكار لوجود هذا الماء : متى
399
هذا الفتح ، إن كنتم صادقين في أنه موجود ؟ قل : يوم الفتح الكبير - وهو يَوْمَ يَرْفَعُ اللهُ أولياءه في أعلى عليين - لا ينفع الذين كفروا بالخصوصية ، في دار الدنيا ، إيمانُهم في الالتحاق بهم ، ولا هم يُمهلون حتى يعلموا مثل عملهم ، فأعرض عنهم اليوم ، واشتغل بالله ، وانتظر هذا اليوم ، إنهم منتظرون لذلك.
(5/601)
قال القشيري : " أو لم يروا.. " الآية. الإشارة فيه : نَسْقي حَدَائِقَ وصلهم ، بعد جفاف عُودِها ، فيعود عُودُها مورِقاً بعد ذبوله ، حاكياً حالُه حالَ حصوله ، (ويقولون متى هذا الفتح..) استبعدوا يومَ التلاق ، وجحدوه ، فأخبرهم أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه. قوله تعالى : {فأعرض عنهم..} أي : باشتغالك بنا ، وإقبالك علينا ، وانقطاعك إلينا ، وانتظر زوائد وَصْلِنا وعوائدَ لطفنا ، إنهم منتظرون هواجِمَ مقتنا وخفايا مكرنا. وعن قريب وَجَدَ كُلٌّ مُنْتَظَرَهُ مُخْتَضَراً هـ. وبالله التوفيق ، وصلى الله على سيدنا محمد ، عين الوصول إلى التحقيق ، وعلى آله المبينين سواء الطريق ، وسلم.
400
جزء : 5 رقم الصفحة : 398(5/602)
سورة الأحزاب
جزء : 6 رقم الصفحة : 3
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها النبي} أي : المُشرِّف ؛ حالاً ، المفخم ؛ قدراً ، العلي ؛ رتبة ؛ لأن النبوة مشتقة من النَّبْوَةَ ، وهو الارتفاع. أو : يا أيها المخبرُ عنا ، المأمون على وحينا ، المبلغ خطابنا إلى أحبابنا. وإنما لم يقل : يا محمد ، كما قال : " يا آدم ، يا موسى " ؛ تشريفاً وتنويهاً بفضله ، وتصريحُه باسمه في قوله : {مُّحَمَدٌ رَّسُولُ اللهِ} [الفتح : 29] ، ونحوه ، ليعلم الناس بأنه رسول الله. {اتقِ الله} أي : اثبت على تقوى الله ، {ولا تُطع الكافرين والمنافقين} ؛ لا تساعدهم على شيء ، واحترس منهم ؛ فإنهم أعداء لله وللمؤمنين.
رُوي أن أبا سُفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور السُّلمي ، نزلوا المدينة على ابن أُبيّ ، رأس المنافقين ، بعد أُحد ، وقد أعطاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن أبي سَرْح ، وطُعْمَة بن أُبيْرق ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا ؛ اللات ، والعزى ، ومناة ، وقل : إن لها شفاعة ومنفعة لِمن عَبَدَها ، وندعك وَرَبَّك. فشقّ على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم ، فقال عمر : ائذن لنا ، يا
3
رسول الله ، في قتلهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إني قد أعطيتهم الأمان " فقال عمر : اخرُجوا في لعنة الله وغضبه ، فخرجوا من المدينة ، فنزلت.
أي : اتق الله في نقض العهد ، ولا تُطع الكافرين من أهل مكة ، كأَبي سفيان وأصحابه ، والمنافقين من أهل المدينة ، فيما طلبوا ، {إن الله كان عليماً} بخبث أعمالهم ، {حكيماً} بتأخير الأمر بقتالهم.
{واتبع ما يوحى إليك من ربك} في الثبات على التقوى ، وترك طاعة الكافرين والمنافقين. أو : كل ما يوحى إليك من ربك ، {إن الله كان بما تعملون خبيراً} أي : لم يزل عالماً بأعمالهم وأعمالكم. وقيل : إنما جمع ؛ لأن المراد بقوله : " اتبع " : هو وأصحابه ، وقرأ بالغيب ، أبو عمرو ، أي : بما يعمل الكافرون والمنافقون ، من كيدهم لكم ومكرهم. {وتوكل على الله} ؛ أَسْنِدْ أمرك إليه ، وكِلْهُ إلى تدبيره. {وكفى بالله وكيلاً} ؛ حافظاً موكولاً إليه كل أمر. وقال الزجاج : لفظه ، وإن كان لفظ الخبر ، فالمعنى : اكتفِ بالله وكيلاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 3(6/3)
الإشارة : أُمر بتقوى الله ، وبالغيبة عما يشغل عن الله ، وبالتوكل على الله ، فالتقوى أساس الطريق ، والغيبة عن الشاغل : سبب الوصول إلى عين التحقيق ، والتوكل زاد رفيق. قال القشيري بعد كلام : يا أيها المُرقَّى إلى أعلى المراتب ، المُتَلقَّى بأسنى القُرَب والمناقب ؛ اتقِ الله أن تلاحظ غَيْراً معنا ، أو تُساكِن شيئاً دوننا ، أو تُثبت شيئاً سوانا ، {ولا تطع الكافرين} ؛ إشفاقاً منك عليهم ، وطمعاً في إيمانهم ، بموافقتهم في شيء مما أرادوه منك. والتقوى رقيب على الأولياء ، تمنعهم ، في أنفاسهم وسكناتهم وحركاتهم ، أن ينظروا إلى غيره ، أو يُثْبِتُوا معه سواه ، إلا منصوباً بقدرته ، مصرَّفاً بمشيئته ، نافذاً فيه حُكْمُ قضيته.
التقوى لجامٌ يمنعك عمَّا لا يجوز ، زمامٌ يقودك إلى ما تُحب ، سوطٌ يسوقك إلى ما أمر به ، حِرْزٌ يعصمك من تَوَصُّل عقابه إليك ، عوذَةٌ تشفيك من داء الخطايا. التقوى وسيلةٌ إلى ساحة كرمه ، ذريعةٌ يُتَوصَّلُ بها إلى عفوه وجوده. {واتبع ما يوحى إليك...} ؛ لا تبتدع ، واقتِد بما نأمرك ، ولا تقتدِ ، باختيارك ، غَيْرَ ما نختار لك ، ولا تُعَرِّج - أي : تقم - في أوطان الكسل ، ولا تجنجْ إلى ناحية التواني ، وكن لنا لا لك ، وقم بنا لا بِكَ. " وتوكل " انسلخْ عن إهابك لنا ، واصدق في إيابك إلينا ، وتشاغلك عن حُسْبَانِكَ معنا ، واحذرْ ذهابَكَ عنا ، ولا تُقَصِّرْ في خطابك معنا. ويقال : التوكل : تَخلُّقُ ، ثم تَخلُّقٌ ، ثم تَوَثُقٌ ، ثم تَمَلُّقٌ ، تحققٌ في العقيدة ، وتخلقٌ بإقامة الشريعة ، وتَوثُّقٌ بالمقسوم من القضية ، وتملقٌ بين يديه بحُسْن العبودية. ويقال : التوكل : استواءُ القلب في العدم والوجود. هـ.
4
جزء : 6 رقم الصفحة : 3
(6/4)
يقول الحق جلّ جلاله : {ما جعل اللهُ لرجلِ من قلبين في جوفه} ؛ فيؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر ، أو : يتقي بأحدهما ويعصي بالآخر ، أو : يُقبل على الله بأحدهما ويُقبل على الدنيا بالآخر ، بل ما للعبد إلا قلب واحد ، إن أقبل به على الله ؛ أدبر عمن سواه ، وإن أقبل به على الدنيا ، أدبر عن الله. قيل : الآية مثل المنافقين ، أي : إنه لا يجتمع الكفر والإيمان ، وقيل : لا تستقر التقوى ونقض العهد في قلب واحد. وقال ابن عطية : يظهر من الآية ، بجملتها ، أنها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك القوت ، وإعلام بحقيقة الأمر فيها ، فمنها : أن العرب كانت تقول : الإنسان له قلب يأمره وقلب ينهاه ، وكان تَضَادُّ الخواطر يحملها على ذلك.. الخ كلامه.
قال النسفي : والمعنى : أنه تعالى لم يجعل للإنسان قلبين ؛ لأنه لا يخلو : إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب ، فأحدهما فَضْلَةٌ ، غير مُحْتاَج إليه ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذلك ، فيؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً ، عالماً ظانّاً ، موقناً شاكّاً في حالة واحدة. هـ.
وكانت العرب تعتقد أيضاً أن المرأة المظاهَرَ منها : أُمًّا ، فردّ ذلك بقوله : {وما جعل أزواجَكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتِكم} أي : ما جمع الزوجية والأمومة في امرأة واحدة ؛ لتضاد أحكامهما ؛ لأن الأم مخدومة ، والمرأة خادمة.
وكانت تعتقد أن الدّعي ابن ، فردّ عليهم بقوله : {وما جعل أدعياكم أبناءكم} أي : لم يجعل المُتَبَنَّى من أولاد الناس ابناً لمَن تبناه ؛ لأن البنوة أصالة في النسب ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية ، لا غير ، ولا يجتمع في شيء واحد أن يكون أصيلاً وغير أصيل.
(6/5)
ونزل هذا في " زيد بن حارثة " ، وهو رجل من كلب ، سُبي صغيراً ، فاشتراه حكيم بن حزام ، لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له ، فطلبه أبوه وعمه ، وجاءا بفدائه ، فخُيَّر ، فاختار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتقه وتبنّاه. وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فلما تزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم زينب ؛ وكانت تحت زيد - على ما يأتي - قال المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه ، فأنزل الله هذه الآية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 5
وقيل : كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان ، قلب معكم ، وقلب مع أصحابه. وقيل : كان " أبو مَعْمَر " أحفظ العرب ، فقيل : ذو القلبين ، فأكذب اللهُ قولَهم. والتنكير
5
في رجل ، وإدخال " مِن " الاستغراقية على " قلبين " ، وذكر الجوف للتأكيد. و " اللائي " : جمع " التي ". وفيها قراءات : " اللاء " ؛ بالهمزة مع المد والقصر ، وبالتسهيل ، وبالياء ، بدلاً من الهمز. وأصل {تظاهرون} : تتظاهرون ، فأدغم. وقرأ عاصم بالتخفيف ؛ منْ : ظَاَهَر. ومعنى الظهار : أن تقول للزوجة : أنت عليّ كظهر أمي. مأخوذ من الظهر ، وتعديته بمن ؛ لتضمنه معنى التجنُّب ؛ لأنه كان طلاقاً في الجاهلية. وهو في الإسلام يقتضي الحرمة حتى يُكفَّر ، كما يأتي في المجادلة. والأدعياء : جمع دعي ، فقيل : بمعنى مفعول ، وهو الذي يُدعى ولداً ، وجمعه على أَفْعِلاَء : شاذ ؛ لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل ؛ كتقي وأتقياء ، وشقي وأشقياء. ولا يكون في ذلك نحو رَمِيَّ وسَمي ، على الشذوذ. وكأنه شبهه بفعيل بمعنى فاعل ، فَجُمِعَ جَمْعَهُ.
{ذلكم قولُكُم بأفواهكم} ؛ إذ إن قولكم للزوجة : أُمًّا ، والدعيّ : هو ابن ، قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له ، إذ الابن يكون بالولادة ، وكذا الأم. {واللهُ يقولُ الحقِّ} ؛ ما له حقيقة عينية ، مطابقة له ظاهراً وباطناً {وهو يهدي السبيلَ} ؛ سبيل الحق.
(6/6)
ثم بيّن ذلك الحَقَّ ، وهدى إلى سبيله ، فقال : {أدعوهم لآبائهم} ؛ انسبوهم إليهم. {هو} ، أي : الدعاء {أقْسَطُ} ؛ أعدل {عند الله}. بيّن أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في العدل. وقيل : كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل ؛ ضمّه إليه ، وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده ، من ميراثه. وكان ينسب إليه ، فيقال : فلان بن فلان. {فإن لم تعلموا آباءهم} أي : فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم ، {فإِخوانُكُم في الدين ومواليكم} أي : فهم إخوانكم في الدين ، وأولياؤكم فيه. فقولوا : هذا أخي ، وهذا مولاي ، ويا أخي ، ويا مولاي ، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه ، {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} أي : لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك ، مخطئين جاهلين ، قبل ورود النهي ، أو بعده ، نسياناً. {ولكن ما تعمَّدَتْ قلوبُكم} أي : ولكن الإثم فيما تعمِّدتموه بعد النهي. أو : لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم : يا بنيّ ، على سبيل الخطأ ، أو : الشفقة ، ولكن إذا قلتموه متعمدين على وجه الانتساب. {وكان الله غفوراً رحيماً} ؛ لا يؤاخذكم بالخطأ ، ويقبل التوبة من المعتمِّد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 5
الإشارة : العبد إنما له قلب واحد ، إذا أقبل به على مولاه ؛ أدبر عن ما سواه ، وملأه اللهُ تعالى بأنواع المعارف والأسرار ، وأشرقت عليه الأنوار ، ودخل حضرة الحليم الغفار ، وإذا أقبل به على الدنيا ؛ أدبر عن الله ، وحُشي بالأغيار والأكدار ، وأظلمت عليه الأسرار ، وطبع فبه صور الكائنات ، فّحُجِبَ عن المُكَوِّنِ. وكان مأوى للخواطر والوساوس ، فلم يَسْوَ عند الله جناح بعوضة. قال القشيري : القلب إذا اشتغل بشيء ؛ اشتغل عما سواه ، فالمشتغلُ بما مِنَ العَدَمِ ؛ منفصلٌ عَمن له القِدَمُ ، والمتصل بقلبه بِمَنْ نَعْتُهُ القِدَم ؛ مشتغلٌ عمِّا من العدم ، والليل والنهار لا يجتمعان ، والغيبُ والغيرُ لا يلتقيان. هـ.
6
(6/7)
وقوله تعالى : {وما جعل أزواجكم...} الآية ، يمكن أن تكون الإشارة فيها إلى أنَّ مَنْ ظاهَرَ الدنيا ، وتباعد عنها ؛ لا يحل له أن يرجع ، ويتخذّها أُمًّا ؛ في المحبة والخدمة. وقوله تعالى : {وما جعل أدعياءكم أبناءكم..} : تشير إلى أنه لا يحل أن يَدَّعِيَ الفقيرُ حالاً ، أو مقاماً ، ما لم يتحقق به ، وليس هو له ، أوْ : يَنْسِبَ حِكْمَةً أوْ عِلْماً رفيعاً لنفسه ، وهو لغيره ، {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}. وقوله : {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين..} : إخوان الدين أّوْلَى ، وإخوان الطريق أحب وأصفى. قال القشيري : وقرابةُ الدين ، في الشكلية ، أولى من قرابة النَّسَب ، وأنشدوا.
وَقَالُوا : قَرِيبٌ مِنْ أبٍ وَعُمُومَةٍ
فَقُلْتُ : وَإخْوَانُ الصَّفَاءِ الأقارِبُ
مَنَاسِبُهُمْ شَكْلاً وَعِلْماً وأُلفة
وَإنْ بَاعَدَتْنَا فِي الأُصُولِ التَّنَاسُبُ
جزء : 6 رقم الصفحة : 5
(6/8)
يقول الحق جلّ جلاله : {النبيُّ أولى بالمؤمنين} أي : أحق بهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا ، وحكمه أنفذ عليهم {من أنفسهم} ، فإنه لا يأمرهم ، ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم ، فيجب عليهم أن يبذلوها دونه. ويجعلوها فداء منه. وقال ابن عباس وعطاء : يعني : " إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء ، ودعتهم أنفسهم إلى شيء ، كانت طاعةُ النبي صلى الله عليه وسلم أولى). أو : هو أولى بهم ، أي : أرأف ، وأعطف عليهم ، وأنفع لهم ، كقوله : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 128] وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام : " ما من مؤمن إلا وأنَا أوْلَى الناس به في الدنيا والاخرة ، اقرؤوا إن شئتم : {النبيُّ أوْلَى بالمؤمنين من أنْفُسِهِمْ} فأيُّمَا مُؤْمِن هَلَكَ ، وتركَ مالاً ؛ فلورَثَته ما كانوا ، ومَن تَرَكَ دَيْناً أو ضَيَاعاً فليَأتني ، فإني أنا مَوْلاه ". وفي قراءة ابن مسعود " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ". وقال مجاهد : كل نبي أبو أمته ، ولذلك صار المؤمنون إخوة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين ، وأزواجه أمهاتهم ، في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن ، وهن فيما وراء ذلك - كالإرث وغيره - كالأجنبيات ، ولهذا لم يتعدَّ التحريم إلى بناتهن.
{وأولوا الأرحام} أي : ذوو القرابات {بعضهم أوْلى ببعض} في المواريث. وكان
7
(6/9)
المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرةِ ، لا بالقرابة ، ثم نسخ ، وجعل التوارث بالقرابة. ذلك {في كتاب الله} أي : في حُكْم الله وقضائه ، أو : في اللوح المحفوظ ، أو : فيما فرض الله ، فهم أولى بالميراث ، {من المؤمنين} بحق الولاية في الدين ، {و} من {المهاجرين} بحق الهجرة. وهذا هو الناسخ. قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة ، ولا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئاً. فنزلت. وقال الكلبي : آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الناس ، فكان يؤاخي بين الرجلين ، فإذا مات أحدهما ورثه الآخر ، دون عصبته ، حتى نزلت : {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} ؛ في حكمه ، {من المؤمنين والمهاجرين} ، ويجوز أن يكون {من المؤمنين} : بياناً لأولي الأرحام ، أي : وأولو الأرحام ، من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب ، {إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً} أي : لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً ، وهو أن تُوصوا لمَن أحببتم من هؤلاء بشيء ، فيكون له ذلك بالوصية ، لا بالميراث ؛ فالاستثناء منقطع. وعَدّى " تفعلوا " بإلى ، لأنه في معنى تُسْنِدُوا ، والمراد بالأولياء : المؤمنون ، والمهاجرون : المتقدمون الذين نسخ ميراثهم. {كان ذلك} أي : التوارث بالأرحام {في الكتاب مسطوراً} أي : اللوح المحفوظ ، أو : القرآن. وقيل : في التوراة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 7
(6/10)
الإشارة : متابعته عليه الصلاة والسلام ، والاقتباس من أنواره ، والاهتداء بهديه ، وإيثار محبته ، وأمره على غيره ؛ لا ينقطع عن المريد أبداً ، بدايةً ونهايةً ؛ إذ هو الواسطة العظمى ، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأرواحهم وأسرارهم. فكل مدد واصل إلى العبد فهو منه صلى الله عليه وسلم ، وعلى يده ، وكل ما تأمر به الأشياخ من فعل وترك في تربية المريدين ، فهو جزء من الذي جاء به. وهم في ذلك بحسب النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم خلفاء عنه. وكل كرامة تظهر فهي معجزة له صلى الله عليه وسلم ، وكل كشف ومشاهدة فمن نوره صلى الله عليه وسلم ، قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه : اعلم أن كل وَليّ لله تعالى إنما يأخذ ما يأخذ بِوَاسِطَةِ رُوحَانِيَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم ، فمنهم مَن يعرف ذلك ، ومنهم مَن لا يعرفه ، ويقول : قال لي الله ، وليس إلا تلك الروحانية. هـ. وهو موافق لما أشار إليه الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه ، حيث قال : الوليّ إنما يكاشف بالمثال ، كما يرى مثلاً البدر في الماء بواسطته ، وكذلك الحقائق الغيبية ، والأمور الإشهادية مجلوة وظاهرة في بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وله عياناً لا مثالاً. والوليّ لقربه منه ومناسبته له ؛ لهديه بهديه ، ومتابعته له يُكاشف بمثال ذلك فيه ، فظهر الفرق وثبتت مزية النبي صلى الله عليه وسلم ، وانتفى اللبس بين النبوة والولاية. قاله شيخ شيوخنا سيدي " عبد الرحمن العارف ".
قال القشيري : {النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم} الإشارة : تقديم سُنّته على هواك ، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك ، وإيثار مَن تتوسل به نسباً وسبباً على أعِزَّتكَ ومَن والاك ، {وأولوا الأرحام..} الآية : ليكنْ الأجانبُ منك على جانب ، ولتكن
8
صلتك للأقارب وصلةُ الرحم ليس لمقاربة الدار وتعاقب المزار ، وليكن بموافقة القلوب ، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب.
أرْوَاحُنا في مكانٍ واحد ، وإن كانت
(6/11)
أشْبَاحُناَ بِشَآمٍ أوْ خُرَاسَانِ. هـ
جزء : 6 رقم الصفحة : 7
يقول الحق جلّ جلاله : {و} اذكر {إذ أخذنا} ؛ حين أخذنا {من النبيين ميثاقهم} بتبليغ الرسالة ، والدعاء إلى الدين القيم ، وإرشاد العباد ونصحهم. وقيل : أخذه عليهم في عالم الذر. قال أُبيّ بن كعب : لما أخرج الله الذرية ، كانت الأنبياء فيهم مثل السُرُج ، عليهم النور ، فخُصُّوا بميثاقٍ وأخذ الرسالة والنبوة ، وقال القشيري : أخذ الميثاق الأوَل وقت استخراج الذرية من صُلب آدم ، عوندَ بعثة كل رسول ، ونُبُوَّة كل نبيٍّ ، أخذ ميثاقه ، وذلك على لسان جبريل عليه السلام ، ومنَ اختصه بإسماعه كَلاَمَهُ بلا واسطة ملك كنبينا ليلة المعراج ، وموسى - عليهما السلام - فأخذ الميثاق منهم بلا واسطة ، وكان لنبينا - عليه الصلاة والسلام - زيادة حال ؛ بأن كان مع سماع الخطاب كشف الرؤية. ثم أخذ المواثيق من العباد بقلوبهم وأسرارهم. هـ.
قال في الحاشية : والذي يظهر : أن أخذ الميثاق منهم مباشرة لا بوحي ، وذلك في الغيب ، ولذلك قدّم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه النور الأول قبل آدم ، ثم انتقل إلى ظهره ، وحينئذ ، فأخذ الميثاق هنا غيبي ، ولذلك قدّمه. وفي قوله : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ...} [الشورى : 13] ؛ في عالم الظهور ، فلذلك قدّم نوحاً ، وثنَّى بنبينا ؛ لأن نوحاً أول أُولي العزم ، ونبينا خاتمهم. والله أعلم. هـ. والحاصل : أن أخذ الميثاق كان مرتين ؛ في عالم الغيب وفي عالم الشهادة. وهل المراد به هنا الأول أو الثاني ؟ قولان.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 9
(6/12)
ومنك ومن نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى ابنِ مريم} ، قال النسفي : وقدَّم رسول الله صلى اله عليه وسلم على نوح ومَن بعده ؛ لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء ؛ لأنهم أولو العزم ، وأصحاب الشرائع ، فلمَّا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء قُدّم عليهم ، ولولا ذلك لقدّم مَن قدمه زمانه. هـ {وأخذنا منهم ميثاقا غليظاً} ؛ وثيقاً. وأعاد ذكر الميثاق ؛ لانضمام الوصف إليه.
9
(6/13)
وإنما فعلنا ذلك {ليَسْألَ} اللهُ {الصادقين} أي : الأنبياء : {عن صِدْقِهم} ؛ عما قالوه لقومهم ، وهل بلغوا ما كلفهم به. وفيه تبكيت للكفار ، كقوله : {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف : 6] ، أو : ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم : هل كان بإخلاص أم لا ؟ لأن مَن قال للصادق : صدقت ؛ كان صادقاً في قوله. أو : ليسأل الأنبياء : ما الذي أجابتهم أممهم ؟ وهو كقوله : {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} [المائدة : 109] ، {وأعَدَّ للكافرين} بالرسل {عذاباً أليماً} ، وهو عطف على " أخذنا " ، لأن المعنى : أن الله تعالى أخذ على الأنبياء العهد بالدعوة إلى دينه ؛ لأجل إثابة المؤمنين ، وأعَدَّ للكافرين عذاباً أليماً. أو : على ما دلّ عليه : {ليسأل الصادقين} ، كأنه قال : فأثاب المؤمنين ، وأعدَّ للكافرين عذاباً أليماً. الإشارة : كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء والرسل ؛ أخذ الميثاق على العلماء والأولياء. أمل العلماء ؛ فعلى تبيين الشرائع وتغيير المناكر ، وألا تأخذهم في الله لومة لأئم ، وأما أخذه على الأولياء ؛ فعلى تذكير العباد وإرشادهم إلى معرفة الله ، وتربية مَن تعلّق بهم ، وسياسة الخلق ، ودلالتهم على الحق ، فمَن قصَّر من الفريقين استحق العتاب. قال القشيري : فلكلِّ من الأولياء والأكابر حال ، على ما يؤهلهم له ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " لقد كان في الأمم مُحَدِّثون ، وإن يكُن في أمتي فَعُمر " ، وغير عُمَر مشارك لعُمر في خواص كثيرة ، وذلك سر بينهم وبين ربِّهم.
(6/14)
ثم قال : قوله تعالى : {ليَسْأل الصادقين عن صدقهم} ؛ سؤال تشريف لا تعنيف ، وإيجاب لا عتاب ، والصدقُ : ألا يكون في أحوالك شَوْبٌ ، ولا في اعتقادك ريب ، ولا في عملك عَيْبٌ ، ويقال : من أمارات الصدق في المعاملة. وجودُ الإخلاص من غير ملاحظة ، وفي الأحوال : تصفيتُها [من غير مداخلة الحجاب] ، وفي القول : سلامته من المعاريض ، فيما بينك وبين نفسك. وفيما بينك وبين الناس : تباعدٌ في التلبيس والتدليس ، وفيما بينك وبين الله : إدامة التبرَّي من الحَوْل والقوة ، ومواصلة الاستقامة ، وحفظ العهود معه على الدوام. في التوكل : عدَم الانزعاج عند الفَقْدِ ، وزوالِ الْبِشْر بالوجد ، وفي الأمر بالمعروف : التحرُّز من تخلل المداهنة ، قليلها وكثيرها ، وألاَّ يترك ذلك لِفَزَعٍ ولا طَمَع ، ولكن تَشْرَبُ مما تَسْقي ، وتتصف بما تأمر ، وتنتهي عما تَزْجُر. ويقال : الصدق : أن يهتدي إليك كل أحد ، ويكون عليك ، فيما تقول وتضمر ، اعتماد. ويقال : الصدق : ألا تجنحَ إلى التأويلات. انتهى كلام القشيري.
جزء : 6 رقم الصفحة : 9
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم} ، أي : ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب ، وهو يوم الخندق ، وكان بعد حرب أُحد بِسَنَةٍ. {إذ جاءتكُمْ جنودٌ} أي : الأحزاب ، وهم قريش ، وغطفان ، ويهود قريظة والنضير ، وهو السبب في إيتانهم ، {فأرسلنا عليهمْ ريحاً} أي : الصَّبَا ، قال عليه الصلاة والسلام : " نُصرت بالصَّبَا ، وأُهْلكَتْ عاد بالدَّبُور " قيل : كانت هذه الريح معجزة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريباً منها ، ولم يكن بينهم إلا عُرض الخندق ، وكانوا في عافية منها. {و} لا شعور لهم بها. وأرسلنا عليهم {جنوداً لم تروها} وهو الملائكة ، وكانوا ألفاً ، فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور.
(6/15)
وكان سبب غزوة الأحزاب : أن نفراً من اليهود ، منهم ابن أَبي الحقيق ، وحُيَي بن أخطب ، في نفر من بني النضير ، لَمَّا أجلاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بلدهم ، قَدِموا مكة فحرّضوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرجوا إلى غطفان ، وأشجع ، وفزارة ، وقبائلَ مِنَ العرب ، يُحرضونهم على ذلك ، على أن يعطوهم نصف تمر خَيْبَرَ كل سنة. فخرجت قريش ، وقائدها أبو سفيان ، وخرجت غطفان ، وقائدها عيينة بن حِصن ، والحارث بن عوف في مُرة ، وسعد بن رخيلة في أشجع ، وعامر بن الطفيل في هوازن.
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بهم ، ضرب الخندق على المدينة ، برأي سليمان. وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يؤمئذ حُر. وقال : يا رسول الله : إنا كنّا بفارس ، إذا حُوصرنا : خَنْدَقْناَ علينا ، فحفر الخندق ، وباشر الحفر معهم بيده صلى الله عليه وسلم. فنزلت قريش بمجتمع الأسيال من الجُرُفِ والغابة ، في عشرة آلاف من أحابيشهم. ونزلت عطفان وأهل نجد بذنب نَقَمَي ، إلى جانب أُحد. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع ، في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 10
واشتد الخوف ، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقام المشركون ، بِضعاً وعشرين ليلة ، ولم يكن حرب غير الرمي بالنبل والحصى. فلما اشتد البلاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عُيينة بن حصن ، والحارث بن عوف ، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة ، على أن يرجعا بمَن معهما ، وكتبوا الكتاب ولم يقع الإشهاد ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فقال سعد بن معاذ : أشيء أمرك الله به ، لا بدّ من العمل به ، أم شيء تُحبه فتصنعه ، أم شيء
11
(6/16)
تصنعه لنا ؟ قال : " لا ، بل شيء أصنعه لكم ، أردتُ أن أكْسِر عنكم شوكتهم " فقال سعد : يا رسول الله ؛ لقد كنا مع القوم على شرك وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطعمون أن يأكلوا منها تمرة ، إلا قِرىً ، أو شراءً ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزَّنا بك ، نعطيهم أموالنا! لا نعطيهم إلا السيف. فقال عليه الصلاة والسلام : " فأنت وذاك " ، فمحا سعدُ ما في الكتاب ، وقال : ليجهدوا علينا.
ثم إن الله تعالى بعث عليهم ريحاً باردة ، في ليلة شاتية ، فأحصرتهم ، وأحثت الترابَ في وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأكفأت القدور ، وأطفأت النيران ، وجالت الخيل بعضها في بعض. وأرسل الله تعالى عليهم الرُعب ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم ، حتى كان سيد كل خباء يقول : يَا بَني فلان ، علمُّوا ، فإذا اجتمعوا إليه قال : النَّجا ، النَّجا ، أوتيتم. فانهزموا من غير قتال.
{وكان الله بما تعملون بصيراً} ، أي : بصيراً بعملكم ، من حَفر الخندق ، ومعاونة النبي صلى الله عليه وسلم ، والثبات معه ، فيجازيكم عليه ، وقرأ أبو عمرو : بالغيب ، أي : بما يعمل الكفار ؛ من البغي ، والسعي في إطفاء نور الله ، {إِذ جاؤوكم} هو بدل من : (إذ جاءتكم) ، {من فوقكم} ؛ من أعلى الوادي ، من قِبَل المشرق. وهم بنو غطفان. {ومن أسفل منكم} ؛ من أسفل الوادي من قِبَل المغرب ، وهو قريش. {وإذْ زاغتِ الأبصارُ} ؛ مالت عن مستوى نظرها ؛ حَيْرَةً وشخوصاً. أو : مالت إلى عدوها ، لشدة الخوف ، {وبلغت القلوبُ الحناجرَ} ؛ رُعباً. والحنجرة : رأس الغَلْصَمَة ، وهي منتهى الحلقوم ، الذي هو مدخل الطعام والشراب. قالوا : إذا انتفخت الرئة ، من شدة الفزع والغضب ، رَبَتْ ، وارتفع بارتفاعها إلى رأس الحنجرة. وقيل : هو مثل في اضطراب القلوب ، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.
(6/17)
رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل من شيء نقوله ، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال : " نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ". {وتظنون بالله الظنُونا} ؛ الأنواع من الظن. والمؤمنون أصناف ؛ منهم الأقوياء ، ومنهم الضعفاء ، ومنهم المنافقون. فظنّ الأقوياء ، المخلصون ، الثُبْتُ القلوب ؛ أن ينجز الله وعده في إعلاء دينه ، ويمتحنهم ، فخافوا الزلل وضعْفَ الاحتمال ، وأما الآخرون ؛ فظنُّوا ما حكى عنهم ، وهو الذين زاغت أبصارهم ، وبلغت قلوبهم الحناجر ، دون الأقوياء رضي الله عنهم ، وقرأ أبو عمرو وحمزة : {الظنون} ؛ بغير ألف ، وهو القياس. وبالألف فيهما : نافع ، والشامي ، وشعبة ؛ إجراء للوصل مجرى الوقف. والمكيّ ، وعليّ ، وحفص : بالألف في الوقف. ومثله : {الرَّسُولاْ} [الأحزاب : 66]
12
و {السَّبِيلاَْ} [الأحزاب : 67] ، زادوها في الفاصلة ، كما زادوها في القافية ، كقوله :
جزء : 6 رقم الصفحة : 10
" أقِلّي اللَّوْمَ ، عَاذِلَ ؛ والعِتابا "
وهو في الإمام : بالألف.
(6/18)
{هنالك ابْتُلي المؤمنون} أي : اختبروا ، فظهر المخلص من المنافق ، والثابت من المزلزل ، {وزُلزلوا زلزالاً شديداً} ؛ وحُركوا بالخوف ، تحريكاً شديداً. الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص ؛ اذكروا نعمة الله عليكم بالتأييد والنصر ، فحين تَوَجَّهْتُمْ إليّ ، ودخلتم في طريق ولايتي ، رفضتكم الناس ، ونكرتكم ، ورمتكم عن قوس واحدة ، فجاءتكم جنود الخواطر والوساوس من كل جانب ، حتى هممتم بالرجوع أو الوقوف. وإذ زاغت الأبصار : مالت عن قصدها ؛ بالاهتمام بالرجوع ، وبلغت القلوبُ الحناجرَ ، ممن كان ضعيف الإرادة واليقين ، وتظنون بالله الظنونا ، فمنهم مَن يظن الامتكان بعد الامتحان ، فيفرحون بالبلاء ، ومنهم مَن يظن أنه عقوبة... إلى غير ذلك ، هنالك ابتلي المؤمنون المتوجهون ؛ ليظهر الصادق ، في الطلب ، من الكاذب فيه ، فعند الامتحان يعز المرء أو يُهان ، ويظهر الخَوّافون من الشجعان ، وزُلزلوا زلزالاً شديداً ؛ ليتخلصوا ويتمحصوا ، كما يتخلص الذهب والفضة من الناس ، ومَن عرف ما قصد ؛ هان عليه ما ترك.
قال القشيري : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم..} يعني : بمقابلتها بالشكر ، وتَذَكُّرِ ما سَلَفَ من الذي دفع عنك ، يهون عليك مقاساة البلاءِ في الحال. وبذكرك لما أولاك في الماضي ؛ يقرب من الثقة بوصول ما تؤمِّلهُ في الاستقبال. فمن جملة ما ذكّرهم قوله : {إذ جاءتكم جنود..} الآية : كم بلاء صَرَفَه عن العبد وهو لا يشعر ، وكم شغل كنت بصدده ، فصدّه عنك ولم تعلم ، وكم أمر صرفه ، والعبد يضج ، وهو - سبحانه - يعلم أن في تيسيره هلاكَه ، فيمنعه منه ؛ رحمة عليه ، والعبد يتهمه ويضيق به صَدْرُه. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 10
يقول الحق جلّ جلاله : {و} اذكر {إذ يقولُ المنافقون والذين في قلوبهم مرض} عطف تفسير ؛ إذ هو وصف المنافقين ، كقول الشاعر :
إلى المَلِكِ القَرْمِ ، وابنِ الهُمَامِ
ولَيْثَ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
(6/19)
فابن الهمام هو القَرْمُ ، والقرم - بالراء - : السيد. وقيل : {الذين في قلوبهم مرض} ، هم الذين لا بصيرة بهم في الدين من المسلمين ، كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشُّبه عليهم ، قالوا ، عند شدة الخوف : {ما وَعَدَنَا اللهُ ورسولهُ إلا غُروراً}.
رُوي أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ ، المنافق حين رأى الأحزاب قال : إن محمداً يَعِدُنا فتح فارس والروم ، وأحدُنا لا يقدر أن يتبرّز ، خوفاً ، ما هذا إلا وعد غرور. هـ.
{وإذ قالت طائفةٌ منهم} ؛ من المنافقين ، وهم عبد الله بن أُبيّ وأصحابه : {يا أهلَ يثربَ} ، وهم أهل المدينة ، {لا مقَام لكم} أي : لا قرار لكم هنا ، ولا مكان تقيمون فيه - وقرأ حفص : بضم الميم - اسم مكان ، أو مصدر ، {فارجعوا} من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ؛ هاربين ، أو : إلى الكفر ، فيمكنكم المقام بها ، أو : لا مقام لكم على دين محمد ، فارجعوا إلى الشرك وأظهروا الإسلام لتسلموا ، {ويستأذن فريقٌ منهم النبيَّ} أي : بنو حارثة ، {يقولون إن بيوتنا عورةٌ} : ذات عورة ، أي : خالية غير حصينة ، وهي مما يلي العدو. وأصلها : الخلل. وقرأ ابن عباس ؛ بكسر الواو : (عَوِرَة) ، يعني : قصيرة الجدران ، فيها خلل. تقول العرب : دار فلان عورة ؛ إذا لم تكن حصينة ، وعَوِرَ المكان : إذا بَدا فيه خلل يُخاف منه العدو والسارق ، ويجوز أن يكون عَوْرَة : تخفيفَ عَوِرة.
اعتذروا أن بيوتهم عُرضة للعدو والسارق ؛ لأنها غير محصنة ، فاستأذنوا ليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فأكذبهم الله تعالى بقوله : {وما هي بعوْرةٍ} ، بل هي حصينة ، {إن يريدون إلا فراراً} من القتل.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 13
(6/20)
ولو دُخِلَت عليهم} مدينتهم ، أو : بيوتهم. من قولك : دخلت على فلان داره. {من أَقْطارها} ، من جوانبها ، أي : ولو دَخلت هذه العساكر المتحزبة - التي يفرَّون ؛ خوفاً منها - مدينتَهم ، أو بيوتهم ، من نواحيها كلها ؛ ناهبين سارقين ، {ثم سُئِلوا} ؛ عند ذلك الفزع ، {الفتنةَ} أي : الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين ، أو : القتال في العصبية ، وهو أحسن ؛ لأنهم مسلمون ، {لأتوها} ؛ لجاؤوها وفعلوا. ومَن قرأ بالمد فمعناه : لأعطوها من أنفسهم ، {وما تلبثوا بها} ؛ بإجابتها وإعطائها ، أي : ما احتبسوا عنها
14
(6/21)
{إلا يسيراً} ، أو : ما لبثوا بالمدينة ، بعد ارتدادهم ، إلا زماناً يسيراً ، ثم يهلكهم الله ؛ لأن المدينة كالكير ؛ تنفي خبثها ، وينصع طيبها ، والمعنى أنهم يتعلّلون بإعوار بيوتهم ؛ ليفرُّوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وعن مصافة الأحزاب الذين ملأوهم رُعباً ، وهؤلاء الأحزاب كما هم ؛ لو سألوهم أن يقاتلوا ؛ فتنة وعصيبة ؛ لأجابوهم ، وما تعلّلوا بشيء ، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم ، والعياذ بالله. الإشارة : وإذ قالت طائفة من شيوخ التربية لأهل الفناء : لا مقام تقفون معه ؛ إذ قد قطعتم المقامات ، حين تحققتم بمقام الفناء ، فارجعوا إلى البقاء ؛ لتقوموا بآداب العبودية ، وتنزلون في المقامات ثم ترحلون عنها ، كما تنزل الشمس في بروجها ، فكل وقت يبرز فيه ما يقتضي النزول إلى مقامه. فتارة يبرز ما يقتضي التوبة ، وتارة ما يقتضي الخوف والهيبة ، أي : خوف القطيعة ، وتارة ما يقتضي الرجاء والبسط ، وتارة ما يقتضي الشكر ، وتارة الصبر ، وتارة ما يقتضي الرضا والتسليم ، وتارة ما يهيج المحبة أو المراقبة أو المشاهدة. وهكذا ينزل في المقامات ويرحل عنها ، ولا يقيم في شيء منها. ويستأذن بعض المريدين في الرجوع إلى مقامات الإيمان أو الإسلام ، أو شيء من أمور البدايات ، يقولون : إن بيوت تلك المقامات لم نُتقنها ، بل فيها عورة وخلل ، وما هي بعورة ، ما يريدون إلا فراراً من ثِقَل أعباء الحضرة. ولو دُخلت بيوت قلوبهم من أقطارها ، ثم سئلوا الرجوع إلى الدنيا لأتوها ؛ لأنها قريبةُ عَهْدٍ بتركها ، وما تلبّثوا بها إلا زماناً يسيراً ، بل يبغتهم الموت ، ويندمون ، قل متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمَن اتقى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 13
(6/22)
يقول الحق جلّ جلاله : {ولقد كانوا عاهدوا اللهَ من قَبلُ} أي : قبل غزوة الخندق ، وهو يوم أحد. والضمير في " كانوا " لبني حارثة ، عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، حين فشلوا ، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله ، وقالوا : {لا يُوَلُّونَ الأدبارَ} ؛ منهزمين أبداً ، {وكان عهدُ الله مسؤولاً} عن الوفاء له ، مُجازىً عليه ، أو : مطلوباً مقتضى حتى يوفى به. {قل لن ينفعَكُم الفرارُ إن فَررتُم من الموت أو القتل} ، فإنه لا بد لكل شخص من حتفِ أنفه ، أو : قتل في وقت معين سبق القضاء وجرى به القلم ، {وإذاً لا تُمتَّعُون إلا قليلاً} أي : إن حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار ، وإن لم يحضر ، وفررتم ، لن تُمتعوا في الدنيا إلا زماناً قليلاً ، وهو مدة أعماركم ، وهو قليل بالنسبة إلى ما بعد الموت الذي لا انقضاء له.
15
{قل مَن ذَا الذي يَعصِمُكُم من الله} أي : يمنعكم مما أراد الله إنزاله بكم ؛ {إن أراد بكم سوءاً} في أنفسكم ، من قتل أو غيره ، {أو أراد بكم رحمةً} أي : أراد بكم إطالة عمر في عافية وسلامة. أو : مَن يمنع الله من أن يرحمكم ، إن أراد بكم رحمة ، فَحُذِفَ ؛ سوءاً ، أو يصيبكم بسُوء ، إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام. {ولا يجدون لهم من دون الله ولياً} ينفعهم ، {ولا نصيراً} يدفع العذاب عنهم.
(6/23)
الإشارة : ولقد كان عاهدَ الله ؛ مَنْ دخل في طريق القوم ، ألاَّ يولي الأدبارَ ، ويرجع إلى الدنيا والاشتغال بها حتى يتفتّر عن السير ، وكان عهد الله مسؤولاً ، فيسأله الحق تعالى عن سبب رجوعه عن الإرداة ، ولماذا حَرَمَ نَفْسَهُ من لذيذ المشاهدة ؟ قل - لمَن رجع ، ولم يقدر على مجاهدة نفسه : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت لنفوسكم ، أو القتل ؛ بمجاهدتها وتجميلها بعكس مرادها ، وتحميلها ما يثقل عليها ، وإذا لا تُمتعون إلا قليلاً ، ثم ترحلون إلى الله ، في غم الحجاب وسوء الحساب. قل : مَن ذا الذي يعصمكم من الله ، إن أراد بكم سوءاً ؟ وهو البُعد والطرد ، أو : مَن يمنعكم من رحمته ، إن أراد بكم رحمة ، وهي التقريب إلى حضرته ، فلا أحد يعصمكم من إبعاده ، ولا أحد يمنعكم من إحسانه ؛ إذ لا وليّ ولا ناصر سواه. اللهم انصرنا بنصرك المبين ، وارحمنا برحمتك الخاصة ، حتى تُقَرِّبَنَا إلى حضرتك ، بفضل منك وجودك ، يا أرحم الراحمين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 15
يقول الحق جلّ جلاله : {قد يعلم اللهُ المعوِّقين منكم} أي : يعلم مَنْ يُعوِّقُ عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَمْنَعُ ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو ، {والقائلين لإخوانهم} في الظاهر ؛ من ساكني المدينة من المسلمين : {هَلُمَّ إلينا} ؛ تعالوا إلينا ، ودعُوا محمداً. ولغة أهل الحجاز في " هلم " : أنهم يُسوون فيه بين الواحد والجماعة. وأما بنو تميم فيقولون : هلم يا رجل ، وهلموا يا رجال.. وهكذا. {ولا يأتون البأسَ} ؛ الحرب {إلا قليلاً} ؛ إلا إتياناً قليلاً ، أو يحضرون ساعةً ، رياءً ، ويقفون قليلاً ، مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون. {أشِحَّةٌ عليكم} ؛ جمع شحيح ، وهو البخيل ، نُصب على الحال من ضمير {يأتون} أي : لا يأتون الحرب ؛ بُخلاً عليكم بالمعاونة أو بالنفقة في سبيل الله ، أو : في الظفر والغنيمة ، أي : عند الظفر وقَسْم الغنيمة.
16
(6/24)
{فإذا جاء الخوفُ} من قِبَلَ العدو ، أو : منه صلى الله عليه وسلم ، {رأيتهم ينظرون إليك} ؛ في تلك الحالة ، {تدور أعينُهم} يميناً وشمالاً {كالذي يُغْشى عليه من الموت} ؛ كما ينظر المغشي عليه معالجة سكرات الموت ؛ حذراً وخوفاً ولِواذاً بك.
{فإذا ذهبَ الخوفُ} أي : زال ذلك الخوف وأمِنوا ، وحيزت الغنائم {سلقوكم بألسنةٍ حِدَادٍ} ؛ خاطبوكم مخاطبة شديدة ، وآذوكم بالكلام ، يقال : خطيب سِلق : فصيح ، ورجل مِسْلق وسَلاَّق : مبالغ في الكلام. يعني : بسطوا ألسنتهم فيكم ، وقت قسم الغنيمة ، ويقولون : أعطنا ؛ فإنا قد شهدنا معكم ، وبمكاننا غَلبتم عدوكم. {أشِحَّةً على الخير} أي : خاطبوكم ؛ أشحة على المال والغنيمة. فهو حال من فاعل سلقوكم ، فهم أشح القوم عند القسم ، وأجبنهم عند الحرب ، {أولئك لم يؤمنوا} في الحقيقة ، بل بالألسنة فقط ، {فأحبط اللهُ أعمالهم} ؛ أبطلها ، بإضمار الكفر مع ما أظهروا من الأعمال الخبيثة ، {وكان ذلك} الإحباط {على الله يسيراً} ؛ هيناً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 16
الإشارة : هذه صفة منافقي الصوفية ، يدخلون معهم على تذبذب ، فإذا رأوا قوماً توجهوا لخرق عوائدهم وتخريب ظواهرهم ، أو : أرادوا الخروج عن دنياهم ، عَوَّقُوهُمْ عن ذلك ، وثبطوهم ، وكذلك إذا تواجهوا في سفر لشُقة بعيدة ؛ ليستتروا بهم ، وقالوا لأخوانهم في الطريق : هلم إلينا ، ولا يأتون مكان حرب أنفسهم إلا قليلاً. أشحةً بأنفسهم عليكم ، فإذا جاء الخوف ، وتجلّى لهم الحق تعالى باسمه الجليل ؛ بأن نزلت بالفقراء محنة ، رأيْتَهُمْ ينظرون إليك ، تدور أعينهم ، نظر المغشي عليه من الموت ، فإذا ذهب الخوف ، وجاء النصر والعز ؛ سلقوكم بألسنة حداد ، وقالوا : إنا كنا معكم ، أولئك لا نصيب لهم مما للقوم من الخصوصية. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 16
(6/25)
يقول الحق جلّ جلاله : {يَحْسَبُون} أي : هؤلاء المنافقون {الأحزابَ} ، يعني : قريشاً وغطفان ، الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : اجتمعوا ، أنهم {لم يذهبوا} ولم ينصرفوا ؛ لشدة جُبنهم ، مع أنهم انصرفوا. {وإن يأتِ الأحزابُ} كرة ثانية ؛ {يودُّوا لو أنهم بادون في الأعراب} ، والبادون : جمع باد ، أي : يتمنى المنافقون - لجُبنهم - أنهم خارجون من المدينة إلى البادية ، حاصلون بين الأعراب ؛ ليأمنوا على أنفسهم ، ويعتزلوا مما فيه الخوف من الحرب ، {يسألون} كل قادم منهم من جانب المدينة. وقرئ {يَسَاءلون} ، بالشد. أي : يتساءلون ، بعضهم بعضاً {عن أنبائكم} ؛ عن أخباركم وعما جرى عليكم ، {ولو كانوا} أي : هؤلاء المنافقون {فيكم} أي : حاضرون في عسكركم ،
17
وَضَرَ قِتَالٌ ، {ما قاتلوا إلا قليلاً} ؛ رياءً وسمعة ، ولو كان لله ؛ لكان كثيراً ؛ إذ لا يقل عمل لله.
الإشارة : الجبان يخاف والناس آمنون ، والشجاع يأمن والناس خائفون ، ولا ينال من طريق القوم شيئاً جبانٌ ولا مستحي ولا متكبر. فمن أوصاف الضعفاء : أنهم ، إذا نزلت بالقوم شدة أو محنة - كما امْتُحِنَ الجنيد وأصحابه - يتمنون أنهم خارجون عنهم ، وربما خرجوا بالفعل ، وإن ذهبت شوكتهم ؛ يحسبون أنهم لم يذهبوا ؛ لشدة جزعهم. ومن أوصافهم : أنهم يكثر سؤالهم عن أخبار القوم ، والبحث عما جرى بهم ؛ خوفاً وجزعاً ، ولو مضوا معهم لم يغنوا شيئاً. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 17
(6/26)
يقول الحق جل جلاله : {لقد كان لكم في رسول الله} ؛ محمد صلى الله عليه وسلم {أسوَةٌ حَسَنَة} ؛ خَصْلَةٌ حسنة ، من حقها أن يُؤتسى بها ؛ كالثبات في الحرب ، ومقاساة الشدائد ، ومباشرة القتال. أو : في نفسه قدوة يحسن التأسي به. كما تقول : في البيضة عشرون رطلاً من حديد ، أي : هي في نفسها عشرون. وفيه لغتان : الضم والكسر ، كالعِدوة والعُدوة ، والرِشوة والرُشوة. وهي {لمَن كان يرجو اللهَ واليوم الآخر} أي : يخاف الله ويخاف اليوم الآخر ، أو : لأجل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر. و " لمن " : قيل : بدل من ضمير " لكم " ، وفيه ضعف ؛ إذ لا يبدل من ضمير المخاطب إلا ما يدل على الإحاطة. وقيل : يتعلق بحسنة ، أي : أسوة حسنة كائنة لمَن آمن ، {وذكر الله كثيراً} أي : في الخوف والرجاء ، والشدة والرخاء ، فإن المؤتسِي بالرسول يكون كذلك.
{ولمَّا رأى المؤمنون الأحزابَ} قد أقبلوا عليهم ؛ ليستأصلوهم ، وقد وعدهم الله أن يسلط عليهم المحن ، ويُزَلْزَلُوا حتى يستغيثوا ويستنصروا بقوله : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم..} [البقرة : 214] إلى قوله : {نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة : 214] ، فلما جاء الأحزاب واضطربوا ؛ {قالوا هذا ما وعدنا اللهُ ورسولهُ وصدق اللهُ ورسولهُ} ، وعَلِمُوا أن الجنة والنصرة قد وجبت لهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " إنَّ الأحزاب سائِرون إليكم ، في آخر تِسْع ليال ، أو عشر " ، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد ، قالوا ذلك. و {هذا} : إشارة إلى الخطب والبلاء ، أي : هذا
18
الخطب الذي وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، {وما زادهم} ، ما رأوا من اجتماع الأحزاب ومجيئهم ، {إلا إيماناً} بالله وبمواعيده {وتسليماً} لقضائه وأقداره.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 18
(6/27)
من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا اللهَ عليه} أي : صدقوا فيما عاهدوه ، فحذف الجار ، وأوصل المفعول إلى " ما " ؛ وذلك أن رجالاً من الصحابة نَذَرُوا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا ، وقاتلوا حتى يُسْتَشْهَدُوا ، وهم : عثمان بن عفان ، وطلحة ، وسعيد بن زيد ، وحمزة ، ومصعب ، وأنس بن النضر ، وغيرهم. {فمنهم مَن قضى نَحْبهُ} ؛ نذره ؛ بأن قاتل حتى استشهد ؛ كحمزة ، ومصعب ، وأنس بن النضر. والنَّحْبُ : النذر ، واستعير للموت ؛ لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت ، فكأنه نذرٌ لازم في رقبته ، فإذا مات ؛ فقد قضى نحبه ، أي : نذره. وقال في الصحاح : النحب : النذر ، ثم قال : والنَّحْبَ : المدة والوقت. يقال : قضى فلان نَحْبَه ، إذا مات. هـ. فهو لفظ مشترك بين النذر والموت. وصحح ابنُ عطية أن النحب الذي في الآية ليس من شرطه الموت. بل معناه : قَضَى نذره الذي عاهد الله عليه من نصرة الدين ، سواء قُتل أو بقي حيًّا. بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - في طلحة : " هذا ممن قَضَى نَحْبَه " هـ.
{ومنهم مَن ينتظرُ} أي : الموت على الشهادة ؛ كعثمان وطلحة ، {وما بدّلوا} ؛ العهد {تبديلا} ؛ ولا غيَّروه ، لا المسْتَشْهَد ، ولا مَن ينتظر الشهادة. وفيه تعريض بمَن بدّل من أهل النفاق ، كقوله تعالى فيما مر : {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ...} [الأحزاب : 15]. {ليجزي اللهُ الصادقين بصدقهم} ؛ بوفائهم بالعهد ، {ويُعذِّب المنافقين إن شاء} إذا لم يتوبوا ، {أو يتوبَ عليهم} إن تابوا {إن الله كان غفوراً} بقبول التوبة ، {رحيماً} بعفو الحوبة.
(6/28)
الإشارة : قد تقدّم ما يتعلق بالاقتداء بالرسول - عليه الصلاة والسلام - والاهتداء بهديه ، وأنه منهاج الأكابر. وقوله تعالى : {ولَمَّا رأى المؤمنون الأحزاب...} الآية. كذلك الأقوياء من هذه الطائفة ، إذا رأوا ما يهولهم ويروعهم زادهم ذلك إيماناً وتسليماً ، ويقيناً وطمأنينة ، وتحققوا بصحة الطريق ؛ إذ هو منهاج السائرين والأولياء الصادقين ، وسنة الأنبياء والمرسَلين. قال تعالى : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت : 2] الآية. وتقدم في إشارتها ما يتعلق بهذا المعنى.
قال بعضهم : نحن كالنجوم ، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا. وقال القشيري : كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء ، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ ، وعلى الأعداء جرأةً ، ولحكم الله استسلاماً. وفي الله قوة. ثم قال : قوله تعالى : {من المؤمنين رجال صدقوا...} الآية ، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ ، ومدح يقينهم عند شهود
19
الناس ، وسمّاهم رجالاً ؛ إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة ، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحال ، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه ، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات ، وحقيقة الصدق : حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ. ويقال : استواءُ السِّرِّ والجهر. ويقال : هو الثبات عندما يكون الأمر جدًّا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 18
قوله تعالى : {... ليجزي الله الصادقين بصدقهم..} في الدنيا بالتمكين ، والنصرة على العدو ، وإعلاء الرتبة ، وفي الآخرة بجزيل الثواب ، وجميل المآب ، والخلودِ في النعيم المقيم ، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله : {ويُعذب المنافقين إن شاء} يقال : إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق ، وتعلَّق القول فيه على الرجاء ، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه. انتهى كلام القشيري.
(6/29)
جزء : 6 رقم الصفحة : 18
يقول الحق جلّ جلاله : {وَرَدَّ اللهُ الذين كفروا} أي : الأحزاب {بغَيْظِهم} ؛ ملتبسين بغيظهم ، فهو حال كقوله : {تَنبُتُ بِالدُّهنِ} [المؤمنون : 20] أي : ردهم غائظين {لم ينالوا خيراً} ؛ ظفراً ، أي : لم يظفروا بالمسلمين. وسمّاه " خيراً " بزعمهم ، وهو أيضاً حال ، أي : غير ظافرين ، {وكفى اللهُ المؤمنين القتال} بالريح ، والملائكة ، {وكان اللهُ قوياً عزيزاً} ؛ قادراً غالباً ، فقهرهم بقدرته وغلبهم بقهريته. {وأنزل الذين ظاهروهم} : عاونوا الأحزاب وجاؤوا بهم {من أهلِ الكتاب} ، يعني بني قريظة ، أنزلهم {من صَياصِيهم} ؛ من حصونهم. والصيصة : ما يتحصّن به. قال الهروي : وكل ما يتحصّن به فهو صيصة ، ويقال لقرون البقر والظبي : صَيَاصي ؛ لأنها تتحصن بها ، وفي وصف أصحاب الدجال : " شواربهم كالصياصي " ، لطولها ، وفتلها ، فصارت كالقرون. هـ.
رُوي أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ، ورجع المسلمون إلى المدينة - على فَرَسه الحيزوم ، والغُبار على وجه الفَرَس والسَّرْج ، فقال : ما هذا جبريلُ ؟ فقال : من مُتَابعةِ قُريش. ثم قال : إن الله يأمرك بالمسير إلى بني
20
قريظة ، وأنا عائدٌ إليهم ، فإن الله داقهُمْ دَقَّ البيض على الصَّفا ، وهم لكم طُعْمةٌ.
(6/30)
وفي رواية : لَمَّا رجع - عليه الصلاة والسلام - ودخل مغتسله ، جاءه جبريل بعمامة من استبرق ، على بغلة ، عليها قطيفة من ديباج ، فقال : قد وضعتَ السِّلاح ، والله ما وضعت الملائكةُ السلاحَ ، وما رجعت إلا من طلب القوم ، وإن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة. فأذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس : أنَّ من كان سَامِعاً مُطيعاً فلا يُصلَّين العَصْرَ إلا في بني قُريظة. فخرج إليهم ، فحاصرهُم خمساً وعشرين ليلةٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنزلُون على حُكْمي ؟ فأبَوْا ، فقال : تنزلون على حكم سَعد بن مُعاذِ ؟ فرضوا به. فقال سعد : نحكم فيهمْ : أن تُقتل مقاتِلتَهُم ، وتُسبى ذَرارِيهمْ ونساؤُهُم. فكبَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال : " لقد حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة ". ثم استنْزلهم ، وخَنْدَق في سوق المدينة خندقاً ، وقدَّمَهُم ، فضرب أعناقَهُم. وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل : كانوا ستمائة مقاتل ، وسبعمائة أسير ، فقتل المقاتلة ، وقسم الأسارى ، وهم الذراري والنساء. وكان عليّ والزبير رضي الله عنهما يضربان أعناق بني قريظة. والنبي صلى الله عليه وسلم جالس هناك. والقصة مطولة في كتب السير.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 20
(6/31)
وقذَفَ في قلوبهم الرعبَ} الخوف. وفيه السكون والضم ، {فريقاً تقتلون} وهم الرجال {وتأسرون فريقاً} وهم النساء والذراري. قالت عائشة رضي الله عنها : لم يقتل صلى الله عليه وسلم من نساء بني قريظة امرأة إلا واحدة ، قتلها بخلاد بن سويد ، كانت شدخت رأسه بِحجَر من فوق الحصن. {وأورثكم أرضَهم وديارَهم وأموالهم} كالمواشي والنقود والأمتعة. رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار ، وقال لهم : " إنكم في منازلكم " {و} أورثكم {أرضاً لم تطؤوها} بعدُ ، قيل : خيبر ، ولم يكونوا نالوها ، أو : مكة ، أو : فارس والروم ، أو : كل أرض لم تُفتح إلى يوم القيامة ، فمكّنهم الله من ذلك كله ، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها. {وكان الله على كل شيءٍ قديراً} فيقدر على جميع ذلك.
الإشارة : هذه عادة الله مع خواصه ، أن يُخوفهم ثم يُؤمنهم ، ويذلهم ثم يعزهم ، ويفقرهم ثم يغنيهم ، ويجعل دائرة السوء على مَن ناوأهم ، ويكفيهم أمرهم من غير محاربة ولا قتال ، {وكفى الله المؤمنين القتال...} الآية. ثم يكون لهم التصرف في الوجود بأسره ، أمرهم بأمر الله ، وحكمهم بحكمه ، والله غالب على أمره.
ولَمَّا نصر الله رسولَه ، وفرّق الأحزاب ، وفتح عليه قريظة والنضير ، ظنّ أزواجه أنه اختص بنفائس أموال اليهود وذخائرهم ، فقعدن حوله وقلن : يا رسول الله ؛ بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقه والضيق ، وآلمن قلبه - عليه الصلاة والسلام - لمطالبتهن له بتوسعة الحال ، وأن يعاملهن به بما يعامل به الملوكُ والأكابرُ أزواجَهم.
21
جزء : 6 رقم الصفحة : 20
(6/32)
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها النبي قلْ لأزواجك} وكن تسعاً ؛ خمساً من قريش : عائشة بنت الصدّيق ، وحفصة بنت الفاروق ، وأم حبيبة بنت سفيان ، وسَوْدة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أُمية ، وصفية بنت حيي الخيبرية ، من بني إسرائيل ، من ذرية هارون عليه السلام ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة. أي : فقل لهن {إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدنيا وزينتَها} أي : التوسعة في الدنيا وكثرة الأموال والحُلل ، {فتعالين} أي : أَقبلن بإرادتكن واختياركن. وأصل " تعال " أن يقوله مَن في المكان المرتفع لمَن في المكان الأدنى ، ثم كثر استعماله في كل أمر مطلوب. {أُمتِّعكُنّ} أي : أُعطِكُن متعة الطلاق. وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوّضة قبل الوطء مع أخواتها ، كما في كتب الفقه. {وأسرِّحكُنَّ} أُطلقكن {سَراحاً جميلاً} لا ضرر فيه.
وقيل : سبب نزولها : أنهن سألنه زيادة النفقة ، وقيل : آذينه بغيرة بعضهن من بعض ، فاغتمّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ لذلك. وقيل : هجرهن شهراً ، فنزلت ، وهي آية التخيير. فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن إليه ، فخيّرها ، وقرأ عليها القرآن ، فاختارت اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة ، فرؤي الفرحُ في وجهه صلى الله عليه وسلم ، ثم اختارت جميعهُنّ اختيارها. وروي أنه قال لعائشة : " إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً ، ولاَ عَلَيكِ ألا تَعْجَلِي فيه حَتَّى تَسْتَأْمرِي أَبَوَيْكِ " ثُمَّ قرأ عليها الآية ، فقالت : أَفي هذا أسْتَأُمِرُ أَبَويّ ؟ فَإِني أُريدُ الله ورسوَلهُ والدَّارَ الآخِرَةَ.
(6/33)
وحكم التخيير في الطلاق : أنه إذا قال لها : اختاري ، فقالت : اخترتُ نفسي ، أن تقع تطليقة واحدة بائنة ، وإذا اختارت زوجها ؛ لم يقع شيء. قاله النسفي. وقال ابن جزي : وإذا اختارت المرأة الطلاق ؛ فمذهب مالك : أنه ثلاث ، وقيل : طلقة بائنة. وقيل : رجعية. ووصف السراح بالجميل ؛ يحتمل أن يريد أنه دون الثلاث ، أو : يريد الثلاث ، وجماله : حسن المرعى ، والثناء ، وحفظ العهد. هـ.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 22
وإن كنتنّ تُردنَ اللهَ ورسوله والدارَ الآخرةَ فإِن الله أعدَّ للمحسنات منكنَّ} " من " : للبيان ، {أجراً عظيماً} فاخترن رضي الله عنهن ما هو مناسب لحاله ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين خُيّر بَيْن أن يكون نبيّاً عبداً ، أو نبيًّا مَلِكاً ، فاختار أن يكون نبيًّا عبداً ، لا مَلِكاً. فاخترن العبودية ، التي اختارها عليه الصلاة والسلام.
22
الإشارة : ينبغي لمَن قلّده الله نساء متعددة أن يخيِّرهن ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لا يخلو من حال الغيرة ، فإذا خَيّرهن فينبغي أن يغيب عن تشغيبهن ، ولم يصغ بأُذُنه إلى حديثهن ، ولا ينبغي أن يغتم من أجل الغيرة ، فإنها طبع لازم للبشر ، وليُقدِّر في نفسه : أنه إذا تزوجت زوجته غيره ، وهي في عصمته ، هل يقْدِر على ذلك أم لا ، فالأمر واحد. والله أعلم.
قال القشيري : لم يُرِد أن يكون قلبُ واحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شُغل ، أو يعود إلى واحد منهم أذى ، أو تعب من الدنيا ، فَخيَّرَ صلى الله عليه وسلم بأمر ربه نساءَه ، ووفق اللهُ عائشةَ ، حتى أخبرتُ عن صدق قلبها ، وكمال دينها ويقينها ، وما هو المنتظر من أصلها ونيتها. والباقيات جرَيْن على منهاجها ، ونَسَجْنَ على منوالها. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 22
(6/34)
يقول الحق جلّ جلاله : {يا نساءَ النبيّ من يأتِ منكن بفاحشةٍ} بسيئة بليغة في القُبح {مُبَيِّنَة} ظاهرٌ فحشها ، من : بيّن ، بمعنى : تبيّن. وقرأ المكي وشعبة بفتح الياء ، وهي عصيانهنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ونشوزهن. قال في المقدمات : كل فاحشة نُعتت في القرآن بالبينة فهي بالنطق ، والتي لم تُنعت بها زنى. هـ. {يُضَاعَفْ لها العذابُ ضِعْفين} أي : ضِعفي عذاب غيرهنّ من النساء ؛ لأن الذنب منهن أقبح ؛ فإنَّ قُبح الذنب يتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه ، ولذلك قيل : ليست المعصية في القُرب كالمعصية في البُعد. وليس لأحد من النساء مثل فضل النساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذا كان الذم للعاصي العالم أشدّ منه للعاصي الجاهل ؛ لأن المعصية من العالِم أقبح ، وفي الحديث : " أشدُّ الناس عذاباً يومَ القيامة عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه " ؛ لقوة الجرأة في العالم دون غيره. ولهذا أيضاً فضل حدّ الأحرار على العبيد ، ولم يرجح الكافر. {وكان ذلك} أي : تضعيف العذاب عليهن {على الله يسيراً} هيناً.
{ومن يَقْنُتْ منكن} أي : يدم على الطاعة {لله ورسوله وتعمل صالحاً نُؤْتِها أجْرَها مرتين} أي : مثل ثوابي غيرها ، مرة على الطاعة ، ومرة على طلبهن رضا النبي صلى الله عليه وسلم ، بالقناعة ، وحسن المعاشرة. وقرأ حمزة والكسائي بالغيب على لفظ " من " ، {وأعتدنا لها رِزقاً كريماً} جليل القدر ، وهو الجنة.
الإشارة : من شأن الملِك أن يُعاتب الوزراء بما لا يعاتب غيرهم ، ويهددهم بما لا
23
(6/35)
يهدد به غيرهم ، ويعطيهم من التقريب والكرامة ما لا يُعطي غيرهم ، فإن هفوا وزلُّوا عاتبهم ، ثم يردهم إلى مقامهم ، وربما سمح وأغضى. والغالب : أن الحق تعالى يعجل عتاب خواصه ، في الدنيا قبل الآخرة ، بمصائب وأهوال ، تصفيةً وتطهيراً ، ولا يُبعدهم من حضرته بما اقترفوا. قال القشيري : زيادةُ العقوبة على الجُرْمِ من أمارات الفضيلة ، كحدّ الحر والعبد ، وتقليل ذلك من أمارات النقص ، ولَمَّا كانت منزلتُهن في الشرف تزيد وتربو على منزلة جميع النساء ، تضاعفت عقوبتهن على أجْرامهن ، وتضاعف ثوابَهن على طاعتِهن ، فقال : {ومن يقنت منكن لله...} وقال : {لستن كأحد من النساء...} الآية هـ. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 23
يقول الحق جلّ جلاله : {يا نساء النبي لستُنَّ كأحدٍ من النساء} أي : لستن كجماعة من جماعات النساء ، أي : إذا تقصيت أمة النساء ، جماعةً جماعةً ، لم توجد منهن جماعة واحدة تُساويكن في الفضل ، فكما أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليس كأحد من الرجال ، كما قال : " إني لسْتُ كَأَحَدِكُمْ... " كذلك زوجاته التي شرُفن به. وأصل " أحد " : وَحَدٍ ، بمعنى : واحد ، فوضع في النفي العامّ ، مستوياً فيه المذكّر والمؤنّث ، والواحد وما وراءه ، أي : لستن في الشرف كأحد من النساء ، {إنِ اتقيْتنَّ} مخالفةَ الله ورضا رسوله ، {فلا تَخْضَعْنَ بالقولِ} أي : إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب ، فلا تجئنَ بقولكنّ خاضعاً ، أي : ليناً خنثاً مثل قول المُريبات ، {فيَطْمَع الذي في قلبه مرضٌ} ريبة ، وفجور ، وهو جواب النهي ، {وقُلْنَ قولاً معروفاً} حسناً مع كونه خشيناً.
(6/36)
{وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ} أي : استكِن فيه ، والْزَمن بيوتكن من غير خروج. وقرأ نافع وعاصم بالفتح ، وهو من : قرَر يَقْرَرُ ، لغة في قرّ بالمكان ، وأصله : اقرَرن ، فحذفت الراء ، تخفيفاً ، وألقيت فتحتها على ما قبلها. وقيل : من : قار يقار : إذا اجتمع. والباقون بالكسر ، من : قرّ بالمكان يقِرّ ـ بالكسر ، وأصله : اِقْررْن ، فنقلت كسرة الراء إلى القاف ، وحذفت الراء. وقيل : من : وَقَر يَقِر وقاراً.
24
{ولا تبرَّجْنَ تبرجَ الجاهليةِ الأُولى} أي : لا تتبخترن في المشي تبختر أهل الجاهلية ، فالتبرُّج : التبختر في المشي وإظهار الزينة ، أي : ولا تبرجن تبرجاً مثل {تبرج الجاهلية الأولى} أي : القديمة ، وهو الزمان الذي وُلد فيه إبراهيم عليه السلام ، فكانت المرأة تتخذ فيه الدرع من اللؤلؤ ، وتعرض نفسها على الرجال ، زمان نمرود الجبار ، والناس كلهم كفار. أو : ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة. وكان نساؤهم أقبح ما يكون ، ورجالهم حِسَان ، فتريده المرأة على نفسها. أو : زمن داود وسليمان عليهما السلام ، وكان للمرأة قميص من الدرّ ، غير مخيط الجانبين ، فتظهر صورتها فيه. والجاهلية الأخرى : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام أو : الجاهلية الأولى : جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى : جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 24
وأقِمْنَ الصلاةَ وآتينَ الزكاة} خصهما بالذكر ؛ تفضيلاً لهما ؛ لأن مَن واظب عليهما جرتاه إلى غيرهما. {وأَطِعْنَ اللهَ ورسولَه} في سائر ما أمرَكن به ، ونهاكن عنه.
(6/37)
{إِنما يُريد اللهُ ليُذهبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت} أي : يا أهل البيت ، أو : أخص أهل البيت. وفيه دليل على أن نساءه من أهل بيته. قال البيضاوي : وتخصيص أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما ، لِما رُوي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ خرج ذات غدوة عليه مِرْطٌ مُرَحَّل من شعر أسود ، فجاءت فاطمة ، فأدخلها ، ثم جاء عليّ ، فأدخله فيه ، ثم جاء الحسن والحسين ، فأدخلهما فيه ، فقال : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهلَ البيت... " والاحتجاج بذلك على عصمتهم ، وكون اجتماعهم حجة ، ضعيف ؛ لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت ، لا أنه ليس غيرهم. هـ. وإنما قال : {عنكم} لأنه أُريد الرجال والنساء. والرجس : كل ما يدنس ، من ذنب ، أو عيب ، أو غير ذلك ، وقيل : الشيطان.
{ويُطهركم تطهيراً} من نجاسات الآثام والعيوب ، وهو كالتعليل لِمَا قبله ، فإنما أَمَرَهن ، ونهاهن ، ووعظهن ؛ لئلا يقارف أهل البيت ما يدنس ، من المآثم ، وليتصوّنوا عنها بالتقوى. واستعار للذنب الرجس ، وللتقوى الطُهر ؛ لأن عِرض المقترف للمستقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس وأما مَن تحصّن منها فعرضه مصون ، نقي كالثوب الطاهر. وفيه تنفير لأُولي الألباب عن كل ما يدنس القلوب من الأكدار ، وترغيب لهم في كل ما يطهر القلوب والأسرار ، من الطاعات والأذكار.
{واذْكُرْنَ ما يُتلى في بيوتِكُنَّ من آياتِ الله} القرآن {والحكمةِ} السُنَّة ، أو : بيان معاني القرآن ، أو : ما يُتلى عليكن من الكتاب الجامع بين الأمرين. {إِن الله كان لطيفاً} عالماً بغوامض الأشياء ، {خبيراً} عالماً بحقائقها ، أو : هو عالم بأقوالكن وأفعالكن ،
25
فاحذرن مخالفة أمره ونهيه ، ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم.
(6/38)
الإِشارة : علَّق الحق تعالى شرف نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيلهن على سبعة أمور ، ويقاس عليهن غيرهن من سائر النساء ، فمَن فعل هذه الأمور حاز شرف الدنيا والآخرة. الأول : تقوى الله في السر والعلانية ، وهي أساس الشرف. الثاني : التحصُّن مما يُوجب مَيْل الرجال إليهن ؛ من التخنُّث في الكلام وغيره. الثالث : لزوم البيوت والقرار بها. وقد مدح الله نساء الجنة بذلك فقال : {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن : 72]. الرابع : عدم التبرُّج ، وهو إظهار الزينة حيث يحضر الرجال. الخامس : إقامة الصلاة وإتقانها وإيتاء الصدقة. السادس : طاعة الله ورسوله ، ويدخل فيه طاعة الزوج. السابع : لزوم ذكر الله ، وتلاوة كتابه لمن تُحسن ذلك في بيتها. فمَن فعلت من النساء هذه الأمور ؛ أذهب الله عنها دنس المعاصي والعيوب ، وطهّرها تطهيراً ، وأبدلها بمحاسن الأخلاق والشيم الكريمة. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 24
(6/39)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِن المسلمين والمسلماتِ} أي : الداخلين في الإسلام ، المنقادين لأحكام الله قولاً وفعلاً ، فالمسلم : هو الداخل في السلم بعد الحرب ، المنقاد الذي لا يُعاند ، أو : المفوِّض أمره إلى الله ، المتوكل عليه ، مِن : أسلم وجهه إلى الله ، {والمؤمنين والمؤمنات} المصدِّقين بالله ورسوله ، وبما يجب أن يصدّق به ، {والقانتين والقانتات} المداومين على الطاعة ، {والصادقين والصادقات} في النيات ، والأقوال ، والأفعال ، {والصابرين والصابرات} على الطاعات وترك السيئات ، {والخاشعين والخاشعات} المتواضعين لله بالقلوب والجوارح ، أو : الخائفين : {والمتصدِّقين والمتصدِّقات} فرضاً ونفلاً ، {والصائمين والصائمات} فرضاً ونفلاً. وقيل : مَن تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين ، ومَن صام البيض من كل شهر ، فهو من الصائمين ، {والحافظين فروجَهم والحافظاتِ} عما لا يحلّ ، {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} بقلوبهم وألسنتهم ، بالتسبيح ، والتهليل ، والتكبير ، وتلاوة القرآن ، وغير ذلك من الأذكار ، والاشتغال بالعلم لله ، ومطالعة الكتب من الذكر. وحذف " كثيراً " في حق الذاكرات لدلالة
26
ما تقدم عليه.
(6/40)
وقال عطاء : مَن فوّض أمره إلى الله فهو داخل في قوله : {إن المسلمين والمسلمات} ، ومَن أقرّ بأن الله ربه ، وأن محمداً رسوله ، ولم يخالف قلبُه لسانَه ، فهو من المؤمنين والمؤمنات ، ومَن أطاع الله في الفرض ، والرسول في السُنَّة ، فهو داخل في قوله : {والصادقين والصادقات} ، ومَن صلّى فلم يعرف مَنْ عن يمينه وعن شماله ، فهو داخل في قوله : {والخاشعين والخاشعات} ، ومَن صبر على الطاعة وعن المعصية ، وعلى الذرية ، فهو من {الصابرين والصابرات} ، ومَن تصدّق في كل أسبوع بدرهم ، فهو من المتصدقين والمتصدقات ، ومَن صام في كل شهر أيام البيض ، الثالث عشر وما بعده ، فهو من الصائمين والصائمات ، ومَن حفظ فرجه عما لا يحل ؛ فهو من الحافظين فروجهم والحافظات ، ومَن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها ؛ فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 26
قال ابن عباس : (جاء إسرافيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، عدد ما علم ، وزنة ما علم ، وملءَ ما علم. مَن قالهن كُتبت له ست خصال ؛ كتب من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات ، وكان أفضل ممن ذكره في الليل والنهار ، وكان له عرش في الجنة ، وتحاتت عنه ذنوبه ، كما تحات ورق الشجر اليابس ، وينظر الله إليه ، ومَن نظر إليه لم يعذبه). وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضجعاً. هـ. من الثعلبي.
وسُئل ابنُ الصلاح عن القَدْر الذي يصير به العبد من الذاكرين الله كثيراً ؟ فقال : إذا واظب على الأذكار المأثورة صباحاً ومساءً ، وفي الأوقات والأحوال المختلفة ، ليلاً ونهاراً ، كان من الذاكرين كثيراً. هـ. قلت : وقد تتبعت ذلك في تأليف مختصر سميته : " الأنوار السنية في الأذكار النبوية ".
(6/41)
هذا وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين. وهو ضروري كقوله : {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم : 5]. وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين ، وليس بضروري ، ولو قال : " إن المسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنات " بغير واو لجاز ، كقوله : {مسلمات مؤمنات قانتات...} الخ ، وهو مِن عطف الصفة ، ومعناه : إن الجامعين والجامعات لهذه الصفات. {أَعَدَّ اللهُ لهم مغفرة} لِما اقترفوا من السيئات ، {وأجراً عظيماً} على طاعتهم. قال البيضاوي : والآية وعد لهن ، ولأمثالهن ، على الطاعة والتدرّعُ بهذه الخصال. رُوي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن : ذكر الرجال في القرآن بخير فما فينا خير ، فنزلت. هـ.
37
(6/42)
الإشارة : اعلم أن اصطلاح الصوفية أن ما يتعلق بعمل الجوارح الظاهرة يُسمى إسلاماً ، وما يتعلق بعمل القلوب الباطنية يُسمى إيماناً ، وما يتعلق بعمل الأرواح والأسرار يُسمى إحساناً. قال في البغية : فالإسلام يشتمل على وظائف الظاهر ، وهي الغالبة عليه ، ذلك من عالم الشهادة ، والإيمان يشتمل على وظائف الظاهر ، وهي الغالبة عليه ، وذلك من عالم الغيب ، وهي الأعمال الغيبية ، ولمّا انفتح لها باب من الأعمال الظاهرة للعبادة ، وأشرقت عليها من ذلك أنوار ، وتعلقت همتها بعالم الغيب ، مالت إلى الوفاء بالأعمال الباطنية ، ثم لمّا تمكنت في الأعمال الباطنة ، واطلعت على عالَمها ، وأشرفت على طهارتها ، وتعلقت همتها بعالم الملكوت ، مالت إلى الوفاء بالأسرار الإحسانية ، ومن هناك تدرك غاية طهارتها وتصفيتها ، والاطلاع على معارف الحقائق الإلهية. ثم قال : فإذا تبين هذا ، فالإسلام له معنى يخصه ، وهو انقياد الظاهر بما تكلف به من وظائف الدين ، مع ما لا بد منه من التصديق. والإيمان له معنى يخصه ، وهو تصديق القلب بجميع ما تصمنه الدين من الأخبار الغيبية ، مع ما لا بد منه من شُعبه. والإحسان له معنى يخصه ، وهو تحسين جميع وظائف الدين الإسلامية والإيمانية ، بالإتيان بها على أكمل شروطها ، وأتم وظائفها ، خالصة من جميع شوائب عِللها ، سالمة من طوارق آفاتها. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 26
(6/43)
قلت : ولا يكفي في مقام الإحسان تحسين الوظائف فقط ، بل لا بد فيه من كشف حجاب الكائنات ، حتى يُفضي إلى شهود المكوِّن ، فيعبد الله على العيان. كما في الحديث : " أن تعبد الله كأنك تراه " فإذا تقرّر هذا ؛ فالآية مشتملة على تدريج السلوك ؛ فأول مقامات المريد : الإسلام ، ثم الإيمان ، كما في الآية ، ثم يكون من القانتين المداومين على الطاعة ، ثم يكون من الصادقين في أقواله ، وأفعاله ، وأحواله ، صادقاً في طلب مولاه ، غائباً عن كل ما سواه ، ثم من الصابرين على مجاهدة النفس ، ومقاساة الأحوال ، وقطع المقامات والمفاوز. وقال القشيري : من الصابرين على الخصال الحميدة وعن الخصال الذميمة ، وعند جريان مفاجآت القضية. هـ. ثم من الخاشعين الخاضعين لهيبة الجلال ، مشاهداً لكمال أنوار الجمال. قال القشيري : الخشوعُ : إطراق السريرة عند بوادِه الحقيقة. هـ.
ثم يتحقق بأوصاف الكمال ؛ كالسخاء والكرم ، فيبذل ما عنده في مرضاة ربه ، فيكون من المتصدقين بأموالهم وأنفسهم ، حتى لا يكون لأحد معهم خصومة فيما أخذوا منهم وقالوا فيهم ، ثم يصوم عن شهود السِّوى ، ثم يحفظ فرجه عن وِقاع الشهوة والهوى ، فلا ينزل إلى سماء الحقوق ، أو أرض الحظوظ ، إلا بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين. ثم يكون من المُسْتَهتَرين بذكر الله ، أعني ذكر الروح والسر ، وهو مقام الإحسان ، الذي هو محل العيان ، فيكون ذاكراً بالله ، مذكوراً في حضرة الله ، مشهوراً في ملكوت الله. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
28
جزء : 6 رقم الصفحة : 26
(6/44)
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيا أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ...}.
يقول الحق جلّ جلاله : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ} أي : ما صحّ لرجل مؤمن ، ولا امرأة مؤمنة ، {إِذَا قضى اللهُ ورسولُه أمراً} من الأمور {أن يكون لهم الخِيرَةُ من أمرهم} أي : أن يختاروا من أحدهم شيئاً ، بل الواجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه ، واختيارهم تلواً لاختياره.
(6/45)
نزلت في زينب بنت جحش ، وأخيها عبد الله بن جحش. وكانت زينب بنت أميمةَ بنت عبد المطلب ، عمة النبي صلى الله عليه وسلم ، فخطبها ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمولاه زيد بن حارثة ، فلما خطبها ، ظنت أنه يخطبها لنفسه ، فرضيت ، فلما علمت أنه خطبها لزيد كرهت وأبت ، وقالت : أنا أم نساء قريش ، وابنة عمتك ، فلم أكن أرضه لنفسي ، وكذلك قال أخوها. وكانت بيضاء جميلة ، وكان فيها بذاذة ، فأنزل الله الآية ، فأعلمهم أنه لا اختيار لهم على ما قضى اللهُ ورسولُه. فلما نزلت الآية إلى قوله : {مبيناً} قالت : رضيتُ يا رسول الله ، وجعلت أمرها بيد النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أخوها ، فأنكحها صلى الله عليه وسلم زيداً ، فدخل بها ، وساق إليها النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير ، وستين درهماً ، وملحفة ، ودرعاً ، وإزاراً ، وخمسين مدًّا من طعام ، وثلاثين صاعاً من تمر. وقيل نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط ، وكانت من أول مَن هاجر من النساء ، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقبلها ، وقال : زوجتها من زيد ، فسخطت هي وأخوها ، وقالا : إنما أردنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت. والأول أصح.
جزء : 6 رقم الصفحة : 29
وإنما جمع الضمير في " لهم " ، وكان من حقه أن يُوحَّد ؛ لأن المذكورين وقعا نكرة في سياق النفي ، فعمَّا كل مؤمن ومؤمنة ، فرجع الضمير إلى المعنى ، لا إلى اللفظ. والخيرة : ما يُتخير ، وفيه لغتان : سكون الياء ، وفتحها ، وتؤنث وتذكَّر باعتبار الفعل ؛ لمجاز تأنيثها.
{ومن يَعْصِ اللهَ ورسولَه} فيما اختار وقضى {فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً} بيِّن الانحراف عن الصواب. فإن كان العصيانُ عصيانَ رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر ، وإن كان عصيانَ فعلٍ ، مع قبول الأمر ، واعتقاد الوجوب ، فهو ضلال فسق.
(6/46)
ثم إن زينب مكثتْ عند زيد زماناً ، فأتى عليه الصلاة والسلام ذات مرة دار زيد ، لحاجة ، فأبصرها في درع وخمار ، فوقعت في نفسه ، وذلك لِمَا سبق في علم الله من كونها له.
29
فقال : " سبحان مقلِّب القلوب " ، وكانت نفسه قبل ذلك تنفر منها ، لا تُريدها ، فانصرف ، وسمعت زينب بالتسبيحة ، فذكرتها لزيد ، ففَطِنَ ، وأُلقي في نفسه كراهيتُهَا والرغبة عنها في الوقت ، وقال : يا رسول الله ؛ إني أُريد فراق صاحبتي ؟ فقال : " ما لك ، أَرَابَكَ منها شيء ؟ " فقال : لا والله ، ما رأيت منها إلا خيراً ، إلا أنها تتعظم عليَّ ، لشرفها ، وتؤذيني بلسانها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أمسك عليك زوجك واتقِ الله ". وهذا معنى قوله : {وإِذ تقول للذي أنْعَمَ اللهُ عليه} بالإسلام الذي هو من أجلّ النعم {وأنْعَمْتَ عليه} بالإعتاق والتبني ، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو زيد بن حارثة : {أمسِكْ عليك زوجك} زينب ، {واتقِ اللهَ} فلا تطلقها ، وهو نهي تنزيه ، أو : اتقِ الله ، فلا تذمها بالنسبة إلى الكِبْر وأذى الزوج ، {وتخفي في نفسك ما الله مُبْديهِ} أي : تُخفي في نفسك نكاحها إن طلقها زيد ، وقد أبداه الله وأظهره ، وقيل : الذي أخفاه في نفسه : تعلُّق قلبه بها ، ومودة مفارقة زيد إياها.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : والصواب أن المعنى : وتُخفي في نفسك ما اطلعت عليه ؛ من مفارقة زيد لها ، وتزوجك إياها بعده ، فإن هذا هو الذي أبداه سبحانه وأظهره بعد ذلك. وأما قوله : {وتخشى الناسَ واللهُ أحقُّ أن تخشاه} فإنما يعني به الحياء من الناس في أن يقابلهم بما يسوؤهم ، وهو إخبار زيد بما أطلعه الله عليه من صيرورة زوجته زينب له ، بعد مفارقة زيد لها ، لأنه لم يؤمر بإفشاء ذلك ، وإلا لبلَّغ من غير رَوية ولا حشمة ، سالكاً في ذلك سُنَّة مَن خلا قبله من الأنبياء ، الذين لا يخشون في التبليغ أحداً إلا الله.
(6/47)
جزء : 6 رقم الصفحة : 29
وقال القشيري : أي : تخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة في قصة زيد [والفتنة التي يقعون فيها هي ظنهم أنه عليه الصلاة والسلام عشقها ، وأمره بطلاقها] وكانت تلك الخشية إشفاقاً منه عليهم ، ورحمة لهم ألا يُطيقوا سماع هذه الحالة ، بأن يخطر ببالهم ما ليس في وسعهم. وأما قوله : {أمسك عليك...} الآية ـ مع علمه بما يؤول إليه الأمر في العاقبة ، بما أطلعه الله عليه من فراقه لها ـ فإقامة الشريعة. هـ. ملخصاً.
وفي الوجيز : {وتخشى الناس} أي : تكره مقالة الناس لو قلت طَلِّقْها ، فيقال : أمر رجلاً فطلّق امرأته ثم تزوجها. وقد نقل في نوادر الأصول عن عليّ بن الحسين : أن الله أعلم نبيه أنها تكون من أزواجه ، فأخفى ذلك. فلما جاء زيد يشكوها ؛ قال له : اتقِ الله ، وأمسك عليك زوجك ، قال : فعليُّ بن حسين جاء بها من خزانة العلم ، جوهراً من الجواهر ، ودرًّا من الدرر ، وأنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه ، ثم قال بعد ذلك لزيد : أمسك.. رعاية لِما يقال ، وتركاً لتدبير الله ، مع كونه أحق بالرعاية ، وكيف ، وفي ذلك تشريع لئلا يكون على المؤمنين حرج وضيق فيما فرض الله له فيما أعلمه. ثم قال : والحاصل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يلمّ بخطيئة ، بدليل أنه لم يؤمر بتوبة ولا
30
استغفار ، وإنما أخبره بما أضمر في نفسك ، خشية افتتان الغير ، والله أحق أن يخشى ، بأن يبتهل إليه ؛ ليزيل عنهم ما يخشى فيهم.
قال ابن عرفة : الصواب : أن ما أخفاه في نفسه هو : أن الله أخبره أن سيتزوجها. وما قاله ابن عطية لا يحل أن يقال ، لأنه تنقيص لم يرد في حديث صحيح. وإنما ذكره المفسرون. هـ. قلت : إنما يكون تنقيصاً إذا كان ذلك الواقع في القلب ثابتاً ، وأما إن كان خاطراً مارًّا فلا نقص ؛ إذ ليس في طوق البشر ؛ لأنه من أوصاف العبودية ، بل الكمال في دفعه بعد هجومه.
(6/48)
ثم قال ابن عرفة ، على قوله : {وتخشى الناس} هو تمهيد لعذره ، وإن كان لمجرد أمر الله له بذلك ، ولا ينبغي حمله على أنه خاف الناس فقط. بل المراد : عتابه على خلط خوفه من الله بخوفه من الناس ، وأَمَرهُ ألا يخاف إلا من الله فقط ، خوفاً غير مشوب بشيء. هـ. قلت : إذا فسرنا الخشية بالحياء لا يحتاج إلى هذا التعسُّف ، مع أن الخوف من الخَلْق مذموم ، وحده أو مع خوف الله ، والنبي صلى الله عليه وسلم منزَّه عن ذلك ، أي : تستحي من الناس أن يقولوا : نكح امرأة ابنه ، وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ أشد الناس حياء من العذراء في خدرها. والحياء ممدوح عند الخاص والعام. وأما قوله تعالى : {والله أحقُّ أن تخشاه} فتنبيه على أن الحياء في بعض المواضع تركه أَولى ، فهو ترقية له ، وتربية لوقت آخر. أو : وتخشى أن يفتتن الناس بذلك ، والله أرحم بهم من غيره ، فالله أحق أن تَخشى ، فتبتهل إليه في زوال ذلك عنهم. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 29
الإشارة : في الآية الأولى حث على التفويض وترك الاختيار ، مع ما أمر به الواحد القهّار. وفي الحِكَم : " ما ترك من الجهل شيئاً مَن أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهر الله ". فالواجب على العبد أن يكون في الباطن مستسلماً لقهره ، وفي الظاهر متمثلاً لأمره ، تابعاً لسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولِمَا يُوجب رضاه ومحبته. وفي الآية الثانية تنبيه على أن خواص الخواص يُعاتبون على ما لا يُعاتب عليه الخواص. والخواص ، يُعاتبون على ما لا يعاتب عليه العوام ، فكلما علا المقام ، واشتد القرب ، اشتدت المطالبة بالأدب ، ووقع العتاب على أدنى ما يخل بشيء من الأدب ، على عادة الوزراء مع الملك. وذلك أمر معلوم ، مذوق عند أهل القلوب. وبالله التوفيق.
ثم ذكر تزوجه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لزينب بعد مفارقة زيد ، فقال :
(6/49)
{فَلَمَّا قَضَىا زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيا أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَىا بِاللَّهِ حَسِيباً}.
31
يقول الحق جلّ جلاله : {فلما قضى زيدٌ منها وَطَراً} حاجة ، بحيث ملَّها ولم تبقَ له فيها حاجة. والوطر : الحاجة ، فإذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همّة ، يقال : قضى منه وطراً ، أي : فلما قضى حاجته منها ، وطلقها ، وانقضت عدّتها ، {زوجناكَها}. رُوي أنها لما اعتدت قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ لزيد : " ما أجد أحداً أوثقُ في نفسي منكَ ، ايت زينبَ فاخطبها لي " قال زيدٌ : فأتيتُها وولَّيتُها ظهْرِي ، إعظاماً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقلت : يا زينبُ إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يخطبُك ، فَفَرحَتْ ، وقالت : ما أنا بصانعةٍ شيئاً حتى أؤامِرَ ربِّي ، فقامت إلى مسجدها ، فنزَلَ القرآنُ : {فلما قضى زيد...} الآية ، فتزوجها عليه الصلاة والسلام ، ودخل بها حينئذ ، ومَا أوْلَمَ على امْرأةٍ ما أوْلَمَ عليها ، ذبح شاةٍ ، وأطعمَ الناسَ الخبزَ واللحمَ حتى امتد النهار.
وقيل : زوّجه الله تعالى إياها بلا واسطة عقد ، ويؤيده : أنها كانت تقول لسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله زوجني من فوق سبع سماوات ، وأنتن زوَّجَكُنَّ أولياؤكُنَّ. وكانت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لأدُلّ عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدِل عليك بهنّ : جدّي وجدّك واحد ، وإياي أنكحك الله من السماء ، وإن السفير لي جبريل.
(6/50)
جزء : 6 رقم الصفحة : 29
ثم علل تزويجه إياها ، فقال : {لكيلا يكون على المؤمنين حرجٌ في أزواج أدعيائهم} الذين يتبنونهم {إِذا قَضَوْا منهنَّ وَطَراً} قال الحسن : ظنت العرب أن حُرمة المتبني مشتبكة كاشتباك الرحم ، فبيّن اللهُ تعالى الفرق بينهما ، وأن حلائل الأدعياء غير محرمة. وليست كحلائل أبناء الصلب. قال البيضاوي : وفيه دليل على أن حكمه وحكم الأَمة واحد ، إلا ما خصّه الدليل. هـ. {وكان أمرُ اللهِ} الذي يريد أن يكونه {مفعولاً} مكوناً لا محالة ، كما كان تزويج زينب.
{ما كان على النبيّ من حرجٍ فيما فَرَضَ اللهُ له} أي : حلّ له ، أو : قسم له ، من قولهم : فرض له في الديوان كذا ، وفروض العساكر ، لأرزاقهم. أي : لا حرج على النبي فيما حلّ له وأمر به ، كتزويج زينب ، أو : قسم له من عدد النساء بلا حدّ ، {سُنَّة الله} مصدر مؤكد لِما قبله من قوله : {ما كان على النبي من حرج} أي : سُنَّ ذلك سُنَّة في الأنبياء الماضين ، وهو : ألا حرج عليهم في الإقدام على ما أحلّ لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره. وكانت تحتهم المهائر والسراري ، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة ، وثلاثمائة سُرِّية. {في الَّذين خَلَواْ مِن قبلُ} في الأنبياء الذين مضوا من قبله ، {وكان أمرُ الله قَدَراً مقدوراً} أي : قضاءً مقضياً ، وحكماً مثبوتاً مبرماً ، لا مرد له.
32
{الذين يُبلِّغون رسالاتِ الله} هو صفة لـ {الذين خلوا من قبل} ، أو : بدل منه ، أو : مدح لهم منصوب ، أو : مرفوع ، أي : هم الذين ، أو : أعني الذين يُبلغون رسالات الله ، {ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله} ونبينا صلى الله عليه وسلم من جملتهم ومن أشرافهم ، {وكفى بالله حسيباً} للمخاوف ، أو : محاسباً ، فينبغي ألا يُخشى إلا منه تعالى.
(6/51)
الإشارة : إذا تمكن العبدُ مع مولاه وتحققت محبته فيه ، كانت حوائجه مقضية ، وهمته كلها نافذة ، إذا اهتم بشيء ، أو خطر على قلبه شيء ، مكّنه الله منه ، وسارع في قضائه ، كما فعل مع حبيبه ، حين خطر بباله تزوج زينب ، أعلمه أنه زوَّجه إياها. وأهل مقام الفناء جُلهم في هذا المقام ، إذا اهتموا بشيء كان ، إذا ساعدتهم المقادير ، وإلا فسوابقُ الهمم لا تخرق أسوارَ الأقدار ، ولذلك قال هنا : {وكان أمر الله مفعولاً} ، {وكان أمر الله قَدَراً مقدُوراً}. وصفة أهل الهمم القاطعة : أنهم لا يخافون إلا الله ، ولا يخشون أحداً سواه ، لا يخافون في الله لومة لائم ، ذِكْرُهم لله دائم ، وقلبُهم في الحضرة هائم. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 29
(6/52)
يقول الحق جلّ جلاله : {ما كان محمدٌ أَبَا أحدٍ من رجالكم} أي : لم يكن أبا رجل منكم حقيقة ، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده ؛ من حرمة الصهر والنكاح ، والمراد : من رجالكم البالغين ، وأما أولاده : القاسم ، والطيب ، والطاهر ، فماتوا قبل أن يكونوا رجالاً ، وأما الحسن والحسين ، فأحفاد ، لا أولاد. {ولكن} كان {رسولَ اللهِ} وكل رسول أبو أمته ، فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم ، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه ، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء. وزيد واحد من رجالكم ، الذين ليسوا بأولاد حقيقة ، فكان حكمُه حكمهم. والتبني من باب الاختصاص والتقريب ، لا غير. {و} كان أيضاً صلى الله عليه وسلم {خاتمَ النبيين} أي : آخرهم الذي ختمهم ، أو : ختموا به على قراءة عاصم. بفتح التاء ، بمعنى : الطابع ، كأنه طبع وختم على مقامات النبوة ، كما يختم على الكتاب لئلا يلحقه شيء. فلا نبي بعده. وعيسى ممّن نُبىء قبله ، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعته صلى الله عليه وسلم ، كأنه بعض أمته. ومَن قرأ بكسر التاء ، فمعناه : فاعل الختم ، كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " أنا خاتم النبيين فلا نبي بعدي " ويصح أن يكون بمعنى الطابع أيضاً ؛ إذ فيه لغات ؛ خاتِم ـ بالفتح والكسر ـ وخاتام ،
33
وخَيْتام. {وكان الله بكل شيءٍ عليماً} فيعلم مَن يليق بأن يختم به النبوة ، وكيف ينبغي شأنه.
الإشارة : كان صلى الله عليه وسلم أبا الأرواح حقيقة ؛ إذ الوجود كله ممتد من نوره ، وأبا الأشباح باعتبار أنه السابق نوره. فأول ما ظهر نوره ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومنه امتدت الكائنات ، فهو بذرة الوجود. وسيأتي في قوله : {فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف : 81] تتميم ذلك إن شاء الله. ولم يكن أباً باعتبار تولُّد الصلب ، وهو الذي نفاه الله تعالى عنه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 33
(6/53)
يقول الحق جلّ جلاله : {ما كان محمدٌ أَبَا أحدٍ من رجالكم} أي : لم يكن أبا رجل منكم حقيقة ، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده ؛ من حرمة الصهر والنكاح ، والمراد : من رجالكم البالغين ، وأما أولاده : القاسم ، والطيب ، والطاهر ، فماتوا قبل أن يكونوا رجالاً ، وأما الحسن والحسين ، فأحفاد ، لا أولاد. {ولكن} كان {رسولَ اللهِ} وكل رسول أبو أمته ، فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم ، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه ، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء. وزيد واحد من رجالكم ، الذين ليسوا بأولاد حقيقة ، فكان حكمُه حكمهم. والتبني من باب الاختصاص والتقريب ، لا غير. {و} كان أيضاً صلى الله عليه وسلم {خاتمَ النبيين} أي : آخرهم الذي ختمهم ، أو : ختموا به على قراءة عاصم. بفتح التاء ، بمعنى : الطابع ، كأنه طبع وختم على مقامات النبوة ، كما يختم على الكتاب لئلا يلحقه شيء. فلا نبي بعده. وعيسى ممّن نُبىء قبله ، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعته صلى الله عليه وسلم ، كأنه بعض أمته. ومَن قرأ بكسر التاء ، فمعناه : فاعل الختم ، كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " أنا خاتم النبيين فلا نبي بعدي " ويصح أن يكون بمعنى الطابع أيضاً ؛ إذ فيه لغات ؛ خاتِم ـ بالفتح والكسر ـ وخاتام ،
33
وخَيْتام. {وكان الله بكل شيءٍ عليماً} فيعلم مَن يليق بأن يختم به النبوة ، وكيف ينبغي شأنه.
الإشارة : كان صلى الله عليه وسلم أبا الأرواح حقيقة ؛ إذ الوجود كله ممتد من نوره ، وأبا الأشباح باعتبار أنه السابق نوره. فأول ما ظهر نوره ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومنه امتدت الكائنات ، فهو بذرة الوجود. وسيأتي في قوله : {فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف : 81] تتميم ذلك إن شاء الله. ولم يكن أباً باعتبار تولُّد الصلب ، وهو الذي نفاه الله تعالى عنه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 33
(6/54)
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللهَ ذكراً كثيراً} قياماً ، وقعوداً ، وعلى جنوبكم ، قال ابن عباس : (لم يُعذَر أحد في ترك ذكر الله ـ عزّ وجل ـ إلا مَن غلب على عقله). وقال : الذكر الكثير : ألاَّ تنساه أبداً. وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أكْثِرُوا ذِكرَ اللهِ حتى يقولوا مجنونٌ " والذكر أنواع : تهليل ، وتحميد ، وتقديس ، واستغفار ، وتلاوة ، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : المراد : ذكر القلوب ، فإن الذكر الذي يمكن استدامته ، هو ذكر القلب ، وهو استدامة الإيمان والتوحيد. وأمَّا ذكرُ اللسان فإن إدامته كالمتعذَر. قاله القشيري. {وسبِّحوه} أي : نزِّهوه ، أو : قولوا : سبحان الله وبحمده ، {بكرةً} أول النهار {وأصيلاً} آخر النهار. وخُصَّا بالذكر لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون فيهما. وعن قتادة : (قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله). أو : الفعلان ـ أي : {اذكروا} و {سبّحوه} ـ موجهان إلى البُكرة والأصيل ، كقولك : صم وصلِّ يوم الجمعة. والتسبيح من جملة الذكر ، وإنما اختص من بين أنواعه إبانةً لفضله ؛ لأن معناه : تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات. ويجوز أن يراد بالذكر وإكثاره : تكثير الطاعات والعبادات ، فإنها من جملة الذكر ، ثم خصّ من الذكر التسبيح بكرة ، وهي صلاة الفجر ، وأصيلاً ، وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، أو : صلاة الفجر والعشاءين.
{هو الذي يُصلي عليكم وملائكتُه} لمّا كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه
34
(6/55)
وسجوده استعير لمَن ينعطف على غيره ، حُنواً عليه ، كحنو المرأة على ولدها. ثم كثر ، حتى استعمل في الرحمة والترؤف ، ومنه قولهم : صلى الله عليك ، أي : ترحّم عليك وترأف. فإن قلت : صلاة الله غير صلاة الملائكة ، فكيف اشتركا في العطف ؟ قلت : لاشتراكهما في قدر مشترك ، وهو إرادة وصول الخير إليهم ، إلا أنه منه تعالى برحمته ، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 34
وذكر السدي : أن بني إسرائيل قالت لموسى عليه السلام : أيُصلي ربنا ؟ فكَبُر هذا الكلام على موسى عليه السلام ، فأوحى الله إليه : أن قل لهم : إني أُصلي ، وإنَّ صلاتي رحمتي ، وقد وَسِعَتْ كل شيء. وفي حديث المعراج : " قلت : إلهي ؛ لَمَّا لحقني استيحاش قبل قدومي عليك ، سمعت منادياً يُنادي بلغة ، تُشبه لغةَ أبي بكر ، فقال : قف ، إن ربك يصلي ، فعجبت من هاتين ، هل سبقني أبو بكر إلى هذا المقام ، وإن ربي لغنيٌّ عن أن يصلِّي ؟ فقال تعالى : أنا الغني عن أن أُصلّي لأحد ، وإنما أقول : سبحاني ، سبقت رحمتي غضبي. اقرأ يا محمد : {هو الذي يُصلِّي عليكم...} الآية ، فصلاتي رحمة لك ولأمتك. ثم قال : وأما أمر صاحبك ، فخلقت خلقاً على صورته ، يُناديك بلغته ، ليزول عنك الاستيحاش ، لئلا يلحقك من عظيم الهيبة ما يقطعك عن فهم ما يراد منك ". والمراد بصلاة الملائكة : قولهم : اللهم صَلّ على المؤمنين. جُعلوا ـ لكون دعائهم بالرحمة مستجاباً ـ كأنهم فاعلون الرحمة. والمعنى : هو الذي يترحّم عليكم ويترأف ، حيث يدعوكم إلى الخير ، ويأمركم بإكثار ذكره ، ويأمر ملائكته يترحّمون عليكم ، ويستغفرون لكم ، ليقربكم ، ويخصكم بخصائص ليست لغيركم. بدليل : {ليُخرجكم من الظلمات إلى النور} من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ثم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة ، ثم من ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة ، ثم من ظلمات الحجاب إلى نور العيان. وقيل : يُصَلِّي عليكم : يشيع لكم الذكر الجميل في عباده.
(6/56)
{وكان} الله {بالمؤمنين رحيماً} قد اعتنى بصلاح أمرهم ، وإثابة أجرهم ، واستعمل في خدمتهم ملائكتَه المقربين ، وهو دليل على أن المراد بالصلاة : الرحمة ، حيث صرَّح بكونه رحيماً بهم. قال أنس : لمّا نزل قوله تعالى : {إن الله وملائكته يصلون على النبي} قال أبو بكر : يا رسول الله ما خصك الله بشريف إلا وقد اشتركنا فيه ، فأنزل قوله : {هو الذي يُصلي عليكم...} الخ.
{تحيتُهم} أي : تحية الله لهم ، فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله ، {يوم يَلْقونه} عند الموت. قال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن ، قال : ربك يُقرئك السلام. أو : يوم الخروج من القبور ، تُسلِّم عليهم الملائكة وتُبشرهم. أو : يوم يرونه في الجنة ، {سلامٌ} يقول الله تبارك وتعالى : " السلام عليكم يا عبادي ، هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيت ما لم تُعط أحداً من العالمين. فيقول لهم :
35
أعطيكم أفضل من ذلك ، أُحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم أبداً " كما في البخاري. وفي رواية غيره : يقول تعالى : " السلام عليكم ، مرحباً بعبادي الذين أرضوني باتباع أمري " هو إشارة إلى قوله : {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر : 73]. {وأعدَّ لهم أجراً كريماً} يعني الجنة وما فيها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 34
الإشارة : قال القشيري : قوله تعالى : {اذكروا الله ذكراً كثيراً} الإشارة فيه : أَحِبُّوا الله لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ " مَنْ أحبَّ شيئاً أكثَرَ من ذكره " فيُحب أن يقول : الله ، ولا ينسَ اللهَ بعد ذكر الله. هـ. قلت : لأن ذكر الله عنوان محبته ، ومنار وصلته ، وهو الباب الأعظم في الدخول إلى حضرته ، ولله در القائل :
الذكر عمدة لكل سالك
تنورت بنوره المسالك>> هو المطية التي لا تنتكب
ما بعدها في سرعة الخُطا نُجُب>> به القلوب تطمئن في اليقين
ما بعده على الوصالِ من معين>> به بلوغ السالكين للمُنى
(6/57)
به بقاء المرء مِن بعد الفنا>> به إليك كل صعب يسهل
به البعيد عن قريب يحصل>> فهو أقوى سبب لديكَ
وكلُّهُ إليك ، لا عليك>> فكل طاعة أتى الفتى بها
هو أساسها ، كذاك سَقفها>> ووحدَه يفوق كل طاعه
كما أتى عن صاحب الشفاعهْ>> كَفى بفضله لدا البيان
ذهابه بالسهو والنسيان>> إذا ذكرتَ مَن له الغنى العظيم
لديك يصغرُ الفقير يا نديم>> عليه دُمْ حتى إذا تجوهرا
بسره الفؤاد كلّ ما ترى>> ترى به المذكور دون ستر
وقد علا الإدراك درك الفكر>> به الحبيب في الورى تجلّى
به السِّوى عن الحِجا تولى
به تمكن المريد في الفنا
حتى يصيرَ قائلاً أنا أنا>> به رجوعه إلى العبادة
به التصرُّف الذي في العادهْ>> تالله لو جئتُ بكل قول
ما جئتكم بما لَهُ من فضل
اهـ.
36
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سَبَق المُفَرِّدُونَ " ، قيل : مَن المفرِّدون يا رسول الله ؟ " قال : المُسْتَهْتَرُون بذِكْرِ الله ، يَضَعُ الذِّكرُ عنهم أثقالَهُمْ ، فيَردُون يَوْمَ القيامةِ خِفَافاً " وسئل صلى الله عليه وسلم : أيّ المجاهدين أعظمُ أجراً ؟ قال : " أكثرهم لله تبارك وتعالى ذِكْراً " قيل : فأي الصالحين أعظم أجراً ؟ قال : " أكثرهم لله تبارك وتعالى ذِكْراً " ثم ذَكَرَ الصلاة والزكاة والحج والصدقة ، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً " فقال أبو بكر لعمرَ : يا أبا حفصٍ ؛ ذهب الذاكرون بكل خيرٍ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أجل " رواه أحمد والطبراني.
جزء : 6 رقم الصفحة : 34
(6/58)
وقوله تعالى : {هو الذي يُصلي عليكم...} الآية. قال الورتجبي : صلوات الله : اختياره العبدَ في الأزل لمعرفته ومحبته ، فإذا خصَّه بذلك جعل زلاته مغفورة ، وجعل خواص ملائكته مستغفرين له ، لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه عن اشتغاله بالله ومحبته ، وبتلك الصلاة يُخرجهم من ظلمات الطبع إلى نور المشاهدة ، وهذا متولد من اصطفائيته الأزلية ورحمته الكافية القدسية. ألا ترى إلى قوله : {وكان بالمؤمنين رحيماً} أي : قبل وجودهم ، حيث أوجدهم ، وهداهم إلى نفسه ، بلا سبب ولا علة. ثم قال عن ابن عطاء : أعظم عطية للمؤمن في الجنة : سلام الله عليهم من غير واسطة. هـ.
وقوله تعالى : {تحيتهم يوم يلقونه سلام} قال القشيري : التحيةُ إذا قُرِنَتْ بالرؤية ، واللقاءُ إذا قُرن بالتحية ، لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر ، والتحية : خطاب يُفاتح بها الملوك ، أخبر عن عُلُوِّ شأنهم ، فهذا السلام يدلّ على علو رتبتهم. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 34
قلت : " شاهداً " : حال مقدرة ، كمررت برجل معه صقر صائداً به غداً.
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها النبيُّ إِنَّا أرسلناك شاهداً} على مَن بُعثتَ إليهم ، على تصديقهم وتكذيبهم ، أي : مقبولاً قولك عند الله ، لهم وعليهم ، كما يُقبل قول الشاهد العدل في الحكْم ، {ومبشراً} للمؤمنين بالنعيم المقيم ، {ونذيراً} للكافرين بالعذاب الأليم ، {وداعياً إِلى الله} إلى الإقرار بربوبيته ، وتوحيده ، وما يجب الإيمان به ، من صفاته ، ووعده ، ووعيده ، {بإِذْنِهِ} بأمره ، أو : بتيسيره. وقيّد به الدعوى إيذاناً بأنه أمر
37
(6/59)
صعب ، لا يتأتى إلا بمعونةٍ من جناب قدسه ، {وسِراجاً منيراً} يُستضاء به في ظلمة الجهالة ، وتُقتبس من نوره أنوار الهداية ، قد جلى به الله ظلمات الشرك ، واهتدى به الضالون ، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ، ويهتدى به. وقيل : المراد به القرآن ، فيكون التقدير : وذا سراج. ووُصف بالإنارة ؛ لأن من السُرج مَن لا يضيء جدًّا إذا قلّ سَلِيطُه ، ـ أي : زيته ـ ورقَّت فتيلته. أو : شاهداً بوحدانيتنا ، ومبشراً برحمتنا ، ونذيراً بنقمتنا ، وداعياً إلى عبادتنا ، وسراجاً تُنير الطريقَ إلى حضرتنا.
{وَبَشِّرِ المؤمنينَ بأن لهم من اللهِ فضلاً كبيراً} ثواباً عظيماً ، يربو على ثواب سائر الأمم. وفي الحديث : " مثَلُكمْ ومَثَلُ اليهود والنصارى كمَن استأجر عُمالاً إلى آخر اليوم ، فعَمِلَتِ اليهودُ إلى الظهر ، ثم عجزوا ، ثم عملت النصارى إلى العصر ، فعجزوا ، ثم عملتم إلى آخر النهار ، فاستحققتم أجر الفريقين ، فغضبت اليهود والنصارى ، وقالوا : نحن أكثر عملاً ، وأقلّ أجراً ، فقال لهم الله تعالى : هل ظلمتكم من حقكم شيئاً ؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أُوتيه مَن أشاء " وفي رواية : " أنهم عملوا إلى الظهر ، أو العصر. وقالوا : لا حاجة لنا بأجرك ، فبطل أجر الفريقين " وهذا في حق مَن أدرك الإسلام منهم ولم يؤمن. والحديث في الصحيح. نقلته بالمعنى.
قال البيضاوي : ولعله معطوف على محذوف ، أي : فراقب أمتك وبشِّرهم. هـ.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 37
(6/60)
ولا تُطع الكافرين والمنافقين} أي : دُم على مخالفتهم ، وهو تهييج وتنفير عن حالهم ، {ودَعْ أذاهم} أي : لا تلتفت إليه ، ولا تحتفل بشأنه. وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل ، أي : اجعل إيذائهم إياك في جانب ، وأنت في جانب ، ولا تُبال بهم ، ولا تخفْ من إيذائهم. أو : إلى المفعول ، أي : دع إيذاءك إياهم مجازاةً ومؤاخذة على كفرهم. ولذلك قيل : إنه منسوخ. {وتوكلْ على اللهِ} فإنه يكفيكهم ، {وكفى بالله وكيلاً} موكولاً عليه ، ومفوضاً إليه الأمر في الأحوال كلها ، ولعله تعالى لَمّا وصفه بخمسة أوصاف ، قابل كُلاًّ منها بخطاب مناسب له ، فقابل الشاهد بقوله : {وبُشِّر المؤمنين} لأنه يكون شاهداً عل أمته ، وهم يكونون شهداء على سائر الأمم ، وهو الفضل الكبير ، وقابل المبشِّر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين ؛ لأنه إذا أعرض عنهم أقبل بكليته على المؤمنين ، وهو مناسب للبشارة ، وقابل النذير بدَعْ أذاهم ؛ لأنه إذا ترك أذاهم في العاجل ، والأذى له ، لا بد له من عقاب عاجل أو آجل ، كانوا منذرين به في المستقبل. وقابل الداعي إلى الله بأمره بالتوكل عليه ؛ لأن مَن توكل على الله يسَّر عليه كل عسير ، فتسهل الدعوة ، ويتيسر أمرها ، وقابل السراج المنير بالاكتفاء به وكيلاً ؛ لأن مَن أناره الله وجعله بُرهاناً على جميع خلقه كان حقيقاً بأن يَكتفي به عن جميع خلقه. والله تعالى أعلم.
38
(6/61)
الإشارة : قال الورتجبي : إنا أرسلناك بالحقيقة شاهداً ، أنت شاهِدُنا ، شاهدناك وشهدت علينا ، فألبستك أنوار ربوبيتي ، فمَن شهدك بالحقيقة فقد شَهِدنَا. قُلتُ : لأن نوره صلى الله عليه وسلم أول نور ظهر من نور الحق ، فمَن شَهِدَه شَهِدَ الحق. ثم قال : ومَن نظر إليك فقد نظر إلينا. قال صلى الله عليه وسلم : " فقد عرف الحق ، ومَن رآني فقد رأى الحق " ثم قال : {وسراجاً منيراً} أسرجت نورك من نوري ، فتُنور بنوري عيون عبادي المؤمنين ، فيأتون إليّ بنورك. ثم أمره بأن يُبشر المؤمنين بأنهم يصلون إلى مشاهدته ، بلا حجاب ولا عتاب. هـ.
قال القشيري : يا أيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا ؛ إنّا أرسلناك شاهداً بوحدانيتنا ، ومبشراً ، تُبشر عبادنا بنا ، وتحذِّرُهم مخالفة أَمْرِنا ، وتُعلمهم مواضع الخوف منا ، وداعياً الخلق إلينا بنا ، وسراجاً منيراً يستضيئون بك ، وشمساً ينبسط شعاعك على جميع من صَدَّقَك وآمَنَ بك ، ولا يصل إلينا إلا مَن اتَّبعكَ وخَدَمَك وقَدَّمك ، {وبَشِّر المؤمنين} بفضلنا عليهم ، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم ، وإحساننا إليهم. ومَن لم تُؤثِر فيهم بركة إيمانهم بك ؛ فلا قَدْرَ لهم عندنا. ولا تُطع مَن أعرضنا عنه وأضللناه ، من أهل الكفر والنفاق ، وأهل البدع والشقاق ، وتوكل على الله ؛ بدوام الانقطاع إليه ، وكفى باله وكيلاً. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 37
(6/62)
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا إِذا نكحتُم المؤمناتِ} أي : تزوجتموهن. والنكاح في الأصل : الوطء ، من : تناكحت الأشجار : إذا التصق بعضها ببعض. وتسمية العقد نكاحاً مجاز ؛ لملابسته له ، من حيث إنه طريق إليه ، كتسمية الخمر إثماً ؛ لأنها سببه ، ولم يَرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد ؛ لأنه لو استعمل في الوطء لكان تصريحاً به ، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة ، والمماسة ، والقربان ، والتغشي ، والإتيان ، تعليماً للأدب والحياء. وفي تخصيص المؤمنات ، مع أن الكتابيات تُساوي المؤمنات في هذا الحُكُم ، إشارة إلى أن الأولَى للمؤمن أن ينكح المؤمنة ، تخييراً للنطفة. والمعنى : إذا تزوجتم النساء {ثم طلقتموهن مِن قَبْلِ أن تمسوهن} تجامعوهن. والخلوة الصحيحة كالمسّ ، {فما لكم عليهن من عِدَّةٍ تعتدُّونها} أي : تستوفون عددها ، وتَعُدونها عليهن ، من : عددته الدراهم فاعتدها ، كقوله : كِلته الطعام فاكتاله. والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العِدَّة تجب على النساء لحق الأزواج ، كما يشعر به ، {فما لكم} والإتيان بـ " ثم " إزاحة ما عسى أن يتوهم أن تراخي
39
الطلاق ربما يمكن الإصابة فتجب العدة.
{فمَتّعوهُنّ} بشيء من المال ، وهذا في المفوض لها قبل الفرض ، وأما المفروض لها ، أو المسمى صداقها ، فتأخذ نصف مَهرها ، ولا متعة لها على المشهور. {وسَرِّحوهن سَرَاحاً جميلاً} أي : لا تمسكوهنّ ضراراً ، وأخرجوهن من بيوتكم ؛ إذ لا عدة لكم عليهن. قال القشيري : (سراحاً جميلاً) لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير ، ولا تستردوا منهن شيئاً ، ولا تجمعوا عليهن سوء الحال والإضرار من جهة المال. هـ.
(6/63)
الإشارة : أيها المريدون ؛ إذا طلقتم نفوسكم ، وغبتم عنها بخمرةٍ قوية ، من قَبل أن تمسوهن بمجاهدة ولا مخالفة ، فمتعوها بالشهود ، وسرحوا فكرتها في ذات المعبود ، سَراحاً جميلاً ، لا حجر فيه ولا حصر ، فمن رزقه الله الغيبة عن نفسه ، حتى غاب عن حظوظها وهواها ، فقد كفاه الله قتالها ، فيدخل الحضرة بلا مشقة ولا تعب ، لكنه نادر ، وعلى تقدير وجوده يكون ناقص التربية ؛ لأنه يكون كمن طُويت له الطُرق للحج ، فلا يعرفها كما يعرفها مَن سافر فيها ، وكابد مشقتها ، وعرف منازلها ومياهها ، ووعرها وسهلها ، ومخوفها ومأمونها ، وكلهم أولياء لله تعالى ، لكن طريق التربية أن يكون المريد سلك الطريقة ، وقاس شدائد نفسه ، وعالجها ليُعالج غيره بما يُعالج نفسه ، على يد شيخ عارف بالطريق. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 39
يقول الحق جلّ جلاله : {يَا أَيُّها النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} مهورهن ؛ إذ المهر أجر البضع ، ولذا قال الكرخي ـ من الحنفية ـ : إن النكاح بلفظ الإجارة جائز ، والجواب أن التأبيد من شرط النكاح ، والتأقيت من شرط الإجارة ، وبينهما منافاة ، وإيتاؤها : إعطاؤها عاجلاً ، أو فرضها في المفوض ، وتسميته في المسمى. والمراد بالأزواج المحلَّلة له ـ عليه الصلاة والسلام ـ : نساؤه اللاتي في عصمته حينئذ ، كعائشة وغيرها ، وكان قد أعطاهن مهورهن ، أو : جميع النساء اللاتي يريدُ أن يتزوجهن ، فأباح له جميع النساء. وهذا أوسع.
{و} أحللنا لك {ما ملكت يمينُك} من السّراري {مما أفاءَ الله عليك} من
40
(6/64)
الغنائم ، وهي صفية ، أعتقها وتزوجها. {ونباتِ عمِّك وبناتِ عماتِك وبناتِ خَالِك وبنات خَالاتِك} يعني قرابتك ، التي من جهة أبيك ، ومن جهة أمك. وكان له ـ عليه الصلاة والسلام ـ أعمام وعمات ، إخوة لأبيه ، ولم يكن لأمه صلى الله عليه وسلم أخ ولا أخت ، فإنما يعني بخاله وخالته : عشيرة أمه ، وهم بنو زهرة ، ولذلك كانوا يقولون : نحن أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا قلنا : المراد بقوله : {أحللنا لك أزواجك} مَن كان في عصمته ، فهذا عطف عليهن ، وإباحة لأن يتزوج قرابته ، زيادة على مَن كان في عصمته ، وإذا قلنا : المراد : جميع النساء ، فهذا تحديد لهن ، على وجه التشريف ، بعد دخولهن في العموم. وقوله : {اللاتي هاجَرْنَ معك} قيد في حلّية قرابته ـ عليه الصلاة والسلام ـ. قالت أم هانىء : خطبني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتذرتُ إليه ، فعَذَرَني ، فأنزل الله هذه الآية ، فلم أَحِلَ له ؛ لأني لم أُهاجر معه ، كنت من الطُلَقَاءِ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 40
و " مع " هنا : ليست للاقتران ، بل لوجود الهجرة فقط ، كقوله : {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل : 44].
(6/65)
{و} أحللنا لك {امرأةً مؤمنةً إِن وهبت نفسَها للنبي} من غير مَهر ولا عقد ، فهو منصوب بفعل يُفسره ما قبله ، أو : عطف على ما سبقه ، ولا يدفعه أن " التي " للاستقبال ؛ لأن المعنى بالإحلال : الإعلام بالحِلّ ، أي : أعلمناك حِلّ امرأة مؤمنة وهبت لك نفسها ، ولا تطلب مهراً إن اتفق ، ولذلك نكّرها. واختلف في اتفاق ذلك ، والقائل به ذكر أربعاً : ميمونة بنت الحارث ، حين جاءها الخاطب ، قالت : البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتزوجها. وزينب بنت خزيمة الأنصارية ، أم المساكين ، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم ، وأم شريك بنت جابر الأسدية ، وقيل : أم شريك العامرية ، قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها ، ولم يثبت ذلك. ذكره ابن عبد البر. وخولة بنت حكيم السُلَمية. ذكر البخاري عن عائشة أنها قالت : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن. قال أبو نعيم : تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها. قال السهيلي : فدلّ أنهن كن غير واحدة. والله أعلم. هـ. وقال ابن عباس : هو بيان حكم في المستقبل ، ولم يكن عنده أحد منهن بالهبة ، فانظره.
وقرأ الحسن بفتح " أن " ، على حذف لام التعليل. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بغير " إن " أي : وأحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها ، أي : طلب نكاحها والرغبة فيها. وقيل : نكح واستنكح بمعنى واحد. والشرط الثاني تقييد للأول ، كأنه قال : أحللنا لك امرأة إن وهبت نفسها ، وأنت تريد أن تستنكحها ، وإرادته هي : قبول الهبة.
جعلنا ذلك {خالصةً لك من دون المؤمنين} بل يجب عليهم المهر ، تسمية أو
41
(6/66)
فرضاً. وفيه إيذان بأنه مما خصّ به ـ عليه الصلاة والسلام ـ لشرف نبوته ، وتقرير لاستحقاقه الكرامة. قال ابن جزي : وانظر كيف رجع من الغيبة إلى الخطاب ؛ ليخص المخاطب وحده. وقيل : إن " خالصة " يرجع إلى كل ما تقدم من النساء المباحات له صلى الله عليه وسلم ؛ لأن سائر المؤمنين قصّروا على أربع نسوة ، وأبيح له ـ عليه الصلاة والسلام ـ أكثر من ذلك. ومذهب مالك : أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد ، خلافاً لأبي حنيفة. هـ. قلت : إن قرنه ذكر الصداق جاز ، كما في المختصر.
و (خالصة) : مصدر مؤكد ، أي : خلُص إحلالها ، أو : إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصاً لك. أو : حال من الضمير في (وهبت) ، أو : صفة لمصدر محذوف ، أي : هبة خالصة لك.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 40
قد عَلِمْنَا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} أي : ما أوجبنا من المهور على أمتك في زوجاتهم ، أو : ما أوجبنا عليهم في أزواجهم من الحقوق ، كالنفقة وحسن المعاشرة ، أو : ما فرضنا عليهم من الاقتصار على الأربع ، أو : ما أوجبنا عليهم من الإشهاد والولي ، {وما ملكت أيمانُهم} بالشراء وغيره من وجوه الملك ، فقد علمنا ما فرضنا عليهم من الإنفاق والرفق ، وألا يكلفوهن ما لا طاقة لهن به ، مع حلية الوطء ، ولو تعددن. وإنما وسَّعنا عليك في أمر النساء {لِكَيْلاَ يكونَ عليك حرجٌ} ضيق ، وهو راجع لقوله : {خالصة لك من دون المؤمنين} والجملة من قوله : {قد علمنا ما فرضنا...} الخ : اعتراضية ؛ للدلالة على أن الفرق بينه وبين المؤمنين في نحو ذلك ليس لمجرد التوسيع عليه ، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة ، والعكس أخرى ، كنكاح الكتابية والأَمة ، فتحرمان عليه صلى الله عليه وسلم دون أُمته. {وكان الله غفوراً رحيماً} بالتوسعة على عباده ، أو : غفوراً لما يُعسر التجرُّد عنه ، رحيماً بالتوسعة في مظان الحرج.
(6/67)
الإشارة : قد وسَّع الله على خواصه في باب النكاح ، وأمدّهم في ذلك بالقوة ، وأعطاهم من الباءة ما لم يُعط غيرهم ، تشريفاً وترغيباً في هذا الأمر ، لإبقاء النسل الطيب ، ولِما فيه من التوسعة في المعرفة ، وحسن الخلق ، وتعلم السياسة ، فدلّ ذلك أن كثرة النساء لا يُنافي الزهد ، ولا يقدح في كمال المعرفة ، بل يزيد فيها. قال الإمام ابن منصور المقدسي ، في شرح منازل السائرين ـ في باب الزهد ـ : ومتعلق الزهد ستة أشياء ، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها ، وهي : المال ، والرئاسة ، والناس ، والنفس ، وكل ما دون الله. وليس المراد رفضها عن الملِك ، فقد كان داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ من أزهد أهل زمانهما ، ولهما من المُلك والنساء والمِلك ما لهما. وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد البشر على الإطلاق ، وله تسع نسوة ، وكان عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وعثمان ـ رضوان الله عليهم ـ من الزهّاد ، مع ما لهم من الأموال ـ أي : والنساء ـ فكان لعليّ رضي الله عنه أربع حرائر ، وسبعة عشر سرية ،
42
ولعبد الرحمن بن عوف والزبير أربع أربع ، ولعثمان كذلك. وتزوج المغيرة بن شعبة تسعاً وتسعين امرأة. ثم قال : وكان الحسن بن عليّ رضي الله عنهما من الزهّاد ، مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحهن. ثم قال : ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن وغيره ، قال : ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ، ولا بإضاعة المال ، وإنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو لم تُصبك. انتهى المقصود منه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 40
(6/68)
يقول الحق جلّ جلاله لرسوله صلى الله عليه وسلم : {تُرْجي من تشاء منهن} أي : تؤخرها في القسمة ، {وتُؤوي إِليك من تشاء} أي : تضمها إليك ، والمعنى : تترك مضاجعة مَن تشاء منهن وتضاجع مَن تشاء ، فقد خيّره الله في القسمة وعدمها. قال أبو رزين : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يُطلَّقن ، فقلن : يا نبيَّ الله ؛ اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ، ودَعْنا على حالنا ، فكان ممن أرجى منهن : سودة ، وجويرية ، وصفية ، وميمونة ، وأم حبيبة ، فكان يقيم لهن ما يشاء ، وكان ممن آوى إليه عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وزينب ، فكان يقسم لهن بالسوية ، لا يفضل بعضهن على بعض. فآوى أربعاً وأرجى خمساً. وقيل : إنه كان صلى الله عليه وسلم يسوّي بين الجميع في القسم ، إلا سودة ، فإنها وهبت ليلتها لعائشة ، حين همّ بطلاقها ، وقالت : لا تطلّقني حتى أُحْشَر في زمرتك وفي نسائك. والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه ، أخذاً منه بأفضل الأخلاق ، مع أن الله خيّره. وقيل : {تُرجي من تشاء} أي : تطلق من تشاء منهن ، وتُمسك من تشاء. وقيل : تترك تزوج من شئت من أمتك ، وتتزوج من شئت.
{ومن ابتغيتَ مِمَّنْ عزلتَ فلا جُناحَ عليك} أي : ومَن دعوت إلى فراشك ، وطلبت صحبتها ، ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء ، فلا ضيق في ذلك ، أي : ليس إذا عزلتها من القسمة ، أو من العصمة ، لم يجز لك ردّها إلى نفسك ، بل افعل ما شئت ، فلا حرج عليك. {ذلك} التفويض إلى مشيئتك {أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنهنَّ ولاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُن} أي : هو أقرب إلى قرة أعينهن ، وقلة حزنهن ، ورضاهن جميعاً ؛ لأنه إذا علمن أنّ هذا الحكم من عند الله اطمأنت نفوسهنّ ، وذهب التغاير ، وحصل الرضا ، وقرّت العيون.
قلت : والذي يظهر أن مَن أرجاه صلى الله عليه وسلم من النساء إنما كان بوحي ، ومَن ضمه كذلك ؛
43
(6/69)
إذ لا يتصرف إلا بإذن من الله ، فإذا عَلِمَ النساءُ أن الإرجاء والإيواء كان بوحي من الله ؛ رضين بذلك ، وقرّت أعينهن ، وزال تغايرهن ، وأما مطلق التفويض إليه فقط ، فلا يقطع الغيرة في العادة ، فالإشارة تعود إلى حكم الإرجاء والإيواء فتأمله. و " كلهن " : تأكيد ضمير " يَرْضَيْن ".
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 43
واللهُ يعلم ما في قلوبكم} من أمر النساء ، والميل إلى بعضهن ، أو : يعلم ما في قلوبكم من الرضا بحُكم الله والتفويض إليه ، ففيه تهديد لمَن لم يرضَ منهم بما دبَّر الله ، وفوّض إلى رسوله ، {وكان الله عليماً} بذات الصدور ، {حليماً} لا يُعاجل بالعقوبة ، فهو حقيق بأن يُتقى ويُحذر.
الإشارة : إذا تحقق فناء العبد وزواله ، وتكملت ولايته ، كان مفوضاً إليه في الأمور ، يفعل ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، لم يبقَ عليه تحجير ، ولم يتوجه إليه عتاب ؛ لأن العبد المملوك إذا تحققت محبة سيده له ، كتب له عقد التحرير. وشاهده حديث : " إِذَا أحَبَّ الله عَبْداً لمْ يضُره ذَنْبٌ " ، وحديث البخاري : " لعلَّ الله اطَّلَعَ على أهلِ بَدْرٍِ فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غَفَرتُ لكُمْ " وسببه معلوم.
وفي القوت عن زيد بن أرقم : إن الله عزّ وجل ليُحب العبد ، حتى يبلغ من حبه أن يقول له : اصنع ما شئت ، فقد غفرت لك. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : يبلغ الولي مبلغاً يُقال له : أصحبناك السلامة ، وأسقطنا عنك الملامة ، فاصنع ما شئت. ومصداقه من كتاب الله : قوله تعالى في حق سليمان عليه السلام : {هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص : 39]. وهذا وإن كان للنبي من أجل العصمة ، فلَمِنْ كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه ، من أجل الحفظة. وقال أيضاً رضي الله عنه في بعض أدعيته : وأدرج أسمائي تحت أسمائك ، وصفاتي تحت صفاتك ، وأفعالي تحت أفعالك ، درج السلامة ، وإسقاط الملامة ، وتنزُل الكرامة ، وظهور الإمامة. هـ.
(6/70)
فإذا اندرجت أسماء العبد وصفاته وأفعاله تحت أسماء الرب ، وصفاته ، وأفعاله ، لم يبقَ للعبد وجود أصلاً ، وكان الفعل كله بالله ، ومن الله ، وإلى الله. وهذا مقام عزيز ، لا يناله إلا الأفراد من أهل الفناء في الله ، والبقاء بالله ، وقد غطى وصفهم بوصفه ، ونعتهم بنعته ، فغيَّبهم عن اسمهم ورسمهم ، فهم بالله فيما يفعلون ويذرُون. والله تعالى أعلم.
44
جزء : 6 رقم الصفحة : 43
يقول الحق جلّ جلاله : {لا يَحِلُّ لك النساءُ من بعدُ} أي : من بعد التسع ، اللاتي خيرتهن فاخترنك ؛ لأن التسع نِصابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما أن الأربع نِصاب أمته. لَمّا اخترن اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة قصره الله عليهن ، وقيل : هي منسوخة كما يأتي. أو : لا يحلّ لك نساء الأجانب ، وإنما لك نساء قرابتك ، كبنات عمك ، وبنات عماتك ، وبنات خالك ، وبنات خالاتك ، فيحل لك منهن ما شئت ، ولو ثلاثمائة ، أو أكثر. أو : لا يحل لك النساء من غير المسلمات ، كالكتابيات والمشركات. {ولا أن تبدَّل بهنَّ من أزواجٍ} بالطلاق. والمعنى : ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً ، بكلهن أو بعضهن ، كرامةً لهن ، وجزاء على ما اخترن ورضين. فقصر رسولَه صلى الله عليه وسلم على التسع اللاتي مات عنهن. وقال أبو هريرة وابن زيد : كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بالأزواج ، يعطي امرأة هذا أياماً ويأخذ امرأته ، فأنزل الله : {ولا أن تبدَّل بهن من أزواج} بأن تُعطي بعض أزواجك وتأخذ بعض أزواجهم ، {إِلا ما ملكتْ يمينُك} فلا بأس أن تبادل بجاريتك. و " مِن " : لتأكيد النفي ؛ ليفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم. {ولو أَعْجَبَكَ حُسْنُهن} أي : حُسْن الأزواج المتبدلة. وقيل : هي أسماء بنت عُميْس ، امرأة جعفر بن أبي طالب ، فإنها ممن أعجبه حسنهنّ.
(6/71)
وعن عائشة وأم سلمة ، (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أَحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء) ، يعني أن الآية نُسخت إما بالسُنَّة ، أو : بقوله : {إنا أحللنا لك أزواجك} وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف. {إِلا ما ملكت يمينُك} استثناء من النساء ؛ لأنه يتناول الأزواج ، وقيل : منقطع ، أي : لكن ما ملكت يمينك ، فيحل لك ما شئت ، {وكان الله على كل شيءٍ رقيباً} حافظاً ومُطلعاً. وهو تحذير عن مجاوزة حدوده. والله تعالى أعلم.
الإشارة : مَن نكح أبكار الحقائق العرفانية ودخل بأسرار العلوم اللدنية ، لا يحل له أن ينكح ثيبات نساء العلوم الرسمية ، ولا أن يتبدل بما عنده من المواهب الربانية ، بغيرها من العلوم اللسانية ، ولو أعجبك حُسنها ورونقها ـ على الفرض والتقدير ـ إذ التنزُّل إليها بطالة عند المحققين ، إلا ما كنت تملكه قبل علم الحقيقة ، فلا بأس أن تنزل إلى تعليمه وإفادته ، إن توسعت في علم الباطن ، وصرت من الأغنياء الكبار ، تُنفق كيف تشاء ، فلا يضرك حينئذ التنزُّل إلى علم الظاهر. وقد كان شيخ شيوخنا سيدي يوسف الفاسي
45
رضي الله عنه عنده مجلسان : مجلس لأهل الظاهر ، ومجلس لأهل الباطن. فإن كان في مجلس الظاهر ، وجاء إليه أحد من الفقراء ، يقول : اذهب حتى نأتي إلى مجلسكم ، وإن كان في مجلس أهل الباطن ، وجاء إليه أحد من أهل الظاهر ، قال : اذهب حتى نأتي إليكم. وكان له هذا بعد الرسوخ في علم الحقيقة. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 45
(6/72)
{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىا طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ...}.
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتَ النبي} وكانت تسعاً ، {إلا أن يُؤذنَ لكم إِلى طعامٍ} أي : إلا وقت أن يُؤذن لكم ، أو : إلا مأذوناً لكم ، فجملة : {إلا أن يُؤذن} : في موضع الحال ، أو الظرف. و {غير ناظرين} : حال من {لا تدخلوا} ، وقع الاستثناء على الوقت الحال ، كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ، ولا تدخلوها إلا {غير ناظرين} أي : منتظرين {إِنَاهُ} أي : إدراكه ونضجه. قال ابن عزيز : إِناهُ بلوغ وقته ، يقال : أنِيَ يَأنَى ، وآن يئين : إذا شهى ، بمنزلة : حان يحين. هـ. وقال الهروي : أي : غير ناظرين نضجه وبلوغ وقته ، مكسور الهمزة مقصور ، فإذا فتحت مددت ، فقلت : الإناء ، أي غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.
رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ على زينب بتمر وسويق ، وذبح شاةً ، وأمر أنساً أن يدعو الناس ، فترادفوا أفواجاً ، يأكل كل فوج ، فيخرج ، ثم يدخل فوج ، إلى أن قال : يا رسول الله دعوتُ حتى ما أجد أحداً أدعوه. فقال : " أرفعوا طعامكم " وتفرّق الناس ، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون ، فأطالوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا ، فطاف بالحجرات ، وسلّم عليهن ، ودعون له ، ورجع ، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون. وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء ، فتولى ، فلما رأوه متولياً خرجوا ، فنزلت الآية ، وهي آية الحجاب. قال أنس : فضرب بيني وبينه الحجاب.
(6/73)
جزء : 6 رقم الصفحة : 46
قال تعالى : {ولكن إِذا دُعيتم فادخلوا فإِذا طَعِمْتُم فانتشروا} تفرقوا ، {ولا مستأنسين لحديثٍ} أي : ولا تدخلوها حال كونكم مستأنسين لحديث ، أو : غير ناظرين ولا مستأنسين ، فهو منصوب ، أو مجرور ، عطف على " ناظرين " ، نُهوا أن يُطيلوا الجلوس
46
في بيته صلى الله عليه وسلم مستأنسين بعضهم ببعض ، لأجل حديث يتحدثون به ، {إِن ذلكم كان يُؤذي النبيَّ فيستَحْي منكم} من إخراجكم ؛ {والله لا يستحي من الحق} يعني أن إخراجكم حق ، ما ينبغي أن يُستحى منه ، ولا يُترك بيانه ، حياءً ، أو : لا يأمر بالحياء في الحق ، ولا يَشرع ذلك.
{وإِذا سألتموهنّ} أي : نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، بدلالة البيوت عليهن ؛ لأن فيها نساءه ، {متاعاً} عارية أو حاجة ، {فاسألوهنّ من وراءِ حجابٍ} ستر ، {ذلكم أطهرُ لقلوبكم وقلوبهنّ} من خواطر الشيطان وعوارض الفتن. وكانت النساء قبل هذه الآية يبرزن للرجال ، وكان عمر رضي الله عنه يُحب ضَرْبَ الحجاب عليهن ، ويودّ أن ينزلَ فيه ، وقال : يا رسول الله : يدخل عليك البرّ والفاجر ، فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب ؟ فنزلت. وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام ، كان يَطعمَ ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يدُ رجلٍ يدَ عائشة ، فكَرِهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت الآية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : العلماء ومشايخ التربية ورثة الأنبياء ، فإذا دَعوا إلى طعام فلا يدخل أحد حتى يُؤذن له ، فإذا طعموا فلينتشروا ، وإذا سأل أحدٌ حاجته من أهل دار الشيخ ؛ فليسأل من وراء الباب ، وليتنحَّ عن مقابلة الباب ؛ لئلا يتكشف على عِرض شيخه ، فيسيء الأدب معه ، وهو سبب الخسران.
ثم نهى عن تزوج نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :
(6/74)
{.... وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوااْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}.
يقول الحق جلّ جلاله : {وما كان لكم أن تُؤذوا رسولَ الله} أي : ما صحَّ لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو كفر ، {ولا أن تَنكِحُوا أزواجَه من بعده أبداً} تعظيماً لحُرمته صلى الله عليه وسلم ، ولبقاء عصمته عليهن ، ولذلك وجبت نفقتهن بعده ، لقوله : " ما بقي بعد نفقة أهلي صدقة " وكذا السكنى كما قد علم ، وبه قال ابن العربي. وعَطفُ (ولا أن تنكحوا) على (أن تؤذوا) من عطف الخاص على العام ؛ إذ تزوج نسائه من أعظم الإيذاء. {إِنَّ ذلكم} أي : الإيذاء أو التزوُّج {كان عند الله} ذنباً {عظيماً}.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 46
إِن تُبدوا شيئاً} من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو نكاح أزواجه ، {أو تُخفوه} في أنفسكم ، {فإِنَّ الله كان بكل شيءٍ عليماً} فيُعاقبكم عليه. رُوي أن رجلاً من الصحابة
47
قال : لئن قُبض النبي صلى الله عليه وسلم لأنكحنَّ عائشة ، فنزلت ، فَحُرّمن. وفيه نزلت : {إن تبدوا شيئاً} أي : من نكاح عائشة ، {أو تخفوه...} إلخ. وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ مَلَك قتيبة بنت الأشعث بن قيس ، ولم يبنِ بها ، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل ، بعد ذلك ، فهمَّ به أبو بكر ، وشقّ عليه ، حتى قال له عمر : يا خليفة رسول الله ، ليست من نسائه ، ولم يُخيرها ، ولم يحجبها ، وقد برأها الله منه بالردة ، حين ارتدت مع قومها ، فسكن أبو بكر. وقال الزهري : إن العالية بنت ظبيان ، التي طلق النبيُّ صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له قبل أن يحرم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
(6/75)
الإشارة : مذهب الصوفية تشديد الأدب مع الأشياخ ، فإذا مات الشيخ ، أو طلَّق امرأة بعد الدخول ، فلا يتزوجها أحد من تلامذته أبداً ، تعظيماً وأدباً مع الشيخ. وأما تزوج بنت الشيخ فلا بأس ، إن قدر على القيام بالأدب معها ، والصبر على أذاها ، وإلا فالبُعد أحسن وأسلم ، والله تعالى أعلم.
قال القشيري : قوله تعالى : {إن تبدوا شيئاً...} الآية : حِفْظُ القلبِ مع الله تعالى ، ومراعاةُ الأمر بينه وبين الله على الصِّحَّةِ في دوام الأوقات لا يَقْوى عليه إلا الخواصُّ ، من أهل الحضور. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 46
يقول الحقّ جلّ جلاله : {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ} أن يدخلوا عليهن بلا حجاب. قال ابن عباس : لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : ونحن أيضاً نُكلمهن من وراء حجاب ، فنزلت : {لا جناح...} الخ ، أي : لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء. ولم يذكر العم والخال ؛ لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد جاء تسمية العم أباً في قوله تعالى : {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ...} [البقرة : 133] وإسماعيل عم يعقوب ، فسمّاه أباً. وذكر القاضي إسماعيل ، عن الحسن والحسين : أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس : إن رؤيتهما لهن تحل ، أي : لأنهما ولدا البعل. قال القاضي : وأحسبُ أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يُذكروا في\
48
الآية. وقال في سورة النور : {ولا يبدين زينتهن} [النور : 31] إلى قوله : {... أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور : 31] ، فذهب ابن عباس إلى ما في سورة النور ، وذهب الحسن والحسين إلى ما في هذه السورة. هـ.
(6/76)
{ولا نسائِهِن} أي : نساء المؤمنات ، فلا حجاب عليهن ، {ولا ما ملكتْ أيمانُهنّ} من العبيد والإماء. وقيل : من الإماء خاصة ، وأما العبيد فهم كالأجانب. وهو المشهور ، {واتقِينَ الله} فيما أُمِرتُن به من الحجاب ، وما نزل فيه الوحي من الاستتار ، واحتطن في ذلك. ونقل الكلام فيه من الغيبة إلى الخطاب لشدة التهديد ، ولذا قال : {إِن الله كان على كل شيءٍ شهيداً} عالماً ؛ يعلم خطرات القلوب وهواجسها ، فيعاتب عليها.
الإشارة : ما قيل في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يُقال في نساء المشايخ والعلماء ، فتحتجبن من جميع الخلق ، إلا من محارمهن ، ولا يمنعهن من إدخال محارمهن عليهن إلا جامد أو جاهل ، ولا ينبغي لأحد أن يمنع زوجه من لقاء محرمها والدخول عليها إلا لفساد بيّن. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 48
يقول الحق جلّ جلاله : {إِن اللهَ وملائكتَهُ يُصلُّون على النبي} يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه. وقال صاحب المُغني : الصواب عندي : أن الصلاة لغة بمعنى واحد ، وهو العطف ، ثم العطف بالنسبة إلى الله تعالى : الرحمة ، وإلى الملائكة : الاستغفار ، وإلى الآدميين : دعاء. واختاره السُّهيلي قبله. والمراد بالرحمة منه تعالى غايتها ، وهو إفاضة الخير والإحسان ، لا رقة القلب ، الذي هو معنى الرحمة حقيقة. {يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه} أي : قولوا : اللهم صلِّ على محمد ـ أو : صلى الله على محمد. {وسلّموا تسليماً} أي : قولوا : اللهم سلّم على محمد ، أو : صلّ وسلِّم على محمد ، أو : انقادوا لأمره وحكمه ، انقياداً كليًّا.
(6/77)
وعن كعب بن عُجْرَة : قلنا : يا رسول الله ، أما السلام عليك ، فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : " قولوا اللهم صلِّ على مُحمدٍ وعلى آل محمد ، كما صلّيت على إبراهيم ، إنك حميدٌ مجيدٌ ، اللهمَّ بارِكْ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ ، كما بَارَكْت على إبراهيمَ ، إنك حميد مجيد " ومعرفتهم السلام من التشهُّد. والصلاة على غير الأنبياء بالتبع جائزة. وأما بالاستقلال فمكروه ، وهو من شعار الروافض. هـ. قال الكواشي : رُوي
49
أنه قيل يا رسول الله : أرأيت قول الله تعالى : {إن الله وملائكته يُصلُّون على النبي...} الآية ؟ فقال : هذا من العلم المكنون ، ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم ، إن الله وكَل بي ملكين ، فلا أُذكر عند عبدٍ مسلم ، فيُصلي عليّ ، إلا قال ذانك الملكان : غفر الله لك ، وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملّكين : آمين. ولا أُذكر عند عبد مسلم ، فلا يُصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان : لا غفر الله لك. وقال الله جواباً لذينك الملكين : آمين. هـ.
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة. فمنهم مَن أوجبها عند ذكره كلما ذكر ، وعليه الجمهور ، وهو الاحتياط للحديث المتقدم. ولقوله صلى الله عليه وسلم : " مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ دَخَلَ النار " ومنهم مَن أوجبها في كل مجلس مرة ، وإن تكرر ذكره ، كتشميت العاطس وآية السجدة ، ومنهم مَن أوجبها مرة في العمر. قالوا : وكذلك الخلاف في إظهار الشهادتين ، وأما ذكرها في الصلاة فليست شرطاً عند أبي حنيفة ومالك ، خلافاً للشافعي ، والاحتياط : الإكثار منها بغير حصر ، ولا يغفل عنها إلا مَن لا خير فيه. واختلف هل كانت الأمم الماضية متعبدة بالصلاة على أنبيائهم. قال القسطلاني : إنه لم ينقل إلينا ذلك ، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 49
(6/78)
الإشارة : اعلم أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم سُلم ومعراج الوصول إلى الله ؛ لأن تكثير الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تُوجب محبته ، ومحبتُه ـ عليه الصلاة والسلام ـ توجب محبة الله تعالى ، ومحبته تعالى للعبد تجذبه إلى حضرته ، بواسطة وبغيرها. وأيضاً : الرسول صلى الله عليه وسلم وزير مقرب ، ومَن رام دخول حضرة الملوك يخدم الوزير ، ويتقرّب إليه ، حتى يُدخله على الملِك. فهو صلى الله عليه وسلم حجاب الله الأعظم ، وبابه الأكرم ، فمَن رام الدخول من غير بابه طُرد وأُبعد ، وفي ذلك يقول ابن وفا :
وأنت بابُ الله ، أيّ امرىء
وفاه من غيرك لا يدخلِ
وقال الشيخ الجزولي رضي الله عنه في دلائل الخيرات : وهي من أهم المهمات لمَن يريد القرب من رب الأرباب. وقال شارحه : ووجه أهميتها من وجوه ، منها : ما فيها من التوسُّل إلى الله سبحانه بحبيبه ومصطفاه. وقد قال تعالى : {وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةِ} [المائدة : 35] ، ولا وسيلة إليه أقرب ، ولا أعظم ، من رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم.
ومنها : أن الله تعالى أمر بها ، وحضَّنا عليها ، تشريفاً له وتكريماً ، وتفضيلاً لجلاله ، ووعد مَن استعملها حُسن المآب ، وجزيل الثواب ، فهي من أنجح الأعمال ، وأرجح الأقوال ، وأزكى الأحوال ، وأحظى القربات ، وأعم البركات ، وبها يتوصل إلى رضا الرحمن ، وتنال السعادة والرضوان ، وتجاب الدعوات ، ويرتقي إلى أرفع الدرجات. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : يا موسى أتُريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك ، ومن وسواس قلبك إلى قلبك ، ومن روحك إلى بدنك ، ومن نور بصرك إلى عينيك ؟ قال : نعم يا رب ، قال : فأكثر من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
50
(6/79)
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم محبوب لله عزّ وجل ، عظيم القدر عنده ، وقد صلّى عليه وهو وملائكتُه ، فوجبت محبة المحبوب ، والتقرُّب إلى الله تعالى بمحبته ، وتعظيمه ، والاشتغال بحقه ، والصلاة عليه ، والاقتداء بصلاته ، وصلاة ملائكته ، وصلاة ملائكته عليه. قلت : وهذا التشريف أتم وأعظم من تشريف آدم عليه السلام ، بأمر الملائكة بالسجود له ؛ لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف. فتشريف يصدر عنه مع ملائكته أبلغ من تشريف تختص به الملائكة.
ومنها : ما ورد في فضلها ، ووعَدَ عليها من جزيل الأجر وعظيم القدر ، وفوز مستعملها برضا الله ، وقضاء حوائج آخرته ودنياه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 49
ومنها : ما فيها مِن شُكر الواسطة في نعم الله علينا المأمور ، بشكره ، وما من نعمة لله علينا ، سابقة ولا لا حقة ؛ من نعمة الإيجاد والإمداد ، في الدنيا والآخرة ، إلا وهو السبب في وصولها إلينا ، وإجرائها علينا ، فوجب حقه علينا ، ووجب علينا في شكر نعمته ألا نفتر عن الصلاة عليه ، مع دخول كل نفس وخروجه.
ومنها : ما فيها من القيام برسم العبودية ، بالرجوع لِما يقتضي الأصلُ نفيه ، فهو أبلغ في الامتثال ، ومن أجل ذلك كانت فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على كل عمل. والذي يقتضي الأصل نفيه ، هو كون العبد يتقرب إلى الله بالاشتغال بحق غيره ؛ لأن قولنا : " اللهم صَلِّ على محمد " هو الاشتغال بحق محمد صلى الله عليه وسلم ، وأصل التعبدات : ألا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالاشتغال بحقه. ولكن لمّا كان الاشتغال بالصلاة على محمد بإذن من الله تعالى ، كان الاشتغال بها أبلغ في امتثال الأمر ، فهي بمثابة أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم ، فكان شرفهم في امتثال أمر الله ، وإهانة إبليس في مخالفة أمره سبحانه.
(6/80)
ومنها : ما جُرب من تأثيرها ، والنفع بها في التنوير ورفع الهمة ، حتى قيل : إنها تكفي عن الشيخ في الطريق ، وتقوم مقامه ، حسبما نقله الشيخ السنوسي ، والشيخ زروق ، وغيرهما.
ومنها : ما فيها من سير الاعتدال ، الجامع لكمال العبد وتكميله ، ففي الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الله ورسوله ، ولا كذلك عكسه ، فلذلك كانت المثابرة على الأذكار والدوام عليها يحصل به الانحراف ، وتُكسب نورانية تحرق الأوصاف ، وتثير وهجاً وحرارة في الطباع ، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تُذهب وهَج الطِّباع ، وتقوي النفوس ؛ لأنها كالماء البارد ، فكانت تقوم مقام شيخ التربية. انتهى كلامه.
قلت : والحق الذي لا غُبار عليه : إن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ، والإكثار منها ، تدلّ صاحبها على مَن يأخذ بيده ، وتُوصله إلى شيخ التربية ، الذي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن كان صادق الطلب ، وأما كونها تقوم مقام الشيخ في دخول مقام الفناء والبقاء ، حتى تعتدل
51
حقيقته وشريعته فلا ؛ إذ لا تنقطع رعونات النفوس إلا بآمر وناهٍ من غيره ، يكون عالماً بدسائس النفوس وخِدعها ، وغاية ما توصل إليه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إن لم يظفر بالشيخ ـ الفناء في الصفات ، وينال مقام الصلاح الأكبر ، ويظهر له كرامات وخوارق ، ويكون من أرباب الأحوال ، وإن وصل إلى مقام الفناء تكون شريعته أكبر من حقيقته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 49
(6/81)
هذا ما ذقناه ، وشهدناه ، وسمعناه من أشياخنا ، والطريق التي أدركناهم يستعملونها ، وأخذناها منهم ، أنهم يأمرون المريد إن رأوه أهلاً للتربية أن يلتزم الاسم المفرد ، ويفنى فيه ، حتى تنهدم به عوالمه ، فإذا تحقق فناؤه وغاب عن نفسه ورسمه ، ردُّوه إلى مقام البقاء ، وحينئذ يأمرونه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتكون صلاته عليه كاملة ، يُصلي على روحه وسره بلا حجاب ، ويشاهده في كل ساعة كما يشاهدونه. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 49
يقول الحق جلّ جلاله : {إِن الذين يُؤذون اللهَ ورسولَه} بارتكابهم ما يكرهانه من الكفر والمعاصي والبدع. وقال ابن عباس : هم اليهود والنصارى والمشركون. فقالت اليهود : {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة : 64] ، {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ} [آل عمران : 181] وقالت النصارى : {الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} [التوبة : 30] ، {إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة : 73]. وقال المشركون : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه. وقيل : يؤذونه : يُلحدون في أسمائه وصفاته. ويؤذون رسول الله ، حين شُج وجهه ، وكُسرت رباعيتُه ، وقيل له : هو ساحر وشاعر ومجنون. أو : بترك سُنَّته ومخالفة شريعته. ويحتمل أن يكون المراد يؤذون رسولَ الله فقط بالتنقيص ، أو بالتعرُّض لنسائه. وذكرُ اسم الله للتشريف. {لعنَهُم اللهُ في الدنيا والآخرة} أي : أبعدهم من رحمته في الدارين {وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً} يُهينهم ويُخزيهم في النار.
(6/82)
{والذين يُؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا} بغير جناية يستحقون بها الإيذاء ، {فقد احتملوا بُهتاناً} كذباً {وإِثماً مبيناً} ظاهراً ، وإنما أطلق في إيذاء الله ورسوله ، وقيّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات ؛ لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق ، وأما إيذاء المؤمنين فمنه ما يكون بحق ، كالحدّ والتعزير ، ومنه باطل. وقيل : نزلت في ناس من المنافقين ، كانوا يؤذون عليًّا رضي الله عنه ، ويُسْمِعُونه ، وقيل : في زُناة المدينة ، كانوا يمشون في طرق المدينة ، ويتبعون النساء إذا تبرزن بالليل لقضاء حوائجهن ، فيغمزون المرأة ، فإن سكتتْ اتبعوها ، وإن زجرتهم انتهوا. وعن الفضيل : لا يحلّ أن تؤذي كلباً أو
52
خنزيراً بغير حق ، فكيف بالمؤمنين ؟ هـ.
الإشارة : إذاية الله ورسوله هي إذاية أوليائه ، ونقله الثعلبي عن أهل المعاني ، فقال : فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه ، فجعل أذاهم أذاه. هـ. ويؤيده الحديث القدسي : " مَن آذى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة " ، أو كما سبحانه. وإذاية المؤمنين كثيرة ، تكون باللسان وبغيره ، وقد قالوا : البَر لا يؤذي الذر. ومن أركان التصوف : كف الأذى ، وحمل الجفا ، وشهود الصفا ، ورمي الدنيا بالقفا. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 52
(6/83)
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتِك ونساءِ المؤمنين يُدْنِينَ عليهن من جَلابِيبهن} أي : يُرخين على وجوههنّ من جلابيبهن فيغطين بها وجوهَهن. والجلباب : كل ما يستر الكل ، مثل الملحفة ، والمعنى : قل للحرائر يُرخين أرديتهن وملاحفَهن ويغَطين بها وجوههن ورؤوسهن ، ليعلم أنهن حرائر فلا يؤذين. و {ذلك أَدْنَى} أي : أقرب وأجدر ، {أن يُعْرَفْنَ} من الإماء {فلا يُؤْذَين} وذلك أن النساء في أول الإسلام كن على زيهنَّ في الجاهلية متبذّلات ، تبرز المرأةُ في درج وخمار ، لا فَصْل بين الحُرّة والأَمَة. وكان الفتيان يتعرّضون للإماء ، إذا خرجن بالليل لقضاء حاجتهنّ في النخيل والغَيْضات ، وكن يخرجن مختلطات مع الحرائر ، فربما تعرّضوا للحُرّة ، يحسبونها أَمَة ، فأُمِرن أن يخالفن بزيهنّ عن زي الإماء بلباس الجلابيب ، وستر الرؤوس والوجوه ، فلا يطمع فيهنّ طامع.
قال ابن عباس رضي الله عنه : أمر الله تعالى نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب ، ويُبدين عيناً واحدة. قلت : وقد مرَّ في سورة النور أن الوجه والكفين ليس بعورة ، إلا لخوف الفتنة ، وأما الإماء فلا تسترن شيئاً إلا ما بين السرة والركبة ، كالرجل. قال أنس : مرتْ جارية متقنعة بعمر بن الخطاب فعلاها بالدرة ، وقال : يا لكاع أنت تشبهين بالحرائر ، فألقِ القناع ، {وكان اللهُ غفوراً} لِما سلف منهن من التفريط ، {رحيماً} بتعليمهن آداب المكارم.
الإشارة : ينبغي لنساء الخواص أن يتميزن من نساء العامة ؛ بزيادة الصَوْن والتحفُّظ ، وقلة الخروج ، فإذا لزمهنَّ الخروج ، فليخرجن في لباس خشين ، بحيث لا يُعرفن ، أو
53
يخرجن ليلاً. وثبت أن زوجة الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه لم تخرج من دارها إلا خرجتين ؛ خرْجة حين زُفت إلى زوجها ، وخرجة إلى المقابر. نفعنا الله ببركاتهم. آمين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 53
(6/84)
قلت : {لنُغرينك} : جواب القسم المغني عن جواب الشرط. و {ثم لا يُجاورنك} : عطف عليه ؛ لأنه يصح أن يُجاب به القسم ؛ لصحة قولك : لئن لم ينتهوا لا يُجاورنك ، ولَمَّا كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أُصيبوا به عطف بثم ، لبُعد حاله عن حال المعطوف عليه. و {ملعونين} : نصب على الشتم أو الحال ، والاستثناء دخل على الظرف والحال معاً ، أي : لا يُجاورنك إلا قليلاً في اللعنة والبُعد ، ولا يصح نصبه بأُخذوا ؛ لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله.
يقول الحق جلّ جلاله : {لئن لم ينته المنافقون} عن نفاقهم وإيذائهم ، {والذين في قلوبهم مرض} فجور ، وهم الزناة من قوله : " فيطمع الذي في قلبه مرض ". {والمُرجِفُون في المدينةِ} وهم أُناس كانوا يُرجفون بأخبار السوء في المدينة ، من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : هُزموا وقُتلوا ، وجرى عليهم كيت وكيت ، فيكسرون بذلك قلوبَ المؤمنين. يقال : رجف بكذا : إذا أخبر به على غير حقيقته ؛ لكونه خبراً مزلزلاً غير ثابت ، من : الرجفة ، وهي الزلزلة ، {لَنُغرينَّك بهم} لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم ، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء ، أو : لنُسلطنك عليهم ، {ثم لا يُجاورونك فيها} في المدينة {إِلا} زمناً {قليلاً}.
والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يُلقون من أخبار السوء ، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوؤهم ، بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء من المدينة ، وألاّ يُساكنوك فيها إلاّ زمناً قليلاً ، ريثما يرتحلون. فسمّي ذلك إغراء ، وهو التحريشُ ، على سبيل المجاز. حال كونهم {ملعونين} أي : لا يجاورونك إلا ملعونين ، مُبعدين عن الرحمة {أَينما ثُقِفُوا} وُجدوا {أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً} والتشديد للتكثير.
(6/85)
{سُنَّةَ اللهِ} أي : سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّة {في الذين خَلَوا من قبلُ} في المنافقين الذين كانوا يُنافقون الأنبياء من قبل ، ويسعون في وهنهم بالإرجاف ونحوه أن يقتّلوا أينما وُجدوا ، {ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً} أي : لا يُبدل الله سُنَّته ولا يقدر أحد أن يبدلها ، بل
54
يُجريها مجرىً واحداً في الأمم كلهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 54
قال ابن جزي : تضمنت الآية وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا ، ولم ينفُذ الوعيد فيهم. ففي ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد في الآخرة. وقيل : إنهم انتهوا وستروا أمرهم ؛ فكفّ عنهم إنفاذ الوعيد. هـ.
الإشارة : منافقو الصوفية هم الذين ينتسبون إلى الصوفية ، ويدّعون محبة القوم ، وهم يعترضون على الفقراء ، ويرفعون الميزان عليهم ، وهم الذين في قلوبهم مرض ، أي : حيرة وضيق من غم الحجاب ؛ إذ لو ارتفع عنهم الحجاب لم يعترضوا على أحد ، وهم المرجفون بأهل النسبة ، إذ سمعوا شيئاً يسوؤهم أفشوه ، وأظهروا الفرح. لئن لم ينتهوا عن ذلك ليُسلطن الله عليهم مَن يُخرجهم من النسبة بالكلية ، ثم لا يبقون فيها إلا قليلاً ، ممقوتين عند أهل التحقيق ، أينما وُجدوا ، أُخذوا بالفعل أو بالقول فيهم. وقد ألَّف بعض الفقهاء تأليفاً في الرد على الفقراء ، فسلّط الله عليه من أهانه ، ووَسمَه بالبلادة والجمود ، ولا زال مُهاناً أينما ذُكر ، والعياذ بالله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 54
(6/86)
يقول الحق جلّ جلاله : {يسألُكَ الناسُ عن الساعةِ} كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة ، استعجالاً واستهزاءً ، واليهود يسألون امتحاناً ؛ لأن الله تعالى أخْفى وقتها في التوراة وفي كل كتاب ، فأمر رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به ، ثم بيّن لرسوله عليه الصلاة والسلام أنها قريبة الوقوع ، تهديداً للمستعجلين ، وإسكاتاً للممْتحنين فقال : {قُلْ إِنما عِلْمُها عند الله} لم يُطلع عليها ملكاً ولا نبيًّا. {وما يُدريكَ لعل الساعة تكونُ قريباً} أي : شيئاً قريباً ، أو : في زمان قريب ، فتنصب على الظرفية ، ويجوز أن يكون التذكير ؛ لأن الساعة في معنى اليوم أو الزمان.
{إِنَّ الله لعنَ الكافرين} أبعدهم عن رحمته ، {وأعدَّ لهم سعيراً} ناراً شديدة التسعير ، أي : الإيقاد ، {خالدين فيها أبداً} وهذا يرد مذهبَ الجهمية في زعمهم أن النار تفنى ، و {خالدين} : حال مقدرة من ضمير " لهم ". {لا يجدون وليًّا} يحفظهم ، {ولا نصيراً} يمنعهم ويدفع العذاب عنهم ، وذلك {يومَ تُقَلَّبُ} أو : واذكر {يومَ تُقَلَّبُ
55
وجوهُهُم في النار} تطوف من جهة إلى جهة ، كما ترى البضعة من اللحم تدُور في القِدْرِ إذا غلت. وخصّت الوجوه ؛ لأنها أكرم موضع على الإنسان من جسده. أو : يكون الوجه كناية عن الجملة. حال كونهم {يقولون يا ليتنا أطعنا اللهَ وأطعنا الرسولا} في الدنيا ، فنتخلص من هذا العذاب ، فندّموا حيث لم ينفع الندم.
(6/87)
{وقالوا ربنا إِنا أطعنا سادتَنا وكبراءَنا} والمراد : رؤساء الكُفر ، الذين لقنوهم الكفر ، وزيّنوه لهم. وقرأ ابن عامر ويعقوب " ساداتنا " بالجمع ، جمع : سادة ، وسادة : جمع سيد ، فهو جمع الجمع ، {فأضلونا السبيلا} أي : أتلفونا عن طريق الرشد. يقال : ضلّ السبيلَ وأضلّه إياه ، وزيادة الألف للإطلاق. {بنا آتهم ضِعفين من العذاب} أي : مثلي ما آتيتنا منه للضلال والإضلال ، {والعنْهُم لعناً كثيراً} كثير العدد ، تكثيراً لأعداد اللاعنين ، أو : العنهم المرة بعد المرة. وقرأ عاصم بالباء ، أي : لعناً هو أشد اللعن وأعظمه. وهو يدلّ على تعدُّد الأجزاء والأفراد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 55
الإشارة : مذهب العباد والزهّاد والصالحين : جعل الساعة نُصب أعينهم ، لا يغيبون عنها ، فهم يجتهدون في التأهُّب لها ليلاً ونهاراً. ومذهب العارفين الموحّدين : الغيبة عنها ، بالاستغراق في شهود الحق ، فلا يشغلهم الحق ، دنيا ولا آخرة ، ولا جنة ولا نار ؛ لما دخلوا جنة المعارف ، غابوا عن كل شيء ، فانخلعوا عن الكونين بشهود المكوِّن ، وجعلوا الوجود وجوداً واحداً ؛ إذ المتجلي هنا وثَم واحد. وإذا كان كُبراء الضلال يُضاعَف عذابهم ، وكان كبراء الهداية يُضاعف ثوابهم ، يأخذون ثواب الاهتداء والإرشاد ، فمَن دلّ على هُدىً كان له أجره وأجر مَن اتبعه إلى يوم القيامة ، ومَن اهتدى على يديه أحد جرى عليه أجره ، وكان في ميزانه كل مَن تبعه كذلك ، وفي ذلك يقول القائل :
والمرْءُ في مِيزانه اتباعُهُ
فاقْدِرْ إذنْ قدر النبي مُحَمد
جزء : 6 رقم الصفحة : 55
(6/88)
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذَوْا موسى} من بني إسرائيل {فبرأه اللهُ مما قالوا} وذلك أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عرايا ، ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى عليه السلام يستتر لشدة حيائه ، فقالوا : ما يمنع موسى من الاغتسال معنا إلا أنه آدر ـ والأدْرَة : انتفاخ الأنثيين ـ أو : به عيب من برص أو غيره ، فذهب يغتسل وحده ، فوضع ثوبه على حجر ، ففرّ الحجر بثوبه ، فلجّ في أثره يقول : ثَوْبي حَجَر ، ثوبي حجر! حتى نظروا إلى سوأته ، فقالوا : والله ما بموسى من بأس ، فقام الحجر
56
من بعد ما نظروا إليه ، وأخذ ثوبه ، فطفق بالحجر ضرباً ، ثلاثاً أو أربعاً.
وقيل : كان أذاهم : ادعاءهم عليه قتل أخيه. قال عليّ رضي الله عنه : صعد موسى وهارون الجبل ، فمات هارون ، فقالت بنو إسرائيل : أنت قتلته. وكان أشدَّ لنا حبًّا ، وألين منك ، فآذوه بذلك ، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته ، حتى مرت به على بني إسرائيل ، وتكلمت الملائكة بمماته ، حتى تحققت بنو إسرائيل أنه قد مات ، فبرّأ الله موسى من ذلك ، ثم دفنوه. فلم يطلع على قبره إلا الرَّخَم من الطير ، وإن الله جعله أصم أبكم ، وقيل : إنه على سرير في كهف الجبل. وقيل : إن قارون استأجر امرأة مومسة ، لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ ، فعصمها الله ، وبرأ موسى ، وأهلك قارون. وقد تقدّم.
{وكان عند الله وجيهاً} ذا جاه ومنزلة رفيعة ، مستجاب الدعوة. وقرأ ابن مسعود والأعمش " وكان عبداً لله وجيهاً ".
(6/89)
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} في ارتكاب ما يكرهه ، فضلاً عما يؤذي رسوله ، {وقولوا قولاً سديداً} صدقاً وصواباً ، أو : قاصداً إلى الحق. والسدادُ : القصدُ إلى الحق والقول بالعدل. والمراد : نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول. والحثُّ على أن يُسددوا قولهم في كل باب ؛ لأن حفظ اللسان ، وسداد القول رأس كل خير ، ولذلك قال : {يُصلحْ لكم أعمالَكم} أي : يوفقكم لصالح الأعمال ، أو : يقبل طاعتكم ، ويثيبكم عليها ، {ويغفرْ لكم ذنوبَكم} أي : يمحها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 56
والمعنى : راقبوا الله في حفظ ألسنتكم ، وتسديد قولكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غايةُ الطُلبة ؛ من تقبل حسنَاتكم ، ومن مغفرة سيئاتكم. وهذه الآية مقررة للتي قبلها ، فدلت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان ، ليترادف عليها النهي والأمر ، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام ، واتباع الأمر الوعد البليغ بتقوى الله الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
ثم وعدهم بالفوز العظيم بقوله : {ومن يُطع اللهَ ورسولَه} في الأوامر والنواهي {فقد فاز فوزاً عظيماً} يعيش في الدنيا حميداً ، وفي الآخرة سعيداً. جعلنا الله منهم ، آمين.
الإشارة : في الآية تسلية لمَن أوذي من الأولياء بالتأسي بالأنبياء. رُوي أن موسى عليه السلام قال : يا رب احبس عليّ ألسنة الناس ، فقال له : هذا شيء لم أصنعه لنفسي ، فكيف أفعله بك. وأوحى تبارك وتعالى إلى عزير : إن لم تطِبْ نفساً بأن أجعلك علكاً في
57
أفواه الماضغين ، لم أثبتك عندي من المتواضعين. هـ.
(6/90)
واعلم أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم هو سبب السعادة والفوز الكبير ، وتعظيم أولياء الله وخدمتهم هو سبب الوصول إلى الله العلي الكبير ، وتقوى الله أساس الطريق ، وحفظ اللسان وتحرِّي القول السديد هو سبب الوصول إلى عين التحقيق. قال الشيخ زروق رضي الله عنه في بعض وصاياه ـ بعد كلام ـ : ولكن قد تصعب التقوى على النفس ؛ لاتساع أمرها ، فتوجّهْ لترك العظائم والقواعد المقدور عليها ، تُعَنْ على ما بعدها ، وأعظم ذلك معصية : الغيبة قولاً وسماعاً ، فإنها خفيفة على النفوس ؛ لإِلْفها ، مستسهلة ؛ لاعتيادها ، مع أنها صاعقة الدين ، وآفة المذنبين ، مَن اتقاها أفلح في بقية أمره ، ومَن وقع فيها خسر فيما وراءها. قال الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم...} الآية ، فجعل صلاحَ العمل متوقفاً على سداد القول ، وكذلك ورد : أن الجوارح تُصبح تشتكي اللسان ، وتقول : اتق الله فينا ، فإنك إن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا. فلا تهمل يا أخي لسانك ، وخصوصاً في هذه الخصلة ، فتورع فيها أكثر ما تورعُ في مأكلك ومشربك ، فإذا فعلت طابت حياتك ، وكفيت الشواغب ، ظاهراً وباطناً. هـ.
فإذا تحققت بالتقوى ، وحصّنت لسانك بالقول السديد ، كنت أهلاً لحمل الأمانة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 56
(6/91)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنا عرضنا الأمانةَ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ} الأمانة هنا هي التوحيد في الباطن ، والقيام بوظائف الدين في الظاهر ، من الأوامر والنواهي ، فالإيمان أمانة الباطن ، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر ، فمَن قام بهاتين الخصلتين كان أميناً ، وإلا كان خائناً. والمعنى : إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام ، ولها الثواب العظيم ، إن أحسنت القيام بها ، والعقاب الأليم إن خانت ، فأبتْ وأشفقتْ واستعفتْ منها ، مخافةَ ألاَّ تقدر عليها ، فطلبت السلامة ، ولا ثواب ولا عقاب. وهذا معنى قوله : {فأبَيْنَ أن يحْمِلنَها وأشفقنَ منها} فيحتمل أن يكون الإباء بإدراكٍ ، خلقه الله فيها ، وقيل : أحياها وأعقلها ، كقوله : {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} [فصلت : 11] ويحتمل أن يكون هذا العرض على أهلها من الملائكة والجن.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : وقد يقال : الأمانة هي ما أخذ عليهم من عهد التوحيد في الغيب بعد الإشهاد لربوبيته ، وينظر لذلك قوله : " لن يسعني
58
أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن " وأما حملها على التكاليف فلا يختص بالآدمي ؛ لأن الجن أيضاً مكلف ، ومناسبة الآية لِمَا قبلها : أن الوفاء بها من جملة التقوى المأمور بها. هـ.
وقيل : لم يقع عَرض حقيقةً ، وإنما المقصود : تعظيم شأن الطاعة ، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء. والمعنى : أنها لعظمة شأنها لو عُرضت على هذه الأجرام العظام ، وكانت ذا شعور وإدراك ، لأبيْن أن يحمِلْنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، مع ضعف بنيته ، ورخاوة قوته ، لا جرم ، فإن الراعي لها ، والقائم بحقوقها ، بخير الدارين. هـ. قاله البيضاوي. والمراد بالإباية : الاستعفاء ، لا الاستكبار ، أي : أشفقن منها فعفا عنهن وأعفاهن.
(6/92)
{وحَمَلَها الإِنسانُ} أي : آدم. قيل : فما تمّ له يوم من تحملها حتى وقع في أمر الشجرة ، وقيل : جنس الإنسان ، وهذا يناسب حملَ الأمانة على العهد الذي أخذ على الأرواح في عالم الغيب. {إِنه كان ظلوماً جهولاً} حيث تعرض لهذا الخطر الكبير ، ثم إن قام بها ورعاها حق رعايتها خرج من الظلم والجهل ، وكان صالحاً أميناً عدولاً ، وإن خانها ولم يقم بها ، كان ظلوماً جهولاً ، كلٌّ على قدر خيانته وظُلمه ، فالكفار خانوا أصل الأمانة ، وهي الإيمان فكفروا ، ومن دونهم خانوا بارتكاب المناهي أو ترك الطاعة ، فبعضهم أشد ، وبعضهم أهون ، وكل واحد عقوبته على قدر خيانته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 58
ثم علل عرضها ، وهو : لتقوم الحجة على عباده ، فقال : {ليُعذبَ اللهُ المنافقين والمنافقاتِ والمشركينَ والمشركاتِ} حيث لم يقوموا بها ، وخانوا فيها ، فتقوم الحجة عليهم ، ولا يظلم ربك أحداً. وقال أبو حيان : اللام للصيرورة والعاقبة. وقال أبو البقاء : اللام متعلق بحَمَلَها ، وحينئذ تكون للعاقبة قطعاً. {ويتوبَ اللهُ على المؤمنين والمؤمنات} حيث حملوا الأمانة ، إلا أن العبد لا يخلو من تفريط ، قال تعالى : {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} [عبس : 23] وقال : {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر : 67] ولذلك قال : {وكان الله غفوراً رحيماً} فالغفران لمن لَحِقه تفريط وتقصير ، والرحمة لمَن اجتهد قدر طاقته ، كالأولياء وكبار الصالحين.
والحاصل : أن العذاب لمَن تحملها أولاً ، ولم يقم بحقها ثانياً. والغفران لمَن تحملها وقام بحقها ، والرحمة لمَن تحملها ورعاها حق رعايتها. والله تعالى أعلم.
(6/93)
الإشارة : الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال هي شهود أسرار الربوبية في الباطن ، والقيام بآداب العبودية في الظاهر ، أو تقول : هي إشراق أسرار الحقائق في الباطن ، والقيام بالشرائع في الظاهر ، مع الاعتدال ، بحيث لا تغلب الحقائق على الشرائع ، ولا الشرائع على الحقائق ، فلا يغلب السُكْرُ على الصحو ، ولا الصحو على السُكْر. وهذا السر خاص بالآدمي ؛ لأنه اجتمع فيه الضدان ؛ اللطافة والكثافة ، النور
59
والظلمة ، المعنى والحس ، القدرة والحكمة ، فهو سماوي أرضي ، رُوحاني بشري ، معنوي وحسي. ولذلك خصّه الله تعالى من بين سائر الأكوان بقوله : {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص : 75] أي : بيد القدرة والحكمة ، فكان جامعاً للضدين ، ملكياً ملكوتيًّا ، حسه حكمة ، ومعناه قدرة : وليست هذه المزية لغيره من الكائنات ، فالملائكة والجن معناهم غالب على حسهم ، فإذا أشرقت عليهم أنوار الحقائق غلب عليهم السكر والهَيَمان ، والحيوانات والجمادات حسهم غالب على معناهم ، فلا يظهر عليهم شيء من الأنوار والأَسرار.
وهذا السر الذي خُصّ به الآدمي هو كامن فيه ، من حيث هو ، كان كافراً أو مؤمناً ، كما كَمُن الزبد في اللبن ، فلا يظهر إلا بعد الترتيب والضرب والمخض ، وإلا بقي فيه كامناً ، وكذلك الإنسان ، السر فيه كامن ، وهو نور الولاية الكبرى ، فإذا آمن ووحّد الله تعالى ، واهتز بذكر الله ، وضرب قلبه باسم الجلالة ، ظهر سره ، إن وجد شيخاً يُخرجه من سجن نفسه وأسر هواه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 58
وله مثال آخر ، وهو أن كمون السر فيه ككمون الحَب في الغصون قبل ظهوره ، فإذا نزل المطر ، وضربت الرياح أغصان الأشجار ، أزهرت الأغصان وأثمرت ، وإليه أشار في المباحث الأصلية ، حيث قال :
وهي من النفوس في كُمُون
كما يكون الحب في الغصون>> حتى إذا أرعدت الرعود
وانسكب الماء ولان العود
وجال في أغصانها الرياح
فعندها يرتقب اللقاح
ثم قال :
فهذه فواكه المعارف
(6/94)
لم تشر بالتالِد أو بالطارف>> ما نالها ذو العين والفلوس
وإنما تُباع بالنفوس
فلا يظهر هذا السر الكامن في الإنسان إلا بعد إرعاد الرعود فيه ، وهي المجاهدة والمكابدة ، وقتل النفوس ، بخرق عوائدها ، وبعد نزول أمطار النفحات الإلهية ، والخمرة الأزلية ، على يد الأشياخ ، الذين أهَّلهم الله لسقي هذا الماء ، وتجول في أغصان عوالمه رياح الواردات ، وينحط مع أهل الفن ، حتى يسري فيه أنوارهم ، ويتأدّب بآدابهم ، فحينئذ ينتظر لقاح السر فيه ، ويجني ثمار معارفه ، وإلا بقي السر أبداً كامناً فيه. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
60
جزء : 6 رقم الصفحة : 58(6/95)
سورة سبإ
جزء : 6 رقم الصفحة : 60
يقول الحق جلّ جلاله : {الحمدُ لله} إن أُجري على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود ، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق. واللام في (لله) للتمليك ؛ لأنه خالقُ ناطقِ الحمد أصلاً ، فكان بملكه مالك للحمد ، وللتحميد أهلاً ، {الذي له ما في السماوات وما في الأرض} خلقاً ، وملكاً ، وقهراً ، فكان حقيقياً بأن يُحمد سرًّا وجهراً ، {وله الحمدُ في الآخرة} كما له الحمد في الدنيا ؛ إذ النعم في الدارين هو مُوليها والمُنعم بها. غير أن الحمد هنا واجب ؛ لأن الدنيا دار التكليف. وثمَّ لا ؛ لأن الدار دار التعريف ، لا دار التكليف. وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم ، وتلذذاً بما نالوا من الفوز العظيم ، كقوله : {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ...} [الزمر : 74] و {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ...} [فاطر : 34] فأشار إلى استحقاقه الحمد في الدنيا بقوله : {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} وأشار إلى استحقاقه في الآخرة بقوله : {وله الحمدُ في الآخرة وهو الحكيمُ} بتدبير ما في السماوات والأرض ، {الخبيرُ} بضمير مَن يحمده ليوم الجزاء والعَرْض.
{يعلمُ ما يَلِجُ} ما يدخل {في الأرض} من الأموات والدفائن ، {وما يخرج منها} من النبات وجواهر المعادن ، {وما ينزلُ من السماء} من الأمطار وأنواع البركات ، {وما يعرجُ} يصعد {فيها} من الملائكة والدعوات ، {وهو الرحيمُ} بإنزال ما يحتاجون إليه ،
61
{الغفورُ} بما يجترئون عليه. قاله النسفي.(6/96)
الإشارة : المستحق للحمد هو الذي بيده ما في سماوات الأرواح ؛ من الكشوفات وأنواع الترقيات ، إلى ما لا نهاية له ، من عظمة الذات ، وبيده ما في أرض النفوس ؛ من القيام بالطاعات وآداب العبودية وتحسين الحالات ، وما يلحق ذلك من المجاهدات والمكابدات ، وبيده ما يتحفهم به في الآخرة ، من التعريفات الجمالية ، والفتوحات الربانية ، والترقي في الكشوفات السرمدية. فله الحمد في هذه العوالم الثلاثة ؛ إذ كلها بيده ، يخص بها مَن يشاء من عباده ، مع غناه عن الكل ، وإحاطته بالكل ، ورحمته للكل. يعلم ما يلج في أرض النفوس من الهواجس والخواطر ، وما يعرج منها من الصغائر والكبائر ، أو من الطاعة والإحسان من ذوي البصائر ، وما ينزل من سماء الملكوت من العلوم والأسرار ، وما يعرج فيها من الطاعات والأذكار ، وهو الرحيم بالتقريب والإقبال ، الغفور لمساوئ الضمائر والأفعال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 61
قلت : {ولا أصغر} و {لا أكبر} : عطف على {مِثْقال} ، أو : مبتدأ ، وخبره : ما بعد الاستثناء. و {ليجزي} : متعلق بقوله : {لَتَأتينكم} ، وتجويز ابن جزي تعلقه بيعزب بعيد ؛ لأن الإحاطة بعلمه تعالى ذاتية ، والذاتي لا يُعلل ، وإنما تعلل الأفعال ؛ لجوازها ، ويصح تعلقه بما تعلق به {في كتاب} أي : أحصى في كتاب مبين للجزاء.
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال الذين كفروا} أي : منكرو البعث. والناطق بهذه المقالة أبو سفيان بن حرب ، ووافق عليها غيره ، وقد أسلم هو. قالوا : {لا تأتينَا الساعةُ} وإنما هي أرحام تدفع ، وأرض تبلع. قبَّح الله رأيهم ، وأخلى الأرض منهم. {قلْ} لهم : {بلى} أبطل مقالتهم الفاسدة ببلى ، التي للإضراب ، وأوجب ما بعدها ، أي : ليس الأمر إلا إتيانها ، ثم أعيد إيجابه ، مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد ، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجل ، فقال : {وربي لَتأتينَّكم}.
(6/97)
ولمَّا كان قيام الساعة من الغيوب المستقبلية الحقية أتبعه بقوله : {عالم الغيبِ} ، وقرأ حمزة والكسائي : " علاّم الغيب " ، بالمبالغة ، يعلم ما غاب في عالم ملكه وملكوته ، {لا يَعْزُبُ عنه} : لا يغيب عن علمه {مثقالُ ذرة} : مقدار أصغر نملة {في السماواتِ ولا في الأرض ، ولا أصغرُ من ذلك} أي : من مثقال ذرة {ولا أكبرُ إِلا في كتاب مبين} في
62
اللوح المحفوظ ، أو في علمه القديم ، وكنَّى عنه بالكتاب ؛ لأن الكتاب يحصي ما فيه.
قال الغزالي ، في عقيدة أهل السنة : وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، محيط بما يجري من تخوم الأرض إلى أعلى السماوات ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، يعلم دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، ويُدرك حركة الذر في جو السماء ، ويعلم السر وأخفى ، ويطّلع على هواجس الضمائر ، وحركات الخواطر ، وخفيات السرائر ، بعلم قديم أزلي ، لم يزل موصوفاً به في أزل الأزل. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 62
ثم علل إتيان الساعة بقوله : {ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرةٌ} لِما اقترفوا من العصيان ، وما قصروا فيه من مدارج الإيمان ، {ورِزق كريم} لِمَا صبروا عليه من مناهج الإحسان. {والذين سَعَوْا في آياتنا مُعَاجِزين} بالإبطال وتعويق الناس عنها ، {أولئك لهم عذابٌ من رِجْزٍ أليم} أي : لهم عذاب من أقبح العذاب مؤلم. ورفع " أليم " مكي وحفص ويعقوب ، نعت لعذاب ، وغيرهم بالجر نعت لرجز. قال قتادة : الرجز : سُوء العذاب.
(6/98)
الإشارة : بقدر ما يربو الإيمان في القلب يعظم الإيمان بالبعث وما بعده ، حتى يكون نُصب عين المؤمن ، لا يغيب عنه ساعة ، فإذا دخل مقام العيان ، استغرق في شهود الذات ، فغاب عن الدارين ، ولم يبقَ له إلا وجود واحد ، يتلون بهيئة الدنيا والآخرة. وفي الحقيقة ما ثَمَّ إلا واحد أحد ، الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته. كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن كما كان ، ويكون في المآل كما هو الآن. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 62
قلت : {ويرى} : مرفوع ، استئناف ، أو منصوب ، عطف على {ليجزي}. و {الحق} : مفعول ثان ليرى العلمية. والمفعول الأول : {الذي أُنزل} وهو ضمير فصل.
يقول الحق جلّ جلاله : {ويَرَى الذين أُوتوا العلم} من الصحابة ، وممن شايعهم من علماء الأمة ومن ضاهاهم ، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، أي : يعلمون {الذي أُنزل إِليك من ربك} يعني القرآن {هو الحق} لا يرتابون في حقيّته ؛ لِما نطوى عليه من الإعجاز ، وبموافقته للكتب السالفة ، على يد مَن تحققت أميته. أو : ليجزي المؤمنين ، وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق ، علماً لا يزاد عليه في الإيقان ، لكونه محل العيان ، كما علموه في الدنيا من طريق البرهان. {ويهدي إِلى صراط العزيز الحميد} وهو دينُ الله ، من التوحيد ، وما يتبعه من الاستقامة.
63
(6/99)
الإشارة : أول ما يرتفع الحجاب عن العبد بينه وبين كلام سيده ، فيسمع كلامه منه ، لكن من وراء رداء الكبرياء ، وهو رداء الحس والوهم ، فيجد حلاوة الكلام ويتمتع بتلاوته ، فيلزمه الخشوع والبكاء والرِقة عند تلاوته. قال جعفر الصادق : " لقد تجلّى الحق تعالى في كلامه ولكن لا تشعرون ". ثم يرتفع الحجاب بينه وبين الحق تعالى ، فيسمع كلامه بلا واسطة ولا حجاب ، فتغيب حلاوة الكلام في حلاوة شهود المتكلم ، فينقلب البكاء سروراً ، والقبض بسطاً. وعن هذا المعنى عبّر الصدِّيق عند رؤيته قوماً يبكون عند التلاوة ، فقال : " كذلك كنا ولكن قست القلوب " فعبّر عن حال التمكُّن والتصلُّب بالقسوة ؛ لأن القلب قبل تمكُّن صاحبه يكون سريعَ التأثُّر للواردات ، فإذا تمكّن واشتد لم يتأثر بشيء. وصراط العزيز الحميد هو طريق السلوك إلى حضرة ملك الملوك. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 63
قلت : {إذا} : العامل فيه محذوف ، دلّ عليه : {لفي خلق جديد}. و {مُمَزَّقٍ} : مصدر ، أي : تجددون إذا مزقتم كل تمزيق ، و {جديد} : فعيل بمعنى فاعل ، عند البصريين. تقول : جَدَّ الثوب فهو جديد ، أو بمعنى مفعول ، كقتيل ، من جد النساج الثوب : قطعه. ولا يجوز فتح {إنكم} للاّم في خبره. و {أَفْترى} : الهمزة للاستفهام ، وحذفت همزة الوصل للآستغناء عنها.
(6/100)
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال الذين كفروا} من منكري البعث : {هل نَدلُّكم على رجلٍ} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ، وإنما نكّروه ـ مع أنه كان مشهوراً عَلَماً في قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم ـ تجاهلاً به وبأمره. وباب التجاهل في البلاغة معلوم ، دال على سِحْرها ، {يُنَبئُكم إِذا مُزِّقْتمْ كلَّ مُمزَّقٍ إِنكم لفي خلقٍ جديدٍ} أي : يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب ، إنكم تُبعثون وتنشئون خلقاً جديداً ، بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً ، وتمزق أجسادكم بالبلى ، كل تمزيق ، وتفرقون كل تفريق ، {افْترَى على الله كذباً} أي : أهو مفترٍ على الله كذباً فيما يُنسب إليه من ذلك ؟ {أم به جِنَّة} جنون توهمه ذلك ، وتلقيه على لسانه. واستدلت المعتزلة بالآية على أن بين الصدق والكذب واسطة ، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه ، وأجيب : بأن الافتراء أخص من الكذب ، لاختصاص الافتراء بالتعمُّد ، والكذب أعم. وكأنه قيل : أتعمّد الكذب أو لم يتعمّد بل به جنون.
64
قال تعالى : {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلالِ البعيدِ} أي : ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء ، وهو منزّه عنهما ، بل هؤلاء الكفرة ، المنكرون للبعث ، واقعون في عذاب النار ، وفيما يؤديهم إليه من الضلال البعيد عن الحق ، بحيث لا يرجى لهم الخلاص منه ، وهم لا يشعرون بذلك ، وذلك أحق بالجنون. جُعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال ، مبالغة في استحقاقهم له ، كأنهما كائنان في وقتٍ واحد ؛ لأن الضلال ، لمّا كان العذاب من لوازمه ، جُعلا كأنهما مقترنان. ووَصْف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي ؛ لأنَّ البعيد في صفة الضالّ إذا بَعُدَ عن الجادة.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 64
(6/101)
أفلم يَرَوا إِلى ما بين أيديهم وما خلفَهُم من السماءِ والأرض إِن نشأ نَخْسِفُ بهم الأرضَ أو نُسْقِطْ عليهم كِسَفاً من السماء} أي : أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وأنهما أينما كانوا ، وحيثما ساروا ، وجدوهما أمامهم وخلفهم ، محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما ، وأن يخرجوا عما هم فيه ، من ملكوت الله ، ولم يخافوا أن يخسفَ الله بهم في الأرض ، أو يسقط عليهم {كِسفاً} قطعة ، أو قطعاً من السماء بتكذيبهم الآيات ، وكفرهم بما جاء به الرسول ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.
وقرأ حمزة والكسائي " يخسف " ، و " يسقط " بالياء ؛ لعود الضمير على (الله) في قوله : {أَفترى على الله} ، وقرأ حفص : " كَسَفاً " بالتحريك ، جمعاً. {إِن في ذلك لآيةً} إن في النظر إلى السماء والأرض والتفكُّر فيهما ، وما يدلان عليه من كمال قدرته تعالى لدلالةً ظاهرة على البعث والإنشاء من بعد التفريق ، {لكل عبدٍ مُّنِيب} راجع بقلبه إلى ربه ، مطيع له تعالى ، إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله ، فيعتبر ، ويعلم أن مَن قدر على إنشاء هذه الأجرام العظام ، قادر على إحياء الأموات وبعثها ، وحسابها وعقابها.
الإشارة : يقول شيوخ التربية : بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال ؛ يحيى الباطن ويعمر بنور الله ، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن ، فيقع الإنكار عليهم ، ويقول الجهلة : هل ندلكم على رجل يُنبئكم إذا مُزقتم في الظاهر كل مُمَزقٍ ، يُجدد الإيمان والإحسان في بواطنكم ، أَفْترى على الله كذباً أم به جِنة ؟ بل الذين لا يؤمنون بالنشأة الآخرة ـ وهي حياة الروح بمعرفة الله ـ في عذاب الحجاب والضلال ، عن معرفة العيان بعيد ، ما داموا على ذلك الاعتقاد ، ثم يهددون بما يُهدد به منكرو البعث. والله تعالى أعلم.
(6/102)
ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان ، احتجاجاً على ما منح محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الرسالة والوحي ، ردًّا لقولهم : {أَفترى على الله كذباً} ، ودلالة على قدرته تعالى على البعث وغيره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 64
65
قلت : {يا جبال} : بدل من {فضلاً} ، أو يقدر : وقلنا. و {الطير} : عطف على محل الجبال ، ومَن رفعه فعلى لفظه.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولقد آتينا داودَ منا فضلاً} أي : مزية خُصّ بها على سائر الأنبياء ، وهو ما جمع له من النبوة ، والمُلك ، والصوت الحسن ، وإلانة الحديد ، وتعلم صنعة الزرد ، وغير ذلك مما خُص به ، أو : فضلاً على سائر الناس بما ذكر ، وقلنا : {يا جبالُ أوّبي معه} رَجّعي معه التسبيح. ومعنى تسبيح الجبال معه : أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحاً ، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح ، معجزة لداود عليه السلام ، فكان إذا تخلّل الجبال وسبّح ؛ جاوبته الجبال بالتسبيح ، نحو ما سبّح به. وهو من التأويب ، أي : الترجيع ، وقيل : من الإياب بمعنى الرجوع ، أي : ارجعي معه بالتسبيح. {والطيرَ} أي : أوبي معه ، أو : وسخرنا له الطير تؤوب معه. قال وهب : فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه ، من أجل زلته ، أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم.
(6/103)
قال القشيري : يُقال أوحى الله إلى داود عليه السلام : كانت تلك الزلة مباركة عليك ، فقال : يا رب ؛ وكيف تكون الزلة مباركة ؟ فقال : كُنتَ تجيء بأقدار المطيعين ، والآن تجيء بانكسار المذنبين ، يا داود أنين المذنبين أحب إليّ من صراخ العابدين. هـ. مختصراً. وفي هذا اللفظ من قوله : {يا جبال أوبي معه} من الفخامة ما لا يخفى ، حيث جُعلت الجبال بمنزلة العقلاء ؛ الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا ، وإذا دعاهم أجابوا ، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقادٌ لقدرة الله تعالى ومشيئته. ولو قال : آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير ؛ لم يكن فيه هذه الفخامة.
{وألنّا له الحديدَ} أي : جعلناه له ليناً ، كالطين المعجون ، يصرفه بيده كيف يشاء ، من غير نار ولا ضرب بمطرقة ، قيل : سبب لينه له : أنه لما مَلك بني إسرائيل ، وكان من عادته أن يخرج متنكراً ، ويسأل كل مَن لقيه : ما يقول الناس في داود ؟ فيثنون خيراً ، فلقي ملكاً في صورة آدمي ، فسأله ، فقال : نِعْمَ الرجل ، لولا خصلة فيه : يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، فتنبّه ، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يُغنيه عن بيت المال ، فألان له الحديد مثل الشمع ، وعلّمه صنعة الدروع ، وهو أول مَن اتخذها. وكانت قبل ذلك صفائح.
جزء : 6 رقم الصفحة : 65
ويقال : كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف ، فيأكل ويُطعم عياله ، ويتصدّق على الفقراء والمساكين. وقيل : كان يلين له ولمَن اشتغل معه له ، قُلت : ذكر ابن حجر في شرح الهمزية أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا وطىء على صخرة أثر فيها قدمه ، وهذا أبلغ من إلانة الحديد ؛ لأن لين الحجارة لا يعرف بنار ، ولا بغيرها ، بخلاف الحديد. هـ. وقيل : لأن لين الحديد في يد داود عليه السلام لِما أُولي من شدة القوة.
66
(6/104)
وأمرناه {أنِ اعمل سَابِغاتٍ} أي : دروعاً واسعةً تامة ، من : السبوغ ، بمعنى الإطالة ، {وقدِّر في السَّردِ} لا تجعل المسامير دقاقاً فيقلق ، ولا غلاظاً فتنكسر الحلَق ، أو تؤذي لابسها. والتقدير : التوسُّط في الشيء ، والسرد : صنعة الدروع ، ومنه قيل لصانعه : السراد والزراد. {واعملوا صالحاً} شكراً لما أسدي إليكم. والضمير لداود وأهله. والعمل الصالح : ما يصلح للقبول ؛ لإخلاصه وإتقانه ، {إِنِّي بما تعملون بصير} فأجازيكم عليه.
الإشارة : الفضل الذي أُوتيه داود عليه السلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون ، فلما شهد المكون ، كانت الأكوان معه. " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك ". ولا يلزم من كونها معه في المعنى ، بحيث تتعشّق له وتهواه ، أي : تنقاد كلها له في الحس ، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه ، حسبما تقتضيه الحكمة ، وتسبق به المشيئة ، فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار. وقوله تعالى : {وأَلَنَّا له الحديدَ} في الظاهر : الحديد الحسي ، وفي الباطن : القلوب الصلبة كالحديد ، فتلين لوعظه بالإيمان والمعرفة. وكذا في حق كل عارف تلين لوعظه القلوب ، وتقشعر من كلامه الجلود. وهو أعظم نفعاً من لين الحديد الحسي. ويقال له : أن اعمل سابغاتٍ ، أي : دروعاً تامة ، يتحصّن بها من الشيطان والهوى ، وهو ذكر الله ، يستعمله ويأمر به ، ذكراً متوسطاً ، من غير إفراط ممل ، ولا تفريط مخل. فإذا انتعش الناس على يده كَبُرَ قدره عند ربه ، فيؤمر بالشكر ، وهو قوله : {واعملوا صالحاً إِني بما تعملون بصير} والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 65
قلت : " الريح " : مفعول بمحذوف ، أي : وسخرنا له الريح ، ومَن رفعه ؛ فمبتدأ تقدّم خبره.
(6/105)
يقول الحق جلّ جلاله : {و} سخرنا {لسليمانَ الريحَ} وهي الصبا ، {غُدُوُّها شهرٌ ورَوَاحُهَا شهرٌ} أي : جريها بالغد مسيرة شهر ، إلى نصف النهار ، وجريها بالعشي كذلك. فتسير في يوم واحد مسيرة شهرين. وكان يغدو من دمشق ، مكان داره ، فيقيل بإصطخر فارس ، وبينهما مسيرة شهر ، ويروح من إصطخر فيبيت بكابُل ، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع. وقيل : كان يتغذّى بالريّ ، ويتعشّى بسمرقند. وعن الحسن : لَمَّا عقر
67
سليمان الخيل ، غضباً لله تعالى ، أبدله الله خيراً منها الريح ، تجري بأمره حيث شاء ، غدوها شهر ورواحها شهر. هـ.
قال ابن زيد : كان لسليمان مركب من خشب ، وكان فيه ألف ركن ، في كل ركن ألف بيت معه ، فيه الجن والإنس ، تحت كل ركن ألف شيطان ، يرفعون ذلك المركب ، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فتسير به وبهم. قلت : وقد تقدّم أن العاصفة هي التي ترفعه ، والرخاء تسير به ، وهو أصح. ثم قال : فتقيل عند قوم ، وتُمسي عند قوم ، وبينهما شهر ، فلا يدري القوم إلا وقد أظلّهم ، معه الجيوش.
ويُروى أن سليمان سار من أرض العراق ، فقال بمدينة مرو ، وصلّى العصر بمدينة بلخ ، تحمله الريح ، وتظله الطير ، ثم سار من بلخ متخللاً بلاد الترك ، ثم سار به إلى أرض الصين ، ثم عطف يُمنة على مطلع الشمس ، على ساحل البحر ، حتى أتى أرض فارس ، فنزلها أياماً ، وغدا منها فقال بكسكر ، ثم راح إلى اليمن ، وكان مستقره بها بمدينة تدْمُر ، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق ، فبنوها له بالصفاح ، والعُمد ، والرخام الأبيض والأصفر. هـ.
قلت : وذكر أبو السعود في سورة " ص " أنه غزا بلاد المغرب الأندلسي وطنجة وغيرهما ، والله تعالى أعلم. ووُجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر ، أنشأها بعض أصحاب سليمان عليه السلام :
جزء : 6 رقم الصفحة : 67
وَنَحْنُُ ولا حَوْلَ سِوََى حَوْلِ رَبّّنا
(6/106)
نَرُوحُ إلى الأَوْطَانِ من أرضِ كسْكَر>> إذ نَحْنُ رُحْنا كان رَيْثُ رَوَاحنا
مسِيرة شهرٍ والغدو لآخرِ
أُناسٌ أعزَّ اللهُ طوعاً نفوسَهُم
بنصر ابن داودَ النبيِّ المُطَهَّر
لَهُمْ في مَعَالِي الدِّين فَضْلٌ ورفعةٌ
وإن نُسِبُوا يوماً فَمِنْ خَيْر مَعْشَر
متى يركب الريحَ المُطِيعةَ أسرَعَتْ
مُبَادِرةً عن شهرهَا لم تُقَصِّر
تُظِلُّهُم طيْرٌ صُفُوفٌ عَلَيْهِمُ
مَتى رَفْرَفَتْ مِن فوقِهِمْ لمْ تُنْفرِ
قال القشيري : وفي القصة أنه لاحظ يوماً مُلْكَه ، فمال الريحُ ، فقال له : استوِ ، فقال له ما دمت أنت مستوياً بقلبك كنتُ مستوياً لك ، فحيث مِلْتَ مِلتُ. هـ.
ثم قال : {وأسَلْنَا له عينَ القِطْرِ} أي : معدن النحاس. والقطر : النحاس ، وهو الصُفر ، ولكنه أذابه له ، وكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام ، كما يسيل الماء. وكان قبل سليمان لا يذوب. قال ابن عباس : كانت تسيل له باليمن عين من نحاس ، يصنع منها ما أحب. وقيل : القطر : النحاس والحديد ، وما جرى مجرى ذلك ، كان يسيل له منه عيون.
68
وقيل : ألانه كما ألان الحديد لأبيه ، وإنما ينتفع الناسُ اليوم بما أجرى الله تعالى لسليمان ، كما قيل.
{و} سخرنا له {من الجنِّ من يعملُ بين يديه} ما يشاء {بإِذنِ ربه} أي : بأمر ربه ، {ومن يزغْ منهم عن أمرنا} أي : ومَن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان {نُذقه من عذاب السعير} عذاب الآخرة. وقيل : كان معه ملك بيده سوط من نار ، فمَن زاغ عن طاعة سليمان ضربه بذلك ضربة أحرقته.
(6/107)
{يعملون له ما يشاءُ من محَاريبَ} أي : مساجد ، أو مساكن وقصور ، والمحراب : مقدم كل مسجد ومجلس وبيت. {وتماثيلَ} صور الملائكة والأنبياء ، على ما اعتادوا من العبادات ، ليراها الناس ، فيعبدوا نحو عبادتهم. صنعوا له ذلك في المساجد ، ليجتهد الناس في العبادة. أو : صور السباع والطيور ، رُوي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كُرسيه ، ونسْريْن فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسطَ الأسدان له ذرَاعيهما ، وإذا قعد أظلّه النسران بأجنحتهما. وكان التصوير مباحاً. {وجِفانٍ} وصحاف ، جمع : جفنة ، وهي القصعة ، {كالجَوَاب} جمع جابية ، وهي الحياض الكبار. قيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل ، يأكون بين يديه ، {وقدور راسياتٍ} ثابتات على الأثافي ، لا تنزل ؛ لِعظمها ، ولا تعطل ؛ لدوام طبخها. وقيل : كان قوائمها من الجبال ، يصعد إليها بالسلالم ، وقيل : باقية باليمن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 67
وقلنا : {اعملوا آلَ داودَ شُكراً} أي : اعملوا بطاعة الله ، واجهدوا أنفسكم في عبادته ، شكراً لِما أولاكم من نعمه. قال ثابت : كان داود جزأ ساعات الليل والنهار على أهله ، فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يُصلّي. هـ.
وقال سعيد بن المسيب : لما فرغ سليمان من بيت المقدس انغلقت أبوابه ، فعالجها ، فلم تنفتح ، حتى قال : بصلوات آل داود إلا فُتحت الأبواب ، ففتحت ، ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قراء بني إسرائيل ؛ خمسة آلاف بالليل ، وخمسة آلاف بالنهار ، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا والله عزّ وجل يُعبد فيها. هـ. وعن الفضيل : {اعملوا آل داود} أي : ارحموا أهل البلاء ، وسلوا ربكم العافية.
و {شكراً} : مفعول له ، أو حال ، أي : شاكرين ، أو مصدر ، أي : اشكروا شكراً ؛ لأن " اعملوا " فيه معنى اشكروا ، من حيث إن العمل للنعم شكرٌ ، أو : مفعول به ، أي : إنَّا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم ، فاعملوا أنتم شكراً.
(6/108)
{وقليل من عباديَ الشكورُ} يحتمل أن يكون من تمام الخطاب لداود عليه السلام ، أو خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم. والشكور : القائم بحق الشكر ، الباذل وسعه فيه ، قد شُغل به بقلبه
69
ولسانه وجوارحه في أكثر أوقاته ، اعتقاداً واعترافاً وكدحاً. وعن ابن عباس : هو مَن يشكر على أحواله كلها. وقيل : مَن شكر على الشكر ، ومَن يرى عجزه عن الشكر. قال البيضاوي : لأن توفيقه للشكر نعمة ، فتقتضي شكراً آخر ، لا إلى نهاية ، ولذلك قيل : الشكور مَن يرى عجزه عن الشكر. هـ.
الإشارة : وسخرنا لسليمان ريح الهداية ، تهب بين يديه ، يُهتدى به مسيرة شهر وأكثر ، وأسلنا لوعظه وتذكيره العيون الجامدة ، فقطرت بالدموع خُشوعاً وخضوعاً. وكل مَن أقبل على الله بكليته سخرت له الكائنات ، جنها وإنسها ، يتصرف بهمته فيها. فحينئذ يقال له ما قيل لآل داود : اعملوا آل داود شكراً. قال الجنيد : الشكر : بذل المجهود بين يدي المعبود. وقال أيضاً : الشكر ألا يُعصى الله بنعمه.
والشكر على ثلاثة أوجه : شكر بالقلب ، وشكر باللسان ، وشكر بسائر الأركان. فشكر القلب : أن يعتقد أن النعم كلها من الله ، وشكر اللسان : الثناء على الله وكثرة المدح له ، وشكر الجوارح : أن يعمل العمل الصالح. وسئل أبو حازم : ما شكر العينين ؟ قال : إذا رأيت بهما خيراً أعلنته ، وإذا رأيت بهما شرًّا سترته ، قيل : فما شكر الأذنين ؟ قال : إذا سمعت بهما خيراً وعيته ، وإذا سمعت بهما شرًّا دفنته ، قيل : فما شكر اليدين ؟ قال : ألا تأخذ بهما ما ليس لك ، ولا تمنع حقًّا هو لله فيهما ، قيل : فما شكر البطن ؟ قال : أن يكون أسفلُه صبراً ، وأعلاه علماً ، قيل : فما شكر الفرج ؟ قال : كما قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون : 5] الآية ، قيل : فما شكر الرجلين ؟ قال : إن رأيت شيئاً غبطته استعملتهما ، وإن رأيت شيئاً مقته كفقتهما. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 67
(6/109)
والناس في الشكر درجات : عوام ، وخواص ، وخواص الخواص. فدرجة العوام : الشكر على النِّعم ، ودرجة الخواص : الشكر على النِّعم والنقم ، وعلى كل حال ، ودرجة خواص الخواص : أن يغيب عن النِعم بمشاهدة المُنعم. قال رجل لإبراهيم بن أدهم : إن الفقراء إذا أُعطوا شكروا ، وإذا مُنعوا صبروا ، فقال : هذه أخلاق الكلاب عندنا ، ولكن الفقراء إذا مُنعوا شكروا ، وإذا أُعطوا آثروا. هـ.
وهذان الآخران يصدق عليهما قوله تعالى : {وقليل من عبادي الشكور} ، وخصه القشيري بالقسم الثالث ، فقال : فكان الشاكر يشكر على البَذْلِ ، والشكور على المنع ، فكيف بالبذل ؟ ثم قال : ويقال في {قليل من عبادي الشكور} : قليل مَن يأخذ النعمة مني ، فلا يحملها على الأسباب ، فيشكر الوسائط ولا يشكرني. وفي الحِكَم : " مَن لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها ، ومَن شكرها فقد قيّدها بعقالها ". فالشكر قيد الموجود ، وصيد المفقود. والله تعالى أعلم.
70
جزء : 6 رقم الصفحة : 67
يقول الحق جلّ جلاله : {فلما قَضَيْنَا عليه} على سليمان {الموتَ ما دلّهم} أي : الجن وآل داود {على موته إِلا دابةُ الأرض} أي : الأرضة ، وهي دويبة تأكل الخشب ، ويقال : لها ، سُرْفةَ والقادح. والأرض هنا مصدر : أرَضَتِ الخشبة ، بالبناء للمفعول ، أرَضَّا : أكلتها الأرضة. فأضيفت إلى فعلها وهو الأرض ، أي : الأكل. {تأكل مِنْسَأَتَهُ} أي : عصاه ، سميت منسأة ؛ لأنها تنسى ، أي : تطرح ويُرْمى بها. وفيها لغتان ؛ الهمز وعدمه ، فقرأ نافع وأبو عمرو بترك الهمز ، وعليه قول الشاعر :
إِذا دَبَبْتُ على المِنسَاةِ مِن كِبَرٍ
فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللهْوُ والغَزلُ
وقرأ غيرهما بالهمز ، وهو أشهر.
(6/110)
{فلما خرّ} سقط سليمانُ {تبينتِ الجنُّ} أي : تحققت وعلمت علماً يقيناً ، بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم ، {أن لو كانوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا} بعد موت سليمان {في العذاب المهين} في العمل الشاق له ، لظنهم حياته ، فلو كانوا يعلمون الغيب كما زعموا لعلموا موته.
وذلك أن داود عليه السلام أسس بيت المقدس ، في موضع فسطاط مُوسى عليه السلام ، فمات قبل أن يتمه ، فوصّى به إلى سليمان ، فأمر الشياطين بإتمامه. فلما بقي من عمره سنة ، سأل الله تعالى أن يعمّي عليهم موته حتى يفرغوا ، ولتبطل دعواهم علم الغيب. وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة. وملك وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة. فبقي في ملكه أربعين سنة ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. قال الثعلبي : فبنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وعمَّره بأساطين المها الصافي ، وسقفه بأنواع الجواهر ، وفضض سقوفه وحيطانه باللآلىء ، وسائر أنواع الجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروزج ، فلم يكن في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد. كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر. ومن أعاجيب ما اتخذ في بيت القدس ، أن بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة ، وصقله ، فإذا دخله الوَرعُ البار استبان فيه خياله أبيض ، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود ، فارتدع كثير من الناس عن الفجور.
قال صلى الله عليه وسلم : " لما فرغ سليمانُ من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً ، فأعطاه اثنتين ، وأن أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة ، سأله حُكماً يُصادفُ حُكْمَه ، فأعطاه إياه ، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، فأعطاه إياه ، وسأله ألا يأتي أحد هذا البيت يُصلي فيه ركعتين إلا
71
خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك " هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 71
(6/111)
فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السلام حتى خرّبه بخت نصر ، وأخذ ما كان فيه من الذهب والفضة واليواقيت ، وحمله إلى دار مملكته من العراق.
ثم قال : قال المفسرون : كان سليمان ينفرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، يدخل فيه طعامه وشرابه ، فدخله في المرة التي مات فيها. وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا ، فيأمر بها فنقطع ، فإن كانت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كُتبت. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه ، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروبة ، قال لها : ولأي شيء نَبَتِّ ؟ قالت : لخراب هذا المسجد ، فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ ، أنت التي على وجهك هلاكي ، وهلاك بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط ، ثم قال : اللهم أعم عن الجن موتي ، حتى يعلم الإنسُ أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تُخبر الإنس أنهم يعلمون أشياء من علم الغيب ، ثم دخل المحراب ، وقام يصلي على عصاه ، فمات.
وقيل : إن سليمان قال لأصحابه ذات يوم : قد آتاني الله ما ترون ، وما مرّ عليَّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر ، وقد أحببتُ أن يكون لي يوم واحد يصفو لي من الكدر ، فدخل قصره من الغد ، وأمر بغلق أبوابه ، ومنع الناس من الدخول عليه ، ورفْعِ الأخبار إليه. ثم اتكأ على عصاه ينظر في ممالكه ، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه ، عليه ثياب بيض ، قد خرج عليه من جوانب قصره ، فقال : السلام عليك يا سليمان ، فقال : عليك السلام ، كيف دخلت قصري ؟ فقال : أنا الذي لا يحجبني حاجب ، ولا يدفعني بوّاب ، ولا أهاب الملوك ، ولا أقبل الرشا ، وما كنتُ لأدخل هذا القصر من غير إذن. فقال سليمان : فمَن أَذِنَ لك في دخوله ؟ قال : ربه ، فارتعد سليمان ، وعَلِمَ أنه ملك الموت ، فقال : يا ملك الموت هذا اليوم الذي أردتُ أن يصفو لي ، قال : يا سليمان ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا ، فقبض روحه وهو متكىء على عصاه. هـ.
(6/112)
وفي رواية : أنه دعا الشياطين ، فبنوا له صرحاً من قوارير ، ليس له باب ، فقام يُصلي ، واتكأ على عصاه ، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه. والله تعالى أعلم أيّ ذلك كان. وبقي سليمان ميتاً ، وهو قائم على عصاه سنة ، حتى أكلت الأَرَضةَ عصاه. ولم يعلموا منذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوماً وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة. سبحان الحي الذي لا يموت ، ولا ينقضي ملكه.
72
الإشارة : كل دولة في الدنيا تحول ، وكل عز فيها عن قريب يزول ، فالعاقل مَن صرف دولته في طاعة مولاه ، وبذل جهده في محبته ورضاه ، فإن كانت قسمته في الأغنياء كان من الشاكرين ، وإن كانت في الفقراء كان من الصابرين ، والفقير الصابر أحظى من الغني الشاكر ، ولذلك ورد أن سليمان عليه السلام آخر مَن يدخل الجنة من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وعبد الرحمن بن عوف آخر مَن يدخلها من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. والغني الشاكر هو الذي يُعطي ولا يُبالي ، ويتواضع للكبير والصغير ، والوجيه والحقير ، والفقير الصابر هو الذي يغتبط بفقره ، ويكتمه عن غيره. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 71
قلت : {لسبأ} فيه الصرف ، بتأويل الحي ، وعدمه ، بتأويل القبيلة. و {مسكنهم} ، مَن قرأ بالإفراد وفتح الكاف على القياس في الاسم والمصدر ، كمدخَل ، ومَن كسره فلغة ، والسماع في المصدر كمسجِد. و {جنتان} بدل من {آية} أو : خبر عن مضمر ، أي : هي جنتان. و {أُكل خَمْطٍ} ، فمَن أضافه فإضافة الشيء إلى جنسه ، كثوب خز ، ومَن نوّنه قطعه عن الإضافة ، وجعله عطف بيان. أو صفة ، بتأويل خمطٍ ببشيع.
(6/113)
يقول الحق جلّ جلاله : {لقد كان لسبأٍ} سُئل صلى الله عليه وسلم أرجلاً كان أو امرأة ، أو أرضاً أو جبلاً أو وادياً ، فقال صلى الله عليه وسلم : " هو رجل من العرب ، ولد عشرة من الولد ، فتيامن ستةٌ ، وتشاءم أربعةٌ : فالذين تيامنوا كثرة ، فكندة ، والأشعريون ، والأزد ، ومذحج ، وأنمارُ ، وحميرُ ، فقال رجل : مَن أنمار يا رسول الله ؟ قال منهم خَثْعَمُ وبَجِيلَةُ. والذين تشاءموا : عاملة ، وجذام ، ولخم ، وغسان " قلت : وسبأ هو ابن يشخب بن يعرب بن قحطان. واختلف في قحطان ، فقيل : هو ابن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح. وقيل : هو أخو هود عليه السلام. وقيل : هو هود ، بنفسه ، وإن هوداً هو ابن عبدالله بن رباح ، لا ابن عابر ، على الأصح. فهو على هذا القول ابن أرم بن سام. وقيل : قحطان من ولد إسماعيل ، فهو ابن أيمن بن قيذر بن إسماعيل. وقيل : هو ابنُ الهميسع بن أيمن. وبأيمن سميت اليمن ، وقيل : لأنها عن يمين الكعبة. هذا والعربُ كلها يجمعها أصلان : عدنان وقحطان ، فلا عربي في
73
الأرض إلا وهو ينتهي إلى أحدهما ، فيقال : عدناني أو قحطاني.
ومَن جعل العرب كلها من ولد إسماعيل مرّ على أن قحطان من ذرية إسماعيل ، كما تقدّم ، واختلف في خزاعة ، فقيل : قحطانية ، وقيل : عدنانية ، وأن جدهم عمرو بن لحي ، وأما الأوس والخزرج فهما من ذرية سبأ ، نزلت يثرب ، بعد سيل العرم ، كما يأتي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 73
(6/114)
قال تعالى : {لقد كان لسبأٍ في مسكنهم} أي : في بلدهم ، أو أرضهم ، التي كانوا مقيمين فيها باليمن ، {آيةٌ} دالة على وحدانيته تعالى ، وباهر قدرته ، وإحسانه ، ووجوب شكر نعمه ، وهي : {جنتانِ} أي : جماعة من البساتين ، {عن يمينٍ} واديهم ، {وَشِمَالٍ} وعن شماله. وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتصافها كأنها جنة واحدة ، كما يكون في بساتين البلاد العامرة. قيل : كان الناس يتعاطون ذلك على جَنْبتي الوادي ، مسيرة أربعين يوماً ، وكلها تُسقى من ذلك الوادي ؛ لارتفاع سده. أو : أراد بُسْتانين ، لكل رجل بستان عن يمين داره ، وبستان عن شماله. ومعنى كونهما آية : أن أهلها لَمّا أعرضوا عن شكر النعم سلبهم الله النعمة ، ليعتبروا ويتَعظوا ، فلا يعودوا لِمَا كانوا عليه من الكفر وغمط النعم ، فلما أثمرت البساتين ؛ قلنا لهم ـ على لسان الرسل المبعوثين إليهم ، أو بلسان الحال ، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك : {كُلُوا من رزق ربكم واشكرُوا له} بالإيمان والعمل الصالح ، {بلدةٌ طيبةٌ} أي : هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة ، {وربُّ غفور} أي : وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم ربٌّ غفور لمَن شكره. قال ابن عباس : كانت سبأ على ثلاثة فراسخ من صنعاء ، وكانت أخصب البلاد ، فتخرج المرأة على رأسها المكتل ، وتسير بين تلك الشجر ، فيمتلىء المِكْتَل مما يتساقط فيه من الشجر ولقد كان الرجل يخرج لزيارة أقاربه ، وعلى رأسه مكتل ، أو قُفة ، أو طبق فارغ ، فلا يصل إلى حيث يريد إلا والطبق قد امتلأ فاكهة ، مما تسقطه الرياح ، دون أن يمد يده إلى شيء من ثمرها. ومن طيبها : أنها لم تُرَ في بلدهم بعوضة قط ، ولا ذباب ، ولا برغوث ، ولا عقرب ، ولا حية. وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب ؛ ماتت الدواب والقمل ؛ لطيب هواها.
(6/115)
{فأَعْرَضوا} عن الشكر ، بتكذيب أنبيائهم ، وكفر نعمة الله عليهم. وقالوا : ما نعرف لله علينا من نعمة ، عائذاً بالله. قال وهب : بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًّا ، يدعونهم إلى الله تعالى ، فكذّبوهم ، {فأرسلنا عليهم سيلَ العَرِم} أي : سيل الأمر العرم ، أي : الصعب. من : عرَم الرجل فهو عارم ، وعَرِمَ : إذا شَرِسَ خُلقه وصعب ، أي : أرسلنا عليهم سيلاً شديداً ، مزَّق سدهم ، وغرق بساتينهم. قيل : جمع عَرمة ، وهي السد الذي يمسك الماء إلى وقت حاجته.
قال ابن عباس رضي الله عنه : كان هذا السد يسقي جنتها ، وبنته بلقيس ؛ لأنه لَمّا ملَكت جعل قومها يقتتلون على ماء مواشيهم ، فنهتهم ، فأبَوا ، فنزلت عن ملكها ، فلما كثر
74
الشرُّ بينهم أرادوها أن ترجع إلى مُلكها ، فأبت ، فقالوا : لترجعي أو لنَقتلنك ، فجاءت ، وأمرت بواديهم فسُد أعلاه بالعرم ، وهو المُسنّاة ـ بلغة حِمْير ـ فسدت ما بين الجبلين بالصخر والنار ، وجعلت له أبواباً ثلاثة ، بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة عظيمة ، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً ، على عدة أنهارهم. فلما جاء المطر اجتمع ماء الصخر وأودية اليمن ، فاحتبس السيل من وراء السدّ ، ففتحت الباب الأعلى ، وجرى ماؤه في البركة ، وألقت البقر فيها ، فخرج بعض البقر أسرع من بعض ، فلم تزل تضيق تلك الأنهار ، وترسل البقر في الماء ، حتى خرجت جميعاً معاً ، فكانت تقسمه بينهم على ذلك ، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان. فكانوا يسْقُون من الباب الأعلى ، ثم من الثاني ، ثم من الأسفل ، فلا ينفد حتى يثوب الماء من السنة المقبلة. فلما كفروا وطغوا ، سلّط الله عليهم جُرذاً ، يُسمى الخلد ـ وهو الفأر ـ فنقبه من أسفله ، فغرَّق الماء جنتهم ، وخرّب أرضهم. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 73
(6/116)
قال وهب : وكانوا يزعمون أنهم يجدون في عِلْمِهم وكهانتهم أنهم يُخرب سدهم فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا عندها هِرًّا ، فلما حان ما أراد الله بهم ، أقبلت فأرة حمراء ، إلى بعض الهِرَر ، فساورتها ـ أي : حاربتها ، حتى استأخرت عنها ـ أي : عن تلك الفرجة ـ الهرة ، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها ، ونقبت السد ، حتى أوهنته للسيل ، وهم لا يدرون ، فلما جاء السيل دخل في تلك الخلل ، حتى بلغ السد ، فخربه ، وفاض على أموالهم ، فغرقتها ، ودفن بيوتهم ، ومُزقوا ، حتى صاروا مثلاً عند العرب ، فقالوا : تفرّقوا أياديَ سبأ. هـ.
{وبدلناهم بجنتيهم} المذكورتين {جنتين} أخريَيْن. وتسمية المبدلتين جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام ، كقوله : {وجَزَآؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى : 40]. {ذواتي أُكُل خَمْطٍ} الأُكل : الثمر المأكول ، يخفف ويثقل. والخمط ، قال ابن عباس : شجر الأراك ، وقال أبو عبيد : كل شجر مؤذ مشوِّك. وقال الزجاج : كل شجر مُر. هـ. وفي القاموس : الخمط : الحامض المر من كل شيء ، وكل نبت أخذ طعماً من مرارة وحموضة ، وشجر كالسدر ، وشجر قاتل ، أو كل شجر لا شوك له. هـ. وقرأ البصريان بالإضافة ، من إضافة الشيء إلى جنسه ، كثوب خز ؛ لأن المراد بالأكل المأكول ، أي : ذواتي ثمر شجر بشيع. والباقون : بالتنوين ، عطف بيان ، أو صفة ، بتأويل خمط ببشيع ، أي : مأكول بشيع. {وأثْلٍ} هو شجر يشبه الطرفاء ، أعظم منه ، وأجود عوداً. {وشيءٍ من سِدْرٍ قليل} والحاصل أن الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة ، وأنبت مكانها الطرفاء والسدر. وإنما قال : السدر ، لأنه أكرمُ ما بُدلوا به ؛ لأنه يكون في الجنان.
{ذلك جزيناهم بما كفروا} أي : جزيناهم ذلك بكفرهم ، فذلك مفعول مطلق بجزينا ، {وهل يُجازى} هذا الجزاء
75
(6/117)
الكلي {إِلا الكفورُ} أي : لا يجازى بمثل هذا الجزاء إلا مَن كفر النعمة ولم يشكرها ، أو : كفر بالله ، أو هل يعاقب ؛ لأن الجزاء وإن كان عامًّا يستعمل في معنى المعاقبة ، وفي معنى الإثابة لكن المراد الخاص ، وهو المعاقبة. قال الواحدي : وذلك لأن المؤمن يكفر عنه سيئاته ، والكافر يجازى بكل سوء عمله. قلت : بل الظاهر المجازاة الدنيوية بسلب النعم ، ولا تسلب إلا للكفور ، دون الشكور. قاله في الحاشية.
وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. هـ. قلت : ولعلهم استمروا من زمن سليمان إلى أن جاوزوا زمن عيسى عليه السلام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 73
الإشارة : لكل مريد وعارف جنتان عن يمين وشمال ، يقطف من ثمارهما ما يشاء ؛ جنة العبودية ، وجنة الربوبية ، جنة العبودية للقيام بآداب الشريعة ، وجنة الربوبية للقيام بشهود الحقيقة ، فيتفنّن في جنة العبودية بعلوم الحكمة ، ويتفنّن في جنة الربوبية بعلوم القدرة ، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات. كُلوا من رزق ربكم حلاوةَ المعاملة في جنة العبودية ، وحلاوةَ المشاهدة في جنة الربوبية ؛ بلدة طيبة هي جنة الربوبية ؛ إذ لا أطيب من شهود الحبيب ، ورب غفور لتقصير القيام بآداب العبودية ؛ إذ لا يقدر أحد أن يحصيها ، ولا جزءاً منها. فأعرض أهل الغفلة عن القيام بحقهما ، ولم يعرفوهما ، فأرسلنا على قلوبهم سيل العرم ، وهو سيل الخواطر والوساوس ، وخوض القلب في حِس الأكوان ، فبدلناهم بجنتيهم جنتين ؛ مرارة الحرص والتعب ، والهم والشغب. ذلك جزيناهم بكفرهم بطريق الخصوص من أهل التربية ، وهل يُجازى إلا الكفور.
(6/118)
قال القشيري : {وبدلناهم بجنتيهم جنتين...} الآية ، كذلك من الناس مَن يكون في رَغَدٍ من الحال ، واتصالٍ من التوفيق ، وطيب من القلب ، ومساعدة من الوقت ، فيرتكبُ زَلَّةً ، أو يتبع شهوةً ، ولا يعرف قَدْرَ ما يفوته فيفتر عليه الحالُ ، فلا وقتَ ولا حالَ ، ولا قُربَ ولا وصالَ ، يُظْلِمُ عليه النهارُ ، بعد أن كانت لياليه مضيئة. وأنشدوا :
ما زلتُ أختال في زَماني
حتى أَمِنتُ الزمانَ مَكْرَه>> طال علينا الصدودُ حتى
لم يبق مما شَهِدْت ذَرَّه
{ذلك جزيناهم بما كفروا...} الآية : ما عوقبوا إلاَّ بما استوجبوا ، وما سُقُوا إلاَّ ما أفيضوا ، ولا وقعوا إلاَّ في الوَهْدَةِ التي حَفَرُوا ، وما قُتِلُوا إلا بالسيف الذي صَنَعُوا. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 73
76
يقول الحق جلّ جلاله : {وجعلنا بينهم} أي : بين سبأ {وبين القرى التي باركنا فيها} بالتوسعة على أهلها بالنعم والمياه ، وهي قرى الشام ، {قُرىً ظاهرةً} متواصلة يُرى بعضها من بعض ؛ لتقاربها ، فهي ظاهرة لأعين الناظرين ، أو : ظاهرة للسَّابلة ، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم ، وهي أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة ، من سبأ إلى الشام ، {وقدَّرنا فيها السيْرَ} أي : جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم ، يقيل المسافر في قرية ، ويروح إلى أخرى ، إلى أن يبلغ الشام. وقلنا لهم : {سِيرُوا فيها} ولا قول هناك ، ولكنهم لَمَّا تمكنوا من السير ، ويُسّرت لهم أسبابه ، فكأنهم أُمروا بذلك ، فقيل لهم : سيروا في تلك القرى {لياليَ وأياماً آمنينَ} أي : سيروا فيها إن شئتم بالليل ، وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات ، أو : سيروا فيها آمنين لا تخافوا عدواً ، ولا جوعاً ، ولا عطشاً ، وإن تطاولت مدة سيركم ، وامتدت أياماً وليالي. فبطروا النعمة ، وسئموا العافية ، وطلبوا الكدر والتعب.
(6/119)
{فقالوا ربَّنا باعِدْ بين أسفارِنَا} قالوا : يا ليتها كانت بعيدة ، نسير على نجائبنا ، ونتخذ الزاد ، ونختص بالربح في تجاراتنا ، أرادوا أن يتطاولوا على الفقراء بالركوب على الرواحل ، ويختصوا بالأرباح. وقرأ يعقوب " ربُّنا " بالرفع " باعَدَ " بفتح العين ، فربنا : مبتدأ ، والجملة : خبر ، على أنه شكوى منهم ببُعد سفرهم ، إفراطاً في الترفيه وعدم الاعتداد بالنعمة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بشد العين ، من " بعِّد " المضعف. والباقون بالألف والتخفيف ، من : باعد ، بمعنى " بعد " المشددة. {وظلموا أنفسَهم} بما قالوا ، وما طلبوا ، ففرّق الله شملهم ، كما قال تعالى : {فجعلناهم أحاديثَ} يتحدث الناس بهم ، ويتعجبون من أحوالهم ، ويضرب بهم الأمثال ، يقال : تفرقوا أيادي سبأ ، وأيدي سبأ ، يقال بالوجهين. وفي الصحاح : ذهبوا أيادي سبأ ، أي : متفرقين ، فهو من المُركّب تركيب مزج.
{ومزَّقناهم كل مُمزّقٍ} أي : فرقناهم كل تفريق ، فتيامن منهم ست قبائل ، وتشاءمت أربعة ، حسبما تقدم في الحديث. قال الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما أنمار فلحقوا بيثرب ، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، والأزد بنعمان. هـ. قلت : وفيه مخالفة لظاهر الحديث ، فإن أنمار جد خثعم وبجيلة ، ولم يكونوا في المدينة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 76
والذي هو المشهور أن الأوس والخزرج هما اللذان قدما المدينة ، فوجدوا فيها طائفة من بني إسرائيل ، بعد قتلهم للعماليق. وسبب نزولهم بها : أن حَبْرين منهم مَرَّا بيثرب مع تُبع ، فقالا له : نجد في علمنا أن هذه المدينة مهاجرَ نبي ، يخرج في آخر الزمان ، يكون سنه كذا وكذا ، فاستوطناها ، يترصَّدان خروجه صلى الله عليه وسلم ، فمن نسلهما بقيت اليهود في المدينة ، والأوس والخزرج هما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
77
(6/120)
وولد مازن بن الأسد هم غسان ، سموا بماء اليمن ، شربوا منه. ويقال : غسان : ماء بالشمال شربوا منه ، نُسبوا إليه. قال حسان :
أما سألت فإنا معشرٌ نجبٌ
الأسْدُ نسبتُنا والماء غسان
{إنَّ في ذلك لآيَاتٍ لكل صبَّارٍ} عن المعاصي {شكورٍ} للنعم ، أو : لكل مؤمن ؛ لأن الإيمان نصفان ؛ نصفه صبر ، ونصفه شكر.
الإشارة : وجعلنا بين السائرين وبين منازل الحضرة المقدسة منازلَ ظاهرة ، ينزلوها ، ويرحلون عنها ، آمنين من الرجوع ، إن صَدَقوا في الطلب ، وهي منازل كثيرة ، وأهمها اثنا عشر مقاماً : التوبة ، والخوف ، والرجاء ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والتوكُّل ، والرضا ، والتسليم ، والمراقبة ، والمشاهدة. ومنازل الحضرة هي الفناء ، والبقاء ، وبقاء البقاء ، والترقِّي في معاريج الأسرار والكشوفات ، أبداً سرمداً. يقال للسائرين : سيروا فيها ، وأقيموا في كل منزل منها ، ليالي وأياماً ، حتى يتحقق به نازله ، ثم يرحل عنه إلى ما بعده. ثم إن قوماً سئموا من السير وادَّعوا القوة ، فقالوا : ربَّنا باعد بين أسفارنا حتى يظهر عزمنا وقوتنا ، وظلموا أنفسهم بذلك ، ففرقناهم عنا كل تفريق ، وعوّقناهم عن السير كل تعويق ، ليكون ذلك آية وعبرة لمَن بعدهم ، فلا يخرجون عن مقام الاستضعاف والمسكنة ، والانكسار والذلة ، " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ".
جزء : 6 رقم الصفحة : 76
(6/121)
يقول الحق جلّ جلاله : {وقد صدق عليهم إبليسُ ظَنَّه} الضمير في " عليهم " لكفار سبأ وغيرهم. وكأن إبليسَ أضمر في نفسه حين أقسم : {لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص : 82] أنه يسلط عليهم ، وظن أنه يتمكن منهم ، فلما أغواهم وكفروا صدق ظنه فيهم. فمَن قرأ بالتخفيف فـ " ظنه " : ظرف ، أي : صَدق في ظنه. ومَن قرأ بالتشديد فظنه مفعول به ، أي : وجد ظنه صادقاً عليهم حين كفروا {فاتَّبَعوه} أي : أهل سبأ ومَن دان دينهم ، {إِلا فريقاً من المؤمنين} قللهم بالإضافة إلى الكفار ، قال تعالى : {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف : 17] وفي الحديث : " ما أنتم في أهل الشرك إلا كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود ".
78
{وما كان له عليهم من سلطانٍ} أي : ما كان لإبليس على مَن صدق ظنه عليهم من تسلُّط واستيلاء بالوسوسة ، {إِلا لِنَعْلَم} موجوداً ما علمناه معدوماً {من يؤمنُ بالآخرةِ ممن هو منها في شكٍّ} أي : إِلا ليتعلق علمنا بذلك تعلُّقاً تنجيزيًّا ، يترتب عليه الجزاء ، أو : ليتميز المؤمن من الشاك ، أو : ليؤمن مَن قُدّر إيمانُه ، ويشك من قُدر ضلالُه. {وربك على كل شيءٍ حفيظٌ} محافظ رقيب ، وفعيل ومفاعل أخوان.
(6/122)
الإشارة : كل مَن لم يصل إلى حضرة العيان صدق عليه بعض ظن الشيطان ؛ لأنه لما رأى بشرية آدم مجوفة ، ظن أنه يجري معه مجرى الدم ، فكل مَن لم يسد مجاريه بذكر الله ، حتى يستولي الذكر على بشريته ، فيصير قطعة من نور ، فلا بد أن يدخل معه بعض وساوسه ، ولا يزال يتسلّط على قلب ابن آدم ، حتى يدخل حضرة القدس ، فحينئذ يحرس منه ، لقوله تعالى : {إِنَّ عَبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر : 42]. وعباده الحقيقيون هم الذين تحرّروا مما سواه ، فلم يبقَ لهم في هذا العالم علقة ، وهم المرادون بقوله تعالى : {إِلا فريقاً من المؤمنين} وما سلَّطه عليهم إلا ليتميز الخواص من العوام ، فلولا ميادين النفوس ، ومجاهدة إبليس ، ما تحقق سير السائرين ، أي : وما كان له عليهم من تسلُّط إلا لنعلم علم ظهور مَن يؤمن بالخصلة الآخرة ، وهي الشهود ، ممن هو منها في شك ، {وربك على كل شيء حفيظ} يحفظ قلوب أوليائه من استيلاء غيره عليها. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 78
قلت : حذف مفعولي زعم ، أي : زعمتموهم آلهة تعبدونهم من دون الله ، بدلالة السياق عليهما.
يقول الحق جلّ جلاله : {قُلْ} لهم {ادعوا الذين زعمتم من دون الله} أي : زعمتموهم آلهة ، فعبدتموهم من دون الله ، من الأصنام والملائكة ، وسميتموهم باسْمِهِ ، فالتجئوا إليهم فيما يعروكم ، كما تلتجئون إليه في اقتحام الشدائد الكبرى. وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته. وهذا تعجيز وإقامة حجة على بطلان عبادتها. ويُروى أنها نزلت عند الجوع الذي أصاب قريشاً. ثم ذكر عجزهم فقال : {لا يملكون مثقال ذرةٍ} من خير أو شر ، ونفع أو ضر {في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شِرْكٍ} أي : وما لهم في هذين العالَمين ؛ العلوي والسفلي ، من شرك في الخلق ، ولا في المُلك ، {وما له} تعالى {منهم} من آلهتهم {من ظهيرٍ} معين يعينه على تدبير خلقه.
79
(6/123)
يريد أنه على هذه الصفة من العجز ، فكيف يصحُّ أن يُدْعَوا كما يدعى تعالى ، أو يُرْجَوا كما يُرجى سبحانه ؟
ثم أبطل قولهم : {هَؤُلآَءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس : 18] بقوله : {ولا تنفعُ الشفاعةُ عنده إِلا لمن أَذِنَ له} تعالى في الشفاعة ، ممن له جاه عنده ، كالأنبياء ، والملائكة ، والأولياء ، والعلماء الأتقياء ، وغيرهم ممن له مزية عند الله. وقرأ أبو عمرو والأخوان بالبناء للمفعول ، أي : إلا مَن وقع الإذن للشفيع لأجله. ثم ردّ على مَن زعم من الكفار أن الملائكة تشفع ، قطعاً ؛ لمكانها من الله ، فقال : {حتى إِذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} فحتى : غاية لمحذوف ، أي : وكيف تشفع قبل الإذن ، وهي في غاية الخوف والهيبة من الله ، إذا سمعوا الوحي صعقوا ، {حتى إِذا فُزِّع عن قلوبهم} أي : كشف الفزع عن قلوبهم {قالوا ماذا قال ربكم} من الوحي ؟ {قالوا الحقَّ} فمَن كان هذا وصفه لا يجترىء على الشفعاعة إلا بإذن خاص. قال الكواشي : إنه يفزع عن قلوبهم حين سمعوا كلام الله لجبريل بالوحي ، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر لأهل السماء أخذت السماوات منه رَجْفةٌ ـ أو قال : رَعْدَةٌ شديدةٌ ـ خوفاً من ذلك ، فإذا سمع أهل السماوات صَعِقُوا ، وخَرُّوا سُجداً ، فيكون أول مَن يرفع رأسه جبريل ، فيُكلمه من وَحْيِه بما أراد ، ثم يَمُرُّ على سماءٍ سماء ، إلى أن ينزل بالوحي ، فإذا مَرَّ على الملائكة سألوه ، ثم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ فيقول جبريل : قال الحقَّ " نصب المفعول بقالوا ، وجمع الضمير تعظيماً لله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 79
(6/124)
ثم قال : وفي الحديث : " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة ، كجر السلسلة على الصفا ، فيصعقون ، حتى يأتيهم جبريل ، فيفزع عن قلوبهم ـ أي : يكشف ـ ويخبرهم الخبر " ثم قال : وقيل المعنى : أنه لا يشفع أحد إلا بعد الإذن ، ولا يشعر به إلا المقربون ؛ لِما غشي عليهم من هول ذلك اليوم ، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم في الشفاعة ؟ قالوا الحق ، أي : أذن فيها. هـ. ومثل هذا لابن عطية ، وتبعه ابن جزي ، قال : الضمير في " قلوبهم " ، وفي " قالوا " للملائكة. فإن قيل : كيف ذلك ، ولم يتقدم لهم ذكر ؟ فالجواب : أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله : {وَلا تنفع الشفاعة عنده إلا لمَن أذن له} لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين ، فعاد الضمير على الشفعاء ، الذين دلَّ عليهم ذكر الشفاعة. هـ.
وقرأ يعقوب وابن عامر " فَزع " بفتح الفاء بالبناء للفاعل. والتضعيف للسلب والإزالة ، أي : سلب الفزع وأزاله عن قلوبهم ، مِثل قردت البعير : إذا أزلت قراده ، ومَن بناه للمفعول فالجار نائب. {وهو العليُّ الكبيرُ} أي : المتعالي عن سمة الحدوث ، وإدراك العقول ، الكبير الشأن ، فلا يقدر أحد على شفاعة بلا إذنه.
80
(6/125)
الإشارة : كل مَن آثر شيئاً أو أحبّه سوى الله ، أو خافه ، يقال له : ادعوا الذين زعمتم أنهم ينفعونكم أو يضرونكم ، من دون الله ، {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض...} الآية. وأما محبة الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء فهي محبة الله ، لأنهم يُوصلون إليه ، فلم يحبهم أحد إلا لأجل الله ، فتنفع شفاعتهم بإذن الله. وقوله : {حتى إذا فُزع عن قلوبهم...} الخ ، قال الورتجبي : وصف سبحانه أهل الوجد ، من الملائكة المقربين ، وذلك من صولة الخطاب ، فإذا سمعوا كلام الحق ، من نفس العظمة ، وقعوا في بحار هيبته وإجلاله ، حتى فنوا تحت سلطان كبريائه ، ولم يعرفوا معنى الخطاب في أول وارد السلطنة. فإذا فاقوا سألوا معنى الخطاب من جبريل عليه السلام ، فهو من أهل الصحو والتمكين في المعرفة. هـ.
ثم تتم قوله : {لا يملكون مثقالَ ذرةٍ} أي : لا من رزق ولا غيره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 79
يقول الحق جلّ جلاله : {قلْ} لهم : {من يرزقكم من السماوات والأرض} أي : بأسباب سماوية وأرضية ؟ {قل اللهُ} وحده. أمره أن يقرّرهم ، ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم ، أي : يرزقكم الله لا غيره ، وذلك للإشعار بأنهم مقرُّون به بقلوبهم ، إلا أنهم ربما أبَوا أن يتكلموا به ، لأنهم إن تفوّهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم : فما لكم لا تعبدون مَن يرزقكم ، وتؤثرون عليه مَن لا يقدر على شيء ؟
(6/126)
ثم أمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإحجاج : {وإِنا وإِياكم لعلى هُدىً أو في ضلالٍ مبين} أي : ما نحن وأنتم على حالة واحدة ، بلى على حالين متضادين ، واحدنا مهتد ، وهو مَن اتضحت حجته ، والآخر ضال ، وهو مَن قامت عليه الحجة. ومعناه : أن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال. وهذا من كلام المنصف ، الذي كل مَن سمعه ، من مُوالٍ ومعاند ، قال لمَن خوطب به : قد أنصفك صاحبك. وفي ذكره بعد تقديم ما قدّم من التقرير : دلالة واضحة على مَن هو من الفريقين على الهدى ، ومَن هو في الضلال المبين ، ولكن التعريض أوصل بالمجادل إلى الغرض ، ونحوه قولك لمَن تحقق كذبه : إن أحدنا لكاذب ، ويحتمل أن يكون من تجاهل العارف.
قال الكواشي : وهذا من المعاريض ، وقد ثبت أن مَن اتبع محمداً على الهدى ، ومَن لم يتبعه على الضلال. هـ ويحتمل أن يكون من اللف والنشر المرتّب. وفيه ضعف. وخولف بين حرفي الجار ، الداخلين على الهدى والضلال ؛ لأن صاحب الهدى كأنه
81
مستعلٍ على فرس جواد ، يركضُه حيث شاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام ، لا يدري أين يتوجّه.
{قل لا تُسألون عمّا أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون} أي : ليس القصد بدعائي إياكم خوفاً من ضرر كفركم ، وإنما القصد بما أدعوكم إليه الخير لكم ، فلا يُسأل أحد عن عمل الآخر ، وإنما يُسأل كل واحد عن عمله. وهذا أيضاً أدخل في الإنصاف ، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم ، وهو محظورٌ ، والعمل إلى المخَاطبين ، وهو مأمورٌ به مشكورٌ. {قل يجمع بيننا ربنا} يوم القيامة ، {ثم يَفتحُ} أي : يحكم {بيننا بالحق} بلا جور ولا ميل ، فيدخل المحقّين الجنة ، والمبطلين النار ، {وهو الفتاحُ} الحاكم {العليمُ} بما ينبغي أن يحكم به.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 81
(6/127)
قل أَرونيَ الذي ألحقتم} أي : ألحقتموهم {به شركاءَ} في العبادة معه ، بأي صفة ألحقتموهم به شركاء في استحقاق العبادة ، وهم أعجز شيء. قال القشيري : كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ؛ لانهماكهم في ضلالهم ، مع تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تعقل ، ولا تسمع ولا تبصر ، ولا شبهة لهم غير تقليد أسلافهم. هـ. والمعنى قوله : {أَروني} مع كونه يراهم : أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ، وأن يطلعهم على حالة الإشراك به ، ولذلك زجرهم بقوله : {كلا} أي : ارتدعوا عن هذه المقالة الشنعاء ، وتنبّهوا عن ضلالكم. {بل هو الله العزيزُ} أي : الغالب القاهر ، فلا يشاركه أحد ، " وهو " : ضمير الشأن ، {الحكيمُ} في تدبيره وصنعه. والمعنى : بل الوحدانية لله وحده ؛ لأن الكلام إنما وقع في الشركة ، ولا نزاع في إثبات الله ووجوده ، وإنما النزاع في وحدانيته. أي : بل هو الله وحده العزيز الحكيم.
الإشارة : أرزاق الأرواح والأشباح بيد الله ، فأهل القلوب من أهل التجريد اشتغلوا بطلب أرزاق الأرواح ، وغابوا عن طلب أرزاق الأشباح ، مع كونهم مفتقرين إليه ، أي : غابوا عن أسبابه. وأهل الظاهر اشتغلوا بطلب أرزاق الأشباح ، وغابوا عن التوجُّه إلى أرزاق الأرواح ، مع كونهم أحوج الناس إليه. وكل فريق يرجح ما هو فيه ، فأهل الأسباب يعترضون على أهل التجريد ، ويرجحون تعاطي الأسباب ، وأهل التجريد يرجحون مقام التجريد ، فيقولون لهم : وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين. قل : لا تُسألون عما أجرمنا ، بزعمكم ، من ترك الأسباب ، ولا نُسأل عما تعملون. وسيجمع الله بيننا ، ويحكم بما هو الحق ، فإن كنتم تعتمدون على الأسباب ، وتركنون إليها ، فهو شرك ، أروني الذين ألحقتم به شركاء ، كلا ، بل هو الله العزيز الحكيم ، يُعز أولياءه ، المتوجهين إليه ، الحكيم في إسقاط مَن أعرض عنه إلى غيره.
(6/128)
قال القشيري : {قل يجمع بيننا ربنا} أخبر سبحانه أنه يجمع بين عباده ، ثم يعاملهم
82
في حال اجتماعهم ، بغير ما يعاملهم في حال افتراقهم ، وللاجتماع أثرٌ كبيرٌ في الشريعة ، وللصلاة في الجماعة أثر مخصوص. ثم قال : وللشيوخ في الاجتماع زوائد ، ويستروحون إلى هذه الآية : {قل يجمع بينا ربنا ثم يفتح...}.هـ.
ولمَّا ذكر ما منّ به على داود وسليمان ، وذكر وبال مَن لم يشكر النعم ، ذكر ما منّ به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من عموم الرسالة والدعوة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 81
قلت : " كافة " : حال من " الناس " ، على قول الفارسي وابن جني وابن كيسان ، واختاره ابن مالك. وقال الأكثر : إنه حال من الكاف ، والتاء للمبالغة ، وما قاله ابن مالك أحسن. انظر الأزهري.
يقول الحق جلّ جلاله : {وما أرسلناك إلا كافةً للناس} أي : جميعاً ، إنسهم وجِنّهم ، عَربيهم وعجميهم ، أحمرهم وأسودهم. وقدّم الحال للاهتمام. قال صلى الله عليه وسلم : " أُعطيتُ خمساً لم يُعطهنّ أحدٌ قبلي : بُعثتُ إلى الأحمر والأسود ، وجُعلتْ لي الأرضُ مسجداً وطهوراً ، وأُحلّت لي الغنائمُ ، ولم تُحل لأحدٍ قبلي ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ مسيرة شهر ، وأُعطيتُ الشفاعة ، فادخرتها لأمتي يوم القيامة ، وهي إن شاء الله نائلة مَن لا يشرك بالله شيئاً ". أو : وما أرسلناك إلا رسالة عامة لهم ، محيطة بهم ؛ لأنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد. وقال الزجاج : معنى الكافة في اللغة : الإحاطة ، والمعنى : أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ ، على أنه حال من الكاف ، والتاء للمبالغة ، كالراوية والعلاّمة. حال كونك {بشيراً} بالفضل العظيم لمن أقر ، {ونذيراً} بالعذاب لمن أصرّ ، {ولكنَّ أكثرَ الناس} أي : الكفرة ، {لا يعلمون} ذلك ، فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
(6/129)
{ويقولون} من فرط جهلهم : {متى هذا الوعدُ} أي : القيامة ، المشار إليها بقوله : {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} [سبأ : 26] أو : الوعد بالعذاب الذي أنذرتَ به. وأطلق الوعد على الموعود به ؛ لأنه من متعلقاته ، {إِن كنتم صادقين} في إتيانه ؟ {قل لكم ميعادُ يوم} " الميعاد " : ظرف الوعد ، من مكان ، أو زمان. وهو ـ هنا ـ الزمان ، بدليل مَن قرأ " ميعادٌ يومٌ " فأبدل منه " اليوم ". وأما الإضافة فإضافة تبيين ، كما تقول : بعير سائبة ، أي : قد وقت لعذابكم يوماً {لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون} أي : لا يمكنكم التأخُّر عنه
83
بالإمهال ، ولا التقدُّم عليه بالاستعجال. ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم : أنهم سألوا عن ذلك ، وهم منكرون به ، تعنُّتاً لا استرشاداً ، فجاء الجوابُ على طريق التهديد مطابقاً للسؤال ، على وجه الإنكار والتعنُّت ، وأنهم مُرْصَدون له ، يفاجئهم ، فلا يستطيعون تأخُّراً ، ولا تقدُّماً عليه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 83
الإشارة : الداعون إلى الله على فرقتين : فرقة تدعو إلى معرفة أحكام الله ، وهم العلماء ، وفرقة تدعو إلى معرفة ذات الله بالعيان ، وهم الأولياء العارفون بالله ، فالأولون دعوتُهم خاصة بمَن في مذهبهم ، والآخرون دعوتهم عامة ؛ إذ معرفة الله تعالى الذوقية لم يقع فيها اختلاف مذاهب ، فأهل المشرق والمغرب كلهم متفقون عليها ، فشيخ واحد يربي جميع أهل المذاهب ، إن خضعوا له ، وفي ذلك يقول صاحب المباحث :
مذاهبُ الناس على اختلاف
ومذهب القوم على ائتلاف
وقال الشاعر :
عبارتنا شتى وحُسنُك واحد
وكلٌّ إلى ذاك الجَمَال يُشير
ويقول مَن استبعد الفتح : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ قل : لكم ميعاد يوم عيّنه للفتح ، لا يتقدّم ولا يتأخر. فالأدب : الخدمة وعدم الاستعجال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 83
(6/130)
قلت : أتى بالعاطف في قوله : {وقال} الأخيرة ، وترَك في الأولى ؛ لأن قول الرؤساء جواب لقول المستضعفين ، فحسن ترك العاطف ، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين ، فعطفه على كلامهم الأول. و {مكر الليل} : الإضافة على معنى " في " ، وإضافة المكر إلى الليل على الاتساع ، بإجراء الثاني مجرى المفعول به ، وإضافة المكر إليه ، أو : جعل الليل والنهار ماكرين بهم مجازاً.
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال الذين كفروا} كأبي جهل وأضرابه : {لن نُؤمن بهذا القرآنِ ولا بالذي بين يديه} أي : ما نزل قبل القرآن ، من كُتب الله تعالى ، الدالة على
84
البعث. وقيل : إن كفار قريش سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأخبروهم أنهم يجدون نعته في كتبهم ، فغصبوا ، وقالوا ذلك. وقيل : {الذين بين يديه} : القيامة والجنة والنار ، فكأنهم جحدوا أن يكون القرآنُ من عند الله ، وأن يكون ما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة.
{ولو ترى} يا محمد ، أو مَن تصح منه الرؤية ، {إِذِ الظالمون موقوفُون} محبوسون {عند ربهم} في موقف الحسابِ {يَرجِعُ} يردّ {بعضُهم إِلى بعضٍ القولَ} في الجدال والمحاورة. أخبر عن عاقبتهم ومآلهم في الآخرة ، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أو للمخاطب : ولو ترى في الآخرة موقفهم ، وهم يتجاذبُون أطراف المحاورة ، ويتراجعونها بينهم ، لرأيت أمراً فظيعاً ، فحذف الجواب ؛ لأن العبارة لا تفي به. ثم بيّن بعض محاورتهم بقوله : {يقول الذين استُضْعِفوا} أي : الأتباع السفلة {للذين استكبروا} أي : الرؤساء المقدّمين : {لولا أنتم لكنا مؤمنين} لولا دعاؤكم إيّانا إلى الكفر لكنا مؤمنين بالله ورسوله.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 84
(6/131)
قال الذين استكبروا للذين استُضْعِفوا أَنحنُ صَدَدْناكم} رددناكم {عن الهُدى بعد إِذ جاءكم بل كنتم مجرمين} أي : بل أنتم صددتم باختباركم ، ولم نقهركم على الكفر. أنكروا أنهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان ، وأثبتوا أنهم هم الذين صدُّوا أنفسهم ، حيث أعرضوا عن الهدى ، وآثروا التقليد عليه. وإنما وقعت " إذ " مضافاً إليها ، وإن كانت " إذ " و " إذا " من الظروف اللازمة للظرفية ؛ لأنه قد اتّسع في الزمان ما لم يتَسع في غيره.
{وقال الذين استُضعفوا للذين استكبروا بل مكرُ الليلِ والنهارِ} أي : بل مكركم بنا بالليل والنهار هو الذي صدّنا عن الهدى. أو : مَكَرَ بنا الليل والنهار ، وطولُ السلامة ، حتى ظننا أنكم على حق فقلدناكم. {إِذ تأمروننا أن نكفرَ بالله ونَجْعَلَ له أنداداً} أشباهاً ، نعبدها معه. والحاصل : أن المستكبرين لَمَّا أنكروا أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين ، وأثبتوا أن ذلك بسبب اختيارهم ، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم : {بل مكر الليل والنهار} فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم ، كأنهم قالوا : ما كان الإجرامُ من جهتنا ، بل من جهة مكركم بنا دائماً ، ليلاً ونهاراً ، وحملُكم إيّانا على الشرك واتخاذ الأنداد. ثم حصل الندم حيث لم ينفع ، كما قال تعالى : {وأسَرُّوا الندامةَ لَمَّا رَأَوُا العذابَ} أي : أضمرَ الندم كِلاَ الفريقين ، وأخفاه عن رفيقه ، مخافة التعيير ، لَمّا رأوا العذاب ، وتحققوا لحوقه بهم ، فندم المستكبرون على إضلالهم وضلالهم ، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم. وقيل : معنى أسروا : أظهروا ، فهو من الأضداد. {وجعلنا الأغلالَ في أعناق الذين كفروا} أي : في أعناقهم. فأظهر في محل الإضمار ؛ للدلالة على ما استوجبوا به الأغلال ، وهو كفرهم. {هل يُجزون إِلا ما كانوا يعملون} أي : لا يفعل بهم إلا ما استوجبته أعمالُهم الخبيثة في الدنيا.
الإشارة : كل مَن له رئاسة وجاه ، عالماً كان أو جاهلاً ، وصدّ الناس عن طريق
85
(6/132)
التربية على يد المشايخ ، يقع له هذا الخصام ، مع مَن صدّهم من ضعفاء الناس ، حيث يرتفع المقربون ، ويسقط الغافلون من تلك المراتب ، فيقع الندم والتحسُّر ، ويتبرأ الرؤساء من المرؤوسين من عامة أهل اليمين. قال القشيري : وهكذا أصحابُ الزلاتِ ، الأخلاء في الفساد ـ أي : يتبرأ بعضهم من بعض ـ وكذلك الجوارحُ والأعضاء ، يشهد بعضها على بعض ، اليدُ تقول للجملة : أخذت ، العين تقول : أبْصرت ، والاختلاف في الجملة عقوبة. ومَنْ عمل بالمعاصي أخرج الله عليه مَن كان أطوع له ، ولكنهم لا يعلمون ذلك. ولو علموا لاعتذروا ، ولو اعتذروا لتابوا وتوقفوا ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 84
يقول الحق جلّ جلاله : {وما أرسلنا في قريةٍ من نذيرٍ} رسول {إِلا قال مُتْرَفُوهَا} : متنعّموها ، ورؤساؤها : {إِنا بما أُرسلتم به كافرون} فهذه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لقي من رؤساء قومه من التكذيب ، والكفر بما جاء به ، وأنه لم يرسل قطّ إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهلُ مكة. وتخصيص المتنعمين بالتكذيب ؛ لأن الداعي إلى التكبُّر ، وعدم الخضوع للغير ؛ هو الانهماك في الشهوات ، والاستهانة بمَن لم يحظَ بها ، جهلاً ، ولذلك افتخروا بالأموال الفانية ، كما قال تعالى :
(6/133)
{وقالوا نحن أكثرُ أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذَّبين} رأوا ـ من فرط جهلهم ـ أنهم أكرم على الله من أن يعذّبهم. نظروا إلى أحوالهم في الدنيا ، وظنوا أنهم لو لم يُكرموا على الله لَمَا رزقهم ذلك. ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم ذلك ، فأبطل الله رأيهم الفاسد بقوله : {قل إِن ربي يَبْسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ ويقدرُ} أي : يُضيقه على مَن يشاء ، فإن الرزق بيد الله ، يقسمه كيف يشاء. فربما وسّع على العاصي ، استدراجاً ، وضيَّق على المطيع ، تمحيصاً وتطهيراً ، فيوسع على المطيع ، ويضيق على العاصي ، وربما وسّع عليهما على حسب مشيئته ، فلا يُقاسُ عليهما أمر الثواب ، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يُوجبانه لم يكن بمشيئته. {ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون} فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة عند الله. وقد تكون للاستدراج ، وصاحبها لا يشعر.
الإشارة : ما حاز الخصوصية وتبع أهلها إلا ضعفاء المال والجاه ، الذين هم أتباع الرسل ، فهم الذين حَطُّوا رؤوسهم ، وباعوا نفوسهم وأموالهم لله ، وبذلوها لمن يُعرّفهم به ، فعوّضهم جنة المعارف ، يتبوؤون منها حيث شاؤوا ، وأما مَن له جاه أو مال فقلّ مَن يحط رأسه منهم ، إلا مَن سبقت له العناية الكبرى. قال القشيري : بعد كلام : ولكنها أقسام
86
سبقت ، وأحكامُ حقت ، ثم الله غالبٌ على أمره. {وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً} وليس هذا بكثرة الأموال والأولاد ، وإنما هي ببصائر مفتوحة لقوم ، ومسدودة لقوم. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 86
قلت : جمع التكسير يُذكّر ويؤنث للعقلاء وغيرهم ، ولذلك قال : {بالتي}. و {زلفى} : مفعول مطلق ، أي : وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم ، و {إلا من آمن} : مستثنى من الكاف في " تُقربكم " ، متصل ، وقيل : منقطع. و {من} : شرط ، جوابه : {فأولئك}. وعلى الاتصال فـ " مَن " منصوبة بتُقرب.
(6/134)
يقول الحق جلّ جلاله : {وما أموالُكم ولا أولادُكم بالتي تٌقربكم عندنا زلفى} أي : قُربة ، {إِلا مَن آمن وعمل صالحاً} يعني أن الآمال لا تُقرب أحداً إلا المؤمن الصالح ، الذي يُنفقها في سبيل الله. والأولاد لا تُقرب أحداً من الله إلا مَن علَّمهم الخير ، وفقَّههم في الدين ، وأرشدهم للصلاح والطاعة ، فإنَّ علمهم يجري عليه بعد موته لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عملُهُ إلا من ثلاثٍ : صدقةٍ جاريةٍ ، وعلمٍ بثه في صدور الرجال ، وولدٍ صالح يدعو له بعد موته ". {فأولئك لهم جزاءُ الضِّعْفِ} أي : تضاعف لهم حسناتهم ، الواحدة عشراً إلى سبعمائة ، على قدر النية والإخلاص. وهو من إضافة المصدر إلى المفعول. والأصل : يجازون الضعفَ ، ثم جزاءٌ الضعفَ ، ثم أضيف. وقرأ يعقوب بالنصب على التمييز ، أي : فأولئك لهم الضعف لأعمالهم جزاءُ {بما عَمِلُوا} أي : بأعمالهم {وهم في الغرفاتِ آمنون} أي : في غرفات الجنان آمنون من كل هائل وشاغل. وقرأ حمزة : " في الغرفة " إرادة الجنس.
{والذين يَسْعَون في آياتنا} في إبطالها ، بالرد والطعن {مُعَاجِزين} مغالبين لأنبيائنا ، أو : سابقين ، ظانين أنهم يفوتوننا ، {أُولئك في العذاب مُحْضَرُون} يحضرونه فيحيط بهم.
الإشارة : الأموال والأولاد لا تُقرب ولا تُبعده ، إنما يقربه سابق العناية ، ويبدعه سابق الشقاء ، فمَن العناية قرّبته أمواله ، بإنفاق المال في سبيل الله ، وإرشاد الأولاد إلى طاعة الله ، ومَن سبق له الشقاء صرف أمواله في الهوى ، وأولادَه في جمع الدنيا. قال القشيري : لا تستحقّ الزّلفى عند الله بالمال ، ولا بالأولاد ، ولكن بالأعمال
87
(6/135)
الصالحة الخالصة ، والأحوال الصافية ، والأنفس الزاكية ، بل بالعناية السابقة ، والهداية اللاحقة ، والرعاية الصادقة. هـ. وقال في قوله : {والذين يسعون في آياتنا معاجزين} : هم الذين لا يحترمون الأولياء ، ولا يراعون حقَّ الله في السِّر ، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله ، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله ، ثم في عذاب السقوط من عين الله تعالى. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 87
يقول الحق جلّ جلاله : {قل إِن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} إنما كرره تزهيداً في المال ، وحضًّا على إنفاقه في سبيل الله. ولذلك عقبه بقوله : {وما أنفقتم من شيءٍ فهو يُخلفه} إما عاجلاً في الدنيا إذا شاء ، أو آجلاً في الآخرة ، ما لم يكن إسرافاً ، كنزهة لهو ، أو في بنيان ، أو معصية. وذكر الكواشي هنا أحاديث منها : " كُلُّ معروفٍ صدقةً ، وكل ما أنفق الرجلُ على نفسِه وأهلِه صدقةٌ ، وما وَقَى به الرجلُ عِرْضَهُ كُتِبت له بها صدقةً ـ وهو ما أعطى لشاعر ، أو لذي اللسان المتَّقَى ـ وما أنفق المؤمنُ صدقة فعلى الله خلفها ضامناً ، إلا ما كان من نفقةٍ في بُنيانٍ أو معصيةٍ " قلتُ : يُقيد النفقة في البنيان بما زاد على الحاجة والضرورة ، وإلا فهو مأمور به ، فيؤجر عليه. والله تعالى أعلم.
{وهو خيرُ الرازقين} المطعمين ؛ لأن كل مَن رزق غيره من سلطان ، أو سيّد ، أو زوج ، أو غيره ، فهو من رزق الله ، أجراه على يد هؤلاء ، وهو خالقُ الرزق ، والأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم ؛ قال : الحمد لله الذي أوجده ، وجعلني ممن يشتهي ، فكم من مشتَهٍ لا يجد ، وواجد لا يشتهي!.
(6/136)
الإشارة : في الآية إشارة إلى منقبة السخاء ، وإطلاق اليد بالعطاء ، وهو من علامة اليقين ، وخروج الدنيا من القلب. وذكر الترمذي الحكيم حديثاً طويلاً عن الزبير رضي الله عنه رأيت أن أذكره لكثرة فوائده مع مناسبته لهذا المعنى. قال : جئتُ حتى جلستُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بطرف عمامتي من ورائي ، ثم قال : " يا زبير إني رسول الله إليك خاصة ، وإلى الناس عامة. أتدرون ما قال ربكم ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم. قال : قال " ربكم حين استوى على عرشه ونظر إلى خلقه : عبادي أنتم خلقي وأنا ربكم ، أرزاقكم بيدي ، فلا تتعبوا فيما تكفلتُ لكم به ، فاطلبوا مني أرزاقكم ، وإليّ فارفعوا
88
(6/137)
حوائجكم ، انصُبُوا إليَّ أنفسَكم أصُبُّ عليكم أرزاقكم. أتدرون ما قال ربكم ؟ قال الله تبارك وتعالى : يا ابن آدم ؛ أَنفق أُنفق عليك ، وأوسع أُوسع عليك ، ولا تضيق فأضيق عليك ، ولا تَصُرّ فأصر عليك ، ولا تخزُنُ فأخزنُ عليك ، إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سماوات ، متواصل إلى العرش ، لا يغلق ليلاً ولا نهاراً ، ينزل الله منه الرزق ، على كل امرىء بقدر نيته ، وعطيته ، وصدقته ، ونفقته ، مَنْ أكثر أكثر عليه ، ومَنْ أقل أقل عليه ، ومَنْ أمسك أمسك عليه. يا زبير فكُل وأَطعم ، ولا تُوك فيُوك عليك ، ولا تحْصِ فيُحصَ عليك ، ولا تقترّ فيقترْ عليك ، ولا تعسر فيعسرْ عليك. يا زبير ، إن الله يحب الإنفاق ، ويبغض الإقتار ، وإن السخاء من اليقين ، والبخل من الشك ، فلا يدخل النار مَن أيقن ، ولا يدخل الجنة مَن شك. يا زبير ؛ إن الله يُحب السخاوة ، ولو بفلق تمرة ، والشجاعة ، ولو بقتل عقرب أو حية. يا زبير ؛ إن الله يُحب الصبر عند زلزلة الزلازل ، واليقين النفاذ عند مجيء الشهوات ، والعقل الكامل عند نزول الشبهات. والورع الصادق عند الحرام والخبيثات. يا زبير ؛ عظِّم الإخوان ، وأجلّ الأبرار ، ووقر الأخيار ، وصل الجار ، ولا تماشِ الفجار ، تدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب ، هذه وصية الله إليّ ، ووصيتي إليك ".
جزء : 6 رقم الصفحة : 88
(6/138)
يقول الحق جلّ جلاله : {و} اذكر {يوم نحشرهم جميعاً} العابدين والمعبودين ، {ثم نقول للملائكة أهؤلاء إِياكم كانوا يعبدون} ؟ هو خطاب للملائكة ، وتقريع للكفرة ، وارد على المثل السائر من قول العامة : الخطاب للسارية وافهمي يا جارية. ونحوه قوله : {ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى...} [المائدة : 116] الآية. وتخصيص الملائكة ؛ لأنهم أشرف شركائهم ، والصالحون للخطاب منهم. {قالوا سبحانك} تنزيهاً لك أن يعبد معك غيرك. {أنت وليُّنا من دونهم} أنت الذي نُواليه من دونهم ، لا موالاة بيننا وبينهم. والموالاة خلاف المعاداة ، وهي مفاعلة من الولْي ، وهو القرب. والوليّ يقع على المُوالِي والمُوالَى جميعاً. فبينوا بإثبات موالاةِ الله تعالى ومعاداة الكفار : براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم ؛ فإنَّ مَن كان على هذه الصفة ، كانت حالُه منافية لذلك.
89
ثم قالوا : {بل كانوا يعبدون الجنَّ} أي : الشياطين ، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله ، أو : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام ، إذ عُبِدَت ، فيُعْبَدون بعبادتها ، أو : صَوَّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن ، وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها. {أكثرُهُم بهم مؤمنون} أي : أكثر الإنس ، أو : الكفار ، {بهم} بالجن {مؤمنون} مصدقون لهم فيما يأمرونهم به. والأكثر هنا بمعنى الكل.
قال تعالى : {فاليومَ لا يملكُ بعضُكم لبعضٍ نفعاً ولا ضرًّا} لأن الأمر في ذلك اليوم إليه وحده ، لا يملك أحد فيه منفعة ولا مضرة لأحد ؛ لأن الدار دار ثواب وعقاب ، والمثيب والمعاقبُ هو الله ، فكانت حالها خلاف حال الدنيا ، التي هي دار تكليف ، والناس فيها مخلَّى بينهم ، يتضارون ، ويتنافعون ، وأما يوم القيامة فلا فعل لأحد قط. ثم ذكر معاقبة الظالمين بقوله : {ونقول للذين ظلموا} بوضع العبادة في غير موضعها : {ذُوقوا عذابَ النار التي كنتم بها تُكذِّبون} في الدنيا.
(6/139)
الإشارة : ما أحببت شيئاً إلا وكنت له عبداً ، ولا يُحب أن تكون لغيره عبداً ، فإذا تحققت الحقائق ، التحق كل عابد بمعبوده ، وكل حبيب بمحبوبه ، فيرتفع الحق بأهله ، ويهوي الباطلُ بأهله. وكل ما سوى الله باطل ، فارفع همتك أيها العبد عن هذه الدار وما فيها ، وتعلق بالباقي ، دون الفاني ، ولا تتعلق بشيء سوى المتكبر المتعالي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 89
قال القشيري : قوله تعالى : {فاليوم لا يملك بعضكم...} الخ ، الإشارة في هذا : أنَّ مَن علّقَ قلبه بالأغيار ، وظنّ صلاحَ حاله في الاختيار ، والاستعانة بالأمثال والأشكال ، نزع اللهُ الرحمة من قلوبهم ، وتركهم ، وتشوش أحوالهم ، فلا لهم من الأشكال والأمثال معونة ، ولا لهم في عقولهم استبصار ، ولا إلى الله رجوع ، فإنْ رجعوا لا يرحمهم ولا يحبهم ، ويقول : ذوقوا وبالَ ما به استوجبتم هذه العقوبة. هـ. قلت : قوله : " فإن رجعوا لا يرحمهم " يعني أنهم فزعوا أولاً إلى المخلوق ، فلما لم ينجح مسعاهم ، رجعوا إلى الله ، فلم ينفعهم ، ولو تابوا في المستقبل لقبل توبتهم. وقال أيضاً : ومن تشديد العقوبة الافتضاح في السؤال. وفي بعض الأخبار : أن عبيداً يسألهم الحق غداً ، فيقع عليهم من الخجل ما يقولون : يا ربنا لو عذبتنا بما شئت من ألوان العقوبة ، ولا تعذبنا بهذا السؤال. هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 89
90
(6/140)
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِذا تُتلى عليهم آياتنا} أي : إذا قُرئت عليهم آيات القرآن ، {بيناتٍ} واضحات ، {قالوا} أي : المشركون {ما هذا} ؟ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم {إِلا رَجُل يُريد أن يَصُدَّكُم} : يصرفكم {عما كان يعبد آباؤُكم} من الأصنام. {وقالوا ما هذا} أي : القرآن {إِلا إِفْكٌ} : كذب {مُّفترىً} بإضافته إلى الله تعالى. {وقال الذين كفروا} أي : وقالوا. والعدول عنه دليلٌ على إنكار عظيم ، وغضب شديد ، حيث سجّل عليهم بالكفر والجحد ، {للحقِّ لَمَّا جاءهم} أي : للقرآن ، أو لأمر النبوة كله ، لما عجزوا عن معارضته ، قالوا : {إِن هذا إِلا سحر مبين} أي : ما هذا إلا سحر ظاهر سِحريتُه. وإنكارهم أولاً باعتبار معناه ، وثانياً باعتبار لفظه وإعجازه ، ولذلك سمُّوه سحراً.
قال تعالى : {وما آتيناهم من كُتُبٍ يَدْرُسُونها} أي : ما أعطينا مشركي مكة كُتباً يدرسونها ، فيها برهان على صحة الشكر. {وما أرسلنا إِليهم قبلك من نذيرٍ} أي : ولا أرسلنا إليهم نذيراً يُنذرهم بالعقاب إن لم يشركوا ، ويدعوهم إليه ، إذ لا وجه له ، فمن أين وقع لهم هذه الشبهة ؟ وهذا في غاية التجهيل لهم ، والتسفيه لرأيهم.
(6/141)
ثم هدّدهم بقوله : {وكذّب الذين من قبلهم} أي : وكذّب الذين تقدّموا من الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، الرسل ، كما كذّب هؤلاء. {وما بَلَغُوا مِعْشَارَ ما آتيناهم} أي : وما بلغ أهل مكة عُشر ما أُوتي الأولون ، من طول الأعمار ، وقوة الأجرام ، وكثرة الأموال والأولاد ، وتوالي النعم ، والظهور في البلاد. والمِعشار : مِفعال ، من : العشر ، ولم يأتِ هذا البناء إلا في العشرة والأربعة. قالوا : معشار ومرباع. وقال في القوت : المعشار : عشر العشر. {فكذَّبوا رسلي} أي : فكذبت تلك الأمم رسلي ، {فكيف كان نكيرِ} أي : فانظر كيف كان إنكاري عليهم بالهلاك والتدمير. فالنكير : مصدر ، كالإنكار معنى ، وكالنذير وزناً. و (كيف) للتعظيم ، لا لمجرد الاستفهام ، أي : فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ، ولم تغن عنهم تلك الأموال والأولاد ، وما كانوا مستظهرين به من الرئاسة والجاه ، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك ؛ لمشاركتهم لهم في الكفر والعدوان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 90
الإشارة : تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية ، وكل مَن ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى الله ، ويخرجهم من عوائدهم ، قالوا : ما هذا إلا سحر مفترى ، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، فحين كذَّبوا أولياء زمانهم حُرموا بركتهم ، فبقوا في عذاب الحرص والتعب ، والهلع والنصب. قال القشيري : إن الحكماء والأولياء ـ الذين هم الأئمة في هذه الطريقة ـ إذا دَلوا الناسَ على الله ، قال إخوانهم من إخوان السوء ـ وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا : مَن ذا الذي يطيق هذا ؟ ولا بُد من الدنيا ما دمت تعيش!.. وأمثال هذا كثير ، حتى يميل ذلك المسكين من قِبل النصح ، فيهلك ويضل. هـ. باختصار. وقال في قوله تعالى : {وما آتيناهم من كُتُب يدرسونها..} ما حاصله : إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق ،
91
(6/142)
على سبيل الإلهام والفيض ، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به ، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك ، فسبيلهم السكوت عنهم ، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 90
قلت : " أن تقوموا " : بدل من " واحدة " ، أو خبر عن مضمر.
يقول الحق جلّ جلاله : {قلْ} لهم : {إِنما أَعِظُكُم بواحدةٍ} بخصلة واحدة ، وهي : {أن تقوموا لله} أي : لوجه الله خالصاً ، لا لحمية ، ولا عصبية ، بل لطلب الحق والاسترشاد. فالقيام على هذا معنوي ، وهو القصد والتوجُّه بالقلب ، وقيل : حسي ، وهو قيامهم وتفرقهم عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقوم كل واحد منفرداً بنفسه ، يتفكر ، أو مع صاحبه. وهذا معنى قوله : {مَثْنَى وفُرَادَى} أي : اثنين اثنين ، أو فرداً فرداً. والمعنى : أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق ، وتخلصتم من الجهل. وهي أن تقوموا فرداً. والمعنى : أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق ، وتخلصتم من الجهل. وهي أن تقوموا وتنهضوا لله ، معرضين عن المِراء والتقليد ، متفرقين اثنين اثنين ، أو واحداً واحداً ؛ فإنَّ الازدحام يُشوّش الخاطر ، ويخلط القول ، ويمنع من الرويّة ، ويقلّ فيه الإنصاف ، ويكثر الاعتساف.
(6/143)
{ثم تتفكروا} في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به ، حتى تعلموا أنه حق ، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه ، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف ، حتى يؤديهما النظرُ الصحيح إلى الحق ، وكذلك المفرد ، يتفكر في نفسه ويعرض فكره على عقله. فإذا تفكرتم بالإنصاف عرفتم أن {ما بصَاحِبِكم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {مِن جِنَّةٍ} من جنون ، وهذا كقوله : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ} [الأعراف : 184]. ومنهم مَن يقف على " تتفكروا " ثم يستأنف النفي. قال القشيري : يقول : إذا سَوَّلَتْ لكم أنفسكم تكذيبَ الرسل ، فأمعنوا النظرَ ، هل تَرَوْنَ فيهم آثار ما رميتموهم به ـ هذا محمد صلى الله عليه وسلم قُلْتُم ساحر ، فأين آثار السحر في أحواله وأفعاله وأقواله ؟ قلتم : فأيّ قسم من أقسام الشعر كلامه ؟ قُلْتُم مجنون ، فأيُّ جنون ظهر منه ؟ وإذا عجزتم فهلاَّ اعترفتم به أنه صادق ؟ !. هـ.
{إِن هو إِلا نذير لكم بين يَديْ عذابٍ شديدٍ} أي : قُدَّام عذاب شديد ، وهو عذاب الآخرة ، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم : " بُعثتُ بين يَديِ الساعة ". الإشارة : فكرة الاعتبار تشد عروة الإيمان ، وفكرة الاستبصار تشد عروة الإحسان ،
92
(6/144)
فأول ما يتفكر فيه الإنسان في أمره صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، مع ما أخبر به من قصص القرون الماضية ، والشرائع المتباينة ، مع كونه أُميًّا ، لم يقرأ ، ولم يطالع كتاباً قط ، وما أخبر به من أمر الغيب ، فوقع كما أخبر ، وما ظهر على يديه من المعجزات ، وما اتصف به عليه الصلاة والسلام ؛ من الأخلاق الحسنة ، والشيم الزكية ، وما كان عليه من سياسة الخلق ، مع مشاهدة الحق. وهذا لا يطاق إلا بأمر رباني ، وتأييد إلهي. فإذا أشرقت على قلبه أنوار النبوة ، ترقى بها إلى أنوار الربوبية ، فيتفكر في عجائب السموات والأرض ، فيعرف عظمة صانعها ، فإذا سقط على شيخ عارف بالله أدخله فكرة العيان ، فيغيب عن نظرة الأكوان ، ويبقى المُكوّن وحده. كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 92
يقول الحق جلّ جلاله : {قل ما سألتكم عليه} أي : على إنذاري وتبليغ الرسالة {من أَجْرٍ} إذ لو كنتُ كذلك لاتهمتموني أني أطمع في أموالكم. وما طلبتُ من ذلك {فهو لكم} ومعناه : نفي سؤاله الأجر رأساً. نحو : ما لي في هذا فهو لك ، وما تعطني تصدق به على نفسك. {إِنْ أَجْريَ} في ذلك {إِلا على الله وهو على كل شيءٍ شهيدٌ} فيعلم أني لا أطلب الأجر في نصيحتكم ، ودعائكم إليه ، إلا منه تعالى.
الإشارة : تقدم مراراً أن الدعاة إلى الله ينبغي لهم أن يتنزّهوا عن الطمع في الناس جهدهم ، ولو اضطروا إلى ذلك ؛ إذ لا يقع النفع العام على أيديهم إلا بعد الزهد التام ، والتعفُّف التام عما في أيدي الناس ، فإذا تحققوا بهذا الأمر جعلهم الله حُجةً ، يدمغ بهم على الباطل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 92
(6/145)
يقول الحق جلّ جلاله : {قُلْ إِنَّ ربي يَقْذِفُ بالحق} أي : بالوحي ، فيرمي به على الباطل ، من الكفر وشبهه ، فيدمغه ، أو : يرمي به إلى أقطار الآفاق ، فيكون وعداً بإظهار الإسلام ، أو : يلقيه وينزله إلى أنبيائه. والقذف : رمي السهم ونحوه بدفع واعتمادٍ ، ويستعار لمطلق الإلقاء ، ومنه : {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب : 26]. تمّ وصف الرب بقوله : {علاّمُ الغيوب} أي : هو علام الغيوب.
93
{قل جاء الحقُّ} أي : الإسلام : أو : القرآن ، {وما يُبْدِىءُ الباطلُ وما يُعيدُ} أي : زال الباطل وهلك ، لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي ، فعدمهما عين الهلاك ، والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل ، كقوله : {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء : 81] قال الكواشي : المعنى : ذهب الباطل لمجيء الحق ، فلم يبقَ له بقية حتى يبدىء شيئاً أو يعيده. ثم قال : وهذا مثلٌ ، يقال : فلان لا يبدىء ولا يعيد ، إذا كان لا يلتفت إليه ولا يعتمد عليه. وقال الهروي : الباطل : إبليس ، ما يبدىء ولا يعيد : لا يخلق ولا يبعث ، والله تعالى هو المبدىء المعيد ، ومعناهما : الخالق الباعث. وقال في الصحاح : وفلان ما يبدىء وما يعيد ، أي : ما يتكلم ببادية ولا عائدة ، ومثله في القاموس.
(6/146)
والحاصل : أنه عبارة عن زهوق الباطل ، حتى لا يبقى له ظهور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ يوم الفتح ، وحول الكعبة أصنام ، فجعل يطعنُها بعودٍ ، فتقطع لقفاها ، ويقول : " {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء : 81] قل جاء الحق وما يُبدىءُ الباطلُ وما يُعيد ". ولما قالوا له صلى الله عليه وسلم : قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى : {قل إِن ضللتُ} عن الحق {فإِنما أَضلُّ على نفسي} فإن وبال ضلالي عليها ، {وإِن اهتديتُ فبما يُوحي إِليّ ربي} أي : فبتسديده بالوحي إِليّ. وكان قياس المقابلة أن يقال : وإن اهتديتُ فإنما أهتدي لها ، كقوله : {فَمِنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الزمر : 41] ، ولكن هما متقابلان معنًى ؛ لأنّ النفس كلّ ما يضرها فهو بسببها ، وما لها مما ينفعها ، فهو بهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عمل لكل مكلّف. وإنما أمر رسولَه أن ينسبه إلى نفسه ؛ تشريعاً لغيره ؛ لأنه إذا كان هذا له مع جلالة قدره فما باله بغيره ؟ . {إِنه سميع} لما أقوله لكم ، {قريبٌ} مني ومنكم ، فيجازيني ويجازيكم على ما أخفيتم وما أعلنتم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 93
الإشارة : الحق هو العلم بالله ، والباطل الجهل بالله ، أو : ما سوى الله ، فإذا حصل للعبد العلم بالله غاب عنه كل ما سواه ، وما بقي في الوجود إلا الله ، وفي ذلك يقول الشاعر :
فلم يبقَ إلا الله لم يبق كائن
فما ثم موصول ولا ثم بائن>> بذا جاء برهان العيان فما أرى
بعيني إلا عينه إذ أعاين
(6/147)
وفي القوت في تفسير الآية : أي : لما جاء الحق أبطل الباطل وأعاده ، فأظهر حقيقة الأمر بدءاً وعوداً ، أي : كشف ما يبدىء الباطل للابتداء ، وما يعيد على العبد من الأحكام ، يعني : أن نور الحق يكشف حقيقةَ الباطل وضررَ عاقبته ، وقُبحه في ذاته. والله أعلم. هـ. ومَن رُمي بباطل أو بدعة ، وهو محقق بالحق ، متمسك بالسنة النبوية ، فليقل
94
لمَن رماه : {إِن ضللتُ فإنما أضل على نفسي..} الآية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 93
قلت : " مُرِيب " : اسم فاعل ، من أراب ، أي : أتى بريبة ، وأربته : أوقعته في الريبة. ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز. والمراد : وصفه بالشدة والإظلام ، بحيث إنه يوقع في شك آخر.
يقول الحق جلّ جلاله : {ولو ترى} يا محمد ، أو : يا مَن تصح منه الرؤية ، الكفرةَ. {إِذ فَزِعُوا} حين فزعوا عند صيحة البعث ، لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً ، {فلا فَوْتَ} أي : لا مهرب لهم ، أو : فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. {وأُخذوا} إلى النار {من مكان قريبٍ} من المحشر إلى قعر جنهم. أو : ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه ، وأُخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها ، أو : إذا فزعوا يوم بدر ، وأُخذوا من صحراء بدر إلى القليب.
(6/148)
{وقالوا} حين عاينوا العذاب : {آمنَّا به} أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لمرور ذكره في قوله : {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ} [سبأ : 46] أو : بالله ، أو : بالقرآن المذكور في قوله : {فبما يُوحي إليَّ ربي} {وأَنَّى لهم التناوشُ} أي : التناول. من قرأه بالواو فوجهه : أنه مصدر : ناش ، ينوش ، نوشاً ، أي : تناول ، وهي لغة حجازية ، ومنه : تناوش القوم في الحرب : إذا تدانوا ، وتناول بعضهم بعضاً ، أي : ومن أين لهم تناول التوبة وقد بَعدت عنهم ، يعني أن التوبة كانت منهم قريبة ، تُقبل منهم في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا وبَعُدت عن الآخرة. وقيل : هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا ، فمُثِّلت حالهم بحال مَن يريد أن يتناول الشيء من غَلْوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع. ووجه مَن قرأه بالهمز : أنه مصدر : تناءش ، بمعنى أبطأ ، أو : بعُد ، يقال : تناءشت الشيء : أخذته من بُعْدٍ. النئيش : الشيء البطيء ، كما قال الشاعر :
وجئْتَ نئيشاً بَعْدَما فَاتَكَ الخير
95
أي : جئت بطيئاً. وقيل : الهمز بدل الواو ، كالصائم ، والقائم ، وأقتت. والمعنى : ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 95
وقد كفروا به من قبل} حصول العذاب ، أو : قبل الموت في الدنيا ، {ويُقْذَفُون بالغيب من مكان بعيدٍ} هو عطف على " كفروا " على حكاية الحال الماضية ، أي : وقد كفروا في الدنيا ، ورَموا بظنونهم في الأمور المغيبة ، فقالوا : لا بعث ولا حساب ، ولا جنة ولا نار. {من مكان بعيد} عن الحق والصواب ، أو : هو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شاعر ، ساحر ، كذاب ، وهو رجم بالغيب ؛ إذ لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً. وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لم يعرفوه إلا بالصدق ، والأمانة ، ورجاحة العقل.
(6/149)
{وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون} من نفع الإيمان يومئذ ، والنجاة به من النيران ، والفوز بنعيم الجنان ، أو بين الرد إلى الدنيا ، كما حُكِيَ عنهم بقوله : {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} [السجدة : 12] {كما فُعل بأشياعهم من قبلُ} أي : بأشباههم من الكفرة الدارجة مِن قبلهم ، فإنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان والعمل الصالح بالموت ، وهذه الأفعال كلها تقع في المستقبل ، عبَّر عنها بالماضي لتحقُّق وقوعها. {إِنهم كانوا في شكٍّ} في أمر الرسول والبعث ، {مُريب} موقع للريبة ، أو : ذي ريبة ، نعت به للمبالغة. وفيه رد على مَن زعم أن الله لا يُعذّب على الشك ، قاله النسفي.
الإشارة : قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان ، وتربيته ، بصحبة أهل الإيقان ، حتى إذا كُشف ـ بعد الموت ـ عن مقامهم القصير ، ومكانهم البعيد ، قالوا : آمنا وتيقَّنَّا ، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير ، وصرفوا في الشهوات والحظوظ عمرهم القصير ، وتوغلوا في أشغال الدنيا وزخارفها ، فذهلوا عن الجد والتشمير ، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون ، من اغتنام الأوقات ، وتعمير الساعات ، لنيل المراتب والدرجات ، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع ، ويُطلب الرجوع فلا يُسْمَع.
قال القشيري : إذا تابوا ـ وقد أُغْلِقَت الأبواب ، وندمُوا ـ وقد تقطعت بهم الأسباب ، فليس إلا الحسرات مع الندم ، ولات حين ندامة! كذلك مَن استهان بتفاصيل فترته ، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه فتجاوز حده ، ويُعْفَى عنه كَرَّه. فإذا استمكن في القسوة ، وتجاوز في سوء الأدب حدَّ القلة ، وزاد على مقدار الكثرة ، فيحصل لهم من الحق رَدّ ، ويستقبلهم حجاب البُعد. فعند ذلك لا يُسمع لهم دعاء ، ولا يُرْحَمُ لهم بكاء ، كما قيل ، وأنشد :
سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا
فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ
جزء : 6 رقم الصفحة : 95
هـ.
(6/150)
وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير ، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير ، قد
96
انتهزوا فرصة الأعمار ، ولم يشغلهم عن الله ربع ولا ديار ، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار ، وفكرة الاعتبار والاستبصار ، حتى وردوا دار القرار ، أولئك المصطفون الأخيار ، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار ، ويكشف عن قلوبهم الحُجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان ، واشتغلوا بتربيته ، بصحبة أهل الإيقان ، حتى أفضوا إلى مقام العيان ، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه ، وبمحمد نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
97
جزء : 6 رقم الصفحة : 95(6/151)
سورة فاطر
جزء : 6 رقم الصفحة : 97
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قلت : {أولِي} : اسم جمع ، كذُو ، وهو بدل من " رسلاً " ، أو نعت له ، و {مثْنَى وثُلاثَ ورُباع} : نعوت لأجنحة ، وهو غير منصرف ؛ لأنه معدول عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وهو باعتبار الأشخاص ، أي : منهم مَن له اثنان ، ومنهم مَن له ثلاثة ، هذا ظاهر الكشاف.
يقول الحق جلّ جلاله : {الحمدُ لله} ، حمد نفسه ؛ تعليماً وتعظيماً ، {فاطرِ السماواتِ والأرض} مبديهما ومبدعهما. قال ابن عباس رضي الله عنه : " ما كنت أدري معنى فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : ابتدأتها ". قال البيضاوي : من الفطر ، بمعنى الشق ، كأنه شق العدم بإخراجهما منه. قلت : وكأنه شق النور الكثيف من النور اللطيف ، فنور السموات والأرض من نوره الأزلي ، وسره الخفي. {جاعلِ الملائكةِ رسلاً} إلى عباده ، أي : وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده ، فيُبلغون إليهم رسالاته بالوحي ، والإلهام ، والرؤيا الصادقة. {أُولي أجنحةٍ} متعددة {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع} أي : منهم ملائكة لهم اثنان ؛ لكل واحد جناحان ، ومنهم مَن له ثلاثة ، ومنهم مَن له أربعة ، بتفاوت ما لهم من المراتب ، ينزلون بها ، ويعرجون ، أو : يُسرعون نحو ما وكلهم الله عليه ، يتصرفون فيه على ما أمرهم به ، ولعله تعالى لم يرد الحصر ونفى ما زاد عليها ، لِمَا رُوي أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة المعراج ، وله ستمائة
98
جناح. وَرُويَ أنه طلب منه أن يريه صورته التي خلقه اللهُ عليها ، فلما رآه كذلك خرّ مغشِياً عليه. وقال : ما كنت أرى شيئاً من الخلق هكذا. فقال له : لو رأيت إسرافيل ، إِنَّ له لاثني عشر جناحاً بالمشرق ، واثني عشر جناحاً بالمغرب ، وإنَّ العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل لعظمة الله تعالى. هـ.(6/152)
{يَزيدُ في الخلق ما يشاء} أي : يزيد في خَلْق الأجنحة وغيره ما يريد. وقيل : هو الوجه الحسن ، والشَعْر الحسن ، والصوت الحسن ، والحظّ الحسن. والملاحة في العينين. والآية مطلقة تتناول كلَّ زيادة في الخلق ، من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام في الأعضاء ، وقوة في البطش ، وحصافة العقل ، وجزالة في الرأي ، وفصاحة في اللسان ، وحُسن خلق في المعاشرة ، ومحبة في قلوب المؤمنين وغير ذلك. {إِن الله على كل شيءٍ قدير} فيقدر على ما يشاء ، من زيادةٍ في الخلق ، ونقصان فيها ، على حسب المشيئة السابقة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 98
(6/153)
الإشارة : الحمدُ في القرآن وقع على أربعة أقسام : حمد مطلق ، وهو الواقع على عظمة ذاته ، من غير أن يكون في مقابلة شيء ، وهو قوله : {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل : 59] ، {الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل : 75] وحمدٌ وقع في مقابلة تنزيه ذاته عن النقائص ، وهو قوله : {وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً...} [الإسراء : 111] الآية. وحمدٌ وقع في مقابلة نعمة الإيجاد ، وهو قوله : {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ...} [الأنعام : 1] ، وحمدٌ وقع في مقابلة نعمة الإمداد الحسي ، كقوله : {الحمد لله رب العالمين} ، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاواتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية : 36] ، فإن التربية تقتضي وصول ما يحتاج إليه المربّي ، أو الإمداد المعنوي ، وهو إمداد القلوب والأرواح بالهداية ، وهو قوله : {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف : 1] {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا...} [الأعراف : 43] فهذه أربعة : حمد مطلق ، أو مقيد بشأن التنزيه ، أو بنعمة الإيجاد ، أو الإمداد ، وما وقع هنا في إظهار تجلياته ، من أرضه وسماواته ، ولطائف ملائكته ، فإن ذلك كله من نور جبروته.
وقوله تعالى : {يَزِيدُ في الخلق ما يشاء} قال القشيري : يقال : هو الفهم عن الله ، أو السخاء والجود ، أو : الرضا بالتقدير ، أو : علو الهمة ، أو : التواضع في الشرف ، أو : العفة في الفقر ، أو : الظَرفُ ـ أي : الظرافة ـ في الشمائل ، أو : أن يكون مُحَبباً في القلوب ، أو : خفة الروح ، أو : تحرُّر القلب عن رِقِّ الحرمان ـ أي بالوقوف مع الأكوان ـ أو : ألا يطْلُب لنفسه منزلةً في الدارين ـ أي : بأن يكون عبد الله حقيقة ـ. هـ. ملخصاً.
99
جزء : 6 رقم الصفحة : 98
(6/154)
الحق جلّ جلاله : {ما يَفْتَح اللهُ للناسِ من رحمة} أي : ما يطلق ويرسل من رحمة ، كنعمة ، ومطر ، وأمن ، وعافية ، ورزق ، وعلم ، ومعرفة ، ونبوة ، وغيرها ، {فلا مُمسِكَ لها} فلا أحد يقدر على إمساكها وردها ، واستعير الفتح للإطلاق ؛ لأنه مسبب عنه. ونكّر الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أيّ رحمة كانت ، فتشمل نعمة الدفع والجلب ، كدفع المحن وجلب المنن. والاعترافُ بالمنعم من تمام النعمة ، والأمران مدرجان في الفتح والإمساك ، {وما يُمْسِكْ} أي : يمنع ويحبس من ذلك {فلا مُرسل له} فلا مُطلق له {من بعده} من بعد إمساكه. وأنث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمِّن معنى الشرط على معنى الرحمة ، وذكّره ؛ حملاً على لفظ المرجوع إليه ؛ إذ لا تأنيث فيه ؛ لأن الأول فسّر بالرحمة ، فحسن اتباع الضمير التفسير ، ولم يفسر الثاني فتُرك على أصل التذكير.
وعن معاذ رضي الله عنه مرفوعاً : " لا تزال يدُ الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفُقْ خيارُهم بشرارهم ، ويُعظّمْ بَرُّهُم فاجرَهم ، وتعِنْ قراؤهم أمراءهم على معصية الله. فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم " قال ابن عرفة : يُؤخذ من قوله تعالى : {وما يُمسك...} أن العدم السابق الإضافي متعلق للقدرة ، وجعله بعض الأصوليين متعلقاً للإرادة أيضاً ، وذلك لأن المصحح للتعلُّق الإمكان. هـ. قال الأُبي : لا دليل في الآية ؛ لاحتمال أن يكون التقدير : وما يريد إمساكه ، فيكون من متعلقات الإرادة ، ويحتمل : وما يُمسك عن الإرسال بعد وجوده ، كإمساك الماء عن النزول بعد خلقه في السحاب. هـ. {وهو العزيزُ} الغالب ، القادر على الإرسال والإمساك. {الحكيمُ} الذي يُرسل ويُمسك ، بما تقتضي الحكمة إرساله ، أو إمساكه.
(6/155)
الإشارة : ما يفتح الله لقلوب عباده من نفحات ، وواردات ، وإلهامات ، وعلوم لدنية ، وحِكَم ربانية ، وتعرفات جمالية وجلالية ، فلا ممسك لها ، بل الله يفتح على مَن يشاء ، ويسد الباب في وجه مَن شاء. وسدُّ الباب في وجه العبد عن معرفته الخاصة ، علامته : عدم إيصاله إلى أوليائه. فكل مَن وصله إليهم ، وصَحِبهم ، وعظَّمهم ، وخدمهم ، فقد فتح الله له الباب في وصوله إليه ، وكل مَن نكبه عنهم ، ولم يصحبهم ، كما ذكر ، فقد سُدّ
100
الباب في وجهه عن معرفته العيانية. وفي الحكم : " سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه ". وما يُمسك من ذلك فلا مرسل له من بعده ، ولو صلّى وصام ألف عام. قال القشيري : ما يلوح لقلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره ، ولا ضباب يقهره. ويقال : ما يلزم قلوبَ أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا مُمسك له ، والذي يمنع من أعدائه ـ بسبب ما يُلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها ـ فلا مُيَسِّرَ له من دونه. هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 100
قلت : {غيرُ الله} : من رفعه فنعت للمحل ، أي : هل خالق غير الله ، ومن جره : فنعت للفظ. و {يرزقكم} : إما استئناف ، أو : صفة ثانية لخالق ، و {لا إله إلا هو} : مستأنفة ، لا محل لها.
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الناس اذكروا نعمةَ اللهِ عليكم} باللسان والقلب ، وهي التي تقدمت ، من بسط الأرض كالمهاد ، ورفع السماء بلا عماد ، وإرسال الرسل للهداية والإرشاد ، والزيادة في الخلق ، وفتح أبواب الرزق. ثم نبَّه على أصل النعم ، وهو توحيد المُنْعم ، فقال : {هل من خالق غيرُ اللهِ يرزقكم من السماء} بالمطر {والأرض} بالنبات ، بل لا خالق يرزق غيره ، {لا إِله إِلا هو فأنى تُؤفكون} فمن أيِّ وجه تُصرفون عن التوحيد إِلى الشرك.
(6/156)
ثم سلَّى نبيه عن صدف قومه عن شكر المُنعم بقوله : {وإِن يُكذِّبوك فقد كُذِّبتْ رسلٌ مِن قبلك} فلك فيهم أُسوة ، فاصبر كما صبروا. وتنكير " رسل " للتعظيم ، المقتضي لزيادة التسلية ، والحث على المصابرة ، أي : فقد كُذِّبت رسل عظام ، ذوو عدد كثير ، وأولو آيات عديدة ، وأهل أعمار طوال ، وأصحاب صبر وعزم. وتقدير الكلام : وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك ؛ لأن الجزاء يعقب الشرط ، ولو أجري على الظاهر ، لكان الجزاء مقدماً على الشرط ؛ لأن تكذيب الرسل سابق ، فَوضعَ {فقد كُذّبت رسل من قبلك} موضع فتأسّ ، استغناءً بالسبب عن المسبب. {وإِلى الله تُرجع الأمورُ} وهو كلامٌ مشتمل على الوعد والوعيد ، من رجوع الأمور إلى حكمه ، ومجازاة المكذِّب والمكذَّب بكل ما يستحقه في الدنيا والآخرة ، في الدنيا بالنصر والعز لأهل الحق ، وبالذل والإهانة لأهل التكذيب ، وفي الآخرة معلوم ، فالإطلاق أحسن من التقييد بالآخرة. والله تعالى أعلم.
101
الإشارة : ذكر النعمة هو أن ينظر العبد ، ويتفكر في نفسه ، فيجد نفسه مغروقة في النعم الظاهرة والباطنة. وقد تقدّم تعدادها في لقمان. وليتفكر في حالته الماضية ، فقد كان جاهلاً ، فعلَّمه الله ، ضالاًّ ، فهداه الله ، غافلاً ، فأيقظه الله ، عاصياً ، فوفقه الله ، إلى غير ذلك من الأحوال السنية. ولينظر أيضاً إلى مَن تحته مِن العباد ، فيجد كثيراً مَن هو أسوأ منه حالاً ومقاماً ، فيحمد الله ويشكره. قال صلى الله عليه وسلم : " انظروا إلى مَن هو تحتكم ولا تنظروا إلى مَن فوقَكم فهو أَجْدَرُ ألا تَزْدَرُوا نعمةَ الله عليكم " وحمله المحققون على العموم في الدين والدنيا. ذكره ابن عباد في الرسائل وغيره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 101
(6/157)
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تذاكروا النعم ؛ فإن ذكرها شكر. هـ. وقال القشيري : مَنْ ذَكَرَ نعمَته فصاحبُ عبادةٍ ، ونائِلُ زيادة ، ومَن ذَكَرَ المُنْعِمَ فصاحبُ إرادة ، ونائل زيادة ، ولكنْ فرقٌ بين زيادة وزيادةً ، هذا زيادته في الدارين عطاؤه ، وهذا زيادته لقاؤه ، اليومَ سِرًّاً بِسِرٍّ ، من حيث المشاهدة ، وغداً جَهْراً بِجَهْرٍ ، من حيث المعاينة. هـ. قلت : مَن تحقق بغاية الشهود لم يبقَ له فرق بين شهود الدارين ؛ إذ المتجلي واحد. ثم قال : والنعمة على قسمين : ما دَفَعَ من المِحَن ، وما وضع من المِنَن ، فَذِكْرُه لما دَفَعَ عنه يوجب دوامَ العصمة ، وذكره لما نَفَعَه به يوجب تمام النعمة ، {هل من خالق غير الله...} ؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته ، فإذا عَرَفَ أنه لا رازق غيره ؛ لم يُعلِّق قلبَه بأحدٍ في طلب شيءٍ. وتَوَهم شيء من أمثاله وأشكاله ، ويستريح لشهود تقديره ، ولا محالة يُخْلِصُ في توكله وتفويضه. هـ.
ثم قال في قوله : {وإِن يُكذِّبوك...} الآية : وفي هذا إشارة للحكماء ، وأرباب القلوب ، مع العوامِّ والأجانب عن هذه الطريقة ، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل ، وأهل الحقائق منهم أبداً في مقاساة الأذية ، إلا بسَتْر حالهم عنهم ، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القُرَّاءِ المتعمقين ، والعلماء المتجمدين ، الذين هم لهذه الأصول منكرون. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 101
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الناسُ إِن وعدَ الله} بالبعث والجزاء {حق} أي :
102
(6/158)
كائن لا محالة ، فاستعدُّوا للقائه ، {فلا تَغُرنَّكم الحياةُ الدنيا} لا تخدعنكم زخارف الدنيا الغرارة ، ولا يُذهلنكم التمتُّع بها ، والتلذُّذ بملاذها ، والاشتغال بجمعها واحتكارها ، عن التأهُّب للقاء الله ، وطلب ما عنده. وفي الحديث : " فلا تخدعنكم زخارف دنيا دنية ، عن مراتب جنات علية ، فكأنْ قد كشف القناع ، وارتفع الارتياب ، ولاقى كل امرىء مستقره ، وعرف مثواه ومنقلبه " {ولا يغرنكم بالله الغرورُ} أي : الشيطان ، فإنه يُمنِّيكم الأماني الكاذبة ، ويقول : إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك. أو : إن الله غفور لمَن عصاه.
{إِنَّ الشيطانَ لكم عدوٌّ} ظاهر العداوة ، فعل بأبيكم ما فعل ، وأنتم تعاملونه معاملة الحبيب الناصح ، {فاتخِذوه عدواً} فلا تقبلوا غروره في عقائدكم وأفعالكم ، وكُونوا على حذر منه في جميع أحوالكم ؛ إذ لا يوجد منه إلا ما يدل على عداوته في سركم وجهركم.
قال الورتجبي : إنه عدو ؛ لأنه من عالم القهر خُلق ، ونحن من عالم اللطف خُلقنا. والطبعان متخالفان أبداً ، لأن القهر واللطف تسابقا في الأزل ، فسبق اللطفُ القهر ، فعداوته من جهة الطبع الأول ، والجهل بالعصمة ، وأنوار التأييد والنصرة ، ومَن لا يعرفه بما وصفنا ، كيف يتخذه عدواً ؟ وهو لا يعرف مكائده ، ولا يعرف مكائده إلا وليّ أو صدِّيق. هـ.
ثم خطّأ مَن اتبعه ؛ بأن غرضه أن يورد شيعَته موارد الهلاك ، بقوله : {إِنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} فهو تقرير لعداوته ، وبيان لغرضه في دعوى شيعته إلى اتباع الهوى ، والركون إلى الدنيا ، أي : إنما يدعوهم إلى الهوى ، ليكونوا من أهل النار.
ثم بيَّن مآل مَن اتبعه ومَن عاداه ، فقال : {الذين كفروا لهم عذاب شديد} أي : فمَن أجابه إلى ما دعي فله عذاب شديد ؛ لأنه صار من حزبه وأتباعه ، {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} ولم يجيبوه ، ولم يصيروا من حزبه ، بل عادوه ، {لهم مغفرةٌ وأجر كبير} لكبر جهاده ودوامه.
(6/159)
جزء : 6 رقم الصفحة : 102
الإشارة : وَعْد الله هنا عام ، وكله حق ، واجب الوقوع ، لا يتخلّف ، فيصدق بوعد الرزق ، وكفاية مَن انقطع إليه عن الخلق ، لقوله : {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق : 3] وتولى مَن أصلح حالَه لقوله : {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف : 196] ويصدق بإثابة المطيع ، وعتاب المعاصي ، أو حلمه عنه ، وغير ذلك من المواعد كلها ، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق ، وخوف الخلق ، والتشمير في الطاعة ، والفرار من المعصية ، إِنْ كان له ثقة بوعد ربه ، وإلا فالخلل في إيمانه.
وقوله تعالى : {إِن الشيطان لكم عدو...} الخ ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أُمروا بعداوة الشيطان ، فاشتغلوا بعداوته ومحارتبه ، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب ، وقوم فهموا من سر الخطاب : إن الشيطان لكم عدو ، وأنا لكم حبيب ، فاشْتَغلُوا بمحبة
103
(6/160)
الحبيب ، فكفاهم عداوة العدو. قيل لبعضهم : كيف صُنعك مع الشيطان ؟ فقال : نحن قوم صرفنا هِممنا إلى الله ، فكفانا مَن دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب ، أو قطع الإهاب ، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر الله ، والفناء فيه ، ولكن الدواء هو الغيبة عنها ، والاشتغال بالله دائماً ، فإذا أظهرتْ رأسها بقيام شهوتها ، دُقّه ، بعكس مرادها ، وغِبْ عنها في ذكر الله. ومن حِكم شيخنا البوزيدي رضي الله عنه : " انس نفسك بالله ، واعتمد على فضل الله ، وامتثل شيئاً ما ، وينوب الله ". وفي الحكم العطائية : " إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". وقال أيضاً : " وحرّك عليك النفس ليدون إقبالك عليه ". وقال : " لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ، ومحو دعاويك ، لم تصل إليه أبداً. ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه ، غطى وصفك بوصفه ، ونعتك بنعته ، فوصلك بما منه إليك ، لا بما منك إليك ".
جزء : 6 رقم الصفحة : 102
قلت : {أفمن} : مبتدأ حُذف خبره ، أي : كمن هداه الله ، أو ذهبت نفسك عليه حسرات. و {حسرات} : مفعول له. وجَمعها لتضاعف اغتمامه ، أو تعدُّد مساوئهم. و {عليهم} : صلة لتذهب ، كما تقول : هلك عليه حُبًّا ، ومات عليه حُزناً. ولا يتعلق بحسرات ؛ لأن المصدر لا يتقدَّم عليه صلته ، إلا أن يتسامح في الجار والمجرور.
(6/161)
يقول الحق جلّ جلاله : {أفمن زُيّن له سُوءُ عمله} بأنْ غلَب هواه على عقله ، وجهله على علمه ، حتى انعكس رأيه ، {فرآه حَسَناً} فرأى الباطل حقًّا ، والقبيح حسناً ، كمَن هداه الله واستبصر ، فرأى الحق حقًّا ، والباطل باطلاً ، فتبع الحق ، وأعرض عن الباطل ، ليس الأمر كذلك ، {فإِن الله يُضِلُّ من يشاء ويهدي من يشاء} فمَن أضله رأى الباطل حقًّا ، فتبعه ، ومَن هداه رأى الباطل باطلاً ، فاجتنبه ، والحق حقًّا فاتبعه. {فلا تَذْهَبْ نفسُك عليهم حسرات} أي : فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب ، فإن أمرهم بيدي ، وأنا أرحم بهم منك ، فإنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب. {إِن الله عليم بما يصنعون} فيجازيهم عليه ، وهو وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.
الإشارة : إذا أراد الله إبعاد قوم غطّى نور بصيرتهم بظلمة الهوى فيُزيّن في عينهم القبيح ، ويستقبح المليح ، فيرون القبيح حسناً ، والحسن قبيحاً ، كما قال الشاعر :
يُغمى على المرء في أيام مِحنته
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
104
قال القشيري : ومعنى التزيين ؛ كالكافر ، يَتَوَهَّمُ أنَّ فعله حَسَنٌ ، وهو عند الله من أقبح القبيح ، ثم الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها ، ويحوّش حُطَامها ، لا يتفكر في زوالها ، ولا في ارتحاله عنها من قبل كمالها ، ولقد زيَّن له سوء عمله ، والذي يتبع الشهوات يبيع مؤبد راحته في الجنة ، بمتابعة شهوة ساعة ، فلقد زُين له سُوءُ عمله ، والذي يُؤيِرُ على ربِّه شيئاَ من المخلوقات ، فهُو من جملتهم ، والذي يتوهَّمُ أنه إذا وَجَدَ النجاة والدرجات في الجنة فقد اكتفى ، فقد زُيِّن له سوءُ عمله ، حيث تغافل عن حلاوة مناجاته. والذي هو في صحبة حظوظه ، دون إيثار حقوق الله ، فقد زُين له سوء عمله فرآه حسناً. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 104
(6/162)
قلت : وكذلك مَن وقف مع الكرامات والمقامات ، وحلاوة الطاعات ، دون درجة المشاهدة ، فقد زُين له سوء عمله. والحاصل : كل مَن وقف مع شيء ، دون تحقيق الفناء في الذات ، فهو مُزيَّن له سوء عمله. وكل مَن لم يصحب الرجال فهو غالط ، يظن أنه واصل ، وهو منقطع في أول البدايات. وبالله التوفيق. وقوله تعالى : {فلا تَذهب نفسك عليهم حسرات} ، كذلك يقال للواعظ ، إذا رأى إدبار الخلق ، وعدم تأثير الوعظ فيهم ، فليكتفِ بعلم الله فيهم ، ولا يتأسّف على أحد ، فإن التوفيق بيد الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 104
قلت : " كذلك " : خبر مقدّم ، و " النشور " : مبتدأ.
يقول الحق جلّ جلاله : {واللهُ الذي أرسلَ الرياحَ} وفي قراءة بالإفراد ، للجنس ، {فتُثير سحاباً} أي : تزعجه ، وعبَّر بالمضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة ، التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب ، الدالة على كمال القدرة وباهر الحكمة. {فسُقناه إِلى بلدٍ ميتٍ} لا نبات فيه ، {فأحيينا به} أي : بالمطر النازل منه {الأرضَ بعد موتها} بعد يبسها. وعدل من الغيبة إلى التكلم ؛ لأنه أدخل في الاختصاص ؛ لِمَا فيه من مزيد بديع الصنع ، {كذلك النشورُ} أي : مثل إحياء الموات نشور الأموات. وقيل : يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش ، كمنيّ الرجال ، فتنبت به الأجسادُ في قبورها ، ثم يرسل الأرواح فتدخل في أشباحها. قال أبو رزين : قلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال : " هل مررت بواد أهلك مَحْلاً ؟ ـ أي جدباً ـ " قلت : نعم ، قال : " فكذلك يُحيي الله الموتى ، وتلك آية الله في خلقه ".
105
(6/163)
الإشارة : والله الذي أرسل رياح الهداية ، فتزعج سحاب الغين عن قلوب أهل الهداية ، فسقناه ـ أي : ريح الهداية ـ إلى قلب ميت بالغفلة والجهل بالله ، فأحيينا بالوارد الناشىء عن ريح الهداية أرضَ النفوس ، بالنشاط إلى العبادة ، والذكر ، والمعرفة ، بعد موتها بالغفلة والقسوة ، كذلك النشور. وذلك عِزها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 105
(6/164)
يقول الحق جلّ جلاله : {من كان يريدُ العِزَّةَ} أي : الشرف والمنعة على الدوام ، في الدنيا والآخرة ، {فللّه العزةُ جميعاً} فليطلبها من عنده ، بالتقوى ، والعلم ، والعمل الصالح ، كالزهد في الدنيا ، والتبتُّل إلى الله ، أي : فالعزة كلها مختصة بالله ، عز الدنيا وعز الآخرة. وكان الكفار يتعززون بالأصنام ، كما قال تعالى : {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا} [مريم : 81] ، والمنافقون كانوا يتعزّزون بالمشركين ، كما قال تعالى : {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً} [النساء : 139] ، فبيَّن أن العزة إنما هي لله بقوله : " فإن العزة لله " فليطلبها مَن أرادها من عنده. فوضع قوله : {فلله العزةُ} موضعه ، استغناء به عنه ؛ لدلالته ؛ لأن الشيءَ لا يُطلب إلا من عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك : مَنْ أراد النصيحة ؛ فهي عند الأبرار ، أي : فليطلبها من عندهم. وفي الحديث : " إن ربكم يقول كل يوم : أنا العزيز ، فمَن أراد عزّ الدارين فليُطِعِ العزيز ". ثم ذكر ما يطلب به العز ، وهو العمل المقبول ، بقوله : {إِليه يَصْعدُ الكَلِمُ الطيبُ} كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، وما يلحقها من الأذكار ، والدعاء ، والقراءة. وعنه صلى الله عليه وسلم : " هو سُبحان الله والحمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبرُ. إذا قالها العبدُ عَرَجَ بها الملكُ إلى السماء ، فحَيّا بها وَجْهَ الرحمن " وكان القياس : الطيبة ، ولكن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا التاء يُذكّر ويؤنّث. ومعنى الصعود : القبول والرضا ، وكل ما اتصف بالقبول وُصف بالرفعة والصعود.
(6/165)
{والعملُ الصالحُ} كالعبادة الخالصة {يرفعه} الله تعالى ، أي : يقبله. أو : الكلم الطيب ، فالرافع على هذا الكلم الطيب ، والمرفوع العمل الصالح ، أي : والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ؛ لأن العمل متوقف على التوحيد ، المأخوذ من الكلم الطيب ؛ وفيه إشارة إلى أن العمل يتوقف على الرفع ، والكَلِم الطيب يصعد بنفسه ، ففيه ترجيح الذكر على سائر العمل. وقيل : بالعكس ، أي : والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب ، فإذا لم يكن
106
عمل صالح فلا يقبل منه الكلم الطيب. وقيل : والعمل الصالح يرفعُ العامل ويشرفه ، أي : مَن أراد العزّة والرفعة فليعمل العمل الصالح ؛ فإنه هو الذي يرفع العبد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 106
ثم ذكر سبب الذل في الدارين ، فقال : {والذين يمكرون} المكرات {السيئاتِ} فالسيئات : صفة لمصدر محذوف ؛ لأن " مكر " لا يتعدى بنفسه. والمراد : مكر قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة ؛ كما قال تعالى : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [الأنفال : 30] الآية. {لهم عذاب شديد} في الآخرة ، {وَمَكْرُ أولئك هو يَبورُ} أي : يفسد ويبطل ، دون مكر الله بهم ، فالضمير يفيد الاختصاص.
الإشارة : العز على قسمين : عز الظاهر ، وعز الباطن ، فعز الظاهر هو تعظيم الجاه وبُعد الصيت ، واحترام الناس لصاحبه ، ولمَن تعلّق به ، وسببه : التقوى ، والعلم ، والعمل ، ومكارم الأخلاق ؛ كالسخاء ، والتواضع ، وحسن الخلق ، والإحسان إلى عباد الله. وعز الباطن : هو الغنى بالله ، وبمعرفته ، والتحرُّر من رق الطمع ، والتحلّي بحلية الورع. وسببه الذل لله ، يُظهر ذلك بين أقرانه ، كما قال الشاعر :
تذلَّلْ لمَن تَهْوَى لِتَكْسِبَ عِزةً
فكم عزةٍ نالها المرء بالذُّلِّ>> إذا كان مَن تَهْوى عزيزاً ولم تكن
ذليلاً له فاقْرِ السلامَ على الوَصْلِ
(6/166)
وغايته : الوصول إلى معرفة الشهود والعيان. فإذا تعزّز القلب بالله لم يلتفت إلى شيء ، ولم يفتقر إلى شيء ، وكان حرًّا من كل شيء ، عبداً لله في كل شيء. وقد يجتمع للعبد العزان معاً ، إذا كان عارفاً بالله عاملاً ، وقد ينفرد عز الظاهر في أهل الظاهر ، وينفرد عز الباطن في بعض أهل الباطن ، يتركهم تحت أستار الخمول ، حتى يلقوه وهم عرائس الأولياء ، ضنّ بهم الحق تعالى عن خلقه ، فلم يُظهرهم لأحد ، حتى قدموا عليه ، وهم الأولياء الأخفياء الأتقياء ، كما ورد مدحهم في الحديث. وكلا العزين لله ، وبيد الله ، فلا يُطلب واحد منهما إلا منه سبحانه.
قال القشيري : وقال في آية أخرى : {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] فأثبت العزة لغيره ، والجمع بينهما : أن عِزَّة الربوبية لله وَصْفاً ، وعزَّة الرسول والمؤمنين لله فضْلاً ، ومنه لطفاً ، فإذاً العزة لله جميعاً. والكلم الطيب هو الذي يصدر عن عقيدة طيبة ، وقلب طيب ، لا كدر فيه ولا أغيار ، وقيل : ما ليس فيه حظ للعبد ، وقيل : ما يستخرج من العبد ، وهو فيه مفقود ، وقيل : ما ليس فيه حاجة ، ولا يطلب عليه عوض ، وقيل : ما يشهد بصحته الإذن والتوقيف. انظر القشيري.
ويؤخذ من قوله : {والعملُ الصالحُ يرفعه} أن العمل إذا بقي بين عين العبد يلحظه ، وينظر إليه ، فهو علامة على عدم قبوله ، إذ لو قُبل لرفع عن نظره ، فلا عمل أرجى للقلوب من عمل يغيب عنك شهوده ، ويختفي لديك وجوده. والذين يمكرون بالأولياء ، المكرات
107
السيئات ، لهم عذاب شديد ، وهو البُعد من الله ، ومكر أولئك هو يبور. وأما الأولياء فهم في حجاب مستور ، من كل مكر وخداع وغرور.
جزء : 6 رقم الصفحة : 106
(6/167)
يقول الحق جلّ جلاله : {والله خَلَقَكم} أي : أباكم {من تراب ، ثم} أنشأكم {من نُطفةٍ ثم جعلكم أزواجاً} أصنافاً ، أو : ذكراناً وإناثاً ، {وما تحمل من أُنثى ولا تضعُ إِلا بعلمه} إلا معلومة له ، وقتاً وكيفية ، {وما يُعَمَّرُ من مُعَمَّرٍ} أي : وما يمد في عمر أحد فيكون طويلاً. وإنما سمّاه معمّراً لِمَا هو صائر إليه ، {ولا يُنْقَصُ من عُمُرِه} أي : يكون عمره قصيراً {إِلا في كتاب} أي : اللوح المحفوظ ، أو : صحيفة الإنسان. وقال ابن جبير : " مكتوب في أول الكتاب : عمره كذا وكذا ، ثم يكتب أسفل ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، ذهب ثلاثة ، حتى ينقطع عمره ". ففسر النقص بالذهاب ، ولا يذهب شيء من عمره إلا في كتاب. ويمكن أن يُجري على ظاهره ، باعتبار المحو والإثبات في غير أم الكتاب ، كما ورد في صلة الرحم وقطعها. وانظر عند قوله : {يَمْحُواْ اللهُ مَا يَشَآءُ...} [الرعد : 40] إلخ. {إِنَّ ذلك على الله يسيرٌ} أي : إحصاء الأعمار ، أو زيادتها ونقصانها ، سهل على علم الله وقدرته.
الإشارة : أصل نشأة الأشباح من الصلصال ، وأصل نشأة الأرواح من نور الكبير المتعال ، فمَن غلبت طينته على روحانيته ، وهواه على عقله ، التحق بالبهائم ، ومَن غلبت روحانيته على بشريته ، وعقله على هواه ، التحق بالملائكة الكرام.
(6/168)
وقوله تعالى : {وما يُعَمَّرُ من معمر...} الآية ، طول العمر وقصره عند الحكماء ، ليس هو بكثرة آماده ، وإنما هو بكثرة أمداده. وفي الحكم : " رُبّ عمر اتسعت آماده ، وقلّتْ أمداده ، ورُبّ عمر قليلة آماده ، كثيرة أمداده ". والأمداد : ما يجد القلب من معارف الله ، وعلومه ، وأنواره ، وأسراره. فرُبّ قلب استمد في زمان قليل ، من العلوم والمعارف والأسرار ، ما لم يستمده غيره في أزمنة متطاولة. وقال أيضاً : " مَن بورك له في عمره ، أدرك في يسير من الزمان من منن الله تعالى ، ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ، ولا تلحقه الإشارة ". والغالب أن هذه الأمداد إنما تُنال بصحبة الرجال العارفين بالله ، فإن المدد الذي يحصل له معهم في ساعة واحدة ؛ لا يحصل في أزمنة طويلة مع غيرهم ، ولو كثرت صلاتهم وصيامهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 108
وقال في القوت : فإن البركة في العمر أن تدرك في عمرك القصير ، بيقظتك ، ما فات
108
غيرك في عمره الطويل بعْد ، فيرتفع لك في السنة ما لا يرتفع لغيرك في عشرين سنة. وللخصوص من المقربين في مقامات القرب عند التجلي بصفات الرب إلحاق برفع الدرجات ، وتدارُكٌ بما فات عند أذكارهم ، وأعمال قلوبهم ، اليسيرة ، في هذه الأوقات. فكل ذرة من تسبيح ، أو تهليل ، أو حمد ، أو تدبُّر ، أو تبصرة ، أو تفكُّر وتذكرة ، لمشاهدة قرب ، ووجد برب ، ونظرة إلى حبيب ، ودنو من قريب ، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الغافلين ، الذين هم لنفوسهم واجدون ، وللخلق مشاهدون. ومثال العارفين ، فيما ذكرناه ؛ من قيامهم بشهادتهم ورعايتهم لأماناتهم وعهدهم ، في وقت قربهم وحضورهم ؛ مثلُ العامل في ليلة القدر ، العمل فيها ، لمَن وافقها ، خير من ألف شهر. وقد قال بعض العلماء : كل ليلة للعارف بمنزلة ليلة القدر. هـ. منه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 108
(6/169)
يقول الحق جلّ جلاله : {وما يستوي البحرانِ} في العذوبة والملوحة ، بل هما مختلفان ، والماء واحد ، {هذا عذب فُرات} أي : شديد العذوبة. وقيل : هو الذي يَكْسر العطش ؛ لشدة برودته ، {سائغ شَرابُهُ} أي : سهل الانحدار ، مريء ، لعذوبته ، {وهذا مِلحٌ أُجاج} شديد الملوحة ، وقيل : الذي تُحرِق ملوحته. {ومن كُلِّ} أي : من كل واحد منهما {تأكلون لحماً طرياً} وهو السمك ، {وتستخرجون حِليةً} وهي اللؤلؤ والمرجان. قيل : من الملح فقط. وقيل : منهما. قال بعضهم : نسب استخراج الحلية إليهما ؛ لأنه تكون في البحر عيون عذبة ، تمتزج بماء الملح ، فيكون اللؤلؤ من ذلك. هـ. {تلبسونها} أي : نساؤكم ؛ لأن القصد بالتزيُّن هو الرجال.
{وترى الفلكَ} السفن ، {فيه مواخِرَ} شواقّ للماء بجريها ، يقال : مخرت السفينة الماء : شَقَّته ، وهي جمع ماخرة ، {لتبتغوا من فضله} من فضل الله ، ولم يتقدم له ذكر في الآية ؛ ولكن فيما قبلها ، ولو لم يجرِ له ذكر ، لم يشكل لدلالة المعنى عليه. {ولعلكم تشكرون} الله على ما أولاكم من فضله.
وقيل : هو ضرب مثل للكافر والمؤمن ، فالمؤمن يجري عذب فُرات ، والكافر ملحٌ أُجاج. ثم ذكر ـ على سبيل الاستطراد ـ ما يتعلق بالبحرين من نِعَم الله وعطائه. ويحتملُ أن يكون على غير الاستطراد ، وهو أن يشبّه الجنسيْن ، ثم يفضّل البحر الأجاج على الكافر ، وهو ما خصّ به من المنافع ، كاستخراج اللؤلؤ ، والمرجان ، والسمك ، وجري الفلك فيه ، وغير ذلك. والكافر خلوّ من المنافع بالكلية ، فهو على طريقة قوله تعالى :
109
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ} ثم قال : {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهَ الأَنْهَارُ...} [البقرة : 74].
(6/170)
الإشارة : بحر الشريعة عذب فُرات ، سائغ شرابه ، وبحر الحقيقة مِلح أُجاج ؛ لأنه مُرّ على النفس ، يحتاج ركوبه إلى بذل المُهج والنفوس ، وحط الرؤوس ، وبذل الأموال ، ورفض الأوطان والدنيا وأهلها. بخلاف الشريعة ، فلا تحتاج إلى هذا كله ، وإن كانت متوقفة على مشاق التعلُّم والتدريس ، ولن تُنال مع بقاء عز النفس والمال والجاه ، وغير ذلك. ومن كُلٍّ تأكلون لحماً طرياً ، فبحر الشريعة يُنال منه حلاوة المعاملة الظاهرة ، وبحر الحقيقة يُأكل منه حلاوة الشهود والمعرفة. وترى سُفن الأفكار في بحار الأحدية ، مواخر ، تجول في عظمة بحر الجبروت والملكوت ، ولِتبتغوا من فضله تمامَ معرفته ، ولتكونوا من الشاكرين أي : ممن يعبد شُكراً ، لا قهراً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 109
قال القشيري : وما يستوي الوقتان ، هذا بسط ، وصاحبه في رَوْح ، وهذا قبضٌ ، وصاحبه في نَوْح. هذا خوفٌ وصاحبه في اجتياح ، وهذا رجاءٌ وصاحبه في ارتياح. قلت : الرجاء عذب. والخوف ملح ، خلاف ما يقتضي كلامه. ثم قال : هذا فرق ، وصاحبه بوصف العبودية ، وهذا جمع ، وصاحبه بشهود الربوبية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 109
يقول الحق جلّ جلاله : {يُولج الليلَ في النهار ويُولج النهارَ في الليل} أي : يُدخل من ساعات أحدهما في الآخر ، حتى يصير الزائدُ منهما خمس عشرة ساعة ، والناقص تسعاً. {وسخَّر الشمسَ والقمرَ} ذللها لِمَا يُراد منهما ، {كُلٌّ يجري لأجلٍ مسمى} أي : يوم القيامة ، فينقطع جريهما ، {ذلكم اللهُ ربكم} الإشارة إلى فاعل هذه الأشياء ، وهي : مبتدأ ، و " الله " وما بعده : أخبار ، {له الملكُ} له التصرف التام. {والذين تَدْعُون من دونه} من الأصنام ، أي : تعبدونهم ، {ما يملكون من قِطْمِير} وهي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة ، كما أن النقير : النقطة في ظهره. وهما كنايتان عن حقارة الشيء وتصغيره.
(6/171)
{إِن تدْعُوهُم} أي : الأصنام {لا يسمعوا دعاءَكم} لأنهم جماد ، {ولو سَمِعُوا} على سبيل الفرض {ما استجابوا لكم} لأنهم لا يدّعون ما تدّعون لهم من الإلهية ، بل يتبرؤون منها. {ويومَ القيامة يكفرون بشِرْكِكم} بإشراككم لهم ، وعبادتكم إياهم. ويقولون : {مَّا كُنتُم إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس : 28]. {ولا يُنبئك مِثْلُ خبيرٍ} أي : ولا يخبرك
110
بالأمر على حقيقته مخبر مثل خبير به ، وهو الله تعالى ؛ فإنه خبير به على الحقيقة ، دون سائر المخبرين. والمراد : تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ، ونفي ما يدعون لها. أو : ولا يخبرك أيها المفتون بأسباب الغرور ، كما ينبئك الله الخبير بخبايا الأمور وتحقيقها ، أي : لا يخبرك بالأمور مخبر هو خبير عالم به ، يريد أنَّ الخبير بالأمور وحده هو الذي يُخبرك بالحقيقة ، دون سائر المخبرين. والمعنى : أنَّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ؛ أنه خبيرٌ بما أخبرتُ به. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قال الشيخ : أبو العباس المرسي رضي الله عنه : يُولج الليل في النهار ، ويولج النهارَ في الليل. يُولج المعصية في الطاعة ، ويُولج الطاعة في المعصية. يعمل العبد الطاعة فيُعجب بها ، ويعتمد عليها ، ويستصغر مَن لم يفعلها ، ويطلب من الله العوض عليها ، فهذه حسنات أحاطت بها سيئات. ويُذنب العبدُ الذنبَ ، فيلتجىء إلى الله فيه ، ويعتذر منه ، ويستصغر نفسه ، ويُعظم مَن لم يفعله ، فهذه سيئة أحاطت بها حسنات ، فأيتهما الطاعة ، وأيتهما المعصية ؟ هـ. أو : يولج ليلَ القبض في نهار البسط ، وبالعكس ، أو : يولج ليلَ الحجبة في نهار الكشف ، ونهارَ الكشف في ليل القطيعة ، يتواردان إلى حال طلوع شمس العرفان ، فلا غروب لها ، كما قال الشاعر :
جزء : 6 رقم الصفحة : 110
طلعت شمسُ من أُحب بليلٍ
واستنارت فما تلاها غروب>> إنَّ شمسَ النهارِ تَغْربُ بالليـ
ـل وشمس القلوبِ ليستْ تغيبُ
(6/172)
قال القشيري : يُولج الليل في النهار ، تغلب النَّفسُ مرةً على القلب ، وبالعكس ، وكذلك القبضُ والبسط ، فقد يستويان ، وقد يغلب أحدُهما ، وكذلك الصحو والسُكْرُ ، والفناء والبقاء ، وآثار شموس التوحيد ، وأقمار المعرفة على ما يريد من إظهارها على القلوب. فهذه كلها يولج أحدها في الآخر. ولا يعرف هذا إلا مَن تحقق بفقره إلى الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 110
يقول الحق جلّ جلاله : {يا أيها الناس أنتم الفقراءُ إِلى الله} في دقائق الأمور وجليلها ، في كل لحظة لا يستغني أحد عنه طرفة عين ، ولا أقل من ذلك ؛ إذ لا قيام للعبد إلا به ، فهو مفتقر إلى الله ، إيجاداً وإمداداً. قال البيضاوي : وتعريف الفقراء ؛ للمبالغة في فقرهم ، كأنهم لشدة افتقارهم ، وكثرة احتياجهم ، هم الفقراء دون غيرهم ، وأن افتقار سائر الخلق بالإضافة إلى فقرهم غير مُعتد به ، ولذلك قال : {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء : 28]
111
قلت : ويمكن أن يكون الحصر باعتبار الحق تعالى ، أي : أنتم فقراء دون خالقكم ، بدليل وصله بقوله : {والله هو الغنيُّ الحميدُ}.
وقال ذو النون رضي الله عنه : الخلقُ محتاجون إليه في كل نَفَسٍ ، وطرفة ، ولحظة ، وكيف لا ووجودهم به ، وبقاؤهم به ؟ {والله هو الغنيُّ} عن الأشياء كلها ، {الحميدُ} أي : المحمود بكل لسان. ولم يَسمِّهم بالفقر للتحقير ، بل للتعظيم ؛ لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغني ؛ أغناه عن أشكاله وأمثاله. وذكر " الحيمد " ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خَلْقه ، والجواد المنعم عليهم ؛ إذ ليس كلّ غنيّ نافعاً بغناه ، إلا إذا كان الغنيُّ جواداً منعماً ، وإذا جاد وأنعم ، حمده المُنعَم عليهم.
(6/173)
ولَمَّا ذكر افتقارم إلى نعمة الإيجاد ، ذكر افتقارهم إلى نعمة الإمداد ، بقوله : {إِن يشأ يُذهبكم} أي : إن يشأ يُفنيكم كلكم ، ويردكم إلى العدم ؛ فإنَّ غناه بذاته ، لا بكم ، {ويأتِ بخلقٍ جديدٍ} يكون أطوع منكم ، أو بعالَم آخر غير ما تعرفون. {وما ذلك} أي : الإفناء والإنشاء {على الله بعزيز} بممتنع. وعن ابن عباس : يخلق بعدكم مَن يعبده ، لا يشرك به شيئاً. قال القشيري : فقر الخِلْقَة عام لكلِّ أحدٍ ، في أول حال وجوده ؛ ليُبديه وينْشيه ، وفي ثاني حال بقائه ؛ ليُديمَه ويُبقيَه. هـ. قلت : وإليه أشار في الحِكَم بقوله : " نعمتان ما خلا موجود عنهما ، ولا بد لكل موجود منهما : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، أنعم أولاً بالإيجاد ، وثانياً بتوالي الإمداد ".
(6/174)
الإشارة : الفقر على أربعة أقسام : فقر من الدين ، وفقر من اليقين ، وفقر من المال ، وفقر مما سوى الله. فالأولان مذمومان ، وصاحبهما موسوم بالإفلاس والهلع ، ومنهما وقع التعوُّذ في الحديث. والثالث : إن صحبه الرضا فممدوح ، وفيه وردت الأحاديث النبوية ، وإلاَّ فمذموم ، ويشمله التعوُّذ في الحديث. الرابع : هو مطلب القاصدين والعارفين ، وهو الغيبة عما سوى الله ، والغنى بالله ، كما قال الشيخ أبو الحسن : " أسألك الفقر عما سواك ، والغنى بك ، حتى لا نشهد إلا إياك " وهو ينشأ عن التحقُّق بالفقر ظاهراً وباطناً ؛ لأن الفقر من وصف العبد ، والغنى من وصف الرب ، فمَن تحقق بوصفه أمدّه الله بوصفه ، " تحقق بوصفك يُمدك بوصفه ، تحقق بفقرك يمدك بغناه ، تحقق بذلك يمدك بعزه ". وقال القشيري : بعد كلام ـ : والفقراءُ على أقسام : فقير إلى الله ، وفقير إلى شيء هو من الله ؛ معلومٍ ومرسوم. ومَن افتقر إلى شيءٍ استغنى بوجود ذلك الشيء ، فالفقير إلى الله هو الغني بالله ، فالافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله. فالفقير إليه مُسْتَغْنٍ به ، والمستغنى به فقيرٌ إليه. ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخشوع ، ومن آفات الغنى امتزاجُه بالتكبُّر. وشَرَفُ العبد وعزه في فقره ، وذُلُّه وصغاره في توهمه الغنى ، وأنشدوا :
جزء : 6 رقم الصفحة : 111
وإذا تذلّلَت الرقابُ تَقَرُّباً
منَّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها
112
ومن شرط الفقير : ألا يملك شيئاً ، ولا يملكه شيء. ومن آداب الفقير الصادق : إظهارُ التكثُّر عند وجود التقتُّر ، والشكر على البلوى ، والبُعد عن الشكوى. ويقال : الفقر المحمود : العيش مع الله براحة الفراغ على سَرْمَدِ الوقت ، من غير استكراه شيء منه بكلِّ وجْهٍ. هـ. ملخصاً.
(6/175)
قال الورتجبي : فطرة الإنسانية وقعت من الغيب مضطربة متحركة إلى الأزل ، بنعت الافتقار إليه ، كانجذاب الحديد إلى المغناطيس ؛ لأنها وقعت بنعت العشق ، والعاشق مفتقر إلى معشوقه ، انفعالاً ، فمَن عرفه بالأزلية والأبدية يفتقر إليه افتقاراً قطعيًّا ؛ لأن بقاءه لا يكون إلا به. وإذا كان كذلك صار غنيًّا بالله ، متصفاً بغناه ، غنيًّا به عن غيره ، مفتقراً إليه. فإذا كان في محل الصحو يكون مفتقراً إليه ، وإذا كان في محل السكر بقي في رؤية غناه عنه ، فصار محجوباً عنه ، ولا يدري. هـ.
وقال سهل رضي الله عنه : لَمَّا خلق الله الخلقَ حَكَمَ لنفسه بالغِنى ، ولهم بالفقر ، فمَن ادّعى الغِنى ، حُجب عن الله ، ومَن أظهر فقره أوصله فَقْرُه إليه. فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسرّ إليه ، ومنقطعاً عن الغير إليه ، حتى يكون عبوديّته لله محضة ، فالعبودية هي الذل والخضوع. هـ.
وقال الواسطي : مَن استغنى بالله لا يفتقر ، ومَن يتعزّز بالله لا يَذل. وقال يحيى بن معاذ : الفقرُ خير للعبد من الغِنى ؛ لأن الذلة في الفقر ، والكبر في الغِنى ، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال. وقيل : صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء ، والفقر إليه في كل شيء ، والرجوع إليه من كل شيء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 111
قلت : " وازرة " : صفة لمحذوف ، أي : نفس آثمة. و " إن تدع " : شرط ، و " لا يُحمل " : جواب ، و " لا " النافية لا تمنع الجواب من الجزم.
(6/176)
يقول الحق جلّ جلاله : {ولا تَزِرُ وازرة وِزْرَ أُخرى} أي : ولا تحمل نفس آثمة إثمَ نَفْسٍ أخرى ، والوزر والوِقر أخوان ، ووزَر الشيء : حمله. والمعنى : أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته ، فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى ، كما تأخذ جبابرةُ الدنيا الظلمةُ الجارَ بجريمة الجار ، والقريبَ بالقريب ، فذلك ظلم محض. وأما قوله تعالى : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت : 13] ففي الضالّين المضلّين ، فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وأثقال ضلالهم ، وكل ذلك أوزارهم ، ليس فيها شيء من أوزار
113
غيرهم. ألا ترى كيف كذّبهم الله تعالى في قوله : {اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت : 12].
قال ابن عطية : مَن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة ـ كفعل زياد ونحوه ، فإن ذلك ، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة ، أو مواصلة ، أو اطلاع على حاله ، أو تقرير له ، فهذا قد أخذ من الجُرم بنصيب. وهذا هو المعنى بقوله تعالى : {وليحملن أثقالهم...} الآية ؛ لأنهم أغروهم ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " مَن سنَّ سُنَّة حسنة.. " الحديث ، فراجعه. قلت : لا يجوز الإقدام على ظلم أحد بمجرد الظن ، فالصواب حسم هذا الباب ، والتصريح بتحريمه ؛ لكثرة جوز الحُكام.
(6/177)
ثم قال تعالى : {وإِن تَدْعُ} نفس {مثقلةً} بالذنب أحداً {إِلى حِمْلِها} أي : إلى حمل ثِقل ذنوبها ، ليتحمل عنها بعض ذلك ، {لا يُحْمَل منه شيءٌ ولو كان} المدعو ، المفهوم من قوله : {وإِن تدع} ، {ذا قُربى} ذا قرابة قريبة ، كأب ، وولد ، وأخ. والفرق بين معنى قوله : {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وبين قوله : {إِن تدع مثقلة إلى حِمْلها لا يُحمل منه شيء} أنَّ الأول دالّ على عدل الله في حكمه ، وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها ، والثاني : في بيان أنه لا غياث يومئذ لمَن استغاث ، فمَن أثقلته ذنوبه ثم استغاث بأحد لم يُغثه ، وهذا غاية الإنذار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 113
ثم بيّن مَن ينتفع به بقوله : {إِنما تُنذِرُ الذين يخشون ربهم} أي : إنما ينتفع بإنذارك مَن خشي ربه {بالغيب} أي : يخشون ربهم غائبين عنه ، أو : يخشون عذابه غائباً عنهم ، فهو حال ، إما من الفاعل أو المفعول المحذوف. أو : يخشون ربهم في حال الغيب ، حيث لا اطلاع للغير عليهم ، فيتقون الله في السر ، كما يتقون في العلانية. {وأقاموا الصلاةَ} أتقنوها في مواقيتها ، {ومَن تزكَّى} أي : تطهّر بفعل الطاعات ، وترك المنهيات ، {فإِنما يتزكَّى لنفسه} إذ نفعه يعود لها ، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم ، وإقامتهم الصلاة ؛ لأنها من جملة التزكي. {وإِلى الله المصيرُ} المرجع ، فيجازيهم على تزكيتهم ، وهو وعد للمتزكِّين بالثواب.
(6/178)
الإشارة : وبال الوزر خاص بصاحبه ، إلا إذا كان مقتدى به ، فإنَّ عيبه أو نقصه يسري في أصحابه ، حتى يطهر منه ؛ أن الصحبة صيرت الجسدين واحداً. وراجع ما تقدّم عند قوله : {واتَّقُوا فِتْنَةً...} [الأنفال : 25] الآية. قال القشيري : {ولا تزر وازرة وزر أخرى} كلٌّ مُطَالَبٌ بعمله ، ومحاسبٌ عن ديوانه. ولكلٍّ معه شأن ، وله مع كلِّ أحدٍ شأن ، ومن العبادات ما تجري فيها النيابة ، ولكن في المعارف لا تجري النيابة ؛ ولو أن عبداً عاصياً منهمكاً في غوايته فاتته صلاةٌ مفروضةٌ ، فلو قضى عنه ألفُ وليٍّ ، وألفُ صَفِيٍّ
114
تلك الصلاة الواحدة ، عن كل ركعةٍ ألف ركعةٍ لم تُقْبَلْ. هـ. وقال في قوله تعالى : {إِنما تُنذر...} الخ : الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة. والخشيةُ هي المخافة ، فمعنى الآية : لا ينتفع بالتخويف إلا صَاحِبُ الخوف ـ طيرُ السماء على إلافها تقع. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 113
يقول الحق جلّ جلاله : {وما يستوي الأعمى والبصيرُ} أي : لا يستوي الكافر والمؤمن ، أو الجاهل والعالم. وقيل : هما مثلان للصنم والله تعالى. {ولا الظلماتُ} كالكفر والجهل ، {ولا النورُ} كالإيمان والمعرفة ، {ولا الظلُّ} كنعيم الجنان ، {ولا الحَرورُ} كأليم النيران. والحَرور : الريح الحارّ كالسموم ، إلا أن السموم يكون بالنهار ، والحرور يكون بالليل والنهار. قاله الفرّاء.
(6/179)
{وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ} تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين ، أبلغ من الأول ، ولذلك كرر الفعل ، وقيل : للعلماء والجهال. وزيادة " لا " في الجميع للتأكيد ، وهذه الواوات بعضها ضمت شفعاً إلى شفع ، وبعضها وترأً إلى وتر. {إِن الله يُسْمِعُ من يشاء} بهدايته وتوفيقه لفهم آياته والاتعاظ بها. {وما أنت بمُسْمِعٍ مَن في القبور} شبّه الكفار بالموتى ، حيث لا ينتفعون بمسموعهم ، مبالغة في تصاممهم ، يعني أنه تعالى عَلِمَ مَن يدخل في الإسلام ممن لا يدخل ، فيهدي مَن يشاء هدايته ، وأما أنت فخفي عليك أمرهم ، فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين ، فإنذارهم كإنذار مَن في القبور من الموتى.
قال ابن عطية : الآية تمثيل بما يحسّه البشر ، ويعهده جميعنا من أنَّ الميت الذي في القبر لا يسمع ، وأما الأرواح ؛ فلا نقول : إنها في القبر ، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش ، وفي قناديل وغير ذلك ، وأن أرواح الكفرة في سجِّين ، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور ، فربما سمعت ، وكذلك أهل قليب بدر ، إنما سمعت أرواحهم ، فلا تعارض بين الآية وحديث القليب. هـ.
ثم قال تعالى : {إِن أنت إِلا نذيرٌ} أي : ما عليك إلا التبليغ والإنذار ، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفعه ، وإن كان من المصريين فلا عليك.
{إِنَّا أرسلناك بالحق} أي : محقاً ، أو : محقين : أو : إرسالاً مصحوباً بالحق ، فهو
115
(6/180)
حال من الفاعل ، أو المفعول ، أو صفة لمصدر محذوف ، {بشيراً} لمَن آمن {ونذيراً} لمَن كفر ، {وإِن من أُمَّةٍ إلا خلا فيها نذيرٌ} أي : ما من أمة من الأمم الماضية ، قبل أمتك ، إلا فيها نذير ؛ نبيّ ، أو عالم ، يخوفهم. ويقال لأهل كل عصر : أمة. والمراد هنا : أهل العصر. قال ابن عطية : معناه : أن دعوة الله تعالى قد عمَّت جميع الخلق ، وإن كان فيهم مَن لم تباشره النِّذارة ، فهو ممن بَلَغَته الدعوة ، لأن آدم بُعث إلى بنيه ، ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم. والآية تتضمن أن قريشاً لم يأتهم نذيرٌ ، ومعناه : نذيرٌ مباشر ، وما ذكر المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم ، فإنما ذلك بالفرض ، لا أنه توجد أُمةً لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 115
وذكر في الإحياء ، في باب التوبة : أنه يشبه أن يكون مَن لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد ، وعاشوا على البله وعدم المعرفة ، فلم تكن لهم معرفة ، ولا جحود ، ولا طاعة ، ولا معصية ، هم أهل الأعراف ؛ لأنه لا وسيلة تقربهم ، ولا جناية تُبعدهم ، فما هم من أهل الجنة ، ولا من أهل النار ، ويُتركون في منزلة بين المنزلتين ، ومقام بين المقامين. هـ. وقال ابن مرزوق في شرح حديث هرَقْل : الدين الحق هو الإسلام ، وما سواه باطل ، عقلاً ونقلاً ، فلا عذر لمنتحليه بالإجماع ، كان متأولاً مجتهداً ، أو مقلداً جاهلاً ؛ لأن أدلة الإسلام واضحة قطعية ، ومخالف مقتضاها مخطىء قطعاً. هـ.
(6/181)
وقال ابن عطية أيضاً ، ما نصه : آدم عليه السلام فمن بعده ، دعا إلى توحيد الله تعالى دعاءً عاماً ، واستمر ذلك على العالم ، فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع ، الآمر بتوحيد الله تعالى ، وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك ، بحسب إيجاب الشرع النظر فيها ، ويؤمن ، ولا يعبد غير الله ، فمَن فرضناه لم يجد سبيلاً إلى العلم ، فأولئك أهل الفترات ، الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة ، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين ، ومن قصر في النظر والبحث ، فَعَبَد صنماً أو غيره ، وكفر ، فهذا ترك الواجب عليه ، مستوجب للعقاب بالنار. هـ. وقال أيضاً : إنما صاحب الفترة بفرض أنه آدمي ، لم يصل إليه : أن الله بعث رسولاً ، ولا دعا إلى دين ـ وهذا قليل الوجود ـ إلا إن شذ في أطراف الأرض ، والمواضع المنقطعة عن العمران. هـ.
والحاصل : أن مَن بلغه خبر الشرائع السابقة ، والدعاء إلى توحيد الله ، لا عذر له ، وإنما بُعثت الرسل بعد ذلك تجديداً ، ومبالغة في إزاحة العذر ، وإكمال البيان. قاله المحشي.
الإشارة : وما يستوي الأعمى ، الذي لا يرى إلا حس الكائنات ، والبصير ، الذي فتحت بصيرته ، فشاهد المكوّن ، ولم يقف مع حس الكون ، ولا الظلمات : المعاصي
116
(6/182)
والغفلة ودائرة الحس ، ونور اليقظة والعفة والمعرفة ، ولا ظل برْد الرضا والتسليم ، وحرور التدبير والاختيار ، وما يستوي الأحياء ، وهم العارفون بالله ، الذاكرون الله ، والأموات الجاهلون ، أو الغافلون. قال القشيري : {وما يستوي الأعمى والبصير...} الآية ، كذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا ، والمجذوبُ إلينا والمحجوبُ عنَّا ، ومَن أشهدناه حقَّنا ، ومَن أغفلنا قلبه عن ذِكْرِنا. هـ. وقوله تعالى : {وإِن من أُمةٍ إِلا خلا فيها نذير} النذير على قسمين : نذير من وبال الذنوب ، ونذير من وبال العيوب. فوبال الذنوب : العذاب ، ووبال العيوب : الحجاب ، فمَن تطهَّر من الذنوب استوجب نعيم الجنان ، ومَن تطهّر من العيوب استوجب لذيذ الشهود والعيان. فالنذير الأول عالم بأحكام الله ، والثاني عارف بالله الأول مقتصد ، والثاني سابق ، ولا يخلو الدهر منهما ، حتى يأتي أمر الله ، فالشريعة باقية قائمة بقيام العلماء ، والطريقة والحقيقة قائمتان بقيام الأولياء العارفين بالله ، أهل التربية النبوية ، بالاصطلاح ، والهمة ، والحال. ومَن قال خلاف هذا فقد قال بالمحال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 115
(6/183)
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِن يُكذّبوك} أي : قومك {فقد كَذَّب الذين مِن قبلهم} رسلهم ، حال كونهم قد {جاءتهم رُسُلُهم بالبينات} بالمعجزات الواضحة ، {وبالزُّبر} وبالصحف {وبالكتاب المنير} أي : التوراة ، والإنجيل ، والزبور. ولَمَّا كانت هذه الأشياء من جنسهم ، أسند المجيء بها إليهمْ إسناداً مطلقاً ، وإن كان بعضُها في جميعهم ، وهي البينات ، وبعضها في بعضهم ، وهي الزُبُر والكتاب. ويجوز أن يراد بالزُبر والكتاب واحد ، والعطف لتغاير الوصفين ، فكونها زُبُر باعتبار ما فيها من المواعظ التي تزبر القلوب ، وكونها كتباً منيرة ؛ لِمَا فيها من الأحكام والبراهين النيِّرة. {ثم أخذتُ الذين كفروا} أي : ثم عاقبتُ الكفرة بأنواع العقاب ، {فكيف كان نكير} إنكاري عليهم ، وتعذيبي لهم ؟ والاستفهام للتهويل.
الإشارة : تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية. فأولياء كل زمان يتسلُّون بمَن سلف قبلهم ، فقد قُتل بعضهم ، وسُجن بعضهم ، وأُجلي بعضهم ، إلى غير ذلك ؛ زيادة في مقامهم وترقية بأسرارهم. والله عليم حكيم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 116
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ....}
117
قلت : {مختلفاً} : نعت {ثمرات}. و {مختلف ألوانه} : صفة لمحذوف ، أي : صنف مختلف.
(6/184)
يقول الحق جلّ جلاله : {ألم تَرَ أن الله أنزلَ من السماء ماءً فأخرجنا به} بالماء {ثمراتٍ مختلفاً ألوانُها} أي : أجناسها ، كالرمان ، والتفاح ، والتين ، والعنب ، وغيرها مما لا يُحصى ، أو : ألوانها : هيئاتها من الحُمرة والصفرة ونحوهما. {ومن الجبال جُدَد} طُرق مختلفة اللون. جمع : جُدَّة ، كمُدَّةٍ ومُدَدٍ. والجُدة : الطريقة والخطة ، تكون في الجبل ، تخالف لون ما يليها. وكل طريقة من سواد أو بياض فهي جُدة. قاله الهروي. وهي مبتدأ وخبر ، أي : وطرق {بِيض وحُمْرٌ} كائنة من الجبال.
{وغرابيبُ سود} أي : ومنها غرابيب سود ، أي : ومن الطرق سود غرابيب ؛ جمع : غربيب ، وهي الذي أبعد في السواد وأغرب ، ومنه : الغراب. قال الهروي : هي الجواد ذوات الصخور السود ، والغربيب : شديد السواد. هـ. وفي الصحاح : تقول هذا أَسود غربيب ، أي : شديد السواد ، وإذا قلت : غرابيب سود ؛ تجعل السود بدلاً من غرابيب ؛ لأن توكيد الألوان لا يتقدم. هـ. تقول : أصفر فاقع ، وأسود حالك ، ولا يتقدم الوصف ، ونقل الكواشي عن أبي عبيد : أن في الآية تقديماً وتأخيراً ، تقديره : وسود غرابيب. وفائدته : أن يكون المؤكد مضمراً ، والمظهر تفسيراً له ، فيدل على الاعتناء به ، لكونهما معاً يدلان على معنىً واحد. هـ. ولا بد من تقدير حذف مضاعف في قوله : {ومن الجبال جُدَد} أي : من الجبال ذو جدد بيض ، وحمر ، وسود غرابيب ؛ حتى يؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه ، كما قال : {ثمرات مختلفاً ألوانها}.
{ومن الناس والدوابِّ والأنعامِ مختلفٌ ألوانه} أي : ومنهم صنفٌ مختلف ألوانه بالحمرة والصفرة والبياض والسواد. {كذلك} أي : كاختلاف الثمرات والجبال. قال القشيري : تخصيص الفعل بهيئته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه. فإتقان الفعل وإحكامه شواهد الصنع وإعلامه. وكذلك أيضاً الناس والدواب والأنعام ، بل جميع المخلوقات ، متجانس الأعيان ، مختلف الصفات ، وهو دليل ثبوت منشئها بنعت الجلال هـ.
(6/185)
جزء : 6 رقم الصفحة : 117
الإشارة : ألم تر أن الله أنزل من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية ، فأخرجنا به ثمرات ، وهي العلوم والأذواق والوجدان ، مختلف ألوانها ، فمنها علوم الشرائع ، وتحقيق مسائلها ، ومنها علم العقائد ، وتشييد أدلتها وبراهينها ، ومنها علوم اللسان بإتقان قواعدها ، ومنها علم القلوب وتصفيتها من العيوب ، وهو علم الطريقة ، ومنها علم الأسرار ، وهي
118
أسرار الذات والصفات ، وهو علم الحقيقة. ومن جبال العقل طُرق بيض ، وحمر ، وسود ، فالبيض : طرق الكشف والبيان ، وحلاوة الذوق والوجدان ، والحُمر : طُرق الدليل والبرهان ؛ لأنها قد تظهر وتخفى ، والسود الغرابيب : عقول الفلاسفة والطبائعيين ، أهل الحدس والتخمين ، إذا لم يقتدوا بالكتاب المبين ، وشرعِ النبي الأمين. أولئك هم الضالون المضلُّون.
ولمّا كان النظر في هذه المصنوعات إنما يكون بالعلم ، ذكر أهله ، فقال :
{... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنما يخشى اللهَ} أي : يخافه {من عباده العلماءُ} لأنهم هم الذين يتفكرون في عجائب مصنوعاته ، ودلائل قدرته ، فيعرفون عظمته وكبرياءه ، وجلاله وجماله ، ويتفكرون فيما أعد الله لمَن عصاه من العذاب ومناقشة الحساب ، وفيما أعد لمَن خافه وأطاعه من الثواب ، وحسن المآب ، فيزدادون خشية ، ورهبة ، ومحبة ، ورغبة في طاعته ، وموجب رضوانه ، دون مَن عداهم من الجهّال. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :
(6/186)
" أعلمكم بالله أشدكم له خشية " وقال صلى الله عليه وسلم : " رأس الحكمة مخافة الله ". وقال الربيع بن أنس : مَن لم يَخشَ الله فليس بعالم ، وقال ابن عباس في تفسير الآية : كفى بالزهد عِلماً ، وقال ابن مسعود : كفى بخشية الله عِلماً ، وبالاعتذار جهلاً. وفي الحِكَم : " خيرُ علم ما كانت الخشية معه ". وقال في التنوير : اعلم أن العلم حيثما تكرر في الكتاب والسُنَّة ؛ فإنما المراد به العلم النافع ، الذي تٌقارنه الخشية ، وتكتنفه المخافة. قال تعالى : {إِنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} بيّن سبحانه أن الخشية تلازم العلم ، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية. هـ.
وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : واعلم أن العلم النافع ، المتفق عليه فيما سلف وخلف ، إنما هو العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخوف والخشية ، وملازمة التواضع والذلة ، والتخلُّق بأخلاق الإيمان ، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها ، وإيثار الآخرة عليها ، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى ، إلى غير ذلك من الصفات العلية ، والمناحي السنية. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 117
وقال في لطائف المنن : شاهد العلم ، الذي هو مطلب الله تعالى : الخشية ، وشاهد الخشية : موافقة الأمر ، فأما علم تكون معه الرغبة في الدنيا ، والتملُّق لأربابها ، وصرف
119
الهمة لاكتسابها ، والجمع ، والادخار ، والمباهاة ، والاستكثار ، وطول الأمل ، ونسيان الآخرة ، فما أبعد مَنْ هذا نعته مِنْ أن يكون من ورثة الأنبياء! وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث عنه. ومثل مَنْ هذه الأوصاف أوصافه من العلماء كالشمعة ، تُضيء على غيرها ، وهي تحرق نفسها. جعل الله العلم ـ الذي علمه من هذا وصفه ـ حجة عليه ، وسبباً في تكثير العقوبة لديه. هـ.
(6/187)
وتقديم اسم الله تعالى ، وتأخير العلماء ، يُؤذِن أن معناه : إن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم. ولو عكس ، بأن قال : إنما يخشى العلماءُ الله ، لكان المعنى : أنهم لا يخشون إلا الله.
وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز : بنصف " العلماء " ورفع " الله ". والخشية في هذه القراءة بمعنى التعظيم. والمعنى : إنما يعظم اللهُ من عباده العلماءَ. وعنه صلى الله عليه وسلم : " يقول الله للعلماء يوم القيامة ـ إِذا قَعَدَ على كُرسيِّه ، يفصل قضاء عباده : إني لم أجعلْ عِلْمي وحِلْمي فِيكُمْ ؛ إلا وأنا أُريدُ أن أغفرَ لكم ، على ما كان فيكم ، ولا أبالي " قال المنذري : انظر إلى قوله : " علمي وحلمي " يتضح لك بإضافته إليه أنه لم يرد به علم أكثر أهل الزمان المجرّد عن العلم به والإخلاص. وفي رواية : " لم أجعل حكمتي فيكم إلا لخير أُريده بكم ، ادخلوا الجنة بما فيكم ". وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " يُوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء ". {إِن الله عزيزٌ غفور} هو تعليل لوجوب الخشية ؛ لدلالته على عقوبة العصاة ؛ لعزته وغلبته ، وإثابة أهل الطاعة ، والعفو عنهم ؛ لعظيم غفرانه ، والمعاقب والمثيب حقه أن يُخشى.
الإشارة : العلماء على قسمين : علماء بأحكام الله ، وعلماء بالله ، العلماء بالأحكام يخشون غضبه وعقابه ، والعلماء بالله يخشون إبعاده واحتجابه ، العلماء بالأحكام يتقون مواطن الآثام ، والعلماء بالله يتقون سوء الأدب في حضرة الملك العلاّم. فخشية العلماء بالله أرق وأشد. العلماء بالله أخذوا علمهم من الله ، والعلماء بالأحكام أخذوا علمهم عن الأموات. قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه : في علماء أهل الرواية : مساكين أخذوا علمهم ميت عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 117
(6/188)
والفرق بين الخوف والرهبة والخشية : أن الخوف من العقاب ، والرهبة من العتاب ، والخشية من الإبعاد. قال القشيري : والفرق بين الخشية والرهبة : أنَّ الرهبة : خوفٌ يُوجِبُ هَرَبَ صاحبه ، فيجري في تفرقته. والخشية إذا حصلت كَبَحَت صاحبها ، فيبقى مع الله.
120
فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة ، والخوف قضية الإيمان ، قال تعالى : {وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 175]. والخشية قضية العلم والهيبة. هـ. ثم قال : العالم يخاف تقصيره في حقِّ ربه ، والعارف يخشى من سوء أدبه وترْك احترامٍ ، وانبساط في غير وقت ، بإطلاق لَفْظٍ ، أو تَرخِيص بِترْكِ الأَوْلى. هـ.
قال الورتجبي : الخوف عموم ، والخشية خصوص. وقد قرن سبحانه الخشية بالعلم ، أي : العلم بالله وجلاله وقدره وربوبيته وعبوديته له. وحقيقة الخشية : وقوع إجلال الحق في قلوب العارفين ، ممزوجاً بسنا التعظيم ، ورؤية الكبرياء والعظمة ، ولا يحصل ذلك إلا لمَن شاهد القدم ، والأزل ، والبقاء ، والأبد ، فمَن زاد علمه بالله زاد خشية ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " أنا أعرفكم بالله وأخشاكم منه " هـ. وفي الحديث : قيل يا رسول الله : أي الأعمال أفضل ؟ قال : " العلم " قيل : أيُّ العلم ؟ قال : " العلم بالله سبحانه " وقال صلى الله عليه وسلم : " ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعُه ؟ والله إني لأعلمُكم بالله ، وأشدُّكم له خشيةً ". ثم قال : عن جعفر الصادق : العلم أمْرُ تركِ الحرمة في العبادات ، وترك الحرمة في الحياء من الحق ، وترك الحرمة في متابعة الرسول ، وترك الحرمة في خدمة الأولياء الصدّيقين. هـ. ومعنى كلامه : أن العلم الحقيقي هو الذي يأمن صاحِبُه من انتهاك حرمة العبادات ، ومِن هتْك حرمة الاحتشام من الله ورسوله وأوليائه. ومَن أراد من العلماء السلامة من الاغترار بالعلم فليطالع شرح ابن عباد ، في قول الحِكَم : " العلم إن قارنته الخشية فلك ، وإلا ، فعليك ". وبالله التوفيق.
(6/189)
جزء : 6 رقم الصفحة : 117
يقول الحق جلّ جلاله : {إِن الذين يتلون كتابَ الله} أي : يُداومون على تلاوة القرآن {وأقاموا الصلاةَ} أتقنوها في أوقاتها ، {وأنفقوا مما رزقناهم} فرضاً ونفلاً {سراً وعلانيةً} مسرّين النفل ، ومعلنين الفرض ، ولم يقنعوا بتلاوته عن العمل به. وخبر " إن " : قوله : {يرجُونَ تجارةً لن تبور} لن تكسد ، وهو ثواب أعمالهم ، يعني : يطلبون تجارة ينتفي عنها الكسد ، وتنفق عند الله.
121
{ليُوَفّيَهم} متعلق بـ " تبور " ، أي : ليوفيَهم بإنفاقها عند الله {أُجُورهم} ثواب أعمالهم {ويَزيدَهُم من فضله} بتفسيح القبور ، أو : تشفيعهم في أهلهم ، ومَنْ أحسن إليهم ، أو : تضعيف حسناتهم ، أو : بتحقيق وعد لقائه.
(6/190)
أخرج ابن أبي شيبة عن بريدة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة ، حين ينشق عنه القبر ، كالرجل الشاحب ، يقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : ما أعرفك ، فيقول : أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر ، وأسهرت ليلتك ، فإنَّ كل تاجر وراء تجارته. قال : فيُعطى المُلك بيمينه ، والخُلد بشماله ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، ويُكسى والداه حُلَّتين ، لا تُقوّم لهما الدنيا ، فيقولان : بِمَ كُسِينَا هذا ؟ فيقال لهما : بأخْذِ وَلَدِكُما القرآنَ. ثم يقال له : اقرأ ، واصعد في درج الجنة وغرفها ، فهو في صعود ما دام يقرأ ". وذُكر في بعض الأخبار : أن حملة القرآن يُحشرون يوم القيامة على كثبان المسك ، وأنوارُ وجوههم تغشى النظار ، فإذا أتوا إلى الصراط تلقتهم الملائكة ؛ الذين وُكلوا بحملة القرآن ، فتأخذ بأيديهم ، وتُوضع التيجان على رؤوسهم ، والحُلل على أجسادهم ، وتُقرب إليهم خيل من نور الجنة ، عليها سُرُج المسك الأذفر ، ألجمتُها من اللؤلؤ والياقوت ، فيركبونها ، وتطير بهم على الصراط ، ويجوز في شفاعة كل واحد منهم مائة ألف ممن استوجب النار ، وينادي مناد : هؤلاء أحباء الله ، الذين قرأوا كتاب الله ، وعَمِلوا به ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. هـ.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 121
إِنه غفور شكور} غفور لهفواتهم ، شكور لأعمالهم ، يُعطي الجزيل ، على العمل القليل.
{والذي أوحينا إليك مِن الكتاب} أي : القرآن ، و " مِن " : للتبيين ، {هو الحقُّ} لا مرية فيه ، {مصدّقاً لما بين يديه} لما تقدمه من الكتب ، {إِن الله بعباده لخبير بصير} عالم بالظواهر والبواطن ، فعلِمَك وأبصر أحوالك ، ورآك أهلاً لأن يُوحي إليك هذا الكتاب المعجز ، الذي هو عِيار على سائر الكتب.
(6/191)
الإشارة : كل ما ورد في فضل أهل القرآن ، فالمراد به في حق مَن عَمِلَ به ، وأخلص في قراءته ، وحافظ على حدوده ، ورعاه حق رعايته. وقد ورد فيمن لم يعمل به ، أو قرأه لغير الله ، وعيد كبير ، وورد أنهم أول مَن يدخل جهنم. قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي ، بعد ذكر الحديثين في فضل حامل القرآن : وهذا مقيد بالعمل ، أي : فإنَّ منزلتك عند آخر آية مما عملتَ ، لا مما تلوتَ وخالفتَ بعملك ؛ لأنه لو كان
122
كذلك لانخرقت أصول الدين ، ويؤدي إلى أن مَن حفظ سرد القرآن اليوم ، يكون أفضل من كثير من الصحابة الأخيار ، والصالحين الأبرار ؛ فإن كثيراً من خيارهم مات قبل حفظ جميعه. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 121
يقول الحق جلّ جلاله : {ثم أورثنا الكتابَ} أي : أوحينا إليك القرآن ، وأورثناه مَنْ بعدَك ، أي : حكمنا بتوريثه {الذين اصطفينا من عبادنا} وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين ، وتابعيهم ، ومَن بعدهم إلى يوم الدين ؛ لأنَّ الله اصطفاهم على سائر الأمم ، وجعلهم أمة وسطاً ؛ ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بالانتساب إلى أكرم رسله. قال ابن عطية : الكتاب هنا يراد به معاني القرآن وأحكامه وعقائده ، فكأن الله تعالى أعطى أمة محمد القرآن ، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة قبله ، فكأنه وَرَّث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها. هـ.
(6/192)
ثم رتَّبهم مراتب ، فقال : {فمنهم ظالم لنفسه} بالتقصير في العمل به ، وهو المرجأ لأمر الله ، {ومنهم مقتصدٌ} وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، {ومنهم سابق بالخيرات} بأن جمع بين علمه والعمل به ، وإرشاد العباد إلى اتباعه. وهذا أوفق بالحديث ، فقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر ـ بعد قراءة هذه الآية : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " السابق يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة ، والظالمُ يُحبس ، حتى يظن أنه لن ينجو ، ثم تناله الرحمة ، فيدخل الجنة " رواه أبو الدرداء. وقال ابن عباس رضي الله عنه : السابق ، المخلص ، والمقتصد : المرائي ، والظالم : الكافر النعمة غير الجاحد له ، لأنه حَكَمَ للثلاثة بدخول الجنة. وقال الربيع بن أنس : الظالم : صاحب الكبائر ، والمقتصد : صاحب الصغائر ، والسابق : المجتنب لهما. وقال الحسن : الظالم : مَن رجحت سيئاته ، والسابق : مَن رجحت حسناته ، والمقتصد :
123
مَن استوت حسناته وسيئاته. وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال : كلهم مؤمنون. وأما صفة الكفار فبعد هذا ، وهو قوله : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} [فاطر : 36]. وأما الطبقات الثلاث فهم من الذين اصطفى من عباده ؛ لأنه قال : فمنهم ، ومنهم ، ومنهم ، والكل راجع إلى قوله : {الذين اصطفينا من عبادنا} فهم أهلُ الإيمان ، وعليه الجمهور.
جزء : 6 رقم الصفحة : 123
(6/193)
وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم ، وأنّ المقتصد : قليلٌ بالإضافة إليهم ، والسابقون أقل من القليل. وقال ابن عطاء : إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله. وقيل : إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربِّه. وقيل : لأن أول الأحوال معصية ، ثم توبة ، ثم استقامة. وقال سهل : السابق : العالم ، والمقتصد : المتعلم ، والظالم : الجاهل. وقال أيضاً : السابق : الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد : الذي اشتغل بمعاشه ومعاده ، والظالم : الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل : الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة ، والمقتصد : الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق : الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق. وقيل : الظالم : مَن أخذ الدنيا حلالاً وحراماً ، والمقتصد : المجتهد ألا يأخذها إلا من حلال ، والسابق : مَن أعرض عنها جملة.
وقيل : الظالم : طالب الدنيا ، والمقتصد : طالب الآخرة ، والسابق : طالب الحق لا يبغي به بدلاً. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. وقال عكرمة والحسن وقتادة : الأقسام الثلاثة في جميع العباد ؛ فالظالم لنفسه : الكافر ، والمقتصد : المؤمن العاصي ، والسابق : التقي على الإطلاق. وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} [الواقعة : 7] والتحقيق ما تقدّم.
وقوله : {بإِذْنِ الله} أي : بأمره ، أو : بتوفيقه وهدايته {ذلك} أي : إيراث الكتاب والاصطفائية. أو السبق إلى الخيرات {هو الفضلُ الكبيرُ} الذي لا أكبر منه ، وهو {جناتُ عَدْنٍ يدخلونها} أي : الفرق الثلاث ؛ لأنها ميراث ، والعاق والبار في الميراث سواء ، إذا كانوا مقرين في النسب. وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول. {يُحلَّون فيها من أساورَ} جمع أَسورة ، جمع سوار ، {من ذَهَبٍ ولؤلؤاً} أي : من ذهب مرصَّع باللؤلؤ. وقرأ نافع بالنصب ، عطف على محل أساور ، أي : يحلون أساور ولؤلؤاً. {ولباسُهُم فيها حريرٌ} لِمَا فيه من اللذة واليونة والزينة.
(6/194)
{وقالوا} بعد دخولهم الجنة : {الحمدُ لله الذي أذْهَبَ عنا الحزَن} خوف النار ، أو : خوف الموت ، أو : الخاتمة ، أو : هَم الرزق. والتحقيق : أنه يعم جميع الأحزان والهموم ، دنيوية أو أخروية ، وعن ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة ، في قبورهم ، ولا في محشرهم ، وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم ، وهم ينفضون التراب عن وجوههم ، فيقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " {إِنَّ
124
ربنا لغفور شكور} يغفر الجنايات ، وإن كثرت ، ويقبل الطاعات ، ويشكر عاملها ، وإن قلَّت. {الذي أحللنا دارَ المُقَامة} أي : دار الإقامة لا نبرح عنها ولا نُفارقها. يقال : أقمت إقامة ومقاماً ومقامة ، {من فضلِهِ} أي : من عطائه وإفضاله ، لا باستحقاق أعمالنا ، {لا يمسنا فيها نَصَبٌ} تعب ومشقة {ولا يمسنا فيها لُغُوبٌ} إعياء وكَلَلَ من التعب ، وفترة ؛ إذ لا تكليف فيها ولا كد. نفى عنهم أولاً التعب والمشقة ، وثانياً ما يتبعه من الإعياء والملل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 123
وأخرج البيهقي : أن رجلاً قال يا رسول الله : إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا ، فهل في الجنة من نوم ؟ فقال : " إن النوم شريك الموت - أو أخو الموت ـ وإن أهل الجنة لا ينامون ـ أو : ليس في الجنة موت " وفي رواية أخرى ، قال : فما راحتهم ؟ قال : " ليس فيها لغوب ، كل أمرهم راحة " ، فالنوم ينشأ من نصب الأبدان ، ومِن ثِقل الطعام ، وكلاهما منتفيان في الجنة.
(6/195)
قال الضحاك : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، استقبلهم الولدان والخدم ، كأنهم اللؤلؤ المكنون ، فيبعث الله ملَكاً من الملائكة ، معه هدية من رب العالمين ، وكسوة من كسوة الجنة ، فيلبسه ، فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك : كما أنت ، فيقف ، ومعه عشرة خواتم ، فيضعها في أصابعه ، مكتوب : طبتم فادخلوها خالدين ، وفي الثانية : ادخلوها بسلام ، ذلك يوم الخلود ، وفي الثالثة : رُفعت عنكم الأحزان والهموم ، وفي الرابعة : وزوجناهم بحور عين ، وفي الخامسة : ادخلوها بسلام آمنين ، وفي السادسة : إني جزيتهم اليوم بما صبروا ، وفي السابعة : أنهم هم الفائزون. وفي الثامنة : صرتم آمنين لا تخافون أبداً ، وفي التاسعة : رفقتم النبيين والصديقين والشهداء ، وفي العاشرة : سكنتم في جوار مَن لا يؤذي الجيران. فلما دخلوا قالوا : {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن...} إلى : {لغوب}. هـ.
الإشارة : قال الورتجبي : الاصطفائية تقدمت الوراثة ؛ لمحبته ومشاهدته ، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده. وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به ، واصطفائيته إياهم ، وهو محل القرب والانبساط ، لذلك قال : {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا} ثم قسمهم على ثلاثة أقسام : ظالم ، ومقتصد ، وسابق. والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية. ثم قال : فالظالم عندي ـ والله أعلم ـ الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات ، وطلب كنه الأزلية بنعت إدراكه ، فأي ظالم أعظم منه ؟ إذ طلب شيئاً مستحيلاً ، ألا ترى كيف وصف سبحانه آدم بهذا الظلم بقوله : {وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب : 72] ، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق ،
125
وكمال عشقه ، ومحبة جلاله. هـ.
(6/196)
قلت : وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سُكْر المحبة ، ودهش العشق ، فادعى قوة الربوبية ، وطلب إدراك الألوهية ، ونسي ضعف عبوديته ، فكان ظالماً لنفسه ، من هذا المعنى ؛ إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية. ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره ، وضعفه ، لكان مقتصداً ، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقاً. فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين ؛ فالظالم لنفسه : مَن غلب سُكْره على صحوه في بدايته ، والمقتصد مَن غلب صحوه على سُكْره في بداية سيره ، والسابق مَن اعتدل سُكره مع صحوه في نهايته أو سيره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 123
أو الظالم : السالك المحض ، والمقتصد : المجذوب المحض ، والسابق : الجامع بينهما ؛ إذ هو الذي يصلح للتربية. أو الظالم : الذي ظاهره خيرٌ من باطنه ، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه ، والسابق : هو الذي باطنه خير من ظاهره.
وعن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : الظالم : الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، والمقتصد : الآخذ بأقواله وأفعاله ، والسابق : الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه. وقال القشيري : ويقال الظالم : مَن غلبت زلاَّته ، والمقتصد : مَن استوت حالاته ، والسابقُ : مَن زادت حسناته. أو : الظالمُ : مَنْ زهد في دنياه ، والمقتصدُ : مَن رغب في عقباه ، والسابق : مَن آثر على الدارين مولاه. أو : الظالم مَن نَجَمَ كوكبُ عقله ، والمقتصد : مَن طَلَعَ بدرُ عِلْمه ، والسابق : مَن ذَرَّت شمسُ معرفته. أو : الظالم : مَن طلبه ، والمقتصد : مَن وجده ، والسابق : مَن بقي معه. أو : الظالم : مَن ترك الزلة ، والمقتصد : مَن ترك الغفلة ، والسابق : مَن ترك العلاقة. أو : الظالم : مَن جاد بنفسه ، والمقتصد : مَن لم يبخل بقلبه ، والسابق : مَن جاد بروحه. أو : الظالم : مَن له علم اليقين ، والمقتصد : مَن له عين اليقين ، والسابق : مَن له حق اليقين. أو : الظالم : بترك الحرام ، والمقتصد : بترك الشُّبهة ، والسابق : بترك الفضل في الجملة.
(6/197)
أو : الظالم : صاحب سخاء ، والمقتصد : صاحب جود ، والسابق : صاحب إيثار. أو : الظالم : صاحب رجاء ، والمقتصد : صاحب بسط ، والسابق : صاحب أُنس. أو : الظالم : صاحب خوف ، والمقتصد : صاحب خشية ، والسابق : صاحب هيبة. أو : الظالم له المغفرة ، والمقتصد : له الرحمة ، والسابق : له القُربة ، أو : الظالم : طالب النجاة ، والمقتصد : طالب الدرجات ، والسابق : طالب المناجاة. أو : الظالم : أمن من العقوبة ، والمقتصد : طالب المثوبة ، والسابق : متحقق بالقربة. أو : الظالم : صاحب التوكُّل ، والمقتصد : صاحب التسليم ، والسابق : صاحب التفويض ، أو : الظالم : صاحب تواجد ، والمقتصد : صاحب وجد ، والسابق : صاحب وجود ـ غير محجوب عنه البتة ـ. أو : الظالم : مجذوب إلى فعله ، والمقصد مكاشفٌ بوصفه ، والسابق : مستهلك في حقه ، الذي
126
هو وُجُودُه. أو : الظالم : صاحب المحاضرة ، والمقتصد : صاحب المكاشفة ، والسابق : صاحب المشاهدة. وبعضهم قال : يراه الظالم في الآخرة في كل جمعة ، والمقتصد : في كل يوم مرة ، والسابق : غير محجوبٍ عنه أَلْبتة. هـ باختصار.
والتحقيق : أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين ، والسائرين ، والعلماء ، والعُبّاد ، والزهّاد ، والصالحين ؛ إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية. ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير ، جنات المعارف يدخلونها ، يُحلَّون فيها من أساور من ذهب ، وهي الأحوال ، ولُؤلؤاً ، وهي المقامات ، ولباسهم فيها حرير ، وهي خالص أعمال الشريعة ولُبها. وقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزَن ؛ إذ لا حزن مع العيان ، ولا أغيار مع الأنوار ، ولا أكدار مع الأسرار ، ما تجده القلوب من الأحزان فَلِمَا مُنعت من العيان. ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة :
جزء : 6 رقم الصفحة : 123
وإن خَطَرتْ يوماً على خاطرِ امرىءٍ
أقامتْ بها الأفراحُ وارْتحَلَ الهَمُّ
وقال أيضاً : فما سَكَنَتْ والهمَّ يوماً بموضِعٍ ،
كذلك لم يَسْكُنْ مع النغم الغَمُّ
(6/198)
إِنَّ ربنا لغفور بتغطية العيوب ، شكور بكشف الغيوب ، الذي أحلّنا دار المُقامة ، هي التمكين في الحضرة ، بفضله ، لا بحول منا ولا قوة ، لا يمسنا فيها نصب. قال القشيري : إذا أرادوا أن يَرَوْا مولاهم لا يحتاجون إلى قَطْعِ مسافةٍ ، بل هم في غُرَفِهم يشاهدون مولاهم ، ويلقون فيها تحيةَ وسلاماً ، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مُقلةٍ من جهةٍ ، كما هم يَرَوْنه بلا كيفية هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 123
قلت : " فيموتوا " : جواب النفي.
يقول الحق جلّ جلاله : {والذين كفروا لهم نارُ جهنَّمَ} يُخلدون فيها ، {لا يُقْضَى عليهم فيموتوا} أي : لا يحكم بموت ثان فيستريحوا ، {ولا يُخفف عنهم من عذابها} ساعة ، بل كلما خبت زِيد إسعارها ، وهذا مثل قوله : {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف : 75] ، وذكر عياض انعقاد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ، ولا يُثابون عليها. ولا تخفيف عذاب. وقد ورد في الصحيح سؤال عائشة عن ابن جدعان ، وأنه كان يصل
127
الرحم ، ويطعم المساكين ، فهل ذلك نافعُه ، فقال عليه السلام : " لا ، فإنه لم يقل يوماً : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " ثم قال عياض : ولكن بعضهم يكون أشد عذاباً ، بحسب جرائمهم.
وذكر أبو بكر البيهقي : أنه يجوز أن يراد بما ورد في الآيات والأخبار من بطلان خيرات الكفار : أنهم لا يتخلصون بها من النار ، ولكن يُخفف عنهم ما يستوجبونه بجناية سوى الكفر ، ودافعه المازري. قال شارح الصغاني بعد هذا النقل : وعلى ما قاله عياض ، فما ورد في أبي طالب من النفع بشفاعته صلى الله عليه وسلم ، بسبب ذبِّه عنه ونصرته له ، مختص به. هـ. ويرد عليه ما ورد من التخفيف في حاتم بكرمه ، فالظاهر ما قاله البيهقي. والله أعلم. ومثل ما قاله في أبي طالب ، قيل في انتفاع أبي لهب بعتق ثويبة ، كما في الصحيح.
(6/199)
والحاصل : أن التخفيف يقع في بعض الكفار ، لبره في الدنيا ، تفضلاً منه تعالى ، لا في مقابلة عملهم ؛ لعدم شرط قبوله. انظر الحاشية.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 127
كذلك} أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع ، {نجزي كلَّ كفور} مبالغ في الكفران {وهم يصطرخون فيها} : يستغيثون ، فهو يفتعلون ، من : الصراخ ، وهو الصياح بجهد ومشقة. فاستعمل في الاستغاثة لجهر صوت المستغيث. يقولون : {ربَّنا أخْرِجنا} منها ، ورُدنا إلى الدنيا {نعملْ صالحاً غير الذي كنا نعملُ} فنؤمن بعد الكفر ، ونُطيع بعد المعصية. فيُجابون بعد قدر عمر الدنيا : {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم ما يتذكَّرُ فيه مَن تَذَكَّرَ} أي : أَوَلَم نعمركم تعميراً يتذكر فيه المتذكر. وهو متناول لكل عمر يتمكن منه المكلّف من إصلاح شأنه ، والتدبُّر في آياته ، وإن قصُر ، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم. وقيل : هو ثماني عشرة سنة. وقيل : ما بين العشرين إلى الستين ، وقيل : أربعون. وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب ، مسح الشيطان على وجهه. وقال : وجه لا يُفلح أبداً ، وقيل : ستون. وعنه صلى الله عليه وسلم : " العمر الذي أعذر الله فيه ابن آدم ستون سنة " ، وفي البخاري عنه عليه السلام : " أعذر الله المرء آخر أجله حتى بلغ ستين سنة ". {وجاءكم النذيرُ} أي : الرسول عليه السلام ، أو : الكتاب ، وقيل : الشيخوخة ، وزوال السن ، وقيل : الشيب. قال ابن عزيز : وليس هذا شيء ؛ لأن الحجة تلحق كل بالغ وإن لم يشب. وإن كانت العرب تسمي الشيب النذير. هـ. ولقوله تعالى بعدُ : {فلما جاءهم نذير} فإنه يتعين كونه الرسول ، وهو عطف على معنى : {أو لم نعمركم} لأن لفظه استخبار ، كأنه قيل : قد عمَّرناكم وجاءكم النذير. قال قتادة : احتج عليهم بطول
128
العمر ، وبالرسول ، فانقطعت حجتهم. قال تعالى : {فذُوقوا} العذاب {فما للظالمين من نصيرٍ} يدفع العذاب عنهم.
(6/200)
الإشارة : الذين كفروا بطريق الخصوصية ، وأنكروا وجود التربية بالاصطلاح ، فبقوا مع نفوسهم ، لهم نار القطيعة ولو دخلوا الجنة الحسية ، لا يُقضى عليهم فيموتوا ، ويرجعوا إلى الاستعداد بدخول الحضرة ، ولا يُخفف عنهم من عذاب حجاب الغفلة ، بل يزيد الحجاب بتراكم الحظوظ ، ونسج الأكنة على القلوب ، كذلك نجزي كل كفور وجحود لطريق التربية. وهم يصطرخون فيها ، بلسان حالهم ، قائلين : ربنا أخرجنا ، ورُدّنا إلى دار الفناء ، نعمل صالحاً غير الذي كنا نعملُ ، حتى ندخل ، كما دخلها أهل العزم واليقظة ؟ فيقال لهم : أَوَلَم نُعمركم ما يتذكر فيه مَن تذكر ، وجاءكم النذير ، مَن ينذركم وبال القطيعة ، ويُعرفكم بطريق الحضرة ، فأنكرتموه ، فذُوقوا وبال القطيعة ، فما للظالمين من نصير.
جزء : 6 رقم الصفحة : 127
يقول الحق جلّ جلاله : {إِن الله عالمُ غيبِ السماوات والأرض} أي : ما غاب فيهما عنكم ، {إِنه عليم بذاتِ الصدور} تعليل لِمَا قبله ؛ لأنه إذا عَلِمَ ما في الصدور ، وهي أخفى ما يكون ، فقد عَلِمَ كل غيب في العالم. وذات الصدور : مضمراتها ووساوسها. وهي تأنيث " ذو " بمعنى : صاحب الوساوس والخطرات ، تصحب الصدور وتُلازمها في الغالب ، أي : عليم بما في القلوب ، أو بحقائقها ، على أن " ذات " بمعنى الحقيقة.
{هو الذي جعلكم خلائفَ في الأرض} أي : جعلكم خلفاء عنه في التصرُّف في الأرض ، قد ملككم مقاليد التصرُّف فيها ، وسلطكم على ما فيها ، وأباح لكم منافعها ؛ لتشكروه بالتوحيد والطاعة. {فمَن كفر} منكم ، وغمط مثل هذه النعمة السنيّة ، {فعليه كُفْرُه} فوبالُ كفره راجعٌ عليه ، وهو مقتُ الله ، وخسران الآخرة ، كما قال تعالى : {ولا يزيدُ الكافرين كفرُهُم عند ربهم إلا مَقْتاً} وهو أشد البغض ، {ولا يزيد الكافرين كُفْرُهُم إِلا خساراً} هلاكاً وخسراناً.
(6/201)
الإشارة : إن الله عالم بما غاب في سموات الأرواح ، من أسرار العلوم والمكاشفات ، والاطلاع على أسرار الذات ، وأنوار الصفات ، وما غاب في أرض النفوس من الموافقات أو المخالفات ، إنه عليم بحقائق القلوب ، من صفائها وكدرها ، وما فيها من اليقين والمعرفة ، وضدهما.
129
قال القشيري : {إِنَّ الله عالمُ غيبِ السماواتِ والأرضِ} بإخلاص المخلصين ، وصدق الصادقين ، ونفاق المنافقين ، وجحد الكافرين ، ومَن يريد بالناس شرًّا ، ومَن يُحْسِن بالله ظَنًّا. هـ.
وقال في قوله تعالى : {هو الذي جعلكم خلائف} أهل كلِّ عصرٍ خليفة عصر تقدمهم ، فَمِنْ قومِ هم أنفسهم جَمال ، ومن قوم أراذل وأنذال ، والأفاضلُ زمانهم لهم محنة ، والأراذلُ هم لزمانهم محنة. وحاصل كلامه : أن قوماً عرفوا حق الخلافة ، فقاموا بحقها ، وشكروا الله عليها ، بالقيام بطاعته ، فكانوا في زمانهم جمالاً لأنفسهم ، ولأهل عصرهم ، لكنهم لَمَّا تحمّلوا مشاق الطاعات ، وترادف الأزمات ، كان زمانهم لهم محنة. وقوماً لم يعرفوا حق الخلافة ، فاشتغلوا بالعصيان ، فانتحس الزمان بهم ، فكانوا محنة لزمانهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 129
قلت : " أرأيتم " : بمعنى : أخبروني ، وهي تطلب مفعولين : أحدهما منصوب ، والآخرُ مُشتمل على استفهام ، كقولك : أرأيت زيداً ما فعل ، فالأول : {شركاءكم} والثاني : {ماذا خلقوا}. و {أروني} : اعتراض ، فيها تأكيد للكلام وتشديد. ويحتمل أن يكون من باب التنازع ؛ لأنه توارد على {ماذا خلقوا} : {أرأيتم} و {أروني} ، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. قاله أبو حيان. ولابن عطية وابن عرفة غير هذا ، فانظره. و " بعضهم " : بدل من " الظالمين ".
(6/202)
يقول الحق جلّ جلاله : {قل لهم أرأيتُمْ شركاءكم} أي : أخبروني عن آلهتكم التي أشركتموها في العبادة مع الله ، {الذين تدْعُون} أي : تعبدونهم {من دون الله} ما سندكم في عبادتهم ؟ {أروني ماذا خَلقوا من الأرض} أي : جزء من الأرض ، استبدُّوا بخلقه حتى استحقُّوا العبادة بسبب ذلك ، {أم لهم شِرْكٌ في السماوات} أي : أم لهم مع الله شركة في خَلْق السموات حتى استحقُّوا أن يُعبدوا ؟ بل لا شيء من ذلك ، فبطل استحقاقها للعبادة. {أم آتيناهم كتاباً} أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه ، {فهم على بينةٍ منه} فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب ؟ قال ابن عرفة : هذا إشارة إلى الدليل السمعي ، والأول إشارة إلى الدليل العقلي ، فهم لم يستندوا في عبادتهم الأصنام إلى دليل عقلي ولا سمعي ، {بل إِن يَعِدُ الظالمون} أي : ما يَعِد الظالمون ، وهم الرؤساء {بعضُهُم بعضاً إِلا غُروراً} باطلاً وتمويهاً ، وهو قولهم : {هَؤُلآَءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس : 18] لَمَّا نفى أنواع
130
الحجج العقلية والسمعية ، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه ، وهو تقرير الأسلاف الأخلاف ، والرؤساء الأتباع ؛ بأنهم شفعاء عند الله تُقربهم إليه. هذا هو التقليد الرديء ، والعياذ بالله.
الإشارة : كل مَن ركن إلى مخلوق ، أو اعتمد عليه ، يُتلى عليه : {أرأيتم شركاءكم...} الآية. وفي الحِكَم : " كما لا يقبل العمل المشترك ، لا يُحب القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشترك لا يُقبل عليه ".
جزء : 6 رقم الصفحة : 130
(6/203)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِن الله يُمسك السماواتِ والأرضَ أن تزولاَ} أي : يمنعهما من أن تزولا ؛ لأن إمساكهما منع. والمشهور عند المنجمين : أن السموات هي الأفلاك التي تدور دورة بين الليل والنهار. وإنكار ابن يهود على كعب ، كما في الثعلبي ، تحامل ؛ إذ لا يلزم من دورانها عدم إمساكها بالقدرة ، وانظر عند قوله : {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا...} [يس : 38] قال القشيري : أمسكهما بقدرته ، وأتقنهما بحكمته ، وزينهما بمشيئته ، وخلق أهلهما على موجب قضيته ، فلا شبيه في إبقائهما وإمساكهما يُسَاهِمُه ، ولا شريك في إيجادهما وإعدامهما يقاسمه. هـ.
{ولَئِن زَالَتَا} على سبيل الفرض ، {إِنْ أَمْسَكَهُما من أحدٍ من بعده} من بعد إمساكه. و " من " الأولى : مزيدة ، لتأكيد النفي ، والثانية : ابتدائية ، {إِنه كان حليماً غفوراً} غير معاجل بالعقوبة ، حيث أمسكهما على مَن يشرك به ويعصيه ، وكانتا جديرتين بأن تهدّ هدّاً ، كما قال : {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ...} [مريم : 90] الآية.
الإشارة : الوجود قائم بين سماء القدرة وأرض الحكمة ، بين سماء الأرواح وأرض الأشباح ، بين سماء المعاني وأرض الحس ، فلو زال أحدهما لاختل نظام الوجود ، وبطلت حكمة الحكيم العليم. الأول : عالم التعريف ، والثاني : عالم التكليف. الأول : محل التنزيه ، والثاني : محل التشبيه ، الأول : محل أسرار الذات ، والثاني : محل أنوار الصفات ، مع اتحاد المظهر ؛ إذ الصفات لا تفارق الموصوف ، فافهم. وفي بعض الأثر : " إن العبد إذا عصى الله استأذنت السماء أن تسقط عليه من فوقه ، والأرض أن تخسف من تحته ، فيمسكها الله تعالى بحلمه وعفوه ، ثم تلى الآية : {إِن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا} إلى قوله : {كان حليماً غفوراً} هـ. بالمعنى.
ثم ذكر عناد قريش وعتوهم ، تتميماً لقوله : {والذين كفروا لهم نار جهنم...} إلخ.
131
جزء : 6 رقم الصفحة : 131
(6/204)
قلت : " جهد " : نصب على المصدر ، أو على الحال. و " استكبار " و " مكر " : مفعول من أجله أو حال.
يقول الحق جلّ جلاله : {وأقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم} أي : إقساماً وثيقاً ، أو : جاهدين في أيمانهم : {لئن جاءهم نذير} رسول {ليكونن أهدى من إحدى الأمم} المهتدية ، بدليل قوله : {أهدى} وقوله في سورة الأنعام : {لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام : 157] وذلك أن قريشاً قالوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم : لعن الله اليهود والنصارى ، أتتهم الرسل فكذبوهم ، فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم ، أي : من الأمة التي يقال فيها : هي أهدى الأمم ، تفضيلاً لها على غيرها في الهُدى والاستقامة. كما يقال للداهية العظيمة : هي أهدى الدواهي. فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، {ما زادهم إِلا نُفوراً} أي : ما زادهم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تباعداً عن الحق ، وهو إسنادٌ مجازيّ ؛ إذ لا فاعل غيره.
{استكباراً في الأرض ومكرَ السيىء} أي : ما زادهم إلا تهوُّراً للاستكبار ومكر السيىء. أو : مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، المكر القبيح ، وهو إجماعهم على قتله عليه الصلاة والسلام ، وإذاية مَن تبعه. وأصل قوله : {ومكر السيىء} : وأن مكروا المكر السيىء ، فحذف الموصوف استغناء بوصفه ، ثم أبدل " أن " مع الفعل بالمصدر ، ثم أضيف إلى صفته اتساعاً ، كصلاة الأولى ، ومسجد الجامع. {ولا يحيق المكرُ السيىء إِلا بأهله} أي : لا يحيط وينزل المكر السيىء إلا بمَن مكره ، وقد حاق بهم يوم بدر. وفي المثل : مَن حفر حفرة وقع فيها
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 132
(6/205)
فهل ينظُرون إِلا سُنَّة الأولين} : ما ينتظرون إلا أن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين الأولين ، من العذاب المستأصل ، كما هي سُنَّة الله فيمن كذّب الرسل. {فلن تجد لسُنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسُنة الله تحويلاً} بيّن أن سُنَّته ـ التي هي الانتقام من مكذِّبي الرسل ـ سُنَّة ماضية ، لا يبدلها في ذاتها ، ولا يحوّلها عن وقتها ، وأنَّ ذلك مفعول لا محالة.
{أَوَلَم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم} ممن كذَبوا رسلهم ، كيف أهلكهم الله ودمرهم ، كعاد ، وثمود ، وقرىء قوم لوط. استشهد عليهم بما
132
كانوا يُشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق ، من آثار الماضين ، وعلامات هلاكهم ودمارهم. {و} قد {كانوا أشدَّ منهم قوةً} واقتداراً ، فلم يتمكنوا من الفرار ، {وما كان الله ليُعْجِزَه} ليسبقه ويفوته {من شيءٍ} أيَّ شيء كان {في السماوات ولا في الأرض إِنه كان عليماً} بأحوالهم {قديراً} على أخذهم. وبالله التوفيق.
الإشارة : ترى بعض الناس يقول : لئن ظهر شيخ التربية لنكونن أول مَن يدخل معه ، فلما ظهر ، عاند واستكبر ، وربما أنكر ومكر. نعوذ بالله من سابق الخذلان. قال القشيري : ليس لقولهم تحقيق ، ولا لضمانهم توثيق ، وما يَعدُون من أنفسهم فصريحُ زورٍ ، وما يُوهمُون من وِفاقهم فصِرْفُ غرور. وكذلك المريد في أول نشاطه ، تُمَنِّيه نَفْسُه ما لا يقدر عليه ، فربما يعاهد الله ، ويؤكد فيه عقداً مع الله ، فإذا عَضّتْهُ شهوتُه ، وأراد الشيطانُ أن يكذبه ، صَرَعه بكيده ، وأركسه في كُوةِ غيِّه ، وفتنةِ نَفْسه ؛ فيسودُّ وجْهُه ، ويذهب ماء وجهه.
ثم قال في قوله : {أولم يسيروا...} الخ : ما خاب له وليٌّ ، وما ربح له عدو ، ولا تنال الحقيقةُ بمَن انعكس قَصْدُه ، وارتدَ عليه كيدُه ، دَمّر على أعدائه تدميراً ، وأوسع لأوليائه فضلاً كبيراً. هـ.
ثم تمّم قوله : {إِنه كان حليماً غفوراً}.
133
جزء : 6 رقم الصفحة : 132
(6/206)
فهل ينظُرون إِلا سُنَّة الأولين} : ما ينتظرون إلا أن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين الأولين ، من العذاب المستأصل ، كما هي سُنَّة الله فيمن كذّب الرسل. {فلن تجد لسُنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسُنة الله تحويلاً} بيّن أن سُنَّته ـ التي هي الانتقام من مكذِّبي الرسل ـ سُنَّة ماضية ، لا يبدلها في ذاتها ، ولا يحوّلها عن وقتها ، وأنَّ ذلك مفعول لا محالة.
{أَوَلَم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم} ممن كذَبوا رسلهم ، كيف أهلكهم الله ودمرهم ، كعاد ، وثمود ، وقرىء قوم لوط. استشهد عليهم بما
132
كانوا يُشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق ، من آثار الماضين ، وعلامات هلاكهم ودمارهم. {و} قد {كانوا أشدَّ منهم قوةً} واقتداراً ، فلم يتمكنوا من الفرار ، {وما كان الله ليُعْجِزَه} ليسبقه ويفوته {من شيءٍ} أيَّ شيء كان {في السماوات ولا في الأرض إِنه كان عليماً} بأحوالهم {قديراً} على أخذهم. وبالله التوفيق.
الإشارة : ترى بعض الناس يقول : لئن ظهر شيخ التربية لنكونن أول مَن يدخل معه ، فلما ظهر ، عاند واستكبر ، وربما أنكر ومكر. نعوذ بالله من سابق الخذلان. قال القشيري : ليس لقولهم تحقيق ، ولا لضمانهم توثيق ، وما يَعدُون من أنفسهم فصريحُ زورٍ ، وما يُوهمُون من وِفاقهم فصِرْفُ غرور. وكذلك المريد في أول نشاطه ، تُمَنِّيه نَفْسُه ما لا يقدر عليه ، فربما يعاهد الله ، ويؤكد فيه عقداً مع الله ، فإذا عَضّتْهُ شهوتُه ، وأراد الشيطانُ أن يكذبه ، صَرَعه بكيده ، وأركسه في كُوةِ غيِّه ، وفتنةِ نَفْسه ؛ فيسودُّ وجْهُه ، ويذهب ماء وجهه.
ثم قال في قوله : {أولم يسيروا...} الخ : ما خاب له وليٌّ ، وما ربح له عدو ، ولا تنال الحقيقةُ بمَن انعكس قَصْدُه ، وارتدَ عليه كيدُه ، دَمّر على أعدائه تدميراً ، وأوسع لأوليائه فضلاً كبيراً. هـ.
ثم تمّم قوله : {إِنه كان حليماً غفوراً}.
133
جزء : 6 رقم الصفحة : 132
(6/207)
سورة يس
جزء : 6 رقم الصفحة : 133
بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
يقول الحق جلّ جلاله : {يس} أيها السيد المفخم ، والمجيد المعظم ، {و} حق {القرآن الحكيم} المحكم {إِنك لمن المرْسلين} وفي الحديث : " إن الله تعالى سمّاني في القرآن بسبعة أسماء : محمد ، وأحمد ، وطه ، ويس ، والمزّمّل ، والمدّثر ، وعبد الله " ، قيل : ولا تصح الاسمية في يس ؛ لإجماع القراء السبعة على قراءتها ساكنة ، على أنها حروف هجاء محكية ، ولو سمي بها لأعربت غير مصروفة ، كهابيل وقابيل ، ومثلها " طس " و " حم " كما قال الشاعر :
135
لما سمى بها السورة
فهلا تلى حميمَ قبل التكلم
فدلَّ على أنها حروف حال التلاوة. نعم قد قُرىء " يسُ " بضم النون ، ونصبها ، خارج السبعة ، وعلى ذلك تخرج بأن اللفظ اسم للسورة ، كأنه قال : اتل يس ، على النصب ، وعلى أنها اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم ، وتوجه في قراءة الضم على النداء. هـ. قلت والظاهر إنها حروف مختصرة من السيد ، على طريق الرمز بين الأحباء ، إخفاء عن الرقباء.
ثم أقسم على رسالته ، ردّاً على مَن أنكره بقوله : {والقرآنِ الحكيمِ} أي : ذي الحكمة البالغة ، أو : المحكم الذي لا ينسخه كتاب ، أو : ذي كلام حكيم ، فوصف بصفة المتكلم به ، {إِنك لَمِنَ المرسلين} مِن أعظمهم وأجلِّهم. وهو ردٌّ على مَن قال من الكفار : {لَسْتَ مُرْسَلاً} [الرعد : 43]. {على صراطٍ مستقيمٍ} أي : كائناً على طريق مستقيم ، يوصل مَن سلكه إلى جوار الكريم ، فهو حال من المستكن في الجار والمجرور. وفائدته : وصف الشرع بالاستقامة صريحاً ، وإن دلَّ عليه : {إِنك لمن المرسلين} التزاماً ، أو : خبر ثان لإن. والله تعالى أعلم.(6/208)
الإشارة : قال القشيري : يس ، معناه : يا سيد ـ رقَّاه أشرف المنازل ، وإن لم يسم إليه بطرق التأميل ، سُنَّة منه سبحانه أنه لا يضع أسراره إلا عند مَن تقاصرت الأوهام عن استحقاقه ، ولذلك قَضوا بالعَجَب في استحقاقه ، وقالوا : كيف آثر يتيم أبي طالب من بين البرية ، ولقد كان ـ صلوات الله عليه ـ في سابق اختياره تعالى مقدّماً على الكافة من أشكاله وأضرابه ، وفي معناه قيل :
هذا وإن أصبح في أطمار
وكان في فقر من اليسار
آثرُ عندي من أخي وجاري
وصاحب الدرهم والدينار
جزء : 6 رقم الصفحة : 135
وصاحب الأمر مع الإكثار
قال الورتجبي : قيل : الياء : الياء تُشير إلى يوم الميثاق ، والسين تُشير إلى سره مع الأحباب ، فقال : بحق يوم الميثاق ، وسرى مع الأحباب ، وبالقرآن الحكيم ، إنك لَمن المرسلين يا محمد هـ.
وجاء : " إن قلب القرآن يس ، وقلبه : {سلام قولاً من رب رحيم} " قلت : وهو إشارة إلى سر القربة ، الداعي إليه القرآن ، وعليه مداره ، وحاصله : تسليم الله على عباده
136
كِفاحاً ، لحياتهم به ، وأنسهم بحديثه وسره. وقيل : لأن فيه تقرير أصول الدين. قاله في الحاشية الفاسية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 135
قلت : " تنزيل " : خبر ، أي : هو تنزيل. ومَن نصبه فمصدر ، أي : نُزل تنزيل ، أو : اقرأ تنزيل ، وقرىء بالجر ، بدل من القرآن. و " ما أُنذر " : نعت لقوم. و " ما " : نفي ، عند الجمهور ، أو : موصولة مفعولاً ثانياً لتُنذر ، أي : العذاب الذي أُنْذرَه آباؤهم ، أو : مصدرية ، أي : لتنذر قوماً إنذاراً مثل إنذار آبائهم.
(6/209)
يقول الحق جلّ جلاله : هذا أو هو {تنزيل العزيز} أي : الغالب القاهر بفصاحة نظم كتابه أوهامَ ذوي العناد ، {الرحيم} الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهامَ ذوي الرشاد. أنزلناه {لتُنذر} به {قوماً} أو : أرسلناك لتنذر قوماً غافلين ، {وما أُنذر آباؤهم} أي : غير منذر آباؤهم ، كقوله : {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} [السجدة : 3] وقوله : {ومَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} [سبأ : 44] أو : لتُخوف قوماً العذاب الذي أُنذر به آباؤهم ، لقوله : {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ : 40]. أو : لتنذر قوماً إنذار آبائهم ، وهو ضعيف ؛ إذ لم يتقدم لهم إنذار. {فهم غافلون} إن جعلت " ما " نافية فهو متعلق بالنفي ، أي : لم ينذروا فهم غافلون ، وإلا فهو متعلق بقوله : {إنك لمن المرسلين} لتنذر قوماً ، كقولك : أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 137
لقد حقَّ القولُ على أكثرهم فهم لا يؤمنون} يعني قوله : {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةٍ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة : 13] أي : تعلق بهم هذا القول ، وثبت عليهم ووجب ؛ لأنه عَلِمَ أنهم يموتون على الكفر. قال ابن عرفة : إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يُؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلاً وعادة ، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به ، اعتباراً بظاهر الأمر ، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق ، ولا فائدة فيها ؛ لأنَّ المكلفين قسمان : فمَن عَلِمَ تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة في أمره بالإيمان ؛ إذ لا يطيق عدمه. هـ. قلت : الحكمة تقتضي تكليفهم ؛ لتقوم الحجة عليهم أو لهم ، والقدرة تقتضي عذرهم. والنظر في هذه الدار ـ التي هي دار التكليف ـ للحكمة لا للقدرة.
137
(6/210)
ثم مثّل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارْعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، وكالحاصلين بين سدّين ، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم ، بقوله : {إِنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقانِ} معناه : فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها ، {فهم مُقمَحُون} مرفوعة رؤوسهم إلى فوق ، يقال : قمح البعيرَ فهو قامح ؛ إذا روي فرفع رأسه ، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي في عُنُق المغلول ، يكون في ملتقى طرفيه ، تحت الذقن ، حلقة ، فلا تخليه يطأطىء رأسه ، فلا يزال مقمحاً. والغل : ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب. والأذقان والذقن : مجتمع اللحيين. وقيل : " فهي " أي : الأيدي. وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين. وفي مصحف أُبي : " إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً " وفي بعضها : " في أيديهم فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ".
{وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا} بفتح السين وضمها ـ قيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح ، وما كان من خلق الله ، كالجبل ونحوه ، فبالضمّ ، أي : جعلنا الموانع والعوائق محيطة بهم ، فهم محبوسون في مطمورة الجهالة ، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل ، {فأغشيناهم} أي : فأغشينا أبصارهم ، أي : غطيناها وجعلنا عليها غشاوة ، {فهم لا يُبصرون} الحق والرشاد.
(6/211)
وقيل : نزلت في بني مخزوم ، وذلك أن أبا جهل حلف : لئن رأى محمداً يصلّي ليرضخنَّ رأسه ، فأتاه وهو يصلّي ، ومعه حجر ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ، ولزق الحجرُ بيده ، حتى فكّوه عنها بجَهد ، فرجع إلى قومه ، فأخبرهم ، فقال مخزوميّ : أنا أقتله بهذا الحجر ، فذهب ، فأعمى الله بصره ، فلم يَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وسمع قوله ، فرجع إلى أصحابه ، ولم يرهم حتى نادوه. وقيل : هي ذكر حالهم في الآخرة ، وحين يدخلون النار ، فتكون حقيقة. فالأغلال في أعناقهم ، والنار محيطة بهم. والأول أرجح وأنسب ؛ لقوله : {وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي : الإنذار وتركه في حقهم سواء ؛ إذ لا هادي لمَن أضلّه الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 137
رُوي أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية في غيلان القدريّ ، فقال غيلان : كأني لم أقرأها قط ، أُشهِدك أني تائب عن قولي في القدر. فقال عمر : اللهم إِنْ صَدَقَ فتُبْ عليه ، وإن كذب فسلّطْ عليه مَن لا يرحمه ، فأخذه هشام بن عبد الملك من غده ، فقطع يديه ورجليه ، وصلبه على باب دمشق.
ثم ذكر مَن ينفعه الإنذار ، فقال : {إِنما تُنْذِرُ مَن اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي : إنما ينتفع بإنذارك مَن تبع القرآن {وخَشِيَ الرحمن بالغيب} وخاف عقاب الله قبل أن يراه ، أو : تقول : نُزِّل
138
وجود الإنذار لمَن لم ينتفع به منزلة العدم ، فمَن لم يُؤمن كأنه لم يُنذر ، وإنما الإنذار لمَن انتفع به. {فَبَشِّرْهُ بمغفرةٍ} وهو العفو عن ذنوبه ، {وأجرٍ كريمٍ} الجنة وما فيها.
(6/212)
الإشارة : كل مَن تصدّى لوعظ الناس ، وإنذارهم ، على فترة من الأولياء ، يقال له : لِتُنذر قوماً ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون. ويقال في حق مَن سبق له الإبعاد عن طريق أهل الرشاد : لقد حقَّ القولُ على أكثرهم ، فهم لا يؤمنون. إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً تمنعهم من حط رؤوسهم لأولياء زمانهم ، وجعلنا من بين أيديهم سدًّا : موانع تمنعهم من النهوض إلى الله ، ومن خلفهم سدّاً : علائق تردهم عن حضرة الله ، فأغشيناهم : غطَّينا أعين بصيرتهم ، فلا يرون خصوصية أحد ممن يدلّ على الله ، فهم لا يُبصرون داعياً ، ولا يُلبون منادياً ، فالإنذار وعدمه في حقهم سواء ، ومعالجة دائهم عناء. قال الورتجبي : سد ما خلفهم سد قهر الأزل ، وسد ما بين أيديهم شقاوة الأبد ، فبنفسه منعهم من نفسه. لا جرم أنهم في غشاوة القسوة ، لا يبصرونه أبداً. هـ. إنما ينتفع بتذكير الداعين إلى الله مَن خشع قلبه بذكر الله ، واشتاقت رُوحه إلى لقاء الله ، فبشِّره بمغفرة لذنوبه ، وتغطية لعيوبه ، وأجر كريم ، وهو النظر إلى وجه الله العظيم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 137
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّا نحنُ نحيي الموتَى} أي : نبعثهم بعد مماتهم ، أو : نُخرجهم من الشرك إلى الإيمان. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : لَمَّا أمر بالتبشير بالمغفرة ، والأجر الكريم ، لمَن انتفع بالإنذار ، أعلم بحكم مَن لم يؤمن ، ولم ينتفع بالإنذار ، وأنه يبعثهم ، وإليه حكمهم ، كما قال : {إِنَّمَا يَستَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} [الأنعام : 36] هـ.
(6/213)
{ونكتُبُ ما قدّموا} ما أسلفوا من الأعمال الصالحات وغيرها ، {وآثارَهُمْ} ما تركوه ، بعدهم من آثار حسنة ، كعِلْم علَّموه ، أو كتاب صنَّفوه ، أو حبس حبسوه ، أو رباط أو مسجد صنعوه. أو آثار سيئة ، كبدعة ابتدعوها في الإسلام. ونحوه قوله تعالى : {يُنَبَّؤُاْ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة : 13] أي : قدّم من عمله وأخّر من آثاره. وفي الحديث : " مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً ، فعمل بها من بعده ، كان له أجرُها ومثل أجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن يَنْقُص من أجورِهِمْ شيءٌ. ومَن سَنَّ في الإسلام سُنَّة سيئةً فعليه وزرها ، ووزرُ مَن عمل بها ، من غير أن يَنْقُص من أوزارهم شيءٌ " وفي
138
خبر آخر : " سبع تجري على العبد بعد موته : مَن غرس غرساً ، أو حفر بئراً ، أو أجرى نهراً ، أو علَّمَ علماً ، أو بنى مسجداً ، أو ورَّث مصحفاً ، أو ولداً صالحاً " انظر المنذري. وهذا كله داخل في قوله تعالى : {وآثارهم} قيل : آثارهم : خطاهم إلى المساجد ، للجمعة وغيرها.
{وكل شيءٍ أحصيناه} حفظناه ، أو عددناه وبيَّنَّاه {في إِمامٍ} كتاب {مبينٍ} اللوح المحفوظ ؛ لأنه أصل الكتب وإمامها ، وقيل : صحف الأعمال. والمراد : تهديد العباد بإحصاء ما صنعوه من خير أو شر ، لينزجروا عن معاصي الله ، وينهضوا إلى طاعة الله.
الإشارة : إنّا نحن نُحيي القلوب الميتة بالغفلة والجهل ، فنحييها بالعلم والمعرفة ، ونكتب ما قدّموا من العلوم ، والأسرار والمعارف ، وآثارهم ، أي : الأنوار المتعدية إلى الغير ، ممن اقتبس منهم وأخذ عنهم. قال القشيري : نُحيي قلوباً ماتت بالقسوة ، بما نُمطر عليها من صنوف الإقبال والزلفة ، ونكتب ما قدموا {وآثارهم} خطاهم إلى المساجد ، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا ، وما ترقرقَ من دموعهم على عَرَصات خدودهم ، وتَصَاعُدَ أنفاسهم. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 138
(6/214)
قلت : " اضرب " : يكون بمعنى : اجعل ، فيتعدى إلى مفعولين ، و " مَثَلاً " : مفعول أول ، و {أصحاب} مفعول ثان ، أو : بمعنى : " مثل " ، من قولهم : عندي من هذا الضرب كذا ، أي : من هذا المثال. و " أصحاب " : بدل من " مَثَلاً " ، و " إذ " : بجل من " أصحاب ". و " أَئِن ذُكِّرتُم " : شرط ، حُذف جوابه.
يقول الحق جلّ جلاله : {وَاضْرِبْ لهم} أي : لقريش {مَثلاً أصحابَ القرية} أي : واضرب لهم مثل أصحاب لهم مثل أصحاب القرية " أنطاكية " أي : اذكر لهم قصة عجيبة ؛ قصة أصحاب القرية ، {إِذ جاءها} أي : حين جاءها {المرسلون} رُسل عيسى عليه السلام ، بعثهم دعاةً إلى الحق ، إلى أهل أنطاكية. وكانوا عبدة أوثان.
{إِذ أرسلنا} : بدل من " إذ " الأولى ، أي : إذ بعثنا {إِليهم اثنين} بعثهما عيسى
140
عليه السلام ، وهما يوحنا وبولس ، أو : صادقاً وصدوقاً ، أو غيرهما. فلما قربا إلى المدينة ، رأيا شيخاً يرعى غنيمات له ، وهو حبيب النجار ، فسأل عن حالهما ، فقالا : نحن رسولا عيسى ، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن ؟ فقال : أمعكما آية ؟ فقالا : نشفي المريض ، ونُبرىء الأكمه والأبرص ، وكان له ابن مريض منذ سنين ، فمسحاه ، فقام ، فآمن حبيب ، وفشا الخبر ، فَشُفِي على أيديهما خلق كثير ، فدعاهما الملك ، وقال : ألنا إِلهٌ سوى آلهتنا ؟ فقالا : نعم ، مَن أوجدك وآلهتك ، فقال : قُوما حتى أنظر في أمركما ، فحبسهما.
(6/215)
ثم بعث عيسى عليه السلام شمعونَ ، فدخل متنكراً ، وعاشر حاشية الملك ، حتى استأنسوا به ، ورفعوا خبره إلى الملك ، فاستأنس به. فقال له ذات يوم : بلغني أنك حبستَ رجلين ، فهل سمعتَ قولهما ؟ قال : لا ، فدعاهما. فقال شمعون : مَن أرسلكما ؟ فقالا : الله الذي خَلَق كل شيء ، ورَزَق كل حيّ ، وليس له شريك. فقال : صِفاه وأوجزا ، فقالا : يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، قال : وما آيتكما ؟ قالا : ما يتمنّى الملك ، فدعا بغلام أكمه ، فدعَوا الله ، فأبصر الغلامُ ، فقال شمعون للملك : أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا ، فيكون لك وله الشرف ؟ فقال : ليس لي عنك سرٌّ ، إن إلهنا لا يُبصر ولا يَسمع ، ولا يضر ، ولا ينفع. فقال : إِنْ قدر إلاهكما على إحياء ميّت آمنا ، فدعَوا بغلام مات منذ سبعة أيام ، فقام ، فقال : إني دخلت في سبعة أودية من النار لِمَا مت عليه من الشرك ، وأنا أُحذّركم ما أنتم عليه! فآمِنوا. قال : وفُتحت أبواب السماء ، فرأيت شابّاً حسن الوجه ، يشفع لهؤلاء الثلاثة ، قال الملك : مَن هم ؟ قال : شمعون وهذان ، فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أن قوله أثّر فيه ، نصَحه وآمن ، وآمن قوم ، ومَن لم يؤمن صاح عليهم جبريل ، فهلكوا. كما سيذكره بقوله : {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون}.
جزء : 6 رقم الصفحة : 140
(6/216)
وهذا معنى قوله هنا : {فَكذَّبُوهُما} أي : فكذّب أصحابُ القرية المرسلين ، {فعَزَّزْنَا} : قويناهما. وقرأ شعبة بالتخفيف ، من : عزّه : غلبه ، أي : فغلبنا وقهرنا {بثالثٍ} وهو شمعون ، وترك ذكر المفعول به ؛ لأنَّ المراد ذكر المعزّز به ، وهو شمعون ، وما لطف به من التدبير حتى عزّ الحق ، وذلّ الباطل. وإذا كان الكلامُ مُنصبًّا إلى غرض من الأغرض جُعل سياقه له وتوجُّهه إليه كأنما سواه مرفوض. {فقالوا} أي : الثلاثة لأهلِ القرية : {إِنا إِليكم مُرْسَلُونَ} من عند عيسى ، الذي هو من عند الله. وقيل : كانوا أنبياء من عند الله ـ عزّ وجل ـ أرسلهم إلى قرية ، ويرجحه قول الكفرة : {ما أنتم إِلا بشرٌ مثلُنا} إذ هذه محاورة إنما تقال لمَن ادعى الرسالة ، أي : ما أنتم إلا بشر ، ولا مزية لكم علينا ، {وما أنزلَ الرحمنُ من شيءٍ} أي : وحياً ، {إِن أنتم إِلا تكْذِبون} فيما تدعون من الرسالة. {قالوا ربُّنا يعلمُ إِنا إِليكم لمرسَلون} أكَّد الثاني باللام دون الأول ؛ لأن الأول مجرد إخبار ، والثاني جواب عن إنكار ، فيحتاج إلى زيادة تأكيد. و {ربنا يعلم} جارٍ
141
مجرى القسم في التأكيد ، وكذلك قولهم : شَهِد الله ، وعَلِمَ اللهُ. {وما علينا إِلا البلاغُ المبينُ} أي : التبليغ الظاهر ، المكشوف بالآيات الظاهرة الشاهدة بصحته.
{قالوا إِنا تَطَيَّرْنا بكم} تشاءمنا بكم. وذلك أنهم كرهوا دينهم ، ونفرت منه نفوسهم. وعادة الجهّال أن يتيمّنوا بكل شيء مالوا إليه ، وَقَبِلَتْهُ طباعُهم ، ويتشاءموا بما نفروا عنه ، وكرهوه ، فإن أصابهم بلاء ، أو نعمة ، قالوا : بشؤم هذا ، وبركة ذلك. وقيل : حبس عنهم المطر ، فقالوا ذلك. وقيل : ظهر فيهم الجذام ، وقيل : اختلفت كلماتهم. ثم قالوا لهم : {لئن لم تَنْتَهوا} عن مقالتكم هذه {لَنَرْجُمَنَّكُم} لنقتلنكم بالحجارة ، أو : لنطردنّكم ، أو : لنشتمنكم ، {وَلَيَمَسَّنكم منا عذابٌ أليم} وليصيبنّكم منا عذاب الحريق ، وهو أشد العذاب.
(6/217)
{قالوا} أي : الرسل {طائِرُكُم} سبب شؤمكم {معكم} وهو الكفر ، {أَئِن ذُكِّرتُم} أي : وُعظتم ، ودُعيتم إلى الإسلام تطيّرتم ، وقلتم ما قلتم ، {بل أنتم قوم مُّسْرِفُون} مجاوزون الحد في العصيان ، فمن ثَمَّ أتاكم الشؤم ، لا من قِبَلِ الرسل. أو : بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم وغيّكم ، حيث تتشاءمون بمَن يجب التبرُّك به من رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
الإشارة : إذا أرسل الله إلى قلب وليٍّ وارداً أولاً ، ثم شكّ فيه ، وَدَفَعَهُ ، ثم أرسل ثانياً وَدَفَعَه ، ثم عزّزه بثالث ، وجب تصديقه والعمل بما يقول ، وإلا وقع في العنت وسوء الأدب ؛ لأن القلب إذا صفى من الأكدار لا يتجلّى فيه إلا الحق ، وإلا وجب اتهامه ، حتى يتبين وجهه. وباقي الآية فيه تسلية لمن قُوبل بالتكذيب من الأولياء والصالحين. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 140
يقول الحق جلّ جلاله : {وجاء من أقصى المدينةِ رجل يسعى} وهو حبيب النجار ، وكان في غارٍ من الجبل يعبد الله ، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم ، وأظهر دينه. قال القشيري : في القصة أنه جاء من قرية فسمَّاها مدينة ، وقال : من أقصاها ، ولم يكن بينهما تفاوت كثير ، وكذلك أجرى سُنَّته في استكثار القليل من فِعْلِ عَبْدِه ، إذا كان يرضاه ، ويستنزِرُ الكثيرَ من فضله إذا بَذَلَه وأعطاه. هـ.
142
(6/218)
ولما قَدِم سألهم : أتطلبون على ما تقولون أجراً ؟ فقالوا : لا ، {قال يا قوم اتبعوا المرسلين ، اتبعوا مَن لا يسأَلُكُم أجراً} على تبليغ الرسالة {وهم مهتدون} على جادة الهداية والنصح وتبليغ الرسالة. فقالوا : وأنت على دين هؤلاء ؟ فقال : {وما لي لا أعبدُ الذي فطرني} : خلقني {وإِليه تُرجعون} وفيه التفات من التكلُّم إلى الخطاب ، ومقتضى الظاهر : وإليه أرجع. والتحقيق : أن المراد : ما لكم لا تعبدون ، لكن لمّا عبَّر عنهم بطريق التكلُّم ؛ تلطّف في الإرشاد ، بإيراده في معرض المناصحة لنفسه ، وإمحاض النصح ، حيث أراد لهم ما أراد لها ، جرى على ذلك في قوله : {وإليه ترجعون} والمراد : تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره.
ثم قال : {أأتخذُ من دونه آلهةً} يعني الأصنام ، {إِن يُرِدْنِ الرحمنُ بضُرٍّ} وهو شرطٌ جوابه : {لا تُغْنِ عني شفاعَتُهم شيئاً ولا يُنقِذُون} من مكروه بالنصر والمظاهرة ، {إِني إِذاً} أي : إذا اتخذت إلهاً غيره {لفي ضلالٍ مبين} لفي خطأ بيّن ، لا يخفى على عاقل ، {إِني آمنتُ بربكم فاسمَعُون} أي : اسمعوا إيماني ، لتشهدوا به لي يوم القيامة ، فقتله قومُه.
ولمَّا مات {قيل} له : {ادخُلِ الجنةَ} فدُفن في أنطاكية ، وقبره بها. ولم يقل : قيل له ؛ لأن الكلام مسوق لبيان القول ، لا لبيان المقول له ؛ لكونه معلوماً. وفيه دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن. وقال الحسن : لَمَّا أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله ، فهو في الجنة ، ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض ، فلما دخل الجنة ورأى نِعَمَهَا ، وما أعدّ الله لأهل الإيمان ، {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفرَ لي ربي} أي : بالسبب الذي غفر لي ربي به ، {وجعلني من المكرمين} بالجنة ، وهو الإيمان بالله ورسله ، أو : بمغفرة ربي وإكرامي ، فـ " ما " : موصولة ، حُذف عائدها المجرور ، لكونه جُرّ بما جُرّ به الموصول ، أو : مصدرية ، وقيل : استفهامية. ورُدّ بعدم حذف ألفها.
(6/219)
جزء : 6 رقم الصفحة : 142
قال الكواشي : تمنى أن يعلم قومُه أنَّ الله قد غفر له ، وأكرمه ، ليرغب قومُه في اتباع الرسل ، فيُسلموا ، فنصح قومَه حيًّا وميتاً. وكذلك ينبغي أن يكون كل داع إلى الله تعالى ، في المجاهدة والنصيحة لعباد الله ، وألاَّ يحقد عليهم إن آذوه ، وأن يكظّم كل غيظ يناله بسببهم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سُبَّاق الأمم ثلاثة : علي بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون " هـ.
قال القشيري : قد أَبْلَغَ ـ حبيب الوَعْظَ ، وصَدَقَ النُّصْح ، ولكن كما قالوا وأنشدوا :
143
وكم سُقْتُ في آثارِكم من نصيحةٍ
وقد يستفيد البغةَ المتنصِّحُ
فلمَّا صَدَقَ في حاله ، وصَبَرَ على ما لَقِيَ من قومه ، ورجع إلى ربه ، تلقَّاه بحسن إقباله ، وآواه إلى كنف إفضاله ، ووجد ما وعده به من لُطْفِ نواله ، فتَمنَّى أنْ يعلم قومُه حاله ، فَحَقَّقَ مُناة ، وأخبر عن حاله ، وأنزل فيه خطابه ، وعَرَفَ قومُه هـ.
الإشارة : أحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله وأنصحهم لهم. وفي الحديث : " لئن يهدي الله بك رَجُلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْرِ النِّعَم " فينبغي لمَن أراد الظفر بمحبة الحبيب ، وينال منه الحظوة والتقريب ، أن يتحمّل المشاق في إرشاد عباد الله ، ويستعمل الأسفار في ذلك ، لينال عنده الجاه الكبير ، والقُرب العظيم. حققنا الله بذلك بمنِّه وكرمه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 142
(6/220)
يقول الحق جلّ جلاله : {وما أنزلنا على قومه من بعده} أي : من بعد قتله ، أو رفعه {من جُندٍ من السماء} فيهلكهم ، {وما كنا مُنزِلينَ} وما كان يصحّ في حكمنا في إهلاك قوم أن نُنزل عليهم جنداً من السماء ، كما فعلنا معك يوم بدر والخندق ؛ لحظوتك عندنا. وفيه تحقير لإهلاكهم ، وتعظيم لشأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال في الكشاف : فإن قلت : لِمَ أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق ، مع أنه كان يكفي ملك واحد ، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل ، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة ؟ قلت : لأن الله فضَّل محمداً صلى الله عليه وسلم بكل شيء ، على كبار الأنبياء وأولي العزم ، فضلاً عن حبيب النجار. هـ. ملخصاً. {إِن كانت} العقوبة {إِلا صيحةً واحدةً} صاح عليهم جبريل عليه السلام {فإِذا هم خامِدُون} ميتون.
الإشارة : كل وعيد ورد في مُكذِّبي الرسل يجر ذيله على مُكذِّبي الأولياء ؛ لأنهم خلفاء الأنبياء ، إلا أن عقوبة مؤذي الأولياء ، تارة تكون ظاهرة ، في الأبدان والأموال ، وتارة باطنة ، في قسوة القلوب والتعويق عن صالح الأعمال ، وكسْف نور الإيمان والإسلام ، والبُعد وسوء الختام ، وهي الحسرة العظمى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 143
144
قلت : {كم أهلكنا} معلّقة ليَرَوُا عن المفعولين. و {أنهم} : بدل من {كم} ، والتقدير : ألم يَرَوا كثرة إهلاكنا قبلهم من القرون كونهم غير راجعين إليهم. و {وإِن كُلٌّ لمَّا جميع} : من قرأ " لما " بالتخفيف ، فإن : مخففة ، واللام : فارقة ، و " ما " مزيدة ، أي : وإنه ، أي : الأمر والشأن لَجميعٌ محضرون عندنا. ومَن قرأها بالتشديد ؛ فإِنْ : نافية ، و " لَمَّا " : بمعنى إلا ، أي : ما كُلهم إلا مجموعون ومُحضرون للحساب.
(6/221)
يقول الحق جلّ جلاله : {يا حسرةً على العبادِ} تعالى ، فهذا أوان حضورك. ثم بيّن لأي شيء كانت الحسرة عليهم ، فقال : {ما يأتيهم من رسولٍ} من عند الله {إِلا كانوا به يستهزئون} فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين ، المنوط بنصحهم خير الدارين ، أحقّاء بأن يتحسَّروا ، ويتحسَّر عليهم المتحسِّرون ، ويتلهَّف المتلهِّفون. أو : هم مُتَحَسّر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين.
{أَلم يَرَوا كم أهلكنا قَبْلَهم من القُرونِ} أي : ألم يعلموا كثرة إهلاكنا قبلهم من القرون الماضية ، {أَنهم إِليهم لا يَرجِعُونَ} أي : كونهم غير راجعين إليهم أبداً حتى يلحقوا بهم ، ففيهم عبرة وموعظة لمَن يتعظ. {وإِن كلٌّ لما جميعٌ لدينا مُحْضَرُون} أي : وإن كلهم مجموعون محضرون للحساب ، أو معذَّبون. وإنما أخبر عن " كل " بجميع ؛ لأن " كل " تفيد معنى الإحاطة. والجميع : فعيل ، بمعنى مفعول ، ومعناه : الاجتماع ، والمعنى : أن المحشر يجمعهم ، فكلهم مجموعون مُحضرون للحساب.
الإشارة : يا حسرةً على العباد ، ما يأتيهم من داع يدعو إلى الله ، على طريق التربية الكاملة ، إلا كانوا به يستهزئون. ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون ، ماتوا على الغفلة والحجاب ، وكلهم محضرون للعتاب والحساب ، ماتوا محجوبين ، ويبعثون محجوبين ؛ لإنكارهم في الدنيا مَن يرفع عنهم الحجاب ، ويفتح لهم الباب ، وهم شيوخ التربية ، الموجودون في كل زمان. أو : يا حسرةً على المتوجهين ، ما يأتيهم من وارد على قلوبهم إلا كانوا به يستهزئون ، ولو فهموا عن الله لعملوا بما يرد على قلوبهم الصافية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 144
قلت : " وآية لهم " : مبتدأ ، وجملة " الأرضُ الميتة " : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله : {وآية لهم الأرضُ الميتةُ أحييناها} أي : وعلامة لهم تدلُّ على أن الله يبعثُ الموتى ، ويُحضرهم للحساب ، إحياءُ الأرض اليابسة بالمطر ، فاهتزت
145
(6/222)
وربت بالنبات. {وأخرجنا منها حَبّاً} جنس الحب ، {فمنه يأكلون} هم وأنعامهم. وقدَّم الظرف ليدل على أن الحبّ هو الشيء الذي يتعلق به معظمُ العيش ، ويقوم ، بالارتفاق به ، صلاحُ الإنسان ، إذا قلَّ جاء القحط ، ووقع الضرّ ، وإذا فُقد حضر الهلاك ، ونزل البلاء. {وجعلنا فيها} في الأرض {جناتٍ} بساتين {من نخيلٍ وأعنابٍ ، وفجَّرنا فيها من العُيُون} ، " من " : زائدة عند الأخفش ، وعند غيره : المفعول : محذوف ، أي : ما تتمتعون به من العيون.
{ليأكلوا من ثَمره} أي : من ثمر الله ، أي : ليأكلوا مما خلق الله تعالى من الثمر ، أو : من ثَمَرة ، يخلقها الله من ذلك ، على قراءة الأخوين. {وما عملته أيديهم} أي : ومما عملته أيديهم من الغرس ، والسقي ، والتلقيح ، وغير ذلك ، مما تتوقف عليه في عالم الحكمة ، إلى أن يبلغ الثمر منتهاه. يعني : أن الثمر في نفسه فعل الله ، وفيه آثارٌ من عمل ابن آدم ، حكمةً ، وتغطيةً لأسرار الربوبية. وأصله : من ثمرنا ، كما قال : {وجعلنا} {وفجرنا} ، فالتفت إلى الغيبة. ويجوز أن يرجع الضميرُ إلى النخيل ، ويترك الأعناب غير مرجوع إليها ؛ لأنه عُلم أنها في حكم النخيل. وقيل : " ما " نافية ، على أن الثمرة خلق الله ، ولم تعمله أيدي الناس ، ولا يقدرون عليه. {أفلا يشكرون} الله على هذه النعم الجسيمة ، وهو حثّ على الشُكر.
(6/223)
{سبحانَ الذي خلق الأزواجَ} الأصناف {كُلَّها مما تُنبتُ الأرضُ} من النخيل ، والشجر ، والزرع ، والثمار ، كيف جعلها مختلفة في الطعوم ، والروائح ، والشكل ، والهيئة ، واختلاف أوراق الأشجار ، وفنون أغصانها ، وأصناف نورها وأزهارها ، واختلاف أشكال ثمارها ، في تفرُّدها واجتماعها ، مع ما بسط فيها من الطبائع الأربع : من الحرورة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، وما فيها من المنافع المتنوعة. {ومن أنفسِهم} الأولاد ؛ ذكوراً وإناثاً ، {ومما لا يعلمون} من أصنافٍ لم يُطلعهم الله عليها ، ولم يتوصَّلوا إلى معرفتها ، ففي البحار عجائب لا يعلمها الناس. قال تعالى : {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل : 8]. وفائدة التنزيه : نفي تشبيه الذات بشيء من هذه الأزواج. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 145
قال القشيري : والعَجَبُ مِمَّن يُنكر أصول الدين ، ويقول : ليس في الكتاب عليه دليل ، وأكثر ما في القرآن من الآيات تدل على سبيل الاستدلال ، ولكن يَهْدِي لنوره مَن يشاء ، ولو أنهم أنصفوا واشتغلوا بأهم شيءٍ لهم ما ضيَّعوا أصول الدين ، ورضوا فيها بالتقليد ، وادَّعَوْا في الفروع رتبة الإمامة والتصدير ، وفي معناها قيل :
يا مَنْ تصدَّرَ في دَسْتِ الإمامة من
مسائل الفقه إمْلاءً وتدْريسا
غَفَلْتَ عن حججِ التوحيد تُحْكِمُها
شيَّدتَ فرعاً وما مَهَّدتَ تأسيسا
قلت : وحاصله : مدح علم الأصول وترك علم أصل الأصل ، وهو علم التوحيد
146
الخاص ، أعني الشهود والعيان. وقد قلتُ في ذلك : تذليلاً :
يا مَنْ تصدّى لعلم الأصل يُحكمه
قد فاتك الذوق بالوجدان مستأنسا
(6/224)
الإشارة : وآية لهم النفس الميتة بالجهل أحييناها بالعلم ، وأخرجنا منها علماً لَدُنيًّا ، فمنه تتقوّت القلوب والأرواح ، وجعلنا فيها جناتِ المعارف ، من نخيل الحقائق ، وأعناب الشرائع ، وفجَّرنا فيها من عيون الحِكَم ، ليأكلوا من ثمره ، ومما عملته أيديهم ، من المجاهدات والمكابدات ، فإنها تُثمر المشاهدات. سبحان الذي خلق الأزواج كلها من الأحوال ، والمقامات ، والعلوم ، والمعارف ، مما يُستخرج من النفوس والأرواح ، ومما لا يعلمه إلا الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 145
يقول الحق جلّ جلاله : {وآيةٌ لهم الليلُ نسْلَخُ منه النهارَ} نُخرج منه النهار ، إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النهار. مستعار من : سلخ الجلد عن الشاة ، أو : ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض ، فيعري نفس الزمان ، كشخص أسود ، نزع عنه قميص أبيض ؛ لأن أصل ما بين السماء والأرض من الهواء : الظلمة ، فاكتسى بعضه ضوء الشمس ، كبيت مظلم أُسرج فيه ، فإذا غاب السراج أظلم. {فإِذا هم مُّظلِمُونَ} داخلون في الظلام.
(6/225)
{و} آية لهم أيضاً {الشمسُ تجري لمُسْتَقَرٍّ لها} لحدّ لها مؤقّت ، تنتهي إليه من فَلكِها في آخر السنة. شبهت بمستقرّ المسافر إذا انتهى سفره ، أو : لحدّ لها من مسيرها كلّ يوم في مرائي عيون الناس ، وهو المغرب. وفي الحديث الصحيح ـ من طريق أبي ذرٍّ ـ : " إنها تسجد كل يوم تحت العرش ، فتستأذن ، فيُؤذن لها ، ويوشك أن تستأذن فلا يُؤذن لها ، فتَطلُعُ من مغربها " ، ذرٍّ قال صلى الله عليه وسلم : " وذلك قوله : {والشمس تجري لمستقر لها} ". وعن ابن عباس : أن الشمس بمنزلة السانية ، تجري بالنهار في السماء في فلكها ، فإذا غربت جرت في الليل تحت الأرض في فَلَكِها ، حتى تطلع من مشرقها ، وكذلك القمر. كذا نقل الكواشي عنه. ولعله لا يناقض ما جاء في الحديث ، من أنها تسجد تحت العرش ، لإحاطة العرش بالجميع ، فهي حيث ما انتهت تحته. ونقل الأقليشي من حديث عكرمة ، عن ابن عباس : (ما طلعت شمس حتى ينخسها سبعون ألف ملك ، فيقولون لها :
147
اطلعي ، فتقول : لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله ، فيأتيها ملك من الله ، فيأمرها بالطلوع ، فتستقل بضياء بني آدم ، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع ، فتطلع بين قرينه ، فيحرقه الله تعالى تحتها ، وما غربت شمس قط إلا خرَّت لله ساجدة ، فيأتيها شيطان ، يُريد أن يصدها عن السجود ، فتغرب بين قرنيه ، فيحرقه الله تعالى ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ما طلعت شمس إلا بين قرنَي الشيطان ، ولا غربت إلا بين قرنَي الشيطان " هـ. على نقل شيخ شيوخنا الفاسي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 147
وقرأ ابن عباس وابن مسعود : " تجري لا مستقر لها " ، ومعناها : إنها جارية أبداً ، لا تثبت في مكان. وقراءة الجماعة أوفق بالحديث. {ذلك تقديرُ العزيزِ الحكيمِ} أي : ذلك الجري على ذلك التقدير البديع ، والحساب الدقيق ، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور ، العليم بكل معلوم.
(6/226)
{والقمرَ قدَّرناه} من نصبه ؛ فبِفِعْل مضمر ، ومن رفعه ؛ فمبتدأ ، والخبر : {قدَّرناه منازلَ} وهي ثمانية وعشرون منزلاً : فرع الدلو المقدم ، فرع الدلو المؤخر ، بطن الحوت ، النطْح ، البُطَيْن ، الثُّريَّا ، الدَّبَران ، الهَقْعَة ، الهَنْعَة ، الذِّراع ، النَّثْرة ، الصَّرْفَة ، الجَبْهَة ، الطَّرْفة ، الزَّبرة ، العَوَّاء ، السِّمَاك ، الغَفْر ، الزَّبَاني ، الإِكْليل ، القَلْب ، الشَّوْلة ، النعَائِم ، البَلَدة ، سَعْدُ الذَّابح ، سعد السُّعُود ، سَعْد الأخبية ، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاها ، ولا يتقاصر عنها. على تقدير مستوٍ ، يسيرُ فيها من ليلة المستهلّ إلى الثامنة والعشرين ، ثم يستتر ليلتين ، أو ليلة إذا نقص الشهر. ولا بد في {قدّرناه منازلَ} من تقدير مضاف ؛ أي : قدّرنا سيره ، أو نوره ، فيزيد وينقص ، إذ لا معنى لتقدير القمر منازل ، فيكون " منازل " ظرفاً.
فإذا كان في آخر منازله ، دقّ وتقوّس ، {حتى عادَ كَالعُرْجُون} أي : كالشّمراخ ، وهو عنقود التمر إذا يبس واعوج. ووزنه فعلون ، من الانعطاف ، وهو الانعراج ، {القديم} العتيق المُحْوِل ، وإذا قُدم دقّ ، وانحنى ، واصفرّ ، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.
{لا الشمسُ ينبغي لها} يصح ويستقيم لها {أن تُدرِكَ القَمَرَ} فتجتمع معه في وقتٍ واحد ، وتداخله في سلطانه ، فتطمس نوره قبل تمام وقته ؛ لأن لكلِّ واحد من النيّرين سلطاناً على حياله ، فسلطان الشمس بالنهار ، وسلطان القمر بالليل. {ولا الليلُ سابقُ النهارِ} ولا يسبق الليل النهار ، أي : آيةَ الليل لا تسبق آيةَ النهار ، وهي النيّران. ولا يزال الأمرُ على هذا الترتيب إلى أن تقوم الساعة ، فيجمع الله بين الشمس والقمر ، ويُكوران
148
(6/227)
ويُرميان في النار ، {وكلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون} أي : وكلهم في فلك يسبحون ؛ يسيرون ؛ فالتنوين للعوض ؛ والضمير للشمس والقمر ؛ فإنَّ اختلاف الأحوال يُوجب تعدُّداً ما في الذات ، أو : للكواكب ؛ فإن ذكر النيرين مشعر بها {وكل في فلك يسبحون} يقرأ مقلوباً ومرتّباً ، ففيه نوع من البديع.
الإشارة : وآيةٌ لهم ليلُ الغفلة نسلخ منه نهارَ اليقظة ، ونهارُ اليقظة ، نسلخ منه ليلَ الغفلة ، فلا يزال العبد بين غفلة ويقظة ، حتى تُشرق عليه شمس العرفان ، وتستقر في قلبه ، فلا غروب لها ، وإليه الإشارة بقول : {والشمس تجري لمستقرٍ لها} ، ومستقرها : قلوب العارفين. وقمر الإيمان قدَّرناه منازل ، ينقص ويزيد ، بزيادة التفرُّع والتوجُّه ونقصانه ، حتى تطلع عليه شمس العرفان ، فينسخ نوره ، فلا زيادة ولا نقصان. قال القشيري : فشبيهُ الشمس عارفٌ أبداً في ضياء معرفته ، صاحبُ تمكينٍ ، غيرُ مُتَلَوِّنٍ ، شُرفَ في بروج سعادته قائماً ، لا يأخذه كسوفٌ ، ولا يستره سحابٌ. وشبيهُ القمر عبدٌ تلوّن أحوالُه في التنقُّل ، صاحب تلوين ، له من البسط ما يرقيه إلى حَدِّ الوصال ، ثم يُرَدُّ إلى الفترة ، ويقع في القبض مما كان فيه من صفاء الحال ، فيتناقص ، ويرجع إلى نقص أمره إلى أن يدفع قلبه عن وقته ، ويجود عليه الحقُّ سبحانه ، فيُوَفِّقُه لرجوعه عن فترته ، وإفاقته من سَكَرتِهِ ، فلا يزال تصفو أحواله ، إلى أن يَقْرُبَ من الوصال ، ويُرزقَ صفة الكمال ، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال ، كذلك حاله إلى أن يُحَقَّ له بالمقسوم ارتحاله ، وأنشدوا :
كُلَّ يومٍ تَتَلَونْ
غيرُ هذا بِكَ أجمل
جزء : 6 رقم الصفحة : 147
(6/228)
يقول الحق جلّ جلاله : {وآية لهم أنَّا حَمَلْنا ذُريتَهُم} أولادهم ، الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم ، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم ؛ فإن الذرية تقع عليهن ؛ لأنهن مزارعها. وتخصيصهم ؛ لأن استقرارهم في السفن أشق ، وتماسكهم فيها أعجب ، أو خصهم ؛ لضعفهم عن السفر ، فالنعمة فيهم أظهر. فحملناهم {في الفلك المشحونِ} : المملوء ، والظاهر : أن الضمير في " ذريتهم " للجنس. كأنه قال : ذُريات جنسهم ونوعهم. قال ابن عباس وجماعة : يريد بالذُريَّات المحمولين : أصحابَ نوح في السفينة ، ويريد بقوله : {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} : السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، وإياها عنى بقوله : {وإن نشأ نُغرقهم...} الخ. وأما إطلاق الذرية على الآباء ،
149
فقال ابن عطية : لا يُعرف لغة ، وإنما المراد بالذرية الجنس ، أو حقيقة ما تقدّم. وعليه يكون قوله : {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} يراد به الإبل ؛ فإنها سفن العرب.
{وإِن نشأ نُغْرِقُهم} إذا ركبوا سفن البحر ، {فلا صَرِيخَ لهم} فلا مغيث ، أو : لا مستغيث لهم ، وهو أبلغ ، أي : لم تبقَ لهم قدرة على الاستغاثة. {ولا هم يُنْقَذُونَ} ينجون من الموت ، {إِلا رحمةً منا ومتاعاً إلى حينٍ} أي : لا ينقذون إلا لرحمة منا ، لتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل. فهما مفعولان له. وقال بعضهم : الاستثناء راجع لثلاث جمل : " نغرقهم " ، " فلا صريخ لهم " ، " ولا هم يُنقذون ".
(6/229)
الإشارة : إذا عامت أفكار العارفين ، في بحار التوحيد ، وأسرار التفريد ، تلاطمت عليها أمواج الدهش من كبرياء الله ، فإن سبق لها سابق عناية الاعتدال ؛ أوت إلى سفينة الشريعة ، بعد ركوبها في فلك الحقيقة ، وإليه الإشارة في قوله : {حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}. وإن لم تسبق له عناية ، غَرِقَ في بحر الزندقة والإلحاد ، كما قال تعالى : {وإن نشأ نُغرقهم فلا صريخ لهم} من شيخ كامل ، ولا هم يُنقذون إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين الكمال ، فيعتدل. قال القشيري : الآية إشارة إلى حَمْلِ الخَلْقِ في سفينة السلامة ، في بحار التقدير ، عند تلاطم أمواجها ، بفنونٍ من التغيير والتأثير ، وكم من عبدٍ غرق في أشغاله ، في ليله ونهاره ، لا يستريح لحظةً في كَدِّ أفعاله ، ومقاساة التعب من أعماله ، وجَمْعِ ماله ، بنسيان عاقبته ومآلِه. ثم قال في قوله تعالى : {وإِن نشأ نُغرقهم} : لولا صفة جُوده وفَضْله ؛ لَحَلَّ بهم من البلاء ما حَلَّ بأمثالهم ، لكنه لحُسْنِ إفضاله ، حفظهم في جميع أحوالهم. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 149
قلت : جواب " إذا " محذوف ، أي : أعرضوا ، فدلّ عليه قوله : " معرضين ".
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِذا قيل لهم} أي : كفار قريش : {اتقوا ما بين أيديكُم وما خلفَكُم} أي : ما تقدّم من ذنوبكم ، وما تأخّر مما أنتم تعملونه بعدُ ، أو : ما بين أيديكم : ما سلف من مثل الوقائع التي حلَّت بالأمم المكذبة قبلكم ، وما خلفكم من أمر الساعة ، أو : ما بين أيديكم من فتنة الدينا ، وما خلفكم من عذاب الآخرة. {لعلكم تُرحمون} لتكونوا في رجاء رحمة الله ، فإذا قيل لهم ذلك أعرضوا.
150
(6/230)
قال تعالى : {وما تَأتيهم من آيةٍ من آيات ربهم} الدالة على وحدانيته تعالى ، وصدق رسوله ، {إِلا كانوا عنها معرضين} لا يلتفتون إليها ، ولا يرفعون لها رأساً ، فـ " من " الأولى لتأكيد النفي ، والثاني للتبعيض ، أي : دأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة.
{وإذا قيل لهم أَنفقوا مما رزقكم اللهُ} أي : تصدّقوا على الفقراء ، {قال الذين كفروا} من مشركي مكة {للذين آمنوا أَنُطْعِمُ من لو يشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ} عن ابن عباس رضي الله عنه : كان بمكة زنادقة ، فإذا أُمروا بالصدقة على المساكين ، قالوا : لا والله ، أيُفقره الله ونُطعمه نحن ؟ !. قيل : سبب الآية : أن قريشاً لَمّا أسلم ضعفاؤهم ، قطعوا عنهم صِلاتهم ، فندبهم بعضُ المؤمنين إلى ذلك ، فقالوا تلك المقالة.
وقيل : إن قريشاً شَحَّتْ ـ بسبب أزمة نزلت بهم ـ على المساكين ، مؤمِنهم وكافرهم ، فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين ، فقالوا على سبيل الجهل : أَنُطعم قوماً أراد الله فقرهم وتعذيبهم. ومن أمثالهم : كن مع الله على المدبر ، حتى كان الرجل يرعى إبله ، فيجعل السِمَان في الخصب ، والمهازيل في الجدب ، فإذا قيل له في ذلك ، قال : أُكرم ما أَكرم الله ، وأُهين ما أهان الله. ويحتمل أن يكون قولهم ذلك استهزاءً ، فكأنهم قالوا : لِمَ لا يرزقهم إلهك الذي تزعم.
قال الكواشي : قد يتمسّك بهذه الآية بعضُ البخلاء ، فيقول : لا أُعطي مَن حرمه الله. وليس هذا بصحيح ؛ لأن الله تعالى أغنى وأفقر ، وجعل للفقير جزءاً من مال الغني كما يشاء. وفي الإحياء : أن المراد بالصدقة وشرعها : التخلُّص من رذيلة البخل ، وذكل نفع يعود على المتصدق ، بإخراجه عن حب الدنيا ، وتعلُّق قلبه بها ، الصادّ عن الله ، وهؤلاء لم يفهموا حكمة الله ، فقالوا ما قالوا. هـ. ثم قال : {إِن أنتم إِلا في ضلال مبين} في أمركم لنا بالنفقة ، أو في غير ذلك من دينكم ، أو : يكون من قول الله تعالى للكفرة.
(6/231)
جزء : 6 رقم الصفحة : 150
الإشارة : وإذا قيل للعامة : اتقوا ما بين أيديكم ، من شدائد الدنيا ، وما خلفكم ، من أهوال الآخرة ، لعلكم تُرحمون فيهما ؛ فإن التقوى الكاملة تحفظ الرجل في حياته وبعد مماته ، وربما يسري الحفظ إلى عقبه ، كما هو مشاهد في عقب أولياء الله. أو : إذا قيل لهم : اتقوا خواطر التدبير فيما بين أيديكم ؛ إذ ليس أمره بيدكم ، فجُل ما تبنيه من التدبير تهدمه رياح التقدير ، وخواطر التدبير ، فيما سلف قبلكم ، إذ فيه تحصيل الحاصل ، وتعطيل الوقت بلا فائدة. {لعلكم تُرحمون} بمقام الرضا ، وسكون القلب وراحته تحت مجاري القضاء ، أعرضوا وانهمكوا في أودية الغفلة والخواطر. وما تأتيهم من آية دالة على وحدانيته تعالى ، وانفراده بالخلق والتدبير ، إلا كانوا عنها معرضين.
قال القشيري : هذه صفة مَن سَيَّبَهم في أودية الخذلان ، ووَسَمَهم بسِمَة الحرمان ، وأصَمَّهم عن سماع الرُّشْد ، وصَدَّهم بالخذلان عن سلوك القصد ، فلا تأتيهم آيةٌ في الزَّجْرِ إلا قابلوها بإعراضهم ، وتجافوا عن الاعتبار بها ، على دوام انقباضهم ، وإذا أُمِرُوا بالإنفاق
151
والإطعام عارضوا بأنَّ الله رازقُ الأنام ، وإذا شاءَ نَظَرَ إليهم بالإِنعام. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 150
(6/232)
يقول الحق جلّ جلاله : {ويقولون} ـ استهزاء ـ : {متى هذا الوعْدُ} أي : وعد البعث والقيامة {إِن كنتم صادقين} فيما تقولون. خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال تعالى : {ما ينظرون} ينتظرون {إِلا صيحةً واحدةً} هي : النفخة الأولى ، {تأخذُهُم وهم يَخِصِّمُون} يختصمون ، يخصم بعضهم بعضاً في المعاملات ، لا يخطر ببالهم أمرها ، فتأتيهم بغتة. وقرأ حمزة ـ بسكون الخاء ـ من : خصمه : إذا غلبه في الخصومة. وفتح الباقون ، مع الاختلاس والنقل وعدمهما. {فلا يستطيعُون توصيةً} فلا يستطيعون أن يوصوا في أمورهم بشيء ، {ولا إِلى أهلِهِم يَرجِعُون} ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم ، بل يموتون حيث يسمعون الصيحة.
{ونُفِخَ في الصُّور} النفخة الثانية ، بعد خُلو الأرض أربعين سنة. والصور : القرن ، أو : جمع صورة. {فإِذا هم من الأَجْدَاثِ} القبور {إِلى ربهم يَنْسِلُون} يُسرعون في المشي إلى المحشر.
{قالوا يا ويلنا مَن بَعَثَنَا} مَن أنشرنا {من مَّرْقَدِنا} مضجعنا ؟ قال مجاهد وأُبيّ بن كعب : للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم ، فإذا صيح بأهل القبور ، قالوا يا ويلنا مَن بعثنا ؟ وأنكره ابن عطية ، وقال : إنما هو استعارة ، كما تقول في قتيل : هذا مرقده إلى يوم القيامة. فتقول الملائكة في جوابهم : {هذا ما وَعَدَ الرحمنُ وَصَدَقَ المرسلون} أو يقوله المؤمنون ، أو : الكفار ، يتذكرون ما سمعوه من الرسل ، فيُجيبون به أنفسهم ، أو بعضهم بعضاً. و " ما " : مصدرية ، أي : هذا وَعْدُ الرحمن وصِدق المرسلين ، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدْق. أو : موصولة ، أي : هذا الذي وعده الرحمن والذي صَدَقه المرسلون ، أي : والذي صدق فيه المرسلون.
{إِن كانت} النفخة الأخيرة {إِلا صيحةً واحدةً فإِذا هم جميع لدينا مُحضَرُون} للحساب ، ثم يقال لهم في ذلك اليوم : {فاليوم لا تُظلمُ نفسٌ شيئاً ولا تُجْزَونَ إِلا ما كنتم تعملون}
152
من خير أو شر.
(6/233)
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
الإشارة : إذا كبر يقين العبد صارت عنده الأمور المستقبلة واقعة ، والآجلة عاجلة ، فيستعد لها قبل هجومها ، ويتأهّب للقائها قبل وقوعها ، أولئك الأكياس ، الذين نظروا إلى باطن الدنيا ، حين نظر الناس إلى ظاهرها ، واهتمُّوا بآجالها ، حين اغترّ الناس بعاجلها ، كما في الحديث في صفة أولياء الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
قلت : " سلام " : بدل من " ما " أو : خبر عن مضمر ، أو : مبتدأ حُذف خبره ، أي : من ذلك سلام ، وهو أظهر ؛ ليكون عاماً ، أي : ولهم كل ما يتمنون ، كقوله : {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت : 31] ومن جملة ذلك : {سلام قولاً من رب رحيم} فيوقف على " ما يدَّعون ". و " قولاً " : منصوب على المصدر المحذوف ، أي : يقال لهم " قولاً " ، وقيل : على الاختصاص.
(6/234)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّ أَصحابَ الجنةِ اليومَ في شُغلٍ} ـ بضم الغين وسكونها ـ أي : في شغل لا يوصف ؛ لِعظم بهجته وجماله. فالتنكير للتعظيم ، وهو افتضاض الأبكار ، على شط الأنهار ، تحت الأشجار ، أو سماع الأوتار في ضيافة الجبار. وعن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما قيل : يا رسول الله أَنُفْضِي إلى نسائنا في الجنة ، كما نُفضي إليهن في الدنيا ؟ قال : " نعم ، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليُفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء " وعن أبي أمامة : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل يتناكح أهل الجنة ؟ فقال : " نعم ، بِذَكَرٍ لا يمَلُّ ، وشهوة لا تنقطع ، دحْماً دحْماً " قال في القاموس : دحمه ـ كمنعه : دفعُه شديداً. وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً " ، وفي رواية أبي الدرداء : " ليس في الجنة مَنِّي " وفي رواية : " بول أهل الجنة عرق يسيل تحت أقدامهم مِسكاً " وعن إبراهيم النخعي : جماع ما شئت ، ولا ولد. هـ. فإذا اشتهى الولد كان بلا وجع ، فقد روى الحاكم والبيهقي عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " إن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد ، كما
153
يشتهي ، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة " انظر البدور السافرة.
قلت : والتحقيق أن شغل أهل الجنة مختلف ، فمنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأشباح ، من حور ، وولدان ، وأطعمة ، وأشربة ، على ما يشتهي ، ومنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأرواح ، كالنظر لوجه الله العظيم ، ومشاهدة الحبيب ، ومناجاة ، ومكالمات ، ومكاشفات ، وترقيات في معاريج الأسرار كل ساعة. ومنهم مَن يُجمع له بين النعيمين ، وسيأتي في الإشارة. وقوله تعالى : {فَاكِهُون} أي : متلذذون في النعمة ، والفاكه والفكه : المتنعم ، ومنه : الفكاهة ؛ لأنه مما يتلذّذ به ، وكذا الفاكهة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 153
(6/235)
ثم قال تعالى : {هُمْ وأَزواجُهم في ظِلالٍ} جمع ظِل ، وهو : الموضع الذي لا تقع عليه الشمس. وفي قراءة " ظُلَل " بالضم ، جمع ظُلة ، كبُرمة وبرام ، وهو ما يسترك عن الشمس ، وظل أهل الجنة لا تنسخه شمس ، قال تعالى : {وَظِلًٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة : 30] {عَلَى الأَرَآئِكِ} : جمع أريكة ، وهي السرير في الحَجَلة. فالأرائك : السرر المفروشة ، بشرط أن تكون عليها الحَجلة ، وإلا فليست بأريكة ، والحَجَلة : ما يستر السرير من ثوب الحرير. وهم {متكئون} عليها كالملوك على الأسرّة. {لهم فيها فاكهة} كثيرة مما يشتهون. {ولهم ما يَدَّعُون} أي : كل ما يَدعونه يأتيهم فوراً ، فوزنه : يفتعلون ، من الدعاء ، أو : ما يتمنون من نعيم الأشباح والأرواح ، من قولهم : ادَّع عليّ ما شئت ، أي : تمنّه. وقال الفراء : هو من الدعوى ، ولا يدّعون إلا ما يستَحقون.
{سلام قولاً من ربٍّ رحيم} أي : من أهم ما يدعون : سلام يقال لهم قولاً من رب رحيم ، بلا واسطة ؛ مبالغة في تعظيمهم ، وذلك غاية متمناهم ، مضافاً لرؤيته ، ومن مقتضى الرحمة : الإبقاء عليهم مع ذلك. قال القشيري : يسمعون كلامه وسلامَه بلا واسطة ، وأكَّد بقوله : {قولاً}. وبقوله : {من ربٍّ رحيم} ليُعلم أنه ليس على لسان سفير ، والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال التسليم عليهم ، ليكمل لهم النعمة هـ. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " بينا أهل الجنة في نعيمهم ، إذْ سطع لهم نورٌ ، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم ، فيقول : السلام عليكم يا أهل الجنة ، فينظر إليهم ، وينظرون إليه ". ثم ذكر أهل البُعد والحجاب ، فقال : {وامتازوا اليومَ أيها المجرمون} أي : انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حِدة ، وذلك حين يُحشر المؤمنون ، ويُساق بهم إلى الجنة. وقال قتادة : عزلوا عن كل خير. وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار ، يكون فيه ، لا يَرى ولا يُرى أبداً. هـ.
(6/236)
الإشارة : إِنَّ أصحاب الجنة المعجَّلة لأوليائه ، اليوم ، في شُغُل كبير ، لا تجدهم إلا
154
مشتغلين بالله ، بين شهود واستبصار ، وتفكُّر واعتبار ، في محل المشاهدة والمكالمة ، والمناجاة والمساررة ، أوقاتهم محفوظة ، وحركاتهم وسكناتهم بالإخلاص ملحوظة ، فهم في شغل شاغل عن الدنيا وأهلها ، هم ومَن تعلّق بهم في ظلال الرضا ، وبرد التسليم يرتادون ، وفي مشاهدة وجه الحبيب يتنعّمون. قال القشيري : إن أصحاب الجنة اليوم ، أي : طلابها ، والساعون لها ، والعاملون لنيلها ، ولمثل ذلك فليعمل العاملون ، فهم في الدنيا في طلب الجنة عن المنعِم بها ، كما جاء في الحديث : " أكثر أهل الجنة البُلْه " ، ومَن كان في الدنيا عن الدنيا حُرًّا ، فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حُرًّا ، " يختص برحمته من يشاء " ـ قلت : فالبله هم أهل الحجاب ، الذين يعبدون الله لطلب الجزاء ، ويقنعون بالنعيم الحسي ـ ثم قال : ويقال : الحقُّ تعالى لا يتعلَّق به حقٌّ ولا باطل ، فلا تَنَافِيَ بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم ، وبين شهودهم مولاهم ، كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته ، بأي حالةٍ كانت. ولا يَقْدَحُ اشتغالهم باستيفاء حُظُوظِهم ، في معارفهم. هـ. مختصراً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 153
قلت : وما في سورة الواقعة ، من ذكر نعيم السابقين ، يدلّ على أنهم يجتمع لهم نعيم الحُور والولدان ، مع نعيم العيان والرضوان ؛ لأنهم في الدنيا جمعوا بين القيام بوظائف الشريعة ، ومعاينة أسرار الحقيقة. والله تعالى أعلم.
(6/237)
قوله تعالى : {سلام قولاً من ربٍّ رحيم} قال ابن عطاء : السلام جليل عظيم الخطر ، وأجّله خطراً ما كان وقت المشاهدة والمصافحة ، حين يقول : سلام قولاً من رب رحيم. قال القشيري : الرحمة في ذلك الوقت أن يُبقهم في حال سماع السلام ، أو حال اللقاء ، لئلا تصحبهم دهشة ، ولا تلحقهم حيرة. هـ. وقال الورتجبي : سلام الله أزلي الأبد ، غير منقطع عن عباده الصالحين ، في الدنيا والآخرة ، لكن في الجنة تُرفع عن آذانهم جميع الحجب ، فسَمِعُوا كلامه ، ونظروا إلى وجهه كفاحاً. هـ. قلت : وقد يُرفع في دار الدنيا ، فيسمع سلام الله على عباده ، كما وقع لبعض الأولياء ـ. قيل : وفي قوله : {رحيم} إشارة إلى عدم حجبهم عن جماله أبداً ، مع الإبقاء عليهم في حال السلام واللقاء ، فلا تصحبهم دهشة ، كما تقدّم. وقيل : الإشارة في الرحيمية : أن ذلك الوصول ليس باستحقاق ولا سبب من فعل العبد ، وإنما هو بالرحمة ، فيكون للعاصي فيه نَفَسٌ ومساغ للرجاء. قاله المحشي.
وقوله : {وامتازوا اليوم} إشارة إلى أن غيبة الرقيب من أتم النعمة ، وإبعادَ العدوِّ من أجَلِّ العوارف ، فالأولياءُ في إيجاب القربة ، والأعداد في العذاب والحجبة. انظر القشيري.
155
جزء : 6 رقم الصفحة : 153
(6/238)
يقول الحق جلّ جلاله ، في توبيخ الكفرة يوم القيامة : {أَلَمْ أعهدْ إِليكم يا بني آدمَ ألا تعبدوا الشيطان إِنه لكم عدو مبين} يقال : عهِد إليه : إذا وصّاه. وهذا العهد إما على ألسنة الرسل ، أو : يوم : {ألست بربكم} ، أو : ما نصبه لهم من الحُجج العقلية ، والدلائل السمعية ، الآمرة بعبادته ، الزاجرة عن عبادة غيره. وعبادة الشيطان : طاعته فيما يُوسوس به إليهم ، ويُزيِّنه لهم. {وأن اعبدوني} : عطف على {ألاَّ تعبدوا} ، أي : عهدنا إليكم ألاَّ تُطيعوا الشيطان ووحّدوني ، وأطيعوني ، {هذا صراطٌ مستقيم} إشارة إلى ما عهد إليهم فيه من معصية الشيطان ، وطاعة الرحمن ، أي : هذا طريق بليغ في الاستقامة ، لا طريق أقوم منه. وفيه إشارة إلى جنايتهم على أنفسهم بعد النصح التام ، فلا حجة بعد الإعذار ، ولا ظلم بعد التذكير والإنذار.
{ولقد أضلَّ منكم جبلاً} أي : خلقاً {كثيراً} ـ وفيه لغات مذكورة في كتب القراءات ـ أي : ولقد أتلف الشيطان عن طريقي المستقيم خلقاً كثيراً ، بأن أشركوا معي غيري ، {أفلم تكونوا تعقِلون} قرّعهم على تركهم الانتفاع بالعقل ، الذي ركّبه فيهم ، حيث استعملوه فيما يضرهم ، من تدبير حظوظهم وهواهم. {هذه جهنم التي كنتم تُوعدون} بها ، {اصْلَوْها اليومَ بما كنتم تكفرون} أي : ادخلوا واحترقوا فيها ، بكفركم وإنكاركم لها.
(6/239)
{اليوم نَخْتِمُ على أفواهِهِم} أي : نمنعهم من الكلام ، {وتُكلِّمُنا أيديهم وتشهدُ أرجُلُهم بما كانوا يكسِبُون} يُروى : أنهم يجحدون ، ويُخاصمون ، فتشهد عليهم جيرانهم ، وأهاليهم ، وعشائرهم ، فيحلفون : ما كانوا مشركين ، فحينئذ يُختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث : " يقول العبد يوم القيامة : إني لا أُجيزُ عليّ إلا شاهداً من نفسي ، فيُخْتم على فِيهِ ، ويُقال لأركانه : انْطِقي ، فتنطِقُ بأعماله ، ثم يُخَلِّي بينه وبين الكلام ، فيقول : بُعداً لكُنَّ ، وسُحْقاً ، فعنكُنّ كنت أُناضِلُ ". الإشارة : كل مَن آثر حظوظه ومُناه ، ولم يقدر على مجاهدة هواه ، حتى مات
156
محجوباً عن الله ، يلحقه شيء من هذا التقريع. والصراط المستقيم : هو طريق التربية ، التي توصِّل إلى الحضرة ، التي قام ببيانها الأولياء العارفون بالله. ولقد أضلَّ الشيطانُ عنها خلقاً كثيراً ، حملهم على طلب الدنيا والرئاسة والجاه ، فلم يقدروا على التفرُّغ لذكر الله ، ولم يحُطوا رؤوسهم لمَن يُعَرِّفهم بالله ، فيُقال لهم : هذه نار القطيعة التي كنتم تُوعدون ، إن بقيتم مع حظوظكم ورئاستكم ، اصلوها اليوم بكفركم بطريق التربية ، اليوم نختم على أفواههم ، فلا مناجاة بينهم وبين حبيبهم ، وتُكلمنا أيديهم ، وتشهد أرجلهم ـ بلسان الحال أو المقال ـ بما كانوا يكسبون من التقصير.
جزء : 6 رقم الصفحة : 156
قال القشيري : قوله : {وتُكلمنا أيديهم...} إلخ ، فأمَّا الكفار فشهادةُ أعضائِهم عليهم مؤبدة ، وأما العُصَاةُ من المؤمنين فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان ، ولكن تشهد عليهم بعض أعضائهم بالإحسان ، وأنشدوا :
بيني وبينك يا ظلومُ الموقِفُ
والحاكم العَدْلُ ، الجوادُ المُنْصِفُ
(6/240)
وفي بعض الأخبار المرويةِ : أن عَبْداً شهدت أعضاؤه عليه بالزَّلَّة ، فتطير شَعرة من جفن عينه ، فتشهد له بالشهادة. فيقول الحق تعالى : يا شعرة جَفْنِ عبدي احتَجّي عن عبدي ، فتشهد له بالبكاء من خوفه ، فيغفر له ، وينادي منادٍ : هذا عتيقُ الله بشَعْرَة. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 156
يقول الحق جلّ جلاله : {ولم نشاءُ لطَمَسْنَا على أعيُنِهِم} اليوم ، أي : أعميناهم وأذهبنا أبصارهم. والطمس : سد شق العين حتى تعود ممسوخة. {فاستَبَقُوا الصِّرَاطَ} على حذف الجار ، وإيصال الفعل ، أي : فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه ، وبادَروا إليه ؛ لِما يلحقهم من الخوف ، {فأنَّى يُبصرون} فكيف يُبصرون حينئذ من جهة سلوكهم ، فيضلون في طريقهم عن بلوغ أملهم.
{ولو نشاء لَمَسَخْناهم} قردة ، وخنازير ، أو حجارة ، {على مكانتهم} : على منازلهم ، وفي ديارهم ، حيث يأمنون من المكاره. والمكانة والمكان واحد ، كالمقامة والمقام. {فما استطاعوا مُضيًّا ولا يرجِعُون} فلم يقدروا على ذهاب ومجيء ، أو : مُضِياً أمامهم ، ولا يرجعون خلفهم. والمعنى : أنهم لكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن نفعل بهم ذلك ، لكنا لم نفعل ؛ لشمول الرحمة لهم ، واقتضاء الحكمة إمهالهم.
{ومن نُعَمِّرْهُ} نُطِل عمره {نُنكِّسْهُ في الخلقِ} نقلبه فيه. وقرأ عاصم وحمزة
157
(6/241)
بالتشديد. والنكس والتنكيس : جعل الشيء أعلاه أسفله. والمعنى : مَن أطلنا عمره نكَسنا خلقه ، وهو نوع من المسخ ، فصار بدل القوة ضعفاً ، وبدل الشباب هرماً ، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده ، وخلو من عقل وعلم ، ثم جعلناه يتزايدُ إلى أن يبلغ أشده ، ويستكمل قوته ، ويعْقل ، ويعلم ما له وعليه ، فإذا انتهى نكّسناه في الخلق ، فجعلناه يتناقصُ حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبيّ ، في ضعف جسده ، وقلّة عقله ، وخلوّه من العلم ، كما ينكس السهم ، فيجعل أعلاه أسفله. قال تعالى : {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل : 70]. قال ابن عباس : " مَن قرأ القرآن ـ أي وعمل به ـ لم يرد إلى أرذل العمر ". {أفلا يعقلون} أنّ مَن قدر أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم ، ومن القوة إلى الضعف ، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ، قادرٌ على أن يطمسَ على أعينهم ، ويمسخهم على مكانتهم ، ويبعثهم بعد الموت.
الإشارة : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ، فلا يهتدون إلى طريق السلوك ، ولا يسلكونها ، فيبقوا في الحجاب على الدوام. ولو نشاء لمسخنا قلوبهم على مكانتهم ، من رجاحة العقل والفهم ، فلا يتدبّرون إلا في الأمور الحسية ، فلا يستطيعون مُضيًّا في بلاد المعاني ، ولا رجوعاً عن الحسيّات. ومَن نُعَمّره من هؤلاء نُنكّسْهُ في الخلق ، فيلحقه الخرف والضعف ، وأما مَن اهتدى إلى طريق السير ، وسلك بلاد المعاني ، فلا يزيده طول العمر إلا رجاحةً في العقل ، وقوةً في العلم ، وتمكيناً في المعاني والمعرفة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 157
قال القشيري : ومَن نُعَمِّرْهُ ننكِّسْه في الخلق : نرده إلى العكس ، فكما كان يزداد في القوة ، يأخذ في النقصان ، إلى أن يبلغَ أرذلَ العُمر ، فيصير إلى مثل حال الطفولية من الضعف ، ثم لا يبقى بعد النقصان شيءٌ ، كما أنشدوا :
طوى العصران ما نشراه مني
(6/242)
فأبلى جدتي نشرٌ وطي>> أراني كلَّ يومٍ في انتقاصٍ
ولا يبقى مع النقصان شي
وهذا في الجثة والمباني ، دون الأحوال والمعاني ، فإن الأحوال ـ في حق الجثة ـ في الزيادة إلى بلوغ حَد الخَرَفِ ، فيَخْتَلُّ رأيُه وعَقْلُه. وأصحاب الحقائق تشيب ذوائبُهم ، ولكنَّ محابَّهم ومعانيَهم في عنفوان شبابها ، وطراوة جدَّتها. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 157
158
يقول الحق جلّ جلاله : {وما علَّمناه الشِّعْرَ} أي : وما علّمنا نبينا محمداً الشعر ، حتى يقدر أن يقول شعراً ، فيُتهم على القرآن ، أو : وما علّمناه بتعلُّم القرآن الشعر ، على معنى : أن القرآن ليس بشعر ، فإنه غير مقفّى ولا موزون ، وليس معناه ما يتوقاه الشعراء من التخييلات المرغبة والمنفرة ونحوها. فأين الوزن فيه ؟ وأين التقفيه ؟ فلا مناسبة بينه وبين كلام الشعراء ، {وما ينبغي له} أي : وما يليق بحاله ، ولا يتأتى له لو طلبه ، أي : جعلناه بحيث لو أراد قَرْضَ الشعر لم يتأتّ له ، ولم يسهل ، كما جعلناه أُميًّا لم يهتدِ إلى الخط ؛ لتكون الحجة أثبت ، والشبهة أدحض.
وأما قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ " ، وقوله : " هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصبعٌ دَمِيتِ ، وفِي سَبِيلِ الله ما لَقِيتِ " ، فهو مما اتفق وزنه من غير قصد ، كما يتفق في خطاب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم ، ولا يسمى شعراً إلا ما قصد وزنه.
ولَمَّا نفى القرآن أن يكون من جنس الشعر ، قال : {إِن هو إِلا ذِكْرٌ} أي : ما الذي يُعلِّم ويقوله إلا ذكر من الله ، يُوعظ به الإنس والجن ، {وقرآنٌ} أي : كتاب سماوي ، يُقرأ في المحاريب ، ويُتلى في المتعبّدات ، ويُنال بتلاوته والعملِ به أعلا الدرجات. فكم بينه وبين الشعر ، الذي هو من همزات الشيطان ؟ !.
(6/243)
أنزلناه إليك {لتُنذر به} يا محمد ، أو : لينذر القرآن {من كان حَيًّا} بالإيمان ، أو عاقلاً متأملاً ؛ فإن الغافل كالميت ، أو : مَن سبق في علم الله أن يحيى ؛ فإن الحياة الأبدية بالإيمان ، وتخصيص الإنذار به ؛ لأنه المنتفع به ، {ويَحِقَّ القولُ} أي : تجب كلمة العذاب {على الكافرين} المُصرِّين على الكفر ، وجعلهم في مقابلة مَن كان حَيًّا إشعار بأنهم بكفرهم في حكم الأموات ، كقوله : {ومَآ أَنتَ بِمُسْمَعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ} [فاطر : 22].
الإشارة : أما النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فنفى الله عنه صنعة الشِّعر ، والقوة عليه ، لئلا يُتهم فيما يقوله ، وأما الأولياء فكثير منهم تكون له القوة عليه ، ويصرف ذلك في أمداح الخمرة الأزلية ، والحضرة القدسية ، أو في الحضرة النبوية ، وينالون بذلك تقريباً ، ورتبة كبيرة ، وأما قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " لأنْ يمتَلىءَ جَوْفُ أحدِكم قَيْحاً يَرِيهُ خَيرٌ من أن يمتَلىء شِعْراً " فالمراد به شعر الهوى ، الذي يشغل عن ذكر الله ، أو يصرف القلب عن حضرة الله. قيل لعائشة رضي الله عنها : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثّل بشيء من الشعر ؟ فقالت : لم يتمثّل بشيء من الشعر إلا بيت طرفة ، أخي بني قيس :
159
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ ما كُنتَ جاهلاً
وَيَأتِيكَ بالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ
وربما عكسه فقال : " ويأتيك مَن لم تزود بالأخبار ". وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 158
(6/244)
يقول الحق جلّ جلاله : {أَوَ لَم يَرَوا} أي : أعموا ولم يعلموا {أَنا خلقْنا لهم مما عَمِلَت أيدينا} أي : أظهرته قدرتنا ، ولم يقدر على إحداثه غيرُنا. وذِكْر الأيدي ، وإسناد العمل إليها ، استعارة ، تُفيد مبالغة في الاختصاص والتفرُّد بالإيجاد ، {أنعاماً} خصَّها بالذكر ؛ لِمَا فيها من بدائع الحكمة والمنافع الجمة. {فهم لها مالكون} أي : خلقناها لأجلهم ، فملكناها إياهم ، فهم يتصرفون فيها تصرُّف المالك ، مختصُّون بالانتفاع بها. أو : فهم لها حافظون قاهرون.
{وذَلَّلناها لهم} وصيَّرناها منقادة لهم. وإلا فمَن كان يقدر عليها لولا تذليلُه وتسخيره لها. وبهذا أمر الراكب أن يشكر هذه النعمة ، ويسبح بقوله : {سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف : 13] {فمنها رَكوبهم} أي : مركوبهم ، وهو ما يُركب منها ، وقرىء بضم الراء ، أي : ذو ركوبهم. أو : فمن منافعها ركوبهم. {ومنها يأكلون} ما يأكلون لحمه ، أي : سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها. {ولهم فيها منافعُ} من الجلود ، والأوبار ، والأصواف ، وغير ذلك ، {ومشَارِبُ} من اللبن ، على تلوُّنه من المضروب وغيره ، وهو جمع : مشرب ، بمعنى : موضع الشرب. أو : المصدر ، أي : الشرب. {أفلا يشكرون} نِعَم الله في ذلك ؟ إذ لولا إيجاده لها ما أمكن الانتفاع بها.
الإشارة : قوم نظروا إلى ما منَّ الله إليهم من المبرة والإكرام ، فانقادوا إليه بملاطفة الإحسان ، فعرفوا المنعِّم ، وشكروا الواحد المنّان ، فسخّر لهم الكون وما فيه ، وقوم لم ينجع فيهم سوابغ النعم ، فسلّط عليهم المصائب والنقم ، فانقادوا إليه قهراً بسلاسل الامتحان ، " عَجِبَ ربك من قوم يُساقون إلى الجنة بالسلاسل " ، وكل هؤلاء سبقت لهم من الله العناية. وقوم لم ينجح فيهم نِعَمٌ ولا نِقَم ، قد سبق لهم الخذلان ، فأصرُّوا على العصيان ، ولم يشكروا الله على ما أسدى من سوابغ الإحسان.
(6/245)
جزء : 6 رقم الصفحة : 159
يقول الحق جلّ جلاله : {واتخذوا من دون الله آلهةٌ} أشركوها معه في العبادة ، بعدما رأوا منه تلك القدرة الباهرة ، والنعم المتظاهرة ، وتحقّقوا أنه المنفرد بها ، فعبدوا الأصنام ، {لعلهم يُنصَرُون} بها إذا حزبهم أمْرٌ. والأمر بالعكس ، {لا يستطيعون نَصْرَهم} أبداً ، {وهم لهم} أي : الكفار للأصنام {جُندٌ} أي : أعوان وشيعة {مُحْضَرُونَ} يخدمونهم ، ويذبّون عنهم ، ويعكفون على عبادتهم ، أو : اتخذوهم لينصروهم عند الله ، ويشفعوا لهم ، والأمر على خلاف ما توهّموا ، فهم يوم القيامة جند معدّون لهم ، محضرون لعذابهم ؛ لأنهم يجعلون وقوداً للنار ، التي يحترقون بها.
ثم سلّى نبيه مما يسمع بقوله : {فلا يَحْزُنك قَولُهم} فلا يُهمنَّك تكذيبهم ، وأذاهم وما تسمع منهم من الإشراك والإلحاد. {إِنا نعلم ما يُسِرُّون} من عداوتهم وكفرهم ، {وما يُعلِنُون} فيجازيهم عليه ، فحقّ مثلك أن يتسلّى بهذا الوعيد ، ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة ، حتى ينقشع عنهم الهمّ ، ولا يرهقه حزن. وهو تعليل للنهي على طريق الاستئناف ، ولذلك لو قُرىء " أنّا " بالفتح ، على حذف لام التعليل ، لجاز ، خلافاً لمَن أنكره وأبطل صلاة مَن قرأ به. انظر النسفي.
الإشارة : كل مَن ركن إلى شيء دون الله ، فهو في حقه صنم ، كائناً ما كان ، عِلماً ، أو عملاً ، أو حالاً ، أو غير ذلك. ولذلك قال القطب ابن مشيش لأبي حسن الشاذلي رضي الله عنهما لَمَّا قال : بِمَ تلقى الله يا أبا الحسن ؟ فقال له : بفقري ، قال : إذاً تلقاه بالصنم الأعظم ، أي : وإنما يلقى الله بالله ، ويغيب عما سواه. وقوله تعالى : {فلا يحزنك قولهم} فيه تسلية لمَن أُوذي في جانب الله. قال القشيري : إذا عَلِمَ العبدُ أنه بمرأىً من الحق ، هان عليه ما يقاسيه ، لا سيما إذا كان في الله. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 160
(6/246)
يقول الحق جلّ جلاله : {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسانُ أَنَّا خَلقناه من نُطفةٍ} مَذِرة ، خارجة من
161
الإحليل ، الذي هو قناة النجاسة ، {فإِذا هو خَصِيم مبين} بيّن الخصومة ، أي : فهو على مهانة أصله ، ودناءة أوله ، يتصدّى لمخاصمة ربه ، ويُنكر قدرته على إحياء الميت بعدما رمّت عظامه. وهي تسلية ثانية له صلى الله عليه وسلم ، وتهوين ما يقولونه في جانب الحشر ، وهو توبيخ بليغ ؛ حيث عجّب منه ، وجعله إفراطاً في الخصومة بيّناً فيها.
رُوي أن أَبيّ بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالٍ ، ففتَّه بيده ، وقال : يا محمد ؛ أتُرى الله يحيي هذا بعدما رمّ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " نعم ويبعثك ويدخلك جهنم " فنزلت الآية.
{وضَرَبَ لنا مثلاً} أمراً عجيباً ، بأن جَعَلنا مثل الخلق العاجزين ، فنعجز عما عجزوا عنه ؛ من إحياء الموتى ، {ونَسِيَ خَلْقَه} من المنيّ المهين ، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم. و " خلقه " : مصدر مضاف للمفعول ، أي : خلقنا إياه ، {قال مَن يحيي العظامَ وهي رميمٌ} بالٍ مفتت ، وهو اسم لما بَلِيَ من العظام ، لا صفة ، ولذلك لم يؤنّث. وقد وقع خبراً لمؤنث ، وقيل : صفة بمعنى مفعول ، من : رممته ، فيكون كقتيل وجريح. وفيه دليل على أن العظم تحله الحياة ، فإذا مات صار نجساً ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا تحلّه الحياة ، فهو طاهر كالشعر والعصب.
{قُل يُحْييها الذي أنشأها} خلقها {أولَ مرة} أي : ابتداء ، {وهو بكل خَلْقٍ} مخلوق {عليمٌ} لا يخفى عليه أجزاؤه ، وإن تفرقت في البر أو البحر ، فيجمعه ، ويُعيده كما كان.
(6/247)
ثم ذكر برهان إحيائه الموتى بقوله : {الذي جعل لكم من الشَّجَرِ الأخضر} كالمَرْخ والعَفَار ، {ناراً فإِذا أنتم منه تُوقِدُون} تقدحون ، ولا تشكون أنها نار خرجت منه ، فمَن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر ، مع ما فيه من المائية ، المضادة للنار ، كان أقدر على إيجاد الحياة والغضاضة فيما غضا ويبس ، وهي الزناد عند العرب ، وأكثرها من المَرْخ والعَفار ، وفي أمثالهم : " في كلّ شجر نار ، واستمجد المرخُ والعفار " أي : استكثر في هذين الصنفين. وكان الرجل يقطع منهما غصنين مثل السوَاكين ، وهما خضراوان ، يقطر منهما الماء ، فيسحق المرخ ـ وهو ذكر ـ على العفار ـ وهي أنثى ـ فينقدح النار بإذن الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنه : ليس من الشجر شجرة إلا وفيها نار ، إلا العناب ؛ لمصلحة الدقّ للثياب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 161
والمرخُ ـ ككتف : شجر سريع الورى. قاله في الصحاح. وهو المسمى عندنا بالكُلخ. وفي القاموس : عَفار كسحاب : شجر يتخذ منه الزناد. قال ابن عطية : النار موجودة في كل عود ، غير أنها في المتحلحَل ، المفتوح المسام ، أوجد ، وكذلك هو المَرْخ والعَفار. هـ.
162
{أَوَليس الذي خلق السماواتِ والأرضَ} مع كبر جرمهما ، وعظم شأنهما {بقادرٍ على أن يَخْلُقَ مِثْلَهم} مثل أجسامهم في الصِّغر والحقارة ، بالإضافة إلى السموات والأرض ، أو : أن يعيدهم مثل ما كانوا عليه في الذات والصفات ؛ لأن المعاد مثل المبْدأ ، بل أسهل ، {بَلى} أي : قُل : بَلى هو قادر على ذلك ، {وهو الخلاَّقُ} كثير الخلق والاختراع ، {العليمُ} بأحوال خلقه ، أو : كثير المخلوقات والمعلومات.
(6/248)
{إِنما أمْرُهُ} شأنه {إِذا أراد شيئاً} بكونه {أن يقولَ له كُن فيكون} فيحدث ، أي : فهو كائن موجود ، لا محالة. وهو تمثيل لتأثير قدرته في الأشياء ، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور ، من غير امتناع وتوقف ، من غير أن يحتاج إلى كاف ولا نون ، وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد ، كأنه يقول : كما لا يثقل عليكم قول " كن " ، فكذلك لا يصعب على الله إنشاؤكم وإعادتكم. قال الكواشي : ثم أومأ إلى كيفية خلقه الأشياء المختلفة في الزمان المتحد ، وذلك ممتنع على غيره ، فقال : {إِنما أمره...} الآية ، فيحدث من غير توقف ، فمَن رفع " فيكونُ " ، فلأنه جملة من مبتدأ وخبر ، أي : فهو يكون. ومَن نصب فللعطف على " يقول ". والمعنى : أنه ليس ممن يلحقه نصَب ولا مشقة ، ولا يتعاظمه أمر ، بل إيجاد المعدومات ، وإعدام الموجودات ، عليه أسرع من لمح البصر هـ.
{فسبحان} تنزيهاً له مما وصفه به المشركون ، وتعجيب مما قالوا ، {الذي بيده ملكوتُ} أي : ملك {كُلِّ شيءٍ} والتصرُّف فيه على الإطلاق. وزيادة الواو والتاء ؛ للمبالغة ، أي : مالك كلّ شيء ، {وإِليه تُرجَعُون} بالبعث للجزاء والحساب.
(6/249)
الإشارة : أَوَلَمْ ير الإنسان أنَّا خلقناه من نطفة مهينة ، فإذا هو خصيم لنا في تدبيرنا واختيارنا ، ويُنازعنا في مُرادنا من خلقنا ، ومرادنا منهم : ما هم عليه. فاستحي أيها الإنسان أن تُخاصم الله في حكمه ، أو تنازعه في تقديره وتدبيره ، وسلِّم الأمور لمَن بيده الخلق والأمر. بكى بعضُ الصالحين أربعين سنة على ذنب أذنبه. قيل له : وما هو ؟ قال : (قلت لشيء كان : ليته لم يكن). فارْضَ بما يختاره الحق لك ، جلاليًّا كان أو جماليًّا ولا تختر من أمرك شيئاً ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وكل مَن اهتم بأمر نفسه ، واشتغل بتدبير شؤونها ، فقد ضرب لله مثلاً ، بأن أشرك نفسه معه ، ونَسِي خلقه ، ولو فكر في ضعف أصله ، وحاله ، لاستحيا أن يُدبِّر لنفسه مع ربه ، وفي الإشارات عن الله تعالى : أيها العبد لو أَذِنْتُ لك أن تدبر لنفسك لكنت تستحيي مني أن تدبر لها ، فكيف وقد نهيتك عن الندية!.
جزء : 6 رقم الصفحة : 161
وكما قَدَرَ على إحياء العظام الرميمة ، يَقْدر على إحياء القلوب الميتة ، ومَن قَدَرَ على استخراج النار من محل الماء ، يقدر على استخراج العلم من الجهل ، واليقظة من الغفلة ، ومَن كان أمره بين الكاف والنون ، بل أسرع من لحظ العيون ، ينبغي أن يُرجع إليه في
163
جميع الشؤون. قال القشيري : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ، فلا يحدث شيء ـ قلَّ أو كثر ـ إلا بإبداعه وإنشائه ، ولا يبقى منها شيء إلا بإبقائه ، فمنه ظهر ما يحدث ، وإليه يصير ما يخلق. هـ.
قال النسفي : قال صلى الله عليه وسلم : " مَن قرأ يس يريد بها وجه الله غفر اللهُ له ، وأُعطي من الأجر كمَن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة " وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وآله وصحبه ، وسلَم.
164
جزء : 6 رقم الصفحة : 161(6/250)
سورة الصافات
جزء : 6 رقم الصفحة : 164
يقول الحق جلّ جلاله : {والصافات صفاً فالزاجرات زَجْراً فالتاليات ذكراً} أقسم بطوائف الملائكة ، الصافِّين أقدامهم في مراتب العبادة ، كل على ما أمر به ، فالزاجرات السحاب سوقاً إلى ما أراد الله ، أو : عن المعاصي بإلهام الخير. أو : الشياطين عن التعرُّض لهم. {فالتاليات ذكراً} لكلام الله تعالى من الكتب المنزلة وغيرها ، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وفيه رد على ابن الصلاح ، حيث قال في فتاويه : إن الملائكة لا تقرأ القرآن ، وإنما قراءته كرامة أكرم الله بها البشر. قال : فقد ورد أن الملائكة لم تُعط ذلك ، فهي حريصة لذلك على استماعه من الإنس ، كما نقله عنه في الإتقان ، فانظره.
أو : بنفوس العلماء والعمال ، الصافات أقدامها في التهجُّد وسائر الصلوات ، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح ، فالتاليات آيات الله ، والدراسات شرائعه. أو : بنفوس الغزاة في سبيل الله ، التي تصف الصفوف ، وتزجر الخيل للجهاد ، وتتلو الذكر مع ذلك ، لا يشغلهم عنه مبارزة العدو. و {صفاً} : مصدر مؤكد ، وكذلك {زجراً} ، والفاء تدلُّ على الترتيب ، فتفيد فضل المتقدم على المتأخر ، فتفيد الفضل للصف ، ثم للزجر ، ثم للتلاوة ، أو بالعكس.
165(6/251)
وجواب القسم : {إِنَّ إِلهكم لواحدٌ} لا شريك معه يستحق أن يُعبد ، {وربُّ السماواتِ والأرضِ} وهو خبر بعد خبر ، أو : خبر عن مضمر ، أي : هو {ربُّ السماوات والأرض وما بينهما وربُّ المشارق} أي : مطالع الشمس ، وهي ثلاث مائة وستون مشرقاً ، وكذلك المغارب. تُشرق الشمس كلّ يوم في مشرق منها ، وتغرب في مغرب ، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. وأما : {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن : 17] فإنه أريد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وأما : {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل : 9] فإنه أريد به الجهة ، فالمشرق جهة ، والمغرب جهة. قال الكواشي : لم يذكر المغارب ؛ لأن المشارق تدل عليها.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 165
إِنا زَيَّنا السماءَ الدنيا} القُربى منكم ، تأنيث الأدنى ، {بزينة الكواكب} بالإضافة ، أي : بأن زينتها الكواكب ومَن قرأ بالتنوين والخفض فبدل ، أي : هي الكواكب ، ومَن قرأ بالنصب فعلى إضمار " أعني " ، أو : بدل من محل " بزينة " أي : زيَّنَّا الكواكب ، أو : على إعمال المصدر منوناً في المفعول ، أي : بتزيُّن الكواكب. قال البيضاوي : وركوز الثوابت في الكُوة الثامنة ، وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينهما وبين سماء الدنيا إن تحقق لم يقدح في ذلك ، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة ، متلألئة على سطحها الأزرق. هـ.
(6/252)
{وحِفْظاً} من الشياطين ، كما قال : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلْشَّيَاطِينِ} [الملك : 5] أو : بإضمار فعله ، أي : حفظناها حفظاً {من كل شيطانٍ ماردٍ} خارج عن الطاعة ، فيُرمي بالشهب. {لا يسَّمَّعون إِلى الملأ الأعلى} : استئناف ؛ لبيان حالهم ، بعد بيان حفظ السماء منهم ، ولا يجوز وصفه لكل شيطان ؛ لأنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. والضمير لكلٍّ باعتبار المعنى ؛ لأنه في معنى شياطين ، وتعدية {يسمعون} بإلى لتضمُّنه معنى الإصغاء ؛ مبالغة في نفيه ، وتهويلاً لما يمنعهم عنه. ومَن قرأ بالتشديد فأصله : " يتَسمَّعون " فأدغم. والتسمُّع : طلب السماع. يقال : تسمّع فسمع أو لم يسمع إذا منعه مانع. والملأ الأعلى هم : الملائكة ؛ لأنهم في السموات العُلى ، والإنس والجن هم الملأ الأسفل ؛ لأنهم سكان الأرض {ويُقْذَفُون} يُرمون بالشُهب ، {مِن كل جانبٍ} من جميع جوانب السماء ، من أيّ جهة صعدوا للاستراق.
{دُحُوراً} مفعول له ، أي : ويُقذفون للدحور ، وهو الطرد ، أو : مدحورين ، على الحال ، أو : لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى ، فيكون مصدراً له ، فكأنه قيل : ويُقذفون قذفاً ، {ولهم عذابٌ} آخر {واصبٌ} دائم ، أو شديد ، وهو عذاب الآخرة ، أو : عذاب الدنيا ؛ لأنه دائم الوجوب ؛ لأنهم في الدنيا مرجمون بالشهب دائماً ، {إِلا مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ} " مَنْ " : بدل من ضمير " يسمعون " ، أي : لا يتسمّع الشياطين إلا الشيطان الذي خَطِفَ الخطفةَ ، أي : اختلس شيئاً من كلام الملائكة بسرعة ، {فَأَتْبَعه شِهَابٌ ثاقبٌ}
166
أي : نجم مضيء يثقبه ، أو يحرقه ، أو يخبله ، ومنه تكون الغيلان. والله تعالى أعلم.
(6/253)
الإشارة : أقسم الحق تعالى بصفوف الذاكرين ، الزاجرين للخواطر عن قلوبهم ، في طلب الحضور ، التالين لذكر ربهم لرفع الستور ، إنه منفرد في ألوهيته ، متوحِّد في ربوبيته ؛ إذ هو ربُّ كل شيء ، ربُّ سموات الأرواح ، وربُّ أرض النفوس والأشباح ، وربُّ مشارق أنوار العرفان ، وهي قلوب أهل العيان ، ولم يذكر المغارب ؛ لأن شمس القلوب إذا طلعت ليس لها مغيب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 165
قوله تعالى : {إِنا زَيَّنا السماءَ الدنيا...} إلخ ، قال القشيري : زيَّن السماء بالنجوم ، وزيَّن قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال. هـ. وقوله تعالى : {وحِفظاً من كل شيطان مارد} قال القشيري : كذلك حفظ القلوب بأنوار التوحيد ، فإذا قَرُبَ منها الشيطان رَجَمَهَا بنجوم معارفهم ، إلا مَن خَطِفَ الخطفة ، كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يُلْقِيَ شيئاً من وساوسه ؛ تَذَكَّروا ، فإذا هم مُبْصِرون. هـ.
وقال في لطائف المنن : إن الله تعالى إذ تولى وليًّا صان قلبه من الأغيار ، وحرسه بدوام الأنوار ، حتى لقد قال بعض العارفين : إذا كان سبحانه قد حرس السماء بالكواكب والشُّهب ؛ كي لا يسترق السمع منها ، فقلبُ المؤمن أولى بذلك ، لقول الله سبحانه ، فيما يحكيه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم تسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن " هـ. والمراد : المؤمن الكامل ، الذي تولّى الله حفظه ، وهو الولي العارف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 165
(6/254)
يقول الحق جلّ جلاله : {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي : فاستخبر كفّار مكّة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} أي : أقوى خلقاً وأعظم ، أو : أصعب خلقاً وأشقه. {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} يعني ما ذكر من السماء والأرض وما بينهما ، وما يعمرهما من الملائكة والكواكب ، والشُهب الثواقب ؟ وجيء بـ " مَنْ " تغليباً للعقلاء. ويدلّ عليه قراءة مَن قرأ : (أم من عددنا) بالتشديد والتخفيف. والقصد : الرد على منكري البعث ، فإنَّ مَن قدرَ على خلق هذه العوالم ، على عظمها ، كان على بعثهم أقدر.
ثم ذكر ضعف أصلهم بقوله : {إِنا خلقناهم من طين لازب} لاصق باليد ، أو :
167
لازم. وقرىء به ، أي : يلزم مَن جاوره ويلصق به. وهذا شاهد عليهم بالضعف ؛ لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة. أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خُلقوا منه إنما هو تراب ، فمن أين استنكروا أن نخلق من تراب مثله خلقاً آخر ؟ حيث قالوا : " أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً " [الرعد : 5] ، الخ ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه بعدُ ؛ من ذكر إنكارهم البعث.
{بل عَجِبْتَ} من تكذيبهم إيَّاك ، وإنكارهم البعث ، {ويَسْخَرون} هم منك ، ومن تعجُّبك ، أو : مِن أمر البعث ، قال الكواشي : ولَمَّا لم تؤثِّر فيهم البراهين ، أَمَرَ نبيَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالإضراب عنهم ، والإعجاب منهم ، حيث لم يؤمنوا به وبالبعث ، والمعنى : إنك تعجبت من تكذيبهم ، وهم يسخرون منك ومن تعجُّبك. هـ. قال قتادة : لَمَّا نزل القرآنُ عجب منه النبي صلى الله عليه وسلم ، واعتقد أنه لا يسمعه أحد إلا آمن به ، فلما سَمِعَه المشركون ، ولم يؤمنوا ، وسخروا ، تعجَّب من ذلك. هـ. وذكر ابن عطية وغيره : أن الآية نزلت في رُكانة ، الذي صرعه صلى الله عليه وسلم ، وذكر ابن عبد البر : أنه أسلم يوم الفتح. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 167
(6/255)
وقرأ الأخوان " عجبتُ " بضم التاء ، أي : استعظمت. والعجَبُ : روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء ؛ لخفاء سببه ، وهو في حقه تعالى مُحال ، ومعناه : التعجُّب لغيره ، أي : كل مَن يرى حالهم يقول : عجبت ، ونحوه : قوله صلى الله عليه وسلم : " عجب الله من شاب ليست له صبوة " وهو عبارة عما يُظهره الله في جانب المتعجب منه ، من التعظيم أو التحقير ، أو : قل يا محمد : عجبتُ ويسخرون.
{وإِذا ذُكِّروا لا يذْكُرون} أي : ودأبهم أنهم إذا وُعظوا بشيء لا يتعظون به. {وإِذا رَأَوْا آيةً} معجزة ، كانشقاق القمر ، ونحوه ، {يَسْتَسْخِرُونَ} يُبالغون في السخرية ، ويقولون : إنه سحر ، ويستدعي بعضهم بعضاً أن يسخر منها ، {وقالوا إِن هذا} ما هذا {إِلا سحر مبينٌ} ظاهر سحريته ، {أَإِذَا مِتنا وكنا تُراباً وعظاماً أئِنا لمبعُوثُون} أي : أَنُبعث إذا كنا تُراباً وعظاماً ؟ {أوَ آبَاؤُنا الأولون} فمن فتح الواو عطف على محلّ " إِنّ " واسمها ، والهمزة للإنكار ، أي : أَوَيُبعث أيضاً آباؤنا الأولون الأقدمون ، على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثهم أبْعد وأبطل. ومَن سَكَّن فَمِنْ عطفِ أحد الشيئين ، أي : أيُبعث واحد منا ، على المبالغة في الإنكار. {قُلْ نَعَم} تُبعثون {وأنتم داخرون} صاغرون.
{فإِنما هي زَجْرَةٌ واحدة} أي : صيحة واحدة ، وهي النفخة الثانية ، والفاء : جواب شرط مقدر ، أي : إذا كان كذلك فما هي إلا صيحة واحدة ، وهي مبهمة ، يُفسرها خبرها.
أو : فإنما البعثة زجرة واحدة. والزجرة : الصيحة ، من قولك : زجر الراعي الإبلَ والغنمَ :
168
إذا صاح عليها ، {فإِذا هم} أحياء {ينظرون} إلى سوء أعمالهم ، أو : ينظرون ما يحلُّ بهم.
(6/256)
{وقالوا يا ويلنا} الويل : كلمة يقولها القائل وقت الهلكة ، {هذا يومُ الدينِ} اليوم الذي يُدانُ فيه العباد ، ويُجازون بأعمالهم. {هذا يومُ الفصلِ} أي : يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلالة ، {الذي كنتم به تُكذِّبون} يحتمل أن يكون قوله : {هذا يوم الدين} من كلام الكفرة ، بعضهم مع بعض ، وأن يكون من كلام الملائكة لهم ، وأن يكون {يا ويلنا هذا يوم الدين} من كلام الكفرة ، وما بعده كلام الملائكة ، جواباً لهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الإنسان فيه عالَمان ، عالَم في غاية الضعف والخِسة ، وهي بشريته الطينية ، أصلها من ماء مهين. وعالَم في غاية القوة والكمال ، وهي روحانيته السماوية النوارنية ، فإذا حييت الروح بالعلم بالله ، واستولت على البشرية ، استيلاء النار على الفَحمة ، أكسبتها القوة والشرف ، وإذا ماتت الروح بالغفلة والجهل ، واستولت عليه البشرية أكسبتها الضعف والذل ، والعارف الكامل هو الذي ينزل كل شيء في محله ، فينزل الضعف في ظاهره ، والقوة في باطنه ، فظاهره يمتد من الوجود بأسره ، وباطنه يمُد الوجود بأسره. فمَن نظر إلى أصل ظاهره تواضع وعرف قدره ، ولذلك قال سيدنا علي كرّم الله وجهه : ما لابن آدم والفخر ، وأوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وفيما بينهما يحمل العذرة. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 167
ومَن نظر إلى باطنه تاه على الوجود بأسره ، لكن من آداب العبد : ألا يُظهر بين يدي سيده إلا ما يناسب العبودية ، من الضعف ، والذل ، والفقر ، فإذا تحقّق بوصفه مدَّه اللهُ بوصفه. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 167
يقول الحق جلّ جلاله للملائكة يوم القيامة : {احْشُرُوا الذين ظلموا} أي : اجمعوا الذين كفروا {وأزواجَهم} وأَشباهَهم ، فيُحشر عابد الصنم مع عبدة الأصنام ، وعابد الكواكب مع عبدتها. أو : نساءهم الكافرات ، أو : قرناءهم من الشياطين. و " الواو " بمعنى
169
(6/257)
" مع " ، أو : عاطفة. {وما كانوا يعبدون من دون الله} أي : الأصنام ، اجمعوها معهم ، {فاهْدُوهم إلى صراطِ الجحيم} أي : دُلوهم على طريقها ، وعرّفوهم بها. وعن الأصمعي : يقال : هديته في الدين هُدى ، وهديته الطريق هداية.
{وقِفُوهُم} : احبسوهم {إِنهم مسؤولون} عن أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم ، {ما لكم لا تَنَاصَرُون} لا ينصر بعضكم بعضاً. وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر ، بعدما كانوا يتناصرون في الدنيا ، أو : استهزاء بهم. وقيل : هو جواب لأبي جهل ، حيث قال يوم بدر : {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر : 44] ، وجملة النفي : حال ، أي : ما لكم غير متناصرين ، {بل هم اليوم مسْتَسْلِمون} منقادون لِما يُراد بهم ؛ لعجزهم ؛ وانْسِدَادِ أبواب الحيل عليهم ، أو : قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله.
{وأقْبَل بعضُهم على بعضٍ} أي : التابع على المتبوع {يتساءلون} يتخاصمون ، ويسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتسخُّط ، {قالوا} أي : الأتباع للمتبوعين : {إِنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} أي : تصدوننا عن الحق والإيمان ، قاله الحسن. وبيانه : أن العرب كانت تتيمّن بالسانح عن اليمين من الطير ، ويناسبه ما ذكره ابن عطية في جملة التأويلات بقوله : ومنها : أن يريد باليمين اليمْن ، أي : تأتوننا من جهة النصائح ، والعمل الذي يتيمّن به. هـ. قلت : والأحسن : أن يقدر معلق الجار ، أي : تأتوننا وتصرفوننا عن طريق أهل اليمين.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 169
(6/258)
قالوا} أي : الرؤساء : {بل لم تكونوا مؤمنين} أي : بل أنتم أبيتم الإيمان ، وأعرضتم عنه مع تمكُّنكم منه ، مختارين للكفر ، غير ملجئين إليه ، أو : بل أنتم سبقت منكم الضلالة على إغوائنا ، وإنما نشأ عن إغوائنا دوام كُفركم لا استئنافه. {وما كان لنا عليكم من سلطانٍ} وقهر ، نسلبكم به تمكُّنكم واختياركم ، {بل كنتم قوماً طاغين} أي : بل كنتم قوماً مختارين للطغيان ، {فحقَّ علينا} أي : لزمنا جميعاً {قولُ ربِّنا إِنا لذائقون} يعني : حقت علينا كلمتُه بأنا ذائقون لعذابه. ولو حكى الوعيد على ما هو لقال : إنكم لذائقون ، لكنه عدل به إلى لفظ المتكلم ؛ لأنهم يتكلّمون بذلك على أنفسهم. ثم قالوا لضعفائهم : {فأغويناكم} فدعوناكم إلى الغي {إِنا كنا غَاوِينَ} فأردنا إغواءكم لتكونوا مثلنا ، {فإِنهم} أي : الأتباع والمتبوعين جميعاً ، {في العذاب يومئذٍ مشترِكون} كما كانوا مشتركين في الغواية. {إِنا كذلك نفعل بالمجرمين} المشركين ، أي : مثل ذلك الفعل نفعل بكل مجرم.
الإشارة : ويقال على طريق العكس : احْشُروا الذين أحسنوا واتقوا ربهم ، وأزواجهم ، ومَن انتسب إليهم ، فاهدوهم إلى طريق الجنان ، وقِفوهم يشفعوا فيمن تعلّق بهم ، إنهم مسؤولون عن أصحابهم وعشائرهم ، حتى يخلصوهم من ورطة الحساب. ما لكم لا تناصرون ، فينصر بعضكم بعضاً في هذا الموطن الهائل ، بل هم اليوم منقادون لأمر
170
الله ، حتى يأذن لهم في الشفاعة. وفي الحديث : " اتَّخِذُوا يداً عند الفقراءِ ، فإن لهم دَوْلَة يومَ القيامة " ودولتهم : الشفاعة فيمن أحبهم وأحسن إليهم. والفقراء هم المتوجهون إلى الله تعالى ، حتى وصلوا إلى حضرته ، ومَن صَدّ الناسَ عن طريقه وصحبتهم ، يتعلّق به المخذول عنهم ، فيقول له : {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين...} الآية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 169
(6/259)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنهم} أي : المشركين {كانوا إِذا قيلَ لهم لا إِله إِلا الله} هو أعم من إذا قيل لهم : قولوها ، أو : ذكرت بمحضرهم ، {يستكبرون} أي : يتعاظمون عن قولها ، أي : كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد استكبروا عنها ، وأَبَوا إلا الشرك ، {ويقولون أئِنَّا لَتَارِكوا آلهتَنا لشاعرٍ مجنونٍ} يعنون نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ، {بل جاء بالحق وصَدَّقَ المرسلين} لكونه مصدِّقاً لما بين يديه من الرسل. وهو ردٌّ عليهم بأن ما جاء به الحق من التوحيد قد قام عليه البرهان ، وتطابق عليه المرسلون. فقوله تعالى : {بل جاء بالحق} مقابل لقولهم : " شاعر " ؛ لأن الشاعر في الغالب كَذُوبٌ ، وتصديق المرسلين في مقابلة مجنون ؛ لأنه لا يكون إلا من العاقل. قال تعالى لهم : {إِنكم لَذائِقو العذابِ الأليم} بالإشراك وتكذيب الرسول {وما تُجْزَون إِلا ما كنتم تعملون} إلا مثل ما عملتم بلا زيادة ولا نقصان ، فعذبتم ، على الكفر والتكذيب ، وخلدتم ، على نيتكم الدوام عليه.
الإشارة : ينبغي للمؤمن إذا سمع كلمة التوحيد ، وهي " لا إله إلا الله " أن يخشع قلبه ، وتهتز جوارحه ، فرحاً بها ، ويخضع لمَن جاء بها ، ودلَّ عليها ، حتى يُدخله في بحار معانيها ، وهو التوحيد الخاص ، أعني : توحيد أهل العيان ، وهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية النبوية. قال القشيري : {... كانوا إِذا قيل لا إِله إِلا الله يستكبرون...} الخ. احتجابُهم بقلوبهم أوقعهمْ في وهْدة عذابهم ، وذلك أنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته ، ولو عرفوا لافتخروا بعبوديته ؛ قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف : 206] وقال : {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للهِ...} [النساء : 173] ، فمَن عرف الله فلا لذة له إلا في طاعته وعبوديته ، قال قائلهم :
ويظهرُ في الورى عزُّ الموالي
فيلزمني له ذُلُّ العبيد
171
(6/260)
ولمَّا لم يحتشموا من وصفه ـ سبحانه ـ بما لا يليق بجلاله ، لم يُبالوا بها أطلقوا من المثالب في جانب أنبيائه. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 171
يقول الحق جلّ جلاله : {إِلا عبادَ الله المخلصين} ـ بفتح اللام ، وكسرها ـ أي : لكن عباد الله المخلصين في أعمالهم ، أو : الذين أخلصهم الله ونجاهم من الشرك ، فليسوا مع أولئك المعذّبين ، بل {أولئك} المخلصون {لهم رزق معلومٌ} يأتيهم بكرة وعشياً ، كحال المياسير في الدنيا ، فهو معلوم الوقت ؛ لأن النفس إليه أسكن. قال القشيري : قد كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم مَن له رزقٌ معلومٌ ، فهو من جملة المياسير ، وهذه صفة أهل الجنة ، لهم في الآخرة رزقٌ معلوم لأبشارهم وأسرارهم ، فالأغنياء ـ اليوم ـ لهم رزق معلوم لأبشارهم ، والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم. هـ.
ثم فسّره بقوله : {فواكِهُ} : جمع فاكهة ، وهي كل ما يتلذّذ به ، فليس قوتهم لحفظ الصحة ، بل رزقهم كله فواكه ؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات ؛ لأن أجسامهم نورانية مخلوقة للأبد ، فما يأكلونه إنما هو للتلذُّذ. أو : معلوم ، أي : منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ، ورائحة ، ولذّة ، وحسن منظر ، {وهم مكرَمُون} : معظَّمون. قال القشيري : من ذلك : ورود الرسُل عليهم من قِبَلِ الله ـ عزّ وجل ـ في كل وقت ، وكذلك اليومَ الخطابُ وارد على قلوب الخواص في كل وقتٍ بكلِّ أمر. هـ.
وقوله : {في جناتِ النعيم} إما ظرف لمكرمون ، أو : حال ، أو : خبر ، أي : في جنةٍ ليس فيها إلا النعيم المقيم. وكذا {على سُرُرٍ متقابلينَ} : يُقابل بعضها بعضاً ، إن استوت درجتهم ، فالتقابل أتم للسرور. وآنس.
(6/261)
{يُطاف عليهم بكأسٍ} إناء من زجاج فيه شراب ، ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب ، وإلا فهو إناء. وقد تسمّى الخمر كأساً. قال الأخفش : كل كأس في القرآن فهو خمر. ومثل لابن عباس. {من مَّعِين} من خمر معين ، أي : جارية في أنهار ظاهرة للعيون ، وصف بما وصف به الماء ؛ لأنه يجري في الجنة أنهاراً ، كما يجري الماء ، قال تعالى : {وأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ} [محمد : 15]. وقوله : {بيضاءَ} صفة للكأس ، أي : صافية في نهاية اللطافة. {لذةٍ للشاربين} أي : لذيذة للشاربين ، وصفت باللذة ، كأنها نفس اللذَة وعينُها. أو : ذات لذة. {لا فيها غَوْلٌ} أي : لا تغتال عقولَهم فتذهب بها ، كخمر الدنيا ،
172
وهو من : غاله يغوله : إذا أهلكه وأفسده. أو : لا فيها غول : إثم ، أو وجع بطن أو صداع ، وهو وجع الرأس ، أي : لا ينشأ عنها شيء مما ذكر. {ولا هم عنها يُنْزَفُون} يسكرون ، من : نُزِف الشارب : إذا ذهب عقله. ويقال للسكران : نزيف ، ومنزوف. ومَن قرأ بكسر الزاي فمعناه : لا يَنْفَد شرابهم ، يقال : أنزف الرجل فهو مُنزف : إذا فنيت خمرته.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 172
وعندهم قَاصِرَاتُ الطرْفِ} أي : حور قصرت أبصارهنّ على أزواجهن ، لا يمددن طرفاً إلى غيرهم {عِينٌ} : جمع عيناء ، أي : نجلاء ، واسعة العين. يقال : رجل أعين ، وامرأة عيناء ، ورجال ونساءٌ عينٌ. {كأنهنَّ بَيْضٌ مكنونٌ} مصون مستور. شبههنّ ببيض النعام المكنون من الريح والغبار ، في الصفاء والبياض.
{فأقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون} في الجنة ، تساؤل راحة وتنعُّم. والمعنى : أنهم يشربون ويتحادثون على الشرب ، كعادة الشَّرْب. قال الشاعر :
ومَا بَقيتُ من اللَّذَّاتِ إِلاَّ
أحاديثُ الكِرَامِ عَلَى المُدَامِ
أو : أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى عليهم في الدنيا. وجيء به ماضياً على ما عرف في أخباره المحققة الوقوع.
(6/262)
الإشارة : المخلَصين ـ بالفتح ـ أبلغ من المخلِصين ـ بالكسر ـ المخلَصين : أخلصهم الله واصطفاهم ، والمخلِصين : طالبين الإخلاص ، مجتهدين فيه ، الأولون مجذوبون ، والآخرون سالكون ، الأولون محبوبون ، والآخرون مُحبون ، الأولون واصلون ، والآخرون سائرون. قال القشيري : والإخلاص : إفرادُ الحقِّ ـ سبحانه ـ بالعبودية ، فالذي يشوبُ عمله برياء ليس بمخلص. ويقال : الإخلاص : تصفية العمل ، لا توفيقه ، وفي الخبر : " يا معاذ ، أخلص العملَ ، يكفك القليل منه " ويقال : الإخلاص : فقد رؤية الأشخاص. هـ.
{أولئك لهم رزق معلوم} للمخلَصين ـ بالفتح ـ رزق أرواحهم وأسرارهم ، من النظر إلى وجه الحبيب في كل ساعة. وللمخلصين ، رزق أشباحهم مما يشتهون. وقد يجتمع لهما ، ويغلب لكل واحد ما كان الغالب على همته في الدنيا. وهم مكرمون بالتقريب والمشاهدة ، على قدر سعيهم هنا ، ويشربون كأس المحبة والاصطفاء على قدر شربهم هنا خمرة المعاني ، وشرب المعاني على قدر الغيبة عن حس الأواني والزهد في بهجتها.
وقوله تعالى : {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} كان من تمام نعيمهم في الشرب : التحادث عليها بما يُناسب حالها ، ومدحها ، كما قال الشاعر :
173
وإذا جلست إلى المُدام وشُربه
فاجعل حديثك كله في الكاس
كذلك العارف إذا جلس مجلس الفكرة ، وغاب في الشهود والنظرة ، لا يجول إلا في عظمة الذات ، وأسرارها ، وبهائها ، وجمالها ، لا يخطر على باله غيرها ، فحديث روحه وسره كله في الخمرة الأزلية. هذه هي الفكرة الصافية ، والنظرة الشافية ، متعنا الله بها على الدوام. آمين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 172
(6/263)
يقول الحق جلّ جلاله : {قال قائِلٌ منهم} أي : من أهل الجنة {إِني كان لي قَرِينٌ} في الدنيا ، قيل : كان شيطاناً ، وقيل : من الإنس ، ففيه التحفُّظ من قرناء السوء ، وقيل : كانا شريكين بثمانية آلاف دينار ، أحدهما : قطروس ، وهو الكافر ، والآخر : يهوذا ، المؤمن ، فكان أحدهما مشغولاً بعبادة الله ، وكان الآخر مُقبلاً على ماله ، فحلَّ الشركة مع المؤمن ، وبقي وحده ؛ لتقصير المؤمن في التجارة ، وجعل الكافر كلما اشترى شيئاً من دار ، أو جارية ، أو بستان ، عرضه على المؤمن ، وفخر عليه ، فيمضي المؤمن ، ويتصدّق بنحو ذلك ، ليشتري به من الله تعالى في الجنة. فكان من أمرهما في الجنة ما قصّه اللهُ تعالى في هذه الآية. قال السهيلي : هما المذكوران في سورة الكهف بقوله : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ...} [الكهف : 32] إلخ.
{يقول} أي : قرين السوء ، لقرينه المؤمن في الدنيا : {أَئِنَّك لمِنَ المُصدِّقين} بالبعث ؟ {أَئِذَا مِتْنا وكنا تراباً وعظاماً أَئِنا لمدينون} لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا ؟ من : الدين ، وهو الجزاء.
{قال} ذلك القائل لمَن معه في الجنة : {هل أنتم مُطَّلِعُون} معي إلى النار ، لأريكم حال ذلك القرين. قيل : إن في الجنة كُوىً ينظر أهلُها منها إلى أهل النار. قلت : حال الجنة كله خوارق ، فيُكشف لهم عن حال أهل النار كيف شاء. وقيل : القائل : هو الله ، أو : بعض الملائكة. يقول لهم : هل تُحبون أن تطلعوا على أهل النار ، لأريكم ذلك القرين ، أو : لتعلموا منزلتكم من منزلتهم. قال الكواشي : أو : إن المؤمن يقول لإخوانه من أهل الجنة : هل أنتم ناظرون أخي في النار ؟ فيقولون له : أنت أعرف به منا ، فانظر إليه. {فاطَّلَع} على أهل النار {فرآه} أي : قرينه {في سواءِ الجحيم} في وسطها.
174
(6/264)
{قال تالله إِنْ كِدتَّ لتُردِينِ} لتُهلكني بإغوائك. و " إن " مخففة ، واللام : فارقة ، أي : إنه قربت لتهلكني ، {ولولا نعمةُ ربي} عليَّ بالهداية ، والعصمة ، والتوفيق للتمسُّك بعروة الإسلام ، {لكنتُ من المحْضَرين} معك ، أو : من الذين أُحضروا العذاب ، كما أُحْضِرْتَه أنت وأمثالك.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 174
أفما نحن بميتين إِلا مَوْتتنا الأولى وما نحن بمعذَّبين} الفاء للعطف على محذوف ، أي : أنحن مخلّدون فما نحن بميتين ولا معذّبين. وعلى هذا يكون الخطاب لرفقائه في الجنة ، لما رأى ما نزل بقرينه ، ونظر إلى حاله وحال رفقائه في الجنة ، تحدُّثاً بنعمة الله. أو : قاله بمرأى من قرينه ومسمع ؛ ليكون توبيخاً له ، وزيادة تعذيب ، ويحتمل أن يكون الخطاب لقرينه ، كأنه يقول : أين الّذي كنت تقول في الدنيا من أنَّا نموت ، وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب ؟ كقوله : {إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى} [الدخان : 35] والتقدير : أكما كنت تزعم هو ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى ، وما نحن بمعذَّبين ، بل الأمر وقع خلافَه ، وكان يقال له : نحن نموت ونُسأل في القبر ، ثم نموت ونحيا ، فيقول : ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذَّبين. وقوله تعالى : {إِنَّ هذا لهو الفوزُ العظيمُ...} إلخ ، يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه ، وأن يكون من خطاب الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ، أي : إن هذا النعيم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم. ثم قال الله عزّ وجل : {لمِثْلِ هذا فليعملِ العاملون} أي : لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون ، لا للحظوظ الدنيوية ، المشوبة بالآلام ، السريعة الانصرام. أو : لمثل هذا فليجتهد المجتهدون ، ما دام يُمكنهم الاجتهاد ، فإنَّ الدنيا دار عمل ، والآخرة دار جزاء ، فبقدر ما يزرع هذا يحصد ثَمَّ ، وسيندم المفرط إذا حان وقت الحصاد.
(6/265)
الإشارة : تنسحب الآية من طريق الإشارة على مَن رام النهوض إلى الله ، بصحبة الرجال في طريق التجريد ، فينهاه رفقاؤه ، فيخالفهم ، وينهض إلى الله ، فإذا كان يوم القيامة رُفع مع المقربين ، فيقول لهم : إني كان قرين يُنكر طريقَ الخصوص ، وينهاني عن صحبتهم ، فيطلع عليه ، فيراه في أسفل الجنة ، مع عامة أهل اليمين ، فيحمد الله على مخالفته ، ويقول : لولا نعمةُ ربي لكنتُ من المحضَرِينَ معك. قال القشيري : فيقول الوليُّ له : إن كدتَّ لتُردين ، لولا نعمةُ ربي. نطقوا بالحق ، ولكنهم لم يُصَرِّحوا بعين التوحيد ؛ إذ جَعَلوا الفضلَ واسطة ، والأَوْلى أن يقول : ولولا ربي لكنتُ من المحضَرين. ثم يقول : لمثل هذا فليعملِ العاملون. ثم قال : فإذا بدت شظيةٌ ، من الحقائق ، أو ذَرةٌ من نسيم القربة ، فبالحريِّ أَن يقول القائل : لمِثل هذا الحال تُبذلُ الأرواحُ ، وأنشدوا :
175
على مِثْلِ ليلى يَقْتُلُ المرءُ نَفْسَه
وإِن بات من ليلى على اليأس طاويا
جزء : 6 رقم الصفحة : 174
(6/266)
يقول الحق جلّ جلاله : {أَذَلِكَ خيرٌ نُّزلاً أم شجرةُ الزقوم} أي : أنعيم الجنة وما فيها من اللذات ، والطعام ، والشراب ، خيرٌ نُزُلاً أم شجرة الزقوم ؟ النُزل : ما يُقَدم للنازل من الرزق. و " نزلاً " : تمييز ، وفي ذكره : تنبيه على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يُقدم للنازل ، ولهم من وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام ، وكذلك الزقوم لأهل النار. قال ابن عطية : في البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرةٌ ، مُرَّة ، مسمومة ، لها لبنٌ ، إن مسَّ جسم أحد تورَّم ومات منه ، في غالب الأمر ، تُسَمَّى شجرة الزقوم. والتزقُّم : البلعُ على شدة وجهد. هـ. وفي الحديث : " لو أن قطرةً من الزقوم قُطرَتْ في بحار الدنيا لأفسدتْ على أهل الأرض معايشهم. فكيف بمَن يكون الزقومُ طعامُه " وقال ابن عرفة : هذه الشجرة يحتمل أن تكون واحدة بالنوع ، فيكون كل جهة من جهات جهنم فيها شجرة ، أو : تكون واحدة بالشخص. هـ.
{إِنا جعلناها فتنةً للظالمين} محنةً وعذاباً لهم في الآخرة ، وابتلاء لهم في الدنيا. وذلك أنهم قالوا : كيف تكون في النار شجرة ، والنار تحرق الشجر ؟ ولم يعلموا أنَّ مَنْ قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذّذ بها ـ وهو السمندل ـ كيف لا يقدر على خلق شجر في النار ، وحفظه من الإحراق ؟ {إِنها شجرةٌ تخرجُ في أصل الجحيمِ} ، قيل : منبتها في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها ، وهذا يؤيد أنها واحدة بالشخص.
{طَلْعُها} أي : حملها {كأنه رؤوس الشياطين} الطلع للنخلة ، فاستعير لما يطلع من شجرة الزقوم من حملها ، وشُبِّه برؤوس الشياطين للدلالة على تناهيه في الكراهة ، وقُبح المنظر ؛ لأن الشيطان مكروه مستقبَح في طباع الناس ؛ لاعتقادهم أنه شرّ محض. وقيل : الشياطين : حيَّات هائلة ، قبيحة المنظر ، لها أعراف يقال لها شياطين. وقيل : شبه بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقُبحها ، وإن كانت لا ترى ، كما شبهوا
176
سنان الرماح بأنياب أغوال ، كما قال امرؤ القيس :
(6/267)
جزء : 6 رقم الصفحة : 176
أَيَقتُلُني والمشْرَفيُّ مُضَاجِعي
ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأنيابِ أغْوَالِ
{فإِنهم لآكلونَ منها} أي : من طلع تلك الشجرة ، {فمالِئُون منها البطونَ} مما يبلغهم من الجوع الشديد ، فيملؤون بطونهم منها مع تناهي بشاعتها ، {ثم إِنَّ لهم عليها} على أكلها ، أي : بعدما شَبِعوا منها ، وغلبهم العطش ، وطال استقاؤهم ، {لَشَوْباً من حميم} أي : لشراباً من غساق ، أو : حديد ، مشوباً بماء حار ، يشوي وجوههم ، ويقطع أمعاءهم ، في مقابلة ما قال في شراب أهل الجنة : {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} [المطففين : 27] وأتى بـ " ثم " ؛ لما في شرابهم من مزيد البشاعة والكراهة ؛ فإِنَّ الزقوم حار محرق ، وشرابهم أشد حرًّا وإحراقاً.
{ثم إِن مرجِعَهُم لإِلى الجحيم} أي : إنهم يُخرجون من مقارهم في الجحيم ـ وهو الدركات التي أُسْكِنُوها ـ إلى شجرةَ الزقوم ، فيأكلون منها إلى أن يتملَّوا. ويشربون بعد ذلك ، ثم يرجعون إلى دركاتهم ، كما تورد الإبل ، ثم ترد إلى وطنها. ومعنى التراخي في ذلك ظاهر.
ثم ذكر سبب عذابهم ، فقال : {إِنهم أَلْفَوا آباءَهُم ضالِّينَ فهم على آثارهم يُهْرَعُون} علّل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد آبائهم في الضلال ، وترك اتباع الدليل. والإهراع : الإسراع الشديد. كأنهم يزعجون ويُحثّون حثّاً. وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى اتباعهم من غير توقف ولا نظر. {ولقد ضلَّ قبلهم} قبل قومك قريش {أكثرُ الأولين} يعني الأمم الماضية ، بالتقليد وترك النظر. {ولقد أرسلنا فيهم مُّنذِرِين} أنبياء ، حذّروهم العواقب. {فانظر كيف كان عاقبة المنذَرِين} الذين أنذروا ، وحذّروا ، فقد أُهلكوا جميعاً ، {إِلا عبادَ اللهِ المخلصين} أي : إلا الذين آمنوا ، وأخلصوا دينهم لله ، أو : أخلصهم الله لدينه ، على القراءتين.
(6/268)
الإشارة : إذا قامت القيامة انحاز الجمال كله إلى أهل الإيمان والإحسان ، وانحاز الجلال كله إلى أهل الكفر والعصيان ، فيرى المؤمنُ من جماله تعالى وبره وإحسانه ما لا تفي به العبارة ، ويرى الكافر من جلاله تعالى وقهره ما لا يكيف. وأما في دار الدنيا فالجمال والجلال يجريان على كل أحد ، مؤمناً أو كافراً ، كان من الخاصة أو العامة ، غير أن الخاصة يزيدون إلى الله تعالى في الجلال والجمال ؛ لمعرفتهم في الحالتين. وأما العامة فلا يزيدون إلا بالجمال ؛ لإنكارهم في الجلال. والمراد بالجلال : كل ما يقهر النفس ويذلها. والله تعالى أعلم.
177
جزء : 6 رقم الصفحة : 176
يقول الحق جلّ جلاله : {ولقد نادانا} أي : دعانا {نوحٌ} حين أيس من قومه بقوله : {أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر : 10] أو : دعانا ؛ لِنُنجيه من الغرق ، {فَلَنِعْمَ المجيبون} أي : فأجبناه أحسن الإجابة ، ونصرناه على أعدائه ، وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون ، فوالله لَنِعْمَ المجيبون نحنُ ، فحذف القسم ؛ لدلالة اللام عليه. وحذف المخصوص ، والجمع ؛ دليل العظمة والكبرياء. {ونجيناه وأهلَه} ومَن آمن به وأولاده المؤمنين {من الكَرْبِ العظيم} وهو غمّ الغرق ، أو : إذاية قومه ، {وجعلنا ذريتَه هم الباقين} وقد فني غيرهم. قال قتادة : الناسُ كلهم من ذرية نوح ، وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد : سام ـ وهو أبو العرب وفارس والروم ـ وحام ـ وهو أبو السودان ، من المشرق إلى المغرب ـ ويافث ـ وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج ـ وقد نظمه بعضهم ، فقال :
العرب والروم وفارس اعلمن
أولاد سام فيهم الخير كَمَن> > من نسل حام نشا السودان
شرقاً وغرباً ، ذا له برهان>> يأجوج مأجوج من الصقالبة
ليافث ، لا خير فيهم قاطبه
(6/269)
{وتركنا عليه في الآخِرِين} أي : وأبقينا عليه الثناء الحسن في الأمم الآخِرِين ، الذين يأتون بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة ، {سلامٌ على نوح} : مبتدأ وخبر ، استئناف ، {في العالمين} يعني : أنهم يُسلمون عليه تسليماً ، ويدعون له ، أي : ثبتت هذه التحية فيهم ، ولا يخلو أحد منهم منها ، كأنَّ الله أثبت التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين ، يسلّمون عليه عن آخرهم. {إِنا كذلك نجزي المحسنين} فنُكرمهم ونُحييهم ، وهو تعليل لما فعل بنوح من التكرمة السنية ، بأنه مجازاة له على إحسانه ، {إِنه من عبادنا المؤمنين} علّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً ؛ ليريك جلاله محلّ الإيمان. {ثم أغرقنا الآخَرِين} أي : الكافرين.
ذكر في كتاب حياة الحيوان ، عن القشيري : أن العقرب والحية أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا : احملنا معك ، ونحن نعاهدك ألا نضر أحداً ذكرك ، فحملهما. فمَن قرأ ، حين يخاف مضرتهما ، حين يمسي وحين يصبح : سلام على نوح في العالمين ، ومحمد في المرسلين ، إنا كذلك نجزي المحسنين ، إنه من عبادنا المؤمنين ، ما ضرتاه. هـ. وقال نبينا عليه الصلاة والسلام : " مَن قال حين يُمسي وحين يُصبح : أعوذ بكلمات الله
178
التامات من شرِّ ما خَلَقَ ، لم يضره شيء ". الإشارة : إذا تحقق الإيمان والإحسان في عبد أُعطي ثلاث خصال : نفوذ الدعوة ، والثناء الحسن بعده ، والبركة في الذرية ، كل ذلك مقتبس من قضية نوح عليه السلام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 178
(6/270)
قلت : (أَئِفكاً) : مفعول له ، و (آلهة) : مفعول " تُريدون " ، أي : أتريدون آلهة من دون الله إفكاً وزُوراً. وإنما قدَّم المفعول به على الفعل للعناية له ، وقدّم المفعول له على المفعول به ؛ لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم ، ويجوز أن يكونَ " إفكاً " مفعولاً به ، أي : أتريدون إفكاً. ثم فسّر الإفك بقوله : {آلهة دون الله} على أنها إفك في نفسها ، أو : حالاً ، أي : أتريدون آلهة من دون الله آفكين.
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِنَّ من شيعتهِ} أي : نوح {لإِبراهيمَ} أي : ممن شايعه على أصول الدين ، وإن اختلفا في الفروع ، أو : شايعه على التصلُّب في دين الله ، ومصابرة المكذِّبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة ، وما كان بينهما إلا نبيَّان : هود ، وصالح. {إِذْ جاء ربَّه} : متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة ، أي : وممن شايعه على دينه إبراهيم ، حين جاء ربه {بقلبٍ سليمٍ} من الشرك ، أو : من آفات القلوب ، ومعنى المجيء بقلبه ربه : أنه أخلص لله قلبه ، وعلم ذلك منه.
{إِذْ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون} " إذ " : بدل من الأولى ، أو : ظرف لجاء ، أو : لسليم ، {أئِفكاً آلهةً دون الله تريدون} أتريدون آلهة تعبدونها من دون الله إفكاً وزوراً وباطلاً. {فما ظَنُّكُم بربِّ العالمين} يفعل بكم إذا لقيتموه ، وقد عبدتم غيره ، فما تقولون ، وكيف بكم في مقام الخجل الذي بين أيديكم ، وإن كنتم اليوم غائبين عنه ؟ أو : أيّ شيء ظنكم بمَن هو حقيق بالعبادة ؛ لكونه رب العالمين ، حتى تركتم عبادته ، وأشركتم معه غيره ، أَو أمنتم عذابه ؟
(6/271)
الإشارة : لا يكون العبد إبراهيميًّا حنيفيًّا حتى يقدس قلبه مما سوى الله ، ويرفض كلَّ ما عبده الناسُ من دون الله ، كحب الدنيا ، والرئاسة ، والجاه ، فيجيء إلى الله بقلب سليم ، أي : مقدس من شوائب الطبيعة ، فهو سالم مما دون الله ؛ لاتصاله بالله. قال القشيري : " بقلب سليم " لا آفة فيه. ويقال : لديغٍ مِن محبة الأغيار ، أو : من الحظوظ ، أو : من الاختيار والمنازعة. والله تعالى أعلم.
179
جزء : 6 رقم الصفحة : 179
يقول الحق جلّ جلاله : {فَنَظَر} إبراهيم {نظرةً في النجوم} وذلك أن قومه كانوا يتعاطون علم النجوم ، فعاملهم بما يعلمون ؛ لئلا ينكروا عليه تخلُّفه. وكانوا يقولون : إذا طلع سهيل مقابل الزهرة سَقِمَ مَن نظر إليه ، فاعتلّ عليهم ؛ لأنه نظر إليه ليتركوه. وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع ، وكانوا يدخلون على أصنامهم ، فيقربون إليها القرابين ، ويضعون بين أيديها الطعام ، قبل خروجهم إلى عيدهم ، لتبارك عليه ، فإذا قَدِمُوا أكلوه. فلما نظر إلى النجوم ، قال : {إِني سقيمٌ} إني مشارف للسقم ـ وهو الطاعون ، وكان أغلب الأسقام عليهم ، وكانوا يخافون العدوى ـ ليتفرقوا عنه ، فهربوا منه إلى عيدهم ، وتركوه في بيت الأصنام ، ليس معه أحد ، ففعل بالأصنام ما فعل. قيل : إن علم النجوم كان حقًّا ثم نُسخ الاشتغال به.
(6/272)
والكذب حرام إلا إذا عرّض. والذي قاله إبراهيم عليه السلام مِعْراض من الكلام ، أي : سأسقم ، أو : مَنْ في عنقه الموت سقيم ، أو : سقيم مما أرى من مخالفتكم وعبادتكم الأصنام. وعلى كل حال لم يلم إبراهيمُ بشيء من الكذب ، وإنما عرّض. وأيضاً : إنما كان لمصلحة ، وقد أُبيح لها ، كالجهاد ونحوه. وفي الحديث : " ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، ما منها واحدة إلا وهو يناضل عن دينه ؛ قوله : {إِني سقيم} ، وقوله : {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء : 63] ، وقوله لسارة : هي أختي ". قال السدي : خرج معهم إلى بعض الطريق ، فوقع في نفسه كيده آلهتهم ، فقال : إني سقيم أشتكي رجلي. {فتولوا عنه مدبرين} أعرضوا عنه مولين الأدبار ، {فراغَ إِلى آلهتهم} فمال إليها سرًّا ، وكانت اثنين وسبعين صنماً من خشب ، وحديد ، ورصاص ، ونحاس ، وفضة ، وذهب ، وكان كبيرهم من ذهب ، في عنقه ياقوتتان ، {فقال} لها ، استهزاء : {ألا تأكلون} من الطعام الذي وُضع عندكم ، {ما لكم لا تنطقون} ؟ والجمع بالواو والنون ؛ لأنه خاطبها خطاب مَن يعقل. {فَرَاغَ عليهم} فمال إليهم سرًّا ، فضربهم {ضرباً باليمين} أي : ضرباً شديداً بالقوة ؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما ، أو : بالقوة والمتانة ، أو : بسبب الحلف الذي سبق منه بقوله : {وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} [الأنبياء : 57].
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 180
فأقبلوا إِليه} إلى إبراهيم {يَزِفُّونَ} : يسرعون ، من : الزفيف ، وهو الإسراع.
180
وكان قد رآه بعضهم يكسرها. فأخبرهم ، فلما جاء مَن لم يره قال لمَن رآه : {مَن فَعَلَ هَذَا بِئَالِهَتِنَآ} [الأنبياء : 59] فأجابوه على سبيل التعريض : {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء : 60] ، ثم قالوا بأجمعهم : نحن نعبدها وأنت تكسرها ؟ فأجابهم بقوله :
(6/273)
{قال أتعبدون ما تنحتون} : ما تنجزونه بأيديكم من الأصنام ؟ {واللهُ خلقكم وما تعملون} أي : وخلق ما تعملونه من الأصنام : أو : " ما " مصدرية ، أي : وخلق أعمالكم. وهو دليلنا في خلق الأفعال لله تعالى ، أي : الله خالقكم وخالق أعمالكم ، فلِمَ تعبدون غيره ؟ !. {قالوا ابْنُوا له} أي : لأجله {بُنياناً} من الحجر ، طوله ثلاثون ذراعاً ، وعرضه عشرون ذراعاً ، {فَأَلْقُوه في الجحيم} في النار الشديدة ، وقيل : كل نار بعضها فوق بعض فهو جحيم. فبنوه وملؤوه حطباً ، وأضرموه ناراً ، {فأَرادوا به كيداً} بإلقائه في النار ، {فجعلناهم الأسفلين} المقهورين عند إلقائه ، حين خرج من النار سالماً ، فعلاهم بالحُجة والنصرة. قيل : ذكر أسفل : هنا ؛ لمناسبة ذكر البناء ، بخلاف سورة الأنبياء. {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء : 70].
الإشارة : كلُّ عبدٍ مأمور بكسر صنمه ، وهو : ما تَرْكَنُ إليه نفسُه من حظٍّ ، أو هوىً ، أو علم ، أو عمل ، أو حال ، أو مقام. وفي الإشارات عن الله تعالى : لا تركنن لشيء دوننا ، فإنه وبال عليك ، وقاتلٌ لك ، فإن ركنتَ إلى العلم تتبعناه عليك ، وإن أويتَ إلى العمل رددناه إليك ، وإن وثقت بالحال وقفناك معه ، وإن أنست بالوجد استدرجناك فيه ، وإن لحظت إلى الخلق وكلناك إليهم ، وإن اعتززت بالمعرفة نكرناها عليك ، فأيّ حيلة لك ، وأيّ قوة معك ؟ فارضنَا لك ربًّا حتى نرضاك لنا عبداً. هـ. ولا بأس أن يتعلّل لنفسه ، ويحتال عليه بحيل ، كما تعلّل الخليل للقعود لكسر الأصنام ، لعلها تُوافقه على ترك ما تهواه وتركن إليه ، كما قال القائل :
فاحتلْ على النفس فرُبّ حيله
أنفع في النصرة من قبيله
جزء : 6 رقم الصفحة : 180
181
(6/274)
قلت : " معه " : يتعلق بمحذوف ، أي : بلغ السعي يسعى معه ، ولا يتعلق ببلغ ؛ لأنه يقتضي الاشتراك في البلوغ ، ولا بالسعي ؛ لأن المصدر لا يتقدم عليهم عموله ، إلا أن يُقال : يتسع في الظروف ما لا يتسع في غيرها.
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال} إبراهيمُ : {إِني ذاهبٌ إِلى ربي} إلى موضع أمرني ربي بالذهاب إليه ، وهو الشام ، أو : إلى مرضاة ربي ، بامتثال أمره بالهجرة أو : إلى المكان الذي أتجرّد فيه إلى عبادة ربي ، {سَيَهدين} أي : سيرشدني إلى ما فيه صلاح ديني ، أو : إلى مقصدي ، وإنما بتَّ القول لسبق وعده ؛ لأن الله وعده بالهداية ، أو : لفرط توكله ، أو : للبناء على عادته معه. ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث عبَّر بما يقتضي الرجاء.
ثم قال : {ربِّ هَبْ لي من الصالحين} بعض الصالحين ، يُعينني على الدعوة والطاعة ، ويُونسي في الغربة. يريد الولد ؛ لأن لفظ الهبة غلب على الولد. {فبشَّرناه بغلامٍ حليم} انطوت البشارة على ثلاث : على أنّ الولد ذكر ، وأنه يبلغ أوانَ الحُلم ؛ لأن الصبيَّ لا يُوصف بالحلم ، وأنه يكون حليماً ، وأيّ حليم أعظم من حلمه ، حيث عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق ، فقال : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات : 102] ، ثم استسلم. وقيل : ما نعت الله نبيًّا بالحلم إلا إبراهيم وابنَه ؛ لمَعَزَّةِ وجوده.
(6/275)
{فلما بلغ معه السعيَ} أي : فلما وُجدَ وبلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه ، أي : الحدّ الذي يقدر على السعي مع ابنه ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل : سبع سنين. {قال يا بُني إِني أرى في المنام أَنِّي أَذْبَحُك} أي : قيل له في المنام : اذبح ابنك. ورؤيا الأنبياء وحي ، كاليقظة. قال الكواشي : لم يرَ أنه يذبحه في النوم ، ولكنه أُمر في النوم بذبحه ، بدليل قوله : {افعل ما تؤمر}. وقيل : رأى أنه يُعالج ذبحه ، ولم يرَ إراقة الدم. وقال قتادة : رؤيا الأنبياء حق ، إذا رأوا شيئاً فعلوه. وفي رؤيا ذلك في النوم وتحققه إياه حتى عمل بما رأى ، إيذان بأن الأنبياء قد تجوهرت نفوسهم ، فلا مجال للكذب فيما يُوحى إليهم ، وفيما يصدر عنهم ، فهم صادقون مصدِّقون ، فليس للشيطان عليهم سبيل ، وإيذان بأن مَن كان في منامه صادقاً كان يقظته أولى بالصدق. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 181
وإنما لم يقل : " رأيت " ؛ لأنه رأى مرة بعد أخرى ، فقد قيل : رأى ليلة التروية كأنّ قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روَّى في ذلك من الصباح إلى الرواح ؛ ليعلم أَمِنَ اللهِ هذا الحلم ، أم لا ، فسُمِّي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فسُمِّي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهمَّ بنحره ، فسُمِّي يوم النحر.
182
واخْتُلِف مَن المخاطب المأمور بذبحه ، فقال أهل الكتابين : هو إسحاق ، وبه قال عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، والعباس ، وابنه عبد الله ، وكعب الأحبار ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، والقامس بن أبي بَرّة ، وعطاء ، ومقاتل ، والزهري ، والسدي. قال سعيد بن جبير : أُريَ إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به على البراق مسيرة شهر في غداة واحدة ، حتى أتى المنحر بمِنى ، فلما صرف عنه الذبح ، وأمره أن يذبح الكبش ، وذبحه ، سار به مسيرة شهر في روحة واحدة ، طُويت له الأودية والجبال. هـ.
(6/276)
واحتج أهل هذا القول بأنه ليس في القرآن أن إبراهيم بُشِّر بولد إلا بإسحاق ، وقال هنا : {فبشرناه بغلام} فتعيَّن أنه إسحاق ؛ إذ هو المبَشَّر به في غير هذه الآية ، وبأن الذي كان يسعى معه في حوائجه وأشغاله إنما هو إسحاق ، وأما إسماعيل فإنما كان بمكة غائباً عنه ، ولم يثبت في الصحيح أن إبراهيم قَدِمَ مكة إلا ثلاث مرات وإسماعيل متزوج. وبما رُوي أن موسى عليه السلام قال : يا رب ؛ الناس يقولون : إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فبمَ ذلك ؟ فقال : إن إبراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلا اختارني ، وإن إسحاق جاد لي بالذبح ، وهو لي بغير ذلك أجود ، وإن يعقوب كلما زدته بلاءً زاد لي حسن ظن. وقال يوسف للملك : أترغب أن تأكل معي ، وأنا ـ والله ـ يوسف بن يعقوب ، نبي الله ، ابن إسحاق ، ذبيح الله ، ابن إبراهيم ، خليل الله. وبما رُوي أن نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ سُئل : أي النسب أشرف ؟ فقال : " يوسف صدِّيق الله ، ابن يعقوب إسرائيل الله ، ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله " وفي الجامع الصغير : " الذبيح إسحاق " رواه الدارقطني عن ابن مسعود ، والبزار وابن مردويه عن العباس ، وأبي هريرة.
وقال آخرون : هو إسماعيل ، وبه قال عُمر ، وأبو الطفيل عامر بن واثلة ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، ويوسف بن مهران ، ومجاهد ، وابن عباس أيضاً ، وغيرهم. واحتجُّوا بأن البشارة بإسحاق متأخرة عن قصة الذبح. وبقوله عليه السلام : " أنا ابن الذبيحين " فأحدهما : جده إسماعيل ، والآخر : أبوه ، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سَهُل له حفر زمزم ، أو بلغ بنوه عشراً ، فلما سَهُل ، أقرع بينهم ، فخرج السهم على عبد الله ، فَفَدَاه بمائة من الإبل ، ولذلك سنت الدية مائة. وبأن ذلك كان بمكة ، وكان قرنا الكبش معلَّقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير ، ولم يكن إسحاق ثمة. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 181
(6/277)
وقد يُجاب بأن البشارة أولاً كانت بولادته ، والثانية بنبوته ، أو : بسلامته. وبأن الثانية تفسير للأولى ، كأنه قال بعدما فرغ من ذكر المبشر به : وكانت تلك البشارة بإسحاق. قاله الفاسي في حاشيته. وعن الحديث بأن العم يُطلق عليه أباً ، كقوله تعالى : {نَعْبُدُ إِلَهَكَ
183
وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة : 133] وكان عمًّا له ، وتقدّم عن ابن جبير أن إبراهيم سار بابنه على البراق إلى مكة وحيث كان الذبح بها بقي القربان فيها. والله تعالى أعلم بغيبه.
ولَمَّا قال له : {إِني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} به {ستجدني إِن شاء الله من الصابرين} على الذبح. رُوي أن إبراهيم قال لابنه : انطلق بنا نُقرب قرباناً لله تعالى ، فأخذ سكيناً وحبلاً ، ثم انطلق معه ، حتى إذا ذهب بين الجبال ، قال له الغلام : يا أبتِ أين قربانك ؟ فقال : {يا بُني إِني أرى في المنام...} الآية ، فقال : يا أبت خذ بناصيتي ، واجلس بين كتفي ، حتى لا أؤذيك إذا أصابتني الشفرة ، ولا تذبحني وأنا ساجد ، واقرأ على أمي السلام ، وإن رأيت أن تردّ قميصي إلى أمي فافعل ، عسى أن يسليها عني. قال إبراهيم : نِعْمَ العون أنت على أمر الله تعالى. فربطه إبراهيم عليه السلام ثم جعل يُقبّله ، وهو يبكي ، والابن يبكي ، حتى استنقعت الدموع تحت خده.
(6/278)
{فلما أَسْلَمَا} أي : انقادا لأمر الله وخضعا. وعن قتادة : أسلم هذا ابنه ، وهذا نفسه. {وتَلَّه للجبين} صرعه على جنبه ، ووضع السكين على حلقه ، فلم تعمل ، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ، ونودي : يا إبراهيم قد صدّقتَ الرؤيا. رُوي أنَّ ذلك المكان عند الصخرة التي بمِنى. وجواب " لما " محذوف ، أي : فلما أسلما رُحما وسَعدا. وقال بعض الكوفيين : الجواب : (وتله) والواو : زائِدة. وقال الكسائي : الجواب : (وناديناه) والواو زائدة. وقال الخليل وسيبويه : الجواب محذوف ، أي : فلما أسلما سَلِما. وقدّر الراضي : فلما أسلما كان من لطف الله ما لا يوصف. هـ.
{وناديناه أن يا إِبراهيمُ قد صَدَّقْتَ الرؤيا} أي : حققت ما أمرناك به في المنام ، من تسليم الولد للذبح ، وبالعزم والإتيان بالمقدمات ، {إِنا كذلك نجزي المحسنين} تعليل لما خوّلهما من الفرج بعد الشدة. والحاصل : أن الجزاء هو الوقاية من الذبح ، مع إمرار السكين ، ولم تقطع ، جزاء على إحسانهما ، وقد ظهرت الحكمة بصدقهما ، فإن المقصود إخلاء السر من عادة الطبيعة ، لا تحصيل الذبح ، رُوي أنه لما أمرّ السكين فلم تقطع ، تعجّب. فنُودي : يا إبراهيمُ كان المقصود من هذا استسلامكما ، لا ذبح ولدك.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 181
إِنَّ هذا لَهُوا البلاءُ المبينُ} الاختبار البيّن ، الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو : المحنة البيّنة الصعبة ، فإنه لا محنة أصعب منها. {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} : ضخم الجثة سمين. قال ابن عباس : هو الكبشُ الذي قرّبه هابيل فقُبل منه ، وكان يرعى في الجنة حتى فُدِي به ولد إبراهيم. وعنه : لو تمت تلك الذبيحة لصارت سُنَّة ، وذَبَحَ الناسُ أولادهم. رُوي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة ، فرماه ؛ سبع حصيات ، حتى أخذه ، فبقيت
184
(6/279)
سُنَّة في الرمي. قلت : والجمهور : أن الشيطان تعرض له عند ذهابه لذبح ولده ، ثلاث مرات ، فرماه سبع حصات عند كل مرة ، فبقيت سُنَّة في الرمي. ورُوي أنه لما ذبحه ، قال جبريل : الله أكبر ، فقال الذبيح : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، فقال إبراهيم : الله أكبر ولله الحمد ، فبقيت سُنَّة صبيحة العيد.
قال البيضاوي : واحتج به من جوّز النسخ قبل الفعل ، فإنه عليه السلام كان مأموراً بالذبح ، لقوله : {افعل ما تؤمر} ولم يحصل. هـ. قال سيدي عبد الرحمن الفاسي في الحاشية : وَلَمَّا بذل إبراهيم وسعه ، وفعل ما يفعله الذابح من ضجعه على شقه ، وإمرار الشفرة على حلقه ، لم يكن هذا من النسخ قبل الفعل ، وإن كان ورود النسخ قبل الفعل جائز ، لكن هذه الآية ليست منه في شيء ؛ لأنه عليه السلام باشر الفعل بقدر الإمكان وبذل المجهود ، ولم يكن منه تقصر ، ولو لم يمنع مانع القدرة الإلهية لتمّ الذبح المأمور به ، لهذا قال تعالى : {صَدَّقْتَ الرؤيا} وإنما احتيج إلى الفداء لتحصيل حقيقة الذبح فيه نيابة عن المفدي شرعاً ، وعلامة على غاية القبول والرضا عنهما ، وعوض عن ذلك ما هو كرامة لهما ، ولمَن بعدهما إلى غابر الدهر. هـ.
وقيل : إن هذه الآية نُسخ بها الأمر بالذبح قبل التمكين من الفعل ، بناءً على أن إبراهيم لم يمر الآلة. وعزاه المحلي في جميع الجوامع لمذهب أهل السنة. وعليه ينزل الفداء ، ثم قال : والحق : إن الآية من المنسخ قبل تمام الفعل وكماله ، لا قبل الأخذ فيه ومعالجته. ثم اعترض كلام ابن عطية ، وقال : فيه تدافع ، فانظره.
{وتركنا عليه في الآخِرِين} أي : الثناء الحسن في الأمم الآخرين ، {سلامٌ على إبراهيم} سبق بيانه في نوح {كذلك نجزي المحسنين} لم يقل : إنا كذلك ، هنا ، كما في غيره ؛ لأنه قد سبق في القصة ، فاكتفى هنا عن ذكره. {إِنه من عبادنا المؤمنين} فيه تنويه بشأن الإيمان ؛ لأنه أساس لكل ما يُبنى عليه من معرفةٍ وإحسان.
(6/280)
جزء : 6 رقم الصفحة : 181
الإشارة : قال إني ذاهب إلى ربي بالتوجه والعزم ، سيهدين إلى صريح معرفته ، ومكافحة رؤيته ، ودوام شهوده. فالذهاب إليه يُفضي إلى الذهاب فيه ، وهو غيبة العبد عن شهود نفسه ، بشهود محبوبه ، وهذه الحالة متبوعة للامتحان ؛ إذ امتحان كل عبد على قدر مقامه ، فكلما علا المقام عَظُمَ الامتحان. فامتحن الخليل بأربع محن : تسليم بدنه للنيران ، وولده للقربان ، ورمي آخر عند البيت في يد الرحمن ، وذهاب زوجه للجبّار ، فوقع اللطف في الجميع ، واصطفى خليلاً للرحمن. وأيضاً : الحق غيور ، لا يُحب أن يرى في قلب خليله أو وليّه شيئاً سواه ، فأمر بذبح ولده ؛ لإخراجه من قلبه ، كما فرّق بين يوسف ووالده ، وامتحن حبيبَه صلى الله عليه وسلم في عائشة صدِّيقته ، وهذه عادة الله مع أصفيائه. قال القشيري : يُقال في القصة : أنه رآه راكباً على فرس أشهب ، فاستحسنه ، ونظر إليه بقلبه ، فأُمر بذبحه ، فلما أخرجه من قلبه ، واستسلم لذبحه ، ظَهَرَ الفداء. وقيل له :
185
كان المقصودُ من هذا فراغَ قلبك منه ، لا ذبحه. ويقال في القصة : أنه أمَرَ أباه أن يَشُدّ يديه ورِجْلَيه ؛ لئلا يضطربَ إذا مَسَّهُ ألمُ الذبح ، فيُعاتَب ، ثم لمَّا هَمَّ بذبحِه قال : افتح القيدَ عني ، فإني لا أتحرك ، فإني أخشى أن أُعاتب ، فيقول : أمشدودَ اليد جئتني ؟ وأنشدوا :
ولو بيدِ الحبيبِ سُقِيتُ سُمًّا
لكان السُّمُّ من يدهِ يطيب
(6/281)
قيل : إن الولد كان أشدَّ بلاء ، لأنه وَجَدَ الذبح من يد أبيه ، ولم يتعوَّد منه إلا التربية بالجميل ، فكان البلاء منها أشد ؛ إذ لم يتوقعه منها. وقيل : بل إبراهيم أشد بلاء ؛ لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده ، ويعيش بعده ، ولم يأتِ الولد بالدعوى ، بل قال : إن شاء الله ، فتأدّب بلفظ الاستثناء. ثم قال : ويقال : إنَّ الله ستر عليهما ما عَلِمَ أنه أريد منهما في حال البلاء ، وإنما كشف لهما بعد مُضِيِّ وقت المحنة ، لئلا يَبْطُلُ معنى الابتلاء ، وهو توجُّع القلب بالقهرية ، وكذلك لما ألقي في النار أخفي عنه المراد منه ، وهو السلامة منها ليحصل معنى الابتلاء. وهكذا يكون الحال في حال البلاء ، [يسند عيون التهدي إلى الحال]. وكذلك كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم في الإفك ، وأيوب عليه السلام ، وإنما تبيّن الأمر بعد ظهور أجر المحنة وزوالها ، وإلاَّ لم تكن حينئذ محنة ، ولكن مع استعجام الحال وانبهامه ؛ إذ لو كشف الأمر عن صاحبه لم يكن حينئذ بلاء. هـ. ملخصاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 181
قلت : " نبياً " : حال مقدرة من " إسحاق " ، ولا بد من تقدير مضاف محذوف ، أي : وبشرناه بوجود إسحاق نبيًّا ، أي : بأن يُوجد مقدراً نبوته ، فالعامل في الحال : الوجود ، لا فعل البشارة ، قاله الكواشي وغيره.
(6/282)
يقول الحق جلّ جلاله : {وبشَّرناه} أي : إبراهيم {بإِسحاق} بعد امتحانه ، {نبياً} أي : يكون نبيّاً. قال قتادة : بشِّره بنبوة إسحاق بعدما امتحنه بذبحه. قالوا : ولا يجوز أن يُبشَّر بنبوته وذبحه معاً ؛ لأن الامتحان لا يصح مع كونه عالماً بأن سيكون نبيًّا. هـ. قلت : لا يبعد أن يُبَشَّر بهما معاً قبل المحنة ؛ لأن العارف لا يقف مع وعد ولا وعيد ؛ لاتساع علمه ، فإن الوعد قد يكون متوقفاً على شروط ، قد لا يُلم العبد بها ، وراجع ما تقدم عند قوله : {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} [يوسف : 110] بالتخفيف ، وعند قوله : {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب : 11]. ثم قال قتادة : وهذه حجة لمَن يقول : إن الذبيح كان إسحاق. ومَن قال : كان إسماعيل الذبيح ، قال : بشَّر إبراهيم بولد يكون نبيًّا بعد القصة ، لطاعته. هـ. وذكر ابن عطية عن مالك أنه نزع بهذه الآية لكون الذبيح إسماعيل ، انظر بقية كلامه. وتقدّم الجواب عنه ، فإنَّ الأُولى بولادته ، وهو بنبوته. انظر الحاشية.
186
وقوله : {من الصالحين} : حال ثانية ، وورودها على سبيل الثناء ؛ لأن كل نبيّ لا بد أن يكون من الصالحين. قال ابن عرفة : الصلاح مقول بالتشكيك ، فصلاح النبي أعظم من صلاح الولي. هـ. {وباركنا عليه وعلى إِسحاقَ} أي : أفضنا عليهم بركات الدين والدنيا. وقيل : باركنا على إبراهيم في أولاده ، وعلى إسحاق بأن أخرجنا من صلبه ألف نبيّ ، أولهم يعقوب ، وآخرهم عيسى عليه السلام. {ومن ذُريَّتِهما} أي : إبراهيم وإسحاق ، وليس لإسماعيل هنا ذكر ، استغناء بذكر ترجمته في مريم ، {محسنٌ} مؤمن {وظالمٌ لنفسه} بالكفر {مبينٌ} ظاهر كفره. أو : محسن إلى الناس ، وظالم لنفسه بتعدِّيه عن حدود الشرع.
(6/283)
وفيه تنبيهٌ على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العِرق والعنصر ، فقد يلد البرُّ الفاجرَ ، والفاجرُ البرَّ. وهذا مما يهدم الطبائع والعناصر ، وتنبيه على أن الظلم في أعقابهما لم يعدْ عليهما بعيب ، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله ، ويُعاقب بما كسبتْ يداه ، لا على ما وجد من أصله وفرعه. قال النسفي. قلت : قاعدة " العرق نزاع " أغلبية ، لا كلية. وقيل : هو حديث ، فيكون أغلبيًّا ، فالشجرة الطيبة لا تنبت في الغالب إلا الطيب ، إلا لعارض ، والشجرة الخبيثة لا تجد فروعها إلا مثلها ، إلا لسبب. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 186
الإشارة : البشارة الكبيرة ، والبركة العظيمة ، إنما تقع في الغالب بعد الامتحان الكبير ، فبقدر الامتحان يكون الامتكان ، وبقدر الجلال يعظم الجمال ، فإنَّ مع العسر يُسراً. فبقدر الفقر يعقب الغنى ، وبقدر الذل يعقب العز ، إن كان في جانب الله. وقس على هذا... ويسري ذلك في العقب ، كما هو مشاهد في عقب الصالحين والعلماء والأولياء. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 186
يقول الحق جلّ جلاله : {ولقد منَنَّا} أنعمنا {على موسى وهارونَ} بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية ، {ونجَّيناهما وقومَهُما} بني إسرائيل ، {من الكربِ العظيم} من الغرق والدهش الذي أصابهم ، حين طلعت خيل فرعون عليهم ، أو : من سلطان فرعون وقومه وعنتهم. {ونصرناهمْ} أي : موسى وهارون وقومهما ؛ {فكانوا هم
187
الغالبين} على فرعون وقومه. {وآتيناهما الكتابَ المستبينَ} البليغ في بيانه ، وهو التوراة ، {وهديناهما الصراط المستقيمَ} صراط أهل الإسلام ، وهو الطريق الذي يُوصل إلى الحق ، {وتركنا عليهما} الثناء الحسن {في الآخِرِين} الآتين بعدهما ، {سلامٌ على موسى وهارونَ إِنَّا كذلكَ نجزي المحسنين إِنهما من عبادنا المؤمنين} الكاملين في الإيمان.
(6/284)
الإشارة : منّ عليهما أولاً بالخصوصية ، ثم امتحنهما عليها بالكرب العظيم ، كما هي عادته في أهل الخصوصية ، ثم مَنَّ عليهم بالفرج ولانصر والعز ، ثم هداهما إلى طريق السير إليه ، في الظاهر والباطن ، بإنزال الكتاب ، وبيان طريق الرشد والصواب ، فالطريق المستقيم هي طريق الوصول إلى الحضرة ، وشهود عين التوحيد الخاص ، ثم ينشر الصيت والذكر الحسن في الحياة والممات. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 187
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِنَّ إِلياس لَمِنَ المرسلين} وهو إلياس بن ياسين بن العيزار ، من سبط هارون عليه السلام. قال ابن إسحاق : لَمَّا قبض الله حزقيل النبي ، عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، ونسوا عهد الله ، وعبدوا الأوثان ، فبعث الله إلياس ، وبنو إسرائيل حينئذ متفرقون في أرض الشام ، وفيهم ملوك كثيرة. وذلك أن يوشع لمَّا فتح الشام بعد موسى عليه السلام وملكها ، بوّأها بني إسرائيل ، وقسمها بينهم ، وأحلّ سبطاً منهم ببعلبك ونواحيها. ومنهم السبط الذي نشأ منهم إلياس. انظر الثعلبي. وقيل : إلياس هو إدريس. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : " وإن إدريس " موضع إلياس. والمشهور ما تقدّم.
(6/285)
{إِذ قال لقومه ألا تتقون} ألا تخافون الله ، {أتَدْعُون بَعْلاً} هو عَلَم لصنم ، كان من ذهب ، وكان طوله عشرين ذراعاً ، وكان له أربعة أوجه ، فافتتنوا به وعظّموه ، حتى أخدموه أربعمائة سادن ، وجعلوهم أنبياءه. وكان الشيطان يُوسوس إليهم شريعة من الضلالة ، وكان موضعهم يُسمى " بك " فركب معه وصار " بعلبكّ " ، وهو من بلاد الشام ، قلت : ويسمونه اليوم عكا ، وفيه قبر صالح عليه السلام ، وقيل : إن إلياس والخضر حيان ، يلتقيان كل سنة بالموسم ، فيأخذ كل واحد من شعر صاحبه. قيل : إن إلياس وُكِّلَ بالفيافي ، والخضر وُكِّلَ بالبحار. وقيل : إن الله قطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وألبسَ الريش ، وطار مع الملائكة ، فصار إنسيًّا ملكيًّا ، أرضيًّا سماويًّا. فهو ما زال حيًّا. فالله أعلم.
188
ثم قال : {وتَذَرُونَ أحسنَ الخالقين} أي : تعبدون صنماً جامداً ، وتتركون عبادة الله الذي هو أحسن الخالقين. {الله رَبَّكم وربَّ آبائِكم الأولين} من نصب الثلاثة فبدل ، ومن رفعها فمبتدأ وخبر. {فكذَّبوه} فسلّط الله عليهم ، بعد رفعه ، أو موته ، عدوًّا ، فقتل ملكهم وكثيراً منهم ، {فإِنهم لمُحضَرونَ} في النار ، وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة ، أو : لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر. {إِلا عبادَ الله المخلَصين} من قومه ، فإنهم ناجون من حضور العذاب ، {وتركنا عليه} الثناء الحسن {في الآخرين}. {سلامٌ على آل ياسين} وهو إلياس وأهله ؛ لأن " ياسين " اسم أبيه. وقرأ أكثر القراء : إلياسين ، بكسر الهمزة ووصل اللام ، أي : إلياس وقومه المؤمنين ، كقولهم : الخُبَيْبون والمهَلَّبون ، يعنون عبد الله بن الزبير وقومه. والمهلَّب وأتباعه. {إِنا كذلك نجزي المحسنين. إِنه من عبادنا المؤمنين} وقيل : آل ياسين هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأهله ، والسياق يأباه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 188
(6/286)
الإشارة : يُؤخذ من قوله تعالى : {ألا تتقون أتدعون بعلاً...} الخ ، أن مدار التقوى هو توحيد الله ، والانحياش إليه ، والبُعد عن كل ما سواه ، والرجوع إلى الله في كل شيء ، والاعتماد عليه في كل حال. ويؤخذ من قوله : {سلام على آل ياسين} في قراءة المد ، أن الرجل الصالح ينتفع به أهله وأقاربه ، وهو كذلك ؛ فإن عَظُمَ صلاحه تعدّت منفعته إلى جيرانه وقبيلته ، فإذا كبر جاهه شفع في الوجود بأسره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 188
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِنَّ لوطاً لمنَ المرسلين إِذ نجيناه} أي : واذكر إذ نجيناه {وأهلَه أجمعين إِلا عجوزاً في الغابرين} في الباقين ؛ لأنها شاركتهم في عصيانهم ، فحقّ عليهم العذاب مثل ما حقّ عليهم ، {ثم دمرنا} : أهلكنا {الآخَرِين وإِنكم لتَمُرُّونَ عليهم مُصبحينَ} داخلين في الصباح ، {وبالليلِ} أي : ومساء ، أو : نهاراً وليلاً. ولعل مدينتهم الخالية كانت قريب منزل ينزل به المسافر ، فيغدو منه ذهاباً ، ويروح إليه إياباً ، فكانت قريش تنزل به وتروح عنه في متاجرهم إلى الشام ، فتشاهد آثارهم الدارسة ، وديارهم الخالية. {أفلا تعقِلون} أفما فيكم عقول تعتبرون بها ؟ وإنما لم يختم قصة لوط ويونس بالسلام ، كما ختم قصص مَن قبلهما ؛ لأن الله تعالى قد سَلَّمَ على جميع المرسلين في آخر السورة ، أو : تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع ، من أُولي العزم.
الإشارة : ينبغي لمَن له عقل إذا مرَّ بآثار مَن سلف قبله أن يعتبر ، وينظر كيف كان حالهم ، وإلى ما صار إليه مآلهم ، وأنه عن قريب لا حق بهم ، فيتأهّب للسفر ، ويتزوّد للمسير. وبالله التوفيق.
189
جزء : 6 رقم الصفحة : 189
(6/287)
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِن يُونُسَ} بن متى ، اسم أبيه ، {لَّمِنَ المرسلينَ} إلى أهل نَيْنَوى ، فكذَّبوه ، فوعدهم بالعذاب ، فلما رأى أمارات العذاب هرب عنهم ، وهي معنى قوله : {إِذْ أَبَقَ} هرب. والإباق : الهرب إلى حيث لا يهتدي إليه الطلب ، فسمي هربه من قومه ـ بغير إذن ربه ـ إباقاً ، مجازاً. رُوي أنه لمَّا فرَّ عنهم ، وقف في مكان ينتظر نزول العذاب بهم ، وكان يُحب ذلك ؛ لتكذيبهم إياه ، فلما رأوا مخايل العذاب تابوا وخرجوا إلى الصحراء ، يجأرون إلى الله تعالى ، فكشف عنهم ، فلما رأى يونس العذابَ انكشف عنهم ، كره أن يرجع إليهم ، فركب البحر ، فأوى {إِلى الفُلْكِ المشحونِ} : المملوء بالناس والمتاع ، فلما ركب معهم وقفت السفينة ، فقالوا : هاهنا عبد آبق من سيده. وفيما يزعم أهل البحر : أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجرِ ، فاقترعوا ، فخرجت القرعةُ على يونس ، فقال : أنا الآبق ، وزجّ بنفسه في البحر ، فذلك قوله : {فَسَاهَمَ} : فقارعهم مرة ـ أو ثلاثاً ـ بالسهام ، {فكان من المدْحَضِين} المغلوبين بالقرعة. {فالتقمه الحوتُ} فابتلعه {وهو مُلِيمٌ} داخلٌ في الملامة ، أو : آتٍ بما يُلام عليه ، ولم يُلَم فإذا ليم كان مألوماً.
(6/288)
{فلولا أنه كان من المسبِّحينَ} من الذاكرين كثيراً بالتسبيح ، أو : من القائلين : {لآَّ إِلَهَ إِلآَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مَنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء : 87] أو : من المصلين قبل ذلك ؛ قال ابن عباس رضي الله عنه : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. قال الحسن : ما كان له صلاة في بطن الحوت ، ولكنه قدّم عملاً صالحاً فنجَّاه ، وإنَّ العمل الصالح يرفع صاحبه ، إذا عَثَرَ وجد متكئاً. هـ. أي : فلولا طاعته قبل ذلك {لَلَبِثَ في بطنه إِلى يوم يُبعثون} قيل : للبث حيًّا إلى يوم البعث. وعن قتادة : لكان بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة. وقد لبث في بطنه ثلاثة أيام ، أو : سبعة أو : أربعين يوماً. وعن الشعبي : التقمه ضحوة ، ولَفَظَه عشية. قيل : أوحى الله تعالى إلى الحوت : إني جعلت بطنك ليونس سجناً ـ وفي رواية : مسجداً ـ ولم أجعله لك طعاماً. هـ.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 190
فَنَبَذْناه} أي : أخرجناه {بالعراءِ} بالمكان الخالي ، لا شجر فيه ولا نبات. أو : بالفضاء ، {وهو سقيم} عليل مطبوخ ، مما ناله من بطن الحوت. قيل : إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يُولد. {وأنبتنا عليه شجرةً} أي : أنبتناها فوقه ، مُظلة كما يطنَّب البيتُ
190
(6/289)
على الإنسان ، {من يَقْطِينٍ} الجمهور على أنه القرع ، وفائدته : أن الذباب لا تجتمع عنده ، وأنه أسرع الأشجار نباتاً ، وامتداداً ، وارتفاعاً ، وأن ورقه باطنها رطبة. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لتُحب القرع ، فقال : " أجل ، هي شجرة أخي يونس " قلت : ولعلها النوع الذي يُسمى اليوم " السلاوي " ؛ لأنه هو الذي ورقه لينة ، وفيه منافع. رُوي أن ظبية كانت تختلف إليه ، فيشرب من لبنها بكرة وعشية ، حتى نبت لحمه ، وأرسل الله تعالى على اليقطين دابة تقرض ورقها ، فتساقطت حتى أذته الشمس ، فشكاها إلى الله تعالى. وفي رواية : فحزن عليها ، فقيل له : أنت الذي لم تخلُق ، ولم تسقِ ، ولم تُنبت ، تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تُريد مني أن أستأصِلَهم في ساعة واحدة ، وقد تابوا ، وتُبت عليهم ، فأين رحمتي يا يونس ، أنا أرحم الراحمين. هـ.
{وأرسلناه إِلى مائةِ ألفٍ} المراد به القوم الذين بُعث إليهم قبل الالتقام ، فتكون " قد " مضمرة ، {أو يزيدون} في مرأى الناظر ، أي : إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر. وقال الزجّاج : " أو " بمعنى " بل ". وقيل : بمعنى الواو. قال ابن عباس : زادوا على مائة ألف عشرين ألفاً. وقال الحسن : بضعاً وثلاثين ألفاً. وقال ابن جبير : سبعين ألفاً. وقيل : وأرسلناه بعد الالتقام إلى مائة ألف. وقيل : قوماً آخرين. {فآمنوا} به ، وبما أُرسل به ، {فمتعناهم} بالحياة {إِلى حين} منتهى أجلهم ، ولم يُعاجَلوا ، حيث تابوا وآمنوا.
الإشارة : في قصة يونس نكتة صوفية ، ينبغي الاعتناء بها ، وهو أن العبد إذا زلّت قدمُه ، وانحطّ عن منهاج الاستقامة ، لا ييأس ولا يضعُف عن التوجه ، بل يلزم قرعَ الباب ، ويتذكر ما سلف له من صالح الأعمال ، فإن الله تعالى يرعى ذمام عبده ، كما يرعى العبد ذمام سيده ، وفي حال البُعد والغضب يظهر المحب الصادق من الكذّاب ، وفي ذلك يقول ابن وفا رضي الله عنه :
ونحن على العهد نرعى الذمام
(6/290)
وعهد المحبين لا ينقضي>> صددت فكنت مليح الصدود
وأعرضتَ أُفديك من معرض>> وفي حالة السخط لا في الرضا
بيان المحب من المُبغض
جزء : 6 رقم الصفحة : 190
وفيها أيضاً : الحث على الشفقة على عباد الله ، وإن كانوا عصاة. قال القشيري : وفي القصة : أن الله تعالى أوحى إلى يونس بعد نجاته : قُلْ لفلانٍ الفَخَّار : يَكْسِرَ من الجرات ما عمله في هذه السنة كلّها ، فقال يونس : يا ربِّ ، إنه تعنَّى مدة في إنجاز ذلك ، فكيف آمُره يكسرها كلّها ؟ فقال له : يا يونس ، يَرِقُّ قلبُك لخزاف يُتْلِفُ عَمَلَ سنةٍ ،
191
وأردتَ أن أُهْلِكَ مائةَ ألفٍ من عبادي ؟ لم تخلقهم ، ولو خَلَقْتَهم لرحمتهم. هـ.
ثم وبَّخ قريشاً على قولهم : الملائكة بنات الله بعد ذكر هلاك مَن كفر من الأمم قبلهم ، تهديداً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 190
يقول الحق جلّ جلاله : {فاسْتَفتهم ألِرَبِّكَ البناتُ ولهم البنونَ} أَمَرَ رسولَه أولاً في أول السورة باستفتاء قريش على وجه إنكار البعث ، بقوله : {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} [الصافات : 11] ثم أمره هنا باستفتائهم عن وجه القسمة الضّيزى التي قسموها ، بأن جعلوا لله الإناث ، ولهم الذكور في قولهم : الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم لهن ، واستنكافهم من ذكرهن ، وليس من باب العطف النحوي ، خلافاً للزمخشري.
{أَمْ خلقنا الملائكةَ إِناثاً وهم شاهدون} حاضرون حتى تحققوا أنهم إناث. وتخصيص علمهم بالمشاهدة استهزاء بهم ، وتجهيل لهم ، لأنهم كما لم يعلموا ذلك مشاهدةً ، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ، ولا بإخبار صادق ، ولا بطريق استدلال ونظر ، بل بمجرد ظن وتخمين ، وإلقاء الشيطان إليهم. أو : معناه : أنهم يقولون ذلك عن طمأنينة نفس ؛ لإفراط جهلهم ، كأنهم شاهدوا خلقهم.
(6/291)
{ألاَ إِنهم من إِفْكِهِمْ لَيقولون وَلَدَ اللهُ وإِنهم لكاذبون} في قولهم. {أَصْطَفَى البناتِ على البنين} الهمزة للاستفهام الإنكاري ، وحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام ، والاصطفاء : أخذ صفوة الشيء ، {ما لكم كيف تحكمون} هذا الحكم الفاسد ، الذي لا يرتضيه عقل ولا نقل ، {أفلا تَذَكَّرُون} فتعرفوا أنه منزّه عن ذلك ؟ {أم لكم سلطان مبين} حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله ؟ {فأْتوا بكتابكم} الذي أنزل عليكم ، {إِن كنتم صادقين} في دعواكم.
{وجعلوا بينه} بين الله {وبين الجِنَّةِ} الملائكة ـ لاستتارهم ، {نَسَباً} وهو زعمهم أنهم بنات الله. أو : قالوا : إن الله صاهر الجن ، تزوج سَرَوَاتِهم فولدت له الملائكة ، تعالى الله عن قولهم عُلواً كبيراً. {ولقد عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنهم لمُحْضَرُونَ} أي : ولقد علمت الملائكة إن الذين قالوا هذا القول لمحضرون في النار. أو : لقد علمت الملائكة أنهم سيحضرون للحساب من جملة العباد ، فكيف تكون بنات الله ؟ {سبحان الله عما يصفون}
192
نزّه نفسه عما يصفه الكفرة من الولد والصاحبة ، {إِلا عبادَ الله المخلَصين} استثناء منقطع من " المحضرين " ، أي : لكن المخلصون ناجون من النار. و " سبحان الله " : اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه ، ويجوز أن يقع الاستثناءُ من واو " يصفون " ، أي : عما يصفه هؤلاء الكفرة لكن المخلصون برءاء من أن يصفوه بذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 192
(6/292)
الإشارة : الحق تعالى في عالم القدرة منزَّه عن الولد والصاحبة ، وتصور الأثنينية ، وإنما سر الازدواج والتولد خاص بعالم الحكمة في حضرة الأشباح ، فليكن للعارف عينان عين تنظر لعالم القدرة في حضرة أسرار الذات ، فتوحّد الله ، وتنزهه عن الاثنينية ، وعين تنظر لعالم الحكمة ، فتثبت سر الازدواج والتولد في حضرة الأشباح ، والمظهر واحد ، ولا يفهم هذا إلا الأفراد من البحرية ، الذين خاضوا بحر أحدية الذات وتيار الصفات ، فحطَّ رأسك لهم ، إن أردت أن تذوق هذه الأسرار. وإلا فسلّم تسلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 192
يقول الحق جلّ جلاله : {فإِنكم} أيها المشركون {وما تعبدون} أي : ومعبوديكم ، {ما أنتم} وهم جميعاً {عليه} على الله {بفاتِنين} بمضلّين ، {إِلا من هو صَالِ الجحيم} أي : إلا مَن سبق في علمه أنه من أهل النار. والمعنى : إنكم لستم تضلُّون أحداً إلا أصحاب النار ، الذين سبق في علمه أنهم يستوجبون بأعمالهم النار ، يقال : فتن فلانٌ على فلانٍ امرأته : أفسدها عليه. وقال الحسن : فإنكم أيها القائلون لهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام ، ما أنتم على عبادة الأصنام بمضلّين أحداً ، إلا مَن أوجبتُ عليه الضلال في السابقة. هـ. وفيها دليل للقدر ، بل هي صريحة فيه. و " ما " في " أنتم " : نافية ، و " مَن " : في موضع النصب بفاتنين ، على الاستثناء المفرغ ، أي : لا تفتنون إلا الذي هو صالي الجحيم. وحذفت الياء في الرسم اكتفاء بالكسرة ، وقرأ الحسن : " صالُ الجحيم " بضم اللام ـ ووجهه : أنه جمْع ، فحذفت النون للإضافة. والواو لالتقاء الساكنين ، و " مَن " مفرد في اللفظ ، جمع في المعنى ، فحمل " هو " على اللفظ ، و " الصالون " على المعنى.
(6/293)
الإشارة : ويقال لمَن يُرغّب الناس في الدنيا ، ويدلهم على جمعها ، والاعتناء بها ، بمقاله ، أو بحاله ، ويزهّد في طريق التجريد والانقطاع إلى الله : ما أنتم بقانتين أحداً عن طريق الله ، إلا مَن سبق أنه يصلى نار القطيعة والبُعد ، وأما مَن سبقت له سابقة الوصال ، فلا يصده عن الله فاتن ولا ضال. ولا شك أن مَن يدلّ الناس على الدنيا فقد غشّهم. قال القطب ابن مشيش رضي الله عنه : مَن دلّك على الدنيا فقد غشك ، ومَن دلّك على العمل فقد أتبعك ، ومَن دلّك على الله فقد نصحك. هـ. فالدلالة على الدنيا من شأن المغرورين ، ورين الفاتنين ، والدلالة على العمل من شأن الصالحين ، الواقفين مع ظاهر الشريعة
193
وعملها ، والدلالة على الله من شأن العارفين أهل التربية ، يدلون على الله ، بسقي الكؤوس ، ونسيان النفوس ، ودخول حضرة القدوس ، من باب الكرم والجود. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 193
يقول الحق جلّ جلاله حاكياً عن الملائكة : {وما منّا إِلا له مَقامٌ معلومٌ} في العبادة ، أو : في السموات ، نعبد الله فيه ، أو : في القُرب والمشاهدة لا نتعداه ، ولا نترقى عنه إلى غيره ، ففيه تنبيه واعتراف بافتقارهم لمخصصهم ، القاضي بحدوثهم. وفي اعترافهم بذلك ردٌّ على زعم الكفار أنهم بنات الله ، أو شركاء له ، وتنزيه له تعالى عن ذلك ؛ لتنافي العبودية والطاعة التي اعترفوا بها ، والبنوة المدّعاة من الكفار ، تعالى الله عن قولهم. وهذا يجري أيضاً في القول الذي يقول : إنهم قسم ثالث ، ليسوا بجوهر ولا عرض ، كالأرواح ، فإنها على تقدير كونها كذلك ، جائزة ؛ لقبولها التفاوت في العلوم والمعارف وغير ذلك. وذلك قاضٍ بالافتقار ، والتخصيص لِمَا هي عليه ، المستلزم للحدوث. قاله في الحاشية.
(6/294)
قلت : القول بأن الملائكة مجردات عن المادة ، هو قول الفلاسفة ، ونحى إليه الغزالي. وهو مناقض للقرآن والحديث ؛ لأن كونهم صفوفاً قائمين ، أو ساجدين ، أو سائرين ، يقتضي تشكيلَهم وتحييزَهم ، فيستلزم المادة ؛ إلا أنها نورانية لطيفة ، وكذلك الأرواح ، على ما في الأحاديث ، فإنها متحيزة على أشكال لطيفة. والله أعلم.
{وإِنا لنحن الصافُّون} نصفّ أقدامنا في الصلاة ، أو : نصفّ حول العرش داعين للمؤمنين ، {وإِنا لنحنُ المسبِّحُون} المنزّهون الله تعالى عما نسبته إليه الكفرة ، من الولد ، وغير ذلك من الأباطيل المذكورة. أو : المشتغلون بالتسبيح على الدوام ، أو : المصلُّون. ويحتمل أن يكون هذا وما قبله ؛ من قوله : {سبحان الله...} الخ ، من كلام الملائكة ، حتى يتصل بذكرهم ، كأنه قيل : ولقد عَلِمَ الملائكةُ أن المشركين محضرون للعذاب على افترائهم على الله فيما نسبوا إليه ، وقالوا : سبحان الله ، ونزّهوه عن ذلك ، واستثنوا عباد الله المخلصين ، وبرّؤوهم من ذلك ، وقالوا للكفرة : وإذا صحّ ذلك ؛ فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه ، وتضلُّوه ، إلاّ مَن كان من أهل النار ، وكيف نكون مناسِبين لرب العزة! وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه ، لكلّ منا مقامٌ من الطاعة معلومٌ ، لا يستطيع أن يزلَّ عنه ، ونحن نصفّ أقدامنا لعبادته ، مسبِّحين بحمده ، كما يجب على العباد. ولعل قولهم : {وما منا إِلا له مقام معلوم} إشارة إلى تفاوتهم في درجات القُرب ومقامات اليقين : وقولهم : {وإِنا لنحن الصافُّون} إشارة إلى تفاوتهم في الطاعات والعبادات ، وهم طبقات : منهم هائمون مستغرقون في الشهود ، ومنهم مستغرقون في مقام
194
الهيبة والمراقبة ، ومنهم مستغرقون في الخدمة والعبادة. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 194
(6/295)
الإشارة : مادة الآدمي أكمل من مادة الملائكة ، فإذا اتصل العبد بشيخ كامل ، واعتنى بتصفية روحه وسره ، طَوى نوره الوجودَ بأسره ، ولا يزال يترقى في معاريج أسرار التوحيد والتفريد ، وتتوارد عليه الكشوفات ، والعلوم ، والأسرار ، في هذه الدار الفانية ، وفي تلك الدار الباقية ، أبداً سرمداً ، بخلاف الملائكة ، فإنَّ لكل واحد مقاماً معلوماً لا يتعداه ، كما أخبر تعالى :
وسرُّ ذلك : أن الآدمي فيه بشرية وروحانية ، فكلما جاهد نفسه ، وغاب عن حس بشريته ؛ ترقى في معارج التوحيد ، والمجاهدة لا تنقطع عنه في هذه الدار ؛ لأنها دار أكدار ، فلا ينقطع عنه الترقي في المشاهدة ، وأما في تلك الدار ؛ فالترقي فيها من باب الكرم والإثابة على ما هنا. وأيضاً : البشرية للآدمي بمنزلة الطلاء للمِرآة ، فالمرآة بلا طلاء لا ترى فيها صور الأشياء ، كذلك الملائكة لا بشرية لهم ، فلا تنكشف لهم الحقائق كما تنكشف للآدمي ، ولو كشف لهم ما انكشف له لذابوا. والله أعلم.
قال في القوت : لَعمري إن سائر الملائكة لا ينتقلون في المقامات كترقي المؤمنين ، إنما لكلٍّ مقام معلوم ، لا ينتقل إلى غيره ، إلا أنهم يُمدّون من ذلك بمدد لا نهاية له إلى يوم القيامة ، بأكثر ما يزاد جملة البشر هـ. قلت : ومعنى كلامه : أن الملائكة يُمدون في مقامهم بقوة لا يستطيعها البشر ، فمَن كان في مقام الهيبة دام فيها ، وقَوِي عليها ، ومَن كان في مقام الخدمة ، دام عليها ، وقوي عليها ، قوةً لا يطيقها البشر ، ولا يترقى عنها ، بخلاف الآدمي ، فليست فيه هذه القوة ، لكنه يترقى من مقام إلى مقام ، ويترقى في المعارف على الدوام.
(6/296)
ثم بسط صاحب القوت في ذلك الكلام في فضائل الصلاة ، وأنها جامعة لما فُرق على الملائكة من الأعمال والأذكار. قال : وبذلك فضل المؤمنون الملائكة ، وكذلك فضل الموقن أيضاً في مقامات اليقين من أعمال القلوب ، على الأملاك بالتنقيل بأن جُمعت فيه ، ورُفع فيها مقامات ، والملائكة لا يُنقلون ، بل كل ملك موقوف في مقام معلوم ، لا ينقل منه إلى غيره ، وإنما له المزيد من المقام الواحد على قدر قواه ، وجمع ذلك كله في قلب المؤمن ، ونقل فيه مقامات. وكان له من كل مقام مشاهدات. هـ.
قال المحشي الفاسي : وفيه نظر ، مع تلقيهم ضروب الوحي الجامع للمقامات ، فكيف لا يُمكّنهم تحققاً بها على اختلافها ؟ ولو كان كما قال ؛ لكان كل مَلَكٍ إنما يتلقى من الوحي ما يناسبه ، ويختص بمقامه ، وليس الأمر كذلك ضرورة. هـ. قلت : وفي نظره نظر ؛ إذ لا يلزم من تلقيهم للوحي على أنواعه أن يترقوا به ؛ إذ ليس الترقي هو مجرد العلم ، بل الترقي إنما هو أذواق ووجدان ، وكشوفات بعد حصول العلم. وقد يتحقق العلم بالمقام ، ولا ينتقل عنه إلى غيره ، بل قد يعلمه ولا يذوقه ، كما هو محقق عند أهل
195
الفن ، ثم قال : والحق ما نبّه عليه البيضاوي. وكلام القوت ينظر لقول الحكماء ، ومثله كلام الإحياء. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 194
(6/297)
ونص البيضاوي في قوله تعالى : {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} [البقرة : 33] الآية : إنَّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة ، والحكماء مَنعوا ذلك في الطبقات العليا منهم ، وحملوا عليه قوله تعالى : {وما منا إِلا له مقام معلوم}. هـ. قلت : ترقي الآدمي هو انتقاله من مقام إلى مقام ، حتى يُكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات ، ثم لا يزال يترقى في الأذواق والكشوفات ، يتجدّد له في كل يوم وساعة ، حلاوة وكشف لم تكن عنده قبلُ ، بخلاف الملائكة ، فإنما يترقى كل واحد في كشف أسرار مقامه ، ويجد حلاوة في ذلك المقام لم تكن له قبلُ ، ولا ينتقل عنه ، فمَن كان من أهل الخدمة زاده الله حلاوتها. ومَن كان من أهل المراقبة فكذلك. ومَن كان من أهل المشاهدة غلب عليه السكر والهذيان ، ولا يزيد على ذلك. وهم الطبقة العليا ، فلا منافاة بين كلام القوت وكلام البيضاوي ؛ لأن الترقي إنما هو في الأذواق والكشوفات ، لا في العلوم الغيبية ، ولا في الكمالات النفسية. فتأمله.
(6/298)
وقال القشيري : الملائكة لا يتخطون مقامهم ، ولا يتعدَّوْن حدَّهم ، والأولياء مقامهم مستورٌ بينهم وبين الله ، لا يطلع عليه أحد ، والأنبياء ـ عليهم السلام ـ لهم مقام مشهورٌ ، مُؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة ؛ لأنهم للخَلْقِ قدوة ، فأمْرُهُم على الشهرة ، وأَمْرُ الأولياء على السَّتْرِ. هـ. وقال الورتجبي : أهل البدايات في مقام الطاعات ، والأوْسَاط في المقامات ، مثل التوكل والرضا ، والتسليم ، والمُحبُّون في مقامات الحالات والمواجيد ، وأهل المعرفة في مقام المعارف ، ينقلون في المشاهدة من مقام إلى مقام ، ولا يبقى المقام للموحدين ، فإنهم مستغرقون في بحار الذات والصفات ، فليس لهم مقام معلوم ؛ لأن هناك لم يكن لهم وقوف ، حيث أفناهم قهرُ الجلال ، والجمال ، والعظمة ، والكبرياء ، عن كل ما وجدوا من الحق ، فيبقوا في الفناء إلى الأبد. هـ. قلت : ما ذكر من الطبقات الثلاث هم العباد ، والزهّاد ، وأرباب الأحوال ، وحالهم كحال الملائكة ، يُمَدُّون في مقامهم ، ولا ينتقلون منه ، فلكل واحدة قوة في مقامه ، لا يطبقها العارف ، لكنه فاتهم بالترقي عنهم إلى مشاهدة الذات ، والترقي فيها أبداً.
ثم قال الورتجبي في قوله تعالى : {وإِنا لنحن الصافُّون} : لمَّا كانوا من أهل المقامات المعلومات افتخروا بمقاماتهم في العبودية ، من الصلاة والتسبيح ، ولو كانوا من أهل الحقائق في المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعتهم ، من استيلاء أنوار مشاهدة الحق عليهم ، والاستغراق في بحارٍ من الألوهية. قال بعضهم : لذلك قطعت بهم مقاماتُهم عن ملاحظة المِنَّة ، حتى قالوا بالتفخيم : {إِنا لنحن} فلما أظهروا سرائرهم عارضوا إظهار أفعال الربوبية بالمعارضة ، حتى قالوا : {أتجعلُ فيها من يُفسد فيها} [البقرة : 30]. هـ.
196
وكلامنا كله مع عامة الملائكة ، وأما المقربون ؛ فالأدب الإمساك عنهم صلوات الله وسلامه عليهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 194
(6/299)
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِن كانوا} أي : مشركو قريش {لَيَقُولون} قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم : {لو أنَّ عندنا ذِكْراً من الأولين} أي : كتاباً من كتب الأولين ، الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، {لكُنَّا عبادَ الله المخلصين} أي : لأخلصنا لله ، وما كذّبنا كما كذَّبوا ، ولَمَا خالفنا كما خالفوا ، فلما جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار ، والكتاب الذي هو مهيمن على الكتب ، فكفروا به ، {فسوف يعلمون} عاقبة تكذيبهم ، وما يحلّ بهم من الانتقام. و " إن " مخففة ، واللام فارقة. وفي ذلك أنهم كانوا يقولون ، مؤكّدين للقول ، جادّين فيه ، ثم نقضوا بأشنع نقض ، فكم بين أول الأمر وآخره!.
ثم بشَّر رسولَه بالنصر والعز ، فقال : {ولقد سبقتْ كلمتُنا لعبادنا المرسَلين} أي : وعدناهم بالنصر والغلبة. والكلمةُ هي قوله : {إِنهم لَهُمُ المنصورون} دون غيرهم ، {وإِنَّ جُندَنا لهم الغالبون} وإنما سمّاها كلمةٌ ، وهي كلمات ؛ لأنها لَمَّا انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة ، والمراد : الوعد بعلوّهم على عدوهم في مقام الاحتجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوهم عليهم في الآخرة. وعن الحسن : ما غُلب نبيّ في حرب قط. وعن ابن عباس رضي الله عنه : إن لم ينتصروا في الدنيا نُصروا في العُقبى. والحاصل : أن قاعدة أمرهم ، وأساسَه ، والغالب منه : الظفَرُ والنصر ، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة فنادر ، والعبرة بالغالب.
{فتولَّ عنهم حتى حين} إلى مدة يسيرة. وهي المدة التي أُمهلوا فيها ، أو : إلى بدر ، أو : إلى فتح مكة ، {وأَبْصِرْهُم} أي : أبصر ما ينالهم ، والمراد بالأمر : الدلالة على أن ذلك كائن قريب ، {فسوف يُبْصِرُون} ما قضينا لك من النصر والتأييد ، والثواب الجزيل في الآخرة. و " سوف " للوعيد ، لا للتبعيد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 197
ولَمّا نزل : {فسوف يُبْصرُون} قالوا : متى هو ؟ فنزل : {أفبعذابنا يستعجلون} قبل
197
(6/300)
وقته ؟ {فإِذا نَزَلَ} العذاب {بساحتهم فسَاءَ صباحُ المنذَرِين} صباحهم. واللام للجنس ؛ لأن " ساء " و " ليس " يقتضيان ذلك. قيل : هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة. وقيل : نزول العذاب بهم يوم القيامة. شبهه بجيش هَجَمَ فأناخ بفنائهم بغتةً. والصباح : مستعار من : صباح الجيش المبيت ، استعير لوقت نزول العذاب. ولَمّا كثرت الغارة في الصباح سموا الغارة صباحاً ، وإن وقعت في غيره.
{وتولَّ عنهم حتى حينٍ وأبْصِرْ فسوف يُبصِرون} كُرر ليكون تسلية بعد تسلية ، وتأكيداً لوقوع الوعد إلى تأكيد ، وفيه فائدة ، وهو إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول ، بعد التقييد له ، إيذان بأنه يُبْصِر من صنوف المسرة ويُبصرون من أنواع المساءة ما لا يفي به نطاقُ العبارة. وقيل : أريد بأحدهما : عذاب الدنيا ، وبالآخر : عذاب الآخرة.
{سبحانَ ربك ربِّ العزة} أضيف الربّ إلى العزة لاختصاصه بها ، أو : يريد : أن ما من عزّ لأحد إلا وهو ربها ومالكها ، لقوله : {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} [آل عمران : 26] أي : تنزيهاً له عما يصفون من الولد والصاحبة والشريك. {وسلامٌ على المرسلين} عمّم الرسل بالسلام بعدما خصص البعض في السورة ؛ لأن في تخصيص كلٍّ بالذكر تطويلاً. {والحمدُ لله ربِّ العالمين} على هلاك الأعداء ، ونصرة الأنبياء.
(6/301)
قيل : في ختم السورة بالتسبيح بعدما تضمنته السورة من تخليط المشركين وأكاذيبهم ، ونسبتهم إلى جلاله الأقدس ما لا يليق بجنابه الأرفع ، تعليم للمؤمنين ما يختمون به مجالسهم ؛ لأنهم لا يخلو إذا جلسوا مجلساً من فلتة أو هفوة ، وكلمات فيها رضى الله وسخطه ، فالواجب على المؤمن إذا قام من مجلس أن يتلو هذه الآية ؛ لتكون مكفرة لتلك السقطات ، ويحمد لِمَا وفق من الطيبات ، ومن ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم : " كلمات لا يتكلمُ بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات ؛ إلا كُفِّرَ بهن عنه ، ولا يقولهن في مجلس خيرٍ ، ومجلس ذكرٍ ، إلا ختم الله بهن ، كما يُخْتَمُ بخاتم على الصحيفة ؛ سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك " والمراد هو ختم المجلس أو الكلام بالتنزيه. وعن عليّ كرّم الله وجهه : مَن أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه : {سبحان ربك رب العزة عما يصفون}... الخ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 197
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا سلمتم عليَّ فسلِّموا على المرسلين ، فإنما أنا أحدهم ". الإشارة : ترى بعض الناس يقول : لو ظهر شيخ التربية لكُنَّا من المخلصين ، بصحبته
198
(6/302)
وخدمته ، فلما ظهر كل الظهور جحد وكفر ، وأَنِفَ واستكبر ، وقنع بما عنده من العلم ، فإذا رأى ما ينزل بأهل النسبة من أصحابه ، من الامتحان في أول البادية ، قال : ليس هذه طريق الولاية ، فيقال له : ولقد سبقتْ كلمتُنا لعبادنا المرسلين ، ولِمن كان على قدمهم ، إنهم لَهُمُ المنصورون ، وإِنَّ جندنا لهم الغالبون ، فتولّ عن مثل هذا حتى حين ، وهو وقت هجوم الموت عليه ، وأبصر ما يحلّ به من غم الحجاب ، وسوء الحساب ، فسوف يُبصرون ما يناله أهل النسبة من الاصطفاء والتقريب ، فإذا طلب الكرامة بالانتصار ممن ظلمهم ، فيقال له : {أفبعذابنا يستعجلون...} الآية. والغالب عليهم الرحمة. فإذا أُوذوا قابلوا بالإحسان ، إذ لم يروا الفعل إلا من الرحمن ، فينزهونه بقولهم : {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين}.
199
جزء : 6 رقم الصفحة : 197(6/303)
سورة ص
جزء : 6 رقم الصفحة : 199
يقول الحق جلّ جلاله : {ص} أي : أيها الصادق المصدوق. وقال القشيري : معناه : مفتاحُ اسمه الصادق ، والصبور ، والصمد. أقسم بهذه الأسماء ، وبالقرآنِ {ذِي الذكر} أي : ذي الشرف التام ، الباقي ، المخلَّد لمَن تمسّك به ، أو ذي الوعظ البليغ لمَن اتعظ به ، أو ذي الذكر للأمم والقصص والغيوب. أو : يراد به الجميع. وجواب القسم : محذوف ، أي : إنه لكلام معجز ، أو : إنه لَمن عند الله ، أو : إن محمداً لصادق ، أو : ما الأمر كما يزعمون ، أو : {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس : 3] وقيل : {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} [ص : 14] أو : {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص : 64] وهو بعيد.
{بل الذين كفروا} من قريش {في عِزَّةٍ} ؛ تكبُّر عن الإذعان لذلك ، والاعتراف بالحق ، {وَشِقَاقٍ} ؛ خلاف لله ولرسوله. والإضراب عن كلام محذوف يدل عليه جواب القسم ، أي : إن كفرهم ليس عليه برهان ، بل هو بسبب العزة ، والعداوة ، والشقاق ، وقصد المخالفة. والتنكير في " عزة وشقاق " للدلالة على شدتهما وتفاقمهما. وقرىء " في غِرَّةٍ " أي : في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق.
ثم هدّدهم بقوله : {كم أهلكنا من قبلهم} ؛ من قبل قومك {من قَرْنٍ} ؛ من أُمّة أو جيل ، {فَنَادَوا} أي : فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب : {ولاتَ حين مَنَاصٍ} أي : وليس الوقت وقت خلاص ونجاة وفرار ، والمعنى : أنهم استغاثوا حين لم ينفعهم ذلك.
200
{ولات} هي " لا " المشبّهة بـ " ليس " ، زيدت عليها تاء التأنيث ، كما زيدت على " ربّ " ، و " ثمّ " للتوكيد ، وتغيّر بذلك حكمها ، حيث لم تدخل إلا على الأحيان ، ولم يبرز إلا أحد معموليها ، إما الاسم أو الخبر ، وامتنع بروزهما بنفي الأحيان ، وهذا مذهبُ الخليل وسيبويه ، وعند الأخفش أنها النافية للجنس ، زيدت عليها الهاء ، وخصّت بنفي الأحيان. وقال أبو محمد مكي : الوقف عليها عند سيبويه ، والفراء ؛ وأبي إسحاق ، وابن كيسان ، بالتاء ، وعليه جماعة القراء ، وبه أتى خط المصحف. وعند المبرد والكسائي بالهاء ، بمنزلة " رب ". اهـ.(6/304)
الإشارة : افتتح الحق جلّ جلاله هذه السورة ، التي ذكر فيها أكابر أصفيائه ، بحرف الصاد ، إشارة إلى مادة الصبر ، والصدق ، والصمدانية ، والصفاء ؛ إذ بهذه المقامات ارتفع مَن ارتفع ، وبالإخلال بها سقط مَن سقط. فبالصبر على المجاهدات تتحقق الإمامة والقدوة ، وبالصدق في الطلب يقع الظفر بكل مطلب ، وبالصمدانية تقع الحرية من رقّ الأشياء ، وبالصفاء تحصل المشاهدة والمكالمة ، فكأن الحق تعالى أقسم بهذه الأشياء وبكتابه العزيز ؛ إن المتكبرين على أهل الخصوصية ما أنكروا إلا جُحوداً وعناداً ، وتعزُّزاً واستكباراً ، لا لخلل فيهم ، ثم أوعدهم بالهلاك ، كما أهلك مَن قبلهم ، فاستغاثوا حين لم ينفعهم الغياث.
جزء : 6 رقم الصفحة : 200
{وَعَجِبُوااْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـاهاً وَاحِداً إِنَّ هَـاذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىا آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـاذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَـاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا...}
يقول الحق جلّ جلاله : {وعَجِبُوا} أي : كفار قريش من {أن جاءهم مُّنذر منهم} ؛ رسول من أنفسهم ، استبعدوا أن يكون الرسل من البشر. قال القشيري : وعَجِبُوا أن جاءهم مُنذرٌ منهم ، ولم يعجبوا أن يكون المنحوت إلهاً لهم ، وهذه مناقضة ظاهرة. هـ. يعني : لأن المستحق للإعجاب إلهية المنحوت من الحجر ، لا وجود منذر من البشر ، وهم عكسوا القضية. {وقال الكافرون هذا ساحر كذَّابٌ} أي : ساحر فيما يُظهر من المعجزات ، كذَّاب فيما يدَّعيه من الرسالة. وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالكفر ، وغضباً عليهم ، وإشعاراً بأن كفرهم هو الذي جسرهم على هذه المقالة الشنعاء.
(6/305)
ثم قالوا : {أجَعَلَ الآلهةَ إلهاً واحداً} بأن نفى الألوهية التي كانت لآلهتهم وقصرها على واحد ، {إِنَّ هذا لشيءٌ عُجَابٌ} ؛ بليغ في العجب ، وذلك لأنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم ، الذين أطبقوا على عبادة آلهتهم ، كابراً عن كابر ، فإنَّ مدار كل ما يأتون ويذورن ،
201
من أمور دينهم ، هو التقليد والاعتياد ، فيَعُدون ما يخالف ما اعتادوه عجباً من العجاب ، بل محالاً ، وأما جعل مدار تعجبهم عدم وفاء علم الواحد ، وقدرته بالأشياء الكثيرة ، فلا وجه له ؛ لأنهم لا يدّعون أن لآلهتهم علماً وقدرة ومدخلاً في حدوق شيءٍ من الأشياء ، حتى يلزم من ألوهيتهم بقاء الأثر مؤثر ، قاله أبو السعود منتقداً على البيضاوي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 201
قال القشيري : لم تباشر خلاصةُ التوحيد قلوبَهم ، وبُعدوا عن ذلك تجويزاً ، فضلاً عن أن يكون إثباتاً وحكماً ، فلا عَرَفُوا أولاً معنى الإلهية ؛ فإن الإلهية هي القدرة على الاختراع. وتقديرُ قادِرَيْن على ذلك غيرُ صحيح ؛ لِمَا يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه ، وذلك يمنع من كمالها ، ولو لم يكونا كامِلَي الوصفِ لم يكونا إِلَهيْن ، وكلُّ مَن جرّ ثبوته لسقوطه فهو مطرح باطل. هـ.
(6/306)
رُوي أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه فرح به المؤمنون ، وشقّ على قريش ، فاجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديدهم ، ومشوا إلى أبي طالب ، وقالوا : أنت كبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ـ أي : الذين دخلوا في الإسلام ـ وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر أبو طالب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي ؛ هؤلاء قومك يسألونك السواء ، فلا تَمِلْ كل الميل على قومك ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " ماذا يسألونني ؟ " فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا ، وندعك وإلهك ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " أعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب ، وتدين لكم العجم " ، قالوا : نعم ، وعشراً. قال : " قولوا : لا إله إلا الله " فقاموا ، وقالوا : {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عُجاب}. قيل : العجب : ما له مِثل ، والعجاب : لا مثل له.
{وانطلق الملأُ منهم} أي : وانطلق الأشراف من قريش عن مجلس أبي طالب ، بعدما بكّتهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجواب ، وشاهدوا تصلُّبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الدين ، وعزيمته على إظهاره ، ويئسوا مما كانوا يرجونه ، بتوسُّط أبي طالب ، من المصالحة على الوجه المذكور ، قائلين {أنِ امْشُوا} و " أنْ " : تفسيرية ؛ لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ، أو يتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول ، وقيل : ليس المراد بالانطلاق المشي ، بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام ، كما أنه ليس المراد بالمشي المتعارف ، بل الاستمرار على المشي ، يعني أنه على هذا القول : عبارة عن تفرُّقهم في طُرق مكة ، وإشاعتهم للكفر. هـ. أي : امشوا {واصبروا على آلهتكم} أي : اثبتوا على عبادتها ، متحمِّلين لِما تسمعون في حقها من القدح.
قال القشيري : إذا تواصى الكفارُ فيما بينهم بالصبر على آلهتهم ، فالمؤمون أَوْلى
202
بالصبر على عبادة معبودهم ، والاستقامة في دينهم. هـ.
(6/307)
{إِنَّ هذا لشيءٌ يُراد} أي : هذا الذي شاهدناه من محمد صلى الله عليه وسلم من أمر التوحيد ، وإبطال أمر آلهتنا ، لشيء يُراد إمضاؤه وتنفيذه ، من جهته ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا محالة ، من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، لا قول يُقال من طرف اللسان ، وأمر تُرجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتنان ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه ، بواسطة أبي طالب وشفاعته ، وحسبكم ألا تُمنعوا من عبادة آلهتكم بالكلية ، فاصبروا عليها ، وتحمَّلوا ما تسمعون في حقها من القدح وسوء المقالة ، أو : إنَّ هذا الأمر لشيء يريده الله تعالى ، ويحكم بإمضائه ، فلا مرد له ، ولا ينفع فيه إلا الصبر ، أو : إنَّ هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر ، يُراد بنا ، فلا انفكاكَ لنا منه ، أو : إن دينكم لشيء يُراد ، أي : يُطلَبُ ليؤخذ منكم وتُغلَبوا عليه ، أو : إن هذا الذي يدَّعيه من التوحيد ، ويقصده من الرئاسة ، والترفُّع على العرب والعجم ، لشيء يُتمنى ، ويريده كلُّ أحد. فتأمّل هذه الأقاويل ، واختر منها ما يساعده النظم الجليل.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 201
ما سَمِعْنَا بهذا} الذي يقوله من أمر التوحيد {في الملةِ الآخرة} أي : في ملة عيسى ، التي هي آخر الملل ؛ لأن النصارى مثلثة غير موحدة ، أو : في ملّة قريش التي أدركنا عليها آباءنا ، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالاً من " هذا " ، أي : ما سمعنا بهذا من أهل الكتاب ولا الكهّان كائناً في الملة المترقبة. ولقد كذّبوا في ذلك أقبح كذب ؛ فإن حديث البعثة والتوحيد ، وإبطال عبادة الأصنام ، كان أشهر الأمور قبل الظهور. {إِنْ هذا} أي : ما هذا {إِلا اختلاقٌ} أي : كذب ، اختلقه من تلقاء نفسه.
(6/308)
{أأُنزل عليه الذكرُ} أي : القرآن {من بيننا} ونحن رؤساء الناس وأشرافهم. أنكروا أن يُختص بالشرف من بين أشرافهم ، وينزل عليه الكتاب من بينهم ، حسداً من عند أنفسهم ، كقولهم : {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف : 31]. وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد ، وقصر النظر على الحطام الدنيوية ، والعياذ بالله.
قال الورتجبي : كانوا منطمسة العيون عما ألبسه الحق من أنوار ربوبيته ، وسنا جلاله وجماله ، لم يروا إلا الصورة الإنسانية ، التي هي ميراث آدم من ظاهر الخلقة. وهذا كقوله : {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف : 198] ، استبعدوا اصطفائيته بالوحي ، ولم يعرفوا أنه أثرُ اللهِ في العالم ، ومشكاةُ تجلِّيه ، حتى قالوا مثل ما قالوا : {وعَجبوا أن جاءهم مُّنذر منهم} ، رأوا أنفسهم خالية عن مشاهدة الغيوب ، وإدراك نور صفات الحق ، فقاسوا نفس محمد صلى الله عليه وسلم بأنفسهم ، ولم يعلموا أنه كان نفسَ النفوس ، وروحَ الأرواح ، وأصل الخليقة ، وباكورةً من بساتين الربوبية. يا ليتهم لو رأوه في مشاهدة الملكوت ، ومناصب الجبروت ، إذ خاطبه الحق بلولاك ما خلقتُ الأفلاك. هـ.
203
(6/309)
الإشارة : هذه عادة الله تعالى في خلقه ، كل مَن يأمر الناس بالتجريد ، وخرق العوائد ، وصريح التوحيد ، وترك ما عليه الناس من جمع الدنيا ، وحب الرئاسة ، والجاه ، أنكروه ، وسفَّهوا رأيه ، وقالوا فيه : ساحر كذَّاب. ويقول بعضهم لبعض : امشوا واصبروا على ما أنتم عليه ، من جمع الدنيا ، والخدمة على العيال ، وعلى ما وجدتم عليه أسلافكم ، من الوقوف مع العوائد ، ما سمعنا بهذا الذي يدلّ عليه هذا الرجل من ترك الأسباب والانقطاع إلى الله في هذا الزمان ، إن هذا إلا اختلاق ، أأُنزلت عليه الخصوصية من بيننا ، ولم يعلموا أن الله يختص برحمته مَن يشاء ، ويبعث في كل زمان مَن يُجدد الدين بتربية مخصوصة. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 201
ثم رَدّ عليهم بقوله :
{... بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأَسْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأَحَزَابِ}.
(6/310)
يقول الحق جلّ جلاله : {بل هم} أي : كفار قريش {في شكٍّ من ذكري} ؛ من القرآن ، أو الوحي ، لميلهم إلى التقليد ، وإعراضهم عن النظر في الأدلة المؤدية إلى علم حقيقته ، {بل لمَّا يذوقوا عذاب} أي : بل لم يذوقوا عذابي الموعود في القرآن ، ولذلك شكُّوا فيه ، فإذا ذاقوه زال ما بهم من الشك والحسد حينئذ ، أي : إنهم لا يُصدِّقون به إلا أن يمسّهم العذاب ، فحينئذ يُصدّقون ، ولات حين تصديق. {أم عندهم خزائنُ رحمةِ ربك العزيزِ الوهَّاب} أي : ما هم بمالكي خزائن الرحمة حتى يُصيبوا بها مَن شاؤوا ، ويصرفوها عمَّن شاؤوا ، ويختاروا للنبوة بعض صناديدهم ، ويترفَّعوا بها عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما يملك الرحمة وخزائنها العزيزُ القاهر على خلقه ، الوهّاب الكثير المواهب ، المصيب بها مَن يشاء. والمعنى : أن النبوة عطية من الله تعالى ، يتفضّل بها على مَن يشاء من عباده المصطفين ، لا مانع له ، فإنه الغالب ، الذي له أن يهب كل ما يشاء لكل مَن يشاء.
وفي إضافة اسم الرب المنبىء عن التربية والتبليغ إلى الكمال إلى ضميره ـ عليه الصلاة والسلام ـ من تشريفه واللطف به ما لا يخفى.
{أم لهم مُلكُ السماواتِ والأرضِ وما بينهما} أي : بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية ، ويتحكّموا في التدابير الإلهية ، التي اختصّ بها رب العزّة والكبرياء ؟ ثم تهكّم بهم غاية التهكُّم فقال : {فليرتقوا في الأسباب} ، وهو جواب عن شرط مقدَّر ، أي : إن كان لهم ما ذكر من الملك ، ويملكون التصرُّف في قسمة الرحمة ، فليصعَدوا في المعارج والطُرق التي يتوصّل بها إلى السماء ،
204
حتى يُدبروا أمر العالم وملكوت الله ، فيُنزلون الوحي إلى مَن يختارون ويستصوبون. والسبب ، في الأصل : ما يتوصل به إلى المطلوب.
(6/311)
ثم وعد نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالنصر عليهم بقوله : {جندٌ مَّا هنالك مهزومٌ من الأحزاب} أي : هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرسل {مهزومٌ} ؛ مكسور عما قريب ، فلا تُبالِ بما يقولون ، ولا تكترث بما يَهْذُون. و " جُند " : خبر ، أو مبتدأ ، و " مهزوم " : خبره و " مَّا " : صلة مقوّية للنكرة. أو : للتقليل والتحقير. و " من الأحزاب " : متعلق بجند ، أو : بمهزوم ، و " هنالك " : إشارة إلى بدر ومصارعهم ، أو : إلى حيث وضعوا في أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم ، من قولهم لمَن ينتدب لأمر وليس من أهله : لست هنالك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 201
الإشارة : يُقال في جانب أهل الغفلة : بل في شك من حلاوة ذكري ومعرفتي ، حيث لم يذوقوا. قال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه : (خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا شيئاً ، قيل : وما فاتهم ؟ قال : حلاوة المعرفة). بل لَمَّا يذوقوا عذابي ، هو وبال القطيعة والبُعد ، والانحطاط عن درجات المقرَّبين ، وسيذوقونه إذا تحققت الحقائق ، حيث لا ينفع مال ولا بنون ، إلا مَن أتى الله بقلب سليم. وقال في جانب من حسد أهل الخصوصية : {أم عندهم خزائنُ رحمة ربك العزيزِ الوهاب...} الآية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 201
يقول الحق جلّ جلاله : {كذَّبت قبلهم} أي : قبل أهل مكة {قومُ نوح} نوحاً ، {وعادٌ} هوداً {وفرعونُ} موسى ، {ذو الأوتاد} ، قيل : كانت له أربعة أوتاد وحبال يلعب بها أو عليها بين يديه ، وقيل : كان يوتّد مَن يعذب بأربعة أوتاد في يديه ورجليه ، ويتركه حتى يموت. وقيل : كان يرسل عليه عقارب وحيّات. وقيل : معناه : ذو المُلك الثابت ، من : ثبات البيت المُطَنَّب بأوتاده ، فاستعير لرسوخ السلطنة ، واستقامة الأمر ، كقول الشاعر :
ولقد غَنَوا فيها بأَنْعَمِ عيشةٍ
في ظلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ
205
(6/312)
{وثمودُ} وهم قوم صالح ، {وقومُ لوط} كذَّبوا لوطاً ، {وأصحابُ الأيكةِ} ؛ أصحاب الغيضة كذَّبوا شُعيباً عليه السلام ، {أولئك الأحزابُ} : بدلٌ من الطوائف المذكورة. وفيه فضل تأكيد وتمهيد لما يعقبه ، وأراد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هؤلاء الطوائف ، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب ، ولذلك قال :
{إِن كلٌّ إِلا كذَّب الرسلَ} أي : ما كل أحد من آحاد أولئك الأحزاب ، أو : ما كل حزب منهم إلا كذّب الرسل ؛ لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم ؛ لاتفاق الكل على الحق ، أو : ما كل حزب إلا كذَّب رسوله ، على نهج مقابل الجمع بالجمع. وأيًّا ما كان فالاستثناء مفرغ من أعم [العلل] في خبر المبتدأ ، أي : ما كل أحد منهم محكوم عليه بحكم إلا أنه كذب الرسل ، {فحقَّ عقاب} أي : فوجب لذلك أن أُعاقبهم حق العقاب ، التي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات.
{وما ينظر هؤلاء} أي : وما ينتظر أهل مكة. وفي الإشارة إليهم بهؤلاء ؛ تحقير لشأنهم ، وتهوين لأمرهم ، أي : وما ينتظر هؤلاء الكفرة الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب ، {إِلا صيحةً واحدة} وهي النفخة الثانية ؛ لما فيها من الشدة والهول ، فإنها داهية ، يعم هولها جميع الأمم ، برَّها وفاجرها. والمعنى : أنه ليس بينهم وبين حلول ما أعدّ الله لهم من العقاب إلا نفخة البعث ، أُخرت عقوبتهم إلى الآخرة ؛ لأن حلولها بهم في الدنيا يوجب الاستئصال ، وقد قال تعالى : {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال : 33] فأخرت ليوم القيامة. وأما ما قيل من أنها النفخة الأولى فمما لا وجه له ؛ لأنه لا يشاهد هولَها ، ولا يصعَق بها إلا مَن كان حيًّا عند وقوعها. قاله أبو السعود.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 205
(6/313)
ما لها من فَوَاقٍ} أي : مِن توقُّف مقدار فواق ، هو ما بين حلبتي الحالب ، أي : إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان. وعن ابن عباس : ما لها من رجوع وترداد ، من أفاق المريض ؛ إذا رجع إلى الصحّة ، وفواق الناقة : ساعة يرجع الدرّ إلى ضرعها. يريد : أنها نفخة واحدة ، لا تثنى ، ولا تردد. والفواق بمعنى التأخر ، فيه لغتان : الفتح والضم ، وأما ما بين حلبتي الناقة ، فبالضم فقط.
الإشارة : ما جرى على مكذبي الرسل يجري في مكذِّبي الأولياء ، إلاَّ أن عذابهم البُعد والطرد ، وحرمان معرفة العيان. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 205
206
يقول الحق جلّ جلاله : {وقالوا} أي : كفار مكة لَمَّا سمعوا بتأخير عقابهم إلى الآخرة : {ربنا عَجِّل لنا قِطَّنَا} أي : حظّنا من العذاب الذي وعدتنا به ، {قبل يوم الحساب} ولا تؤخره إلى الصيحة المذكورة. وفي القاموس : القِط ـ بالكسر ـ النصيب ، والصَّك ، وكتاب المحاسبة. هـ. أو : عَجِّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها ، أو : حظنا من الجنة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر وعد الله المؤمنين بالجنة ، فقالوا على سبيل الهزء : عَجِّل لنا نصيبنا منها. وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء ، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة.
(6/314)
{اصْبِرْ على ما يقولون} من أمثال هذه المقالات الباطلة. ثم سلاّه بما يقص عليه من خبر الأنبياء ـ عليهم السلام ـ الذين كانت بدايتهم أيام المحن ، ثم جاءتهم أيام المنن ، وبدأ بنبيه داود عليه السلام ، فقال : {واذكر عبدَنا داودَ} ، فإنه كان في أول أمره ضعيفاً ، يرعى الغنم ، ثم صار نبيّاً مَلِكاً ، ذا الأيادي العظام. وقوله : {ذَا الأيدِ} أي : ذا القوة في الدين ، والملكَ ، والنبوة. يقال : فلان ذو يد وأيد وأياد ، بمعنى القوة ، وأياد كل شيء : ما يتقوّى به. {إِنه أوَّابٌ} : رجّاع إلى الله في كل شيء ، أو : إلى مرضاة الله تعالى. وهو يوماً ، وهو أشدُّ الصوم ، ويقومُ نصفَ الليل ، مع مكابدة سياسة النبوة والمُلك والشهود ، فقد أعطى القوة في الجهتين.
{إِنا سخَّرنا الجبالَ معه} أي : ذللناها له ، تسير معه حيث يريد. ولم يقل " له " ؛ لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق التفويض الكلي ، كتسخير الرياح وغيرها لابنه ، بل بطريق التبعية ، والاقتداء به في عبادة الله تعالى. وقيل : {معه} متعلق بـ {يُسَبّحْن} ، أي : سخرناها تُسبِّح معه ، إما بلسان المقال ، يخلق الله لها صوتاً ، أو : بلسان الحال ، أي : يقدس الله تعالى ويُنزهه عما لا يليق به. والجملة : حال ، أي : مسبِّحات ، واختيار الفعل ليدل على حدوث التسبيح من الجبال ، وتجدُّده شيئاً بعد شيء ، وحالاً بعد حال ، {بالعَشِيّ} في طرفي النهار ، والعشيّ : وقت العصر إلى الليل {والإِشراقِ} ، وهو حين تُشرق الشمس ، أي : تضيء ، وهو وقت الضحى ، وأما شروقها ـ الثلاثي ؛ فطلوعها ، تقول : شرقت الشمس ولمّا تَشرق ، أي : طلعت ولم تضيء. وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية. وعنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه صلّى عند أم هانىء صلاة الضحى ، وقال : " هذه صلاة الإشراق ". {والطيرَ محشورةً} أي : وسخّرنا الطير مجموعة من كل ناحية. عن ابن عباس
207
(6/315)
رضي الله عنه : كان إذا سبّح ، جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه الطير ، فسبَّحت ، فذلك حشرها. {كلٌّ له أواب} أي : كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود. ووضع الأوّاب موضع المسبّح ؛ لأن الأوّاب : الكثير الرجوع إلى الله تعالى ، من عادته أن يكثر ذكر الله ، ويدير تسبيحه وتقديسه على لسانه. وقيل : الضمير لله ، أي : كل من داود والجبال والطير أوّاب ، أي : مسبّح لله تعالى ومرجّع للتسبيح ، وقيل : لداود ، أي : يرجع لأمره.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 206
وشَدَدْنا مُلْكَه} أي : قوّيناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود. قيل : كان بيت المقدس حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل. قال القشيري : ويقال : وشددنا ملكه بالعدل في القضية ، وحسن السيرة في الرعية ، أو : بدعاء المستضعفين ، أو : بقوم مناصحين ، كانوا يَدُلونه على ما فيه صلاح ملكه ، أو : بقبوله الحق من كل أحد ، أو : برجوعه إلينا في عموم الأوقات. هـ. وقال ابن عباس : أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم إلى داود ، فقال المستعدي : إن هذا غصبني بقرتي ، فجحد الآخر ، ولم تكن له بينة ، فقال داود : قُوما حتى أنظر في أمركما ، فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه : أن اقْتُل الرجل الذي استعدِيَ عليه ، فتثبت داود حتى أوحى الله إليه ثلاثاً أن يقتله ، أو تأتيه العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرجل : أن الله قد أوحى إليَّ أن أقتلك ، فقال : تقتلني بغير بينة ؟ فقال : نعم ، والله لأنفذنَّ أمرَ الله فيك ، فلما عرف الرجلُ أنه قاتله ، فقال : لا تعجل عليَّ حتى أخبرك أن الله تعالى لم يأخذني بهذا الذنب ، الذي هو السرقة ، ولكني كنتُ قتلتُ أبا هذا غِيلة ، وأخذتُ البقرة ، فقتله داود ، فقال الناس : إذا أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه ؛ فقتله ، فهابوه ، وعظمت هيبته في القلوب هـ.
(6/316)
{وآتيناه الحكمة} ؛ النبوة ، وكمال العلم ، وإتقان العمل ، والإصابة في الأمور ، أو : الزبور وعلم الشرائع. وكل كلام وافق الحق فهو حكمة. {وفَصْلَ الخطاب} ؛ علم القضاء وقطع الخصام ، فكان لا يتتعتع في القضاء بين الناس ، أو : الفصل بين الحق والباطل. والفصل : هو التمييز بين الشيئين ، وقيل : الكلام البيِّن ، بحيث يفهمه المخاطب بلا التباس ، فصْل بمعنى مفصول ، أو : الكلام البيِّن الذي يبين المراد بسرعة ، فيكون بمعنى فاصل ، والمراد : ما أعطاه الله من فصاحة الكلام ، الذي كان يفصل به بين الحق والباطل ، والصحيح والفاسد ، في قضاياه وحكوماته ، وتدابير الملك ، والمشورات. وعن عليّ رضي الله عنه : " هو الْبَيِّنَةُ على المُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " وعن الشعبي : " هو : أما بعد " فهو أول مَن تكلم بها ، فإنَّ مَن تكلم في الذي له شأن يفتتح بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له الكلام ، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله : أما بعد.
208
الإشارة : فاصبر أيها الفقير على ما يقولون فيك ، وتسلّ بمَن قبلك من أهل الخصوصية الكبرى والصغرى ، ففيهم أُسوة حسنة لمَن يرجو الوصول إلى الله تعالى. وقوله تعالى : {إِنَّا سخَّرنا الجبالَ معه...} الخ. قال القشيري : كل مَن تحقق بحالة ساعده كل شيء. هـ. قلت : وفي الحِكَم : " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوِّن ، فإذا شهدت المكوِّن كانت الأكوان معك " وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 206
(6/317)
يقول الحق جلّ جلاله : {وهل أتاك نبأ الخصم} ؛ استفهام ، معناه التعجُّب والتشويق إلى استماع ما في حيزه ؛ لأنه من الأنباء البديعة ، والأخبار العجيبة. والخصم ـ في الأصل : مصدر ، ولذلك يطلق على الواحد والجمع ، كالضيف والزوْر. وأريد هنا اثنان ، وإنما جمع الضمير بناء على أن أقل الجمع اثنان. {إذ تسوَّروا المحراب} أي : تصعّدوا سوره ونزلوا إليه. والسور : الحائط المرتفع ، ونظيره : تسنمه : إذا علا سنمه. والمحراب : الغرفة ، أو : المسجد ، سمي محراباً لتحارب الشيطان فيه والخواطر الردية. و " إذ " : متعلق بمحذوف ، أي : نبأ تحاكم الخصمين ، أو بالخصم ؛ لِمَا فيه من معنى الخصومة ، {إِذ دخلوا على داودَ} : بدل مما قبله ، أو : ظرف لتَسوروا ، {فَفَزِعَ منهم} : تروَّع منهم.
رُويَ أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، قيل : جبريل وميكائيل ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في عبادته ، فمنعهما الحرس ، فتسوّروا عليه المحراب ، فلم يشعر إلا وهما بين يديه ، جالسان ، ففزع منهم ؛ لأنهم دخلوا عليه في غير يوم القضاء ، ولأنهم نزلوا من فوق ، وفي يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون مَن يدخل عليه. قال الحسن : جزأ داود عليه السلام الدهر أربعة أجزاء ؛ يوماً لنسائه ، ويوماً للعبادة ، ويوماً للقضاء ، ويوماً للمذاكرة مع بني إسرائيل. فدخلوا عليه يوم عبادته.
فلما فزع {قالوا لا تخفْ} ، نحن {خصمانِ بَغَى بعْضُنا على بعض} أي : ظلم وتطاول عليه ، {فاحكمْ بيننا بالحق ولا تشْطِطْ} ؛ لا تَجُرْ ، من : الشطط ، وهو مجاوزةُ الحدّ وتخطي الحق ، {واهدنا إِلى سواء الصراط} ؛ وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجته ،
209
والمراد : عين الحق وصريحه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 209
(6/318)
رُوي : أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسألُ بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة في المواساة بذلك. وكان في أول الإسلام شيء من ذلك بين المهاجرين والأنصار ، فاتفق أنَّ عَيْنَ داودَ عليه السلام وقعت على امرأة أورِيا ، وكانت جميلة ، فأحبّها ، فسأله النزولَ له عنها ، فاستحيا أن يردّه ، ففعل ، فتزوجها ، وهي أم سليمان ؛ فعُوتب في ذلك ، وقيل له : إنك مع عظيم منزلتك ، وكثرة نسائك ، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة ، كان الواجب عليك مغالبةُ هواك ، وقهر نفسك ، واصبر على ما امتحِنْتَ به. وقيل : خطبها أوريا ، وخطبها داود ، فآثره أهلها ، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه. هـ. ولعلم لم يكن محرماً في شرعهم ، وإنما كان خلاف الأَولى.
وقال شيخ شيوخنا في حاشيته : لا يصح هذا في حق الأنبياء ، وما يُحكى أنه بعث أوريا إلى الغزو مرة بعد مرة ، وأحبّ أن يُقتل ليتزوجها ، فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أبناء الناس ، فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء. وقال عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : مَن حدّثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصَّاص جلدتْه مائةً وستين ، وهو حدّ الفرية على الأنبياء ـ يعني الحدّ مرتين ـ. ورُويَ : أن رجلاً حدّث بها عند عُمر بن عبد العزيز ، وعند رجلٌ من أهل الحق ، فكذَّب المحدِّث ، وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله ، فما ينبغي أن يُلتمَس خلافُها ، ولا أن يُقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرتَ ، وقد سترها الله على نبيه ، فما ينبغي إظهارَها عليه ، فقال عمر : لَسَماعي لهذا الكلام أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس.
(6/319)
والذي يدلُّ عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا أنه طلب من زوج المرأة أن ينزل عنها فحسب ، فتزوجها ، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض ، دون التصريح ؛ لكونها أبلغ في التوبيخ ، من قِبَل أنّ المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرِّض به كان أوقع في نفسه ، وأَشَدّ تمكُّناً من قلبه ، وأعظم أثراً فيه ، مع مراعاة حسن الأدب ، بترك المجاهرة بالعتاب. قاله النفسي.
ثم ذكر التعريض بقوله : {إِن هذا أَخي} في الدين ، أو : في الصداقة ، أو : الشركة. والتعبير به لبيان كمال قُبح ما فعل به صاحبه ، {له تِسعٌ وتسعونَ نَعْجَةً} ؛ النعجة : الأنثى من الضأن ، وقد يُكنى بها عن المرأة ، والكناية والتعريض أبلغ من التصريح. {وَلِيَ نَعْجةٌ واحدة} لا أملك غيرها ، {فَقال اكْفِلنيهَا} أي : ملِّكنيها ، واجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي ، {وعَزَّني} ؛ غلبني {في الخطاب} ؛ في الخصومة ، أي : كان أقدر مني على الاحتجاج والمجادلة ، أو : غلبني في الخِطبة ، حيث خطبتُ وخطبَ ، فأخذها ، وهذا منهما تعريض وتمثيل ، كأنهما قالا : نحن كخصمين هذه حالهما ، فمثّلت قصة أورِيا مع
210
داود بقصة رجل له نعجة واحدة ، وخليطه له تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة ، فطمع في نعجة خليطه ، وحاجّه في أخذها ، محاججة حريص على بلوغ مراده. وإنما كان ذلك على وجه التحاكم إليه ، ليحكم بما حكم به من قوله :
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 209
قال لقد ظَلَمَكَ بسؤال نعجَتِكَ إلى نِعَاجِه} ، حتى يكون محجوباً بحكمه. وهو جوابُ عن قسم محذوف ، قصد به عليه السلام المبالغة في إنكار فعل صاحبه به ، وتهجين طمعه في نعجة مَن ليس له غيرها ، مع أنَّ له قطيعاً منها. ولعله عليه السلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادّعاه عليه ، أو : بناه على تقدير صدق المدعي ، أي : إن كنت صدقت فقد ظلمك ، والسؤال : مصدر مضاف إلى المفعول ، وتعديته إلى مفعول آخر لتضمينه معنى الضم
(6/320)
{وإِنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ} ؛ الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، {لَيبغي بعضُهم على بعضٍ} ؛ غير مراع لحق الصحبة والشركة ، {إِلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} منهم ، فإنهم يتحامَوْن عن البغي والعدوان ، {وقليلٌ ماهم} أي : وهم قليل. و " ما " : مزيدة للإبهام ، والتعجُّب من قِلتهم. والجملة : اعتراض. {وظنَّ داودُ أَنما فتناه} ، الظن مستعار للعلم الاستدلالي ؛ لما بينهما من المشابهة الظاهرة ، أي : علم بما جرى في مجلس الحكومة ؛ وقيل : لمّا قضى بينهما نظر أحدُهما إلى الآخر ، فضحك ، ثم صعدا إلى السماء فعلم عليه السلام أنه تعالى ابتلاه. والقصر مُنصَّب على الفتنة ، أي : علم أنما فعلناه به فتنة وامتحان.
واختلف في سبب امتحانه ، قيل : لأنه تمنّى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وقال : يا رب أرى الخير كله ذهب به آبائي ، فأوحى إليه : إني ابتليتهم ، فصبروا ، فابتلي إبراهيم بنمروذ وبذبح ولده ، وإسحاق بالذبح. ويعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره ، وأنت لم تُبتل بشيءٍ ، فقال : يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به ، فابتلي بالمرأة. وقيل : إنه ادعى القوة ، وقال : إنه لا يخاف من نفسه قط ، فامتُحن ، {فاستغفر ربَّه} إثر ما علم أن ما صدر منه ذنب ؛ {وخَرَّ راكعاً} أي : ساجداً ، على تسمية السجود ركوعاً ، أو : خرَّ راكعاً مصلياً صلاة التوبة ، {وأنابَ} أي : رجع إلى الله بالتوبة ، رُوي : أنه بقي ساجداً أربعين يوماً يبكي ، حتى نبت البقل من دموعه ، ولم يشرب ماءً إلا وثلثاه دموع ، واشتغل بذلك عن المُلك ، حتى وثب ابن له ، يقال له : " إيشا " على ملكه ودعا إلى نفسه ، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما غفر له حاربه فهزمه. هـ.
(6/321)
وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك ، خلافاً للشافعي ، إلا أنه اختلف في مذهب مالك ؛ هل سجد عند قوله : {وأناب} أو عند قوله : {وحُسنَ مآبٍ}. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري : أنه رأى في المنام شجرة تقرأ سورة " ص " ، فلما بلغت : " وأناب " سَجَدَت ، وقالت : اللهم اكتب لي بها أجراً ، وحطّ عني بها وزراف ، وارزقني بها شكراً ،
211
وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود ، فقال له ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " وسجدتً أنت يا أبا سعيد ؟ " قلت : لا. قال : " كنتَ أحق بالسجود من الشجرة " ، ثم تلى نبي الله الآيات ، حتى بلغ : {وأناب} فسجد ، وقال كما قالت الشجرة.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 209
فغفرنا له ذلك} أي : ما استغفر منه. قال القشيري : ولمّا أوحى الله بالمغفرة ، قال : يا رب كيف بحديث الخصم ؟ ـ أي : الرجل الذي ظلمته ـ فقال : قد استوهبتك منه. هـ. وفي رواية : إني أعطيه يوم القيامة ما لم ترَ عيناه ، فأستوهِبك منه فيهبك لي ، قال : يا رب الآن قد عرفتُ أنك غفرت لي. هـ. قال تعالى : {وإِن له عندنا لزُلْفَى} ؛ لقُربى وكرامة بعد المغفرة ، {وحُسْنَ مَآبٍ} ؛ مرجع في الجنة.
(6/322)
الإشارة : إنما عُوتب داود عليه السلام لأنه التفت إلى الجمال الحسي الفرقي ، دون الجمال المعنوي الجمعي ، ولو سبته المعاني بجمالها ما التفت إلى الجمال الفرقي ، فلما نبّهه الحق تعالى استغفر ورجع إلى الجمال المعنوي ، الذي هو جمال الحضرة القدسية ، وعبارة شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه : عدَّ عليه التفاته عن الجمال المطلق عن الأشكال والصُور إلى المقيد بهما ، وهي مقام تفرقة ، لا مقام جمع ، فاستغفر ورجع إلى شهود الفاعل جمعاً ، عن شهود فعله فرقاً ، فخلع عليه خلعة الخلافة والله أعلم. هـ. قال القشيري : قال داود عليه السلام : يا رب إني أجد في التوراة أنك أعطيت الأنبياء الرتب العالية ، فأعطينها ؟ فقال : إنهم صبروا لمّا ابتليتهم ، فوعد من نفسه الصبر إذا ابتلاه ، طمعاً في مثل تلك الرتب ، فأخبر أنه يبتليه يوم كذا ، فلما جاء ذلك اليوم دخل خلوته ، وأغلق أبوابه ، ولم يُمكنه غلق باب السماء. وقد قال الحكماء : الهارب مما هو كائن في كف الطالب يتقلّب. ثم إنه كان في البيت كوة ، يدخل منها النور ، فدخل منها طير صغير ، كأنه من ذهب ، وكان لداود ولد صغير ، فهمَّ أن يقبضه لابنه ، فما زال يحاول ويتبعه حتى وقع بصره على المرأة ، فامتحن بها ، فلم يدع به الاهتمام بولده حتى فعل ما فعل ، وفي ذلك لأولي الأبصار عبرة. هـ.
وقال عند قوله : {فغفرنا له ذلك} : التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة ، والبكاء ، والتضرُّع ، والاستكانة ، فوجد المغفرةَ والتجاوز. وهكذا مَن رَجع في أوائل الشدائد إلى الله ، فالله يكفيه ويتوب عليه ، وكذلك مَن صَبَرَ إلى حينِ طالت عليه المحنة. ويقال : إن زلة قدّرها عليك ، توصلك إليه بندمك ، أحرى بك من طاعة ، إعجابك بها يُقصيك عن ربك. هـ. وفي الحِكَم : " معصية أورثت ذُلاًّ وافتقاراً ، خير من طاعة أورثت عزًّا واستكباراً " وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : كل سوء أدب يُثمر لك حُسن أدب ؛ فهو أدب. هـ.
212
(6/323)
جزء : 6 رقم الصفحة : 209
يقول الحق جلّ جلاله : {يا داودُ إِنا جعلناك خليفةً في الأرض} أي : استخلفناك على المُلك فيها ، والحُكم فيما بين أهلها ، أو : جعلناك عمَّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق ، وفيه دليل على أن حاله عليه السلام بعد التوبة ، كما كان قبلها ، لم يتغير قط ، خلاف ما نقله الثعلبي من تغيُّر حاله وصوته ، ومنع الطيور من إجابته ، فانظره.
{فاحكمْ بين الناس بالحق} ؛ بحكم الله تعالى ، إذ كنت خليفته ، أو : بالعدل ، {ولا تتبع الهوى} أي : هوى النفس في الحكومات ، وغيرها من أمور الدين والدنيا ، بل قِفْ عند ما حدّ لك. وفيه تنبيه على أن أقبح جنايات العبد متابعةُ هواه ، {فيُضلك عن سبيل الله} أي : فيكون الهوى ، أو اتباعه ، سبباً لضلالك عن دلائله اللاتي نصبها على الحق ، تكويناً وتشريعاً. و " يُضلك " : منصوب في جواب النهي ، أو : مجزوم ، فُتح ؛ لالتقاء الساكنين. {إِن الذين يَضِلُّون عن سبيل الله} ؛ عن طريقه الموصلة إليه. وأظهر " سبيلَ الله " في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه ، {لهم عذاب شديد بما نَسُوا} ؛ بسبب نسيانهم {يوم الحساب} ؛ فإنَّ تذكره وترداده على القلب يقتضي ملازمة الحق ومباعدة الهوى.
(6/324)
{وما خلقنا السماء والأرضَ وما بينهما} من المخلوقات على هذا النظام البديع {باطلاً} أي : خلقاً باطلاً ، عارياً عن الحكمة ، أو : مبطلين عابثين ، بل لحِكَم بالغة ، وأسرارٍ باهرة ، حيث خلقنا من بيْنها نفوساً ، أودعناها العقل ؛ لتميز بين الحق والباطل ، والنافع والضار ، ومكنَّاها من التصرفات العلمية والعملية ، في استجلاب منافعها ، واستدفاع مضارها ، ونصبنا لها للحق دلائل آفاقية ، ونفسية ، ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها ، ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الألطاف ، بل أرسلنا إليها رسلاً ، وأنزلنا عليها كتباً ، بيَّنَّا فيها كيفية الأدب معنا ، وهيئة السير إلى حضرة قدسنا ، وقيَّضنا لها جهابذة ، غاصوا على جواهر معانيها ، فاستخرجوا منها كيفية المعاملة معنا ، ظاهراً وباطناً ، وأوعدنا فيها بالعِقَاب لمَن أعرض عنها ، ووعدنا بالثواب الجزيل لمَن تمسّك بها ، ولم نخلق شيئاً باطلاً.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 213
ذلك ظنُّ الذين كفروا} ، الإشارة إلى خلق العبث ، والظن بمعنى المظنون ، أي : خَلْقُها عبثاً هو مظنون الذين كفروا ، وإنما جُعلوا ظانين أنه خلقها للعبث ، وإن لم يصرحوا
213
بذلك ؛ لأنه لمّا كان إنكارهم للبعث ، والثواب ، والحساب ، والعقاب ، التي عليها يدور فلك تكوين العالم ، مؤدياً إلى خلقها عبثاً ، جُعِلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه ؛ لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم ، فمَن جحده فقد جحد الحكمة في خَلْق العالم.
{فويل للذين كفروا من النار}. الفاء سببية ؛ لإفادة ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل ، وأظهر في موضع الإضمار للإشعار بأن الكفر علة ثبوت الويل لهم ، و " من النار " : تعليلية ، كما في قوله : {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة : 79] أي : فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم.
(6/325)
{أم نجعلُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض} ، " أم " : منقطعة ، والاستفهام فيها للإنكار ، والمراد أنه لو بطل الجزاء ـ كما تقول الكفَرة ـ لاستوت أحوال أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة ، ومَن سوّى بينهما كان سفيهاً ، ولم يكن حكيماً ، أي : بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض ، كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء ؛ لاستواء الفريقين في التمتُّع في الحياة الدينا ، بل الكفرة أوفر حظًّا فيها من المؤمنين ، مع صبر المؤمنين ، وتعبهم في مشاق الطاعات ، لكن ذلك الجعل محال ، فتعيّن البعث والجزاء ؛ لرفع الأولين إلى أعلى عليين ، وخفض الآخرين إلى أسفل سافلين.
{أم نجعلُ المتقين كالفجارِ} ؛ إنكار للتسوية بين الفريقين المذكورين ، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يُساعده المقام ، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ، ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين ، هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين. وقيل : قالت قريش للمؤمنين : إنا نُعْطَى من الخير يوم القيامة ميل ما تُعْطَونَ ، فنزلت.
الإشارة : قال الورتجبي : ولَمَّا خرج داودُ من امتحان الحق وبلائه ، كساه خلعة الربوبية ، وألبسه لباسَ العزة والسلطنة ، كآدم خرج من البلاء ، وجلس في الأرض على بساط فلك الخلافة ، وذلك بعد كونهما متخلقين بخلق الرحمن ، مصوّرين بصورة الروح الأعظم ، فإذا تمكن داود في العشق ، والمحبة ، والنبوة ، والرسالة ، والتخلٌّق ، صار أمرُه أمرَ الحق ، ونهيُه نهيَ الحق. هـ. وقال ابن عطية : لا يُطلق خليفة الله إلا لنبي ، وإطلاقه في غير الأنبياء تجوُّز وغلوٌّ. هـ. قلت : يُطلق عند الأولياء على مَن تحققت حريته ، ورسخت ولايته ، وظهر تصرفه في الوجود بالهمة ، حتى يكون أمره بأمر الله ، غالباً ، وهو مقام القطبانية ، فالمراتب ثلاث : صلاح ، وولاية ، وخلافة ، فالصلاح لِمن صلح ظاهره
214
(6/326)
بالتقوى ، والولاية لِمن تحقق شهوده ، مع بقية من نفسه ، بحيث تقل عثراته جدًّا ، والخلافة لِمن تحققت حريته ، وظهرت عصمته ، بجذب العناية ، والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 213
وقوله تعالى : {ولا تتبع الهوى} ، الهوى : ما تهواه النفس ، وتميل إليه ، من الحظوظ الفانية ، قلبية كانت ، كحب الجاه ، والمال ، وكالميل في الحُكم عن صريح الحق ، أو : نفسانية ، كالتأنُّق في المآكل ، والمشارب ، والمناكح. واتباعُ الهوى : طلبُه ، والسعي في تحصيله ، فإن كان حراماً قدح في الإيمان ، وإن كان مباحاً قدح في نور مقام الإحسان ، فإن تَيسَّرَ من غير طلب وتشوُّف ، وكان موافقاً للسان الشرع ، جاز تناول الكفاية منه ، مع الشكر وشهود المنَّة. قال عمر بن عبد العزيز : إذا وافق الحقُّ الهوى ، كان كالزبد بالبرسَام ، أي : السكر. وفي الحِكَم : " لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك ، إنما يخاف من غلبة الهوى عليك " وغلبة الهوى : قهره وسلطنته ، بحيث لا يملك نفسه عند هيجان شهوتها.
وقوله تعالى : {وما خلقنا السماء والأرضَ وما بينهما باطلاً} أي : بل خلقناهما لنُعرف بهما ، فما نُصبت الكائنات لتراها ، بل لترى فيها مولاها. وقد تقدّم هذا مراراً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 213
قلت : " كتابٌ " : خبر عن مضمر ، أي : هذا ، و " أنزلناه " : صفة له ، و " مبارك " : خبر ثان ، أو : صفة الكتاب ، و " لِّيدبروا " : متعلق بأنزلناه.
(6/327)
قيل : لمَّا نفى التسوية بين الصالح المتقِّي ، والمفسد الفاجر ، بيَّن ما تحصل به لمتبعيه السعادة الأبدية ، ويحصل به الصلاح التام ، والتقوى الكاملة. وهو كتاب الله فقال جلّ جلاله : {كتابٌ} ؛ وهو القرآن {أَنزلناه إليك مباركٌ} ؛ كثير المنافع الدينية والدنيوية ، أنزلناه {ليدَّبّروا آياته} أي : ليتفكروا في آياته ، التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع ، فيعرفوا ما في ظاهرها من المعاني الفائقة ، والتأويلات اللائقة. وقرى : {لتدبروا} على الخطاب ، أي : أنت وعلماء أمتك ، بحذف إحدى التاءين. {وليتذكَّر أولوا الألباب} أي : وليتّعِظ به ذوو العقول الصافية ، السليمة من الهوى ، فيقفوا على ما فيه ، ويعملوا به ، فإنَّ الكتب الإلهية ما نزلت إلا ليُتدبر ما فيها ، ويُعمَل به. وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيدٌ وصبيان ، لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده. هـ.
الإشارة : كتاب الله العزيز بطاقة من عند الملك ، والمراد من البطاقة فَهْمُ ما فيها ، والعمل به ، لا قراءة حروفها ورسومها فقط ، فمَن فعل ذلك فهو مقصّر.
وذكر في الإحياء أن آداب القراءة عشرة ، أي : الآداب الباطنية :
215
الأول : فَهْمُ عظمة الكلام وعُلوّه ، وفضل الله سبحانه بخلقه ، في نزوله عن عرش جلاله ، إلى درجة أفهام خلقه ، فلولا استتار كُنه جلال كلام الله تعالى ، بكسوة الحروف ، لما ثبت لكلام الله عرش ولا ثرى ، ولَتَلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه ، ولولا تثبيت الله موسى عليه السلام ما أطاق سماع كلامه ، كما لم يطق الجبل مبادر نوره.
الثاني : تعظيم المتكلم به ، وهو الله سبحانه ، فيخطر في قلبه عظمة المتكلم ، ويعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر ، وأن في تلاوة كتابه غاية الخطر ، ولهذا كان عكرمة إذا نشر المصحف غشي عليه.
الثالث : حضور القلب ، وترك حديث النفس ، فإذا قرأ آية غافلاً أعادها.
(6/328)
الرابع : التدبُّر ، وهو وراء الحضور ، فإنه قد لا يتفكّر في غير القرآن ، ولكنه مقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبّره. قال عليٌّ رضي الله عنه : لا خير في عبادة لا فقه فيها ، ولا خير في قراءة لا تدبُّر فيها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 215
الخامس : التفهُّم ، وهو أن يستوضح كل آية ما يليق بها ؛ إذ القرآن مشتمل على ذكر صفات الله تعالى ، وذكر أفعاله ، وذكر أحوال أنبيائه ـ عليهم السلام ـ ، وذكر أحوال المكذّبين ، وكيف أُهلكوا ، وذكر أوامره وزواجره ، وذكر الجنة والنار ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " مَن أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن " أي : فإنه مشتمل على فعل الله ، وصفاته ، وكشف أسرار ذاته ، لمَن تأمّله حق تأمله. السادس : التخلي عن موانع الفهم ، ومعظمها أربعة : أولها : صرف الهمة إلى إخراج الحروف من مخارجها ، وهذا تولى حفظه شيطان وُكل بالقراء. وكذلك الاشتغال بضبط رواياته ، فأنى تنكشف لهذا أسرار المعاني. ثانيها : أن يكون مقيَّداً بمذهب ، أخذه بالتقليد ، وجمد عليه ، فهذا شخص قيَّده معتقدُه ، فلا يمكن أن يخْطر بباله غير معتقده ، فلا يتبجّر في معاني القرآن ؛ لأنه مقيّد بما جمد عليه. ثالثها : أن يكون مصرًّا على ذنب ، أو متصفاً بكبر ، أو : مبتلى بهوى في الدنيا ، وبهذا ابتلى كثير من الناس ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فى الأَرْضِ} [الأعراف : 146] أي : عن فهم آياتي. رابعها : أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما يتناوله النقل عن ابن عباس وغيره ، وأمَّا ما وراء ذلك تفسير بالرأي ، فهذا أيضاً من أعظم الحُجب ؛ فإن القرآن العظيم له ظاهر وباطن ، وحدّ ومُطلع ، فالفهم فيه لا ينقطع إلى الأبد ، فهو بحر مبذول ، يغرف منه كل واحد على قدر وسعه ، إلى يوم القيامة.
(6/329)
السابع : التخصيص ، وهو أن يعتقد أن المقصود بكل خطاب في القرآن ، فإن سمع أمراً أو نهياً ، قدر أنه المأمور والمنهي ، وكذلك إن سمع وعداً ووعيداً ، وإن سمع قصص الأولين عَلِمَ أن المقصود به الاعتبار ، ليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه ، ويتقوّى إيمانه ،
216
قال تعالى : {وَكُّلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بشهِ فُؤَادَكَ} [هود : 120] فالقرآن لم ينزل خاصّاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو شفاء ورحمة ونور للعالمين ، فيثبت فؤاد كل مَن يسمعه.
الثامن : التأثير ، وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة ، بحسب اختلاف الآيات ، فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد ، يتصف به قلبه ؛ من الخوف ، والرجاء ، والقبض ، والبسط ، وغير ذلك.
التاسع : الترقي وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله سبحانه ، لا من نفسه ، ولا من غيره. فدرجات القرآن ثلاث : أدناها : أن يُقدر العبد كأنه يقرأ على الله تعالى ، واقفاً بين يديه ، فيكون حاله السؤال والتملُّق. ثانيها : أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يُخاطبه بألفاظه ، ويُناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم. الثالثة : أن يرى في الكلام المتكلِّم ، فلا ينظر إلى نفسه ، ولا إلى قراءته ، بل يكون مقصور الهم على المتكلم ، مستغرقاً في شهوده ، وهذه درجة المقرَّبين ، وما قبلها درجة أصحاب اليمين ، وما خرج عن هذا فهو درجة الغافلين. وعن الدرجة العليا أخبر جعفر الصادق رضي الله عنه بقوله : والله لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يُبصرون. هـ. وقال بعض الحكماء : كنتُ أقرأ القرآن ولا أجد حلاوة ، حتى تلوته كأنه أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه ، ثم رُفعت إلى مقام ، كأني أسمعه من جبريل ، يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء الله بمنزلة أخرى ، فأنا الآن أسمعه من المتكلِّم به ، فعندها وجدت له لذة ونعيماً لا أصبر عنه.
(6/330)
جزء : 6 رقم الصفحة : 215
العاشر : التبري ، وهو أن يتبرأ من حوله ، وقوته ، والالتفات إلى نفسه بعين الرضا. انظر بقية كلامه فقد اختصرناه غاية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 215
يقول الحق جلّ جلاله : {ووهبنا لداودَ سليمانَ نِعْمَ العبدُ} أي : سليمان ، فهو المخصوص ، {إِنه أوابٌ} أي : رجَّاع إلى الله تعالى في السرّاء والضراء ، وفي كل أموره ، {إِذ عُرِضَ عليه} أي : واذكر ما صدر عنه حين عُرض عليه {بالعشِيّ} ؛ وهو ما بين الظهر إلى آخر النهار ، {الصافناتُ الجياد} أي : الخيل الصافنات ، وهي التي تقوم على طرف سنبك يدٍ أو رِجل. وهي من الصفات المحمودة ، لا تكاد توجد إلا في الخيل العِراب ، الخُلَّص. وقيل : هو الذي يجمع يديه ويستبق بهما ، والجياد : جمع جواد ، أو : جود ، وهو الذي يسرع في جريه ، أو : الذي يجود عند الركض ، وقيل : وصفت بالصفون والجودة ؛ لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين ، واقفة وجارية ، أي : إذا وقفت كانت
217
ساكنة ، وإذا جرت كانت سِراعاً خفافاً في جريها.
رُوي أنه عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين ، وأصاب ألف فرس ، وقيل : أصابها أبوه من العمالقة ، وورثها منه ، وفيه نظر ؛ فإن الأنبياء لا يورثون ، إلا أن يكون تركها حبساً ، فورث النظر فيها. ويكون عقرها بنية إبدالها. وقيل : خرجت من البحر لها أجنحة ، فقعد يوماً بعدما صلّى الظهر على كرسيه ، فاستعرضها ، فلم تزل تُعرض عليه حتى غربت الشمس ، وغفل عن العصر ، أو : عن الوِرد ، كان له من الذكْر وقتئذ ، وهو أليق بالعصمة ، فاغتم لِما فاته ، فاستردها ، فعقرها ، تقرُّباً إلى الله تعالى ، وبقي مائة ، فما في أيدي الناس اليوم مِن الجياد فمِن نسلها.
(6/331)
وقيل : لَمَّا عقرها أبدل الله تعالى له خيراً منها ، وهي الريح تجري بأمره ، {فقال إِني أحببتُ حُبَّ الخيرِ عن ذكر ربي} ، قاله عليه السلام عند غروب الشمس ، اعترافاً بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة أو الذكر ، وغايته حينئذ : أن الأَوْلى استغراق الأوقات في ذكر الله من الاشتغال بالدنيا. فترَكَ الأَوْلى ، وتحسّر لذلك ، وأمر بالقطع. وأما حمله على الصلاة والاشتغال بها حتى يفوت الوقت ، فذنب عظيم ، تأباه العصمة. قاله شيخ شيوخنا الفاسي. وقد يُجاب بأنَّ تركه كان نسياناُ وذهولاً ، لا عمداً ، فلا معصية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 217
وعدّى " أحببتُ " بـ " عن " دون " على " ؛ لتضمنه معنى النيابة ، أي : أَنَبْتُ حبَّ الخير ، وهو المال الكثير ، والمراد : الخيل التي شغلته عن ذكر ربه ، {حتى توارتْ} أي : استترت {بالحجابِ} أي : غربت واحتجبت عن العيون ، و " عن " : متعلق بأحببت ، باعتبار استمرار المحبة ودوامها. حسب استمرار العَرض ، أي : أنبتُ حب الخير عن ذكر ربي ، واستمر ذلك حتى غربت الشمس. وإضمارها من غير تقدُّم ذكر لدلالة " العَشي " عليها.
{رُدُّوها عليَّ} ، هو من مقالة سليمان ، {فطَفِقَ مسْحاً} ، الفاء فصيحة ، مفصحة عن جملة حُذفت ، لدلالة الكلام عليها ، إيذاناً بسرعة الامتثال ، أي : فَردُّوها عليه ، فأخذ بمسح السيف مسحاً {بالسُّوقِ والأعناقِ} أي : بسوقها وأعناقها يقطعها ، من قولهم : مسح عنقه بالسيف ، وقيل : جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها ، حبّاً لها ، وإعجاباً بها ، وهو يُنافي سياق الكلام. الإشارة : لم يذكر الحق تعالى لسليمان ترجمة مخصوصة ، كما ذكر لغيره بقوله : {واذكر عبدنا داود} ، {واذكر عبدنا أيوب} ، بل خرطه في سلك ترجمة أبيه ، وجعله هبة له ؛ تنبيهاً على أن مقام أهل الجمال الدنيوي ، لا يبلغ مقام أهل الجلال ؛ ففيه تنبيه على أن الفقير الصابر أعظم من الغني الشاكر. قاله في القوت.
(6/332)
وقوله تعالى : {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُوق} ، فيه : أن مَن ترك شيئاً عوَّضه الله خيراً منه ، فمَن كان في الله تلفه ، كان على الله خلفه ، وفيه حجة للصوفية على إتلاف كل ما شغل
218
القلب عن الله ، كما فعل الشبلي من تمزيق الثياب الرفهة. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 217
يقول الحق جلّ جلاله : {ولقد فتنَّا سليمانَ} أي : ابتليناه ، {وألقينا على كرسيه} ؛ سرير ملكه ، {جسداً} ؛ شق ولد ، أو جِنياً ، {ثم أنابَ} ؛ رجع إلى الله تعالى ، وأظهر ما قيل في فتنته عليه السلام ما رُوي مرفوعاً : أنه قال : لأطُوفَنَّ الليلةَ على سبعين ـ أو تسع وتسعين ـ امرأةً ، تأتي كل واحدة منهن بفارس ، يُجاهد في سبيل الله ، ولم يقل " إن شاء الله " فطاف عليهنَّ ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، جاءت بشقّ رجل. قال نبينا عليه الصلاة والسلام : " والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء اللهُ ، لجاهدوا في سبيل الله فُرساناً أجمعون " فالفتنة على هذا : كونه لم يقل : " إن شاء الله " والجسد هو شق الإنسان الذي وُلد له. وقيل : إنه ولد له ابن ، فأجْمعَت الشياطين على قتله ، وقالوا : إن عاش له ولد لم ننفك من خدمته ، فلمَّا عَلِمَ ذلك ، حمله في السحاب ، فما شعر حتى ألقي على كرسيه جسداً ميتاً ، فتنبّه لخطئه ، حيث لم يتوكل على الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 219
(6/333)
وقيل : إنه غزا صيدون من الجزائر ، فقتل مَلِكها ، وأخذ بنتاً له تُسمى جرادة ، من أحسن الناس ، فاصطفاها لنفسه ، وأسلمت على جفاء ، وأحبها ، وكان لا يرقأ دَمْعها ، جزعاً على أبيها ، فأمر الشياطين فمثَّلوا لها صورته ، فكانت تغدو عليها وتروح مع ولائدها ، فيسجدْنَ لها ، كعادتهن في ملكه ، فأخبره صاحبه آصف بذلك ، فكسر الصورة ، وعاقب المرأة ، ثم خرج إلى فلاة ، وفُرش له الرماد ، وجلس عليه تائباً إلى الله متضرعاً. وكانت له أم ولد ، يقال لها : " أمينة " إذا دخل للطهارة ، أو لإصابة امرأة ، يعطيها خاتمه ، وكان فيها مُلكه ، فأعطاها يوماً ، فتمثّل لها بصورته شيطان ، اسمه " صخر " وأخذ الخاتم ، فتختّم به ، وجلس على كرسيه ، فاجتمع عليه الخلق ، ونفذ حكمه في كل شيء ، إلا في نسائه ، على المشهور ، وغُيرَ سليمان عن هيئته ، فأتى " أمينة " لطلب الخاتم ، فأنكرته وطردته ، فعلم أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يطوف على البيوت يتكفف ، وإذا قال : أنا سليمان ، حثوا التراب عليه ، وسبُّوه ، ثم عمد إلى السمَّاكين ينقل لهم السمك ، فيُعطونه كل يوم سمكتين ، فمكث على ذلك أربعين صباحاً ، عدد ما عبد الوثن في بيته ، فأنكر
219
(6/334)
آصف وعظماءُ بني إسرائيل حُكمَ الشيطان ، حتى دخلوا على نسائه ، فقالوا : قد أنكرنا حُكمه ، فذهبوا حتى جلسوا بين يديه ، فنشروا التوراة ، فقرؤوها ، فطار من بين أيديهم ، والخاتم معه ، ثم قذفه في البحر ، فابتلعته سمكة ، فوقعت في يد سليمان ، فبَقَر بطنها ، فإذا هو بالخاتم ، فتختّم به ، وخرّ ساجداً لله ، وعاد إليه مُلكه ، وقبض الجني " صخر " فجعله في وسط صخرة ، وشدّ عليه بأخرى ، ثم أوثقهما بالحديد والرصاص ، وقذفه في البحر ، فهو باق فيه. فالجسد على هذا عبارة عن " صخر " سمي به ، وهو جسم لا روح فيه ؛ لأنه تمثيل بما لم يكن كذلك ، والخطيئة : تغافُلُه عليه السلام عن حال أهله ؛ لأن اتخاذ التماثيل لم يكن محظوراً حينئذ ، والسجود للصورة بغير علم منه لا يضره. وأنكر بعض المحققين هذه القصة. وقال : لا يصح ما نقله الإخباريون وأهل التفسير في هذا الموضع ، من تشبُّه الشيطان بنبيه ، وتسلُّطه على ملكه ، وتصرُّفه في أمته والجور في حكمه.
قال القاضي عياض : الشياطين لا يتسلطون على مثل هذا ، وقد عصم الله الأنبياء عن مثله. ومثله لابن العربي أيضاً. وحكى إنكاره عن السمرقندي. وقال الطيبي : أشبه الأقاويل في إلقاء الجسد هو شق الولد ، كما تقدّم. وخالفه ابن حجر ، فقال : قال غير واحد من المفسرين : أن المراد بالجسد المذكور شيطان ، وهو المعتمد ، فالله أعلم ، غير أن التنزيه أسلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 219
(6/335)
قال شيخُ شيوخنا الفاسي في حاشيته ، وليس هذه كقصة أيوب ، فيما يذكر أنه تسلّط الشيطان على إتلاف ماله وولده ، وضرره في جسده ؛ لأن ذلك إنما فيه تسلُّط على محض ضرر دنيوي لا ديني. وقد قال عليه الصلاة والسلام : " تفلت عليّ البارحة عفريتٌ... " الحديث. وكذا سُحر ، وسُمّ ، وشُجّ. والتسلُّط المذكور في حق سليمان ، فيه تلبيس في الدين فلا يصح ، إلا أن يقال : إنه لم يقر ، بل رُفع اللبس بعد ذلك ، كما في آية : {فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ} [الحج : 52] ، والله أعلم هـ.
{قال ربِّ اغفر لي} ، هو بدل من " أناب " ، أي : اغفر لي ما صدر عني من الزلة ، {وهب لي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} ، ليكون معجزةً لي ، مناسبة لحالي ، فإنه عليه السلام لمَّا نشأ في بيت الملك والنبوة ، وورثهما معاً ، استدعى من ربه معجزة جامعة لحكمهما. أو : لا ينبغي لأحد يسلبه مني بعد هذه السلبة ، أو : لا يصح لأحد من بعدي ؛ لعظمته وشدته.
220
(6/336)
قال القشيري : ويُقال : لا ينبغي لأحد من بعدي أن يسأل المُلْك ، بل يجب أن يَكِلَ أمرَه إلى الله ـ ومثله للجنيد ، وزاد : فإن المُلْكَ شُغل عن المالك ـ أو يقال : لا ينبغي لأحدٍ من بعدي من الملوك ، لا من الأنبياء ، وإنما سأل المُلكَ لسياسة الناس ، وإنصافِ بعضهم من بعض ، والقيام بحقِّ الله ، ولم يسأله لأجل مَيْلِه إلى الدنيا. وهو كما قال يوسف عليه السلام : {اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ...} [يوسف : 55]. ثم قال : عَلِمَ أن نبينا عليه الصلاة والسلام لا يلاحِظَ الدنيا ، ولا يملكها ، تحقيراً لها فقال : {لا ينبغي لأحد من بعدي} لا لأنه بَخِلَ به عليه ، ولكن لِعِلْمِه أنه لا ينظر إلى ذلك. هـ. هذا ، وقد يُقال : إن قوله : {وهب لي مُلْكاً} قد جرى على لسانه ، كما هو حال النطق بالله من أهل الله ، ولذلك كان الأمر كذلك ، ولم يزاحمه أحد ، كقول الخليل : {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً} [البقرة : 129] ، لما جرى به القضاء أنطقه الله بما سيكون. وتقديم الاستغفار على الاستيهاب ؛ لمزيد اهتمامه بأمر الدين ، جرياً على سنَن الأنبياء والصالحين ، وكون ذلك أدخل في الإجابة.
{إِنك أنت الوهابُ} ؛ تعليل للدعاء بالهبة والمغفرة معاً ، فإن المغفرة من أحكام وصف الوهَّابية قطعاً ، {فسخَّرنا له الريحَ} ؛ فذللناها لطاعته ، إجابة لدعوته ، فعاد أمره عليه السلام إلى ما كان عليه قبل الفتنة ، قيل : فتن سليمان بعدما ملك عشرين ، وملك بعد الفتنة عشرين ، فسخرت له الريح {تجري بأمره} ؛ بيان لتسخيرها ، {رُخَاءً} أي : لينة ، من الرخاوة ، أو : طيبة لا تزعج ، وهذا بعد أن تُقِلّ السرير من الأرض الإعصارُ ، فإذا صار في الهواء حملته الرخاء الطيبة ، {حيث أصابَ} أي : قصد وشاء ، بلغة حمير. تقول العرب : أصاب الصواب فأخطأ الجواب ، أي : أراد الصواب فأخطأ. قال الشاعر :
جزء : 6 رقم الصفحة : 219
أصَابَ الْكَلاَمَ فَلَمْ يَستَطِعْ
(6/337)
فأَخْطَا الجَوابَ لَدَى المِفْصَلِ
{و} سخرنا له {الشياطينَ كلَّ بناءٍ وغَوَّاصٍ} : بدل من " الشياطين ". فكانوا يبنون له ما يشاء ، ويغوصون له في البحر ؛ لاستخراج الآلىء ، وهو أول مَن استخرج اللؤلؤ من البحر ، وسخّرنا له كلَّ بنّاء وغوّاص من الشياطين ، {وآخرين مقرَّنِينَ في الأصفاد} ؛ فكان يقرن مردة الشياطين ، بعضهم مع بعض ، في القيود والسلاسل ، للتأديب والكف عن العباد.
والصفد : القيد ، وقد يسمى العطاء بالصفد ؛ لأنه ارتباط للمنعَّم عليه في يد المنعِم. ومنه قول عليّ رضي الله عنه : (مَن برَّك فقد أسرك ، ومَن جفاك فقد أطلقك) ، ومن هذا كانت الصوفية يهربون من خير الناس ، أكثر مما يهربون من شرهم. قال الشيخ عبد السلام بن مشيش لأبي الحسن الشاذلي رضي الله عنهما : يا أبا الحسن اهرب من خير الناس ، أكثر ما تهرب من شرهم ، فإنَّ خيرهم يُصيبك في قلبك ، وشرهم يُصيبك في بدنك ، ولئن تُصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك ، ولعدو تصل به إلى ربك
221
خير من حبيب يقطعك عن ربك. هـ.
(6/338)
{هذا عطاؤنا} ، هو حكاية لما خُوطب به سليمان من قِبَل الحق تعالى ، أي : وقلنا له هذا الذي أعطيناك من المُلك العظيم ، والسلطنة ، والتسلُّط على ما لم يُسلط عليه غيرُك ، هو عطاؤنا الخاص بك ، {فامْنُنْ أو أَمْسِكْ} أي : أعطِ مَن شئت ، وامنع مَن شئت ، {بغير حسابٍ} أي : غير محاسَب على منِّه ومنعه لتفويض التصرُّف فيه إليك ، فكان إذا أعطى أُجر ، وإذا منع لم يأثم ، بخلاف غيره. قال الحسن : إن الله لم يعطِ أحداً عطية إلا جعل فيها حساباً ، إلا سليمان ، فإن الله أعطاه عطاءً هيناً. وهذا مما خُصّ به سليمان عليه السلام ، وأما غيره ، فيؤخر على بذله ، ويُعاقب على منعه من حقه ، و {بغير حساب} : قيل : متعلق بعطاؤنا ، وقيل : حال من المستكن في الأمر ، أي : هذا عطاؤنا جمّاً كثيراً ، لا يكاد يقدر على حصره ، أو : هذا التسخير عطاؤنا فامنن على مَن شئت من الشياطين بالإطلاق ، أو : أمسك مَن شئت منهم في الوثاق ، لا حساب عليك في ذلك. {وإِنَّ له عندنا لزُلفى} ؛ لقُربى في الآخرة ، مع ما له في الدنيا من الملك العظيم ، {وحُسنَ مآب} ؛ مرجع ، وهي الجنة. وزُلفى : اسم إن ، و " له " : خبر ، و " عند " : متعلق بالاستقرار.
رُوي أن سليمان عليه السلام لما ورث مُلك أبيه ، سار من الشام إلى العراق ، فبلغ خبره كسرى ، فهرب إلى خراسان ، فلم يلبث حتى هلك. ثم سار سليمان عليه السلام إلى مرو ، ثم إلى بلاد الترك ، فأوغل فيها ، ثم جاز بلاد الصين ، ثم عطف إلى أن وافى بلد فارس ، فنزلها أياماً ، ثم عاد إلى الشام ، فأمر ببناء بيت المقدس ، فلما فرغ منه سار إلى تهامة ، ثم إلى صنعاء ، وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكر الله ، وغزا بلاد المغرب ؛ الأندلس وطنجة وغيرهما. انظر أبا السعود. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 219
(6/339)
الإشارة : ما أعطى اللهُ عبداً مُكنةً إلا بعد محنة ، ولا رفع مقاماً إلا بعد ابتلاء ، وإما في البدن والمال ، إما في الدين ، إنْ صَحِبه رجوع وانكسار. كأنّ الله تعالى إذا أراد أن يرفع عبداً أهبطه إلى الأرض قهرية العبودية ، ثم يرفعه إلى مشاهدة عظمة الربوبية ، ثم يملكه الوجود بأسره ، يتصرف فيه بهمّته كيف شاء. ولذلك قيل في معصية آدم : نعمت المعصية أورثت الخلافة. وشاهده حديث : " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي " ومَن كان الله عنده ، ماذا يفوته ؟
وقوله تعالى : {وهَبْ لي مُلكاً...} الخ ، قال القشيري : لم يطلب المُلكَ الظَاهر ، وإنما أراد به أن يَمْلِكَ نَفْسَه ، فإن المَلِكَ ـ على الحقيقة ـ مَن ملَك نفسَه ، فمَن مَلِكَها لم يَتَّبعْ هواه ، أي : فيكون حرّاً ، فيملكه الله التصرُّف في الوجود. ثم قال : ويُقال أراد به
222
كمالَ حاله في شهود ربه ، حتى لا يَرى معه غيرَه ، ويقال : سأل القناعةَ التي لا يبقى معها اختيار. هـ.
وقوله تعالى : {هذا عطاؤنا فامنُنْ أو أَمسك بغير حساب} ، هو عند الأولياء ليس خاصّاً بسليمان ، فكل مَن تمكَّن مع الله التمكُّن الكبير يُفوض إليه الأمر ، ويقال : افعل ما شئت ، وشاهده : حديث أهل بدر. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : يبلغ الوليّ مبلغاً يُقال له : أصحبناك السلامة ، وأسقطنا عنك الملامة ، فاصنع ما شئت. ثم استشهد بالآية في حق سليمان ، هذا ، وإن كان للنبي من أجل العصمة ، فلِمن كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه ، من أجل الحفظة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 219
(6/340)
يقول الحق جلّ جلاله : {واذكر عبدنَا أيوبَ} ، وهو ابن عيصو بن إسحاق عليه السلام ، أي : من ذريته ؛ لأنه بعد يوسف ، وامرأته : رحمة بنت إفراثيم بن يوسف. {إِذ نادى ربَّه} ، وهو بدل اشتمال من " عبدنا ". و " أيوب " : عطف له ، {أَنِّي} أي : بأني {مسني الشيطان بنُصْبٍ} أي : تعب ، وفيه قراءات بفتحتين ، وبضمتين ، وبضم وسكون ، وبنصب وسكون. {وعذابٍ} أي : ألم ، يريد ما كان يقاسيه من فنون الشدائد ، وهو الضر في قوله : {مَسَّنِىَ الضُّرُّ} [الأنبياء : 83] ، وهو حكاية لكلامه الذي ناداه به ، وإلا لقيل : إنه مسّه. وإسناده إلى الشيطان على طريق الأدب في إسناد ما كان فيه كمال إلى الله تعالى ، وما كان فيه نقص إلى الشيطان أو غيره ، كقول الخليل : {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء : 80] ولم يقل : أمرضني. وكقول يوشع عليه السلام : {وَمَآ أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} [الكهف : 63]. وفي الحقيقة : كلٌّ من عند الله. وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه ، من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك ، بكشف البلاء ، أو بدفعه وردّه بالصبر الجميل.
ورُوي : أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ، فارتدّ أحدهم ، فسأل عنه ، فقيل : ألقى إليه الشيطان : أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين ، فشكا ذلك إلى ربه. وذكر في سبب بلائه ؛ أنه ذبح شاة فأكلها ، وجاره جائع ، أو : رأى منكراً فسكت عنه ، أو : استغاثه مظلوم فلم يغثه ، أو : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر ، فداهنه ، فلم يغزه ، أو : سؤاله امتحاناً لصبره ، أي : هل يصبر أم لا ، أو : ابتلاه لرفع درجاته بلا سبب ، وهو أولى.
{اركُضْ برِجْلِكَ} ، حكاية ما أجيب به أيوب عليه السلام ، أي : أرسلنا له جبريل
223
(6/341)
عليه السلام بعد انتهاء مدة مرضة ، فقال له : اركض ، أي : اضرب برجلك الأرض ، وهي أرض موضع بالجابية ، فضربها ، فنبعت عين ، فقيل : {هذا مُغتَسَل باردٌ وشَرابٌ} أي : هذا ما تغتسل منه ، وتشرب منه ، فيبرأ ظاهرك وباطنك ، وقيل : نبعت له عينان ؛ حارة للاغتسال ، وباردة للشرب ، فاغتسل من إحداهما ، فبرىء ما في ظاهره ، وشرب من الأخرى ، فبرىء ما في باطنه ، بإذن الله تعالى. ومدة مرضه قيل : ثمان عشرة سنة ، وقيل : أربعين ، وقيل : سبع سنين ، وسبعة أشهر ، وسبعة أيام ، وسبع ساعات.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 223
ووهبنا له أهلَه ومثلَهم معهم} ، قيل : أحياهم الله بأعيانهم ، وزاد مثلهم ، وقيل : جمعهم بعد تفرُّقهم ، وقيل : أعطاه أمثالهم وزاده ضِعفهم. قال القشيري : وكان له سبع بنات. وثلاثة بنين ، في مكتب واحد ، فحرّك الشيطانُ الأسطوانةَ ، فانهدم البيت عليهم. هـ. ولم يذكر كم كان له من الزوجات ، فقد سلمت منهن " رحمة " ، وهلك الباقي. أعطيناه ذلك {رحمةً منا} أي : رحمة عظيمة علية من قِبلنا. {وذِكْرى لأُولي الألبابِ} أي : ولنذكرهم بذلك ليصبروا على الشدائد ، ويلتجئوا إلى الله فيما ينزل بهم ؛ لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه ، لِصبره ، رغَّبهم في الصبر على البلاء.
(6/342)
ولمّا حلف : لَيَضْربنَّ امرأته مائةَ ضربة ، حيث أبطأت عليه في حاجتها. وقيل : باعت ذوائبها واشترت به رغيفين ، وكانت متعلق أيوب. وقيل : طمع الشيطان فيها أن يسجد زوجُها له فيشفيه ، أمره الله تعالى ببر يمينه ، فقال : {وخُذْ بيدك ضِغْثاً} ؛ حُزمة صغيرة من حشيش أو رَيحان ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : قبضة من الشجر ، {فاضرِبْ به ولا تَحْنَثْ} ، وهذه الرخصة باقية عند الشافعي وأبي حنيفة ، خلافاً لمالك ؛ لأن الأَيْمَان عنده مبنية على الأعراف. قال تعالى : {إِنَّا وجدناه} ؛ علمناه {صابراً} على البلاء ، وأما شكواه فليست جزعاً ، بل رجوعاً إلى مولاه ، على أنه عليه السلام إنما طلب الشفاء خيفة على قومه ، حيث كان الشيطانُ يوسوس إليهم : لو كان نبيّاً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به ، وإرادة القوة على الطاعة ، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبقَ منه إلا القلب واللسان. قلت : طلب الشفاء لا ينافي الرضا ؛ لأن العبد ضعيف ، لا قوة له على قهرية الحق. ثم قال تعالى : {نِعْمَ العبدُ إِنه أوَّابٌ} ؛ رجَّاع إلى الله تعالى. قال القشيري : لم يشغله البلاء عن المُبْلِي. وهو تعليل لمرضه.
الإشارة : كثير من الصوفية اختاروا البلاء على العافية ، وبعضهم اختار العافية ، قال عليّ رضي الله عنه : لأَن أُعطَى فأَشكر أحبُّ إِليَّ من أن أُبتلى فأَصبرِ ، أي : لأنه طريق السلامة ، وبه وردت الأحاديث ، والأولى للعبد ألا يختار مع سيده شيئاً ، بل يكون مفوضاً مستسلماً ، يتلقى ما يرد عليه بالترحيب ، أيّ شيء كان. وبالله التوفيق.
224
جزء : 6 رقم الصفحة : 223
(6/343)
يقول الحق جلّ جلاله : {واذكر عبادنا} ، وقرأ المكي : " عبدنا " ، إما على إرادة الخبر ، وإما أن يريد " إبراهيم " وحده لشرفه ، ثم عطف عليه من بعده ، ثم بيَّنهم بقوله : {إِبراهيمَ وإِسحاقَ ويعقوبَ أُولي الأيدي والأبصارِ} أي : أُولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين ، أو : أُولي الأعمال الجليلة ، والعلوم الشريفة. فعبَّر بالأيدي عن الأعمال ؛ لأن أكثرها تُباشر بها ، وبالأبصار عن المعارف ؛ لأنها أقوى مبادئها. وفيه تعريض بالجهلة الباطلين ، كأنهم كالزّمنى والعماة ، وتوبيخ على ترك المجاهدة والفكرة مع تمكنهم منهما.
{إِنا أخلصناهم بخالصةٍ} أي : جعلناهم خالصين لنا بخصلة عظيمة الشأن ، لا شوب فيها ، هي {ذِكْرَى الدَّارِ} أي : تذكر للدار الآخرة على الدوام ، فإنَّ خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم لها ، وذلك لأن مطمح أنظارهم ، ومسرح أفكارهم ، في كل ما يأتون وما يذرون ، جوار الله عزّ وجل ، والفوز بلقائه ، ولا يتأتى ذلك على الدوام إلا في الآخرة ، فمطلبهم إنما هو الجوار والرؤية. لا مجرد الحضور في تلك الدار ، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه :
ليسَ سُؤلي من الجِنَان نَعيماً
غيرَ أَنِّي أريدُها لأراكَ
قال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى الآية : {إِنا أخلصناهم} بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ، ودعاء الناس إليها ، أي : وتزهيدهم في الدنيا ، كما هو دَيدن الأنبياء والرسل. وهذا قول قتادة ، أو : إنا أخلصناهم بأن خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم والعمل بحسب ذلك. وهذا قول مجاهد. هـ. قلت : مرتبة الرسل تنافي العمل لحرف ، فإنَّ أولياء هذه الأمة تحرّروا من العمل للحرف ، بل عبدوا الله شكراً ومحبة وعبودية ، لا طمعاً في شيء ، فكيف بأكابر الرسل. وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار في الحقيقة ، وإنما الدنيا معبر إليها.
(6/344)
ومَن قرأ بالإضافة ، فمن إضافة الشيء إلى ما بيَّنَهُ ؛ لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى ، و " ذكرى " : مصدر مضاف إلى المفعول ، أي : بإخلاصهم ذكرى الدار. وقيل : خالصة بمعنى خلوص ، وهي مضافة إلى الفاعل ، أي : بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بشيء آخر ، إنما همّهم ذكرى الدار الآخرة لجوار الحبيب.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 225
وإِنهم عندنا لمن المصْطَفَيْنَ} المختارين من بين أبناء جنسهم {الأخْيارِ} : جمع خيّر ، أو : خيْر ، على التخفيف ، كأموات جمع ميّت ، أو : ميْت.
الإشارة : أولياء هذه الأمة ـ أي : العارفون بالله ـ يزاحمون الأنبياء والرسل في جلّ
225
المراتب ، قال صلى الله عليه وسلم : " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " أي : العلماء بالله ؛ فإنهم لم يقفوا مع دنيا ولا مع آخرة ، بل حطُّوا هممهم على الله ، ولم يقصدوا شيئاً سواه ، خلعوا النعلين عن الكونين ، وركضوا إلى المكوِّن ، وكانت لهم اليد الطولى في عمل الطاعات عبوديةً ، والبصيرة النافذة في مشاهدة الربوبية ، هذه طريقهم ، وهذا مذهبهم ، ومَن حاد منهم عن هذا لم يعدّوه منهم. جعلنا الله ممن خرط في سلكهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 225
(6/345)
يقول الحق جلّ جلاله : {واذكر إِسماعيلَ} ، فصل ترجمته عن أبيه وأخيه ؛ للإشعار بعلو شأنه ، واستقلاله بالشرف والذكر ، ولعراقته في الصبر ، الذي هو المقصود بالتذكير ، وهو أكبر بنيه. {و} اذكر {الْيَسَعَ} بن خطوب بن العجوز ، استعمله إلياس على بني إسرائيل ، ثم استنبىء. و " الـ " فيه ، قيل : للتعريف ، وأصله : يسع ، وقيل : زائدة ؛ لأنه عجمي علَم ، وقيل : هو يوشع ، {وذا الكفلِ} وهو ابن عم اليسع ، أو : بشر بن أيوب. واختلف في نبوته وسبب لقبه ، فقيل : فرّ إليه مائة نبي من بني إسرائيل ، خوفاً من القتل ، فآواهم وكفلهم ، وقيل : تكفل بعبادة رجل صالح كان في وقته. {وكلٌّ} أي : وكلهم {مِّنَ الأخيارِ} المشهورين بالخيرة.
الإشارة : إنما كان هؤلاء مصطفين أخياراً بالوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، والصبر على طاعة الملك المعبود ، وتحمُّل ما يقرب إلى حضرة الشهود. فكل مَن اتصف بهذه الخصال كان من المُصْطَفَين الأخيار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 225
قلت : {جناتِ} : عطف بيان لحُسن مآب ، أو : بدل. و {مفتَّحة} : حال من {جنات عدن}. والعامل فيها : الاستقرار في {للمتقين}. و {الأبواب} : نائب الفاعل لمُفتَّحة. والرابط بين الحال وصاحبها : إما ضمير مقدّر ، كما هو رأي البصريين ، أي :
226
الأبواب منها ، أو : الألف واللام القائم مقامه ، كما هو رأي الكوفيين ، أي : أبوابها. و {متكئين} : حال من ضمير {لهم} ، والعامل فيه : {مفتحة}. و {يَدْعُون} : إما استئناف ، أو : حال مما ذكر ، أو : من ضمير {متكئين}.
(6/346)
يقول الحق جلّ جلاله : {هذا} أي : هذا الذي ذكر من الآيات الناطقة بمحاسن الأنبياء والرسل ، {ذِكْرٌ} أي : شَرَفٌ لهم ، وذِكْر جميل يُذكرون به أبداً ، أو : نوع من الذكر ، أي : القرآن. وآيٌ منه مشتمل على أنباء الأنبياء ، أو : تذكير ووعظ ؛ لأنه يذكر أحوال الأكابر ليقتدي بهم ، أو : ذكر مَن مضى الأنبياء ، أو : شرف لك ؛ لأنه معجزة لك يدلّ على صدقك ، {وإِنَّ للمتقين} أي : جنس المتقين ، أو : مَن ذكر مِن الرسل ، عبّر عنهم بالمتقين مدحاً لهم بالتقوى ؛ إذ هي غاية الكمال. {لَحسنْ مآبٍ} ؛ مرجع.
ثم بيَّنه بقوله : {جنات عدنٍ} ؛ إقامة {مفتحةً لهم الأبوابُ} فإذا جاؤوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب ، ولا كلفة الاستئذان ، تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والترحيب ، {متكئينَ فيها} على أرائكهم في حِجالهم ، {يَدْعُون فيها بفاكهةٍ كثيرة} مما يشتهون {وشرابٍ} كثير كذلك ، حذف اكتفاء بالأول ، والاقتصار على دُعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكُّه والتلذُّذ ، دون التغذي والحاجة ، فإنه لا تَحلُل في الأبدان ولا حاجة.
{وعندهم} حور {قاصِراتُ الطَّرْفِ} على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم ، {أترابٌ} ؛ لِداتٌ ، أسنانُهنّ كأسنانهم. قيل : ثلاث وثلاثون سنة لكل واحد ، أو : مستويات في الحُسن والجمال والشكل ؛ لأن التحابّ بين الأقران أبلغ وأثبت ، وقيل : أتراب بعضهن لبعض ، لا عجوز فيهن ولا صبية. واشتقاقه من التراب ، فإنه يمسَّهن في وقت واحد.
{هذا ما تُوعدون ليوم الحساب} ، قال ابن عرفة : اللام للتوقيت ، أي : عنده ، أو : للتعليل ، فإن الحساب علَّة للوصول إلى الجزاء. وقرأ المكي والبصري بياء الغيب ، ليُوافق ما قبله ، والالتفات أليق بمقام الامتنان والتكريم. {إِنَّ هذا} الذي ذكر من ألوان النعيم والكرامات {لَرِزْقُنا} أعطيناكموه ، {ما له من نفاذٍ} ؛ من انقطاع وتمام أبداً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 226
(6/347)
الإشارة : كل مَن توجه إلى الله بكليته ، واتصف بمحاسن الأخلاق ، كان له ذكر وشرف في الدنيا ، وكرامة في العُقبى ، بما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 226
قلت : (هذا) خبر ، أي : الأمر هذا ، أو : مبتدأ ؛ أي : هذا كما ذكر ، وهو من الاقتضاب الذي يقرب من التخلص ، كقوله بعد الحمد : أما بعد. قال السعد : هو من فصل الخطاب ، الذي هو أحسن موقعاً من التخلُّص. قال : وقد يكون الخبر مذكوراً كقوله : {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ...} [ص : 49] هـ. قال الطيبي : هو من فصل الخطاب ، على التقدير الأول ، لا الثاني. هـ. أي : إذا كان خبراً عن مضمر ، لا ما إذا ذكر الخبر.
يقول الحق جلّ جلاله : {هذا} أي : الأمر هذا ، {وإِنَّ للطاغين لشرَّ مآبٍ} ؛ مرجع {جهنَّمَ يصلونها} ؛ يدخلونها ، حال من جهنم ، {فبئس المِهادُ} : الفراش ، شبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرش للنائم ، والمخصوص محذوف ، أي : جهنم.
{هذا فليذوقوه} أي : ليذوقوا هذا فليذوقوه ، كقوله تعالى : {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة : 40] أو : العذاب هذا فليذوقوه ، وهو {حميمٌ وغسَّاق}... الخ ، أو : {هذا} : مبتدأ ، و {حميم وغساق} : خبر ، وما بينهما اعتراض ، والغساق : ما يَغسَق ، أي : يسيل من صديد أهل النار ، يقال : غَسَقت العين ؛ إذا سال دمعها. وقيل : الحميم يحرق بحرّه ، والغساق يحرق ببرده. قيل : " لو قطرت منه قطرة بالمشرق لأنتنت أهل المغرب ، ولو قطرت بالمغرب لأنتنت أهل المشرق " وقيل : الغساق : عذاب لا يعلمه إلا الله. وهو بالتخفيف والتشديد ، قرىء بهما.
{وآخَرُ} أي : وعذاب آخر ، أو : مذوق آخر ، {من شَكْلِه} ؛ من مثل العذاب المذكور. وقرأ البصري : " أُخَرُ " بالجمع ، أي : ومذوقات أُخَرُ من شكل هذا العذاب في الشدّة والفظاظة ، {أزواجٌ} أي : أصناف ، وهو خبر لأخر ، أو : صفة له ، أو : للثلاثة.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 227
(6/348)
هذا فوج مُّقْتَحِمٌ معكم} ، حكاية لِمَا يقوله الخزنة للطاغين إذا دخلوا النار ، واقتحمها معهم فوج كانوا يتبعونهم في الكفر والضلالة. والاقتحام : الدخول في الشيء بشدة ، أو : من كلام الطاغين بعضهم من بعض. {لا مرحباً بهم} ، هو من تمام كلام الخزنة ، على الأول ، أو : من كلام الطاغين ، دعاء منهم على أتباعهم. يُقال لمَن يدعو له أو يفرح به. مرحباً ، أي : وجدت مكاناً رَحْباً ، لا ضيقاً ، ثم تدخل عليه النفي في دعاء السوء ، فتقول : لا مرحباً. و " بهم " : بيان للمدعو عليهم ، {إِنهم صالُوا النارِ} أي : داخلوها. وهو تعليل لاستحقاقهم الدعاء عليهم. وقيل : {هذا فوج...} إلخ ، من كلام الخزنة لرؤساء الكفرة. و {لا مرحباً بهم...} الخ ، من كلام الرؤساء.
{قالوا} أي : الأتباع ، {بل أنتم لا مرحباً بكم} أي : الدعاء الذي دعوتم به علينا
228
أنتم أحقّ به ، وعلّلوا ذلك بقوله : {أنتم قدمتموه لنا} أي : إنكم دعوتمونا للكفر ، فتبعناكم ، فقدمتمونا به للعذاب ، {فبئس القرارُ} أي : بئس المقر جهنم ، قصدوا بذمها تغليظ جناية الرؤساء عليهم. {قالوا} أي : الأتباع ، معرَّضين عن خصومتهم ، متوجهين إلى الله : {ربَّنا مَن قدَّم لنا هذا فزِدْهُ عذاباً ضعفاً} أي : مضاعفاً. {في النار} أو : ذا ضعف ، ومثله قوله : {رَبَّنَا هَؤُلآَءِ أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً} [الأعراف : 38] ، وهو أن يزيد على عذابه مثله.
(6/349)
{وقالوا} أي : الرؤساء : {ما لنا لا نرى رجالاً} ، يعنون : فقراء المسلمين ، {كنا نَعُدُّهُم} في الدنيا {من الأشرار} ؛ من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى ، حيث كانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم ، {أتَّخذناهم سِخْرِيّاً} ، بهمزة الاستفهام ، سقطت لأجلها همزة الوصل. والجملة : استئنافية ، ومَن قرأ بالوصل فقط فالجملة : صفة ثانية لرجال ، {أم زاغتْ} ؛ مالت {عنهم الأبصارُ} ، والمعنى على الاستفهام : أتخذناهم سخرياً وليسوا كذلك ، فلم يدخلوا معنا النار فهم في الجنة ، أم دخلوها معنا ، ولكن مالت عنهم أبصارنا ، فلا نراهم معنا ؟ وعلى الاستخبار : ما لنا لا نرى رجالاً معنا في النار ، كانوا عندنا أشراراً ، قد اتخذناهم سخرياً نسخر بهم ، ثم أضربوا وقالوا : بل زاغت عنهم الأبصار ، فلا نراهم فيها ، وإن كانوا معنا ، أو : زاغت أبصارنا ، وكلَّت أفهامنا عنهم ، حتى خفي علينا مقامهم ، وأنهم على الحق ونحن على الباطل ، وما تبعناهم. ومَن قرأ " سُخريا " بالضم ؛ فمن : التسخير والاستخدام. ومَن قرأ بالكسر ، فمن : السخر ، الذي هو الهزء. وجَوز في القاموس الضم والكسر فيهما معاً ، فراجعه.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 227
إِن ذلك} الذي حكى من أحوالهم {لَحَقٌّ} لا بد من وقوعه ألْبتة ، وهو {تخاصمُ أهلِ النار} فيها على ما تقدّم.
ولمّا شبَّه تفاوضهم ، وما يجري بينهم من السؤال والجواب ، بما يجري بين المتخاصمين ، سمَّاه تخاصماً ، وبأنَّ قول الرؤساء : {لا مرحباً} وقول الأتباع : {بل أنتم لا مرحباً بكم} من باب الخصومة لا محالة ، فسمي التقاول كله تخاصماً ؛ لاشتماله على ذلك.
(6/350)
الإشارة : كل مَن تعدى وطغى ، ولم يتب ، من المؤمنين ، يرى شيئاً من أهوال الكفرة ، فلا يدخل الجنة حتى يتخلص ، وكل مَن سخر بالفقراء يسقط في الحضيض الأسفل ، ويكون سكناه في أسفل الجنة ، فيقول : ما لنا لا نرى معنا رجالاً كنا نَعُدُّهم من المبتدعة الأشرار ، أتخذناهم سخرياً ، وهم كُبراء عند الله ، رُفعوا عنه ، أم هم معنا ولكن زاغت عنهم الأبصار ؟ فيُجابون : بأنهم رُفعوا مع المقربين ، كانوا مشتغلين بنا ، وكنتم منهم تضحكون. إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون بالقُرب ومشاهدة طلعتنا ، في كل حين ، وبالله التوفيق.
229
جزء : 6 رقم الصفحة : 227
يقول الحق جلّ جلاله : {قُلْ} يا محمد للمشركين : {إِنما أنا مُنذِر} من جهته تعالى ، أُنذركم عذابه ، {وما من إِلهٍ} في الوجود {إِلا اللهُ الواحدُ} الذي لا يقبل الشركة أصلاً ، {القهَّارُ} لكل شيء سواه ، {ربُّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما} من المخلوقات ، فكيف يتوهم أن يكون له شريك منها ، {العزيزُ} ؛ الذي لا يغلب {الغفارُ} ؛ المبالغ في المغفرة لمَن يشاء. وفي هذه النعوت من تقرير التوحيد ، والوعد للموحِّدين ، والوعيد للمشركين ، ما لا يخفى. وتثنية ما يُشعر بالوعيد من وصف القهر والعزة وتقديمهما على وصف المغفرة ؛ لتقوية الإنذار.
{قل هو} أي : ما نبأتكم به من كوني رسولاً ، وأنَّ الله واحد لا شريك له ، {نبأٌ عظيمٌ} ؛ وارد من جهته تعالى ، لا يُعرِض عن مثله إلا غافل منهمك. {أنتم عنه معرضون} ؛ غافلون ، وعن ابن عباس : النبأ العظيم : القرآن. وعن الحسن : يوم القيامة. وتكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمرٌ جليل ، له شأن خطير ، لا بد من الاعتناء به ، أمراً وائتماراً.
(6/351)
{ما كان لِيَ من عِلْم بالملأِ الأعلى إِذْ يختصمون} ، احتجاج على صحة نبوته ، بأن ما ينبىء به عن الملأ الأعلى ، واختصامهم ، أمر غيبي ، لم يكن له به علم قطّ ، ثم علمه وأخبر به ، ولم يسلك الطريق الذي سلكه الناس في علم ما لم يعلموا ، وهو الأخذ عن أهل العلم ، ودراسة الكتب ، فتحقق أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى. والملأ الأعلى هم الملائكة ، وآدم ، وإبليس ؛ لأنهم كانوا في السماء ، وكان اختصامهم : التقاول بينهم ، كقولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا...} [البقرة : 30] الخ ، وكقول إبليس : {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ...} [الأعراف : 12 و ص : 76] الخ ، ويدل عليه ما يأتي من الآيات. وقيل : اختصامهم في الكفارات وغفران الذنوب ، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه ، حتى يقضي الله ما شاء.
ورُوي في هذا حديث ، وهو أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال له ربه ـ عزّ وجل ـ في النوم : " أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا ، قال : اختصموا في الكفارات والدرجات ، فأما الكفارات فإسباغ الوضوء على المكاره ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، وأما الدرجات ؛ فإفشاء السلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة
230
بالليل والناس نيام " رواه الترمذي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 230
و {إِذ يختصمون} : متعلق بمحذوف يقتضيه المقام ؛ إذ المراد نفي علمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بحالهم لا بذواتهم ، والتقدير : ما كان لِيَ فيما سبق علم بما يوحيه في شأن الملأ الأعلى وقت اختصامهم. وانظر أبا السعود.
(6/352)
{إِن يُوحَى إِليَّ أَنَّما أنا نذير مبينٌ} أي : ما يُوحى إليَّ ما يوحى من الأمور الغيبية ، التي من جملتها حال الملأ الأعلى ، إلا لأنما أنا نذير مبين من جهته تعالى ، فحذف اللام وانتصب بإيصال الفعل إليه ، ويجوز أن يرتفع بالنيابة عن الفاعل ، أي : ما يوحى إليّ إلا هذا ، وهو أن أُنذر وأُبلّغ ، ولا أُفرط في ذلك ، أي : ما أومرَ إلا بهذا الأمر وحده ، وليس إليَّ غير ذلك. وقرىء بكسر " إنما " على الحكاية ، أي : إلا هذا القول ، وهو : أن أقول لكم : إنما أنا نذير مبين ، ولا أدّعي شيئاً آخر.
الإشارة : تربية اليقين تُطلب في ثلاثة أمور ؛ في توحيد الألوهية ، بالتبري من الشرك الجلي والخفي. وهو مفاد قوله : {وما من إِله إِلا الله...} الخ. وفي تصديق الواسطة ، وهو النذير المبين ، بتعظيمه واتباع سُنَّته ومنهاجه القويم ، وفي التصديق بما جاء به ، وهو النبأ العظيم ، على أيّ تفسير كان ، إما القرآن ، باتباعه ، والتدبُّر في معانيه ، أو : يوم القيامة ، بالتأهُّب له ، وجعله نُصب العين. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 230
قلت : {إذ قال} : متعلق بيختصمون ، أو : بدل من {إذ} قبله ، أو : باذكر. و " الحق " : فمن نصبه ، فعلى حذف فعل القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، أي : أقسم بالحق ، فحذفت الباء ووصل الفعل به ، ومن رفعه ؛ فمبتدأ ، أي : الحقُّ مني ، أو : خبر ، أي : أنا الحق. والحق الثاني : مفعول " أقول " ، والجملة : معترضة بين القسم وجوابه ، وهو : {لأملأن}.
231
(6/353)
يقول الحق جلّ جلاله في تفسير الاختصام المذكور : {إِذ قال ربُّكَ للملائكة} حين أراد خلق آدم ، {إِني خالق بشراً من طينٍ} ، وقال : {إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة : 30]. والتعرُّض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره ـ عليه الصلاة والسلام ـ لتشريفه صلى الله عليه وسلم ، والإيذان بأنَّ وحي هذا النبأ إليه تربية وتأييد له. والكاف وارد باعتبار حال الآمر ، لكونه أدلّ على كونه وحياً منزلاً من عنده تعالى ، كما في قوله تعالى : {... يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ...} [الزمر : 54] الخ ، دون حال المأمور ، وإلاَّ لقال : ربي ؛ لأنه داخل في حيز الأمر. {فإِذا سوَّيتُه} أي : صوَّرْتُه بالصورة الإنسانية ، والخلقة البشرية ، أو : سويت أجزاء بدنه ، بتعديل أعضائه ، {ونَفَخْتُ فيه من روحي} الذي خلقته قبلُ ، وأضافه إليه تخصيصاً ، كبيت الله ، وناقة الله. والروح سر من أسرار الله ، لطيفة ربانية ، سارية في كثيفة ظلمانية ، فإذا سرت فيه حيى بإذن الله ، أي : فإذا أحييته {فَقَعُوا} أي : اسقطوا {له} ، وهو أمر ، مِن وقع ، {ساجدين} قيل : كان انحناء يدلّ على التواضع ، وقيل : كان سجوداً لله ، أو سجود تحية لآدم وتكريماً له.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 231
(6/354)
فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون} ، " كلّ " للإحاطة ، و " أجمعون " للاجتماع ، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعاً ، في قوت واحد ، غير متفرقين في أوقات. وظاهر هذه الآية وما في سورة الحِجْر : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر : 29 ، 30] أن الأمر بالسجود كان تعليقاً ، لا تنجيزياً ، فأمرهم بالسجود قبل أن يخلقه ، بل حين أعلمهم بخلقه ، فلما خلقه سجدوا ممتثلين للأمر الأول ، وظاهر ما في البقرة والأعراف والإسراء والكهف : أن الأمر كان تنجيزياً بعد خلقه ، والجمع بينهما : أنه وقع قبل وبعد ، أو : اكتفى بالتعليقي ، كما يقتضيه الحديث ، حيث قال له بعد نفح الروح فيه : " اذهب فسلِّم على أولئك الملائكة ، فسلّم عليهم ، فردُّوا عليه وسجدوا له " والله تعالى أعلم بغيبه.
{إِلا إِبليسَ استكْبَرَ} أي : تعاظم عن السجود ، والاستثناء متصل إن قلنا : كان منهم ، حيث عبد عبادتهم ، واتصف بصفاتهم ، مع كونه جنياً ، أو : منقطع ، أي : لكن إبليس استكبر ، {وكان من الكافرين} أي : صار منهم بمخالفته للأمر ، واستكباره عن الطاعة ، أو : كان منهم في علم الله. {قال يا إبليسُ ما منعك أن تسجدَ} أي : عن السجود {لِما خلقتُ بيديَّ} ، بلا واسطة أب ولا أم ، امتثالاً لأمري ، وإعظاماً لخطابي ، ولَمَّا كانت الأعمال تُباشر في الغالب باليد ، أطلقت على القدرة. والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام ، المستدعي لإجلاله وإعظامه ، قصداً إلى تأكيد الإنكار ، وتشديد التوبيخ ، وسيأتي في
232
الإشارة بقية الكلام في سر التثنية. قال له تعالى : {أَسْتَكْبَرْتَ} ، بهمزة الاستفهام ، وطرح همزة الوصل ، أي : أتكبرت من غير استحقاق ، {أم كنت من العالين} المستحقين للتفوُّق ، أو : أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين ، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك ؟
(6/355)
{قال أنا خير منه} ، ولا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول ، كقوله : {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر : 30] ، وبيَّن فضيلته في زعمه بقوله : {خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ} ، يعني لو كان مخلوقاً من نار لَمَا سجدتُ له ؛ لأنه مخلوق مثلي ، فكيف أسجد لمَن هو دوني ؛ لأنه طين ، والنار تغلب الطين وتأكله ، ولقد أخطأ اللعين ، حين خَصَّ الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وغاب عنه ما من جهة الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : {لِما خلقتُ بيدي} ، وما من جهة الصورة كما نبّه عليه قوله تعالى : {ونفخت فيه من روحي} ، وما من جهة الغاية ، وهو ما خصَّه به من علوم الحكمة ، التي ظهرت بها مزيته على الملائكة ، حتى أُمروا بالسجود ، لما ظهر أنه أعلم منهم بما تدور عليه أمر الخلافة في الأرض ، وأن له خواص ليست لغيره.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 231
قال فاخرجْ منها} ؛ من الجنة ، أو : من زمرة الملائكة ، وهو المراد بالأمر بالهبوط ، أو : من السموات ، أو : من الخِلقة التي أنت فيها ، وانسلخ منها ، فإنه كان يفتخر بخلقته ، فغيّر الله خلقته ، فاسودّ بعدما كان أبيض ، وقبح بعدما كان حسناً ، وأظلم بعدما كان نورانياً. {فإِنك رجيم} أي : مرجوم ، مطرود ، من كل خير وكرامة. أو : شيطان يُرجم بالشُهب.
(6/356)
{وإِن عليك لعنتي} ؛ إبعادي من الرحمة ، وتقييدها هنا ، وإطلاقها في قوله : {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر : 35] ؛ لأن لعنة اللاعنين من الثقلين والملائكة أيضاً من جهته تعالى ، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله وإبعاده من الرحمة ، {إِلى يوم الدين} ؛ إلى يوم الجزاء والعقوبة ، ولا يُظَن أن لعنته غايتها يوم الدين ، ثم تنقطع ، بل في الدنيا اللعنة وحدها ، ويوم القيامة يقترن بها العذاب ، فيلقى يومئذ من ألوان العذاب ، وأفانين العقاب ، ما ينسى به اللعنة ، وتصير عنده كالزائد. أو : لَمَّا كان عليه اللعنة في أوان الرحمة ، فأولى أن يكون عليه اللعنة في غير أوانها ، وكيف ينقطع ، وقد قال تعالى : {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف : 44] وهو إمامُهم ؟
{قال} إبليسُ : {رَبِّ فأَنظِرْنِي} ؛ أمهلني وأخِّرني ، أي : إذا جعلتني رجيماً فأمهلني ولا تمتني ، {إِلى يوم يبعثون} أي : آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم. وأراد بذلك فسْحته لإغوائهم ، وليأخذ منهم ثأره ، وينجو من الموت بالكلية ؛ إذ لا موت بعد البعث ، {قال} تعالى : {فإِنك من المنظرين إلى يوم الوقتِ المعلوم} ، وهو وقت النفخة الأولى ، ومعنى " معلوم " أنه معلوم عند الله ، لا يتقدم ولا يتأخر ، وورود الجواب بالجملة الاسمية مع
233
التعرُّض لشمول ما سأله لآخرين ، على وجهٍ يُشعر بكون السائل تبعاً لهم في ذلك ، دليل واضح على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلاً ، لا إنشاء لإنظار خاص به ، قد وقع إجابة لدعائه ، أي : إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً ، حسبما تقتضيه حكمة التكوين.
{قال فبعزَّتك لأُغْوِينَّهم أجمعين} ، أقسم بعزّة الله ، وهو سلطانه وقهره على إغواء بني آدم ، بتزيين المعاصي والكفر ، {إِلا عبادَكَ منهم المخلصِين} ، وهم الذين أخلصهم الله للإيمان به وطاعته ، وعصمهم من الغواية ، أو : الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم لله في قراءة الكسر.
(6/357)
{قال} تعالى : {فالحقّ والحقَّ أقولُ} أي : أقسم بالحق ولا أقول إلا الحق ، أو : الحق قسَمي وأقول الحق : {لأملأَنَّ جهنمَ منك} ؛ من جنسك ، وهم الشياطين ، {وممن تَبِعَكَ منهم} ؛ من ذرية آدم {أجمعين} أي : لأعمرنَّ جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين ، لا أترك منهم أحداً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 231
الإشارة : التجلي بهذا الهيكل الآدمي فاق جميع التجليات ، وصورته البديعة فاقت جميع الصور ، ولذلك لم يقل الحق تعالى في شيء أنه خلقه في أحسن تقويم إلا الآدمي ، وذلك لأنه اجتمع فيه الضدان ، واعتدل فيه الأمران ؛ الظلمة والنور ، الحس والمعنى ، الروحانية والبشرية ، القدرة والحكمة. ولذلك قال تعالى فيه : {لِما خلقت بيدي} ، ولم يقله في غيره ، أي : خلقته بيد القدرة ويد الحكمة. فالقدرة كناية عما في باطنه من أسرار المعاني الإلهية ، والحكمة عبارة عما في قالَبه من عجائب التصوير ، وغرائب التركيب ، ولذلك كانت معرفته أتم ، وترقِّيه لا ينقطع ، إن كان من أهله ، وراجع ما تقدّم في قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} [الإسراء : 70].
وقال القشيري بعد كلام : فسبحان الله! خلق أعَزَّ خَلْقِه من أذّلِّ شيءٍ وأَخَسِّه. ثم قال : ما أودع عند آدم لم يوجد عند غيره ، فيه ظهرت الخصوصية. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 231
يقول الحق جلّ جلاله : {قل ما أسألُكُم} على تبليغ الوحي أو على القرآن {من أجْرٍ} دنيوي ، حتى يثقل عليكم ، {وما أنا من المتكلِّفين} أي : المتصنِّعين بما ليسوا من أهله ، وما عرفتموني قط متصنعاً حتى أنتحل النبوة ، أو أتقوّل القرآن ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم ". {إِن هو} : ما هو {إِلا ذِكْرٌ} : وعظ من الله عزّ وجل {للعالَمين} ؛ الثقلين كافة ،
234
(6/358)
{ولتعلمُنَّ نبأَهُ} ؛ نبأ القرآن ، وصحة خبره ، وما فيه من الوعد والوعيد ، وذكر البعث والنشور ، {بعد حين} ؛ بعد الموت ، أو : يوم بدر ، أو القيامة ، أو : بعد ظهور الإسلام وفشوه. وفيه من التهديد ما لا يخفى. ختم السورة بالذكر كما افتتحها بالذكر.
الإشارة : تقدّم مراراً التحذير من طلب الأجر على التعليم ، أو الوعظ والتذكير ، اقتداء بالرسل عليهم السلام. وفي الآية أيضاً : النهي عن التكلُّف والتصنُّع ، وهو نوع من النفاق ، وضرب من الرياء. وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم اغفر للذين لا يدعون ، ولا يتكلفون ، ألا إني بريء من التكلُّف ، وصالحوا أمتي " وقال سلمان : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ نتكلف للضيف ما ليس عندنا! ". وكان الصحابة رضي الله عنهم يُقَدِّمون ما حضر من الكسر اليابسة ، والحشف البالي ـ أي : الرديء من التمر ـ ويقولون : لا ندري أيهما أعظم وزراً ، الذي يحتقر ما قدم إليه ، أو : الذي يحتقر ما عنده فلا يقدمه. هـ. وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
235
جزء : 6 رقم الصفحة : 234(6/359)
سورة الزمر
جزء : 6 رقم الصفحة : 235
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ...}.
قلت : {تنزيل} خبر ، أي : هذا تنزيل ، و {من الله} : صلة لتنزيل ، أو : خبر ثان ، أو : حال من التنزيل ، عاملها : معنى الإشارة.
يقول الحق جلّ جلاله : هذا الذي تتلوه هو {تنزيلُ الكتاب} ، نزل {من} عند {الله العزيزِ} في سلطانه {الحكيم} في تدبيره. وإيثار الوصفين للإيذان بجريان أثريهما في الكتاب ، بجريان أحكامه ونفوذ أوامره ونواهيه. {إِنا أنزلنا إِليك الكتاب بالحق} : ليس بتكرُّر ؛ لأن الأول كالعنوان للكتاب ، والثاني لبيان ما في الكتاب. قال أبو السعود : والمراد بالكتاب : القرآن ، وإظهاره على تقدير كونه هو المراد بالأول ؛ لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه. والباء إما متعلقة بالإنزال ، أي : بسبب الحق وإظهاره ، أو : بداعيته واقتضائه ، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة ، أو : من الكتاب ، أي : أنزلناه إليه محقين في ذلك ، أو : ملتبساً بالحق والصواب ، أي : ما فيه حق لا ريب فيه موجب العمل به حتماً. قال القشيري : بالحق ، أي : بالدين الحق والشرع الحق ، وأنا مُحِق في إنزاله.
{فاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً له الدينَ} أي : فاعبده تعالى مخلصاً دينه من شوائب الشرك والرياء ، حسبما بُيِّن في تضاعيف ما أنزل إليه. {ألاَ للهِ الدينُ الخالِصُ} أي : هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة ؛ لأنه المنفرد بصفات الألوهية ، التي من جملتها : الاطلاع على السرائر والضمائر.
236
الإشارة : قال القشيري : كتابٌ عزيزٌ ، نزل من ربٍّ عزيز ، على عبدٍ عزيز ، بلسان مَلَكٍ عزيز ، في شأنِ أمةٍ عزيزة ، بأمرٍ عزيز. وأنشدوا :
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
ورَدَ الرسولُ من الحبيب الأوَّلِ
بعد البلاء ، وبعد طُول الأمل(6/360)
تنزيل تنزّهت قلوب الأحباب بعد ذُبولِ عصن سرورها ، في كتاب الأحباب ، عند قراءة فصولها. والعجب منها كيف لا تزهو سروراً بوصولها ، وارتياحاً بحصولها ، وكتابُ موسى في الألواح ، ومنها كان يقرأ موسى ، وكتابُ نبينا صلى الله عليه وسلم نَزَلَ به الروح ، الأمين ، على قلبك ، وفَصْلٌ بين مَن يكون خطابُ ربه مكتوباً في ألواحه ، وبين مَن يكون خطاب ربه محفوظاً في قلبه ، وكذلك أمته ، {بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} [العنكبوت : 49]. هـ.
وقوله تعالى : {فاعْبُد اللهَ مخلصاً له الدينَ} ، قال القشيري : العبادة : معانقة الطاعات على نعت الخضوع ، وتكون بالنفس وبالقلب وبالروح ، فالتي بالنفس ـ أي : بالجوارح ـ الإخلاص فيها : التباعد عن الانتقاص ، والتي بالقلب ، أي : كالفكرة والنظرة ، الإخلاص فيها : التباعد عن رؤية الأشخاص ـ أي : الحس من حيث هو ـ والتي بالروح ، الإخلاص فيها : التنقِّي عن رؤية طلب الاختصاص.
قوله تعالى : {ألا لله الدينُ الخالصُ} هو ما يكون جملته لله ، وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد ، اللهم إلا أن يكون بأمره ، فإنه إذا أَمَرَ العبدَ أن يحتسب الأجرَ على طاعته ، فأطاعه ، لا يخرج عن الإخلاص بامتثاله ما أمره به ، ولولا هذا مَا صحَّ أن يكون في العالَم مُخْلِصٌ ، يعني : أن جُل الناس إنما يطيعون لاحتساب الأجر ، إلا الفرد النادر ، فمَن زال عنه الحجاب فإنه يعبد الله بالله ، شكراً ، وإظهاراً للأدب ، فإن قصد الاحتساب ، ثم طرأ عليه خواطر بعد تحقق الإخلاص ، فلا يضر ، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " وهذا في أصل القصد ، والعوارض غير مضرة ، كما هو صريح حديث آخر. والله تعالى أعلم.
ثمّ ردّ على المشركين ، فقال :
(6/361)
{... وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَىا إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىا مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
قلت : {والذين} : مبتدأ ، و {ما نعبدهم} : محكي بقول محذوف ، حال من واو
237
" اتخذوا " وجملة " إن الله " : خبر ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل ، و " زلفى " : مصدر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
يقول الحق جلّ جلاله : {والذين اتخذوا من دونه أولياء} أي : لم يخلصوا في عبادتهم ، بل شاوبُوها بعبادة غيره ، كالأصنام ، والملائكة ، وعيسى ، قائلين : {ما نعبدهم} لشيء من الأشياء {إِلا لِيُقَربُونا إِلى الله زُلفى} أي : تقريباً ، {إِن الله يحكم بينهم} وبين خصمائهم ، الذين هم المخلصون للدين ، وقد حذف لدلالة الحال عليه ، كقوله : {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة : 285] على أحد الوجهين ، أي : بين أحد منهم وبين غيره. قيل : كان المسلمون إذا قالوا للمشركين : مَن خلق السماوات والأرض ؟ قالوا : الله ، فإذا قالوا لهم : فما لكم تعبدون الأصنام ؟ قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
{إِن الله يحكُم} يوم القيامة بين المتنازعين من المسلمين والمشركين {فيما هم فيه يَختلِفُون} من التوحيد والإشراك ، وادعاء كل واحد صحة ما انتحله. وحكمُه تعالى هو إدخال الموحدين الجنة والمشركين النار. وقيل : الموصول واقع على الأصنام ، والعائد محذوف ، أي : والذين اتخذوهم من دونه أولياء ، قائلين : ما نعبدهم... الخ ، إن الله يحكم بينهم ، أي : بين العبَدة والمعبودين فيما هم فيه يختلفون ، حيث يرجون منها شفاعتها وهي تلعنهم ، وهذا بعيد.
(6/362)
{إِن الله لا يهدي} : لا يُوفِّق للاهتداء {مَن هو كاذب كفَّار} أي : راسخ في الكذب ، مبالغ في الكفر ، كما يُعرب عنه قراءة من قرأ : " كذاب " أو : " كذوب " ، أي : لا يهديهما اليوم لدينه ؛ لسابق الشقاء ، ولا في الآخرة لثوابه ؛ لأنهما اليوم فاقدان للبصيرة ، غير قابلين للاهتداء ؛ لتغييرهما الفطرة الأصلية بالتمرُّن في الضلالة والتمادي في الغي. {لو أراد اللهُ أن يتخذ ولداً} كما يزعم مَن يقول : الملائكة بنات الله ، والمسيح وعزير ابن الله ، تعالى الله عن قولهم عُلواً كبيراً ، {لاصْطَفى مما يَخْلُقُ ما يشاء} أي : لاختار مِن خلقه ما يشاء ، ممن له مناسبة صمدانية ، كالملائكة ، فإنهم منزَّهون عن نقائض البشرية ، كالأكل والشرب والنكاح ، لكن لم يُرد ذلك ؛ لاستحالته في حقه تعالى.
قال القشيري : خاطَبَهم على قَدْرِ عقولهم وعقائدهم ، فقال : لو أراد الله أن يتخذ ولداً بالتبنِّي والكرامة لاختار من الملائكة ، الذين هم مبرَّؤون من الأكل والشرب وأوصافِ الخلق ، ثم أخبر عن تَقَدُّسه عن ذلك ، فقال : {سبحانه} أي : تنزيهاً له عن اتخاذ الولد على الحقيقة ؛ لاستحالة معناه في نَعْتِه ، ولا بالتبني ، لتقدُّسه عن الجنسية ، والمحالات تدل على وجه الإبعاد. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
والحاصل : أن الولد في حقه تعالى ؛ إن كان عن طريق التولُّد فهو محال ، عقلاً ونقلاً ، وإن كان عن طريق التبني والكرامة فمُحال سمعاً ، وقيل : وعقلاً. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه : قوله ، أي : القشيري : لتقدُّسه عن الجنسية ،
238
(6/363)
يعني لوحدته وقهره ، كما رمز إلى ذلك بذكر الاسمين ، أي : الواحد القهّار ، وهما عاملان في كل مخلوق ، ومحال تعطيلهما بالتبني المقتضي للجنسية ، المباينة للوحدانية والقهر ، فلا يمكن إلا العبودية ، عقلاً ، ونقلاً ، وحقيقة ، وهذا أشد من كلام ابن عطية ، فإنه جوّز اتخاذه على جهة التشريف والتبني عقلاً ، وإن امتنع شرعاً ، لعموم آية : {وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم : 92] ؛ لاتخاذ النسل المستحيل عقلاً ونقلاً ، ولاتخاذ الاصطفاء الممتنع شرعاً. وهو أيضاً أشدُّ من كلام الزمخشري ، حيث قال : معنى الآية : لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ذلك ، ولكنه يصطفي مَن يشاء من عباده ، على وجه الاختصاص والتقريب ، لا على وجه اتخاذه ولداً. هـ. فأجمل في الامتناع ، وإن كان المتبادر منه شمول القسمين ، وكذا قرر جواب " لو " ، أي : لامتنع ، وجعل قوله : {لاصطفى} الذي هو ظاهر في كونه جواباً غير جواب " بل " على معنى الاستئناف ، وهو خلاف المطروق والمفهوم من جري الكلام. والله أعلم.
وما ذكره الزمخشري أيضاً من الامتناع مع الإرادة هو فرض لتعلُّق الإرادة بالممتنع ، وهي إنما تتعلق بالجائز ، ويحتمل بناؤه على مذهبه الفاسد في إرادة بعض ما لم يقع ، وهو شنيع مذهبه ، بل ويلزمه عود القهر عليه ـ تعالى عن ذلك ، وهو الله الواحد القهّار ، فكيف يريد ويمتنع ما يريده ؟ ! هل ذلك إلا عين القهر ؟ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً. هـ.
(6/364)
قال تعالى : {سبحانه} أي : تنزّه بالذات عن اتخاذ الولد ، تنزهه الخاص به ، على أن {سبحان} مصدر ، من : سبّح : إذا بعّد. {هو اللهُ الواحدُ القهّارُ} : استئناف مبينٌ لتنزهه بحسب الصفات ، إثر بيان تنزُّهه عنه بحسب الذات ، فإن صفة الألوهية المستتبعة لسائر صفات الكمال ، النافية لسمات النقصان ، والوحدة الذاتية ، الموجبة لامتناع المماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيره على الإطلاق ، مما يقتضي تنزهه تعالى عما قالوه ، قضاء متيقناً ، وكذا وصف القهارية ؛ لأن اتخاذ الولد شأنُ مَن يكون تحت ملكوت الغير ، عرضة للفناء ، ليقوم الولد مقامه عند فنائه ، ومَن هو مستحيل الفناء ، قهّار لكل الكائنات ، كيف يتصور أن يتخذ من الأسماء الفانية مَن يقوم مقامه ؟ قاله أبو السعود.
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
الإشارة : الحق سبحانه غيور ، لا يرضى لغيره أن يعبد معه غيره ، كان على وجه الواسطة والتقريب ، أو : على وجه الاستقلال. لذلك حَرُم السجود لغير الله ، وأما الخضوع للأولياء ، العارفين بالله ، على غير وجه العبادة ، فهو عين الخضوع لله ؛ لأن الله تعالى أمر بالخضوع للرسل ، الدالين على الله ، وهم ورثتهم في الدلالة ، لكن لا يكون ذلك على هيئة السجود ، وإنما يكون على وجه تقبيل القدم أو الأرض بين أيديهم ، كما قال الشاعر :
يا مَن يلوم خمرة المحبه
فخذوا عني هي حلال>> ومَن يرد يسقي منها عبهْ
خَدّ يضع لأقدام الرجال
رأسي حططت بكل شيبه
هم الموالي سقوني زلال
239
(6/365)
وجعل القشيري مناطَ الرد على الكفرة حيث فعلوا ذلك ، وقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ، بغير إذن الله ، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم. فردَّ الله عليهم. قال : وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد من القُرَبِ ، بنشاط نَفْسِه ، من غير أن يقتضيه حُكْمُ الوقت ، وما يعقد بينه وبين الله تعالى من عقودٍ لا يفي بها ، وكان ذلك اتباعُ هوىً. قال الله تعالى : {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد : 27]. قلت : ولأجل هذا وجب على مَن أراد الوصول إلى الله أن يتخذ شيخاً عارفاً بأحكام الوقت ، ذا بصيرة بدسائس النفس ، فيأمره في كل وقت ، وفي كل زمان ، بما يناسبه ؛ ليُخرجه من هوى نفسه ، وأسر طبعه ، وإلا بقي في العنت والبُعد عن الله ، يعبد الله على حرف ، كلما زاد عبادة وقرباً ـ في زعمه ـ زاد بُعداً من ربه ، وهو لا يشعر ، فالنفس إن لم تتصل بمَن يرفع عنها الحجاب ، كانت كدود القزِّ ، تنسج الحجاب على نفسها بنفسها ، حتى تموت في وسطه. وفي ذلك يقول الششتري في نونيته رضي الله عنه :
ونحن كَدُودِ القزِّ يحصرُنا الذي
صنعنا لدفع الحصر سجناً لنا مِنَّا
وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
يقول الحق جلّ جلاله : {خلق السماواتِ والأرضَ} أي : وما بينهما من الموجودات ، ملتبسة {بالحق} ؛ مشتملة على الحكم والمصالح الدينية والدنيوية {يُكوِّر الليلَ على النهار ويُكوِّر النهارَ على الليل} ، التكوير : اللّف والليّ ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها. والمعنى : أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه ، ويلفه لف اللباس باللابس ، أو : يغيّبه كما يغيب الملفوف باللفافة ، أو : يجعله كاراً عليه كرُوراً متتابعاً ، تتابع أكوار العمامة ، وهذا بيان لكيفية تصرفه تعالى في السموات والأرض بعد بيان خلقهما ، وعبّر بالمضارع للدلالة على التجرُّد.
(6/366)
{وسخَّر الشمسَ والقمرَ} : جعلهما منقادين لأمره. {كُلٌّ يجري لأَجَلٍ مُسمًّى} ، وهو يوم القيامة ، أو : كل منهما يجري لمنتهى دورته ، {أَلاَ هو العزيزُ} ؛ الغالب القادر على كل شيء ، ومن جملتها : عقاب العصاة ، {الغفارُ} : المبالغ في المغفرة ، ولذلك لا
240
يُعاجل بالعقوبة ، ولا يمنع ما في هذه الصنائع البديعة من آثار رحمته. وتصدير الجملة بحرف التنبيه ، لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها.
{خَلَقَكُم من نفسٍ واحدةٍ} ، لَمَّا ذكر ما يتعلق بالعالم العلوي ، ذكر ما يتعلق بالعالم السفلي ، وترك العاطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على الوحدانية ، وبدأ بالإنسان ؛ لأنه المقصود الأهم من هذا العالم ، ولعَرَاقته في الدلالة على توحيد الحق وباهر قدرته ؛ لما فيه من تعاجيب آثار القدرة ، وأسرار الحكمة ، وأصالته في المعرفة ؛ فإن الإنسان بحال نفسه أعرف ، والمراد بالنفس : نفس آدم ـ عليه السلام.
{ثم جعل منها زوجَهَا} : عطف على محذوف ، صفة لنفس ، أي : من نفسٍ خلقها ثم جعل منها زوجها ، أو : على معنى : واحدة ، أي : نفس وُجدت ثم جعل منها زوجها حواء ، وعطفت بثم دلالة على مباينتها له فضلاً ومزية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة ، مع التراخي في الزمان. وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذّر ، ثم أخرج منه حوّاء ، ففيه ثلاث آيات ؛ خلق آدم من غير أب ولا أم ، وخلق حواء من قصيراه ، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 240
وأنزل لكم من الأنعامِ} أي : قضى وجعل ، أو : خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام ، ثم أنزلها ، أو : أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء ، كالأمطار ، وأشعة الكواكب ، كما تقول الفلاسفة. {ثمانيةَ أزواج} ذكراً وأنثى ، وهي : الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز. فالزوج اسم لواحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد ، ووتر.
(6/367)
{يخلقُكم في بطونِ أمهاتِكم} : استئناف ؛ لبيان كيفية خلقهم ، وأطوارهم المختلفة ، الدالة على القدرة القاهرة. وصيغة المضارع للدلالة على التجرُّد. {خلقاً من بعد خلق} : مصدر مؤكد ، أي : يخلقكم فيها خلقاً كائناً من بعد خلق ، أي : خلقاً مُدرَّجاً ، حيواناً سويّاً ، من بعد عظام مكسوة لحماً ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغة مخلَّقة ، من بعد مضغة غير مخلَّقة ، من بعد علقة ، من بعد نطفة ، {في ظلمات ثلاث} : ظلم البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، أو : ظلمة الصلب ، والبطن ، والرحم. {ذلكم} : إشارة إلى الحق تعالى ، باعتبار أفعاله المذكورة ، وهو مبتدأ ، وما فيه من معنى البُعد ؛ للإيذان ببُعد منزلته في العظمة والكبرياء ، أي : ذلكم العظيم الشأن ، الذي عددت أفعاله هو {اللهُ ربكُم} أي : مربيكم بنعمة الإيجاد على الأطوار المتقدمة ، وبنعمة الإمداد بعد نفخ الروح فيه. {له الملكُ} : التصرف التام على الإطلاق في الدارين. {لا إله إِلا هو} : لا متصرف غيره. {فأنى تُصْرَفُون} : فكيف تصرفون عن عادته تعالى ، مع وفور دواعيها ، وانتفاء الصارف عنها بالكلية ، إلى عبادة غيره ، من غير داع إليها ، مع كثرة الصوارف عنها ؟ والله تعالى أعلم.
241
(6/368)
الإشارة : خلق سماوات الأرواح ، وأرض النفوس ، بالحق ، أي : لسبب معرفته ، وعبادته ، فالمعرفة للأرواح ، والعبادة للنفوس ، يُكوّر نهار البسط على ليل القبض ، وبالعكس ، وسخَّر شمس العيان ، وقمر البرهان ، كُلٌّ يجري إلى أَجل مسمى ، إلا أن قمر البرهان ينتهي بطلوع شمس العيان ، وشمس العيان لا انتهاء لها. {لا إله إلا هو العزيز} فيمنع بعزته من الوصول إليه مَن أراد احتجابه ، {الغفار} فيغطي بفضله مساوىء مَن أراد وصلتَه. {خلقكم من نفس واحدة} ؛ من روح واحدة ، هي الروح الأعظم ، ثم تفرّعت منها الأشياء كلها. وأنزل لكم من الأنعام ما تتصرفون فيه ، وتتقربون به إلى ربكم ، ثم ذكَّرهم بنعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، بقوله : {يخلقكم في بطون أمهاتكم...} إلخ ، فنعمة الإيجاد ظاهرة ، ونعمة الإمداد : ما يتغذّى به الجنين في بطن أمه من دم الحيض.
جزء : 6 رقم الصفحة : 240
يقول الحق جلّ جلاله : {إِن تكفروا} به تعالى ، بعد مشاهدة هذه النعم الجسيمة ، وشؤونه العظيمة ، الموجبة للإيمان والشكر ، {فإِن الله غَنِيٌّ عنكم} أي : فاعلموا أنه تعالى غَنِي عن إيمانكم وشكركم ، {ولا يرضى لعبادِهِ الكُفْرَ} ؛ لأن الكفر ليس برضا الله ، وإن كان بإرادته ، وعدمُ رضاه تعالى بالكفر لأجل منفعتهم ، ودفع مضرتهم ، رحمة بهم ، لا لتضرره تعالى به. {وإِن تشكروا} وتؤمنوا {يرضَهُ لكم} أي : يرضى الشكر لأجلكم ومنفعتكم ؛ لأنه سبب الفوز بسعادة الدارين.
وإنما قال : {لعباده} ولم يقل " لكم " ، لتعميم الحكم ، وتعليله بكونهم عباده تعالى ، والحاصل : أن وقوع الطاعة والإيمان هو بقدرته تعالى ، وإرادته ورضاه ، وأما الكفر والمعاصي فهو بقضائه وإرادته ، ولم يرضها من عبده شرعاً ، وإن رضيها تكويناً ؛ لتقوم الحجة على العبد ، ويظهر صورة العدل ، ولا يظلم ربك أحداً ، وإن كان الكل منه وإليه.
(6/369)
{ولا تزر وازرةٌ وِزْرَ أُخرى} : بيان لعدم سريان كفر الكافر إلى غيره ، أي : ولا تحمل نفس حاملة لوزرها حمل نفس أخرى ، {ثم إِلى ربكم مرجِعُكُم} بالبعث بعد الموت ، {فَيُنَبِّئُكُم} ؛ يُخبركم {بما كنتم تعملون} في الدنيا من الإيمان والكفر ، فيجازيكم بها ثواباً وعقاباً. {إِنه عليم بذاتِ الصدور} : أي بمضمرات القلوب ، فكيف بالأعمال الظاهرة ، وهو تعليل لـ " ينبئكم ".
الإشارة : قد تقدّم الكلام على الشكر في سورة سبأ قال القشيري : قوله تعالى :
242
{وإِن تشكروا يرضه لكم} إن أطعتني شكرتُك ، وإن ذكرتني ذكرتُك ، وإن خطوت لأجلي خطوةً ملأتُ السموات والأرض من شكرك ، وأنشدوا :
لم عَلِمْنا أن الزيارةَ حقٌ
لَفَرَشْنَا الخدودَ أرضاً لِتَرْضَى
جزء : 6 رقم الصفحة : 242
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِذا مَسَّ الإِنسانَ} أي : جنس الإنسان {ضُرٌّ} من مرض وغيره {دَعَا رَبَّه مُنِيباً} إليه ؛ راجعاً إليه مما كان يدعوه في حالة الرخاء ؛ لعِلمه بأنه بمعزل عن القدرة على كشف ضره ، وهذا وصف للجنس ببعض أفراده ، كقوله تعالى : {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إِبراهيم : 34] وقيل : المراد أبو جهل ، أو : كل كافر. {ثم إِذا خَوَّلهُ نعمةً منه} أي : أعطاه نعمة عظيمة من جنابه ، من التخوُّل ، وهو التعهُّد ، يقال : فلان خائل مال ، إذا كان متعهّداً إليه حسن القيام به. وفي الصحاح : خَوَّله اللهُ الشيء : ملَّكه إياه. وفي القاموس : وخوَّله اللهُ المالَ : أعطاه إياه.
(6/370)
قال ابن عطية : خوَّله ، أي : ملَّكه ، وحكمه فيها ابتداء من الله ، لا مجازاة ، ولا يقال في الجزاء : خوّل. هـ. أو : من الخوَل ، وهو الافتخار ، أي : جعله يخول ، أي : يختال ويفتخر بنعمه. {نَسِيَ ما كان يدعو إِليه من قَبْلُ} أي : نسيَ الضر الذي كان يدعو الله تعالى كشفه من قبل التخويل ، أو : نسي ربه الذي كان يدعو ويتضرّع إليه ، على أن {ما} بمعنى {من} ، كقوله تعالى : {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} [الليل : 3] ، أو : إيذاناً بأن نِسْيانَه بلغ به إلى حيث لا يعرف ما يدعوه ، وهو كقوله تعالى : {عَمَّآ أَرْضَعَتْ} [الحج : 2].
{وجعل لله أنداداً} : شركاء في العبادة ؛ {ليُضل} بذلك {عن سبيله} الذي هو التوحيد ، أي : ليُضل غيره ، أو : ليزاد ضلالاً ، أو : يثبت عليه ، على القراءتين ، وإلا ؛ فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور. واللام للعاقبة ، كما في قوله : {فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص : 8] غير أن هذا أقرب للحقيقة ؛ لأن الجاعل هنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال ، وإن لم يعرف ؛ لجهله أنهما إضلال وضلال ، وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلاً. قاله أبو السعود.
{قُلْ تَمتعْ بكفرك قليلاً} أي : تمتعاً قليلاً ، أو : زماناً قليلاً في الدنيا ، وهو تهديد لذلك الضال المضل ، وبيان لحاله ومآله. {إِنك من أصحاب النار} أي : من ملازميها ،
243
والمعذَّبين فيها على الدوام ، وهو تعليل لقلة التمتُّع. وفيه من الإقناط من النجاة ما لا يخفى ، كأنه قيل : إذا أبيتَ قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن تؤمَر بتركه لتذوق عقوبته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 243
(6/371)
الإشارة : الصفة الممدوحة في الإنسان : أن يكون إذا مسَّه الضر التجأ إلى سيده ، مع الرضا والتسليم ، فإذا كشف عنه شكر الله وحمده ، ودام على شكره ، ونسب التأثير إلى الأسباب والعلل ، وهو صريح الآية. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 243
يقول الحق جلّ جلاله : {أمنْ هو قانتٌ} أي : مطيع ، قائم بواجب الطاعات ، دائم على أداء وظائف العبادات ، {آناء الليل} أي : في ساعات الليل ، حالتي السراء والضراء ، كمَن ليس كذلك ، بل إنما يفزع إلى الله في الضراء فقط ، فإذا كشف عنه نسي ما كان يدعو إليه من قبلُ ، وحذفه لدلالة ما قبله عليه. ومَن قرأ بالتشديد ، فـ " أم " إما متصلة ، حُذف مقابلها ، أي : أنت خير حالاً ومآلاً أم مَن هو قائم بوظائف العبادات ، أو : منقطعة ، والإضراب للانتقال من التهديد إلى التبكيت بالجواب الملجىء إلى الاعتراف بما بينهما ، كأنه قيل : أم مَن هو قانت أفضل ، أم مَن هو كافر مثلك ؟
حال كون القانت {ساجداً وقائماً} أي : جامعاً بين الوصفين المحمودين. وتقديم السجود على القيام ؛ لكونه أدخل في معنى العبادة. {يحْذَرُ الآخرةَ} أي : عذاب الآخرة ، حال أخرى ، أو : استئناف ، جواب عما نشأ من حكاية حاله من القنوت والسجود ، كأنه قيل : فما باله يفعل ذلك ؟ فقيل : يحذر الآخرة ، {ويرجو رحمةَ ربه} أي : الجنة ، فينجو بذلك مما يحذره ، ويفوز بما يرجوه ، كما ينبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية ، المنبئة عن التبليغ إلى الكمال ، مع الإضافة إلى ضمير الراجي.
(6/372)
ودلّت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء ، يرجو رحمته ، لا عمله ، ويحذر عقابه ؛ لتقصيره في عمله ، ثم الرجاء إذا جاوز حدّه يكون أمناً. والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياساً ، وقد قال تعالى : {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف : 99] ، و {لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87] فيجب ألا يجاوز أحدهما حدَّه ؛ بل يكون كالطائر بين جناحيه ، إلا في حالة المرض ، فيغلب الرجاء ، ليحسن ظنه بالله. ومذهب محققي الصوفية : تغليب الرجاء مطلقاً ، لهم ولعباد الله ؛ لغلبة حسن ظنهم بربهم.
والآية ، قيل : نزلت في عثمان رضي الله عنه كان يحيي الليل ، وقيل : في عمار
244
وأبي حذيفة ، وهي عامة لمَن سواهم.
{قُلْ هل يستوي الذين يعلمون} حقائق الأحوال ، فيعملون بموجب علمهم ، كالقانت المذكور ، {والذين لا يعلمون} شيئاً ؛ فيعملون بمقتضى جهلهم ، كدأب الكافر المتقدم. والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين في أعلى معارج الخير ، وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور ، بحيث لا يكاد يخفى على أحد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 244
قال النسفي : أي : يعلمون ويعملون به ، كأنه جعل مَن لا يعمل غير عالم ، وفيه ازدراءٌ عظيمٌ بالذين يقْتَنون ـ أي : يدخرون ـ العلوم ، ثم لا يَقْنُتون ، ويَتفننون فيها ، ثم يُفتنون بالدنيا ، فهم عند الله جهلة ، حيث جعل القانتين هم العلماء. أو : يريد به التشبيه ، أي : كما لا يستوي العالم والجاهل ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. هـ.
(6/373)
الإشارة : القنوت هو القيام بآداب الخدمة ، ظاهراً وباطناً ، من غير فتور ولا تقصير ، قاله القشيري. وهو على قسمين ، قنوت العارفين ، وهي عبادة القلوب ، كالفكرة والنظرة ، ساعة منها أفضل من عبادة سبعين سنة ، وثمرتها : التمكُّن من شهود الذات الأقدس ، عاجلاً وآجلاً ، وقنوت الصالحين ، وهي عبادة الجوارح ، كالركوع والسجود والتلاوة ، وغيرها من أعمال الجوارح ، وثمرتها نعيم الجنان بالحور والولدان ، مع الرضا والرضوان ، ورؤية وجه الرحمن.
رُوي عن قبيصة بن سفيان ، قال : رأيت سفيان الثوري في المنام بعد موته ، فقلت له : ما فعل الله بك ؟ فأنشأ يقول :
نظرتُ إِلَى ربِّي عِياناً فقال لي
هنيئاً رضائي عنك يا ابنَ سعيدِ>> لقد كنتَ قوَّاماً إذا الليلُ قد دَجا
بِعَبْرة محزونٍ وقلب عميدِ>> فدونك فاختر أيّ قصر تريدُه
وزرني فإني منك غيرُ بعيدِ
وكان شعبةُ ومِسْعَر رجلين صالحين ، وكانا من ثقة المحدِّثين ، فماتا ، قال أبو أحمد اليزيدي : فرأيتهما في المنام ، وكنتُ إلى شعبة أميل مني إلى مسعر ، فقلت لشعبة : يا أبا بسطام ؛ ما فعل الله بك ؟ فقال : يا بني احفظ ما أقول لك :
حَباني إلهي في الجِنان بقُبة
لها ألفُ باب من لجَيْن وجوهرا>> وقال لي الجبارُ : يا شعبة الذي
تبحَّر في جمع العلوم وأكثرا>> تمتعْ بقربي ، إنني عنك ذو رضا
وعن عبديَ القوَّام في الليل مِسعرا>> كفى مسعراً عزّاً بأنْ سيزورُني
وأكشفُ عن وجهي ويدنو لينظرا>> وهذا فَعالي بالذين تنسَّكوا
ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا
245
(6/374)
وقوله تعالى : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} أي : لا يستوي العالم بالله مع الجاهل به ، العالم يعبده على العيان ، والجاهل به في مقام الاستدلال والبرهان. العالم بالله يستدل بالله على غيره ، والجاهل به يستدل بالأشياء على الله ، وشتّان بين مَن يستدل به أو يستدل عليه ، المستدل به عرف الحق لأهله ، وأثبت الأمر من وجود أصله ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، كما في الحِكَم. العالم بالله من السابقين المقربين ، والجاهل به من عامة أهل اليمين ، ولو تبحّر في العلو الرسمية غاية التبحُّر. قال الورتجبي : وصف تعالى أحوال أهل الوجود والكشوفات ، المستأنسين به ، وبلذائذ خطابه ومناجاته ، وتحمّلوا من لطائف خطابه مكنونَ أسرار غيبه ، من العلوم الغريبة ، والأنباء العجيبة ، لذلك وصفهم بالعلم الإلهي ، الذي استفادوا من قُربه ووصاله ، وكشف جماله بقوله : {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} كيف يستوي الشاهد والغائب ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ . هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 244
قال القشيري : العلم المخلوق على ضربين : علم مجلوبٌ بكسب العبد ، وموهوبٌ من قِبَلِ الربِّ.. انظر تمامه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 244
قلت : {في هذه} : متعلق بأحسنوا ، أو : بحسنة ، على أنه بيان لمكانها ، أو : حال من ضميرها في الظرف.
يقول الحق جلّ جلاله : {قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربَّكم} بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحثّهم على التقوى ويُذكِّرهم بها ، بعد تخصيص التذكير بأولي الألباب ، إيذاناً بأن أُولي الألباب هم أهل التقوى ، وفي إضافتهم إلى ضمير الجلالة بقوله : {يا عبادي} تشريف لهم ، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به ، وهو التقوى.
(6/375)
ثم حرَّض على الامتثال بقوله : {للذين أحسنوا} أي : اتقوا الله وأطاعوه {في هذه الدنيا} الفانية ، التي هي مزرعة الآخرة. {حسنةٌ} أي : حسنةٌ عظيمة ، لا يُكتنه كُنهها ، وهي الجنة ونعيمها ، أو : للذين أحسنوا بالطاعة والإخلاص حسنة معجّلة في الدنيا ، وهي الصحة والعافية ، والحياة الطيبة ، أو : للذين أحسنوا ، أي : حصلوا مقام الإحسان ـ الذي عبّر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه " ـ حسنة كبيرة ، وهي لذة الشهود ، والأنس بالملك الودود في الدارين.
ولما كان هذا المقام لا يتأتى تحصيله إلا في بعض البلاد الخالية من الشواغل والموانع ، أمر بالهجرة من الأرض التي لا يتأتى فيها التفرُّغ ، فقال : {وأرضُ الله واسعةً} ،
246
فمَن تعسَّر عليه التفرُّغ للتقوى ، والإحسان وعمل القلوب ، في وطنه ، فليهاجر إلى بلد يتمكن فيه ذلك ، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء ، فإنه لا عذر له في التفريط والبطالة أصلاً.
ولمّا كان الخروج من الوطن صعباً على النفوس ، يحتاج إلى صبر كبير ؛ ورغَّب في الصبر بقوله : {إِنما يُوفى الصابرون} على مفارقة الأوطان ، وتحمُّل مشاق الطاعات ، وتحقيق الإحسان ، {أجْرَهم} في مقابلة ما كابدوه من الصبر ، {بغير حسابٍ} بحيث لا يحصى ولا يحصر ؛ بل يصب عليهم الأجر صبّاً ، فلهم ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
وعن ابن عباس رضي الله عنه : (لا يهدي إليه حساب الحسّاب ، ولا يُعرف) ، وفي الحديث : " أنه يُنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصيام والحج ، فيوفّون بها أجورهم ، ولا تنصب لأهل البلاء ؛ بل يُصب عليهم الأجر صبّاً ، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل " وكل ما يشق على النفس ويتعبها فهو بلاء ، والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 246
(6/376)
الإشارة : بالتقوى الكاملة يصير العبد من أُولي الألباب ، فبقدر ما تعظم التقوى يعظم إشراق النور في القلب ، ويتصفّى من الرذائل ، وقد تقدّم الكلام عليها مستوفياً عند قوله تعالى : {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} [النساء : 100] فمَن أحسن في تقواه أحسن الله عاقبته ومثواه ، وحفظه في دنياه وأخراه.
فمَن تعذّرت عليه التقوى في وطنه ، فليهاجر منه إلى غيره ، والهجرة سُنَّة نبوية ، وليتجرّع الصبر على مفارقة الأوطان ، ومهاجرة العشائر والإخوان ، لينخرط في سلك أهل الإحسان ، قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة : 100] الآية.
قال القشيري : الصبر : حَبْسُ النفس على ما تكره ، ويقال : تجرُّعُ كاسات التقدير ، من غير استكراهٍ ولا تعبيس ، ويقال : التهدُّف لسهام البلاء. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 246
247
يقول الحق جلّ جلاله : {قُل} لهم : {إِني أُمرتُ أن أعبدَ اللهَ} حال كوني {مخلصاً له الدينَ} من كل ما ينافيه من الشرك والرياء ، وما أمر به صلى الله عليه وسلم يُؤمر به أمته ؛ بل هم المقصودون. ثم قال : {وأمرتُ لأن أكون أول المسلمين} أي : وأُمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة ؛ لأن إحراز قصَبِ السبق في الدين بالإخلاص فيه ، فالإسلام الحقيقي هو المنعوت بالإخلاص ، والتقدير : أُمرت بالعبادة والإخلاص فيها ، وأُمرت بذلك لأن أكون أول المخلصين.
(6/377)
أو : تكون اللام زائدة ، وهو أظهر ، كقوله تعالى : {قُلْ إِنَّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنَ أَسْلَمَ} [الأنعام : 14] أي : من قومي ، أو : من أهل زماني ، أو : أكون أول مَن دعا غيره إلى ما دعا إليه نفسه ، وهو الإسلام ، وحاصله : أُمرت بإخلاص الدين ، وأُمرت أن أكون من السابقين في ذلك زماناً ورتبة ؛ لأنه داع إلى الإسلام ، والداعي إلى الشيء ينبغي أن يكون متحلياً به ، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء ، لا الملوك والمتجبرين.
{قل إِني أخافُ إِن عَصَيْتُ ربي} بترك الإخلاص ، والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك {عذابَ يومٍ عظيم} هو يوم القيامة. وُصف بالعظمة ؛ لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال.
{قُلِ اللهَ أعبدُ} لا غيره ، لا استقلالاً ولا اشتراكاً. وليس بتكرار ؛ لأن الأول إخبار عن كونه مأموراً بالإخلاص في الدين ، وبالسبق إليه ، وهذا إخبار بأنه امتثل الأمر ، وفعل ما أُمر به. وقدِّم المفعول لأنه جواب لقول الكفرة : أعْبُدْ ما نعبد ، لنعبُد ما تعبد ، فهو كقوله : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} [الكافرون : 6] أي : لا أعبد إلا الله {مخلصاً له ديني} من كل ما يشوبه من العلل ، فأمر صلى الله عليه وسلم أولاً ببيان كونه مأموراً بعبادة الله وإخلاص الدين له ، ثم بالإخبار بخوفه من العذاب على تقدير العصيان ، ثم بالإخبار بامتثالهِ لِمَا أمر به على أبلغ وجه ؛ إظهاراً لتصلُّبه في الدين ، وحسماً لمادة أطماعهم الفارغة ، وتمهيداً لتهديدهم بقوله : {فاعبدوا ما شئتم} أن تعبدوه {من دونه} تعالى. وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى ، كأنهم لَمَّا لَمْ ينتهوا عما نُهوا عنه أُمِرُوا به ، كي يحيق بهم العذاب.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 247
(6/378)
قلْ إِن الخاسرين} ؛ الكاملين في الخسران ، الذي هو عبارة عن : إضاعة ما يهمه ، وإتلاف ما لا بد منه ، هم {الذين خسروا أنفُسَهم} بتعريضها للعطب ، {وأهلِيِهِم} بتعريضهم للتفرُّق عنهم ، فرقاً لا جمع بعده ؛ إما في عذاب الأبد ، إن ماتوا على الكفر معهم ، أو : في الجنة ، إن آمنوا ، فلا يرونهم أبداً. وقيل : خسروا أهلهم ؛ لأنهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم أهل في الجنة ، أو : خسروا أهلهم الذين كانوا يتمتعون بهم ، لو آمنوا. {ألا ذلك هو الخسرانُ المبينُ} الذي لا خسران أظهر منه. وتصدير الجملة بحرف التنبيه ، والإشارة بذلك إلى بُعد منزلة المشار إليه في الشر. وتوسيط ضمير الفصل ،
248
وتعريف الخسران ، ووصفه بالمبين ؛ من الدلالة على كمال هوله وفظاعته ، وأنه لا خسران وراءه ، ما لا يخفى.
{لهم من فوقهم ظُلَلٌ من النار} أي : لهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض ، كائنة من النار ، {ومن تحتهم} أيضاً {ظُلَلٌ} أي : أطباق كثيرة ، بعضها تحت بعض ، هي ظلل لآخرين. {ذلك} العذاب الفظيع هو الذي {يُخوِّف اللهُ به عبادَه} ويُحذِّرهم إياه ؛ ليجتنبوا ما يوقعهم فيه. {يا عبادِ فاتقون} ولا تتعرضوا لِما يُوجب سخطي. وهذه موعظة من الله بالغة ، منطوية على غاية اللطف والرحمة ، جعلنا الله من أهلها بمنِّه وكرمه.
الإشارة : الإخلاص سر بين الله وبين عبده ، لا يطلع عليه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيُفسده ، وهو الغيبة عما سوى الله ، فلا يرى في الدارين إلا الله ، ولا يعتمد إلا عليه ، ولا يخاف إلا منه ، ولا يرجو إلا إياه. والإسلام هو : الانقياد بالجوارح في الظاهر للأحكام التكليفية ، والاستسلام في الباطن للأحكام القهرية التعريفية ، فالإسلام صورة ، والاستسلام روحها ، فالإسلام بلا استسلام جسد بلا روح.
(6/379)
وقوله تعالى : {فاعبدوا ما شئتم} هو تهديد لمَن عبدَ نفسه وهواه ، وهو الخسران المبين. ويقال : الخاسر : مَن خسر أيام عمره بالبطالة والتقصير ، وخسر آخرته بعدم التأهُّب والتشمير ، وخسر مولاه بعدم الوصول إلى مشاهدة حضرة العلي الكبير ، وهي حضرة الذات ، فمَن خسر هذا الخسران ، فقد أحاطت به نار القطيعة والحجاب من كل مكان. {ذلك يُخوِّف اللهُ بهِ عباده} قال القشيري : إن خفتَ اليوم كُفيت خوف ذلك اليوم ، وإلا فبين يديك عقبة كُؤُود.
جزء : 6 رقم الصفحة : 247
قلت : {أن يعبدوها} : بدل اشتمال من " الطاغوت " ، والطاغوت : فعلوت ، من الطغيان ، بتقديم اللام على العين ، وأصله : طغيوت ، ثم طيغوت ، ثم طاغوت.
يقول الحق جلّ جلاله : {والذين اجتنبوا الطاغوتَ} أي : البالغ أقصى غاية الطغيان ، وهو الشيطان {أن يعبدُوها} أي : اجتنبوا عبادة الطاغوت ، الذي هو الشيطان ، أو : كل ما عُبد من دون الله ، وكل مَن عَبَد غيرَ الله فإنما عَبَد الشيطان ؛ لأنه هو المزيّن لها ، والحامل عليها. {وأنابوا إِلى الله} أي : وأقبلوا إليه ، معرضين عما سواه ، إقبالاً كليّاً ، {لهم البُشرى} بالنعيم المقيم ، على ألسنة الرسل والملائكة ، عند حضور الموت ، وحين يُحشرون ، وبعد ذلك.
249
{فبشِّرْ عبادِ الذين يستمعون القولَ} أي : ما نزل من الوحي {فيتبعون أحسَنَه} ؛ أرجحه وأكثره ثواباً ، أو : أبْينه ، الذي هو ضد المتشابه. وهؤلاء هم الموصوفون باجتناب الطاغوت ، والإنابة إلى ربهم ، لكن وضع موضع ضميرهم الظاهر ؛ تشريفاً لهم بالإضافة ، ودلالةً على أن مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نُقاداً في الدين ، يُميِّزون الحق من الباطل ، ويُؤثرون الأفضل.
(6/380)
{أولئك} المنعوتون بتلك المحاسن الجميلة ؛ هم {الذين هداهُمُ الله} لدينه ، والإشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجليلة ، وما فيه من معنى البُعد ؛ للإيذان بعلو رتبهم ، وبُعد منزلتهم في الفضل. {وأولئك هم أولوا الألبابِ} أي : هم أصحاب العقول الصافية ، السليمة من معارضة الوهم ومنازعة الهوى ، المستحقون للهداية ، لا غيرهم.
وفيه دليل على أن الهداية تحصل بفضل الله تعالى ، لقوله : {هداهم الله} ، وقبول النفس لها ؛ لقوله : {هم أولوا الألباب}.
الإشارة : مذهب الصوفية : الأخذ بالعزائم ، والأرجح من كل شيء ، عقداً ، وقولاً ، وعملاً ، فأخذوا من العقائد مقام العيان ، ولم يقنعوا بالدليل والبرهان ، وأخذوا من الأقوال ألينها وأطيبها ، ويجمع ذلك : حسن الخلق مع كل مخلوق ، فآثروا العفو على القصاص ، والصفح على العتاب ، وغير ذلك من عزائم الشريعة على رخصها ، ومن الأذكار : أرجحها وأجمعها ، وهو الاسم المفرد ، الذي هو سلطان الأسماء ، ومن الأعمال : أعظمها وأرجحها ، وهو عمل القلوب ، الذي هو الذرة منه تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، كعبادة الفكرة والنظرة ، وفي الحديث : " تفكُّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة " ، فأوقاتهم كلها ليلة القدر ، وكالتخلُّق بمكارم الأخلاق ، كالرضا ، والتسليم ، والحلم ، والسخاء ، والكرم ، وغير ذلك من محاسن الخِلل ، الذي هو من عمل القلوب ، فهم الذين تحققت فيهم البشارة بقوله : {فبشِّر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}.
جزء : 6 رقم الصفحة : 249
وقال الورتجبي ـ بعد كلام : ويَتبع الكلام الأزلي ـ الذي هو الخطاب ـ بالفهم العجيب ، والعلم الغريب ، والإدراك الصافي ، وانفراد الحق عن المخلوق ، في المحبة ، والشوق ، والمعرفة ، والتوحيد ، والإخلاص ، والعبودية ، والربوبية ، والحرية ، فهذا أفضل وِرد بالبديهة ، من حيث ظهور الأنباء العجيبة ، والروح القدسية ، والإلهامات الربانية..
250
(6/381)
انظر بقية كلامه. وقال القشيري : الاستماع يكون لكل شيء ، والاتباع يكون للأحسن. ثم قال : مَن عرف الله لا يسمع إلا بالله. هـ. {أولئك الذين هداهم الله} إلى صريح معرفته العيانية. {وأولئك هم أولوا الألباب} ، ولب الشيء : قلبه وخصاله ، فقلوبهم خالصة لمولاهم ، وأرواحهم متنعمة بشهود حبيبها ، وأسرارهم متنزهة في رياض ملكوت سيدها. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 249
قلت : {مَن} : شرطية ، دخل عليها همزة الإنكار ، والفاء عاطفة على جملة محذوفة ؛ ليتعلق الإنكار والنفي بمضمونها معاً ، أي : أنت مالك أمر الناس ، فمَنْ حَقَّ علية كلمة العذاب أفأنت تُنقذه ، ثم كررت الهمزة في الجزاء ؛ لتأكيد الإنكار ، وتكريره ، لَمّا طال الكلام ، ثم وضع موضع الضمير " مَن في النار " ؛ لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد ، والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار ، ويجوز أن يكون الجزاء محذوفاً ، دلّ عليه : {أفأنت تُنقذ}... الخ ، أي : أفمن حقَّ عليه العذاب تنقذه أنت.
يقول الحق جلّ جلاله : {أفمن حقّ عليه كلمةُ العذاب}. وهم عبَدَة الطاغوت ومتبعو خطواتها ، كما يلُوح إليه التعبير عنهم بـ " مَن حق عليه كلمة العذاب " ، فإن المراد بها قوله تعالى لإبليس : {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص : 85] ، وقوله تعالى : {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف : 18] أي : أفمن حقّت عليه كلمة الشقاء ، تقدر أن تهديه وتُنقذه من الكفر ، الذي هو سبب النار ؟ أو : تقول : المحكوم عليه بالنار بمنزلة الداخل فيها ، فاجتهاده صلى الله عليه وسلم في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار بعد الدخول فيها ، وهو لا يفيد. فالمراد : تسكينه صلى الله عليه وسلم وتفريغه من الحرص عليهم.
(6/382)
الإشارة : مَن سبق له الإبعاد لا يفيده الكد والاجتهاد ، ومَن أسدل بينه وبينه الحجاب ، لا يفيده إلا الوقوف بالباب ، حتى يحنّ الكريمُ الوهاب ، فإنّ العواقب في هذه الدر مبهمة ، والأعمال بالخواتم. قال القشيري : والذين حقت عليهم كلمةُ العذاب ، فإنهم اليوم اليوم لا يخرجون من حجاب قلوبهم. هـ. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان المراد بقوله : {أفأنت تُنقذ مَن في النار} هم الذين قيل في حقهم : {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر : 16] استدرك عنهم أهل التقى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 250
251
يقول الحق جلّ جلاله : {لكِنِ الذين اتقوا ربَّهم} ، وهم الذين وصفوا بقوله تعالى : {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر : 16] ، ووُصفوا بالاجتناب والإنابة ، وحصل لهم البُشرى ، حيث استمعوا وتبعوا أحسن القول ، وهم المخاطبون أيضاً بقوله : {يَا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر : 10]... الآية.
فبيَّن هنا أن لهم درجات عالية في جنات النعيم ، في مقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم ، فهي في مقابلة قوله لهم : {من فوقهم ظُلل من النار ومن تحتهم ظُلل} في حق الكفار ، أي : لكن أهل التقى لهم عَلالِي ، بعضها فوق بعض {مبنيةٌ} بناء المنازل المؤسسة على الأرض في الرصانة والإحكام. {تجري من تحتها} أي : من تحت تلك الغرف {الأنهارُ} من غير تفاوت بين العلو والسفل. {وَعْدَ اللهِ} أي : وعد الله ذلك وعداً ، فهو مصدر مؤكد لقوله : {لهم غُرف} فإنه في قوة الوعد. {لا يُخلف الله الميعاد} لاستحالته عليه سبحانه.
(6/383)
الإشارة : مَن اتقى الله فيما أمر ونهى ، كانت له درجات حسية ، مبنية من الذهب والفضة ، يترقَّى فيها على قدر عمله وتقواه. ومَن اتقى ما يشغل عن الله من جنس الكائنات ، كانت له درجات ومقامات معنوية ، قُربية اصطفائية ، يرتقي فيها بقدر تقواه وسعيه إلى مولاه ، وعد الله لا يُخلف الله الميعاد. قال القشيري : وَعَدَ المطيعين الجنة ـ ولا محالة ـ لا يُخلفه ، ووَعَدَ المذنبين المغفرة ، ولا محالة ـ يغفر لهم ، ووَعَدَ المريدين القاصدين بالوصول ، فإذا لم تقع لهم فترة ؛ فلا محالةَ يَصدقُ وَعْده. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 251
يقول الحق جلّ جلاله : {ألم تَرَ} أيها السامع {أن الله أنزلَ من السماء ماءً} هو المطر ، وقيل : كل ماء في الأرض فهو من السماء ، ينزل منها إلى الصخرة ، فيقسمه الله تعالى بين البقاع. {فسَلَكَهُ} : أدخله ونظمه {ينابيعَ في الأرض} أي : عيوناً ومجاري في الأرض ، كجري الدماء في العروق في الأجساد : أو : مياهاً نابعة في ظهرها ، فإن الينبوع يطلق على المنبع والنابع. فنصب " ينابيع " على الحال ، على القول الثاني ، وعلى نزع الخافض ، على الأول.
{ثم يُخرِجُ به زرعاً مختلفاً ألوانه} : أصنافه ، من بُر وشعير وغيرهما ، أو : كيفياته من الألوان ، كالصفرة والخضرة والحمرة ، والطعوم وغيرهما. و {ثم} : للتراخي في الرتبة والزمان ، وصيغة المضارع : لاستحضار الصورة البديعة ، {ثم يهيجُ} أي : يتم جفافه ،
252
ويشرف على أن يثور من منابته ، ويستقل على وجه الأرض ، ساتراً لها ، {فتراه مُصفراً} من بعد خضرته ونَضرته. {ثم يجعله حطاماً} ، فُتاتاً متكسرة ، كأن لم يغنَ بالأمس ، فمَن قدر على هذا قدر على إنشاء الخلق بعد فنائهم ومجازاتهم.
(6/384)
وقيل : المراد من الآية : تمثيل الحياة الدنيا ، في سرعة الزوال ، وقُرب الاضمحلال ، بما ذكر من أحوال الزرع ، ترغيباً عن زخارفها وزينتها ، وتحذيراً من الاغترار بمَن سُرّ بها ، كما في قوله تعالى : {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ} [يونس : 24]... الآية ، وقيل : للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغُرف ، بما يشاهد من إنزال المياه من السماء ، وما يترتب عليه من آثار قدرته تعالى ، وإحكام حكمته ورحمته.
{إِن في ذلك} أي : ما ذكر تفصيلاً من إنزال الماء وما نشأ عنه. {لذِكْرى} : لتذكيراً عظيماً {لأُولي الألباب} : لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الهوى ، فيتذكرون بذلك أن الحياة الدنيا في سرعة التقضي والانصرام ، كما يشاهدونه من حال الحكام كل عام ، فلا يغترُّون ببهجتها ، ولا يُفتنون بفتنتها ، أو : يجزمون بأن مَن قدر على إنزال الماء من السماء ، وإجرائه في ينابيع الأرض ، قادر على إجراء الأنهار من تحت الغُرف. وأما ما قيل : من أنه استدلال على وجود الصانع ؛ فلا يليق ؛ لأن هذه الأفعال الجليلة ذُكرت مسندة إلى الله تعالى ؛ وإنما يليق الاستدلال بها على وجود الصانع لو ذُكرت غير مسندة إلى مؤثر ، فتَعَيّن أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤونه تعالى وشؤون آثاره ، كما بيَّن ، لا وجوده تعالى. قاله أبو السعود.
جزء : 6 رقم الصفحة : 252
الإشارة : قال القشيري : والإشارة في هذا أن الإنسان يكون طفلاً ، ثم شابًّا ، ثم كهلاً ، ثم شيخاً ، ثم يصير إلى أرذل العمر ، ثم إلى آخره يُخترم ، ويقال : إن الزرع ما لم يأخذْ في الجفاف لا يُؤخذ منه الحَبُّ ، الذي هو المقصود منه ، كذلك الإنسان ما لم يخل من نفسه وحَوْلِه لا يكون له قَدْرٌ ولا قيمةٌ. قلت : يعني أنه ما لم يمحص نفسه ، وينهكها في التقرُّب إلى مولاه ، لا قيمة له.
(6/385)
ثم قال : ويقال : إن المؤمن بقوة عقله يوجبُ استقلاله بعمله إلا أن يبرُز منه كمالٌ يُمكِّنه من وفارة بصيرته ، ثم إذا بدت لائحةٌ من سلطان المعارف تصير تلك الأبواب مغمورة ، فإذا بَدَتْ أنوارُ التوحيد استهلكت تلك الجملة كذلك ، وأنشدوا :
فلمَّا استبان الصبحُ أدرج ضوءُه
بأنواره أنوارَ ضوء الكواكبِ
قلت : استقلال العبد بعمله هو مثل بروز الزرع من منبته ، ووفُورِ بصيرته هو إخراج حبه في سنبله ، وبدو لائحة من سلطان المعارف هو اصفراره ، وظهور أنوار التوحيد التي تفني وجوده وتغمره في وجود الحق هو صيرورتها حطاماً.
253
جزء : 6 رقم الصفحة : 252
قلت : الهمزة للإنكار ، و {من} : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : كمَن ليس كذلك.
يقول الحق جلّ جلاله : {أفمَنْ شرحَ الله صَدْرَه} أي : وسَّعه وهيَّأه {للإسلام} حتى قَبِله وفرح به ، واستضاء بنوره ، {فهو على نورٍ} عظيم {من ربه} ، وبصيرة في دينه ، وهذا النور : هو اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية ، والتوفيق للاهتداء بها ، أو : بمحض الإلهام من الجود والكرم ، فيقذف في قلبه نور اليقين ، بلا سبب ، أو : بصحبة أهل النور ، هل يكون هذا كمَن قسا قلبه ، وحرج صدره ، واستولى عليه ظلمة الغي والضلالة ، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية ؟ !
ولما نزلت هذه الآية سئل صلى الله عليه وسلم عن الشرح المذكور ، فقال : " نور يقذفه الله في القلب ، فإذا دخل النور القلب انشرح وانفسح " قيل : وهل لذلك علامة ؟ قال : " نعم التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله ". {فويلٌ للقاسيةِ قلوبهم} : أي الصلبة اليابسة {مِن ذكر الله} أي : من أجل ذكره ، الذي من حقه أن ينشرح له الصدر ، وتلين له النفس ، ويطمئن به القلب ، وهؤلاء إذا ذكر الله عندهم اشمأزوا من أجله ، وازدادت قلوبهم قساوة.
(6/386)
قال الفخر : اعلم أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية ، وزيادة الاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ، وقد يوجب القسوة والبُعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية ، فإذا عرفتَ هذا ، فنقول : رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورتبتها : هو ذكر الله ، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله سبباً لازدياد مرضها ، كان مرض تلك النفوس مرضاً لا يرجى زواله ، ولا يُتوقع علاجه ، وكانت في نهاية الشر والرداءة ، فلهذا المعنى قال تعالى : {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} وهذا كلام محقق. هـ. وهو كما قيل في الجُعَل أنها تتضرر برياح الورد ، أي : وتنتعش بالشين. فكل مَن يفر من ذكر الله ، ويثقل عليه ، فقلبه جُعَل. ذكره في الحاشية.
{أولئك في ضلال مبين} أي : أولئك ، البُعَداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب في ضلال بعيد من الحق ، ظاهر ضلاله لكل أحد. قيل : نزلت الآية في حمزة وعليّ رضي الله عنهما وأبي لهب وولده ، وقيل : في عمّار وأبي جهل. والحق : إنها عامة.
254
الإشارة : مَن أراد الله به السعادة شَرَح صدرَه للإسلام ، فقَبِله وعمل عمله ، ومَن أراد به جذب العناية وتحقيق الولاية ، شرح صدره لطريق أهل مقام الإحسان ، فدخل في طريقهم ، وهيّأ نفسه لصُحبتهم وخدمتهم ، فما زال يقطعون به مهامه النفوس حتى يقولون له : ها أنت وربك ، فتلوح له الأنوار ، وتُشرق عليه شموس المعارف والأسرار ، حتى يفنى ويبقى بالله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 254
(6/387)
قال القشيري : والنورُ الذي من قِبَله تعالى نورُ اللوائح بتحقق العلم ، ثم نورُ اللوامع بثبات الفهم ، ثم نورُ المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات ، ثم نور المشاهدة بظهور الذات ، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد ، وعند ذلك فلا وجد ولا فقد ، ولا بُعد ولا قُرب ، كلا ، بل هو الله الواحد القهّار. هـ. فمَن لم يبلغ هذا لا يخلو قلبه من قساوة ، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ، أولئك في ضلال مبين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 254
قلت : {كتاباً} : بدل من {أحسن} ، أو : حال ، لوصفه بقوله : {متشابهاً}. و {مثاني} : صفة أخرى لكتابِ ، أو : حال أخرى منه ، أو : تمييز من " متشابهاً " ، كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائلَ ، أي : شمائله ، والمعنى : متشابهة مثانيه. و {تقشعر} : الأظهر أنه استئناف ، وقيل : صفة لكتاب ، أو : حال منه.
يقول الحق جلّ جلاله : {اللهُ نزَّل أحسنَ الحديثِ} وهو القرآن ؛ إذ لا حديث أحسن منه ، لا تمله القلوب ، وتسأمه الأسماع ؛ بل تِرداده يزيده تجمُّلاً وطراوة وتكثير حلاوة. رُوي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلُّوا ملةً ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : حدثنا حديثاً ، فنزلت. والمعنى : أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث.
وفي إيقاع اسم الجلالة مبتدأ ، وبناءِ " نزّل " عليه ، من تفخيم أحسن الحديث ، ورفع محله ، والاستشهاد على حسنه ، وتأكيد إسناده إليه تعالى ، وأنه من عنده ، لا يمكن صدوره من غيره ، والتنبيه على أنه وحي معجز ، ما لا يخفى.
حال كونه {كتاباً مُتشابهاً} أي : يُشبه بعضُه بعضاً في الإعجاز والبلاغة ، أو : تشابهت معانيه بالصحة ، والإحكام ، والابتناء على الحق والصدق ، واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش ، وتناسب ألفاظه وجُمَلِه في الفصاحة والبلاغة ، وتجاوب نظمه في
255
(6/388)
الإعجاز. {مَّثَانِيَ} : جمع مثنى ، أي : مكرر ، ومردد ، لما ثنى من قصصه ، وأنبائه ، وأحكامه ، وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، ووعظه. وقيل : لأنه يثنّى في التلاوة ، ويُكرر مرة بعد أخرى. قال القشيري : ويشتمل على نوعي الثناء عليه ، بذكر سلطانه وإحسانه ، وصفة الجنة والنار ، والوعد والوعيد. هـ.
{تَقْشَعِرُّ منه جُلودُ الذين يخشون ربهم} أي : ترتعد وتنقبض ، والاقشعرار : التقبُّض ، يقال : اقشعرّ الجلد : إذا انقبض ، ويقال : اقشعر جلده ووقف شعره : إذا عرض له خوف شديد ، من منكر هائل دهمه بغتة. والمعنى : أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارعه وزواجره ، أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منه جلودهم ، وإذا ذكروا رحمة الله تعالى تبدلت خشيتهم رجاءً ، ورهبتهم رغبةً ، وذلك قوله تعالى : {ثم تَلينُ جُلودُهم وقلوبُهم إِلى ذكرِ الله} أي : ساكنة مطمئنة إلى ذكر الله.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 255
ذلك} أي : الكتاب الذي شُرِح أحواله {هُدَى اللهِ يهدي به مَن يشاءُ} أن يهديه ، بصرف مجهوده إلى سبب الاهتداء به ، أو بتأمله فيما في تضاعيفه من شواهد الحقيقة ، ودلائل كونه من عند الله. {ومَن يُضللِ اللهُ} أي : يخلق فيه الضلالة ، بصرف قدرته إلى مبادئها ، وإعراضه عما يرشد إلى الحق بالكلية ، وعدم تأثُّره بوعده ووعيده ، أو : مَن يخذله {فما له من هَادٍ} يُخلصه من ورطة الضلال. أو : ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء هو أثر هدى الله ، يهدي لذلك الأثر مَن يشاء من عباده ، {ومَن يُضلل} أي : ومَن لم يؤثر فيه لطفه وهدايته ؛ لقسوة قلبه ، وإصراره على فجوره {فما له من هادٍ} : من مؤثر فيه بشيء قط. الإشارة : أول ما يظهر الفتح على قلب العبد في فَهْم كتاب الله ، والتمتُّع بحلاوة تلاوته ، ثم ينتقل إلى الاستغراق في ذكره باللسان ، ثم بالقلب ، ثم إلى الفكرة ، ثم العكوف في الحضرة ، إن وجد مَن يربيه وينقله عن هذه المقامات ، وإلا بقي في مقامه الأول.
(6/389)
وقال الطيبي : مَن أراد الله أن يهديه بالقرآن ، أوقع في قلبه الخشية ، كقوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة : 2] ثم يتأثر منه ظاهراً ، بأن تأخذه في بدء الحال قشعريرة ؛ لضعفه ، وقوة سطوة الوارد ، فإذا أدمن على سماعه ، وأَلِفَ أنواره ، يطمئن ويلين ويسكن. هـ. قلت : وعن هذا عبّر الصدّيق بقوله حين رأى قوماً يبكون عند سماعه : (كذلك كنا ثم قست القلوب) أي : صلبت وقويت على حمل الواردات.
وقال الورتجبي : سماع المريدين بإظهار الحال عليهم ، وسماع العارفين بالطمأنينة والسكون. هـ. وقال على قوله : {متشابهاً} : إنه أخبر عن كلية الذات والصفات ، التي منبعهما أصل القدم ، وصفاته كذاته ، وذاته كصفاته ، وكل صفة كصفة أخرى ، من حيث التنزيه والقدس والتقديس ، والكلام بنفسه متشابه المعاني. هـ. يعني : إنما كان القرآن
256
متشابهاً ؛ لأنه أخبر عن كلية الذات والصفات القديمين ، والذات لها شبه بالصفات من حيث اللطافة ، والصفات تشبه بعضها بعضاً في الدلالة على التنزيه والكمال ، أي : كتاباً دالاًّ على كلية الذات المشابهة للصفات. وهذا حملٌ بعيد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 255
قلت : {وقيل} : عطف على " يتقي " ، أو : حال من ضمير " يتقي " ، بإضمار " قد ".
يقول الحق جلّ جلاله : {أفمَنْ يتقي بوجهِهِ} الذي هو أشرف أعضائه {سوء العذاب} أي : العذاب السيىء الشديد {يومَ القيامة} كمَن ليس كذلك ، بل هو آمن ، لا يعتريه مكروه ، ولا يحتاج إلى اتقاء ، بوجه من الوجوه ، وإنما كان يتقي النارَ بوجهه ؛ لكون يده التي كان يتقي بها المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه. قال القشيري : قيل : إن الكافر يُلقى في النار ، فيلقاها أولاً بوجهه ؛ لأنه يُرمَى فيها منكوساً ؛ فأما المؤمن المُوقَّى ذلك ؛ فهو المُلقَّى بالكرامة ، فوجهُهُ ضاحكٌ مُسْتَبْشرٌ. هـ.
(6/390)
{وقيل للظالمين} : يقال لهم من جهة خزنة النار. وصيغة الماضي للدلالة على التحقُّق. ووضع المظهر في مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم ، والإشعار بعلة الأمر في قوله : {ذُوقوا ما كنتم تكسبون} أي : وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا ، من الظلم بالكفر والمعاصي.
{كذَّبَ الذين مِن قبلهم} من الأمم السالفة ، {فأتَاهمُ العذابُ} المقرر لكل أمة {من حيث لا يشعرون} من الجهة التي لا يحتسبون ، ولا يخطر ببالهم إتيان الشر منها. {فأذاقهم اللهُ الخزيَ} أي : الذل والصغار {في الحياة الدنيا} ، كالمسخ ، والخسف ، والقتل ، والأسر ، والإجلاء ، وغير ذلك من فنون النكال ، {ولعذابُ الآخرة} المعد لهم {أكبرُ} ؛ لشدته ودوامه {لو كانوا يعلمون} أي : لو كان من شأنهم أن يعلموا شيئاً لعلموا ذلك واعتبروا به.
والآية ، يحتمل أن تكون تهديداً لقريش ، فالضمير في {قَبْلِهم} يعود إليهم ؛ لأن قوله : {ومَن يُضلل الله}... إلخ تعرض بمَن أعرض عن كتابه من كفار قريش. وقال أبو السعود : هو استئناف ، مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب ، إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي. هـ.
الإشارة : الوجه هو أشرفُ الأعضاء وإِمَامُها ، فإن كانت في الباطن بهجة المحبة ، أو
257
سيما المعرفة ، ظهرت عليه ، فيتنورُ ويبتهج ، وإن كانت ظلمة المعاصي ، أو كآبة الحجاب ، ظهرت عليه ، وإن كانت غيبة في الحق أو سكرة ، كان هو أول ما يغيب من الإنسان ويغرق ، ثم تغيب البشرية في البحر المحيط ، وهو بحر الأحدية. وقوله تعالى : {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} ، قال القشيري : أشدُّ العذاب ما يكون بغتةً ، كما أن أتمَّ السرور ما يكون فلتةً. وفي الهجران والفراق والشدة ما يكون بغتةً غير متوقعة ، وهو أنكى للفؤاد ، وأشدُّ في التأثير ، وأوجعه للقلوب ، وفي معناه أنشدوا :
جزء : 6 رقم الصفحة : 257
فَبِتَّ بخيرٍ والدُّنى مطمئنةٌ
فأصبحتَ يوماً والزمانُ تقَلُّبَا
(6/391)
وأتمُّ السرور وأعظمه تأثيراً ما يكون فجأة ، حتى قال بعضهم : أشد السرور غفلة على غفلة ، وأنشدوا :
بينما خاطرُ المُنى بالتلاقي
سابحٌ في فؤاده وفؤادي>> جمَعَ اللهُ بيننا فالتقيْنا
هكذا بغتةً بلا ميعاد
جزء : 6 رقم الصفحة : 257
قلت : قرآناً : حال مؤكدة من " هذا " ، على أن مدار التأكيد هو الوصف ، كقولك : جاءني زيد رجلاً صالحاً.
يقول الحق جلّ جلاله : {ولقد ضَرَبْنَا} أي : وضحنا {للناس في هذا القرآنِ من كل مَثَل} : يحتاج إليه الناظر في أمر دينه ، {لعلهم يتذكرون} أي : كي يتذكروا به ويتعظوا ، حال كونه {قرآناً عربياً} ؛ لتفهموا معانيه بسرعة ، {غيرَ ذي عوجٍ} : لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه ، فهو أبلغ من المستقيم ، وأخص بالمعاني : وقيل : المراد بالعوج : الشك. {لعلهم يتقون} ما يضرهم في معادهم ومعاشهم.
الإشارة : قد بيَّن الله في القرآن ما يحتاج إليه المريد في سلوكه وجذبه ، وسيره ووصوله ، من بيان الشرائع وإظهار الطرائق ، وتبيين الحقائق. قال تعالى : {مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شَىْءٍ} [الأنعام : 38] لكن لا يغوص على هذا إلا الجهابذة من البحرية الذين غاصوا بأسرارهم في بحر الأحدية ، وتغلغلوا في العلوم اللدنية ، ومَن لم يبلغ هذا المقام يصحب مَن يبلغه ، حتى يوصله إلى ربه ، ولا يكون الوصول إلا بقلب مفردٍ ، غير مشترك.
258
جزء : 6 رقم الصفحة : 258
قلت : {مثلاً} : مفعول ثان لضرب ، و {رجلاً} : مفعول أول ، وأُخِّرَ للتشويق إليه ليصل بما وصف به ، وقيل : بدل من " مثلاً " ، و {فيه} : خبر ، و " شركاء " : مبتدأ ، والجملة : صفة لرجل ، و " مثلاً " : تمييز.
(6/392)
يقول الحق جلّ جلاله : {ضَرَبَ اللهُ مثلاً} للمشرك والموحد ، {رجلاً فيه شركاءُ مُتَشَاكِسُون} : مختلفون متخاصمون عسيرون ، وهو المشرك ، {ورجلاً سلماً} أي : خالصاً {لرجل} فرد ، ليس لغيره عليه سبيل. والمعنى : جعل الله مثلاً للمشرك حسبما يقوده إليه مذهبه ، من ادعاء كل من معبوديه عبوديتَه ، عبداً يتشارك فيه جماعة ، يتجاذبونه في مهماته المتباينة في تحيُّره وتعبه ، ومثلاً آخر للموحّد ، وهو عبد خالص لرجل واحد ؛ فإنه يكون عند سيده أحظى ، وبه أرفق.
{هل يستويان مثلاً} : إنكار واستبعاد لاستوائهما ، وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور ، بحيث لا يقدر أحد أن يتفوّه باستوائهما ؛ ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين ، والآخر في أسفل سافلين.
وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون {سَلَماً} بفتحتين ، وهو مصدر ، من : سلم له كذا : إذا خلُص ، نُعت به للمبالغة ، فالقراءتان متفقتان معنى. والمراد من المثَل : تصوير استراحة الموحد وانجماعِه على معبوده ، وتعب المشرك وتشتيت باله ، وخصوصاً مع فرض التعاكس من الشركاء ، فيصير متحيراً ، وفي عنت كبير من الجمع بين أغراضهم ، بل ربما يتعذر ذلك ويستحيل ؛ للتضاد في الأغراض والتناقض ، مع فرض التخالف والتنازع بينهم ، واعتبر ذلك بحال الوالدين ، إذا اختلفا على الولد ، فإنه يعسر إرضاؤهُما إلا بمشقة واحتيال ، وكذلك عابد الأوثان ؛ فإنه معذَّب الفكر بها ، وبحراسة حاله منها ، ومتى توهم أنه أرضى واحداً في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر ، فهو أبداً في تعب وضلال ، وكذلك هو المصانع للناس ، الممتحن بخدمة الملوك. قاله ابن عطية.
والحاصل : أن إرضاء الواحد أسهل وأيسر من إرضاء الجماعة.
(6/393)
{الحمد لله} على عدم استوائهما. قال الطيبي : ثم إذا لزمتهم الحجة قل : الحمد لله ، شكراً على ما أولاك من النصرة ، وقهر الأعداء بالحجج الساطعة. وفيه تنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية ، وعلو الرتبة ، بتوفيق الله تعالى ، وأنه مِنَّة جليلة ، موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته ، أو : حيث ضرب لهم المثل الأعلى ، وللمشركين المثال السوء ، فهذا صنع جميل ، ولُطف تام ، مستوجب لحمده وشكره ؛ {بل أكثرُهُم} أي : المشركون {لا يعلمون} ذلك ، مع كمال ظهوره ، فيقعون في ورطة الشرك
259
والضلال ، وهو انتقال من بيان الاستواء على الوجه المذكور ، إلى بيان عدم علمهم ذلك ، مع غاية ظهوره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 259
ثم ذكر المحل الذي يظهر فيه عدم استوائهما عياناً ، وهو ما بعد الموت ، فقال : {إِنك مَيِّت وإِنهم ميتون} ، فتجتمعون عندنا ، فنحكم بينكم. وقيل : كانوا يتربّصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته ، أي : إنكم جميعاً بصدد الموت ، {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تَخْتصمون}. فتحتجّ عليهم بأنك بلّغت الرسالة ، واجتهدت في الدعوة ، فتلزمهم الحجة ؛ لأنهم قد لجُّوا في العناد ، فإذا اعتذروا بتقليد آبائهم لم يُقبل عذرهم. وقيل : المراد : الاختصام فيما دار بينهم في الدنيا. والأول أنسب.
الإشارة : لا يستوي القلب المشترك مع القلب المفرد الخالص لله ، القلب المشترك تفرّقت همومه ، وتشتت أنواره ، بتشتيت شواغِله وعلائقه ، وتفرّقت محبته ، بتفرُّق أهوائه وحظوظه ، والقلب المفرد اجتمعت محبته ، وتوفرت أنواره وأسراره بقدر تفرُّغه من شواغله وعلائقه. وفي الحِكَم : " كما لا يحب العمل المشترك ، لا يحب القلب المشترك ، العمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشترك لا يُقبل عليه ". وقال أيضاً : " فرِّغ قلبك من الأغيار تملؤه بالمعارف والأسرار ".
(6/394)
وقيل : للجنيد : كيف السبيل إلى الوصول ؟ فقال : بتوبة تزيل الإصرار ، وخوف يقطع التسويف ، ورجاء يبعث على مسالك العمل ، وبإهانة النفس ، بقربها من الأجل ، وبُعدها من الأمل. قيل له : وبمَ يتوصل إلى هذا ؟ فقال : بقلب مفرد ، فيه توحيد مجرد. هـ.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَن جعل الهموم هَمّاً واحداً ـ أي : وهو الله ـ كفاه اللهُ همَّ دنياه ، ومَن تشعبت به الهمومُ لم يُبالِ اللهُ به في أيِّ أوديةِ الدنيا هَلَكَ " وقال صلى الله عليه وسلم : " مَن كانت الدنيا هَمَّهُ فرّق الله عليه أمره ، وجعل فقرَه بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُسم له ، ومَن كانت الآخرة نيته ، جمع الله عليه أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي صاغرة " ومَن كان الله همُّه بفنائه فيه ؛ جمع الله عليه سره ، وأغناه به عما سواه ، وخدمه الوجود بأسره ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شَهِدت المكون كانت الأكوانُ معك ". والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 259
يقول الحق جلّ جلاله : {فمَن أظلمُ ممن كَذَبَ على الله} بأن أضاف إليه الشريك والولد ، فإنه لا أحد أظلم منه ؛ إذ هو أظلم من كل ظالم. {وكذَّب بالصِّدق} أي : الأمر الذي هو نفس الصدق وعين الحق ، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله {إِذْ جاءه} أي : كذَّب في أول مجيئه ، من غير تأمُّل فيه ولا تدبُّر ، {أليس في جهنم مَثْوىً للكافرين} ؟ أي : لهؤلاء الذين افتروا على الله ، وسارعوا إلى التكذيب بالصدق ، فأظهر موضع الإضمار تسجيلاً وإيذاناً بعلة الحكم الذي استحقوا به جهنم ، والجمع باعتبار معنى {مَن}. كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار لفظها ، أو : لجنس الكفرة ، وهم داخلون في الكفر دخولاً أولياً.
(6/395)
{والذي جاء بالصدقِ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {وصدَّق به} : وهم المؤمنون ، أي : والفوج ، أو : الفريق الذي جاء بالصدق ، والفريق الذي صدّق به. {أولئك هم المتقون} : المنعوتون بالتقى ، التي هي أجلّ الرغائب.
وقرىء " صَدَقَ " بالتخفيف ، أي : صدق به الناس ، فأدَّاه إليهم كما أنزل عليه ، من غير تغيير ، وقيل : صار صادقاً بسببه ؛ لأن ما جاء به من القرآن معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم.
{لهم ما يشاؤون عند ربهم} : هو بيان لِما لهم في الآخرة من حسن المآب ، بعد بيان ما لهم في الدنيا من محاسن الأعمال ، أي : لهم ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار ، وتوالي المسار في الآخرة ، لا في الجنة فقط ؛ لأن بعض ما يشاؤون يقع قبل دخول الجنة ، من تكفير السيئات ، والأمن من الفزع الأكبر ، وسائر أهوال القيامة. {ذلك} الذي ذكر من حصول كل ما يشاؤونه {جزاءُ المحسنين} أي : الذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا.
{لِيُكَفِّر الله عنهم أَسْوَأَ الذي عَمِلُوا} ، اللام متعلق بقوله : {لهم ما يشاؤون} ؛ لأنه في معنى الوعد ، كأنه قيل : وعد الله لهم جميع ما يشاؤونه من دفع المضار وحصول المسار ؛ ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا ، أي : أقبحه وأعظمه ، وأولى أصغره. وقيل : يتعلق بمحذوف ، أي : يسر لهم الصدق والتصديق ليكفر... إلخ. {ويجْزِيَهم أجْرَهُم بأحسنِ الذي كانوا يعملون} فإذا كان في عملهم حسن وأحسنُ منه ، جزاهم بجزاء الأحسن على الجميع ، تكرُّماً منه وإحساناً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 260
والحاصل : أنه سبحانه لكرمه يُكفر السيىء والأسوأ بالأحروية ، ويجزي على الحسن بجزاء الأحسن منه والأرجح ، كمَن أهدى لملك هديتين ؛ صغيرة وكبيرة ، فكافأه على
261
الصغيرة بقدر ما كافأه على الكبيرة. قال القشيري : وأحسن أعمال المؤمن : الإيمان والمعرفة ، فيكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب ، وهو الرؤية. هـ.
(6/396)
وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار ، لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام ، والجمع بين الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني ـ أي : الذي كانوا يعملون ـ دون الأول ؛ للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة ، بخلاف السيئة. الإشارة : كل مَن ادعى حالاً مع الله ، وليست متحققة فيه ، فقد كذب على الله ، وكل مَن أنكرعلى أولياء زمانه فقد كذّب بالصدق إذ جاءه. {والذي جاء بالصدق} ، وهو مَن أَذِن له في التذكير أو التربية. {وصدّق به} ، وهو مَن سمع وتبع ، أولئك هم المتقون ، دون غيرهم ، لهم ما يتمنون عند ربهم في الدنيا والآخرة ، ذلك جزاء أهل مقام الإحسان ، الذين يعبدونه على العيان ، يُغطي وصفهم بوصفه ، ونعتهم بنعته ، فيوصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه ، ثم يكفيهم جميع الشرور.
جزء : 6 رقم الصفحة : 260
يقول الحق جلّ جلاله : {أليس اللهُ بكافٍ عَبْدَه} أي : نبيه صلى الله عليه وسلم. نزلت تقوية لقلبه عليه السلام ، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه ، أو : جنس العبد ، فيشمل الأنبياء كلهم والمؤمنين ، وينتظم فيه النبي صلى الله عليه وسلم انتظاماً أولياً ، ويُؤيده قراءة الأخويْن بالجمع. وهو إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه وآكده ، كأنَّ الكفاية بلغت من الظهور ما لا يقدر أحد على أن يتفوّه بعدمها ، أو يتلعثم في الجواب بوجودها ، وإذا علم العبدُ أن الحق تعالى قائم بكفايته ، سكن قلبه واطمأن ، وأسقط الأحمال والكُلَف عن ظهره ، فلا جرم أن الله يكفيه ما أهمّه ، ويؤمّنه مما يخافه ، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :
(6/397)
{ويُخوفونك بالذين من دُونه} أي : الأوثان التي اتخذوها آلهة دونه تعالى ، وهي جوامد ، لا تضر ولا تنفع ، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قالت قريش : إنا نخاف أن تخبُلك آلهتنا ، وتُصيبك معرَّتها لعيبك إياها. وفي رواية : قالوا : لتكفنّ عن آلهتنا ، أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون ، كما قال قوم هود : {إِن نَّقٌولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود : 54]. وجملة : " ويخوفونك " : استئناف ، أو : حال. {ومَن يُضلِلِ اللهُ} حتى غفل عن كفايته وعصمته صلى الله عليه وسلم ، أو : اعتقد أن الأصنام تضر وتنفع ؛ {فما له من هادٍ} يهديه إلى ما يرشده.
{ومَن يهدِ اللهُ} إلى توحيده وطاعته {فما له من مُضلٍّ} يصرفه عن رشده ، أو
262
يصيبه سوء يخل بسلوكه ؛ إذ لا راد لفعله ، ولا معارض لقضائه ، كما ينطقُ به قوله تعالى : {أليسَ اللهُ بعزيزٍ} : غالب لا يغالَب ، منيع لا يمانَع ولا ينازَع ، {ذي انتقامٍ} من أعدائه لأوليائه ، بإعزاز أوليائه وإذلال أعدائه. وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام ، وتربية المهابة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا عَلِمَ العبدُ أن الله كاف جميع عباده ، وثق بضمانه ، فاستراح من تعبه ، وأزال الهموم والأكدار عن قلبه ، فيدخل جنة الرضا والتسليم ، ويهب عليه من روح الوصال وريحان الجمال نسيم ، فيكتفي بالله ، ويقنع بعلم الله ، ويثق بضمانه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 262
(6/398)
قال في لطائف المنن : مبنى الوليّ على الاكتفاء بالله ، والقناعة بعلمه ، والاغتناء بشهوده. قال تعالى : {أليس الله بكافٍ عبده} وقال تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت : 53] هـ. وقال الشيخ أبو الحسن صلى الله عليه وسلم : يقول الله ـ عزّ وجل ـ : عبدي اجعلني مكان همك أكفك همك ، عبدي ؛ ما كنت بك فأنت في محل البُعد ، وما كنت بي فأنت في محل القُرب ، فاختر لنفسك. هـ. أي : ما دمت مهموماً بنفسك فأنت في محل البُعد ، وإذا خرجت عنها ، وطرحتها بين يدي خالقها ، أو غبت عن وجودها بالكلية ، فأنت في محل القُرب ، الأول : قُرب مراقبة ، والثاني : قُرب مشاهدة.
وقوله تعالى : {ويُخوفونك بالذين من دونه} : هو عام في كل ما يُخاف منه ، فالعارف لا يخاف من شيء ؛ لعلمه بأن الله ليس معه شيء ، ولا يقع في الوجود إلا قدره وقضاؤه ، ومَن يعتقد غير هذا فهو ضال ، ومَن يُضلل الله فلا هادي له. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 262
يقول الحق جلّ جلاله : {ولئن سألْتَهُم} أي : مَن يخوفونك ممن سوى الله ، وقلت لهم : {مَن خلَقَ السماواتِ والأرض لَيقولُنَّ اللهُ} ؛ لوضوح الدلائل على انفراده بالاختراع. {قُلْ} تبكيتاً لهم : {أفرأيتم ما تدعون من دون الله} من الأصنام ، {إِن أرادنيَ اللهُ بضُرٍّ هل هن كاشفاتُ ضُره} أي : إذا تحققتم أن خالق العالم العلوي والسفلي هو الله وحده ، فأخبروني عن آلهتكم ، إن أرادني اللهُ بضُر هل يقدر أحد منهم على كشف ذلك الضر عني ؟ {أو أرادنِي برحمةٍ} أي : بنفع {هل هن مُمسكاتُ رحمته} وصارفتها عني ؟ !
وقرأ البصري : " كاشفاتٌ " و " ممسكاتٌ " بالتنوين ، ونصب " ضره " و " رحمته " على المفعول. وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه صلى الله عليه وسلم ، للرد في نحورهم ؛ حيث كانوا يُخوفونه من معرَّة الأوثان ، ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة. وإنما قال : " كاشفات "
263
(6/399)
و " ممسكات " على التأنيث ، بعد قوله : {ويُخوفونك بالذين من دونه} ؛ لأنهن إناث ، وهن اللات ، والعزّى ، ومناة ، وفيه تهكّم بهم ، وبمعبودهم ؛ حيث جعلهم يعبدون الإناث.
{قُل حَسْبِيَ اللهُ} أي : كافيني في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم سكتوا ، فنزلت : {قل حسبي الله عليه يتوكلُ المتوكلون} ، لا على غيره أصلاً ؛ لعلمهم بأن كل ما سواه تحت قهر ملكوته.
الإشارة : الناس على قسمين : أعداء وأحباب ، فإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن ينفعوك بشيء إلا ما قدّر الله لك ، وإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن يضروك بشيء إلا ما قدّر الله عليك ، فارفض الجميع ، وتعلّق بالله بغنك عن غيره ، ويوصل إليك ما قسم لك بالعز والهناء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 263
يقول الحق جلّ جلاله : {قُلْ يا قوم اعملوا على مكانَتِكُمْ} أي : على حالتكم التي أنتم عليها ، وجهتكم من العداوة التي تمكنتم فيها ، فالمكانة بمعنى المكان ، فاستعيرت من العين للمعنى ، وهي الحال ، كما تستعار " هنا ". و " حيث " للزمان ، وإنما وضعا للمكان. وقرأ أبو بكر وحمَّادِ : " مكانات " بالجمع. {إِني عامل} على مكانتي ، فحذف للاختصار ، والمبالغةِ في الوعيد ، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة بنصر الله تعالى له ، وتأييده ، ولذلك توعّدهم بقوله : {فسوف تعلمون مَن يأتيه عذاب يُخْزِيه} ؛ فإنَّ خزي أعدائه دليل غلبته صلى الله عليه وسلم ونصره في الدنيا والآخرة. وقد أخزاهم وعذّبهم يوم بدر ، {و} سوف تعلمون أيضاً مَن {يَحِلُّ عليه عذابٌ مقيمٌ} في الآخرة ؛ لأنه مقيم على الدوام.
(6/400)
ثم ذكر الفاصل بين أهل العذاب المقيم ، والنعيم الدائم ، فقال : {إِنا أنزلنا عليك الكتابَ للناسِ} أي : لأجلهم ، فمَن أعرض عنه فقد استحقَّ العذاب الأليم ، ومَن تمسّك به استوجب النعيم المقيم ، حال كونه ملتبساً {بالحق} ناطقاً به ، أو : أنزلناه مُحِقين في إنزاله. {فمَن اهتدى فلنفسه} ، إنما ينفع به نفسه {ومَن ضلَّ} : بأن أعرض عنه ، أو عن العمل به. {فإِنما يَضِلُّ عليها} ؛ لأن وبال إضلاله مقصور عليها. {وما أنت عليهم بوكيلٍ} حتى تجبرهم على الهدى ، وما وظيفتك إلا التبليغ ، وقد بلغت أيّ بلاغ.
الإشارة : مَن ذَكَّر قوماً فأعرضوا عنه ، ولم يرفعوا له رأساً ، يقول لهم : يا قوم اعملوا على مكانتكم... الخ ، وأيّ عذاب أشد من الحجاب ، والبُعد عن حضرة الحبيب ؟
264
جزء : 6 رقم الصفحة : 264
يقول الحق جلّ جلاله : {الله يتوفّى الأنفُسَ} أي : الأرواح {حين موتِها} فيقبضها إليه قبضاً ، {و} يتوفى الأنفس {التي لم تمت في منامها} فيقبضها ويترك شعاعها في البدن ، فالتي قضى عليها الموت يتوفاها ظاهراً وباطناً ، والتي لم يقضِ موتها يتوفاها ظاهراً فقط عند النوم ، {فيُمسك التي قَضَى عليها الموتَ} ، لا يردها إلى البدن ، {ويُرْسِلُ الأخرى} أي : النائمة إلى بدنها عند التيقُّظ {إِلى أجلٍ مُسمًّى} : هو الوقت المضروب لموتها ، فشبَّه النائمين بالموتى ، حيث لا يميزون ولا يتصرفون ، كما أن الموتى كذلك.
قال الإمام : النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني ، إذا تعلّق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء ، وهي الحياة ، ثم إنه في وقت النوم ينقطع تعلُّقه عن ظهر البدن ، دون باطنه ، وفي وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وباطنه ، فالموت والنوم من جنس واحد بهذا الاعتبار ، لكن الموت انقطاع كامل ، والنوم انقطاع ناقص ، فظهر أن القادر الحكيم دبَّر تعلُّق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه :
(6/401)
أحدها : أنه دبَّر أمرها بحيث يقع ضوء الروح على جميع أجزاء البدن ، ظاهره وباطنه ، وذلك هو اليقظة.
وثانيها : بحيث يقطع عن الظاهر والباطن ، وهو الموت.
وثالثها : بحيث يقطع عن ظاهر البدن دون الباطن ، وهو النوم ، فثبت أن النوم والموت يشتركان في كل واحد منهما بتوفي النفس ، ثم يمتاز أحدهما بخواص معينة. ومثل هذا التقدير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم. هـ.
وقال سهل : إن الله إذا توفى الأنفس أخرج الروح النوري من لطيف نفس الطبيعي الكثيفي ، فالذي يتوفى في النوم من لطيف نفس الطبع ، لا لطيف نفس الروح. فالنائم يتنفس تنفُّساً لطيفاً ، وهو نَفَس الروح ، الذي إذا زال لم يكن للعبد حركة ، وكان ميتاً. وقال : حياة النفس الطبيعي بنور لطيف ، وحياة لطيف نفس الروح بذكر الله. وقال أيضاً : الروح تقوم بلطيفة في ذاتها بغير نفس الطبع ، ألا ترى أن الله تعالى خاطب الكل في الذر بنفس ، وروح ، وفهم ، وعقل ، وعلم لطيف ، بلا حضور طبع كثيف. هـ. قلت : وبهذا الاعتبار يقع لها العذاب في البرزخ أو النعيم ، وتذهب وتجيء في عالم البرزخ.
265
وقال في القصد : النفس مع الروح كالجسد مع الظل ، والظل يميل ، والأصل لا يميل ، والروح سره ، والسر بربه ، وهو شعاع الحقيقة الصغرى ، والسر نور السر الأعلى ، وكل هذا مخلوق ، بقدرة الله موثوق ، فلا يستفزك غير هذا فتشقى ، وفي جهنم من نور البُعد تلقى. هـ. قلت : السر الأعلى هو معاني أسرار الذات القائمة بالأشياء ، وهو قديم غير مخلوق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 265
(6/402)
وذكر الثعلبي عن ابن عباس أنه قال : في ابن آدم نفس وروح ، بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفسُ هي التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها التحرُّك والنَّفَس ؛ فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. هـ. هذا ، وفي الصحيح : إن الله قبض أرواحنا حيث شاء ، وردها حيث شاء. فأطلق القبض على الأرواح. والصواب : أن النفس والروح في هذا واحد ؛ بدليل قوله : {اللهُ يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت} والحاصل : أن الموت : توفِّ كامل ، بإخراج الروح مع شعاعها من البدن ، فتذهب الحياة ، والنوم : توفٍّ ناقص ، بإخراج الروح مع بقاء شعاعها في البدن ، به الحياة والتنفُّس.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً أنه قال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام ، ويتعارف ما شاء الله منها ، فإذا أراد الله رجوعها إلى الأجسام ، يُمسك الله عنده أرواح الأموات ، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها ، فذلك قوله عزّ وجل : {الله يتوفى الأنفس}... الآية.
وعبارة " عز الدين بن عبد السلام " : في كل جسد روحان ؛ إحداهما : روح اليقظة ، التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان متيقظاً ، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان ، ورأت تلك الروح المنامات ، والأخرى : روح الحياة ، التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان حيّاً ؛ فإذا فارقته مات ، فإذا رجعت إليه حَيِيَ ، وهاتان الروحان في بطن الإنسان ، لا يعلم مقرَّهما إلا مَن أطلعه الله عليهما ، فهما كجنينين في بطن امرأة. هـ.
والآية منبهة على كمال قدرته ، وفيها دلالة على البعث ، وأنه كاليقظة سواء ، وهذا معنى قوله : {إِن في ذلك لآياتٍ يتفكرون} في عجائب قدرته ، فيعلمون أن مَن قدر على إمساك الأرواح في النوم ، وردها ، قادر على إماتتها وإحيائها. وفي التوراة : كما تنام تموت ، وكما تستيقظ تُبعث.
(6/403)
الإشارة : الله يتوفى الأنفس المطهرة إلى حضرة قدسه ، حين موتها من الهوى ، ويقبض الأنفس التي لم تمت من حظوظها في سجن الأكوان ، وهيكل ذاتها ، في حال منام غفلتها ، فيمسك التي قضى عليها الموت في حضرة قدسه ، فلا يردها إلى شهود حضرة الأشباح ويرسل الأخرى تجول في حضرة الأشباح وأودية الدنيا ، إلى أجل مسمًّى ، إما موتها الحسي أو المعنوي ، إن سبقت لها سابقة عناية.
266
جزء : 6 رقم الصفحة : 265
يقول الحق جلّ جلاله : {أَمِ اتخذوا} أي : قريش {من دون الله شفعاء} ، فيزعمون أن أصنامهم تشفع لهم عند الله ، أي : إنهم اتخذوا ـ على زعمهم ـ من دون الله شفعاء بحكمهم ، لا بتعريف من قِبل الله وإخبار ، فإن الله لا يقبل الشفاعة من أحد إلا بإذن منه ، وإن الذين يقولون ذلك افتراء على الله. {قُل أَوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون} ، الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه ، والتوبيخ عليه ، أي : قل : أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ولا يعقلون شيئاً ، فضلاً عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى.
{قُل} تبكيتاً وتجهيلاً لهم : {للهِ الشفاعةُ جميعاً} أي : هو مالكها ، ولا يقدر أحد أن يتصدّى لها ، إلا أن يكون المشفوع له مرتضىً ، والشفيع مأذوناً ، وكلاهما مفقود في أصنامهم ، ثم قرر اختصاصه بالشفاعة بقوله : {له ملكُ السماوات والأرض} أي : له التصرف فيهما ، وفيما فيهما من المخلوقات ، لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه ورضاه ، {ثم إليه تُرجعون} يوم القيامة ، لا إلى أحد سواه ، فيفعل يومئذ ما يريد.
قال النسفي : {له ملك السماوات والأرض} اليوم {ثم إليه تُرجعون} يوم القيامة ، فلا يكون المُلك في ذلك اليوم إِلاّ له ، فله المُلك في الدنيا والآخرة. هـ.
(6/404)
الإشارة : الشفاعة إنما تكون لأهل الجاه عند الله ، والجاه يعظم بحسب التوجه ، والتوجه يعظم على قدر المحبة ، والمحبة على حسب العناية السابقة ، {يُحبهم ويُحبونه} فبقدر أنوار التوجه تعظم أنوار المواجهة ، وبقدر أنوار المواجهة تتسع المعرفة ، وبحسب المعرفة يكون الجاه ، وبقدر الجاه تتسع الشفاعة ، حتى إن الواحد من الأولياء يشفع في وجود بأسره من أهل زمانه ، إما عند موته ، أو عند الحساب. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 266
قلت : " وحده " : منصوب عند سيبويه ، على المصدر ، وعند الفراء : على الحال ، والظاهر : أنه أطلق المصدر على اسمه.
267
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ} أي : إذا أُفرد الله بالذكر ، ولم تُذكر معه آلهتهم ، فمدار المعنى على قوله : {وحده} ، {اشْمَأَزَّتْ قلوبُ الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي : انقبضت ونفرت ، كقوله : {... وإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [الإسراء : 46] ، {وإِذا ذُكر الذين مِن دونه} يعني : آلهتهم ، ذُكر اللهُ معهم ، أو لم يُذكر ، {إِذا هم يستبشرون} ؛ لفرط افتتانهم بها ، ونسيانهم ذكر الله ، أو : وإذا قيل لهم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، نفروا ؛ لأن فيه نفياً لآلهتهم.
(6/405)
وقال الورتجبي : صورة الآية وقعت على الجاحدين والمتكبرين ، الذين ليس في محبتهم إلا متابعة الأشكال والأمثال ، من حيث التشبيه والخيال ؛ لأن قلوبهم خلقت على مشاكلة الأضداد والأنداد ، ولم يكن في قلوبهم سجية أهل المعرفة بالله ، فإذا سَمِعُوا ذِكْر مَن لا يدخل في الخيال والمثال انقبضت قلوبهم وصدورهم ، ونفرت ، وإذا سمعوا ذكر غير الله من الصور والأشباح ، سكنت نفوسهم إليها من غاية غباوتهم ، وكمال جهالتهم ، فهم مثل الصبيان ، إذ هم يفرحون بالأفراس الطينية والأُسد الخشبية ، ولا يطيقون أن ينظروا إلى عَدْوِ العاديات ، وإلى الضراغم الباديات... هـ. مختصراً.
ولقد بالغ في بيان حالتيهم المتقابلتين ؛ حيث ذكر الغاية فيهما ، فإن الاستبشار : هو أن يمتلىء القلب سروراً ، حتى تنبسط له بشرة الوجه وتتهلل ، والاشمئزاز : أن يمتلىء القلب غيظاً وغمّاً ، حتى ينقبض منه أديم الوجه ، فتظهر عليه الكآبة والحزن. والعامل في {إِذا} الأولى : " اشمأزت " ، وفي الثانية : ما هو العامل في " إذا " الفجائية ، والتقدير : وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار.
ثم أمر نبيه بالالتجاء إليه حين إدبارهم ، فقال : {قُلِ اللهمَّ فاطِرَ السماواتِ والأرضِ} أي : يا فاطر ، وليس بوصف ، خلافاً للفراء والمبرّد ، أي : اللهم يا مظهر السماوات والأرض ، {عالِمَ الغيبِ والشهادةِ} أي : ما غاب من أسرار ذاتك وما ظهر ، أو : السر والعلانية ، أي : التجىء إليه تعالى إذا اغتممت من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد ؛ فإنه القادر على الأشياء بجملتها ، والعالم بالأحوال برمتها. {أنت تَحْكُمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} أي : حُكماً يُسلمه كل مكابر ومعاند ، ويخضع له كلَّ عاتٍ ومارد ، فاحكم بيني وبين معاندي ، بالنصر عليهم في الدنيا والآخرة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 267
(6/406)
وعن ابن المسيّب : " ما أعرفُ آية قرئت فدعى عندها إلا أجيب سوى هذه ". يعني أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يحكم بينه وبين عدوه بالاستئصال ، فأمهل ؛ لأنه رحمة. وعن الربيع بن خثيم ـ وكان قليل الكلام ـ : أنه أُخبر بقتل الحسين رضي الله عنه ، وقالوا : الآن يتكلم ، فما زاد على أن قال : أَوَقد فعلوا ؟ وقرأ : {اللهم فاطر السماوات والأرض}... الآية ، ثم قال على إثرها : قُتِل مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجلسه في حجره ، ويُقبِّل فاه. هـ.
الإشارة : ينبغي للمؤمن أن يكون متعاكساً مع المشرك ، إذا سمع كلمة التوحيد
268
" لا إله إلا الله " فرح وانبسط ، وإذا ذكر اللغو واللعب اشمأز وانقبض ، والعابد أو الزاهد إذا سَمِعَ ما يدل على الطاعة والاستعداد للآخرة فرح ونشط ، وإذا سمع ما يدلّ على الدنيا والبطالة اشمأز وانقبض ، والمريد السائر ، إذا سمع ما يقرب إلى الله فرح وانبسط ، وإذا سمع ما يُبعد عند من ذكره السِّوى اشمأز وانقبض ، وأما الواصل الكامل فلا ينقبض من شيء ؛ لزيادته إلى الله بكل شيء ؛ لأنه عرف الله في كل شيء ، وسمع منه في كل شيء ، فلا يحجبه عن الله شيء ، قد فنيت دائرة حسه ، واتسعت دائرة معرفته ، يأخذ النصيب من كل شيء ، ولا يأخذ النصيبَ منه شيء.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : في بعض كتب الله المنزلة على أنبيائه ، يقول الله تعالى : مَن أطاعني في كل شيء ، بهجرانه لكل شيء ، أطعته في كل شيء ، بأن أتجلى له دون كل شيء ، حتى يراني أقرب إليه من كل شيء. هذه طريق أُولى ، وهي طريق السالكين. وطريق أخرى كبرى : مَن أطاعني في كل شيء ، بإقباله علي كل شيء ، لحسن إرادة مولاه في كل شيء ، أطعته في كل شيء ، بأن أتجلّى له في كل شيء ، حتى يراني كأني كل شيء. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 267
(6/407)
يقول الحق جلّ جلاله : {ولو أنّ للذين ظلموا} بالشرك ، {ما في الأرض جميعاً} : من الأموال والذخائر ، {ومِثْلَهُ معه} زائد عليه ، {لافْتَدوا به من سوءِ العذاب} أي : شدته ، {يومَ القيامةِ} أي : لو أن لهم جميع ما في الدنيا لجعلوا ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد ، وهيهات هيهات ، ولات حين مناص. وهذا كما ترى وعيد شديد لأهل الشرك ، وإقناط كلي لهم. {وَبَدَا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} أي : ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في ظنهم وحسبانهم ، ولم يُحدِّثوا به نفوسهم. وهذا غاية من الوعيد ، لا غاية وراءها ، ونظيره في الوعد : قوله تعالى : {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة : 17].
{وبدا لهم سيئاتُ ما كسبوا} أي : ظهر لهم سيئات أعمالهم التي كسبوها ، أو سيئات كسبهم حين تُعرض عليهم صحائفُهم ، وكانت خافية عليهم ، أو : عقاب ذلك. {وحاقَ بهم} أي : نزل بهم وأحاط ، {ما كانوا به يستهزئون} أي : جزاء هزئهم بالإسلام ، ومَن جاء به ، ومَن تبعه.
الإشارة : الآية تجرّ ذيلها على كل ظالم لم يتب ، فيتمنى الفداء بجميع ما في
269
الأرض ، فلا يُمكّن منه. وقوله تعالى : {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} ، هذه الآية عامة ، لا يُفلت منها إلا الفرد النادر ، الذي وصل إلى غاية المعرفة العيانية ، ومَن لم يصل إلى هذا المقام فهو مقصِّر ، يظن أنه في عليين ، وهو في أسفل سافلين ، ولذلك عظم خوف السلف منها ، فقد جزع محمد بن المنكدر عند الموت ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخشى آيةً من كتاب الله : {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} فأنا أخشى أن يبدو لِي من الله ما لم أحتسب. وعن سفيان أنه قرأها ، فقال : ويلٌ لأهل الرياء ، ويلٌ لأهل الرياء. هـ.
(6/408)
وفي الإحياء : مَن اعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله خلاف الحق ، وخلاف ما هو عليه ؛ إما برأيه أو معقوله ونظره ، الذي به يجادل ، وعليه يعول ، وبه يغتر ، وإما بالتقليد ، فمَن هذا حاله ربما ينكشف له حال الموت بطلان ما اعتقده جهلاً ، فيتطرّق له أن كل ما اعتقده لا أصل له ، فيكون ذلك سبباً في شكه عند خروج روحه ، فيختم له بسوء الخاتمة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : {وبَدَا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} وبقوله : {هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} [الكهف : 103]... الآية. انظر عبارته في كتاب الخوف ، وقريباً منه في القوت ، عصمنا الله من سوء القضاء ، وختم لنا بالسعادة التامة بمنِّه وكرمه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 269
يقول الحق جلّ جلاله : {فإِذا مَسَّ الإِنسانَ} أي : جنسه {ضُرٌّ} : فقر أو غيره {دعانا} معرضاً عما سوانا. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، من ذكر حالتي أهل الشرك القبيحتين ، وما بينهما اعتراض مؤكد للإنكار عليهم ، أي : إنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده ، ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسّهم الضر دعوا مَن اشمأزوا عن ذكره ، دون مَن استبشروا بذكره ، فناقضوا فعلهم.
فإن قلت : حق الاعتراض أن يؤكّد المعترَض بينه وبينه ؟ قلت : ما في الاعتراض من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ، بأمر من الله ، وقوله : {أنت تحكم بين عبادك} ، ثم ما عقّبه من الوعد العظيم ، تأكيد لإنكار اشمئزازهم ، واستبشارهم ، ورجوعهم إلى الله في الشدائد ، دون آلهتهم ، كأنه قيل : قل : يا ربّ لا يحكم بيني وبين هؤلاء ، الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة ، إلا أنت ، ثم هددهم بقوله : ولو أن لهؤلاء الظلمة ما في الأرض جميعاً لافتدوا به. انظر النسفي.
270
(6/409)
{ثم إِذا خوَّلناه نعمةً منا} : أعطيناه إياها ، تفضُّلاً ؛ فإن التخويل مختص به ، لا يطلق على ما أعطى جزاء ، فإذا أعطيناه ذلك {قال إِنما أُوتيته} أي : ذلك التخويل أو الإنعام {على عِلْم} مني بوجوه كسبه ، كما قال قارون : {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى} [القصص : 78] أو : على علم مني بأني سأُعطاه ، لِما فيّ من فضل واستحقاق ، أو : على علم من الله تعالى باستحقاقي لذلك المال ، فتذكير الضمير إما لعوده على التخويل المأخوذ من {خولناه} ، أو : بتأويل النعمة بمعنى الإنعام ، أو : المراد بشيء من النعمة ، أو : يعود على " ما " إذا قلنا : موصولة ، لا كافة ، أي : إن الذي أوتيته على علم مني.
قال تعالى : {بل هي فتنةٌ} أي : ليس ما خوَّلناه نعمة ؛ بل هي محنة وابتلاء له ؛ ليظهر كفره أو شكره. ولما كان الخبر مؤنثاً ساغ تأنيث المبتدأ لأجله ، وقرىء : " بل هم فتنة ". {ولكنَّ أكْثَرَهُم لا يعلمون} أنَّ الأمر كذلك ، وأنَّ التخويل إنما كان فتنة ، وفيه دلالة على أن المراد بالإنسان الجنس.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 270
(6/410)
قد قالها الذين مِن قبلهم} أي : قد قال هذه المقالة ، وهي : {إنما أوتيته على علم} من قبلهم ، كقارون وقومه ، قال قارون : {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص : 78] وقومه راضون بمقالته ، فكأنهم قالوها معه. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها. {فما أَغنى عنهم ما كانوا يكسبون} من متاع الدنيا ، وما جمعوا منها شيئاً حتى ينزل بهم العذاب ، {فأصابهم سيئاتُ ما كَسَبُوا} أي : جزاء سيئات ما كسبوا ، وهو العذاب في الدنيا والآخرة ، أو : سمّي جزاء السيئة سيئة ؛ للازدواج ، كقوله : {وَجَزآؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى : 40] أي : فأصابهم وبال ما كسبوا ، {والذين ظلموا من هؤلاء} : المشركين ، يعني قريشاً ، {سيُصِيبهُم سيئاتُ ما كسبوا} من الكفر والمعاصي ، كما أصاب أولئك. والسين للتأكيد. وقد أصابهم ذلك ، حيث قحطوا سبع سنين ، وقتل صناديدهم يوم بدر. {وما هم بمُعْجزين} : بفائتين من عذاب الله.
الإشارة : هذه الخصال الذميمة تُوجد في كثير من هذه الأمة ، إذا أصابت العبد شدة أو قهرية رجع إلى الله ، فإذا فرّج عنه بسب عادي كما هو دأب عالم الحكمة ، أسند الفرج إلى ذلك السبب ، فيقول : فلان فرّج عني ، أو الدواء الفلاني شفاني ، وهو شرك ، كاد أن يكون جليّاً. والواجب : النظر إلى فعل الله وقدرته ، وإسقاط الوسائط من نظره ، ولو وجدت حكمةً ، فالكمال فعلها وجوداً ، والغيبة عنها شهوداً. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 270
271
(6/411)
يقول الحق جلّ جلاله : {أَوَلَمْ يعلموا} أي : أقالوا ذلك ولم يعلموا ، أو أَغفلوا ولم يعلموا {أَنَّ الله يبسُطُ الرِّزقَ} أي : يوسعه {لمَن يشاءُ ويقدرُ} أي : يضيق لمَن يشاء بلا سبب ولا علة ، أو : يجعله على قدر القوت من غير زيادة ولا نقصان ، وهو من إتمام النعمة. وفي الحِكَم : " من تمام النعمة عليك أن يعطيك ما يكفيك ، ويمنعك ما يطغيك " {إِن في ذلك} : البسط والقبض {لآياتٍ} دالة على أن الحوادث كلها من الله بلا واسطة ، {لقوم يؤمنون} ، إذ هم المستدلُّون بها على أن القابض والباسط هو الله ، دون غيره.
الإشارة : قد يبسط الله الرزق لمَن لا خلاق له عنده ، ويقبضه عن أحب الخلق إليه ، وهو الغالب ، فرزق المتقين كفاف ، ورزق المترفين جزاف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 271
يقول الحق جلّ جلاله : {قل} يا محمد {يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم} أي : أفرطوا في الجناية عليها ، بالإسراف في المعاصي ، والغلو فيها ، {لا تقنطوا من رحمة الله} : لا تيأسوا من مغفرته أولاً ، وتفضُّله بالرحمة ثانياً ، {إِن الله يغفرُ الذنوبَ جميعاً} ، بالعفو عنها ، إلا الشرك. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : " يغفر الذنوب جميعاً ولا يُبالي " لكنها لم تتواتر عنه.
(6/412)
والمغفرة تصدق بعد التعذيب وقبله ، وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر ، كيف ، وقوله تعالى : {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء : 48] ظاهر في الإطلاق مما عدا الشرك ؟ وَلِمَا يدل عليه التعليل بقوله : {إِنه هو الغفور الرحيم} على المبالغة ، وإفادة الحصر ، والوعد بالرحمة بعد المغفرة. وما في {عبادي} من الدلالة على الذلة والاختصاص ، المقتضييْن للترحُّم. {إِنه هو الغفورُ} ؛ يستر عظام الذنوب {الرحيمُ} يكشف فظائع الكروب. والآية ، وإن نزلت في " وحشي " ، قاتل " حمزة " ، أو في غيره ، لا تقتضي التخصيص بهم ، فإن أسباب النزول لا تخصص. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ". ولما نزلت في شأن وحشي ، وأسلم ، قال المسلمون : هذه له خاصة ، أو للمسلمين
272
عامة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل هي للمسلمين عامة " وقال قتادة إن ناساً أصابوا ذنوباً عظاماً ، فلما جاء الإسلام أشفقوا ألا يتاب عليهم ، فدعاهم الله تعالى بهذه الآية. وقال ابن عمر : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر كانوا قد أسلموا ثم فُتنوا ، فكنا نقول : لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً ، فنزلت الآية ، وكان عمر بن الخطاب كاتباً ، فكتبها بيده ، ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد ، وإلى أولئك النفر ، فأسلموا ، وهاجروا.
(6/413)
قال علي رضي الله عنه : " ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية ". فما يُقنط الناس ويشدد عليهم بعد هذه الآية إلا جهول ، أو جامد ، قال زيد بن أسلم : إنَّ رجلاً كان في الأمم الماضية مجتهداً في العبادة ، فيشدد على نفسه ، ويقنط الناس من رحمة الله ، فمات ، فقال : أيّ ربّ ؛ ما لي عندك ؟ فقال : النار. فقال : يا رب ؛ أين عبادتي ؟ فقال : إنك كنت تُقنط الناس من رحمتي في الدنيا ، فاليوم أقنطك من رحمتي. وعن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ قال : الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ، ولا يؤمنهم من عذاب الله ، ولا يرخص لهم في معاصي الله. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 272
ثم حضَّ على التوبة لتتحقق المغفرة ، فقال : {وأَنِيبوا إِلى ربكم} أي : ارجعوا إليه بالتوبة والإخلاص. فالإنابة أخص من التوبة ؛ لأن التوبة : مطلق الندم على الزلة ، والإنابة : تحقيق التوبة والنهوض إلى الله بإخلاص التوجه. قال صلى الله عليه وسلم : " من السعادة أن يطول عمر الرجل ويرزقه الله الإنابة " قال القشيري : وقيل الفرق بين الإنابة والتوبة : أن التائب يرجع خوفاً من العقوبة ، والمنيب يرجع حياءً منه تعالى. هـ.
والأمر بالتوبة لا يدل على تقييد المغفرة في الآية بها ، كما تقدّم ؛ إذ ليس المدعَى : أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبْق تعذيب ، حتى يغني عن الأمر بها ، وإنما المراد : الإخبار بسعة غفرانه ، سواء كان مع التوبة أم لا. قال ابن عرفة : واعلم أن التوبة من الكفر مقطوع بها ، ومن المعاصي ، قيل : مظنونة ، وقيل : مقطوع بها ، هذا في الجملة ، وأما في التعيين ، كتوبة زيد بن عَمْرو ، فلا خلاف أنها مظنونة. هـ. قلت : قد اقترن بتوبة زيد من الأخبار ما يقطع بصحتها.
ثم قال : وأما العاصي إذا لم يتب فهو في المشيئة ، مع تغليب جانب الخوف والعقوبة ، واعتقاد أن العذاب أرجح ، وأما العصيان بالقتل ، ففيه خلاف بين أهل السُّنة ،
273
(6/414)
فقيل : يخلد في النار ، وقيل : في المشيئة. هـ. وقال أبو الحجاج الضرير رحمه الله :
وتوبةُ الكافرِ تمحُو اِثْمَه
لا خلافَ فيه بين الأُمَّهْ>> وتوبةُ العاصي على الإِرجاءِ
وقيلَ كالأول بالسواءِ>> إذ لا يكونُ دونه في الحالِ
وَهُوَ عندي أحسنُ الأقوالِ>> دليلُه : تتابعُ الظواهِرْ
شاملةٌ مسلمٌ وكافرْ
{وأَسْلِمُوا له} أي : اخضعوا له ، وانقادوا لأمره. قال القشيري : أي : أَخلصوا في طاعتكم ، والإسلامُ ـ الذي هو الإخلاص بعد الإنابة ـ : هو أن يعلم نجاته بفضلِه ، لا بإنابته ؛ فبفضله يصل إلى إثابته ، لا بإنابته يصل إلى فضله. هـ. {من قبل أن يأتيكم العذابُ} في الدنيا ، أو في الآخرة ، إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب. قال القشيري : العذاب هنا ، قيل : الفراق ، وقيل : هو أن يفوتَه وقت الرجوعِ بسوء الإياس. هـ. {ثم لا تُنصرون} : لا تُمنعون منه أبداً.
الإشارة : لا يعظم عندك الذنب عظمة تصدك عن حسن الظن بالله ، فإن مَن استحضر عظمة ربه صغر في عينه كل شيء. وتذكر قضية الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ، ثم سأل راهباً : هل له توبة ؟ فقال : لا ، فكمل به المائة ، ثم سأل عارفاً ، فقال له : ومَن يحول بينك وبينها ؟ لكن اخرج من القرية التي كنت تعصي فيها ، واذهب إلى قوم يعبدون الله في مكان ، فذهب ، فأدركه الموت في الطريق ، فلما أحسّ بالموت انحاز بصدره إلى القرية التي قصدها ، ثم مات ، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة فقال لهم الحق تعالى : قيسوا من القرية التي خرج منها ، إلى القرية التي قصدها ، فإلى أيهما هو أقرب هو منها ؟ فوجدوه أقرب إلى القرية التي قصدها بشبر ، فأخذته ملائكة الرحمة. إلى غير ذلك من الحكايات التي لا تحصى في هذا المعنى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 272
(6/415)
وتأمل قضية الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي ، فقال : " ما يبكيك ؟ " قال : ذنوبي. فقال له عليه السلام : " إن الله يغفر ذنوبك ، ولو كانت مثل السماوات السبع ، والأرضين السبع ، والجبال الرواسي " ، فقال : يا رسول الله ، ذنب من ذنوبي أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع ، فقال له : " ذنوبك أعظم أو العرش ؟ " قال : ذنوبي ، فقال له : " ذنوبك أعظم أو الكرسي ؟ " قال : ذنوبي ، فقال : " ذنوبك أعظم أو إلهك ؟ " فقال : الله أعظم ، فقال : " فأخبرني عن ذنبك " قال : إني أستحيي ، فقال : " فأخبرني " ، فقال : إني كنت نبّاشاً أنبش القبور منذ سبع سنين ، حتى ماتت جارية من بنات الأنصار ، فنبشتها ، وأخرجتها من كفنها ، فمضيت ، ثم غلبني الشيطان ، فرجعت ، فجامعتها ، فقامت الجارية ، وقالت : الويل لك يا شاب من دَيّان يوم الدين ، يوم يضع كرسيه للقضاء ، يأخذ من الظالم للمظلوم ،
274
تركتني عريانة في عساكر الموتى ، وأوقفتني جُنباً بين يدي الله ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب في قفاه ، وهو يقول : " يا فاسق ، اخرج ، ما أقربك من النار " ، فخرج الشاب تائباً إلى الله تعالى ، حتى أتى عليه ما شاء الله ، ثم قال : يا إله محمد وآدم وحواء ، إن كنت غفرت لي فأَعْلِم محمداً وأصحابه ، وإلا فأرسل عليَّ ناراً من السماء فأحرقني بها ، ونجِّني من عذاب الآخرة ، فجاء جبريل : فقال : السلام يقرئك السلام ، فقال : " هو السلام وإليه يعود السلام " ، قال : يقول أأنت خلقت خلقي ؟ قال : " بل هو الذي خلقهم " قال : يقول : ترزقهم ؟ قال : " بل هو الذي يرزقهم " ، قال : يقول : أأنت تتوب عليهم ؟ قال : " بل هو الذي يتوب عليهم " قال : فتب على عبدي ، فإني تبتُ عليه ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الشاب ، وتاب عليه ، وقال : " إن الله هو التوّاب الرحيم " هـ. ذكره السمرقندي والثعلبي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 272
(6/416)
يقول الحق جلّ جلاله : {واتَّبِعُوا أحسنَ ما أُنزل إليكم من ربكم} أي : القرآن ، فإنه أحسن الحديث ، ولا أحسن منه لفظاً ومعنى ، أو : المأمور به دون المنهي ، أو : العزائم دون الرُخص ، كقوله : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر : 18] ، أو : الناسخ دون المنسوخ ، ولعله ما هو أعم ، فيصدق بكل ما يقرب إلى الله ، كالإنابة ، والطاعة ، ونحوهما ، {من قبل أن يأتيكم العذابُ بغتةً} : فجأة ، {وأنتم لا تشعرون} بمجيئه ؛ لتداركوا وتتأهبوا.
أمرتكم بذلك كراهة {أن تقول نفس} ، والتنكير للتكثير ، كما في قوله : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} [التكوير : 14] ، أو : يراد به بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر ، أو : يُراد نفس متميزة إما بلجاج في الكفر شديد أو بعقاب عظيم : {يا حسرتا} ، بألف بدل من ياء الإضافة ؛ لأن العرب تقلب ياء المتكلم ألفاً في الاستغاثة ، فيقولون : يا ويلتا ، يا ندامتا ، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء ، وربما ألحَقوا بها الهاء ، فيقال : يا رباهُ ، يا مولاهُ ، وربما ألحقوا ياء المتكلم ، جمعاً بين العوض والمعوض ، وبذلك قرأ أبو جعفر : " يا حسرتاي " أي : يا ندامتاه ويا حزناه. {على ما فَرَّطتُ} : قصَّرت. و " ما " : مصدرية ، أي : على تقصيري وتفريطي {في جَنبِ اللهِ} أي : جانبه وحقه وطاعته ، أو : في ذاته ، أي : معرفة ذاته ، أو في قربه ، من قوله : {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} [النساء : 36] ، أو : في سبيل الله ودينه ،
275
والعرب تسمي السبب الموصل إلى الشيء جنباً ، تقول : تجرّعت في جنبك غُصَصاً ، أي : لأجلك ، أو : في الجانب الذي يؤدي إلى رضوانه ، وهو توحيده والإقرار بنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وقرىء " في ذكر الله ". {وإِن كُنتُ لمن الساخرين} أي : المستهزئين بدين الله. قال قتادة : لم يكفهِ أن ضيّع طاعة الله حتى سخر بأهلها. و " إن " : مخففة ، والجملة : حالية ، أي : فرطت وأنا ساخر.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 275
(6/417)
أَوْ تقولَ لو أنَّ الله هداني} : أعطاني الهداية ، {لكنتُ من المتقين} : من الذين يتقون الشرك. قال الإمام أبو منصور : هذا الكافر أعرفُ بهداية الله من المعتزلة. وكذلك أولئك الكفرة ، الذين قالوا لأتباعهم : {لَّوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم : 21] يقولون : لو وفقنا الله للهداية ، وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه ، ولكن عَلِمَ منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا. والمعتزلة يقولون : بل هداهم وأعطاهم التوفيق ؛ لكنهم لم يهتدوا. انظر النسفي.
{أو تقولَ حين ترى العذابَ لو أن لي كرةً} أي : رجعة للدنيا ، {فأكونَ من المحسنين} : الموحِّدين الطائعين. و " أو " للدلالة على أنها لا تخلو من هذه الأقوال ، تحيُّراً وتحسُّراً ، وتعليلاً بما لا طائل تحته.
فردَّ الله عليهم بقوله : {بلى قد جاءتك آياتي فكذَّبتَ بها واستكبرتَ وكنتَ من الكافرين} أي : قد جاءتك آياتي ، وبيّنت لك الهدايةَ من الغواية ، وسبيلَ الحق من الباطل ، فتركت ذلك ، وضيعت ، واستكبرت عن قبوله ، وآثرت الضلالة على الهدى ، واشتغلت بضد ما أمرت به ، وإنما جاء التضييع من قِبلك ، فلا عذر لك. و " بلى " : جواب لنفي مقدر ، وهو نتيجة القياس الاستثنائي ، أي : لو أن الله هداني لاهتديتُ وكنت متقياً ، لكنه لم يهدني ، وإنما أخّره ؛ لأنه لا بد من حكاية أقوال النفس عى ترتيبها ، ثم يذكر الجواب في الجملة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم ، أي : خذوا في الجد والاجتهاد في اتباع الأحسن والأرجح ، في الأفعال ، والأقوال ، والعقائد ، من قبل أن ينزل بكم العذاب. ولا عذاب أشد من الحجاب ، والتخلُّف عن مقامات الأحباب ، في وقت لا ينفع التأسُّف ولا التحسُّر. قال القشيري : هذا في أقوامٍ يَرَوْن أمثالَهم وأشكالهم ، تقدّموا عليهم في أحوالهم ، فشكوا ما سَلَفَ من تقصيرهم ، ويَرَوْن ما وُفِّقَ أولئك إليه من أعالي الرتب ، فيعضُّون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة. هـ. وفي ذلك قيل وأنشد :
(6/418)
السِّباق السِّبَاقَ قَوْلاً وفِعلاً
حَذِرِ النفسَ حَسْرَةَ المسْبُوقِ
وهو معنى قوله : {أن تقول نفس} كانت مُقصِّرة في الدنيا : {يا حسرتا على ما فرطتُ في جنب الله} أي : في السير إلى معرفة ذاته ، {وإِن كنت لمن الساخرين} ممن
276
يتعاطى ذلك ، ويخرب ظاهره لتعمير باطنه ، فكنت أسخر منه وأضحك عليه ، أو تحتج بالقدر ، فتقول : لو أن الله هداني لسلوك طريقه لكنت من المتقين الكاملين في التقوى. ولا ينفع الاحتجاج بالقدر في دار التكليف مع بيان الطريق. أو تقول حين ترى العذاب ، وهو فراق الأحباب والتخلُّف عنهم : لو أن لي كرة إلى الدنيا ، فأجهد نفسي حتى أكون من أهل الإحسان ، الذين يعبدون الله على العيان ، بلى قد جاءتك آياتي ، وهم الدعاة إليَّ في كل زمان {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} ، فكذَّبتَ بها ، واستكبرتَ عن الخضوع لهم ، وكنت من الجاحدين لطريق التربية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 275
يقول الحق جلّ جلاله : {ويومَ القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله} ، بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه ، كاتخاذ الولد والشريك ونفي الصفات عنه ، {وجُوهُهُم مسودةٌ} بما ينالهم من الشدة والكآبة. والجملة : حال ، على أن الرؤية بصرية ، أو : مفعول ثان لها ، إن كانت علمية. {أليس في جهنم مَثْوىً} أي : مقام {للمتكبرين} عن الإيمان والطاعة ، وهو إشارة إلى قوله : {واستكبرت} ، ولا ينافي إشعاره بأن تكبرهم علة لاستحقاقهم النار أن يكون دخولهم فيها ؛ لأجل أن كلمة العذاب حقَّتْ عليهم ؛ لأن كبرهم مسبب عنها.
(6/419)
{ويُنجِّي اللهُ الذين اتَّقَوا} الشرك والمعاصي ، أي : من جهنم. {بمفازتهم} : بفوزهم ، مصدر ميمي ، يقال : فاز بالمطلوب : ظفر به ، والباء متعلقة بمحذوف ، حال من الموصول ، مفيدة لمقارنة نجاتهم من العذاب بنيل الثواب ، أي : ينجيهم الله من مثوى المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم أو : بسبب فوزهم بالإيمان والأعمال الحسنة في الدنيا ، ولذا قرأ ابن عباس رضي الله عنه : " بمفازتهم بالأعمال الحسنة ". قال القشيري : كما وَقَاهم اليومَ من المخالفات ، وحماهم ، فكذلك غداً عن العقوبة وقاهم ، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين ، اليومَ عصمة ، وغداً نعمة ، واليومَ عناية ، وغداً كفاية. هـ.
{لا يمسُّهُم السوءُ ولا هم يحزنون} : إما حال أخرى من الموصول ، أو : من مفازتهم وقيل : تفسير للمفازة ، كأنه قيل : وما مفازتهم ؟ فقيل : لا يمسهم السوء ، أي : ينجيهم بنفي السوء والحُزن عنهم ، فلا يمس أبدانَهم سوء ، ولا قلوبَهم حزن.
الإشارة : ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله ، بالدعاوى الباطلة ، من القلوب الخاوية ، فكل مَن ادعى حالاً ليست فيه ، أو : مرتبة لم يتحققها ، فالآية تجر ذيلها عليه ، واسوداد وجوههم بافتضاحهم.
277
قال القشيري : هؤلاء الذين ادَّعوا أحوالاً ، ولم يَصْدُقُوا فيها ، وأظهروا المحبةَ لله ، ولم يتحققوا بها ، وكفى بهم ذلك افتضاحاً ، وأنشدوا :
ولما ادَّعَيْتُ الحُبَّ قالت : كَذَبْتَني
فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا ؟ >> فما الحُبُّ حتى تنزفَ العينُ بالبكا
جزء : 6 رقم الصفحة : 277
وتخرسَ حتى لا تجيب المناديا
وينجي الله الذين اتقوا شهود السِّوى من كل مكروه ، بسبب مفازتهم بمعرفة الله في الدنيا ، لا يمسهم السوء ، أي : غم الحجاب ، لرفعه عنهم على الدوام ، ولا هم يحزنون على فوات شيء ؛ إذ لم يفتهم شيء ؛ حيث فازوا بالله ، " ماذا فَقَد من وجدك " ؟
(6/420)
قال الورتجبي : بمفازتهم : ما كان لهم في الله في أزل أزله ، من محبتهم ، وقبولهم بمعرفته ، وحسن وصاله ، ودوام شهود كماله. لا يمسهم السوء : لا يلحقهم ، فلا يلحق بهم في منازل الامتحان ، تفرقة عن مقام الوصلة ، وحجاب عن جمال المشاهدة ، انظر تمامه. وحاصله : فازوا بإدراك السعادة الأزلية. وعن جعفر الصادق : بمفازتهم : بسعادتهم القديمة ، يعني لقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء : 101].... الآية. قاله المحشي الفاسي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 277
يقول الحق جلّ جلاله : {اللهُ خالقُ كُلّ شيءٍ} : جامد أو حي ، خير أو شر ، إيمان أو كفر ، لا بالجبر ، بل بمباشرة الكاسب في عالَم الحكمة ، وفيه إثبات القدرة والعلم ، وهما مصححان للبعث والجزاء بالخير والشر ، لمحسن أو مسيء. قال القشيري : ويدخل تحت قوله : {كل شيء} كسبُ العباد ، ولا يدخل كلامُه ؛ لأن المخاطِبَ لا يدخل تحت خطابه ولا صفاته. هـ. والمراد بالكلام : المعاني القديمة ، وأما الألفاظ والحروف فهي مخلوقة ، كما هو مقرر في محله. {وهو على كل شيءٍ وكيل} أي : حافظ يتولى التصرُّف فيه كيف يشاء.
{له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ} أي : مفاتح خزائنها ، واحدها " مِقْليد " ، أو : إقليد ، أو : لا واحد لها ، وأصلها فارسية ، والمراد : أنه مالكها وحافظها ، وهو من باب الكناية ؛ لأن حافظ الخزائن ومدبّر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم : فلان ألقيتْ إليه
278
مقاليد الملك ، أي : مفاتح التصرف قد سُلّمت إليه ، وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد ؛ لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا مَن بيده مفاتحها.
(6/421)
وعن عثمان : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد ، فقال صلى الله عليه وسلم : " هي لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، أستغفر الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يُحيي ويُميت وهو على كل شيء قدير " ومعناه : أن لله هذه الكلمات ، يُوحّد بها ويُمجّد ، وهي مفاتحُ خير السماوات والأرض ، ومَن تكلّم بها أدرك ذلك في الدنيا أو في الآخرة ، ومرجعها إلى التحقق بالعبودية في الظاهر ، ومعرفة الذات في الباطن ، وهما السبب في كل خير ، وبهما يدرك العبد التصرُّف في الوجود بأسره ، فتأمله.
{والذين كفروا بآيات الله} أي : كفروا به بعد كونه خالق كل شيء ، ومتصرفاً في ملكه كيف يشاء ، بيده مقاليد العالم العلوي والسفلي ، فكفروا بعد هذا بآياته التكوينية ، المنصوبة في الآفاق وفي الأنفس ، والتنزيلية ، التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بذلك ، {أولئك هم الخاسرون} خسراناً لا خسرَ وراءه ، وقيل : هو متصل بقوله : {ويُنجي الله الذين اتقوا} ، وما بينهما اعتراض.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 278
قُلْ أفغير الله تأمروني أعبدُ أيها الجاهلون} به ، وكانوا يقولون له : أسلِم لبعض آلهتنا نؤمن بإلهك ؛ لفرط جهالتهم. {وغير} : منصوب بـ " أعبد " ، و {تأمروني} : اعتراض ، أي : أتأمروني أعبد غير الله بعد هذا البيان التام ؟ وحذفُ نون الوقاية وإثباتها مدغمة وغير مدغمة ، كُلٌّ قُرىء به.
(6/422)
{ولقد أُوحيَ إِليك وإِلى الذين من قبِلكَ} : من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ : {لئن أشركتَ لَيَحْبَطنَّ عَمَلُكَ ولَتكُونَنَّ من الخاسرين} ، كلام وراد على طريق الفرض ، لتهييج الرسل ، وإقناط الكفرة ، والإيذان بغاية بشاعة الإشراك وقُبحه ، وكونه بحيث يُنهي عنه مَن لا يكاد يمكن أن يباشره بمَن عداه أو : الخطاب له ، والمراد غيره. وإفراد الخطاب مع كون الموحَى إليهم جماعة ، باعتبار خطاب كل واحد في عصره ، واللام موطئة لقسم محذوف ، والثانية لام الجواب ، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط ، وإطلاق الإحباط لاحتمال أن يكون من خصائصهم ؛ لأن الإشراك منهم أشد ، وأن يكون مقيداً بالموت ، كما صرح به في آية البقرة ، وهو مذهب الشافعي ، وذهب مالك إلى أن الشرك يُحبط العمل قبل الردة ، مات عليها ، أو رجع إلى الإسلام ، فينتقض وضوؤه وصومُه. وما قاله الشافعي أظهر.
279
{بل اللهَ فاعبُدْ} ، رد لما أمروه به من عبادة آلهتهم ، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته ؛ بل إذا عبدت فاعبد الله ، فحذف الشرط ، وأقيم تقديم المفعول مقامه. {وكن من الشاكرين} على ما أنعم به عليك ؛ حيث جعلك رأس الموحدين وسيد المرسلين.
الإشارة : الله مُظهر كل شيء ؛ حيث تجلّى بها ، وهو قائم بكل شيء. له مفاتيح غيوب السماوات والأرض ، لا يطلعَ عليها إلا مَن خضع لأوليائه ، الذين هم آيات من آياته. والذين كفروا بآيات الله ، الدالة على الله ، وهم أولياء الله ، أولئك هم الخاسرون ، فلا خسران أعظم من خيبة الوصول ؛ إذ لا يخلو المفروق عن الله من الشرك الخفي ، فإذا أُمر المريد بإظهار شيء من سره ، أو مداهنة غيره ، قال : {أفغير الله تأمروني أعبدُ أيها الجاهلون}. {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت} بأن طالعت غيري في سرك ، أو تشوّفت أن يعلم الناس بخصوصيتك {ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد} واكتفِ به ، واقنع بعلمه ، واغتنِ بشهوده. {وكن من الشاكرين} على ما أولاك من سر خصوصيته.
(6/423)
جزء : 6 رقم الصفحة : 278
يقول الحق جلّ جلاله : {وما قَدرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِه} أي : ما عظَّموه حق تعظيمه ؛ حيث جعلوا له شريكاً ، أو وصفوه بما لا يليق بشؤونه الجليلة ، أو : حيث دعوك إلى عبادة غيره تعالى ، أو : ما عرفوه حق معرفته ، حيث لم يؤمنوا بقدرة الله تعالى. قال ابن عباس : فمَن آمن أن الله على كل شيء قدير ، فقد قدر الله حق قدره. يقال : قدرت الشيء : إذا حزرته لتعرف مبْلغه ، والقدر : المقدار. والضمير ، إما لقريش ، المحدث عنهم ، وقيل : لليهود ، حيث تكلّموا في صفات الله تعالى ، فألحدوا وجسّموا.
ثم بيَّن لهم شيئاً من عظمته تعالى ، فقال : {والأرضُ جميعاً قبضَتُه يومَ القيامةِ والسماواتُ مطويات بيمينهِ} : فـ " جميعاً " : حال من الأرض ؛ لأنه بمعنى الأرضين ، أي : والأرضون جميعاً مقبوضة له بقدرته يوم القيامة. {والسماوات مطويات بيمينه} أي : بقدرته. والقبضة : المرة من القبض ، والقُبْضة : المقدار المقبوض بالكف ، والمراد من الكلام : تصوير عظمته تعالى ، والتوقيف على كنه جلاله ، وأن تخريب هذا العالم هو عليه شيء هين ، على طريقة التمثيل والتخييل ، من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ، ولا مجازاً ، هكذا قال جمهور المفسرين.
قلت : لا يبعد أن تحمل الآية على ظاهرها ، فإن الله تعالى يُبدل الأرض ويجمعها بأجمعها ، فتكون كخبزة النقي ، ويطوي السماء كطي الكتاب ، حتى يبرز العرش ، كما في
280
(6/424)
الحديث ، ففي حديث البخاري ، عن أبي سعيد الخدري ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تكون الأرضُ يومَ القيامة خبزةً واحدةً ، يتكفؤُها الجبارُ بيده ، كما يتكفؤُ أحدُكم خُبْزَته في السفر ، نُزُلاً لأهل الجنة " وفي حديث أبي هريرة : " إن الله يقبض الأرض ، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ". وقال ابن عمر : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر ، وهو يحكي عن ربه تعالى ، فقال : " إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ، جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته ، ثم قال هكذا ، وشدّ قبضته ، ثم بسطها ، ثم يقول : أنا الله ، أنا الرحمن... " الحديث. وفي لفظ آخر : " يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا لملك ، أين الجبارون أين المتكبرون ؟ " وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية : " كل ذلك في يمينه ، وليس في يده الأخرى شيء ، وإنما يستعين بشماله المشغولُ بيمينه ، وما السماوات السبع ، والأرضون السبع ، في يد الله تعالى ، إلا كخردلة في يد أحدكم ، ولهذا قال : {مطويات بيَمينِهِ} : يعني السماوات والأرضين كلها بيمينه " قلت : من كَحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص ، لا تصعب عليه هذه الأمور ؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر ، فيمكن أن يتجلى من نور جبروته بنور يشاكل الآدمي في الأعضاء كلها ، فيكون له ذات لها يدان وقدمان ، وبه ورد أن الله يضع قدمه على النار ، فتقول : قط قط ، ويكشف عن ساقه لأهل الموقف ، ويتقدمهم للجنة ، إلى غير ذلك مما ورد في الحديث. ولا يلزم من ذلك حصر ولا تجسيم ، إنما هي تجليات للذات الكلية المطلقة ، ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء والبقاء من العارفين ، فسلِّم تسلَم.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 280
سبحانه وتعالى عما يشركون} أي : تنزيهاً عظيماً لمَن هذه قدرته وشأنه عما يضاف إليه من الشركاء ، أي : ما أبعد من هذا شأنه عن إشراكهم!
(6/425)
الإشارة : ما عرف لله حق معرفته مَن أثبت الكائنات معه ، وهي ممحوة بأحدية ذاته ، لا وجود لها معه على التحقيق ، فالأرض قبضة أسرار ذاته ، والسماوات محيطاتُ أفلاك أنواره ، وبحر الذات مطبق على الجميع ، ماحٍ للكل ، وأنشدوا :
فالكلُّ دونَ اللهِ إِنْ حققتَه
عدمٌ على التفصيل والإجمالِ>> واعلمْ بأنك والعوالِمَ كلَّها
لولاه في محوٍ وفي اضمحلالِ>> مَن لا وجودَ لذاتِه من ذاتِه
فوجودُه لولاه عينُ مُحالِ
281
وقال آخر :
مَن أَبْصَرَ الخلقَ كالسَّراب
فقد تَرَقَّى عن الحِجَابِ>> إِلى وُجودٍ تراه رَتْقاً
بلا ابتعادٍ ولا اقْترابِ
جزء : 6 رقم الصفحة : 280
يقول الحق جلّ جلاله : {ونُفخ في الصُّورِ} النفخة الأولى {فصَعِقَ مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض} أي : خرّ ميتاً ، أو مغشياً عليه ، {إِلا مَن شاء اللهُ} قيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، ثم يُميتهم الله بعد ذلك ، وقيل : حمَلَة العرش ، وقيل : خزَنة النار والجنة.
{ثم نُفخ فيه أُخرى} هي النفخة الثانية. و " أخرى " : في محل الرفع صفة لمحذوف ، أي : نفخ نفخة أخرى ، {فإِذا هم قيام} من قبورهم ، حال كونهم إذا فاجأهم خطب {ينظرون} ؛ يُقلبون أبصارهم في الجوانب الأربعة ، كالمبهوتين ، أو : ينظرون ما يفعل بهم ، ودلت الآية على أن النفخة اثنتان ؛ للموت ، والبعث ، وقيل : ثلاث ؛ للفزع ، والموت ، والبعث.
(6/426)
{وأشرقت الأرضُ} ؛ أضاءت {بنور ربها} حين يتجلّى لفصل عباده ، فتُشرق الأرض ـ أي : عرَصَات القيامة ـ بنور وجهه ، ويقال : إن الله يخلق في القيامة نوراً يلبسه وجهَ الأرض ، فتشرق به. قال في الحاشية الفاسية : وهذا القول هو الذي اختاره محيي السنة ، وانتصر له الطيبي ، بما ورد من الأحاديث المقتضية لرؤيته في عرصات القيامة ، قال : وما تعسف الزمخشري ، من حمل النور على العدل ، إلا فراراً من ذلك. هـ. قال القشيري : هو نور يخلقه في القيامة ، عند تكوير الشمس ، وانكدار النجوم ، ويستضيء به قومٌ دون قوم ، والكفارُ يَبْقَون في الظلمة ، والمؤمنون : {يَسْعَى نُورُهُم} [الحديد : 12] الآية. ويقال : غداً إشراق الأرض ، واليوم إشراق القلب ، غداً أنوار التولي ، واليوم أنوار التجلي. هـ.
وقال السدي : بعدله ، على الاستعارة ، يقال للملك العادل : أشرقت الأرض بعدله ، كما استعيرت الظلمة للظُلم. وفي الحديث : " الظلم ظلمات يوم القيامة ". {ووُضِع الكتابُ} أي : صحائف الأعمال. اكتفى باسم الجنس ، أو : كتاب المحاسبة والجزاء. {وجيء بالنبيين} ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم ، {والشهداء}
282
أي : الحفظة ، ليشهدوا على كل إنسان بما عمل ، والذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة إذا جحدتهم أممهم ، أو : الذين استُشهدوا في سبيل الله. {وقُضِيَ بينهم} : بين العباد {بالحق وهم لا يُظلَمُون} بنقص ثواب ، أو زيادة عقاب ، قال ابن عطية : الضمير في {بينهم} عائد على العالم بأجمعه. هـ. فيقتضي دخول الملائكة ، ويتصور القضاء في حقهم ، من حيث جعلوا حفظة على العباد ، وأمناء على الوحي والتبليغ ، وغير ذلك من ترتيبهم في مقاماتهم ، وترقيهم في علومهم ، وتفاوتهم في ذلك. وفي وجوه تخصيصاتهم وتصديقهم في التبليغ ، ورد ما استندوا فيه لظواهر الأمور ، مع علمه تعالى خلافه ، مما لا اطلاعَ لهم عليه. قاله في الحاشية.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 282
(6/427)
ووُفِّيت كلُّ نفسٍ} جزاء {ما عملَتْ وهو أعلم بما يفعلون} فلا يفوته شيء من أفعالهم. ومضمون الآية : تصوير التعرُّض للقضاء بين العباد على ما هو شأن الملك ، من إحضار الشهود وخواص حضرته ، حين يبرز لذلك ، ويشهده الظالم والمظلوم ، وإن كان كنه معرفته موكولاً إليه ، ثم من لوازم ذلك العدل. والله تعالى أعلم.
الإشارة : في الآية إشارة للفناء والبقاء ، فيصعق العبد عن رؤية وجوده ، ثم يبقى بربه ، فتشرق أرض البشرية بنور وجود الحق ، ثم يشرق العالم كله. قال الورتجبي : نفخة الصعق قهرية جلالية ، ونفخة البعث ظهور أنوار جماله في أنوار جلاله ، وبذلك ينتظر وقوع نور الكشف بقوله : {وأشرقت الأرضُ بنور ربها} فيتجلّى للخواص ، ثم تستضيء بأنوارهم أرض المحشر ، للعموم والخصوص ، تعالت صفاته عن أن تقع على الأماكن ، أو أن يكون محلاًّ للحدثان ، يا عاقل ، لا تكون ذرة من العرش إلى الثرى إلا وهي مستغرقة في أنوار إشراق آزاله وآباده. ثم قال عن بعضهم : (إلا مَن شاء الله) هم أهل التمكين ، مكّن الله أسرارهم من تحمُّل الواردات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 282
يقول الحق جلّ جلاله : {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زُمراً} أي : تسوقهم الزبانية بالعنف والإهانة ، كما تساق الأسارى والخارجين على السلطان ، إذا سيقوا للقتل أو السجن ، فتسوقهم الزبانية إلى جهنم أفواجاً متفرقة ، بعضها إثر بعض ، حسب ترتُّب طبقاتهم في الضلالة والشرارة ، والزمر : جمع زمرة ، أي : الجماعة ، واشتقاقها من الزمر ، أي : الصوت. والجماعة لا تخلو عنه.
283
(6/428)
{حتى إذا جاؤوها فُتِحَتْ أبوابها} ليدخلوها ، وهي سبعة ، {وقال لهم خزنتُها} تقريعاً وتوبيخاً : {ألم يأتكم رسلٌ منكم} ؛ من جنسكم. وقرىء : " نُذُر منكم " ، {يتلون عليكم آياتِ ربكم ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا} أي : وقتكم هذا ، وهو وقت دخولهم النار. وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع ، من حيث إنهم علّلوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. {قالوا بلى} قد أتونا وأنذرونا ، {ولكن حقتْ كلمةُ العذاب على الكافرين} أي : ولكن وجبت علينا كلمة الله : {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [هود : 119] بسوء أعمالنا حيث كذَّبنا ، وقلنا ما نزّل الله من شيء ، إن أنتم إلا تكذبون. {قيل ادخلوا أبوابَ جهنمَ خالدين فيها} أي : مقدرين الخلود ، {فبئس مثوى المتكبرين} ، اللام للجنس ، والمخصوص محذوف ، أي : بئس مثوى المتكبرين جهنم ، وتكبرهم مسبب عن استحقاق كلمة العذاب عليهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل مَن تكبَّر عن أولياء زمانه ـ أهل التربية ـ حتى مات محجوباً عن شهود الحق ، يلحقه التوبيخ بلسان الحال ، فيقال له : ألم يأتكم رسل من أولياء زمانكم ، يعرفون بنا في كل زمان ؟ فيقولون : بلى ، ولكن حقت علينا كلمة الحجاب ، فيخلدون في القطيعة والحجاب ، إلا في وقت مخصوص ، وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 283
(6/429)
يقول الحق جلّ جلاله : {وسيقَ الذين اتقوا ربهم} مساق إعزاز وتشريف ، بلا إسراع ولا تكليف ، إلى دار الكرامة والتعريف. قيل : يُساقون راكبين مبجَّلين ، كما يجيء الوافدون إلى دار الملوك ، يساقون {إِلى الجنة زُمراً} ؛ جماعة متفاوتين ، بحسب تفاوت مراتبهم في الفضل ، وعلو الطبقة ، {حتى إِذا جاؤوها وفُتِحَتْ أبوابها} الثمانية. وقرىء بالتخفيف والتشديد. وجواب " إذا " محذوف ؛ للإيذان بأن لهم من فنون الكرامة ما لا تُحيط به العبارة ، كأنه قيل : حتى إذا جاؤوها ، وقد فتحت أبوابها ، كان من الأمر والخبر ما يقصر عنه البيان. {وقال لهم خزنتُها سلامٌ عليكم طبتم} ؛ ظفرتم ، وتقدّستم في دار التقديس من كل دنس ، وطبتم نفساً ، بما أتيح لكم من النعيم والأمن ، {فادْخُلوها خالدين} ، وحذف الواو في وصف أهل النار ؛ لأن أبواب جهنم لا تفتح لهم حتى لهم حتى يصلوا إليها ، وفي وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم ، كما هي حال السجون ، بخلاف أهل الجنة ، فإنهم يجدونها مفتوحة ، قال تعالى :
284
{مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} [ص : 50] كما هي حال منازل الأفراح والسرور.
{وقالوا الحمدُ لله الذي صَدَقَنا وَعْدَهُ} أي : أنجزنا ما وعدنا في الدنيا من نعيم العقبى ، {وأورثنا الأرضَ} ؛ أرض الجنة ، أي : المكان الذي استقرُّوا فيه ، وقد أُورثوها وملكوها. وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه ، واتساعه فيها ، {نتبوَّأُ من الجنة حيث نشاءُ} أي : يتخذ كل واحد منا جنة لا توصف ، سعة وزيادة على الحاجة ، فيتبوأ أيَّ مكان أراده من جنته الواسعة ، {فَنِعمَ أجرُ العاملين} في الدنيا الجنة.
(6/430)
{وترى الملائكةَ} حال كونهم {حافِّينَ من حول العرشِ} أي : محدقين به. و " من " لابتداء الغاية ، أي : ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله ، أو : زائدة ، {يُسبِّحون بحمدِ ربهم} أي : يقولون سبحان الله ، والحمد لله ، سُبوح قُدوس ، رب الملائكة والروح. أو : ينزهونه تعالى عما لا يليق به ، ملتبسين بحمده. والمعنى : ذاكرين الله تعالى بوصفي جلاله وإكرامه ، تلذُّذاً ، وفيه إشعار بأن أقصى درجات العليين في لذائذهم هو الاستغراق في شهوده عزّ وجل.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 284
وقيل الحمدُ لله رب العالمين} يقوله أهل الجنة شكراً لله حين دخلوها ، وتمّ وعد الله لهم : {الحمد لله رب العالمين} كما قال : {وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس : 10].
الإشارة : وسيق الذين اتقوا ربهم حق تقاته إلى جنة المعارف ، زُمراً ، متفاوتين في السير ، على قدر تفاوتهم في القريحة ، والاعتناء ، والتفرُّغ من الشواغل والعلائق. حتى إذا جاؤوها وفُتحت أبوابها ، بذهاب حجاب الكائنات ، حتى بقي المكوّن وحده ، كما كان وحده ، وجدوا من الأسرار والأنوار ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ، ولا تحيط به الإشارة. وقال لهم خزنتها ، وهم شيوخ التربية ، العارفون الله : سلام عليكم طِبتم ، أي : تقدّستم من العيوب والأكدار ، فادخلوها خالدين ؛ لأن مَن وصل لا يرجع أبداً ، وما رجع مَن رجع إلا من الطريق. وقالوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده ، بأن أنجز لنا ما وعدنا من الوصول ، على ألسنة المشايخ. قال في الحِكَم : " سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه ".
وأورَثَنا أرضَ الوجود بأسره ، نتبوأ من جنة المعارف ، في أقطار الوجود ، بفكرتنا وهمتنا ، حيث نشاء ، فنِعم أجر العاملين. وترى الملائكة حافين من حول العرش ، أي : قلب العارف ؛ لأن بيت الرب ، ومحل قرار نوره ، فيحفُّونه بالحفظ والرعاية من دخول الأغيار ، ويُنزهون الله عن الحلول والاستقرار. وقُضي بينهم بالحق ، فعزلت الشياطين عن قلوب الذاكرين ، وتسلّطت على قلوب الغافلين ، والحمد لله رب العالمين ، حيث لم يظلم أحداً من العالمين.
285
جزء : 6 رقم الصفحة : 284(6/431)
سورة غافر
جزء : 6 رقم الصفحة : 285
يقول الحق جلّ جلاله : {حم} أي : يا محمد. فاقتصر على بعض الحروف ، ستراً عن الوشاة ، كعادة العُشاق في ذكر محبوبهم ، يرمزون إليه ببعض حروفه. وقال ابن عطية : سأل أعرابي النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن " حم " ما هو ؟ فقال : " بدء أسماء وفواتح سور " وفي حديث : " إذا بُيتّم فقولوا : حم لا يُنصرون " قال أبو عبيد : كأن المعنى : اللهم لا ينصرون. قلت : لا يبعد أن يكون توسل بحبيب الله على هزم الأعداء. وعن ابن عباس : (أنه اسم الله الأعظم). هـ. وكأنه مختصر من " حي قيوم ".
{تنزيلُ الكتاب} أي : هذا تنزيل القرآن {من الله العزيزِ العليم} أي : العزيز بسلطانه ، الغالب على أمره ، العليم بمَن صدّق به وكذّب. وهو تهديد للمشركين ، وبشارة للمؤمنين. والتعرُّض لوصفي العزة والعلم للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب ؛ لظهوره عزِه وعز مَن تمسّك به ، ولاشتماله على علوم الأولين والآخرين.
{غافر الذنبِ} أي : ساتر ذنب المؤمنين ؛ {وقابلِ التَّوْبِ} وقابل توبةَ الراجعين {شديدِ العقاب} للمخالفين ، {ذي الطَّوْلِ} على العارفين ، أي : الفضل التام على العارفين ، أو : ذي الغنى عن الكل. وعن ابن عباس : (غافر الذنب ، وقابل التوب ، لمَن قال : " لا إله إلا الله " شديد العقاب لمَن لم يقل لا إله إلا الله).
286(6/432)
والتَّوب : مصدر ، كالتوبة. ويقال : تاب وثاب وآب ، أي : رجع ، فإن قلتَ : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً ، والموصوف معرفة ، وهو الله ؟ قلتُ : أما {غافر الذنب وقابل التَّوب} فمعرفتان ؛ لأنه لم يُرِدْ بهما حدوث الفعلين حتّى يكون في تقدير الانفصال ، فتكون إضافتهما غير حقيقية ، وإنما أُريد ثُبوت ذلك ودوامه. وأما {شديد العقاب} فهو في تقدير : شديد عقابُه ، فيكون نكرة ، فقيل : هو بدل ، وقيل : كلّها أبدال غير أوصاف. وإدخال الواو في {قابل التوب} لنكتة ، وهي : إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين قبول توبته ، فتُكتب له طاعة ، وبين جعلها ماحية للذنوب ، كأن لم يُذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول. وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات النعمة دليل سبقها ورجحانها ، " إن رحمتي سبقت غضبي ". قال القشيري : سُنَّةُ اللهِ تعالى : إذا خَوَّف العبادَ باسْمٍ ، أو لفظٍ ، تدارَكَ قلوبَهم بأن يُبشِّرهم باسْمَين أو وَصْفيْن. هـ. رُوي : أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأسٍ شديد ، من أهل الشام ، فقيل له : تابَع هذا الشراب ، فقال لكاتبه : اكتب : من عمر إلى فلان ، سلام الله عليك ، وأنا أحمد إليك الله ، الذي لا إله إلا هو ، بسم الله الرحمن الرحيم {حم...} إلى قوله : {إِليه المصير} وختم الكتاب ، وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحباً ، ثم أمر مَن عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته الصحيفة ، جعل يقرؤها ، ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذّرني من عقابه ، فلم يبرح يردّدها حتى بكى. ثمّ نزع ، فأحسن النزوع ، وحسنت توبته. فلما بلغ عمر رضي الله عنه أمرُه ، قال : " هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم قد زلَّ فسدّدوه ، وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه " أي : بالدعاء عليه. هـ.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 286
(6/433)
لا إِله إلا هو} أي : فيجب الإقبال الكلي عليه ، وهو : إما استئناف ، أو : صفة لذي الطَّوْل ، {إِليه المصيرُ} أي : المرجع ، فيُجازي كُلاًّ من العاصي والمطيع. قال القشيري : إذا كان إلى الله المصير فقد طاب المسير.
{ما يُجادل في آيات الله} أي : ما يُخاصم فيها بالطعن فيها ، واستعمال المقدمات الباطلة ؛ لإدحاض الحق المشتملة عليه ، {إِلا الذين كفروا} ، وأما الذين آمنوا فلا يخطر ببالهم شائبة شُبهة منها ، فضلاً عن الطعن فيها ، وأما الجدال فيها لحل مشكلاتها ، وكشف حقائقها ، وتوضيح مناهج الحق منها ، وردّ مذاهب أهل الزيغ بها ، فمِن أعظم الجهاد في سبيل الله.
قال الطيبي : وأما اتصال قوله : {ما يُجادل في آيات الله...} الآية بما قبله ، فهو
287
أنه لَمَّا قال تعالى : {حم تنزيل الكتاب} من الإله المعبود ، الموصوف بصفات العلم الكامل ، والعز الغالب ، الجامع بين غفران الذنب وقبول التوبة ، المتفرّد بالعقاب ، الذي لا يقدّر كنهه ، وبالإفضال الذي لا يبلغ قدره ، قال : {ما يُجادل في آيات الله} أي : ما يجادل في مثل هذا الكتاب ، المشتمل على الآيات البينات ، المنزل من مثل ذلك الموصوف بنعوت الكمال ، إلا أمثال هؤلاء الكفرة المغرورين ، {فلا يَغْرُرْكَ نَقَلُبُهم في البلاد} فإنه استدراج ، فلا يَغْرُر مثلك في منصب الرسالة تقلُبُ أولئك تقلبَ الأنعام ، المنعَّمين في هذا الحطم. وآيات الله : مُظْهَر أقيم المُضمر ؛ للتعظيم والتفخيم. هـ.
والفاء لترتيب النهي عن الاغترار على ما قبله من التسجيل عليهم بالكفر ، الذي لا شيء أمقت منه عند الله ، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة ، فإنَّ مَن تحقق ذلك لا يكاد يغتر بما لهم من الحظوظ الفانية ، والزخارف الدنيوية ، فإنهم مأخوذون عما قليل ، كما أُخذ من قبلهم. ولذلك ذكرهم بقوله : {كذبت...} الخ.
(6/434)
الإشارة : " حم " أي : بحلمي ومجدي تجليت في كلامي ، المنزل على حبي ، وهو تنزيل الكتاب من الله العزيز ، المُعزّ لأوليائه ، العليم بما كان وما يكون منهم ، فلا يمنعه عِلمُه عما سَلَفَ من قضائه. غافرُ الذنب لمَن أَصَرَّ واجْتَرَم ، وقابلُ التوب لمَن تاب واحتشم ، شديد العقاب لمَن جَحَدَ وكفر ، ذي الطول لمَن توجه ووصل ، ويقال : غافر الذنب للغافلين ، وقابل التَّوب للمتوجهين ، شديد العقاب للمنكرين ، ذي الطول للعارفين الواصلين. لا إله إلا هو ، فلا موجود معه ، إليه المصير بالسير في ميادين النفوس ، حتى يحصل الوصول إلى حضرة القدوس. ما يُجادل في آيات الله ، وهم أولياء الله ، الدالون على الله ، إلا أهلُ الكفر بوجود الخصوصية. قال القشيري : إذا ظهر البرهانُ ، واتَّضح البيانُ استسلمَت الألبابُ الصاحيةُ للاستجابة والإيمان. وأمَّا أهلُ الكفر فلهم على الجحود إصرارٌ ، وشُؤْمُ شِرْكهم يحولُ بينهم وبين الإنصاف ، وكذلك مَن لا يحترم أولياء الله ، يُصرُّون على إنكارهم تخصيصَ الله عباده بالآيات ، ويعترضون عليهم بقلوبهم ، فيُجادلون في جَحْدِ الكرامات ، وسيفتضحون ، ولكنهم لا يُميزون بين رجحانهم ونقصانهم. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 286
يقول الحق جلّ جلاله : {كذَّبتْ قبلهم قومُ نوحٍ} نوحاً ، {والأحزابُ} أي : الذين تحزّبوا على الرسل ، وناصبوهم العداوة ، {من بعدِهم} أي : من بعد قوم نوح ، كعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وأضرابهم ، {وهَمَّتْ كلُّ أُمَّةٍ} من تلك الأمم الماضية {برسولهم ليأخذوه} ؛ ليتمكنوا منه ، فيُصيبوا ما أرادوا من تعذيب أو قتل. والأخذ : الأسر.
289
(6/435)
{وجادلوا بالباطل} الذي لا أصل له ، ولا حقيقة لوجوده ، {ليُدْحِضُوا بِه الحقَّ} ؛ ليُبطلوا به الحق الذي جاءت به من الإيمان وغيره ، {فأخَذتهُم} بسبب ذل أخذاً وبيلاً ، {فكيف كان عقابِ} الذي عاقبتم به ، فإنَّ آثار ديارهم عرضة للناظرين ، وسآخذ هؤلاء أيضاً ؛ لاتحادهم في السرة ، واشتراكهم في الجريرة ، كما ينبىء عنه قوله :
{وكذلك حقَّتْ كلمتُ ربك} أي : كما وجب حُكم الله تعالى وقضاؤه بالتعذيب على أولئك الأمم المكذِّبة ، المجترئة على رسلهم ، المجادلة بالباطل لإدحاض الحق ، وجب أيضاً {على الذين كفروا} بك ، وتحزّبوا عليك ، وهَمُّوا بما لم ينالوا ، كما يُنبىء عنه إضافة اسم الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ؛ فإن ذلك للإشعار بأنَّ وجوب كلمة العذاب من أحكام التربية ، التي من جملتها : نصرته صلى الله عليه وسلم ، وتعذيب أعدائه ، وذلك إنما يتحقق بكون الموصول عبارة عن كفار قومه ، لا عن الأمم المهلكة.
وقوله تعالى : {أنهم أصحاب النار} في حيز النصب ، بحذف لام التعليل ، أي لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها ، الذي هو عذاب النار ، وملازمتها أبداً ، لكونهم كفاراً معاندين ، متحزِّبين على الرسول صلى الله عليه وسلم ، كدأب مَن قبلهم مِن الأمم المهلَكة ، وقيل : إنه في محل رفع ، على أنه بدل من " كلمة ربك " ، والمعنى : ومثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النار ، أي : كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال ؛ وجب تعذيبهم في الآخرة بعذاب النار ، ومحل الكاف من (كذلك) على التقديرين : النصب ، على أنه نعت لمصدر محذوف.
الإشارة : الأولياء على قَدم الرسل ، فكل ما لحق الرسل من الإيذاء يلحق الأولياء ، فقد كُذِّبت ، وتحزَّب عليهم أهلُ عصرهم ، وهمُّوا بأخذهم ، وجادلوا بالباطل ليُدحضوا نورَ الله بأفواههم ، والله مُتمُّ نوره ، فأخذهم الله بالخذلان والبُعد ، والخلود في نار القطيعة والحجاب ، والعياذ بالله.
(6/436)
جزء : 6 رقم الصفحة : 289
قلت : {الذين} : مبتدأ ، و {يُسبّحون} : خبره ، والجملة : استئناف مسوق لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان أن أشراف الملائكة ـ عليهم السلام ـ مثابرون على ولاية مَن معه من
289
المؤمنين ، ونصرتهم ، واستدعاء ما يُسعدهم في الدارين.
يقول الحق جلّ جلاله : {الذين يحملون العرش} على عواتقهم ـ وهم محمولون أيضاً بلطائف القدرة ، {ومَن حَوْله} أي : الحافِّين حوله ، وهم الكروبيّون ، سادات الملائكة ، وأعلى طبقاتهم. قال ابن عباس : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام ، وقيل : أرجلهم في الأرض السفلى ، ورؤوسهم خرقت العرش ، وهم خشوعٌ ، لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفاً من سائر الملائكة.
(6/437)
وقال أيضاً : لمَّا خلق الله حملة العرش ، قال لهم : احملوا عرشي ؛ فلم يطيقوا ، فخلق الله مع كل ملك من أعوانهم مثل جنود مَن في السموات ومَن في الأرض مِن الخلق ، فقال لهم : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا ، فخلق مع كل واحد منهم مثل جنود سبع سموات وسبع أرضين ، وما في الأرض من عدد الحصى والثرى ، فقال : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا ، فقال : قولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فقالوها ، فاستقلوا عرش ربنا ، أي : لَمَّا حملوه بالله أطاقوه ، فلم يحمل عرشه إلا قدرته ، وفي الحديث : " إن الله أمر جميع الملائكة أن يَغدُوا ، ويَرُوحوا بالسلام على حملة العرش ، تفضيلاً لهم على سائر الملائكة ". وقال وهب بن منبه : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة ، صف خلف صف ، يدورون حول العرش ، يطوفون به ، يُقبل هؤلاء ، ويُدبر هؤلاء ، فإذا استقبل بعضهم بعضاً ، هلّل هؤلاء ، وكبَّر هؤلاء ، ومِن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، أيديهم إلى أعناقهم ، قد وضعوها على عواتقهم ، فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم ، رفعوا أصواتهم ، فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلَّك ، أنت الله لا إله غيرك ، أنت الأكبر ، الخلقُ كلهم راجون رحمتك ، ومِن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة ، قد وضعوا اليمنى على اليسرى ، ليس منهم أحد إلا يُسبح الله ـ تعالى ـ بتسبيح لا يُسبحه الآخر ، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام ، واحتجب الله عزّ وجل ـ بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش ـ بسبعين حجاباً من ظُلمة ، وسبعين حجاباً من نور ، وسبعين حجاباً من دُرٍّ أبيض ، وسبعين حجاباً من ياقوتٍ أحمر ، وسبعين حجاباً من زمُردٍ أخضر ، وسبعين حجاباً من ثلجٍ ، وسبعين حجاباً من ماءٍ ، إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 289
(6/438)
قلت : لمّا أظهر الله العرشَ تجلّى بنورٍ جبروتي رحموتي ، استوى به على العرش ، كما يتجلّى يوم القيامة لفصل القضاء ، ثم ضرب الحُجُب بين هذا التجلي الخاص وبين الملائكة الحافِّين ، ولا يلزم عليه حصر ولا تجسيم ؛ إذ تجليات الذات العالية لا تنحصر ، وليست هذه الحُجُب بين الذات الكلية وبين الخلق ؛ إذ لا حجاب بينها وبين سائر
290
المخلوقات إلا حجاب القهر والوهم. واخْتُلف في هيئة العرش ، فقيل : إنه مستدير ، والكون كله في جوفه كخردلة في الهواء ، حتى قيل : هو الفلك التاسع ، وقيل : هو منبسط كهيئة السرير ، وله سواري وأعمدة ، وهو ظاهر الأخبار النبوية. رَوى جعفرُ الصادق عن أبيه عن جده ، أنه قال : إن بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية من خفقان الطير المسرعة قياس ألف عام ، وإن ملَكاً يقال له : حزقائيل ، له ثمانية عشر ألف جناح ، ما بين الجناح والجناح خمسمائة عام ، فأوحى الله إليه : أن طِرْ ، فطار مقدار عشرين ألف سنة ، فلم ينل رأسُه قائمةً من قوائم العرش ، ثم طار مقدار ثلاثين ألف سنة فلم ينلها ، فأوحى الله إليه : لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ ساق عرشي. هـ. مختصراً.
وفي حديث آخر : " إن بين القائمة والقائمة من قوائم العرش ستين ألف صحراء ، في كل صحراء ستون ألف عالم ، في كل عالم قدر الثقلين " ومع هذا كله يسعه قلب العارف حتى يكون في زاوية منه ؛ لأنه محدود ، وعظمة الحق غير محدودة ، وقلب العارف قد تجلّت فيه عظمة الحق ، فوسعها ، بدليل الحديث : " لن تسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن " أي : الكامل.
(6/439)
ثم أخبر تعالى عن حَمَلة العرش ومَن حوله بقوله : {يُسَبِّحُونَ بحمد ربهم} أي : ينزهونه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل ، ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى ، {ويُؤمنون به} إيماناً يناسب حالهم. وفائدة ذكره مع علمنا بأن حملة العرش ومَنْ حوله الذي يُسبِّحون بحمد ربهم مؤمنون ؛ إظهار لشرف الإيمان وفضيلته ، وإبراز لشرف أهله ، والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء في بعض المواضع بالصلاح. وفيه تنبيه على أن الملائكة لم يحصل لهم العيان ، وإنما وًصفوا بالإيمان بالغيب ، وهم طبقات : منهم العارفون أهل العيان ، ومنهم أهل الإيمان.
ثم قال تعالى : {ويستغفرون للذين آمنوا} أي : ويستغفرون لمَن شاركهم في حالهم من الإيمان ، وفيه دليل على أن الإشراك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة ، وإن تباعدت الأماكن ، وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم ، من تسبيحهم ، وتحميدهم ، وإيمانهم ، إيذان بكمال اعتنائهم به ، وإشعار بوقوعه عند الله ـ تعالى ـ موقع القبول.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 289
ربَّنا} أي : يقولون : ربنا ، إمّا بيان لاستغفارهم ، أو حال ، {وَسِعْتَ كلَّ شيء رحمةً وعلماً} أي : وسعت رحمتُك وعلمك كلَّ شيء ، فأزيل الكلام عن أصله ، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم ، ونُصبا على التمييز ، مبالغةً في وصفه ـ تعالى ـ
291
بالرحمة والعلم ، وفي عمومهما ، وتقديم الرحمة ؛ لأنها السابقة والمقصودة هنا ، {فاغفرْ للذين تابوا} أي : للذين علمتَ منهم التوبة ، ليُناسب ذكر الرحمة ، {واتَّبعُوا سبيلَك} أي : طريق الهُدى التي دعوت إليها. والفاء لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم ، {وَقِهِم عذاب الجحيم} أي : احفظهم منه ، وهو تصريح بعد إشعار ؛ للتأكيد.
(6/440)
{ربنا وأَدْخِلهم جناتِ عدنٍ التي وعدتَّهم} إياها ، {ومَن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} أي : صلاحاً مصححاً لدخول الجنة في الجملة ، وإن كانوا دون صلاح أصولهم ، و (مَن) : عُطف على ضمير (وعدتهم) ، أي : وأَدْخل معهم هؤلاء ؛ ليتم سرورهم ، ويتضاعف ابتهاجهم. قال سعيد بن جبير : (يدخل الرجل الجنة ، فيقول : أين أبي ؟ أين أمي ؟ أين ولدي ؟ أين زوجتي ؟ فيقال له : لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : كنتُ أعمل لي ولهم ، فيقال : أَدخلوهم الجنة). وسبق الوعد بالإدخال والإلحاق لا يستدعي حصول الموعود بلا توسُّط شفاعة واستغفار ، وعليه بنى قول مَن قال : فائدة الاستغفار للمنيب الكرامة والثواب. انظر أبا السعود.
{إِنك أنت العزيزُ الحكيم} أي : الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور ، وأنت مع مُلكك وعزتك لا تفعل شيئاً خالياً عن حكمة ، وموجب حكمتك أن تفي بوعدك.
{وقِهمْ السيئاتِ} أي : جزاء السيئات ، وهو العذاب ، أو المعاصي في الدنيا ، {ومَن تقِ السيئاتِ يومئذ فقد رَحِمْتَه} أي : ومَن تقه عقاب السيئات يومئذ فقد رحمته ، أو : ومَن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة ، وكأنهم طلبوا لهم السبب بعدما طلبوا المسبّب ، {وذلك هو الفوزُ العظيم} ؛ الإشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته ، أو : إليها وإلى الوقاية ، أي : ذلك التوقي هو الفوز العظيم الذي لا مطمع وراءه لطامع.
الإشارة : العرش وحملته ، والحافُّون به محمولون بلطائف القدرة ؛ لا حاملون في الحقيقة ، بل لا وجود لهم مع الحق ، وإنما هم شعاع من أنوار الذات الأقدس وتجلِّ من تجلياتها.
(6/441)
وقوله تعالى : {يُسبحون بحمد ربهم} ، قال الورتجبي : يُسبّحون الله بما يجدونه من القدس والتنزيه ، حمداً لأفضالِه ، وبأنه منزّه عن النظير والشبيه ، ويؤمنون به في كل لحظة ، بما يرون منه من كشوف صفات الأوليات ، وأنوار حقائق الذات ، التي تطمس في كل لمحة مسالك رسوم العقليات ، وهم يُقرون كل لحظة بجهلهم عن كنه معرفة وجوده ، ثم بيّن أنهم أهل الرأفة ، والرحمة ، والشفقة على أوليائه ، لأنهم إخوانهم في نسب المعرفة والمحبة. انظر تمامه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 289
والحاصل : أنهم مع تجلّي أنوار ذاته ، قاصرون عن كنهه ، وحقيقة ذاته ، وغايتهم
292
الإيمان به ، قاله في الحاشية. قلت : والتحقيق أن المقربين منهم تحصل لهم المعرفة العيانية ، والرؤية للذات في مظاهر التجليات ، كما تحصل لخواص الأولياء في الدنيا ، ولكن معرفة الآدمي أكمل ؛ لاعتدال حقيقته وشريعته ، لمَّا اعتدل فيه الضدان ، وأما معرفة الملائكة فتكون مائلة لجهة الشكر والهيمان ؛ للطاقة أجسامهم ، فمثلهم كالمرآة بلا طلاء خلفها ، وأمّا ما ورد في بعض الأخبار : أن جبريل لم يرَ الله قط قبل يوم القيامة ، فلا يصح ؛ إلا أن يُحمل على أنه لم يره من غير مظهر ، وهذا لا يمكن له ولا لغيره ، وأما رؤيتهم الله يوم القيامة فهم كسائر المؤمنين ، يرونه على قدر تفاوتهم في المراتب والقُرب. قال إمام أهل السنة ، أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه ، في كتاب " الإبانة في أصول الديانة " : أفضل اللذات لأهل الجنة رؤية الله تعالى ، ثم رؤية نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلذلك لم يحرم الله أنبياءه المرسَلين ، وملائكته المقرّبين ، وجماعة المؤمنين ، والصدّيقين النظرَ إلى وجهه تعالى. هـ. وفي الآية حث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب ، والاستغفار لهم ، وهو من شأن الأبدال ، أهل الحرمة لعباد الله ، اقتداءً بالملأ الأعلى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 289
(6/442)
يقول الحق جلّ جلاله : {إِن الذين كفروا يُنَادَوْنَ} يوم القيامة ، من قِبل الخزنة ـ وهم في النار : {لَمقْتُ الله} إياكم اليوم ، وإهانته لكم ، {أكْبرُ من مقتكم أنفسَكُم} في الدنيا ، حيث حرمتموها الإيمان وعرضتموها للهوان ، {إِذْ تُدْعَون إلى الإِيمان} من قِبَل الرسل {فتكفرون} ، والحاصل : أنهم مقتوا أنفسهم في الدنيا ، وأهانوها ، حيث لم يؤمنوا ، فإذا دخلوا النار حصل لهم من المقت والغضب من الله أشد وأعظم من ذلك ، فـ " إذا " : ظرف للمقت الثاني ، لا الأول ، على المشهور.
{قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} أي : إماتتين وإحياءتين ، أو : موتتين وحياتين. قال ابن عباس : كانوا أمواتاً في الأصلاب ، ثم أحياهم ، ثم أماتهم الموتة التي لا بُد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، وهذا كقوله تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ...} [البقرة : 28] الآية. قال السدي : أُميتوا في الدنيا ، ثم أُحْيوا في قبورهم للسؤال ، ثم أُميتوا في قبورهم ، ثم أُحيوا في الآخرة.
والحاصل : أنهم أجابوا : بأن الأنبياء دعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وكانوا يعتقدون ما يعتقده الدهرية : ألاَّ حياة بعد بالموت ، فلم يلتفتوا إلى دعوتهم ، وداموا على
293
(6/443)
الإنكار ، فلمّا رأوا الأمر عياناً ، اعترفوا. ووجه مطابقة قوله : {قالوا ربنا...} الخ لما قبله : الإقرار بما كانوا منكرين له من البعث ، الذي أوجب لهم المقت والعذاب ؛ طمعاً في الإرضاء له بذلك ؛ ليتخلصوا من العذاب ، ولذلك قالوا : {فاعترفنا بذنوبنا} ، لمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّر عليهم ، عَلِموا أن الله قادر على الإعادة ، كما هو قادر على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما يتبعه من جرائمهم. ومقصدهم بهذا الإقرار : التوسل بذلك إلى ما علَّقوا به أطماعهم الفارغة من الرجوع إلى الدينا ، كما صرّحوا به في قولهم : {فهل إلى خُروج} أي : نوع من الخروج ، سريع أو بطيء ، {من سبيلٍ} أو : لا سبيل إليه قط. وهذا كلامُ مَن غلب عليه اليأس ، وإنما يقولون ذلك تحيُّراً ، مع نوع استبعاد واستشعار يأس منه ، ولذلك أُجيبوا بقوله :
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 293
ذلِكُم} أي : ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب ، وألاَّ سبيل إلى الخروج ، {بأنه} أي : بسبب أن الشأن {إِذا دُعِيَ الله} في الدنيا ، أي : عُبد {وَحْدَه} منفرداً {كفرتم} بتوحيده ، {وإِن يُشْرَكْ به تؤمنوا} بالإشراك وتُسارعوا فيه ، أي : كنتم في الدنيا تكفرون بالإيمان ، وتُسارعون إلى الشرك. قيل : والتعبير بالاستقبال ، إشارة إِلى أنهم لو رُدوا لعادوا ، وحيث كان حالكم كذلك ، {فالحُكم لله} الذي لا يحكم إلا بالحق ، ولا يقضي إلا بما تقتضيه حكمته ، {العَلِيّ} شأنه ، فلا يُردّ قضاؤه ، أو : فالحكم بعذابكم وتخليدكم في النار لله ؛ لا لتلك الأصنام التي عبدتموها معه ، {الكبير} : العظيم سلطانه ، فلا يُحدّ جزاؤه. وقيل : إنَّ الحرورية أَخذوا قولهم : لا حكم إلا لله ، من هذه الآية. قال عليّ رضي الله عنه لَمَّا سمع مقالتهم : كلمة حق أُريد بها باطل. هـ.
(6/444)
الإشارة : إِنَّ الذين كفروا بطريق الخصوص ، وأنكروا وجود التربية ، حتى ماتوا محجوبين عن الله ، وبُعثوا كذلك ، يُنادون يوم القيامة بلسان الحال : لمقتُ الله لكم اليوم ـ حيث سقطتم عن درجات المقربين ـ أكبرُ من مقتكم أنفسكم حيث حرمتموها معرفة العيان ومقام الإحسان ، حين كنتم تُدْعون إلى تربية الإيمان ، وتحقيق الإيقان ، على ألسنة شيوخ التربية ، فتكفرون وتقولون : انقطعت التربية منذ زمان ، ثم يطلبون الخروج من عالم الآخرة إلى عالم الدنيا ، ليحصلوا المعرفة التي فاتتهم ، فيقال لهم : هيهات ، قد فات الإبّان ، " الصيفَ ضيعتِ اللبن ". فامكثوا في حجابكم ، ذلك بأنه إذا دُعي الله وحده ، وأن لا موجود سواه ، كفرتم بإنكاركم سبيله ، وهي طريق التجريد والتربية ، وإن يُشرك به بالتعمُّق في الأسباب ، والمكث فيها ، تؤمنوا. والحاصل : أنهم كانوا يُنكرون طريق التجريد ، ويؤمنون بطريق الأسباب ، فالحُكم لله العلي الكبير ، فيرفع مَن يشاء ، ويضع مَن يشاء بعلوه وكبير شأنه.
294
جزء : 6 رقم الصفحة : 293
(6/445)
يقول الحق جلّ جلاله : {هو الذي يُريكم آياته} الدالة على كبريائه ، وكمال قدرته ، من الرياح ، والسحاب ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، وغير ذلك ، لتستدلوا على ذلك ، وتعملوا بموجبها ، فتُوحدوه تعالى ، وتخصُّوه بالعبادة ، {ويُنزّل لكم من السماء رزقاً} ؛ مطراً ؛ لأنه سبب الرزق. وأفرده بالذكر مع كونه مِن جملة الآيات ؛ لتفرُّده بكونه من آثار رحمته ، وجلائل نِعَمه الموجبة للشكر ؛ إذ به قوام الحيوانات بأسرها. وصيغة المضارع في الفعلين ؛ للدلالة على تجدُّد الإراءة والتنزيل ، واستمرارهما. {وما يتذكَّرُ إِلا مَن يُنيب} أي : وما يتعظ ويعتبر بهذه الآيات الباهرة ، ويعمل بمقتضاها إلا مَن يتوب ويرجع عن غيّه إلى الله تعالى ، فيتفكّر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة ، ونِعَمه الشاملة. وأما المعاند فلا يتعظ ولا يعتبر ؛ لسفح الران على قلبه.
وإذا كان الأمر كما ذكرنا ، من اختصاص التذكير بمَن ينيب ، {فادْعُوا الله} ، أو : تقول : لَمَّا ذكر أحوال المشركين ، وأراد أن يشفع بأضدادهم ، جعل قوله : {هو الذي يُريكم آياته...} الخ ، توطئة لقوله : {فادعوا الله} أي : اعبدوه {مخلِصين له الدين} من الشرك الجلي والخفي ، بموجب إنابتكم إليه تعالى وإيمانكم ، {ولو كَرِه الكافرون} ؛ وإن غاظ ذلك أعداءكم ، ممن لم يتب مثلكم ، فإن الله يُكرم مثواكم ، ويرفع درجاتكم ، فإنه {رفيعُ الدرجات} أي : رافع درجات أوليائه المؤمنين ، الداعين إليه ، المخلصين في الدنيا والآخرة ، في الدنيا بالعز والنصر ، وفي الآخرة بالقُرب والاختصاص ، أو : رفيع السموات التي هي مصاعد الملائكة ، ومهابطها ، للسفارة بين المرسِل والمرسَل إليه ، وهو كالمقدمة لقوله : {يُلقي الروح...} الخ. هذا على أنه اسم فاعل ، مبالغة ، وقيل : هو صفة مشبهة أُضيفت إلى فاعلها ، أي : رفيعٌ درجاتُه بالعلو والقهرية.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 295
(6/446)
ذو العرش} أي : مالكه ، وهما خبران آخران عن {هو الذي...} الخ ، إيذاناً بعلو شأنه ، وعِظم سلطانه ، الموجبين لتخصيص العبادة به ، وإخلاص الدين له بطريق الاستشهاد بهما عليهما ؛ فإنَّ ارتفاع الدرجات والاستيلاء على العرش ـ مع كون العرش محيطاً بأكناف العالم العلوي والسفلي ، وهو تحت ملكوته وقبضة قهره مما يقضي بكون علو شأنه وعظيم سلطانه ـ في غاية لا غاية ورائها. قاله أبو السعود.
295
ثم ذكر سبب رفع الدرجات بقوله : {يُلقي الروح} أي : ينزل الوحي ، الجاري من القلوب بمنزلة الروح من الأجسام ، وكأنه لَمَّا ذكر رزق الأجسام أتبعه برزق الأرواح ، الذي هو العلم بالله ، وطريقُه الوحي. والتعبير بالمضارع ، قال الطيبي : يفيد استمرار الحي من لدن آدم إلى زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم اتصاله إلى قيام يوم التنادي ، بإقامة مَن يقوم بالدعوة ، على ما روى أبو داود ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ لهذه الأمة على رأسِ كلِّ مائةِ سنَة مَن يُجَدِّدُ لها دِينَها " ومعنى التجديد : إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُنَّة ، والأمر بمقتضاهما. هـ.
قلت : وقد رزتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه مرة ، فلما وقع بصره عليّ ، قال : واللهِ ، حتى يُحْيي الله بك الدين المحمدي. وكتب لي شيخ الجماعة ، وقطب دائرة التربية ، مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ، فقال في آخر كتابه : وأرجو من الله ألا تموت حتى تكون داعياً إلى الله ، تُذكّر أهل المشرق والمغرب. أو ما هذا معناه ، وقد وقع ذلك ، والحمد لله.
(6/447)
وقوله : {مِنْ أَمره} أي : من قضائه ، أو : بأمره ، فيجوز أن يكون حالاً من الروح ، أو متعلقاً بـ (يُلقِي) أي : يُلقِي الروح حال كونه ناشئاً ، أو : مبتدئاً من أمره ، أو : يُلقي الوحي بسبب أمره {على مَن يشاءُ من عباده} هو الذي اصطفاه لرسالته ، وتبليغ أحكامه إلى عباده ، {ليُنذر} أي : الله ، أو : المُلْقَى عليه ، وهو النبي عليه السلام ، ويؤيده قراءة يعقوب بالخطاب ، أي : لتخوُّف {يومَ التلاقِ} ؛ يوم القيامة ؛ لأنه يتلاقى فيه أهل السموات وأهل الأرض ، والأولون والآخرون ، و (يوم) : ظرف للمفعول الثاني ، أي : ليُنذر الناسَ العذابَ يوم التلاق ، أو : مفعول ثان ليُنذر ، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار.
{يوم هم بارزون} : بدل من " يوم التلاق " أي : خارجون من قبورهم ، أو : ظاهرون ، لا يستترون بشيء من جبل أو أكمة أو بناء ؛ لكون الأرض يومئذ قاعاً صفصفاً ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم حفاةٌ عراةٌ ، كما في الحديث. أو : بارزة نفوسهم لا يحجبها غواش الأبدان ، أو : بارزة أعمالهم وسرائرهم ، {لا يخفى على الله منهم شيءٌ} من أعمالهم وأحوالهم ، الجلية والخفية ، السابقة واللاحقة ، وهو استئناف لبيان بُروزهم ، وإزاحة لِما كان يتوهمه المتوهمون في الدنيا من الاستتار توهماً باطلاً ، فإذا برزوا وحُشروا ، نادى الحق ـ جلّ جلاله : {لمَن الملكُ اليومَ} ؟ فلا يجيبه أحد ، ثم يعود ثلاثاً ، فيجيب نفسه بنفسه بقوله : {لله الواحدِ القهارِ} أي : الذي قهر العباد بالموت.
جزء : 6 رقم الصفحة : 295
رُوي أن الله تعالى يجمع الخلائق في صعيد واحد ، في أرض بيضاء ، كأنها سبيكة
296
فضة ، لم يُعصَ الله عليها قط ، فأول ما يُتكلم به أن يُنادي مناد : لِمن المُلكُ اليوم ؟ فيجيب نفسه : " لله الوحد القهّار ". وقيل : المجيب أهلُ المحشر ، ورُوي أيضاً : أن هذا القول يقوله الحق تعالى عند فناء الخلق وقبل البعث ، ولعله يقال مرتين.
(6/448)
قال تعالى : {اليوم تُجزَى كلُّ نَفْس} من النفوس البرّة والفاجرة ، {بما كسبتْ} من خير أو شر ، وهذا من تتمة الجواب ، أو : حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقب السؤال والجواب ، {لا ظُلمَ اليومَ} بنقص ثواب أو زيادة عذاب ، {إِن الله سريعُ الحساب} ؛ لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، فكما أنه يرزقهم دفعة ، يُحاسبهم دفعة ، فيحاسب الخلق قاطبة في أقرب زمان ، كما نُقل عن ابن عباس : أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقِلْ أهلُ الجنة إلا فيها ، وأهل النار إلا فهيا. هـ.
قلت : المراد بالحساب : إظهار ما يستحق كل واحد من النعيم أو العذاب ، وأما ما ورد من طول المكث في المحشر على الكفار والفجّار ؛ فإنما ذلك تعذيب بعد فراغ المحاسبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : هو الذي يُريكم آياته الدالة على توحيده ، ويُنزل لكم من سماء الغيوب علماً ، تتقوّت به قلوبكم وأرواحكم ، فتغيبون في مشاهدة المدلول عن الدليل ، وما يتذكّر بهذا ويهتدِ إليه إلا مَن يُنيب ، ويصحب أهل الإنابة. فادعوا الله ، أي : اعبدوه وادعوا إلى عبادته وإخلاص العمل ، ولو كره الجاحدون ، فإنَّ الله رفيع درجاتِ الداعين إليه مع المقربين ، في مقعد صدق عند ذي العرش المجيد. قال القشيري : يرفع درجات المطيعين بظواهرهم في الجنة ، ودرجات العارفين بقلوبهم في الدنيا ، فيرفع درجتهم عن النظر إلى الكونين ، والمساكنة إليهما ، وأما المحبُّون فيرفع درجتهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعقبى شيئاً غير رضا محبوبهم. هـ.
(6/449)
يُلْقِي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده ، هو وحي أحكام للأنبياء ، ووحي إلهام للأولياء ، فيحيي الله بهم الدين في كل زمان ، وقال القشيري : بعد كلام : ويقال : روح النبوة ، وروح الرسالة ، وروح الولاية ، وروح المعرفة. هـ. والمراد بالروح : مطلق الوحي ، ليُنذر الداعي يومَ التلاقي ، فيحصل اللقاء السرمدي مع الحبيب للمقربين ، ويحصل الافتراق والبُعد للغافلين ، حين تبرز الخلائق بين يدَي الله ، لا دعوى لأحد يومئذ ، فيقول الحق تعالى : {لمَن الملك اليوم لله الواحِد القهَّار}.
جزء : 6 رقم الصفحة : 295
قال القشيري : لا يتقيّد مُلْكُه بيومٍ ، ولا يختصُّ بوقتٍ ، ولكنَّ دَعَاوَى الخلقِ ـ اليوم ـ لا أصلَ لها ، ترتفع غداً ، وتنقطع تلك الأوهام. هـ. ومثله في الإحياء ، وأنه إذا كشف الغطاء شهد الأمر كذلك ، كما كان كل يوم ، لا في خصوص ذلك اليوم. فإذا حصل للعبد مقام الفناء ، لم يرَ في الدارين إلا الله ، فيقول : لمَن المُلكُ اليوم ؟ فيجيب : لله الواحدِ القهّار. اليوم تُجزَى كُلُّ نفس بما كسبت من التقريب أو الإبعاد. قال القشيري :
297
يجازيهم على أعمالهم الجنانَ ، وعلى أحوالهم الرضوان ، وعلى أنفاسهم ـ أي : على حفظ أنفاسهم ـ القُرب ، وعلى محبتهم الرؤية ، ويجازي المذنبين على توبتهم الغفران ، وعلى بكائهم الضياء والشفاء. هـ. لا ظُلم اليوم ، بل كل واحد يرتفع على قدر سعيه اليوم.
وقوله تعالى : {إِنَّ الله سريعُ الحساب} قال القشيري : وسريعُ الحساب مع أوليائه في الحال ، يُطالبهم بالنقير والقطمير. هـ. قلت : يدقق عليهم الحساب في الحال ، ويرفع مقدارهم في المآل. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 295
(6/450)
يقول الحق جلّ جلاله : {وأنذِرْهُم يوم الأَزفةِ} أي : القيامة ، سُميت بها لأزوفها ، أي : قُربها. فالأُزوف والازدلاف هو القرب ، غير أن فيه إشعاراً بضيق الوقت ، أو الخطة الأزفة ، وهي مشارفة أهل النار لدخولها ، ثم أبدل من يوم الآزفة قوله : {إِذِ القلوبُ لدى الحناجر} أي : التراقي ، يعني : ترتفع قلوبُهم عن مقارّها ، فتلتصق بحناجرهم من الرعب ، فلا هي تخرج فيموتوا فيستريحوا ، ولا ترجع إلى مقارها فيتروّحوا. حال كونهم {كاظمين} ؛ ممسكين الغيظ بحناجرهم ، أو : ممسكين قلوبهم بحناجرهم ، يرومون ردها لئلا تخرج ، فهو حال من القلوب ، وجمعت جمع السلامة لوصفها بالكظم ، وهو من أوصاف العقلاء ، أو : من أصحاب القلوب ؛ إذ الأصل : قلوبهم ، أو : من ضميرها في الظرف ، {ما للظالمين من حميمٍ} أي : قريب مشفق {ولا شفيعٍ يُطاع} أي : ولا شفيع تُقبل شفاعته ، فالمراد : نفي الشفاعة والطاعة ، كقول الشاعر :
وَلاَ تَرَى الضّبَّ فيها يَنْجَحِرْ
يريد به : نفي الضب وانجحاره. وكقول الآخر :
298
عَلَى لاحِبٍ لا يُهتدَى بِمَنَارِه
وإن احتمل اللفظ نفي الطاعة دون الشفاعة. فعن الحسن البصري : " والله ما يكون لهم شفيع ألْبتة ". ووضع " الظالمين " موضع الضمير ؛ للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم به.
(6/451)
{يعلم خائنةَ الأعين} أي : النظرة الخائنة ، كاستراق النظر إلى ما لا يحلّ. قيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : الأعين الخائنة ، وقيل : مصدر ، كالعافية ، أي : خيانة الأعين. قال ابن عباس رضي الله عنه : هو الرجل يكون جالساً مع القوم ، فتمر المرأة ، فيسارقهم النظر إليها. هـ. وقال ابن عطية : متصل بقوله : {سريع الحساب} ، فيحاسب على خيانة الأعين ، وقالت فرقة : متصل بقوله : {لا يَخفى على الله منهم شيء} ، وهذا حسن ، يُقويه تناسب المعنيَيْن ، ويُبعده بعدُ الآية من الآية ، وكثرة الحائل. والحاصل : أنه متصل بما تقدّم من ذكر الله ووصفه ، واعترض في أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله : {ليُنذر يوم التلاق} الآية. قاله المحشي. {و} يعلم {ما تُخفي الصدورُ} أي : ما تُكنّه من خيانة وأمانة. وقيل : هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوةٍ مسارقة ، ثم يتفكّر بقلبه في جمالها ، ولا يعلم بنظرته وفكرته مَن حَضرَه ، والله يعلم ذلك كله.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 298
(6/452)
والله يقضي بالحق} أي : ومَن هذه صفاتُه لا يقضي إلا بالعدل ، فيُجازي كُلاًّ بما يستحقه ؛ إذ لا يخفى عليه خفيّ ولا جليّ ، {والذين يَدْعُون} ؛ يعبدونهم {من دونه} من الآلهة {لا يقضون بشيء} ، وهذا تهكُّم بهم ؛ لأن الجماد الذي لا يعقل لا يقال فيه : يقضي ولا يقضي ، وقرأ نافع بالخطاب ؛ أو : على إضمار " قل " ، {إِن الله هو السميعُ البصير} ؛ تقرير لقوله : {يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور} ووعيد لهم ؛ لأنه يسمع ما يقولون ، ويُبصر ما يعملون ، وأنه يعاقبهم عليه ، وتعريض بما يدعون من دون الله ، بأنها لا تسمع ولا تُبصر. الإشارة : قال القشيري : قيامةُ الكل مؤجَّلة ، وقيامةُ المحبين مُعَجَّلة ، في كلِّ نَفَسٍ من العتاب والعذاب ، والبعَاد والاقتراب ، ما لم يكن في حساب ، وشهادة الأعضاء بالدمع تشهد ، وخفَقَانُ القلب ينطق ، والنحولُ يُخْبِرُ ، واللونُ يفضح ، والعبد يستر ، ولكن البلاء يُظهر ، قال :
يَا مَن تَغَيَّرُ صُورَتِي لَمَّا بَدا
لِجَمِيعِ ما ظَنوا بِنَا تَحْقِيقُ
وقوله تعالى : {إِذِ القلوبُ لدى الحناجرِ كاظمين} ، هو في حق مَن فاته التأهُّب والترقِّي في هذه الدار ، فتحسَّر حين يُعاين مقامات الرجال ، وليس له شفيع يُرقيه ، ولا حميم يُصافيه. وقوله تعالى : {يعلم خائنة الأعين} هو في حق العارفين : النظر إلى السِّوى بعين الاستحسان. قال القشيري : خائنة الأعين هي من المحبين استحسانهم شيئاً ـ أي : من السِّوى ـ وأنشدوا :
299
يَا قُرَّةَ العَيْن : سَلْ عَيني هَلْ اكْتَحَلَتْ
بِمَنْظَرٍ حَسَنٍ مُذْ غِبْتَ عَنْ عَيْنِي ؟
وأنشد أيضاً :
وعَيْني إِذا اسْتَحْسَنَتْ غَيْرَكُمْ
أَمَرْتُ الدَّمعَ بِتأدِيبها
قلت : ومثله قول الشاعر :
وناظرٌ في سِوى مَعْناكَ حُقَّ لَهُ
يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِه بالدَّمْع وهُو دَمُ>> والسَّمْعُ إِنْ حَالَ فِيهِ ما يُحدِّثُه
سوَى حَدِيثكِ ، أَمْسى وَقْرُه الصَّمَمُ
(6/453)
ثم قال : ومن خائنة الأعين : أن تأخذهم السِّنَةُ والسِّنات في أوقات المناجاة ، وفي قصص داود عليه السلام : " كَذَبَ مَن ادَّعَى محبتي ، فإذا جَنَّهُ الليل نام عني ، ومن خائنة أعين العارفين : أن يكون لهم خير ، أي : استحسان يقع لقلوبهم مما تقع عليه أعينهم ، ينظرون ولكن لا يُبصرون ـ أي : ينظرون إلى المستحسنات ، ولكن لا يقفون معها ـ ومن خائنة أعين الموحِّدين ـ أي : السائرين للتوحيد ـ أن يخرج منها قطرة دمعٍ ، تأسفاً على مخلوق يفوت من الدنيا والآخرة ، ومن خائنة الأعين : النظرُ إلى غير المحبوب بأَي وجهٍ كان ، ففي الخبر : " حُبَّكَ الشيء يُعْمِي ويُصمُّ " أي : يُغَيبك عن غيره ، فلا ترى إلا محاسن الحبيب ، وجماله في مظاهر تجلياته ، وإليه يشير قول ابن الفارض رضي الله عنه :
جزء : 6 رقم الصفحة : 298
عَيْنِي لِغَيْرِ جَمَالِكُمْ لاَ تَنْظر
وَسِوَاكُم في خَاطِري لاَ يَخْطُر
وقوله تعالى : {والله يقضي بالحق} قال القشيري : يقضي للأجانب بالبعاد ، ولأهل الوداد بالوصال ، ويقضي يومَ القدوم بعدل عُمال الصدود. هـ. أي : يعدل في أهل الصدود عن حضرته ، فيجازيهم بنعيم الأشباح فقط. ثم قال : وإذا ذبح الموت غدا بين الجنة والنار على صورة كبش أملح ، فلا غَرو أن يذبح الفراق على رأس سكة الأحباب ، في صورة شخص ، ويُصلب على جذوع الغيرة ، لينظر إليه أهل الحضرة. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 298
قلت : {هم أشد} : ضمير فصل ، وحقه أن يقع بين معرفتين ، إلا أنَّ (أشد) لَمَّا ضارع المعرفة في كونه لا يدخله الألف واللام أجرى مجراها.
300
(6/454)
يقول الحق جلّ جلاله : {أَوَلَمْ يسيروا في} أقطار {الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين كانوا من قبلهم} أي : مآل مَن قبلهم من الأمم المكذِّبة لرسلهم ، كعاد ، وثمود ، وأضرابهم ، {كانوا هم أشدَّ منهم قوةً} أي : قدرة وتمكُّناً من التصرف ، {وآثاراً في الأرض} ؛ وأشتد تأثيراً في الأرض ، ببناء القلاع الحصينة ، والمدائن المتينة. وقيل : المعنى : وأكثر آثاراً ، أي : ترك آثار في الأرض ، كالحصون وغيرها. {فأخَذَهم الله بذنوبهم} أخذاً وبيلاً ، {وما كان لهم من الله من واقٍ} أي : لم يكن لهم شيء يقيهم من عذاب الله.
{ذلك} الأخذ {بأنهم} ؛ بسبب أنهم {كانت تأتيهم رُسُلُهم بالبينات} ؛ بالمعجزات الدالة على صدقهم ، أو : بالأحكام الظاهرة الجلية ، {فكفروا فأخذهم الله إِنه قويٌّ} ، متمكن مما يريد غاية التمكُّن ، قادر على كل شيء ، {شديدُ العقاب} لا يُؤبَه عند عقابه بعقاب.
الإشارة : قال القشيري : أَوَلَمْ يسيروا بنفوسهم في أقطار الأرض ، ويطوفوا مشارقَها ومغاربَها ، فيعتبروا بها ، فيزهدوا فيها ؟ ويسيروا بقلوبهم في الملكوت بجَوَلان الفكر ، فيشهدوا أنوار التجلي ، فيستبصروا بها ؟ ويسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية ، فيُستهلكوا في سلطان الحقائق ، ويتخلَّصُوا من جميع المخلوقات ؛ قاصيها ودانيها ؟ ثم قال : قوله تعالى : {ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات} ، إِنْ بغى من أهل السلوك ، قاصدٌ لهم يصل إلى مقصوده ، فَلْيَعلم أنَّ موجِبَ حجبته اعتراضٌ خَامَرَ قلبَه على بعض شيوخه ، في بعض أوقاته ، فإِنَّ الشيوخَ بمحلِّ السفير للمريدين ، وفي الخبر : " الشيخ في أهله كالنبيِّ في أمته ". هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 300
يقول الحق جلّ جلاله : {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} ؛ معجزاته التسع {وسلطانٍ مبين} أي : حجة قاهرة ، وهي : إما عين الآيات ، والعطف لتغاير العنوانين ، فكونها آيات
301
(6/455)
من جهة خرق العادة ، وكونها حجة من حيث الدلالة على صدق صاحبها ، وإما أن يريد بالسلطان ، بعض مشاهيرها ، كالعصا ، أُفردت بالذكر مع اندراجها تحت الآيات ؛ لعِظمها. وقال ابن عرفة : الآيات : المعجزات ، والسلطان المبين ، راجع إلى التحدي بها ، فهو من قبيل الإدعاج ، أو : يكون السلطان راجعاً إلى ظهورها ؛ إذ ليس من شرطها الظهور ، أو : يرجع إلى نتيجتها ، هو الغلبة والنصر. هـ.
أرسل {إِلى فرعونَ وهامانَ وقارونَ فقالوا} فيما أظهره ، أو : فيما ادّعاه من الرسالة : هو {ساحر كذَّابٌ فلمَّا جاءهم بالحقِ مِن عندنا} وهو الوحي والرسالة ، {قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه} أي : صبيانهم الذكور ، {واستحيُوا نساءَهم} للخدمة ، أي : أَعيدوا عليهم القتل الذي كنتم تفعلونه أولاً ، وكان فرعون قد كفَّ عن قتل الولدان ؛ لئلا تعطل خدمته ، فلما بُعث عليه السلام ، وأحسَّ بأنه قد وقع ما توقع ، أعاده عليهم غيظاً ، وحُمقاً ، وزعماً منه أن يصدهم بذلك عن مظاهرته. {وما كيدُ الكافرين إِلا في ضلالٍ} ؛ في ضياع وبطلان ، فإنهم باشروا قتلهم أولاً ، فما أغنى عنهم ، ونفذ قضاء الله بإظهار مَن خافوه ، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني ، فلم يعلم أن كيده ضائع في الكَرّتين ، واللام : إما للعهد المتقدم ، والإظهار في موضع الإضمار ؛ لذمهم بالكفر ، والإشعار بعلة الحكم ، أو : للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً. والجملة : اعتراض جيء بها في تضاعيف ما حكى عنهم من الأباطيل ؛ للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد الذي لا طائل تحته.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 301
(6/456)
وقال فرعونُ} لملئه : {ذروني أقتلْ موسى} ، وكان ملَؤه إذا همَّ بقتله كفّوه ، وقالوا : ليس بالذي تخافه ، وهو أقل من ذلك ، وما هو إلا ساحر ، وإذا قتلتَه أدخلتَ شبهة على الناس ، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة ، والظاهر من دهاء اللعين ونكارته أنه قد استيقن أنه نبيّ ، وأن ما جاء به آيات باهرة ، وما هو بسحر ، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجَل بالهلاك ، وكان قوله تمويهاً على قومه ، وإيهاماً أنهم هم الكافُّون عن قتله ، ولولاهم لقتله ، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من الفزع الهائل. وقوله : {وليَدْعُ رَبَّه} تجلُّد منه وإظهار لعدم المبالاة بدعائه ، ولكنه أخوف ما يخافه.
ثم قال : {إِني أخافُ} إن لم أقتله {أن يُبدِّلَ دينَكُم} أي : بغير ما أنتم عليه من الدين ، وهو عبادتهم له وللأصنام ؛ لتقربهم إليه ، {أو أن يُظْهِر في الأرض الفسادَ} أي : ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية. والحاصل :
302
أنه قال : أخاف أن يُفسد عليكم دينكم ، بدعوته إلى دينه ، أو : يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من التقاتل والتهارج ، الذي يذهب معه الأمن ، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش.
{وقال موسى} لَمَّا سَمِعَ ما أجراه من الحديث في قتله لقومه : {إِني عُذْتُ بربي وربِّكُم من كل متكبرٍ لا يؤمن بيوم الحساب} ، صدّر عليه السلام كلامَه بإنَّ ؛ تأكيداً له ، وإظهاراً لمزية الاعتناء بمضمونه ، وفرط الرغبة ، وخصّ اسم الرب المنبىء عن الحفظ والتربية ؛ إذ بهما يقع الحفظ.
(6/457)
وفي قوله : {وربكم} حث لهم على أن يقتدوا به ، فيعوذوا بالله عياذتَه ، ويعتصموا بالتوكل اعتصامَه ، ولم يُسمّ فرعون ، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة ؛ لتعميم الاستعاذة ، والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله تعالى ، وهو التكبُّر. قال ابن عرفة : أشار إلى أن كفره لم يكن لأجل أن موسى لم يأتِ بدليل ولا معجزة ، ولم يكن أيضاً لخفاء تلك المعجزة ، وعدم ظهورها ، بل كان لجحود التعنُّت والتكبُّر ، والإباية عن الانحطاط من سلطنة الملك إلى رتبة الاتِّباع. هـ. وقال : {لا يؤمن بيوم الحساب} ؛ لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبُّر والتكذيب بالجزاء ، وقلة المبالاة بالعاقبة ، فقد استكمل أسباب القوة والجرأة على الله وعباده ، والعياذ بالله.
الإشارة : قال القشيري : كان موسى عليه السلام أكرم خَلْقِه في وقته ، وكان فرعون أخَسّ خَلْقِه في وقته ؛ إذ لم يقل أحد : ما علمتُ لكم من إله غيري ، فأرسل أخصَّ عباده إلى أخسّ عباده. ثم إن فرعون سعى في قتل موسى ، واستعان على ذلك بخَيْله ورَجْله ، ولكن كما قال تعالى : {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} ، وإذا حَفَرَ أحدٌ لِوَليِّ الله حُفرةً ، ما وقع فيها غيرُ حافِرها ، كذلك أجرى الحقُّ سُنَّتَه. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 301
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال رجلٌ مؤمن} ، قيل : كان قبطياً ، ابن عَم لفرعون ، آمن بموسى سرّاً ، وقيل : كان إسرائيليّاً موحّداً ، وهو المراد بقوله : {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس : 20] ، قال ابن عباس : اسمه حزقيل. وقال ابن إسحاق : جَبرل ، وقيل :
303
(6/458)
سمعان. وقيل : حبيب. و {مِن آلِ فرعونَ} : صفة ثانية لرجل ، أو : صلة ليكتم ، أي : {يكتم إيمانه} من فرعون وملائه : {أتقتلون رجلاً} أي : أتقصدون قلته كراهةَ {أن يقولَ ربي الله} وحده ، من غير روية ولا تأمُّل في أمره ؟ وهذا إنكار منه عليهم ، كأنه قال : أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء ـ وهي قتل نفس محرمة ـ من غير حجة ، غير قوله الحق ، وإقراره بالتوحيد ؟ {وقد جاءكم بالبيناتِ} أي : والحال أنه جاءكم بالمعجزات الظاهرة ، التي شاهدتموها وعاهدتموها من ربكم ، يعني أنه لم يكتفِ ببينة واحدة ، بل جاء ببينات كثيرة {من} عند {ربكم} ، أضافه إليهم ، استنزالاً لهم عن رتبة المكابرة ، واستدراجاً للاعتراف.
ثم أخذهم بالاحتجاج فقال : {وإِن يَكُ كاذباً فعليه كذبهُ} ، لا يتخطى وبال كذبه إلى غيره ، فيحتاج في دفعه إلى قتله ، {وإِن يك صادقاً يُصبكم بعضُ الذي يَعِدُكُم} من العذاب ، احتج عليهم بطريق التقسيم ؛ لأنه لا يخلو ، إما أن يكون كاذباً أو صادقاً ، فإن كان كاذباً فوبال كذبه عليه ، وإن كان صادقاً يُصبكم قطعاً بعضُ ما يعدكم من العذاب ، ولم يقل : كل الذي يعدكم ، مع أنه وعد من نبيٍّ صادق ، مداراة لهم وسلوكاً لطريق الإنصاف ، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له ، فكأنه قال : إن لم يصبكم الجميعُ يصبكم البعض ، وليس فيه نفي لإصابة الكل ، فكأنه قال : أقلّ ما فيه أن يصيبكم بعض ما يعدكم ، وهو العذاب العاجل ، وفي ذلك هلاككم ، وكان وعَدَهم عذاب الدنيا والآخرة. وتفسير البضع بالكلّ مزيّف. {إِن الله لا يهدي مَن هو مُسْرِفٌ كذّاب} ، هذا احتجاج آخر ذو وجهين : أحدهما : أنه لو كان مُسرفاً كذاباً لَمَا هداه الله إلى النبوة ، ولما عضده بتلك البينات ، وثانيهما : إن كان كذلك خذله الله وأهلكه ، فلا حاجة إلى قتله. وقيل : أوهم أنه يريد بالمُسرف موسى ، وهو يعني به فرعون ، ويحتمل أن يكون من كلام الله ـ تعالى ـ اعتراضاً بين أجزاء وعظه ، إخباراً بما سبق لهم من الشقاء ، فلا ينفع فيهم الوعظ.
(6/459)
جزء : 6 رقم الصفحة : 303
ثم قال : {يا قوم لكم الملكُ اليومَ} حال كونكم {ظاهرين} ؛ غالبين عالين على بني إسرائيل {في الأرض} ؛ أرض مصر ، لا يقاومكم أحد في هذا الوقت ، {فمَن ينصُرنا من بأس الله إِن جاءنا} يعني : إن لكم اليوم مُلك مصر ، وقد علوتم الناس ، وقهرتموهم ، فلا تُسرفوا على أنفسكم ، ولا تتعرّضوا لبأس الله ، أي : عذابه ؛ فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم ، ولا يمنعكم منه أحد. وإنما نسب ما يُسرهم من المُلك والظهور في الأرض إليهم خاصة ، ونظم نفسه فيما يسوؤهم ، من مجيء بأس الله تعالى ، إمحاضاً للنصح ، وإيذاناً بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه.
{قال فرعونُ} بعدما سمع نصحه لقومه : {ما أُرِيكُم} أي : ما أُشير عليكم {إِلا ما أرى} وأستصوبه من قتل موسى ، يعني : لا أستصوب إلا قتله ، وهذا الذي تقولونه غير صواب ، {وما أَهديكم} بهذا الرأي {إِلا سبيل الرشاد} أي : الصواب ، ولا أعلنكم إلا ما
304
أعلم ، ولا أُسِرُّ عنكم شيئاً خلاف ما أُظهِر ، يعني : أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول ، وقد كذب اللعين ، فقد كان مضمراً للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام ، ولكنه كان يتجلَّد ، ولولا استشعاره للخوف لم يستشر أحداً في قتله ، وقد كان سفَّاكاً جبّاراً ، فما منعه إلا خوف الهلاك إن مدّ يده إليه ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : قال القشيري : قد نصح وأبلغ مؤمنٌ آل فرعون ، واحتجَّ عليهم ، فلم ينجعْ فيهم قوله ، وأعاد عليهم نصحه فلم يسمعوا ، وكان كما قيل :
وَكَمْ سُقْتُ في آثارِكُم مِن نَصيحةٍ
وَقَدْ يَستفيدُ البغْضَةَ الْمُسْتَنْصِحُ
جزء : 6 رقم الصفحة : 303
(6/460)
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال الذي آمن} مخاطباً قومه : {يا قوم إِني أخافُ عليكم} في تكذيب موسى ، والتعرُّض له بسوء ، {مثلَ يومِ الأحزاب} أي : مثل أيام الأمم الماضية المتحزبة على رسلها ، يعني وقائعهم. وجمْعُ الأحزاب مع التفسير أغنى عن جمع اليوم ، أي : بالإضافة ، وفسره بقوله :
{مثلَ دأبِ قومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ والذين من بعدهم} ؛ كقوم لوط وشعيب ، لم يُلْبَسْ أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دَمَار ، فاقتصر على الواحد من الجمع. ودأب هؤلاء : دؤوبهم في عملهم من الكفر ، والتكذيب ، وسائر المعاصي ، حتى دمَّرهم الله. ولا بد من حذف مضاف ، أي : مثل جزاء دأبهم ـ وهو الهلاك. و (مثل) الثاني : عطف بيان لمثل الأولى. {وما الله يريد ظلماً للعباد} ؛ فلا يُعاقبهم بغير ذنب ، أو : يزيد على ما يستحقونه من العذاب ، يعني أن تدميرهم كان عدلاً ؛ لأنهم استحقوه بأعمالهم ، وهو أبلغ من قوله : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت : 46] ؛ حيث جعل المنفي إرادة الظلم مُنْكَراً ، وإذا بعُد عن إرادة ظُلم مَا لعباده ؛ كان عن الظلم مُنْكَراً ، وإذا بعُد عن إرادة ظُلمٍ مَا لعباده ؛ كان عن الظلم أبعد وأبعد. وتفسير المعتزلة : بأنه لا يريدُ لهم أن يظلموا ، بعيد ؛ لأن أهل اللغة قالوا : إذا قال الرجل لآخر : لا أريد ظلماً لك ، معناه : لا أريد أن أظلمك ، وهذا تخويفٌ بعذاب الدنيا. ثم خوَّفهم من عذاب الآخرة بقوله :
{ويا قومِ إِني أخاف عليكم يوم التَّنَادِ} أي : يوم القيامة ؛ لأنه ينادي فيه بعضُهم بعضاً للاستغاثة ، ويتصايحون بالويل والثبور ، وينادي أصحابُ النار أصحابَ الجنة ،
305
(6/461)
وأصحابُ الأعراف رجالاً يعرفونهم ، وعن الضحاك : إذا سمعوا زفير النار نَدُّوا هرباً ، فلا يأتون قُطراً من الأقطار ، إلا وجدوا ملائكة صفوفاً ، فيرجعون إلى مكانهم ، فبينما هم يموج بعضهم في بعض ، إذ سمعوا منادياً : أقبلوا إلى الحسابِ. أو : ينادي مناد عند الميزان : ألا إن فلاناً بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، ألاَ إِن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً. قال ابن عطية : المراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة ، وذلك كثير. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 305
ثم أبدل من يوم التناد : قوله : {يوم تُولُّون مدْبرين} أي : منصرفين عن القوم إلى النار ، أو : فارِّين منها غير معاجزين ، {ما لكم من الله من عاصم} يعصمكم من عذابه ، ولمَّا أيس من قبولهم قال : {ومَن يُضلل الله فما له من هادٍ} يهديه إلى طريق النجاة.
الإشارة : ينبغي للواعظ والمُذكِّر إذا ذكَّر العصاة أن يُخوفهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، كما فعل مؤمن آل فرعون ، أما عذاب الدنيا فما يلحق العاصي من الذُل والهوان عند الله ، وعند عباده ، وما يلحقه إن طال عمره من المسخ وأرذل العمر ، فإِنَّ المعاصي في زمن الشباب تجر الوبال إلى زمن الهرم ، كما أن الطاعة في حال الشباب تجر الحفظ والرعاية إلى حال الكِبَر ، وأما عذاب الآخرة فمعلوم ، ثم يحضّ على التوبة والإقلاع ، فإنَّ التائب الناصح مُلحَق بالطائع ، فلا يلحقه شيء من ذلك. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 305
قلت : {الذين يُجادلون} : بدل مِن {مَن هو} وإنما جمع ؛ لأنه لم يرد مسرفاً واحداً ، بل كل مسرف.
(6/462)
يقول الحق جلّ جلاله : حاكياً لقول المؤمن : {ولقد جاءكم يوسُف} ، هو ابن يعقوب ، وقيل : يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب ، أقام فيهم نبيّاً عشرين سنة ، وقال وهب : فرعون موسى هو فرعون يوسف ، عمَّر إلى زمنه ، وقيل : هو فرعون آخر ؛ لأن كل مَن ملك مصر يُقال له فرعون ، وهذا أظهر. وقول الجلال المحلي : هو يوسف بن يعقوب في قولٍ ، عمّر إلى زمنه ، سهو. وإنما قيل ذلك في فرعون لا في يوسف.
قلت : والتحقيق : أنه وبّخهم بما فعل أسلافهم ؛ لأنهم على مِنوالهم ، راضون بما
306
فعلوا ، فالمراد بيوسف ، هو الصِّدِّيق ، فما زالوا مترددين في رسالته حتى مات ، واستمر خلفهم على ذلك إلى زمن موسى ، وقوله تعالى : {من قبلُ} أي : من قبل موسى ، أي : جاءكم يوسف {بالبينات} ؛ بالمعجزات الواضحة ، كتعبير الرؤيا ، ودلائل التوحيد ، كقوله : {ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ...} [يوسف : 39] الآية ، وملكه أموالهم ورقابهم في زمن المسبغة ، وغير ذلك مما دلّ على رسالته. {فما زلتم في شكٍّ مما جاءكم به} من الدين {حتى إِذا هَلَكَ} بالموت {قُلْتم لن يبعثَ الله من بعده رسولاً} ، حكماً من عند أنفسكم ، من غير برهان ، أي : أقمتم على كفركم ، وظننتم أن لا يجدّد عليكم إيجاب الحجة.
قال القشيري : يقال : إن تكذيبهم وتكذيب سلفهم للأنبياء ـ عليهم السلام ـ كان قديماً حتى أهلكهم ، كذلك يفعل بهؤلاء. هـ.
{كذلك يُضِلُّ الله مَن هو مُسْرِفٌ مرتابٌ} أي : مثل ذلك الإضلل الفظيع يُضل الله مَن هو مسرف في عصيانه ، شاكّ في دينه ، لم يتفكّر فيما شهدت البينات بصحته ؛ لِغلبة الوهم ، والانهماك في التقليد.
(6/463)
ثم فسّره فقال : {الذين يُجادِلون في آيات الله} بالرد والإبطال {بغير سلطانٍ} ؛ بغير حجة واضحة ، تصلح للتمسُّك بها في الجملة ، {أتاهم} : صفة لسلطان ، أي : بغير برهان جاءهم بصحة ذلك ، {كَبُرَ مقتاً} أي : عَظُمَ بُغضاً {عند الله وعند الذين آمنوا} ، وفيه ضرب من التعجُّب والاستعظام. وفي " كبُر " ضمير يعود على " مَنْ " وتذكيره باعتبار اللفظ. {كذلك} أي : مثل ذلك الطبع الفظيع {يَطْبَعُ الله على كل قلب متكبر جبَّار} فيصدر منه أمثال ما ذكر من الإسراف ، والارتياب ، والمجادلة بالباطل. ومَن قرأ بالتنوين فوصف لقلب ، وإنما وصف بالتكبُّر والتجبُّر ؛ لأنه منبعهما ، كما تقول : سَمِعَتِ الأذنُ ، كقوله : {فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة : 283] وإن كان الإثم للجملة. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 306
الإشارة : يُقال لأهل كل عصر : ولقد جاءكم فلان ـ لوليِّ تقدم قبلهم ـ بالآيات الدالة على صحة ولايته ، فما زلتم ، أي : ما زال أسلافكم من أهل عصره ـ في شك منه ، حتى إذا مات ظهرت ولايته ، وأقررتم بها ، وقلتم : لن يبعث الله من بعده وليّاً ، وهذه عادة العامة ، يُقرون الأموات من الأولياء ، ويُنكرون الأحياء. وهي نزعة أهل الكفر والضلال كذلك يُضل الله مَن هو مسرف مرتاب ، كالذين يُخاصمون في ثبوت الخصوصية عند أربابها ، من غير برهان ، وهو شأن المنكرين ، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 306
307
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال فرعونُ} تمويهاً على قومه ، وجهلاً منه : {يا هامانِ} وزيره {ابنِ لي صَرْحاً} أي : قصراً عالياً ، وقيل : الصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بَعُد منه. يقال : صَرِح الشيءُ : إذا ظهر. {لعلِّي أبلُغُ الأسبابَ} أي : الطرق. ثم أبدل منها تفخيماً لشأنها ، وإظهاراً أنه يقصد أمراً عظيماً :
(6/464)
{أسبابَ السماوات} أي : طرُقها وأبوابها ، وما يُؤدّي إليها ، وكل ما أدّاك إلى الشيء فهو سبب إليه ، {فأَطَّلِعَ إِلى إِله موسى} أي : فأنظر إليه وأتحقق وجوده ، قرأه حفص بالنصب ، جواب التمني ، والباقي بالرفع ، عطفاً على " أبلغ ". قال البيضاوي : ولعله أراد أن يبني له صرحاً في موضع عال ، يرصد منه أحوال الكواكب ، التي هي أسباب سماوية ، تدلّ على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدلّ على إرسال الله تعالى إياه ، أو أن يرى فساد قوله عليه السلام ؛ فإنّ إخباره عن إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه ، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود للسماء ، وهو مما لا يقوى عليه الإنسان ، وما ذلك إلا لجهله بالله وكيفية استنبائه. هـ.
قلت : والظاهر أنه كان مجسّماً ، يعتقد أن الله في السماء ، وأن اطلاعه إليه إنما كان ليرى هل ثَم إله ، وإن قوله : {وإِني لأظنه كاذباً} أي : في ادّعاء إله غيري ، بدليل قوله : {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِى} [القصص : 38] مع أنَّ هذا كله إنما هو تمويه منه على قومه ، وجرأة على الله ، لا حقيقة له.
قال تعالى : {وكذلك} أي : ومثل ذلك التزيين المفرط ، والصدّ البليغ ، {زُيِّنَ لفرعونَ سوءُ علمه} فانهمك فيه انهماكاً لا يرعوي عنه بحال ، {وصدَّ عن السبيل} أي : سبيل الرشاد ، وقرأ الكوفون ويعقوب " وصُدّ " بالبناء للمفعول ، فالفاعل في الحقيقة فيهما هو الله ، بتوسط الشيطان في عالم الحكمة ، ومَن قرأ " صَدّ " بالبناء للفاعل ، فالفاعل : فرعون ، إما صدّ الناس عن طريق الحق بأمثال هذه التمويهات ، أو : اتصف بالصدّ. {وما كيدُ فرعون إِلا في تَبابٍ} أي : خسران وهلاك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 307
(6/465)
الإشارة : ما ظهر على فرعون هو من طغيان النفس وعتوها ، فإنَّ النفس إذا اتصلت بها العوافي ، وساعدتها أقدار الجمال في الظاهر ، ادَّعت الربوبية ، فإنَّ فرعون قيل : إنه عاش أربعمائة سنة ، لم يتوجع فيها قط ، فادّعى الربوبية ، ولذا قال بعض الصوفية : في النفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون ، حين قال : أنا ربكم الأعلى ، فكان نزول الأقدار القهرية والبلايا على العبد ، رحمة عظيمة ، تتحقق بها العبودية ، التي هي شرف العبد ورفعته. وبالله التوفيق.
308
جزء : 6 رقم الصفحة : 307
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال الذي آمن} أي : مؤمن آل فرعون : {يا قوم اتبعون} فيما دللتكم عليه ، {أَهدِكُم سبيلَ الرشادِ} أي : طريقاً يُوصل صاحبَه إلى المقصود. والرشاد : ضد الغيّ ، وفيه تعريضٌ بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغيّ والضلال.
{يا قوم إنما هذه الحياةُ الدنيا متاعٌ} أي : تمتُّع يسير ؛ لسرعة زوالها ، فالإخلاد إليها أصل الشر ، ومنبع الفتن ، ومنه يتشعّب فنون ما يؤدي إلى سخط الله. أَجْمل له أولاً ، ثم فَسَّر ، فاستفتح بذم الدنيا ، وتصغير شأنها ، ثم ثنَّى بتعظيم الآخرة ، وبيَّن أنها هي الموطن والمستقر بقوله : {وإِنَّ الآخرةَ هي دارُ القرارِ} ؛ لخلودها ، ودوامها ، ودوام ما فيها. قال ابن عرفة : التمتُّع بالدنيا مانع من الزهد ، وكون الآخرة دار مستقر يقتضي وجود الحرص على أسباب الحصول فيها. هـ.
(6/466)
ثم ذكر الأعمال التي تُبعد عنها أو تُقرب إليها ، فقال : {مَن عَمِلَ سيئةً} في الدنيا {فلا يُجزَى} في الآخرة {إِلا مثلَها} عدلاً من الله تعالى. قال القشيري : له مثلها في المقدار ، لا في الصفة ؛ لأن الأولى سيئة ، والمكافأة حسنة ليست بسيئة. هـ. وقال ابن عرفة : في توفيه مماثلة العذاب الأبدي على كفر ساعة تتصور المماثلة ، إما باعتبار نيته الكفر دواماً ، وإما بأن يقال : ليس المراد المماثلة عقلاً ، بل المماثلة شرعاً. وفي الإحياء : قال الحسن : إنما خُلِّد أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار ، في النار ، بالنية ، وهو ـ والله أعلم ـ مقتبس من قوله تعالى : {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم : 44]. هـ. قاله المحشي.
{ومَن عَمِلَ صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فأولئك} الذين عملوا ذلك {يدخلون الجنةَ يُرزقون فيها بغير حسابٍ} أي : بغير تقدير ، وموازنة بالعمل ، بل بأضعافٍ مضاعفة ، فضلاً من الله ـ عزّ وجل ـ ورحمة. قال القشيري : أي : مؤبداً مخلَّداً ، لا يخرجون من الجنة ، ولا مما هم عليه من الحال. هـ. وجعل العمل عمدة ، والإيمان حالاً ؛ للإيذان بأنه لا عبرة بالعمل بدونه. وأنَّ ثوابه أعلى من ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 309
الإشارة : قال الورتجبي : سبيل الرشاد : طريق المعرفة ، ومعرفة الله تعالى : موافقته ومتابعة أنبيائه وأوليائه ، ولا تحصل الموافقة إلا بترك مراد النفس ، ولذلك قال : {يا قوم إنما هذه الحياة الدينا متاع}. قال محمد بن علي الترمذي : لم تزل الدنيا مذمومة في
309
(6/467)
الأمم السابقة ، عند العقلاء منهم ، وطالبوها مهانين عند الحكماء الماضية ، وما قام داع في أمة إلا حذَّر متابعةَ الدنيا وجمعها والحب لها ، ألا ترى مؤمن آل فرعون كيف قال : {اتبعون أهدكم سبيلَ الرشاد} ، كأنهم قالوا : وما سبيل الرشاد ؟ قال : {إِنما هذه الحياة الدنيا متاع} أي : لن تصل إلى سبيل الرشاد وفي قلبك محبة الدنيا وطلب لها. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 309
يقول الحق جلّ جلاله ، حاكياً عن المؤمن : {ويا قوم ما لي أدعوكم إِلى النجاةِ} ؛ إلى السلامة من النار ، {وتدعونني إِلى النار} بسلوك أسبابها. كرر نداءهم ؛ إيقاظاً لهم عن سِنة الغفلة ، واعتناءً بالمنادَى به ، ومبالغة في توبيخهم ، وفيه أنهم قومه ، وأنه من آل فرعون ، وجيء بالواو في النداء الثالث ، دون الثاني ؛ لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له ، بخلاف الثالث. ومدار التعجُّب الذي يلوح به الاستفهام هو دعوتهم إياه إلى النار ، لا دعوته إياهم إلى النجاة ، كأنه قيل : أخبروني كيف هذا الحال ؛ أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر ؟
{تدعونني لأكفرَ بالله} هو بدل من (تدعونني) الأول ، وفيه تعليل ، والدعاء يتعدّى باللام وبإلى ، كالهداية ، {وأُشركَ به} ؛ وتدعونني لأُشرك به {ما ليسَ لي به عِلٍْمٌ} أي : بربوبيته ، والمراد بنفي العلم : نفي المعلوم ، كأنه قال : وأُشرك به شيئاً ليس بإله ، وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلهاً ؟ {وأنا أدعوكم إِلى العزيز الغفار} أي : إلى الله الجامع لصفات الألوهية ، من كمال القدرة والغلبة ، وما يتوقف عليه من العلم والإرادة ؛ إذ بالقدرة يتمكن من المجازاة بالتعذيب ، أو الإحسان بالغفران.
(6/468)
{لا جَرَمَ} ؛ لا شك ، أو : حقاً ، وقال البصريون : " لا " : نفي رد لِما دعوه إليه ، و " جرم " : فعل ، بمعنى : حقّ ، و " أن " مع " ما " في حيزه ؛ فاعل ، أي : حق ووجب {أنّما تدعونني إِليه ليس له دعوةٌ في الدنيا ولا في الآخرة} أي : وجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها ، والظاهر : أن " جَرَمَ " من الجرم ، وأراد به هنا الكذب ، أي : لا كذب في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة... الخ ، فقد يضمن الفعل معنى المصدر ، وتدخل " لا " النافية للجنس عليه ، والمعنى : أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط ، ومن حق المعبود
310
بالحق أن يدعوَ العباد إلى طاعته ، وما تدعونني إليه لا يدعو هو إلى عبادته ، ولا يدّعي الربوبية ، أو : معناه : ليس له استجابة دعوة في الدنيا والآخرة ، أو : دعوة مستجابة. جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ، ولا منفعة ، كلا دعوة. {وأنَّ مردَّنا إِلى الله} أي : رجوعنا إليه بالموت ، {وأنَّ المسرفين} في الضلال والطغيان ، كالإشراك وسفك الدماء ، {هم أصحابُ النار} أي : ملازموها.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 310
فستذكُرون ما أقولُ لكم} من النصائح عند نزول العذاب ، {وأُفوِّضُ} ؛ أُسلّم {أمري إِلى الله} ، قال لَمّا توعّدوه. {إِنَّ الله بصير بالعبادِ} فيَحْرُسُ مَن يلوذ به من المكاره.
(6/469)
{فوقاه اللهُ سيئاتِ ما مكروا} ؛ شدائد مكرهم ، وما هَمُّوا به من إلحاق أنواع العذاب لِمَن خالفه ، وقيل : إنه خرج من عندهم هارباً إلى جبل ، فبعث قريباً من ألفٍ في طلبه ، فمنهم مَن أكلته السباع ، ومَنْ رجع منهم صَلَبه فرعونُ. وقيل : لَمَّا وصلوا إليه ليأخذوه ، وجدوه يُصلّي ، والوحوش حوله ، فرجعوا رُعباً ، فقتلهم. وقال مقاتل : لمّا قال المؤمن هذه الكلمات ، قصدوا قتله ، فوقاه الله من مكرهم ، أي : بعد تفويض أمره إلى الله ، فقيل : إنه نجا مع موسى في البحر. هـ. {وحاقَ} ؛ نزل {بآلِ فرعونَ} أي : بفرعون وقومه. وعدم التصريح به ، للاستغناء بذكرهم عن ذكره ، ضرورة أنه أولى منهم بذلك ، و {سوءُ العذاب} ؛ الغرق والقتل والنار.
وقوله تعالى : {النارُ يُعرضون عليها غُدوّاً وعَشِيّاً} : جملة مستأنفة ، مسوقة لبيان سوء العذاب ، والنار : خبر عن محذوف ، كأن قائلاً قال : ما سوء العذاب ؟ فقيل : هو النار ، أو : بدل من " سوء " ، و " النار " : مبتدأ ، و " يُعرضون " : خبر ، وعَرْضهم عليها : إحراقهم ، يقال : عرض الإِمَام الأسارى على السيف : إذا قتلهم به. وذلك لأرواحهم ، كما روى ابنُ مسعود : أن أرواحهم في أجواف طير سُود ، تُعرض على النار ـ أي : تحرق بها ـ بكرة وعشياً ، إلى يوم القيامة ، وتخصيص الوقتين إما لأنهم يُعذّبون في غيرهما بجنسٍ آخر ، أو : يخفف عنهم ، أو : يكون غدوّاً وعشياً عبارة عن الدوام.
هذا في الدنيا في عالم البرزخ ، {ويومَ تقومُ الساعةُ} يُقال للخزنة : {أَدْخِلوا آلَ فرعونَ} ، من الإدخال الرباعي ، ومَن قرأ : ادخُلوا ، ثلاثيّاً ، فعلى حذف النداء ، أي : ادخلوا يا آل فرعون {أشدَّ العذابِ} أي : عذاب جهنم ، فإنه أشدّ مما كانوا فيه. أو : أشد عذاب النار ؛ فإنّ عذابها ألوان ، بعضه أشد من بعض ، وهذه الآية دليل على عذاب القبر في البرزخ ، وهو ثابت في الأحاديث الصحاح.
الإشارة : النجاة التي دعاهم إليها : هي الزهد في الدنيا ، وفي التمتُّع بها مع الاشتغال
311
(6/470)
بالله ، والنار التي دعوه إليها : هي الاشتغال بمتعة الدنيا مع الغفلة عن الله. لا جَرَمَ أنَّ ما دعوه إليه لا منفعة له في الدارين ، بل ضرره أقرب من نفعه. وقوله تعالى : {وأنَّ مَردّنا إلى الله} قال الورتجبي : مرد المحبين إلى مشاهدته ، ومرد العارفين إلى الوصلة ، ومرد الكل إلى قضيات الأزلية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 310
قال حمدون القصّار : لا أعلم في القرآن أرجى من قوله : {وأنَّ مَردَّنا إِلى الله} ، فقد حكي عن بعض السلف أنه قال : الكريمُ إذا قدر عفا ، وإنما يكون مرد العبد إلى ربه إذا أتاه على أمد الإفلاس والفقر ، لا أن يرى لنفسه مقاماً في إحدى الدارين ، وهو أن يكون في الدنيا خاشعاً لمَن يذله ، ولا يلتفت إليه ، هارباً ممن يكرمه ويبره ، ويكون في الآخرة طالباً لفضل الله ، مشفقاً من حسناته أكثر من إشفاق الكفار من كفرهم. هـ. قلت : هذا مقام العباد والزهّاد ، وأما العارفون فلا يرون إلا الله ، فيلقون الله بالله ، غائبون عن إحسانهم وإساءتهم. وقوله تعالى : {فستذكرون ما أقولُ لكم} هكذا يقول الواعظ إن لم ينفع وعظه ، ويُفوض أمره وأمرهم إلى الله ؛ فإنَّ الله بصيرٌ بهم. وقال بعضهم : وأُفوضُ أمري في الدنيا والآخرة إلى الله ، فهو بصير بعجزي وضعفي عن رد القضاء والقدر ، والتفويض : ألا يرى لنفسه ، ولا للخلق جميعاً ، قدرةً على النفع والضر ، فيرى الله بإيجاد الموجود في جميع الأنفاس ، بنعت المشاهدة والحال ، لا بنعت العلم والعقل. وقال بعضهم : التفويض : قبل نزول القضاء ، والتسليم : بعد نزول القضاء. وقال ذو النون حين سُئل عنه : متى يكون العبد مفوضاً ؛ قال : إذا أيس من فعله ونفسه ، والتجأ إلى الله في جميع أحواله ، ولم تكن له علاقة سوى ربه. هـ. أي : لم يكن له تعلُّق إلا بالله. فالمقامات ثلاث : التفويض قبل النزول ، والرضا بعده بالمجاهدة ، والتسليم بلا مجاهدة.
(6/471)
وقوله تعالى : {فوقاه الله سيئاتِ ما مكروا} هذه نتيجة التفويض ، فكُلّ من فوّض أمره إلى الله فيما ينزل به ، وقاه الله جميع المكاره ، وكُلَّ ما يخشى ؛ إن قطع عن قلبه التعلُّق بغير الله ، كما هو حقيقة التفويض. قال القشيري : أشدُّ العذاب على الكفار : يأسُهم عن الخروج ، وأما العصاة من المؤمنين فأشدُّ عذابهم : إذا علموا أن هذا يومُ لقاءِ المؤمنين. هـ. أي : وهم قد حُرموا ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 310
312
يقول الحق جلّ جلاله : {وإِذ يتحاجُّونَ في النار} أي : واذكر لقومك وقت تخاصم الكفار في النار ، {فيقول الضعفاءُ} منهم {للذين استكبروا} وهم رؤساؤهم : {إِنا كنا لكم تَبَعاً} ، وهو جمع تابع ، كخادم وخدَم ، أو : ذوي تَبَع ، على أنه مصدر ، أو : وصف به للمبالغة ، {فهل أنتم مُغنونَ عنا نصيباً من النار} أي : فهل أنتم دافعون ، أو : حاملون عنا جزءاً من النار ؟ {قال الذين استكبروا إِنَّا كلٌّ فيها} ، التنوين عوض عن المضاف ، أي : كلنا فيها ، لا يُغني أحد عن أحد. وقرىء (كُلاًّ) بالنصب على التأكيد ، وهو ضعيف لخلوه من الضمير. {إِنَّ الله قد حَكَمَ بين العباد} ؛ قضى بينهم ، بأن أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، لا مرد له ، ولا مُعقب لحُكمه ، فلا يُغني أحد عن أحد شيئاً.
قال ابن عرفة : في الآية لف ونشر ، فقوله تعالى : {إِنَّ كلٌّ فيها} راجع لقوله : {إِنا كنا لكم تبعاً} أي : إنا قد حصلنا جميعاً في النار ، فَجُوزي كلٌّ على قدر عمله ، أنتم على ضلالكم ، ونحن على إضلالنا إياكم. وقوله : {إِن الله قد حكم بين العباد} راجع لقوله : {فهل أنتم مُغنون عنا} وبهذا المعنى يتقرر الجواب. هـ.
(6/472)
{وقال الذين في النار لخزنةِ جهنَّمَ} ؛ للقُوّام بتعذيب أهلها ، وإنما لم يقل : لخزنتها ؛ لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً ، ويحتمل أنّ جهنم هي أبعدُ النار قعراً ، من قوله : بئر جَهنام ، أي : بعيدة القعر ، وفيها أعتى الكفرة وأطغاهم ، أو : لكون الملائكة الموكّلين بعذاب أهلها أقدر على الشفاعة ؛ لمزيد قربهم من الله ، فلهذا تعمّدوهم بطلب الدعوة ، فقالوا لهم : {ادعوا ربكم يُخفّفْ عنا يوماً} أي : مقدارَ يوم من الدنيا {من العذابِ} ، واقتصارهم في الاستدعاء على ما ذكر في تخفيف قدر يسير من العذاب في مقدار قصير من الزمان ، دون رفعه رأساً ، أو : تخفيف منه في زمان مديد ؛ لأن ذلك عندهم ليس في حيز الإمكان ، أو لا يكاد يدخل تحت أمانيهم.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 312
قالوا} أي : الخزنة ، توبيخاً لهم ، بعد مدة طويلة : {أَوَلَمْ تَكُ} أي : القصة {تأتيكم رُسلُكم بالبينات} ؛ بالمعجزات ، يَتْلُون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ أرادوا بذلك إلزامهم الحجة ، وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء ، وتعطيل أسباب الإجابة ، {قالوا} أي : الكفار : {بلى} أتونا بها ، فكذبناهم وقلنا : ما نزَّل اللهُ من شيء. {قالوا} أي : الخزنة تهكُّماً بهم : {فادْعُوا} أي : إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم ، فإنَّ الدعاء لمَن يفعل ذلك مما يستحيل صدوره. منا. زاد البيضاوي : إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم ، وبحث معه أبو السعود بأنه يُوهم أن المانع هو عدم الإذن ، وأنَّ الإذن في حيز الإمكان ، ولا تجوز الشفاعة في كافر. انظره. قال تعالى : {وما دعاءُ الكافرين إِلا في ضلالٍ} ؛ في ضياع وبطلان ، لا يُجابون فيه ؛ لأنهم دعوا في غير وقته ، ويحتمل أن يكون من كلام الخزنة. والله تعالى أعلم.
313
(6/473)
الإشارة : الآية تجر ذيلها على كلّ مَن له جاه ، فدعا إلى سوء ، بمقاله أو حاله ، فتبعه العامة على ذلك ، فيتحاجُّون يوم القيامة فيقول المستضعفون : إنا كنا لكم تبعاً. فكل مَن أمر بسوء ، وفُعِل ، عُوقب الآمر والمأمور ، وكل مَن فعل فعلاً خارجاً عن السُنَّة ، كالرغبة في الدنيا ، والتكاثر منها ، فتبعه العامة على ذلك ، عُوتب الجميع ، وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 312
يقول الحق جلّ جلاله : {إِنَّا لَننصرُ رُسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} بالحجّة والظفر ، والانتقام لهم من الكفرة ، بالاستئصال ، والقتل ، والسبي ، وغير ذلك من العقوبات. ولا يقدح في ذلك ما يتفق لهم من صورة الغلبة ، امتحاناً ؛ إذ الحكم للغالب ، وهذا كقوله تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا...} [الصافات : 171] الآية ، وقوله : {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة : 21]. والنصر في الدنيا إما بالسيف ، في حق مَن أمر بالجهاد ، أو : بالحجة والإهلاك فيمن لم يؤثر به ، وبذلك يندفع قول مَن زعم تخصيص الآية أو تعميمها ، وإخراجَ زكريا ويحيى من الرسالة ، وإنْ ثبت لهما النبوة لقتلهما ، وأن الآية ، إنما تضمنت نصر الرسل دون الأنبياء ، فإنه خلاف لما صرّح به الجمهور من ثبوت الرسالة ليحيى ، ففي كلام ابن جزي هنا نظر. قاله المحشي.
{ويومَ يقومُ الأشهادُ} أي : وننصرهم يوم القيامة ، عبَّر عنه بذلك للإشعار بكيفية النصرة ، وأنها تكون حين يجتمع الأولون والآخرون ، ويحضره الأشهاد من الملائكة وغيرهم ، فيشهدون للأنبياء بالتبليغ ، وعلى الكفرة بالتكذيب. قال النسفي : الأشهاد جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، يريد : الأنبياء والحفظة ، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب ، والحفظة يشهدون على بني آدم. هـ.
(6/474)
{يوم لا ينفعُ الظالمين معذرتُهم} : هو بدل من {يوم يقوم} أي : لا يقبل عذرهم ، ومَن قرأ بالتأنيث فباعتبار لفظ المعذرة ، {ولهم اللعنةُ} أي : البُعد من الرحمة ، {ولهم سوءُ الدار} أي : سوء دار الآخرة ، وهو عذابها.
الأشارة : كما نُصرت الرسل بعد الامتحان ، نُصرت الأولياء بعد الامتحان والامتكان. قال الشاذلي رضي الله عنه : اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذُل ّ حتى عزوا.. إلخ. وهم داخلون في قوله : {والذين آمنوا في الحياة الدنيا} ، ونصرتهم تكون أولاً بالظفر بنفوسهم ، ثم بالغيبة عن حس الكائنات ، باتساع دائرة المعاني ، ثم بالتصرف في الوجود بأسره بهمته. قال القشيري : ويقال : ينصرهم على أعدائهم بلطف خفيّ ، وكيد غير مرئيّ ، من حيث يحتسب أو لا يحتسب ، كما ينصرهم في الدنيا على تحقيق المعرفة ،
314
واليقين بأنَّ الكائنات من الله. ثم قال : غاية النصرة أن يَقتُلَ الناصرُ عدوَّ مَنْ ينصره ، فإذا رآه حقق له أنه لا عَدُو له في الحقيقة ، وأنَّ الخلق أشباحٌ ، وتجري عليهم أحكام القدرة ، فالولِيُّ لا عدوَّ له ولا صديق ، ليس له إلا الله. قال الله تعالى : {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} [البقرة : 257] هـ. والنصر في الحقيقة هو التأييد عند التعرفات ، فإذا ابتلي الرسول أو الولي أيّده الله باليقين ، ونصره بالمعرفة ، فيلقي ما ينزل عليه بالرضا والتسليم ، وتذكَّر ما لقي به الشاذلي حين دعا بالسلامة مما ابتلي به الرسل ، متعللاً بأنهم أقوى ، فقيل له : قل : وما أردتَ من شيء فأيِّدنا كما أيدتهم. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 314
(6/475)
يقول الحق جلّ جلاله : {ولقد آتينا موسى الهدى} ؛ ما يهتدي به من المعجزات ، أو الشرائع والصُحف. {وأورثنا بني إِسرائيل الكتابَ} أي : تركنا فيهم التوراة ، يرثه بعضهم من بعض ، أو : جنس الكتاب ، فيصدق بالتوراة والإنجيل والزبور ؛ لأنَّ المنزَّل عليه منهم. قال الطيبي : فيه إشارة إلى أن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي ، الناطق بالحكمة والموعظة. هـ. حال كون الكتاب {هُدًى وذكرى} أي : هادياً ومُذكِّراً ، أو : إرشاداً وتذكرة {لأولي الألبابِ} ؛ لأولي العقول الصافية ، العالِمين بما فيه ، العاملين به.
{فاصبرْ إِنَّ وَعْدَ الله حقٌّ} أي : فاصبر على ما يُجرّعك قومك من الغُصَص {إِنَّ وعد الله} بنصرك وإعلاء دينك ، على ما نطق به قوله تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات : 171 _ 173] ، {حقٌّ} لا يحتمل الاختلاف بحال. قال الطيبي : الآية تشير إلى نصره على أعدائه ، كموسى ، وأنه يظهر دينه على الدين كله ، ويورث كتابه ؛ ليعتصموا به ، فيكون لهم هُدًى وذكرى ، وعزّاً وشرفاً. هـ. أي : ولذلك قدّم ذكر موسى على بشارته بالنصر ؛ ليتم التشبيه.
{واستغفر لذنبك} ، تشريعاً لأمتك ؛ فإِنَّ الاستغفار يمحو الذنوب التي تعوق عن النصر ، أو : تداركاً لِمَا فرط منك من ترك الأَوْلَى في بعض الأحايين ، فإِنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين. والحاصل : أن كل مقام له ذنب يليق به ، وهو التقصير في القيام به على ما يليق به ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كُلف بدوام الشهود ولو في حال التعليم ، فإذا غاب عن الحق لحظة
315
(6/476)
بشغل البال بالتعليم ، كان في حقه نقصاً يُوجب الاستغفار. ثم قال : {وسبّحْ بحمد ربك بالعشيّ والإِبكار} أي : دُم على التسبيح ملتبساً بحمده ، أي : قل : سبحان الله وبحمده ، أو : صَلّ في هذين الوقتين ، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وعشيّاً ، وقيل : هما صلاة العصر والفجر ، خصصهما لشرفهما.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 315
إِنَّ الذين يُجادلون في آياتِ الله} ويجحدونها {بغير سُلطانٍ} ؛ برهان {أتاهُم} من جهته تعالى ، بل عناداً وحسداً. وتعليق المجادلة بذلك ، مع استحالة إتيانه ؛ للإيذان بأن التكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى برهان ، وهذا عام لكل مجادل ، محق أو مبطل ، وإن نزل في مشركي مكة. وقوله : {إِن في صُدورِهم إِلا كِبْرٌ} : خبر " إِنْ " ، أي : ما في قلوبهم إلا تكبُّر عن الحق ، وتعاظم عنه ، وهو إرادةُ التقدم والرئاسة ، وألا يكون أحدٌ فوقهم ، فلذلك عادوك ، ودفعوا آياتك ، خيفة أن تتقدمهم ، ويكونوا تحت قهرك ؛ لأن النبوة تحتها كُل ملك ورئاسة ، أو : إرادة أن تكون لهم النبوة دونك ، حسداً وبغياً ، كقولهم : {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف : 31] ، {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف : 11].
(6/477)
ثم وصف كِبْرَهم بقوله : {ما هم ببالغِيه} أي : ما هم ببالغي موجب ذلك الكبر ومقتضاه ، وهو ما أرادوه من التقدُّم والرئاسة ، وقيل : نزلت في اليهود ، وهم المجادلون ، كانوا يقولون : لست صاحبنا المذكور في التوراة ، بل هو المسيح ابن داود ، يعنون الدجال ، يخرج في آخر الزمان ، فيبلغ سلطانه البر والبحر ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله ، فيرجع إلينا المُلك فسمى الله تمنيهم بذلك كِبْراً ، ونفى أن يبلغوا متمناهم. {فاستعذ بالله} ؛ فالتجىء إليه من كبد مَن يحسدك ، ويبغي عليك ، {إِنه هو السميعُ} لِمَا تقول ويقولون ، {البصير} بما تعمل ويعملون ، فهو ناصرك عليهم ، وعاصمك من شرهم.
الإشارة : فاصبر أيها المتوجه إلى الله ، إنَّ وعد الله بالفتح حق إن صبرت ، وكابدت ولم تملّ ، واستغفر لذنبك ، وتطهرْ من عيبك ، لتدخل حضرة ربك. قال الورتجبي : " واستغفر لذنبك " أي : لما جرى على قلبك من الأحكام البشرية ، وأيضاً : استغفر لرؤية وجودك في وجود الحق ، فإنَّ كون الحادث في وجود القديم ذنب في إفراد القدم من الحدوث. انظر تمامه.
وقوله تعالى : {وسبّح...} الخ ، فيه الحث على التوجُّه إلى الله في هذين الوقتين ، فإن العبرة بالافتتاح والاختتام ، فمَن فتح يومه بخير ، وختمه بخير ، حكم على بينهما. وقال في أهل الإنكار : {إِن الذين يُجادلون في آيات الله...} الآية ، فاستعذ بالله منهم ، وغِبْ عنهم بإقبالك على مولاك. وبالله التوفيق.
316
جزء : 6 رقم الصفحة : 315
يقول الحق جلّ جلاله : {لَخلقُ السماوات والأرض أكبرُ من خلقِ الناسِ} ، فمَن قدر على اختراع هذه الأجرام مع عظمها كان على اختراع الإنسان بعد موته ؛ وبعثه مع مهانته ؛ أقدر ، {ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون} ذلك ؛ لأنهم لا يتفكرون ؛ لغلبة الغفلة عليهم ، وعمى بصيرتهم.
(6/478)
{وما يستوي الأعمى والبصيرُ} أي : الغافل والمستبصر ، {ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيءُ} ؛ ولا يستوي المحسن والمسيء ، فلا بد أن تكون لهم حال أخرى ، يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت ، وهي فيما بعد البعث ، فيرتفع المستبصر المحسن في أعلى عليين ، ويسقط الغافل المسيء في أسفل سافلين. وزيادة " لا " في المسيء ؛ لتأكيد النفي ؛ لطول الكلام بالصلة. {قليلاً ما يتذكرون} أي : تذكراً قليلاً يتذكرون. وقرىء بالغيبة ، والخطاب ، على الالتفات. {إِنَّ الساعة لآتيةٌ لا ريبَ فيها} ؛ لا شك في مجيئها ؛ لوضوح دلائلها ، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها ، {ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون} ؛ لا يُصدقون بوقوعها ؛ لقصور نظرهم على ظواهر ما يحسُّون.
الإشارة : التفكُّر في العوالم العلوية والسُفلية ، يُوجب في القلب عظمة الحق جلّ جلاله ، وباهر قدرته وحكمته ، وإتيان البعث لا محالة ؛ لنفوذ القدرة في الجميع. وكونُ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان ، إنما هو باعتبار الجرم الحسي ، وأما باعتبار المعنى ؛ فالإنسان أعظم ؛ لاشتماله على العوالم كلها ، كما قال في المباحث :
اعْقِلْ فأَنْتَ نُسخةُ الوُجُود
ِلله ما أعلاكَ مِن مَوجُود>> أَليس فِيكَ العرْشُ والكرسِيُّ
والعَالَمُ العلويُّ والسُّفليُّ ؟
جزء : 6 رقم الصفحة : 316
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال ربُّكُم ادعوني} أي : اعبدوني {أَستجبْ لكم} أي : أثبكم ، ويدل على هذا قوله : {إِن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين} ؛ صاغرين أذلاء ، أو : اسألوني أعطكم ، على ما أريد ، في الوقت الذي أريد. قال
317
القشيري : والحكمة في أنه أمر بالسؤال قبل الإجابة ، وبالاستغفار قبل المغفرة ، أنه حكم في اللوح أن يعطيك ذلك الشيء الذي تسأله وإن لم تسأل ، ولكن أمر بالسؤال ، حتى إذا وجدته تظن أنك وجدته بدعائك ، فتفرح به.
(6/479)
قلت : السؤال سبب ، والأسباب غطى بها سر قدرته تعالى. ثم قال : ويقال : إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما مِن مؤمنٍ يدعو الله ، ويسأله شيئاً ، إلا أعطاه إياه ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة. حيث يقال له : هذا ما طلَبْتَه في الدنيا ، وقد ادخرتُه لك إلى هذا اليوم ، حتى يَتَمنى العبدُ أنه لم يُعطَ شيئاً في الدنيا. هـ.
قلت : فالدعاء كله إذاً مستجاب ، بوعد القرآن ، لكن منه ما يُعجّل ، ومنه ما يُؤجّل ، ومنه ما يصرف عنه به البلاء ، كما في الأثر ، وإذا فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار عنه منزلاً منزلة الاستكبار عن العبادة ؛ للمبالغة في الحث عليه. قال صلى الله عليه وسلم : " الدعاء هو العبادة " وقرأ الآية ، وفي رواية : " مخ العبادة " ، وعن ابن عباس : " وحَدوني أغفر لكم " ، فسَّر الدعاء بالعبادة ، والعبادة بالتوحيد.
الإشارة : اختلف الصوفية أيّ الحالين أفضل ؟ هل الدعاء والابتهال ، أو السكوت والرضا ؟ والمختار أن ينظر العبد ما يتجلّى فيه قلبه ، فإن انشرح للدعاء فهو في حقه أفضل ، وإن انقبض عنه ، فالسكوت أولى ، والغالب على أهل التحقيق من العارفين ، الغنى بالله ، والاكتفاء بعلمه ، كحال الخليل عليه السلام ، فإنهم إبراهيميون.
قال الورتجبي : أي : ادعوني في زمن الدعاء الذي جعلته خاصّاً لإجابة الدعوة ، فادعوني في تلك الأوقات ، أستجب لكم ؛ فإنَّ وقوع الإجابة فيها حقيقة بلا شك ، ومَن لم يعرف أوقات الدعاء ، فدعاؤه ترك أدب ؛ فإن الدعاء في وقت الاستغفار من قلة معرفة المقامات ، فإن السلطان إذا كان غضبان لا يُسأل منه ، وإذا كان مستبشراً فيكون زمانه زمن العطاء والكرم.
قلت : هذا في حق الخصوص ، الفاهمين عن الله ، وأما العموم ، فما يناسبهم إلا دوام الدعاء في الرخاء والشدة : قال تعالى : {فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} [الأنعام : 43] ثم قال عن الورّاق : ادعوني على حد الاضطرار والالتجاء ، حيث لا يكون لكم مرجع إلى سواي ، أستجب لكم. هـ.
318
(6/480)
جزء : 6 رقم الصفحة : 317
يقول الحق جلّ جلاله : {الله الذي جعلَ لكم الليلَ لتسكنوا فيه} بأن خلقه مظلماً بارداً ، تقلّ فيه الحركات فتستريح فيه الجوارح ، {و} جعل {النهارَ مبصراً} أي : مبصَراً فيه. فأسند الإبصار إلى النهار ، مجازاً ، والأصل في الحقيقة لأهل النهار. وقرن الليل بالمفعول له ، والنهار بالحال ، ولم يكونا حالين أو مفعولاً لهما ؛ رعايةً لحق المقابلة ، لأنهما متقابلان معنىً ؛ لأن الليل مقابل النهار ، فلما تقابلا معنىً تقابلا لفظاً ، مع أن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر ، ولأنه لو قيل : لتُبصروا فيه ؛ فاتت الفصاحة التي في الإسناد مجازي ، ولو قيل : " ساكناً " لم تتميز الحقيقة من المجاز ، إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم : ليل ساج ، أي : ساكن لا ريحَ فيه.
{إِنَّ الله لذو فضلٍ} عظيم {على الناس} ، حيث تفضَّل عليهم بهذه النعم الجسيمة ، وإنما لم يقل : المتفضل ؛ لأن المراد تكثير الفضل ، وأنه فضله لا يوازيه فضل ، فالتنكير للتعظيم. {ولكنَّ أكثرَ الناس لا يشكرون} ؛ لجهلهم بالمنعم ، وإغفالهم مواضع النعم. وتكرير الناس ، ولم يقل : أكثرهم ؛ لتخصيص الكفران بهم ، وأنهم هم الذين من شأنهم الكفران ، كقوله : {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج : 66].
{ذلكمُ الله} أي : ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية ، من خلق الليل والنهار ؛ هو الله {ربكُم} لا ربّاً غيره ، {خالقُ كل شيء لا إِله إِلا هو} أخبار مترادفة ، أي : الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية ، وإيجاد الأشياء ، والوحدانية ، {فأنَّى تُؤفكون} أي : فكيف ، ومِن أيّ وجه تُصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان ؟ ! {كذلك يُؤفك الذين كانوا بآياتِ الله يجحدون} أي : مثل ذلك الإفك العجيب ، الذي لا وجه له ، ولا مصحح له أصلاً ، يُؤفك كلُّ مَن جحد بآياته تعالى من غير تروٍّ ولا تأمُّل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 319
(6/481)
ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان ، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان ، فقال : {الله الذي جعل لكم الأرضَ قراراً} ؛ مستقراً تستقرون عليها بأقدامكم ومساكنكم ، {والسماء بناءً} ؛ سقفاً فوقكم ، كالدنيا بيت سقفه السماء ، مزيّناً بالمصابيح ، وبساطه الأرض ، مشتملة على ما يحتاج إليه أهل البيت. {وصوَّركم فأحسنَ صُورَكم} ، هذا بيان لفضله المتعلق بالأجسام ، أي : صوّركم أحسن تصوير ، حيث جعلكم مُنتصِبَ القامة ، باديَ البشرة ، متناسب الأعضاء والتخطيطات ، متهيئاً لمناولة الصنائع واكتساب الكمالات. قيل : لمْ
319
يخلق الله حيواناً أحسن صورة من الإنسان. {ورزقكم من الطيبات} أي : اللذائذ ، {ذلكم الله ربكم} أي : ذلكم المنعوت بتلك النعوت الجليلة ، هو المستحق للربوبية ، {فتبارك الله} أي : تعالى بذاته وصفاته {ربُّ العالمين} أي : مالكهم ومربيهم ، والكل تحت قدرته مفتقر إليه في إيجاده وإمداده ؛ إذ لو انقطع إمداده لانْهَدَ الوجود.
{هو الحيُّ} ؛ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية ، {لا إِله إِلا هو} ؛ إذْ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله ، {فادعوه} ؛ فاعبدوه {مخلِصين له الدينَ} أي : الطاعة من الشرك والرياء ، وقولوا : {الحمد لله ربِّ العالمين}. عن ابن عباس رضي الله عنه : مَن قال " لا إله إلا الله " فليقل على إثرها : الحمد لله رب العالمين.
(6/482)
الإشارة : الله هو الذي جعل ليل القبض لتسْكنوا فيه عند الله ، ونهار البسط لتُبصروا نعم الله ، فتشكروا لتبتغوا زيادة فضله ، وجعل أرض النفوس قراراً لقيام وظائف العبودية ، وسماء الأرواح مرقى لشهود عظمة الربوبية. قال القشيري : سكونُ الناس بالليل ـ أي : الحسي ـ على أقسام : فأهل الغفلة يسكنون مع غفلتهم ، وأهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم ، فشتّان بين سكون غفلةٍ ، وسكونِ وصلة ، وقومٌ يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم ، وقومٌ إلى حلاوة أعمالهم ، وبسطهم ، واستقبالهم ، وقومٌ يعدِمون القرار في ليلهم ونهارهم ـ أي : لا يسكنون إلى شيء ـ أولئك أصحابُ الاشتياق ، أبداً في الإحراق هـ.
وقوله تعالى : {وصَوَّرَكُم} أي : صَوَّر أشباحكم ، فأحسن صورتها ، حيث بهَّجها بأنوار معرفته. قال الورتجبي : فأحْسن صُوَرَكم بأن ألبستكم أنوار جلالي وجمالي ، واتخاذِكم بنفسي ، ونفخت من روحي فيكم ، الذي أحسن الهياكل مِن حسنه ، ومِن عكْس جماله ، فإنه مرآة نوري الجلي للأشباح. هـ. قال القشيري : خَلَقَ العرشَ والكرسي والسمواتِ والأرض ، وجميع المخلوقات ، ولم يقل في شيء منها : فأحسن صورها ، بل قاله لمّا خلق هذا الإنسان ، وليس الحَسَنَ ما يستحسنه الناسُ ، ولكن الحسنُ ما يستحسنه الحبيبُ ، وأنشدوا :
جزء : 6 رقم الصفحة : 319
مَا حَطَّكَ الْوَاشُونَ عَن رُتبةٍ
عنْدِي ، ولاَ ضَرَّكَ مُغْتَابُ>> كأَنَّهم أَثْنَوْا ولَمْ يَعْلَمُوا
عَلَيْكَ عِنْدِيَ بِالَّذِي عَابوا
لم يَقُلْ للشمس في عُلاها ، ولا للأقمار في ضيائها : (فأَحسنَ صُوَرَكم) ولما انتهى إلينا قال : {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين : 4]. ثم قال : وكما أحسن صُوركم محى من ديوانكم الزلاّت ، وأثبت الحسنات ، قال الله تعالى : {يَمْحُواْ اللهُ مَا يَشَآءُ وُيُثْبِتُ} [الرعد : 39] هـ.
320
(6/483)
قوله تعالى : {ورزقكم من الطيبات} لذيذ المشاهدة ، وأنس الوصلة. وقوله تعالى : {هو الحي} الحياة عند المتكلمين لا تتعلق بشيء ، وعند الصوفية تتعلق بالأشياء ؛ إذ لا قيام لها إلا بأسرار معاني ذاته ، ومَن تحققت حياته من الأولياء بحياة الله ، بحيث كان له نور يمشي به في الناس ، كان كل مَن لقيه حييت روحه بمعرفة الله ، ولذلك يضم الشيخُ المريدَ إليه ، إن رآه لم ينهض حاله ، ليسري حاله فيه ، يأخذون ذلك من ضم جبريل للنبي عليهما السلام. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 319
يقول الحق جلّ جلاله : {قُل إِني نُهيتُ أن أعبدَ الذين تدعونَ} أي : تعبدون {من دون الله} ولم يكن عَبَدَها قط ، {لَمَّا جاءنيَ البيناتُ من ربي} ؛ من الحُجَج العقلية ، والآيات التنزيلية.
قال الطيبي : معرفة الله تعالى ووحدانيته معلومتان بالعقل ، وقد ترد الأدلة العقلية في مضمون السمعية ، أما وجوب عبادة الله ، وتحريم عبادة الأصنام ، فحُكْمٌ شرعي ؛ لقوله : {قل إني نُهيت} أي : حَرُم عليّ ، وهذا إنما يتحقق بعد البعثة ، خلافاً للمعتزلة في الإيجاب قبل الشرع ، للتحسين والتقبيح ، والمعنى : أن قضية التقليد تُوجب ما أنتم عليه ، ولكني خُصصت بأمر دونكم ، كما قال إبراهيم : {يَآ أَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ...} [مريم : 43] إلخ كلامه ، {وأُمرت أن أُسْلِمَ} ، أن أنقاد وأُخلص ديني {لربِّ العالمين}.
(6/484)
{هو الذي خلقكم من ترابٍ} أي : أصلكم ، وأنتم في ضمنه ، {ثم من نطفةٍ} أي : ثم خلقكم خلقاً تفصيليّاً من نطفة تُمنى ، {ثم من علقةٍ ، ثم يُخرجكم طفلاً} أي : أطفالاً ، واقتصر على الواحدة ؛ لأن المرادَ الجنس ، {ثم لتبلغوا أشُدَّكم} : متعلق بمحذوف ، أي : ثم يُبقيكم لتبلغوا أشدَّكم ، وكذلك {ثم لتكونوا شُيوخاً} ، وقيل : عطف على محذوف ، عِلة ليُخرجكم ، فـ " يخرجكم " من عطف علة على أخرى ، كأنه قيل : ثم يخرجكم طفلاً لتكبروا شيئاً فشيئاً ، ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل ، ثم لتكونوا شيوخاً ، بكسر الشين وضمها جمع شيخ ، وقرىء " شيخاً " كقوله : " طفلاً ".
321
{ومنكم مَن يُتوفى من قبلُ} عبارة تجري في الأدراج المذكورة ، فمِن الناس مَن يموت قبل أن يُخرج طفلاً ، وآخرون قبل الأشدّ ، وآخرون قبل الشيخوخة. {ولتبلغوا أجلاً مسمى} أي : وفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مُسمى ، أي : ليبلغ كل واحد منكم أجلاً مسمى لا يتعداه ، وهو أجل موته ، {ولعلكم تعقلون} ؛ ولكي تعقلوا ما في ذلك من العِبَر ، والحجج ، وفنون الحِكَم ؛ فإنَّ ذلك التدريج البديع يقضي بالقدر السابق ، ونفوذ القدرة القاهرة ؛ لبُعد ذلك التفاوت ، والاختلاف العظيم ، عن الطبيعة والعلة ، وإنما موجب ذلك سبق الاختيار والمشيئة الأزلية ، ولذلك عقّبه بقوله :
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 321
(6/485)
هو الذي يُحيي ويُميتُ} دفعاً لما قد يُتوهم ـ من كونه لم يذكر الفاعل في قوله {ومنكم مَن يُتوفى من قبل} ـ أن ذلك من فساد مزاجه ، أو قتل غيره قبل أجله ، فرفع ذلك الإبهام بقوله : {هو الذي يُحيي ويُميت} لا غيره ، أي : يحيي الأموات ، ويميت الأحياء ، أو : يفعل الإحياء والإماتة ، {فإِذا قَضَى أمراً} أي : أراد أمراً من الأمور ، {فإِنما يقولُ له كن فيكون} من غير توقُّف على شيء من الأشياء أصلاً ، وهو تمثيل لتأثير قدرته تعالى في الأشياء عند تعلُّق إرادته بها ، وتصوير سرعة ترتُّب المكونات على تكوينه ، من غير أن يكون هناك أمر ولا مأمور. الإشارة : إذا دخل المريد مقامَ التجريد ، طالباً لأسرار التوحيد والتفريد ، وطلبه العامة بالرجوع للأسباب قبل التمكين ، يقول : {إِني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله...} الآية. والبينات التي جاءته من ربه ، هو اليقين الكبير بأن الله يرزق أهلَ التقوى بغير أسباب ، لقوله تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق : 2 - 3] وفي هذا المعنى قال الغزالي رضي الله عنه :
تَرَكْتُ لِلنَّاسِ دِينَهُم ودُنْيَاهُم
شُغْلاً بِذِكْرِكَ يَا دِيني وَدُنْيَاي
قال القشيري : قل يا محمد : إِني نُهيت وأُمرتُ بالتبرِّي مما عبَدتم ، والإعراضِ عما به اشتغلتم ، والاستسلام للذي خَلَقني ، وبالنبوة خصّني. هـ. وكما تتربى النطفة الإنسانية في الرحم ، تتربى نطفة الإرادة ـ وهي المعرفة العيانية ـ في القلب ، فإذا عقد المريد نكاح الصُحبة مع الشيخ ، قذف في قلبه نطفة الإرادة ، فما زال يربيها له حتى يخرج عن حس دائرة الأكوان ، فهي ولادته طفلاً ، ثم لا يزال يحاذيه بهمته حتى يبلغ أشده ، وهو كماله ، ثم يكون شيخاً مريباً ؛ إن أَذِنَ له. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 321
(6/486)
قلت : {الذين يُجادلون} : بدل من الموصول قبله المجرور ، أو : رفع ، أو : نصب على الذم.
يقول الحق جلّ جلاله : {أَلَمْ تَرَ إِلى الذين يُجادلون في آيات الله} ، كرر الحق تعالى الجدال في هذه السورة ثلاث مرات ، فإما أن يكون في ثلاث طوائف : الأول في قوم فرعون ، والثاني في اليهود ، والثالث في المشركين ، وإما للتأكيد ، أي : انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آيات الله الواضحة ، الموجبة للإيمان بها ، الزاجرة عن الجدال فيها ، {أَنَّى يُصْرَفُون} أي : كيف يُصرفون عنها ، مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها ، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية.
وهذا تعجيب من أحوالهم الركيكة ، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن ، أو بسائر الكتب والشرائع ، كما أبانه بقوله : {الذي كذَّبوا بالكتاب} أي : بالقرآن ، أو : بجنس الكتب السماوية ، {وبما أرسلنا به رسلنا} من سائر الكتب ، أو : الوحي ، أو : الشرائع ، {فسوف يعلمون} عاقبة ما فعلوا من الجدال والتكذيب ، عند مشاهدتهم لأنواع العقوبات.
{إِذِ الأغلالُ في أعناقهم} أي : سوف يعلمون حين تكون الأغلال في أعناقهم. و " إذ " : ظرف للماضي ، والمراد به هنا : الاستقبال ؛ لأن الأمور المستقبلة لَمّا كانت محققة الوقوع ، مقطوعاً بها ، عبّر بما كان ووُجد. {و} في أعناقهم أيضاً {السلاسلُ}. وفي تفسير ابن عرفة : ولا يجوز مثل ذلك في العقوبات الدنيوية ، وقياسه على العقوبات الأخروية خطأ ، وفاعله مخطىء غاية الخطأ ، ولم يذكر الأئمة في اعتقال المحبوس للقتل ؛ إلا أنه يجعل القيد من الحديد في رِجْلِه ، خيفة أن يهرب ، وأما عنقه فلا يُجعل فيه شيء. هـ. {يُسْحَبون في الحميم} أي : يُجرّون في الماء الحارّ ، وهو استئناف بياني ، كأن قائلاً قال : فماذا يكون حالهم بعد ذلك ؟ فقال : يُسحبون في الحميم ، {ثم في النار يُسْجَرُون} ويُحرقون ، من سَجَر التنّور : إذا ملأه بالوقود ، والمراد : أنهم يُعذبون بأنواع العذاب ، ويُنقلون من لون إلى لون.
{
(6/487)
جزء : 6 رقم الصفحة : 322
ثم قيلَ لهم أين ما كنتم تُشركون من دون الله قالوا ضَلُّوا عنا} أي : غابوا ، وهذا قبل أن يُقرن بهم آلهتهم ، أو : ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم ، {بل لم نكن ندعو من قبلُ شيئاً} أي : تبيّن لنا أنهم لم يكونوا شيئاً. أو : يكون إنكاراً منهم ، كقولهم : {واللهِ
323
رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام : 23]. وهذا كله مستقبل عبّر عنه بالماضي لتحققه. {كذلك} أي : مثل ذلك الضلال الفظيع {يُضل الله الكافرين} حيث لا يهتدون إلى شيء ينفعهم في الآخرة ، أو : كما ضلّ عنهم آلهتهم يُضلهم الله عن آلهتهم ، حتى لو تطالبوا لم يتصادفوا.
{ذلكم} الإضلال {بما كنتم تفرحون في الأرض} أي : تبطرون وتتكبرون {بغير الحق} ، بل بالشرك والطغيان ، {وبما كنتم تمرحون} ؛ تفخرون وتختالون ، أو : تتكبرون وتعجبون. والالتفات إلى الخطاب ؛ للمبالغة في التوبيخ. فيقال لهم : {ادْخُلوا أبوابَ جهنَّم} أي : أبوابها السبعة المقسومة عليكم {خالدين فيها} مقدّراً خلودكم فيها ، {فبئسَ مثوى المتكبرين} عن الحق ، والمخصوص محذوف ، أي : جهنّم.
(6/488)
الإشارة : الأولياء العارفون أهل التربية الكاملة ، آية من آيات الله في كل زمان ، فيقال في حق مَن يُخاصم في وجوههم ، ويتنكّب عن صحبتهم : الذين يُجادلون في آيات الله أنَّى يُصرفون ؟ وهم الذين كذَّبوا بأسرار الكتاب ، وعلوم باطنه ، وبما أرسل به خلفاء الرسل ، ممن يغوص على تلك الأسرار ، فسوف يعلمون حين تخاطبهم أغلال الوساوس والخواطر ، وسلاسل العلائق والشواغل ، فيقبضهم عن النهوض إلى قضاء الشهود والعيان ، وجولان الفكرة في أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، يُسحبون في حرّ التدبير والاختيار ، ثم في نار القطيعة يُسْجَرون ، ثم قيل لهم إذا ماتوا : أين ما كنتم تُشركون في المحبة والميل من دون الله ؟ قالوا : ضلُّوا عنا ، وغاب عنهم كل ما تمتعوا به من الحظوظ والشهوات ، فيقال لهم : ذلكم بما كنتم تنبسطون في الدنيا في أنواع المآكل ، والمشارب ، والملابس ، والمناكح ، وبما كنتم تفتخرون على الناس ، فيخلدون في الحجاب ، إلا في وقت مخصوص. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 322
يقول الحق جلّ جلاله : {فاصبرْ} يا محمد على أذى قومك ، وانتظر ما يلاقوا مما أُعِد لهم. {إِنَّ وعدَ الله} بإهلاكهم وتعذيبهم {حقٌّ} ؛ كائن لا محالة ، {فإِما نُريَنَّكَ بعضَ الذي نَعِدُهُم} من الهلاك ، كالقتل والأسر في حياتك ، {أوْ نتوفينّك} قبل هلاكهم بعدك ، {فإِلينا يُرجعون} لا محالة ، فـ " ما " : صلة بعد " أن " ، لتأكيد الشرطية ، والجواب : محذوف ، أي : فإن نُرينك بعض ما نعدهم فذاك ، أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يُرجعون يوم القيامة ، فلننتقم منهم أشد الانتقام.
324
(6/489)
ثم سلاّه بمَن قبله ، فقال : {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك} فأُوذوا وصبروا حتى جاءهم نصرنا ، {منهم مَن قَصصْنا عليك} في القرآن ، {ومنهم مَن لم نقصصْ عليك} ، قيل : عدد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ مائة ألف وأربعمائة وعشرون ألفاً ، والمذكور قصصهم في القرآن أفراد معدودة. قال الطيبي : والصحيح ما روينا عن أحمد بن حنبل ، عن أبي ذر ، قلت : يا رسول الله ، كم عدد الأنبياء ؟ قال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّاً غفيراً " هـ. وقد تكلم في الحديث بالضعف والصحة والوضع ، وقيل : عدتهم ثمانية آلاف ، أربعة آلاف نبيّ من بني إسرائيل ، وأربعة آلاف من سائر الناس. وعن عليّ كرّم الله وجهه : " إنه الله تعالى بعث نبيّاً أسود ، فهو ممن لم تُذكر قصته في القرآن ". فقوله تعالى : {ومنهم مَن لم نقصص عليك} أي : في القرآن ، فلا ينافي إخباره بمطلق العدد على ما في حديث أبي ذر.
{وما كان} أي : ما صحّ ، ولما استقام {لرسولٍ} منهم {أن يأتيَ بآيةٍ} مما اقترح عليه قومه ، {إِلا بإذن الله}. فإنَّ المعجزات على تشعُّب فنونها ، عطايا من الله تعالى ، قسمها بينهم على حسب المشيئة ، المبنية على الحِكَم البالغة ، وهذا جواب اقتراح قريش على رسول الله الآيات ؛ عناداً ، يعني إنَّا قد أرسلنا كثيراً من الرسل ، وما استقام لأحد منهم أن يأتي بآية {إِلا بإذن الله} ومشيئته ، فمَن لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إِلاَّ أن يشاء الله ، ويأذن في الإتيان بها ؟ {فإذا جاء أمرُ الله} بهلاكهم ، أو : بقيام الساعة ، {قُضي بالحقِ} أي : بإنجاء المُحق وإثابته ، وإهلاك المبطل وتعذيبه ، {وخَسِرَ هنالك المبطلون} أي : المعاندون المقترحون للآيات ، أو : المتمسكون بالباطل ، فيدخل المقترحون المعاندون دخولاً أولياً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
(6/490)
الإشارة : فاصبر أيها المتوجه إلى الله على الأذى وحمل الجفاء ، فإما أن ترى ما وُعد أهلُ الإنكار على الأولياء ، من التدمير ، وقطع الدابر ، في حياتك ، أو يلحقهم بعد موتك. ولقد أُوذي من قبلك ، منهم مَن عرفت ومنهم مَن لم تعرف ، وما صحّ لأحد منهم أن يُظهر كرامةً إلا بإذن الله ، فإذا جاء أمر الله وقامت القيامة ، قُضي بالحق ، فيرتفع أهل الصبر من المقربين ، في أعلى عليين ، وينخفض أهل الإذاية في أسفل سافلين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
325
يقول الحق جلّ جلاله : {الله الذي جعل} ؛ خلق {لكم الأنعامَ} ؛ الإبل {لتركبوا منها ومنها تأكلون} أي : لتركبوا بعضها ، وتأكلوا بعضها ، وليس المراد : أن الركوب والأكل مختص ببعض معين منها ، بحيث لا يجوز تعلُّقه بالآخر ، بل على أن بعضاً منها صالح لكل منهما. {ولكم فيها منافعُ} أُخر غير الركوب ، كألبانها وأوبارها وجلودها ، {ولِتبلُغوا عليها حاجةً} أي : ما تحتاجون إليه من حمل أثقالكم من بلد إلى بلد ، {في صُدورِكمْ} ؛ في قلوبكم ، {وعليها وعلى الفلك تُحملون} أي : وعليها في البر ، وعلى الفلك في البحر تُحملون ، ولعل المراد به : حمل النساء والولدان عليها بالهودج ، وهو السر في فصله عن الركوب. والجمع بينها وبين الفلك في الحمل ؛ لِمَا بينهما من المناسبة ، حتى سُميت الإبل : سفائن البر.
وقيل : المراد بالأنعام : الأزواج الثمانية ، على أن المعنى : لتركبوا بعضها ، وهي الإبل ، وتأكلوا بعضها ، وهي الغنم والبقر ، فذكر ما هُوَ الأهم من كلٍّ ، والمنافع تعم الكل ، وبلوغ الحاجة تعم الإبل والبقر. وقال الثعلبي : التقدير : لتركبوا منها بعضاً ، ومنها تأكلون ، فحذف " بعضاً " للعلم به.
(6/491)
{ويُريكم آياته} ؛ دلائله الدالة على قدرته ووفور رحمته ، {فأيَّ آياتِ الله} أي : فأيّ آية من تلك الآيات الباهرة {تُنكرون} ؟ فإن كُلاًّ منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكارها ، و " آيات " نصب بتنكرون ، وتذكير " أيّ " مع تأنيث المضاف إليه ، هو الشائع المستفيض ، والتأنيث قليل ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات ، نحو : حمار وحمارة غريب ، وهي في " أيّ " أغرب ؛ لإبهامه.
الإشارة : ما أعظم قدرك أيها الإنسان إن اتقيت الله ، وعرفت نعمه ، فقد سلّطك على ما في الكون بأسره ، الحيوانات تخدمك ، وتنتفع بها ، أكْلاً ، وركوباً ، وملبساً ، وحملاً ، والبحر يحملك ، والأرض تُقلك ، والسماء تُظلك ، وما قنع لك بالدنيا حتى ادخر لك الآخرة ، التي هي دار الدوام ، فإن شكرت هذه النعم فأنت أعز ما في الوجود ، وإن كفرتها فأنت أهون ما في الوجود. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 325
326
يقول الحق جلّ جلاله : {أَفَلَمْ يسيروا} أي : أَقعدوا فلم يسيروا {في الأرض} {فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم} من الأمم المهْلَكة ، {كانوا أكثرَ منهم} عدداً {وأشدَّ قوةً} في الأبدان والأموال ، {و} أشد {آثاراً في الأرض} أي : تركوا آثاراً كثيرة بعدهم ، من الأبنية ، والقبور ، والمصانع ، فكانوا أشدّ منهم ، وقيل : هي آثار أقدامهم في الأرض ؛ لِعظم أجرامهم ، {فما أَغْنى عنهم ما كانوا يَكْسِبون} أي : لم يغن عنهم ذلك شيئاً حين نزل بهم العذاب ، أو : أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم ؟ على أنَّ " ما " استفهام.
(6/492)
{فلما جاءتهم رُسلهم بالبيناتِ} ؛ بالمعجزات الواضحة ، {فرحوا بما عندهم من العلم} يريد علمهم بأمور الدنيا ، ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال : {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم : 7] ، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانة ، والتأهُّب ليوم القيامة ، وهي أبعد شيء من علمهم ؛ لبعثِها على رفض الدنيا ، والتباعد عن تتبع ملاذها ، لم يلتفتوا إليها ، وصغّروها ، واستهزؤوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفؤاد من علمهم ، ففرحوا به. أو : علم التنجيم والفلسفة ، والدهريّين ؛ فإنهم كانوا إذا سمعوا بالوحي دفعوه ، وصغّروا علم الأنبياء إلى علمهم ، واعتقدوا عندهم علماً يستغنون به عن علم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ولما سمع بقراط بموسى عليه السلام قيل له : لو هاجرت إليه! فقال : نحن قوم مهذَّبون ، فلا حاجة إلى مَن يُهذّبنا.
ورأى بعضُ الصالحين النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن ابن سيرين ، فقال له : " إِنه أراد أن يصل إلى الله بلا واسطة ، فانقطع عن الله " وعلى فرض وقوفهم بالتجريد والرياضة على انكشاف حضرة القدس ، فلا يظفرون بالعبودية ، ولا بالفناء في توحيد الربوبية ، والتخلُّص من لَوَث وجودهم ، والشأن أن تكون عين الاسم ، لا أن تعرف الاسم والعين ، إنما تقتبس من مشكاة مهبط الوحي ، وانصباب أنوار الغيب إنما تفيض بواسطة دُرة الوجود ، نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومظهر سر العيان الأحدي الأحمدي ، فافهم. قاله شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 326
قال تعالى : {وحاقَ بهم ما كانوا به يستهزئون} أي : نزل بهم عقوبة استخفافهم بالحق ، وتعظيمهم واغتباطهم بالباطل. {فلما رأوا بأسَنا} ؛ شدة عذابنا ، ومنه : {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف : 165] ، {قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين} يعنون الأصنام.
(6/493)
{فلم يَكُ ينفعهم إِيمانُهم لَمّا رأَوْا بأسَنَا} أي : فلم يستقم ، ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند مجيء العذاب ؛ لأن النافع هو الإيمان الاختياري ، لا الاضطراري ، {سُنَّتَ
327
اللهِ التي قد خلتْ في عباده} أي : سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّة ماضية في عباده ، ألاَّ يُقبل الإيمان إلا قبل نزول العذاب. وهو من المصادر المؤكدة ، نحو : وعد الله ، ونحوه. {وخَسِرَ هُنالك الكافرون} أي : وقت رؤيتهم البأس. فهنالك : مكان استعير للزمان ، والكافرون خاسرون في كل أوان ، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب.
وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات : أن {فما أغنى عنهم} نيتجة قوله : {كانوا أكثر منهم} و {فلما جاءتهم رسلهم} كالبيان والتفسير لقوله : {فما أغنى عنهم} ، كقولك : رُزِق زيد المال ، فمَنَع المعروف ، فلم يحسن إلى الفقراء ، و {فلما رأوا بأسنا} تابع لقوله : {فلما جاءتهم} ، كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا. وكذلك {فلم يك ينفعهم إيمانهم} تابع لإيمانهم لمّا رأوا بأس الله ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد تقدّم مراراً الحث على عبادة التفكُّر. وقوله تعالى : {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم...} الآية ، كذلك مَن يَظهر بعلم التجريد ، ويتكلم في أسرار التوحيد ، سَخِرَ منه أهل زمانه ، ويقنعون بما عندهم من علم الرسوم الظاهرة ، وهو علم لا يُغني ولا يُفني ؛ لأن جله يتعلق بمنافع الناس ، لا بمنافع القلب ، فلا يُغني القلب ، ولا يُفني الحِس ، إنما ينفع لطالب الأجور ، لا لطالب الحضور ورفع الستور ، وما مثال مَن ظفر بعلم القلوب ـ وهو أسرار التوحيد الخاص ـ إلا كمَن عنده كنز من الفلوس ، ثم ظفر بالذهب الإبريز ، او الإكسير ، فكيف يمكن أن يلتفت إلى الفلوس مَن ظفر بالإكسير ؟ ! ولا يظهر هذا لأهل الظاهر إلا بعد موتهم ، فيؤمنوا به حيث لا ينفعهم.
وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
328
جزء : 6 رقم الصفحة : 326(6/494)
سورة فصلت
جزء : 6 رقم الصفحة : 328
قلت : {تنزيل} : خبر عن مضمر ، أي : هذا تنزيل. و {كتاب}. بدل من {تنزيل} ، أو : خبر بعد خبر ، و {تنزيل} : مبتدأ. و {من الرحمن} : صفة ، و {كتاب}. خبره ، و {قرآناً} : منصوب على الاختصاص والمدح ، أو : حال ، أي : فُصِّلت آياته في حال كونه قرآناً. و {لقوم} : متعلق بفُصِّلت ، أو : صفة ، مثل ما قبله وما بعده ، أي : قرآناً عربياً كائناً لقوم يعلمون. و {بشيراً ونذيراً} : صفتان لـ " قرآناً ".
يقول الحق جلّ جلاله : {حم} ؛ يا محمد هذا {تنزيلٌ} ، قاله القشيري : أي : بحقي وحياتي ومجدي في ذاتي وصفاتي ، هذا تنزيلٌ {من الرحمن الرحيم}. ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأنه نزل للمصالح الدينية والدنيوية ، واقع بمقتضى الرحمة الربانية ، حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] ، {كتاب فُصّلت آياتُه} ؛ مُيزت وجُعلت تفاصيل في أساليب مختلفة ، ومعانٍ متغايرة ؛ من أحكام ، وتوحيد ، وقصص ، ومواعظ ، ووعد ، ووعيد وغير ذلك ،
329
{قرآناً عربياً} أي : أعني قرآناً بلسان العرب كائناً {لقوم يعلمون} معانيه ، ويتدبّرون في آياته ؛ لكونه على لسانهم ، أو : لأهل العلم والنظر ؛ لأنهم المنتفعون به.
{بشيراً ونذيراً} ؛ بشيراً لأهل الطاعة ، ونذيراً لأهل المعصية ، {فأعْرَض أكثرُهم} عن الإيمان به والتدبُّر في معانيه مع كونه على لغتهم ، {فهم لا يسمعون} سماع تفكُّر وتأمُّل ، حتى يفهموا جلالة قدره ؛ فيؤمنوا به.(6/495)
{وقالوا} للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن : {قلوبنا في أَكِنَّةٍ} أي : أغطية متكاثفة ، {وفي آذاننا وَقْر} ؛ صمم وثِقَل يمنعنا من استماع قولك ، {ومن بيننا وبينك حجاب} غليظ ، وستر مانع يمنعنا من التواصل إليك. و (من) للدلالة على أن الحجاب مبتدى منهم ومنه بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ، ولم يبق ثمَّ فراغ أصلاً. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ، ومج أسماعهم له ، كأنَّ بها صمماً وثِقلاً منعهم من موافقتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا : {فاعمل} على دينك وإبطال ديننا ، {إِننا عاملون} على ديننا ، لا نفارقه أبداً.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 329
قُلْ إِنما أنا بشر مثلُكم يُوحَى إِليَّ أَنَّما إِلهكُم إِله واحد} ، هذا تلقين للجواب عنه ، أي : لستُ من جنسٍ مباينٍ لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب ، وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان ، كما ينبىء عنه قوله : {فاعلم إننا عاملون} ، بل إنما أنا بشر مثلكم ، مأمور بما أُمرتم به من التوحيد ، حيث أخبرنا جميعاً بأن إلهنا واحد ، فالخطاب في " إلهكم " محكي منتظم للكل ، لا أنه خطاب منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ للكفرة. وقيل : لمّا دعاهم إلى الإيمان ، قالوا : إنا نراك مثلنا ، تأكل وتشرب ، فلو كنتَ رسولاً لاستغنيت عن ذلك ، فأنزل : {قل إنما أنا بشر...} الآية.
{فاستقيموا إِليه} بالتوحيد وإخلاص العبادة ، غير ذاهبين يميناً وشمالاً ، ولا ملتفتين إلى ما يُسوّل لكم الشيطانُ من عبادة الأصنام... قال تعالى : {واستغفروه} مما كنتم عليه من سوء العقيدة. والفاء لترتيب ما قبلها من إيحاء التوحيد على ما بعدها من الاستقامة ، {وويل للمشركين} ، وهو ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم في التوحيد.
(6/496)
ووصفهم بقوله : {الذين لا يؤتون الزكاة} أي : لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يُعطونها ، وهو إخبار بما سيقع ، إذ لم تكن الزكاة حينئذ مفروضة ، أو : لا يفعلون ما يكونون به أزكياء ، وهو الإيمان. وفيه تحذير من منع الزكاة ، حيث جعله من أوصاف المشركين. {وهم بالآخرة هم كافرون} أي : وهم بالبعث والثواب والعقاب كافرون. والجملة : عطف على (يؤتون) داخل في الصلة. وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله ، وهو شقيق روحه ، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته ، وصدق نيته ، وخلوص طويته ، وما ارتدت العرب إلا بمنعها.
330
{إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ} ؛ غير مقطوع ، من : مننت الحبل : قطعته ، أو : غير ممنون به عليهم. وقيل : نزلت في المرضى والهَرْمَى ، إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
الإشارة : كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يدعو إلى الإيمان بالقرآن والعمل به ، وخلفاؤه من مشايخ التربية يدعون إلى تصفية البواطن ، لتتهيأ لفهمه والغوص عن أسراره ، وحضور القلب عند تلاوته ، فأعرض أكثرُ الناس عن صُحبتهم ، {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه...} إلى تمام الآية. فبقيت قلوبهم مغلفة بسبب الهوى ، ألسنتهم تتلو وقلوبهم تجول في أودية الدينا ، فلا حضور ولا تدبُّر ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، فإذا طلَبوا من المشايخ ـ الذين هم أطبّة القلوب ـ الكرامة ، يقولون ما قالت الرسل : إنما نحن بشر يُوحى إلينا وحي إلهام بوحدانية الحق ، وانفراده بالوجود ، فاستقيموا إليه بتصفية بواطنكم ، واستغفروه من سالف زلاتكم ، فإن بقيتم على ما أنتم عليه من الشرك ورؤية السِّوى ، فويل للمشركين الذين لا يُزكُّون أنفسهم ، وهم بالآخرة ـ حيث لم يتأهّبوا لها كلَّ التأهُّب ـ هم الكافرون. إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، بصحبة الخصوص ، لهم أجر غير ممنون ، وهو شهود الحق على الدوام. والله تعالى أعلم.
(6/497)
جزء : 6 رقم الصفحة : 329
قلت : {وتجعلون} : عطف على {تكفرون}. و {جَعَلَ} : عطف على {خَلَقَ} داخل في حيز الصلة ، و {سواء} : مَن نَصَبَه فمصدر أي : استوت سواء. ومَن جَرَّه فصفة لأيام ، ومَن رفعه فخبر هي سواء. و {للسائلين} : متعلق بقدّر ، أو : بمحذوف ، أي : هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض.
يقول الحق جلّ جلاله : {قل أَئِنَّكم لتكفرون بالذي خلقَ الأرضَ في يومين} وهما الأحد والاثنين ، تعليماً للتأني ، ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل. {وتجعلون له أنداداً} ؛ شركاء وأشباهاً. والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد ، فضلاً عن التعدُّد ، وكيف يكون الحادث المعدوم ندّاً للقديم ؟ ! {ذلك} الذي خلق ما سبق. وما في الإشارة من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه لبُعد منزلته في العظمة ، أي : ذلك العظيم الشأن هو {ربُّ العالمين} أي : خالق جميع الموجودات ومُربِّيها ، فكيف يتصور أن يكون أخس الخلق نِدّاً له ؟ !
331
(6/498)
{وجعل فيها رواسي} ؛ جبالاً ثوابت كائنة {من فوقها} ، وإنما اختار إرساءها من فوق الأرض لتكون منافع الجبال مُعرَضة لأهلها ، ويظهر للناظرين ما فيها من مراصد الاعبتار ، ومطارح الأفكار ، فإن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، كلها ممسَكة بقدرة الله عزّ وجل. {وباركَ فيها} أي : قدّر بأن يكثر خيرها بما يخلق فيها من منافع ، ويجعل فيها من المصالح ، وما ينبت فيها من الطيبات والأطعمة وأصناف النعم. {وقدّر فيها أقواتَها} أي : حكم أن يوجد فيها لأهلها ما يحتاجون إليه من الأقوات المختلفة المناسبة لهم على مقدار مُعين ، تقتضيه الحكمة والمشيئة ، وما يصلح بمعايشهم من الثمار والأنهار والأشجار ، وجعل الأقوات مختلفة في الطعم والصورة والمقدار ، وقيل : خصابها التي قسمها في البلاد. جعل ذلك {في أربعةِ أيام} أي : تتمة أربعة أيام ، يومين للخلق ، ويومين لتقدير الأقوات ، كما تقول : سِرت إلى البصرة في عشرة ، وإلى الكوفة في خمسة عشر ، أي : في تتمة خمسة عشر ، ولو أجري الكلام على ظاهرة لكانت ثمانية أيام ؛ يومين للخلق ؛ وأربعة للتقدير ، ويومين لخلق السماء ، وهو مناقض لقوله : {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف : 54].
جزء : 6 رقم الصفحة : 331
وقوله : {سواء} راجع للأربعة ، أي : في أربعة أيام مستويات تامات ، أو : استوت سواء {للسائلين} أي : قدَّر فيها الأقوات للطالبين لها والمحتاجين إليها ، لأن كلاًّ يطلب القوت ويسأله ، أو هذا الحصر في هذه الأيام لأجل مَن سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها ؟
(6/499)
{ثم استوى إِلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طَوعاً أو كَرهاً قالتا أتينا طائعين} ، الاستواء مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد ، تقول العرب : فعل فلان كذا ثم استوى إلى عمل كذا ، يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني ، أو قصد وانتهى. فالاستواء إذا عدي بـ " إلى " فهو بمعنى الانتهاء إليه بالذات أو بالتدبير ، وإذا عدّي بـ " على " فبمعنى الاستعلاء ، ويفهم منه أن خلق السماء بعد الأرض ، وهو كذلك ، وأما دحو الأرض وتقدير أقواتها فمؤخر عن السماء ، كما صرح في قوله : {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ} [النازعات : 30] ، والترتيب في الخارج : أنه خلق الأرض ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض في يومين ، فـ " ثم " للتفاوت بين الخلقين لا للترتيب ، أو : للتفاوت في المرتبة ، ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ، كقول القائل :
إِنْ مَنْ ساد ثم ساد أبوه
ثم [قد] ساد بعد ذلك جَدُّه
332
وفي بعض الأحاديث : " إن الله خلق الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعُمران والخراب ، فتلك أربعة أيام ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة ، وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة " وهي الساعة التي تقوم فيها الساعة. قاله النسفي ، وفي حديث مسلم ما يخالفه.
قال ابن عباس رضي الله عنه : أول ما خلق الله ـ أي : بعد العرش ـ جوهرة طُولها وعرضها ألف سنة ، فنظر إليها بالهيبة ، فذابت وصارت ماء ، فكان العرش على الماء ، فاضطرب الماء ، فثار منه دخان ، فارتفع إلى الجو ، واجتمع زيد ، فقام فوق الماء ، فجعل الزبد أرضاً ، ثم فتقها سبعاً ، والدخان سماء ، فسوّاهن سبع سموات.
(6/500)
ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان طوعاً أو كرهاً وامتثالهما ؛ أنه أراد أن يُكوّنهما ، فلم يمتنعا عليه ، ووجدتَا كما أراد ، وكانتا في ذلك كالمأمور والمطيع ، وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان ، مع أن الأرض مخلوقة قبل السماء بيومين ؛ لأن المعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، أي : ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك ، وائتي يا سماء مبنية سقفاً لهم ، ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 331
وقوله : {طوعاً أو كَرهاً} لبيان تأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما عن قدرته مُحال ؛ كما تقول لمَن تحت يدك : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، طوعاً أو كرهاً. وقال ابن عطية : الأمر بالإتيان بعد اختراعهما ، قال : وهنا حذف ، أي : ثم استوى إلى السماء فأوجدها ، وأتقنها ، وأكمل أمرها ، وحينئذ قال لها وللأرض : ائتيا لأمري وإرادتي فيكما ، والمراد : تنجيزهما لما أراده منهما ، وما قدر من أعمالهما. هـ. حُكي أن بعض الأنبياء قال : يا رب لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما : ائتيا طوعاً أو كرهاً عصتاك ، ما كنت صانعاً بهما ؟ قال : كنتُ آمر دابة من دوابي فتبتلعهما ، قال : وأين تلك الدابة ؟ قال : في مرج من مروجي ، قال : وأين ذلك المرج ؟ قال : في علم من علومي.
وانتصاب {طوعاً أو كرهاً} على الحال ، أي : طائعين أو مكرهين. ولم يقل " طائعتين " ؛ لأن المراد الجنس ، أي : السموات والأرضين ، وجمع جمع العقلاء لوصفهما بالطوع والكره ، اللذين من وصف العقلاء ، وقال : طائعين في موضع طائعات ؛ تغليباً للتذكير ؛ لشرفه ، كقوله : {سَاجِدِينَ} [يوسف : 4].
333
(6/501)
{فقضاهنّ سبعَ سماواتٍ} أي : فأحكم خلقهن ، وأتقن أمرهن سبعاً ، حسبما تقتضيه الحكمة ، فالضمير راجع إلى السماء ، لأنه جنس ، يجوز أن يكون الضمير مبهماً مفسراً بقوله : {سبع سماوات} ، فينتصب سبع على الأول حالاً ، وعلى الثاني تمييزاً. حصل ذلك القضاء {في يومين} ؛ الخميس والجمعة ، أي : في وقتين قدر يومين ، فكان المجموع ستة أيام ، {وأَوحى في كلِّ سماءٍ أمرها} أي : أوحى إلى ساكنها وعُمّارها من الملائكة في كل سماء ما شاء الله من الأمور ، التي تليق بهم ، كالخدمة وأنواع العبادة ، وإلى السماء في نفسها ما شاء الله من الأمور التي بها قوامها وصلاحها.
{وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح} ؛ كالشمس والقمر والنجوم ، وهي زينة السماء الدنيا ، سواء كانت فيها أو فيما فوقها ؛ لأنها تُرى متلألأة عليها كأنها فيها ، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بأمرها ، {وحفظاً} أي : حفظناها حفظاً من المسترقة ، أو من الآفات ، فهو مصدر لمحذوف ، وقيل : مفعول لأجله على المعنى ، أي : وجعلنا المصابيح للزينة والحفظ. {ذلك تقديرُ العزيز العليم} أي : ذلك الذي ذكر تفصيله تقدير البالغ في القدرة والعلم ، أو : الغالب العليم بمواقع الأمور.
(6/502)
الإشارة : خلق الحق ـ تعالى ـ أرض النفوس محلاًّ للعبودية ، وأرساها بجبال العقل ، لئلا تميل إلى بحر الهوى ، وبارك فيها ، بأن جعل فيها صالحين وأبراراً ، وعباداً وزهاداً ، وعُلماء أتقياء ، وقدّر لها أقواتها الحسية والمعنوية ، فجعل الحسية سواء للسائلين ، أي : مستوية لا يزيد بالطلب ولا بالتعب ، ولا ينقص ، ففيه تأديب لمَن لم يرضَ بقسمته ، والأرزاق المعنوية : أرزاق القلوب من اليقين والمعرفة ، يزيد بالطلب والتعب ، وينقص بنقصانه ، حكمة من الحكيم العليم ، ثم استوى إلى سماء الأرواح ، أي : قصدها بالدعاء إليه ، وهي لطائف ، فقال لها ولأرض النفوس : ائتيا إلى حضرتي ، طوعاً أو كرهاً ، قالتا : أتينا طائعين ، فقضاهن سبع طبقات ، وهي دوائر الأولياء ، دائرة الغوث ، ثم دائرة الأقطاب ، ثم الأوتاد ، ثم النقباء ، ثم النجباء ، ثم الأبرار ، ثم الصالحين. وأوحى في كل سماء ، أي : في كل دائرة ما يليق بها من العبادة ، فمنهم مَن عبادته الشهود والعيان ، ومنهم مَن عبادته الفكرة ، ومنهم الركوع والسجود ، ومنهم التلاوة والذكر... إلى غير ذلك من أنواع الأعمال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 331
قال القشيري : وجعل نفوسَ العابدين ، أرضاً لطاعته وعبادته ، وجعل قلوبهم فَلَكاً لنجوم علمه ، وشموس معرفته ، فأوتاد النفوس الخوفُ والرجاءُ ، والرغبةُ والرهبة ، وفي القلوب ضياءُ العرفان ، وشموس التوحيد ، ونجوم العلوم والعقول ، والنفوس والقلوب ، بيده يُصَرِّفُها على ما أراد من أحكامه. وقال في قوله : {وجعل فيها رواسي من فوقها} : الجبالُ أوتادُ الأرض ، في الصورة ، والأولياءُ رواسي الأرض في الحقيقة ، بهم تنزل البركة والأمطار ، وبهم يُدفع البلاء. ثم قال : قوله تعالى : {وزيَّنا السماء الدنيا بمصابيح} وزيَّن
334
(6/503)
وجه الأرض بمصابيح ، وهي قلوب الأحباب ، فأهلُ السماء إذا نظروا إلى قلوب أولياء الله بالليل ، فذلك متنزهُهُم ، كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء تأنّسوا برؤية الكواكب. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 331
قلت : {وأما ثمود} ، قراءة الجماعة بالرفع ، غير مصروف ، إرادة القبيلة ، وقراءة الأعمش ويحيى بن وثاب مصروفاً ، إرادة الحي ، وقراءة ابن أبي إسحاق : بالنصب ، من باب الاشتغال ، وأصل الكلام : مهما يكن من شيء فثمود هديناهم ، فحُذف الملزوم الذي هو الشرط ، وأُقيم مقامه لازمه ، وهو الجزاء ، وأبقيت الفاء المؤذنه بأن ما بعدها لازم لما قبلها ، وإلا فليس هذا موضع الفاء ؛ لأن موضعه صدر الجزاء. انظر المُطوّل.
يقول الحق جلّ جلاله : {فإِن أعرضُوا} عن الإيمان بعد هذا البيان ؛ {فقلْ} لهم : {أنذرتُكمْ} ؛ خوَّفتكم. وعبّر بالماضي للدلالة على تحقُّق الإنذار المنبىء عن تحقُّق الوقوع ، {صاعقةً} أي : عذاباً شديداً لو وقع كان كأنه صاعقة ، وأصلها : رعد معه نار تحرق. تكون {مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمودَ} وقد تقدّم عذابهما.
{إِذ جاءتْهُمُ} : ظرف لمحذوف ، أي : أنزلناها بهم حين جاءتهم {الرسلُ من بين أيديهم ومن خلفِهِم} أي : أتوهم من كل جانب ، وعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا الإعراض ، أو : جاءتهم الرسل قبلهم لآبائهم ، وبعدَهم لِمَن خلفهم ، أي : تواردت عليهم الرسل قديماً وحديثاً ، والمعهود إنما هو هود وصالح ـ عليهما السلام ـ وعن الحسن : أنذروهم من وقائع الله بمَنْ قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة ، {ألاَّ تعبدوا إِلا اللهَ} أي : بأن لا تعبدوا إلا الله ، على أنها مصدرية ، أو : لا تعبدوا ، على أنها مفسرة ، وقيل : مخففة ، أي : أنه لا تعبدوا إلا الله. {قالوا لو شاء ربُّنا لأنزل ملائكةً} أي : لو شاء إرسال الرسل لأرسل ملائكة ، ولَمَّا كان إرسالهم بطريق الإنزال عبَّر به ، {فإِنا بما أُرسلتُم
335
(6/504)
به كافرون} أي : فحيث كنتم بشراً مثلنا ، ولم تكونوا ملائكة ، ولم يكن لكم فضل علينا ، فإنا لا نؤمن بكم ، ولا بما جئتم به ، وقولهم : {أُرسلتم به} ليس بإقرار بالإرسال ، وإنما هو على كلام الرسل ، وفيه تهكُّم ، كما قاله فرعون : {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء : 27] وقولهم : {بما أرسلتم به كافرون} خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء ، الذين دعوا للإيمان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 335
رُوي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة ، فكَلَّمه ، ثم أتانا بالبيان من أمره ، فقال عُتبة بن ربيعة : والله لقد سمعتُ الشعر والكهانة والسحر ، وعلمتُ من ذلك علماً ما يخفى عليَّ ، فأتاه ، فقال : أنت يا محمد خير أم هاشم ؟ أنت يا محمد خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فبمَ تشتم آلهتنا وتضللنا ؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء ، فكنت رئيسنا ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوةٍ من أيّ بنات قريش شئتَ ، وإن كان بك المال ، جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك. والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت ، فلما فرغ عتبةُ ، قال صلى الله عليه وسلم : " {بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم...} إلى قوله تعالى : {مثل صاعقة عاد وثمود} " ، فأمسك عتبة على فِيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم ، فرجع عبتةُ إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم ، قالوا : ما نرى عتبة إلا صبأ ، فانطلقوا ، وقالوا : يا عتبة ؛ ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد ، أم أنك أعجبك طعامه ؟ فغضب ، ثم قال لهم : لقد كلمته فأجابني بشيء ، والله ما هو شعر ، ولا كهانة ، ولا سحر ، ثم تلى عليهم ما سمع منه إلى قوله : {مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسكتُ بفيه ، وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخفتُ أن ينزل بكم العذاب. هـ.
(6/505)
ثم بيَّن ما ذكره من صاعقة عاد وثمود ، فقال : {فأما عاد فاستبكروا في الأرض بغير الحق} أي : تعاظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم ، وهو القوة ، وعظم الأجرام ، واستولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية ، {وقالوا مَن أشدُّ منا قوةً} ، كانوا ذوي أجسام طوال ، وخلْق عظيم ، بلغ من قوتهم أن الرجل كان يقلع الصخرة من الجبل بيده ، ويلوي الحديد بيده ، {أوَلَمْ يَرَوا} أي : أَوَلَم يعلموا علم عيان {أن الله الذي خلقهم هو أشَدُّ منهم قوةً} ؟ أوسعُ منهم قدرة ؛ لأنه قادر على كل شيء ، وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره ، {وكانوا بآياتنا} المنزلة على رسلهم {يجحدون} أي : ينكرونها وهم يعرفون حقِيتها ، كما يجحد المودَعُ الوديعة. و (هم) : عطف على (فاستكبروا) ، وما بينها اعتراض ، للرد على كلمتهم الشنعاء.
{فأرسلنا عليهم ريحاً صَرْصَراً} أي : بارداً تهلك وتُحرق ؛ لشدة بردها ، من : الصر ، وهو البرد ، الذي يجمع ويقبض ، أو : عاصفة تصوّت في هبوبها ، من الصرير ،
336
فضوعف ، كما يقال : نهنهت وكفكفت. {في أيام نَّحِساتٍ} ؛ مشؤومات عليهم ، من : نَحِس نحساً ، نقيض : سعد سعداً ، وكانت من الأربعاء آخر شوال إلى الأربعاء ، وما عُذِّب قوم إلا في الأربعاء. قيل : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ، ودامت الرياح عليهم من غير مطر. قيل : إذا أراد الله بقوم خيراً ، أرسل عليهم المطر ، وحبس عنهم كثرة الرياح ، وإذا أراد الله بقوم شرّاً ، حبس عنهم المطر ، وأرسل عليهم كثرة الرياح. هـ.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 335
لنُذيقَهُمْ عذابَ الخزي في الحياة الدنيا} ، أضاف العذاب إلى الخزي ، وهو الذل ، على أنه وصف للعذاب ، كأنه قال : عذاب خزي ، ويدل عليه قوله : {ولعذابُ الآخرة أخزى} أي : أذل لصاحبه ، وهو في الحقيقة وصف للمعذَّب ، وُصف به العذاب للمبالغة ، كقولك : له شعر شاعر. {وهم لا يُنصَرُون} برفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه.
(6/506)
{وأما ثمودُ فهديناهمْ} ؛ دللناهم على الرشد ، بنصب الآيات التكوينية ، وإرسال الرسل ، وإنزال الآيات التشريعية ، {فاستحبُّوا العَمَى على الهُدى} أي : اختاروا الضلالة على الهداية ، {فأخذتهم صاعقةُ العذابِ الهُون} أي : داهية العذاب الذي يهين صاحبه ويخزيه ، وهي الصيحة والرجفة ، والهُون : الهوان ، وصف به للمبالغة ، {بما كانوا يكسبون} أي : بكسبهم الخبيث من الشرك والمعاصي. قال الشيخ أبو منصور : يحتمل قوله : {فهديناهم} : بيَّنا لهم ، كما تقدّم ، ويحتمل : خلق الهداية في قلوبهم ، فصاروا مهتدين ، ثم كفروا بعد ذلك ، وعقروا الناقة ، لأن الهدي المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان ، ويكون بخلق فعل الاهتداء ، وأما الهدي المضاف إلى الخلق فيكون بمعنى البيان ، لا غير. هـ.
وقال الطيبي : قوله تعالى : {فهديناهم} هو كقوله تعالى : {إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ} [فصلت : 14]. وقوله : {فاستحبوا العمى على الهدى} هو كقوله : {قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا...} [فصلت : 14] الآية. وكذا في قوله : {فأما عاد فاستكبروا في الأرض} ، فإن الفاء في " فاستكبروا " فصيحة ، تُفصح عن محذوف ، أي : فهديناهم فاستكبروا بدلالة ما قيل في ثمود. هـ.
{ونجينا الذين آمنوا} أي : اختاروا الهدى على العمى ، من تلك الصاعقة ، {وكانوا يتقون} الضلالة والتقليد.
الإشارة : كل مَن أعرض عن الوعظ والتذكار ، ونأى عن صُحبة الأبرار ؛ فالصعقة لاحقة به ، إما في الدنيا أو في الآخرة. وقوله تعالى : {فأما عاد فاستكبروا...} الآية : أوصاف العبودية أربعة : الضعف ، والذل ، والفقر ، والعجز ، فمَن خرج عن واحد منها ، فقد تعدّى طوره ، واستحقّ الهلاك والهوان ، ورمته رياح الأقدار في مهاوي النيران.
وقوله : {وأما ثمود فهديناهم} أي : بيَّنا لهم طريق السير إلينا ، على ألسنة الوسائط ،
337
(6/507)
فحادُوا عنها ، واستحبُّوا العمى على الهدى ؛ حيث لم يسبق لهم الهداية في الأزل ، فالسوابق تُؤثر في العواقب ، والعواقب لا تؤثر في السوابق ، فكأن جبلة القوم الضلالة ، فمالوا إلى ما جبلوا عليه من قبول الضلالة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 335
وقوله تعالى : {ونجينا الذين آمنوا} أي : في الدنيا من الصاعقة ، وفي الآخرة من السقوط في الهاوية. قال القشيري : منهم مَن نجَّاهم من غير أن رأوا النار ، عَبَروا القنطرةَ ولم يعلموا ، وقومٌ كالبرق الخاطف ، وهم أعلاهم ـ قلت : بل أعلاهم كالطرف ـ ثم قال : وقوم كالرواكض ، وهم أيضاً الأكابر ، وقوم على الصراط يسقطون وتردُّهم الملائكة على الصراط ، فبَعُدوا. ثم قال : وقومٌ بعدما دخلوا النار ، فمنهم مَن تأخذه إلى كعبيه ، ثم إلى ركبتيه ، ثم إلى حَقْوَيْه ، فإذا بلغ القلب قال الحقُّ للنار : لا تحرقي قلبه ، فإنه محترقُ بي. وقوم يخرجون من النار بعدما أمْتُحِشُوا فصاروا حُمَماً. هـ منه
جزء : 6 رقم الصفحة : 335
يقول الحق جلَ جلاله : {و} اذكر {يوم نَحْشُرُ أعداء الله} من كفار المتقدمين والمتأخرين {إِلى النارِ فهم يُوزَعون} ؛ يُضمون ويُساقون إلى النار ، ويُحبس أولهم على أخرهم ، فيستوقف سوابقهم حتى تلحق بهم تواليهم ، وهي عبارةٌ عن كثرة أهل النار ، وأصله : من وزَعته ، أي : كففته. {حتى إِذا ما جاؤوها} أي : حضروها ، و " حتى " : غاية للحشر ، أو : ليوزعون ، و " ما " : مزيدة ؛ لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور ، فبمجرد حضورهم {شَهِدَ عليهم سمعُهُم وأبصارُهم وجلودُهم} أي : بَشَراتهم {بما كانوا يعملون} في الدنيا ، من فنون الكفر والمعاصي ، بأن ينطقها الله تعالى ، ويظهرعليها آثار ما اقترفوا بها. وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن المراد بشهادة الجلود : شهادة الفروج ، كقول الشاعر :
338
أوَ سالم مَنْ قد تثـ
ـنَّى جِلْدُه وابْيَضَّ رَأسُه
(6/508)
فكنَّى بجلده عن فرحه ، وهو الأنسب ؛ لتخصيص السؤال بها في قوله تعالى : {وقالوا لجلودهم لمَ شهدتم علينا} ، فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقُبحاً ، وأجلب للحزن والعقوبة ، مما تشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطها. روي : أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب ، أليس قد وعدتني ألا تظلمني ؟ فيقول تعالى : فإن لك ذلك ، قال : فإني لا أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي ، قال تعالى : أوَ ليس كفى بي شهيداً ، وبالملائكة الكرام الكاتبين ؟ قال : فيُختم على فِيهِ ، وتتكلم أركانُه بما كان يعمل ، فيقول لهن : بُعْداً لكُنَّ وسُحْقاً ، عنكُنَّ كنتُ أُجادل ".
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 338
قالوا} في جوابهم : {وأنطقَنا اللهُ الذي أنطق كلَّ شيءٍ} من الحيوانات ، وأقدرنا على بيان الواقع ، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح ، وما كتمناها. أو : ما نطقنا باختيارنا ، بل أنطقنا الله الذي انطق كل شيء. وقيل : سألوها سؤال تعجُّب ، فالمعنى حينئذ : وليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء ، {وهو خلقكم أولَ مرةٍ وإليه تُرجعون} ؛ فإنَّ مَن قدر على خلقكم أول مرة ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ، لا يتعجب من إنطاقه جوارحكم. ولعل صيغة المضارع ، مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجع ، كما أن المراد بالرجوع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالعبث ، بل ما يعمه ، وما يترتب عليه من العذاب الخالد الترقب عند التخاطب ، على تغليب المتوقع على الواقع ، مع ما فيه من مراعاة الفواصل ، فهذا على أنه من تتمة كلام الجلود ، وقيل : هو من كلام الحق ـ تعالى ـ لهم ، فيُوقف على " شيء " وهو ضعيف. وكذا قوله :
(6/509)
{وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعُكم ولا أبصارُكم ولا جلودُكم} ، يحتمل أن يكون من كلام الجلود ، أو : من كلام الله ـ عزّ وجل ـ وهو الظاهر ، أي : وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم ، ولو خفتم من ذلك ما استترتم بها ، {ولكن ظننتم أنَّ الله لا يعلمُ كثيراً مما تعملون} من القبائح الخفية ، فلا يظهرها في الآخرة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كنت مستتراً بأستار الكعبة ، فدخل ثلاثة نفر ؛ وثقفيان وقرشي ، أو : قرشيان وثَقَفي ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : سمع جهرنا ولا يسمع ما أخفينا ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : {وما كنتم تستترون...} الآية ، فالحُكم المحكي حينئذ يكون خاصّاً بمَن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة ، انظر أبا السعود.
339
{وذلكم ظنُّكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} ؛ أهلككم ، فـ " ذلك " : مبتدأ ، و " ظنكم " : خبر ، و " الذي ظننتم بربكم " : صفة ، و " أرداكم " : خبر ثان ، أو : ظنكم : بدل من " ذلك " و " أرداكم " : خبر ، {فأصبحتم} بسبب الظن السوء {من الخاسرين} إذ صار ما منحوا لسعادة الدارين سبباً لشقاء النشأتين.
{فإِن يصبروا فالنارُ مثوىً} ؛ مقام {لهم} أي : فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ، ولم ينفكوا به من الثوى في النار ، {وإِن يستعينوا} أي : يسألُوا العتبى ؛ وهو الاسترضاء {فما هم من المُعتَبين} ؛ المجابين إليها ، أي : وإن يطلبوا الاسترضاء من الله تعالى ليرضى عنهم ، فما هم من المرضين ؛ لما تحتّم عليهم واستوجبوه من السخط ، قال الجوهري : أعتبني فلان : إذا عاد إلى مسرتي ، راجعاً عن الإساءة ، والاسم منه : العتبى ، يقال ؛ استعتبته فأعتبني ، أي : استرضيته فأرضاني. وقال الهروي : إن يستقيلوا ربهم لم يقلهم ، أي : لم يردهم إلى الدنيا ، أو : إن أقالهم وردهم لم يعملوا بطاعته ، كقوله : {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام : 28].
(6/510)
جزء : 6 رقم الصفحة : 338
الإشارة : أعداء الله هم الجاحدون لوحدانيته ولرسالة رسله ، وهم الذين تشهد عليهم جوارحهم ، وأما المؤمن فلا ، نعم إن مات عاصياً شهدت عليه البقع أو الحفظة ، فإن تاب أنسى الله حفظته ومعالمه في الأرض ذنوبه. قال في التذكرة : إن العبد إذا صدق في توبته أنسى اللهُ ذنوبه لحافظيه ، وأوحى إلى بقع الأرض وإلى جميع جوارحه : أن اكتموا مساوىء عبدي ، ولا تظهروها ، فإنه تاب إليَّ توبة صادقة ، بنية مخلصة ، فقبلته وتبتُ عليه ، وأنا التوّاب الرحيم.
وفي الآية حث على حسن الظن بالله ، وفي الحديث : " لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عزّ وجل " وقال أيضاً : " يقول الله عزّ وجل : أنا عندَ ظنِّ عبدي بي... " الحديث فمَن ظنَّ خيراً لقي خيراً ، ومَن ظنّ شرّاً لقي شرّاً. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 338
يقول الحق جلّ جلاله : {وقيّضنا} أي : سيَرنا ، أو : قدّرنا ، {لهم} أي : كفار مكة في الدنيا {قُرَناء} سواء من الجن والإنس ، أو : سلطنا عليهم نظراء لهم من الشياطين يستولون عليهم ، كقوله : {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}
340
(6/511)
[الزخرف : 36] ، {فَزَيَّنوا لهم ما بين أيديهم} من أمور الدنيا ، واتباع الشهوات ، والتقليد لأسلافهم ، حتى حادوا عن الحق ، {وما خَلْفَهم} من أمور الآخرة ، حيث ألقوا إليهم : ألا بعث ولا حساب. أو : ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها ، {وحقّ عليهم القولُ} أي : ثبت وتقرّر عليهم كلمة العذاب ، أو : تحقق موجبها ومصداقها ، وهي قوله تعالى لإبليس : {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص : 85] ، حال كونهم {في} جملة {أمم قد خلت مِن قبلهم} أي : قبل أهل مكة {من الجن والإِنس} كانوا مُصرّين على الكفر والعصيان ، {إِنهم كانوا خاسرين} حيث آثروا الباطل على الحق ، وهو تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لهم وللأمم.
الإشارة : قال القشيري : إذا أراد الله بعبده سوء ، قيّض له إخوان سوء وقرناء شر ، هم الأضداد له فيما راموا ، وإذا أراد الله بعبد خيراً قيّض له قرناء خير ، يُعِينونه على الطاعة ، ويَحْمِلونه عليها ، ويدعونه إليها ، وإذا كانوا إخوانَ سوءٍ يحملونه على المخالفات ، ويدعونه إليها ، ومن ذلك الشيطانُ. ثم قال : وشرُّ قرين للمرء نفسُه ، ثم الشيطان ، ثم شياطين الإنسِ ، فزيّنوا لهم ما بين أيديهم من طول الأمل ، وما خلفهم من نسيان الزَّلَلِ ، والتسويف في التوبة ، والتقصير في الطاعة. هـ.
قلت : والله ما رأينا الفلاح والخسران إلا من الخلطة. قال بعضهم : والله ما أفلح مَن أفلح إلا بصحبة مَن أفلح ، ولا سيما صبحة العارفين ؛ فساعة معهم تعدل عبادة سنين بالصيام والقيام وأنواع المجاهدة ، ولله در الجيلاني رضي الله عنه حيث قال :
فَشمرْ ولذْ بالأَولياءِ فإِنّهم
لَهُمْ مِنْ كِتَاب الله تلْكَ الوَقَائعُ
> هُمُ الذُّخْرُ للْملهوف والكَنزُ للرَّجا
ومنهم يَنَالُ الصَّبُّ مَا هو طامِعُ
جزء : 6 رقم الصفحة : 340
> بهم يُهتدى للْعَيْنِ مَنْ ضَلَّ في العَمَى
(6/512)
بهمْ يُجْذب العُشَّاقُ والرَّبْع شَاسِعُ
> هُمُ النّاسُ فالزَمْ إِنْ عَرفْت جَنَابَهم
ففيهم لِضُرّ العالمين مَنَافِعُ
جزء : 6 رقم الصفحة : 340
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال الذين كفروا} من رؤساء المشركين لأتباعهم ، أو : بعضهم لبعض : {لا تسمعوا لهذا القرآنِ} إذا قُرىء ، أي : لا تنصتوا له ؛ لأنه يقلب
341
القلوب ، ويسبي العقول ، وكل مَن استمع إليه صبا إليه ، {والْغَوْا فيه لعلكم تَغْلِبون} أي : عارضوه بكلام غير مفهوم ، أو : بالخرافات ؛ من الرّجَز والشعر والتصدية ، وارفعوا أصواتكم بها {لعلكم تغلبون} أي : تغلبونه على قراءته ، وشوِّشوا عليه فيقع في الغلط ، أو : لا يسمعه منه أحد. واللغو : الساقط من الكلام الذي لا طائلَ تحته.
{فلنذيقنَّ الذين كفروا} أي فوالله لنذيقن هؤلاء اللاغين والقائلين ، أو : جميع الكفار ، وهم داخلون فيهم دخولاً أولياً. {عذاباً شديداً} لا يُقادر قدره ، {ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون} أي : أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم ، وهو الكفر ، وقيل : إنه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم ، كإغاثة الملهوفين ، وصلة الأرحام ، وقِرى الضيف ؛ لأنها محبطة بالكفر ، وإنما يجازيهم على أسوئها. عن ابن عباس : {عذاباً شديداً} : يوم بدر ، و {أسوأ الذي كانوا يعملون} : ما يُجزون في الآخرة.
(6/513)
{ذلك جزاءُ أعداء الله النارُ} أي : ذلك الأسوأ من الجزاء هو جزاء أعداء الله ، وهو النار. فالنار : خبر عن مضمر ، أو : عطف بيان للجزاء ، والنار : مبتدأ. و {لهم فيها دارُ الخلد} : خبر ، أي : النار في نفسها دار الخلد ، كما تقول : لك في هذه الدار السرور ، وأنت تعني الدار بعينها ، ويسمى في علم البلاغة : التجريد ، وهو أن ينتزع من ذي صفة أمراً آخر مثله ، مبالغةً ، لكمالٍ فيه. تقول : لقيت من زيد أسداً. وقيل : هي على معناها ، والمراد : أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة ، هم فيها خالدون ، {جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون} أي : جُوزوا بذلك جزاء بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا ويلغون فيها.
الإشارة : الآية تنسحب على مَن يرفع صوته بمحضر مجلس الوعظ والذكر ، أو العلم النافع ، أو صفوف الصلاة ، فهذه المجالس يجب صونها من اللغو والصخب ، ويجب الاستماع لها ، والإنصات ، والتوقير ، والتعظيم ، لأنها موروثة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهَمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات : 3] ، ومَن فعل شيئاً من ذلك فالوعيد بقوله تعالى : {فلنذيقن الذين كفروا...} الآية ـ منه بالمرصاد. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 341
يقول الحق جلّ جلاله : {وقال الذين كفروا} وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب : {ربنا أَرِنَا اللذَيْنِ أَضَلاَّنا من الجن والإنس} ، يعنون الفريقين الحاملين على الضلال ، من شياطين الجن والإنس ، بالتسويل والتزيين ، وقيل : هما إبليس وقابيل ، فإنهما سنّا الكفر
342
والقتل ، وقرىء بسكون الراء تخفيفاً ، كفَخِذ وفخْذ ، وبالاختلاس ، أي : أبصرناهما ، {نَجْعَلْهُما تحت أقدامنا} أي : ندسهما تحت أرجلنا ، انتقاماً منهما ، أو : نجعلهما في الدرك الأسفل {ليكونا من الأسفلين} ذلاًّ ومهانةً ، أو : مكاناً ، جزاء إضلالهم إيانا.
(6/514)
الإشارة : كل مَن سقط عن درجة المقربين العارفين ، وتعوّق عن صحبتهم ، بسبب تعويق أحد ، تمنى يوم القيامة أن يكون تحت قدمه ، ليكون أسفل منه ، غيظاً وندماً ، ولا ينفع التمني والندم في ذلك اليوم. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 342
يقول الحق جلّ جلاله : {إِن الذين قالوا ربُّنا الله} أي : نطقوا بالتوحيد واعتقدوا ، {ثم استقاموا} أي : ثبتوا على الإقرار ومقتضياته من حسن الأعمال ، وعن الصدّيق رضي الله عنه : استقاموا فعلاً ، كما استقاموا قولاً. وعنه : أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها ؟ قالوا : لم يذنبوا ، قال : حملتم الأمر على أشده ، قالوا : فما تقول ؟ قال : لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله عنه : لم يَرُوغوا رَوَغان الثعالب ، أي : لم ينافقوا. وعن عثمان رضي الله عنه : أحكموا العمل ، وعن عليّ رضي الله عنه : أدُّوا الفرائض. وعن الفُضيل : زهدوا في الفانية ، ورغبوا في الباقية. قلت : ويجمعها الإقرار بالربوبية ، والقيام بوصائف العبودية.
{تَتَنزَّلُ عليهم الملائكةُ} عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث ، أو : في الدنيا بإلهام الخير وشرح الصدر ، وإعانتهم على الأمور الدينية ، كما أن الكفرة تقويهم ما قُيض لهم في قرناء السوء. والأظهر : العموم. {ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا} فـ " أن " مخففة ، أو : تفسيرية ، أي : لا تخافوا ما تٌقدمون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم ، فالخوف : غم يلحق لتوقع مكروه ، والحزن : غم يلحق لفوات نافع ، أو حضور ضارٍّ. والمعنى : أن الله تعالى كتب لكم الأمنَ من كل غم ، فلن تذوقوه أبداً. {وأبْشِروا بالجنة التي كنتم تُوعدون} في الدنيا على ألسنة الرسل. وقال محمد بن علي الترمذي : تتنزل عليهم ملائكة الرحمة ، عند مفارقة الأرواح الأبدان ، ألا تخافوا سلب الإيمان ، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان ، وأبشروا بدخول الجنان ، التي تُوعدون في سالف الأزمان.
(6/515)
{نحن أولياؤُكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} ، كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم ، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين. {ولكم فيها ما تشتهي
343
أنفسُكم} من فنون الطيبات ، {ولكم فيها ما تَدَّعون} ؛ ما تتمنون ، افتعال من الدعاء ، بمعنى الطلب ، {نُزُلا} : حال من مفعلو " تَدّعون " المحذوف ، أو : من " ما " ، والنُزُل : ما يقدم للنزيل ، وفيه تنبيه على أن ما يتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم النعيم كالنُزُل للضيف. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 343
الإشارة : إن الذين أقرُّوا بقهرية الربوبية ، وقاموا بوظائف العبودية ، تتنزل عليهم الملائكة بالبشارة الأبدية. قال القشيري : فأما الاستقامة فهي الثباتُ على شرائط الإيمان بجملتها ، من غير إخلالٍ بشيء من أقسامها.
ثم قال : مَن كان له أصل الاستقامة ، وهي التوحيد ، أَمِنَ من الخلود في النار ، ومَن كان له كمال الاستقامة أَمِنَ من الوعيد ، من غير أن يلحقه سوء بحالٍ. ويقال : استقاموا على دوام الشهود ، وانفراد القلب بالمعبود ، أو : استقاموا في تصفية العقد ، ثم في توفية العهد ، ثم في صحة القصد ، بدوام الوجد ، أو : استقاموا بأقوالهم ، ثم بأعمالهم ، ثم بصفاء أحوالهم ، في وقتهم وفي مآلهم ، أو : داموا على طاعته ، واستقاموا في معرفته ، وهاموا في محبته ، وقاموا بشرائط خدمته. واستقامة العابد : ألا يعود إلى الفترة واتباع الشهوة ، ولا يدخله رياء ولا تصنُّع ، واستقامةُ العارف : ألا يشوب معرفته حظ في الدارين ، فيحجب به عن مولاه ، واستقامةُ المحبين : ألا يكون لهم أرب من غير محبوبهم ؛ يكتفون من عطائه ببقائه ، ومن مقتضى جوده بدوام عِزِّه ووجوده. هـ.
(6/516)
وقوله تعالى : {تتنزل عليهم الملائكة} أي : تمدهم بالاهتداء والأنوار ، وتلهمهم العلوم والأسرار ، في مقابلة تقييض الغافل بالقرناء الأشرار ، فكما أن الغافل يخذل بتسليط الغواة في الدارين ، كذلك العارف يُمد ويُنصر من قِبل الملائكة في الدارين.
وقوله تعالى : {ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا} أي : حيث وجدتم الله لا تخافوا من شيء ، ولا تحزنوا على فوات شيء ، إذ لم يفتكم شيء ، وماذا فقط من وجده ؟
قال القشيري : لا تخافوا من عزلة الولاية ، ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الجناية ، وأبشروا بحسن العناية ، أو : لا تخافوا مما أسلفتم ، ولا تحزنوا على ما خلَّفتم ، وأبشروا بالجنة التي وعدتم. أو : لا تخافوا المذلَّة ، ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الزلَّة ، وأبشروا بدوام الوصلة. هـ.
ثم قال في قوله تعالى : {نحن أولياؤكم} : الولاية من الله تعالى بمعنى المحبة ، وتكون بمعنى النصرة ، وهذا الخطاب بقوله : {نحن أولياؤكم} ، يحتمل أن يكون من قِبَلِ الملائكة ، الذين يتنزلون عليهم ، ويحتمل أن يكون ابتداء خطابٍ من الله تعالى ، والنصرة تصدر من المحبة ، ولو لم تكن المحبة الأزلية لم تكن تحصل النصرة في الحال. هـ. وكونه من الملائكة أظهر ، كما تقدّم. والله تعالى أعلم.
344
جزء : 6 رقم الصفحة : 343
يقول الحق جلّ جلاله : {ومَن أحسنُ قولاً ممن دعا إِلى اللهِ} أي : إلى الإقرار بربوبيته ، والاستقامة على عبوديته ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من أمته ، الدعاة إلى الله في كل عصر ، أي : لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى معرفة الله ، {وعَمِل صالحاً} فيما بينه وبين ربه ، بأن عمل أولاً بما دعا إليه ، {وقال إِنني من المسلمين} تفاخراً بالإسلام ، وابتهاجاً بأنه منهم ، واتخاذ الإسلام ديناً ، من قولهم : هذا قول فلان ، أي : مذهبه ؛ لأنه يتكلم بذلك ، أو : يقوله تواضعاً ، أي : من جملة عامة المسلمين.
(6/517)
{ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ} ، هذا بيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد ، إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب ـ عزّ وجل ـ ترغيباً للدعاة إلى الله في الصبر على إذاية الخلق ، لأن كل مَن يأمر بالحق يُؤذَى ، فأُمروا بمقابلة الإساءة بالإحسان ، أي : لا تستوي الخصلة الحسنة والخصلة السيئة ، و (لا) : مزيدة ، لتأكيد النفي ، {ادفع بالتي هي أحسنُ} أي : ادفع السيئة التي اعترضتك من بعض أعدائك بالتي هي أحسن منها ، وهي : أن تُحسن إليه في مقابلة إساءته ، فالحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما ، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها ، وادفع بها السيئة ، كما لو أساء إليك رجل ، فالحسنة : أن تعفو عنه ، والتي هي أحسن : أن تُحسن إليه مكان إساءته ، مثل أن يذمك فتمدحه ، ويحرمك فتعطيه ، ويقطعك فتصله. وعن ابن عباس رضي الله عنه : التي هي أحسن : الصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة. هـ.
{فإِذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم} أي : فإنك إن فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقق مثل وليك الحميم الشفيق ، مصافاة لك ، وهذا صعب على النفوس ، ولذلك قال :
{وما يُلقاها إلا الذين صبروا} أي : ما يلقى هذه الخصلة التي في مقابلة الإساءة بالإحسان إلا أهل الصبر ، {وما يُلقاها إِلا ذو حظ عظيم} من الله تعالى وسبق عنايته بكمال النفس وتهذيبها. وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحظ العظيم : الثواب ، وعن الحسن : والله ما عظم حظ دون الجنة. وقيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، كان عدوّاً
345
مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم فصار وليّاً مصافياً له ، وبقيت عامة.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 345
(6/518)
وإِما يَنزغنَّك من الشياطن نزغٌ} ، النزغ : شِبه النخس ، والشيطان ينزغ الإنسان ، كأنه ينخسه ، يبعثه على ما لا ينبغي ، وجعل النزغ نازغاً مجاز ، كجدّ جدّه ، والمعنى : وإن طرقك الشيطان على ترك ما وُصِّيْتَ به من الدفع بالتي هي أحسن ، {فاستعِذْ بالله} من شرِّه ، وامضِ على حلمك ولا تُطعه ، {إِنه هو السميعُ} لاستعاذتك ، {العليمُ} بنيتك وتعلقك به ، أو : بنزغ الشيطان ووسوسته. وهو تعليم لأمته صلى الله عليه وسلم إذ كان شيطانه أسلم على يده.
الإشارة : قال القشيري : قيل : الداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى الاكتفاء بالله ، وتَرْكِ طلب العِوَض من الله ، بل يَكِلُ أمره إلى الله ، ويرضى من الله بقسمة الله. ثم قال : {وعَمِلَ صالحاً} كما يدعو الخلق إلى الله يأتي بما يدعوهم إليه ، ويقال : هم الذين عرفوا طريقَ الله ، ثم دعوا ـ بعدما عرفوا الطريقَ إلى الله ـ الخلقَ إلى الله ، {وقال إِنني من المسلمين} لحكمه ، الراضين بقضائه وتدبيره. هـ.
وقال الشاذلي رضي الله عنه : عليك برفض الناس جملة ، إلا مَن يدلك على الله ، بإشارةٍ صادقة ، وأعمال ثابتة ، لا ينقضها كتاب ولا سُنَّة. هـ. وشروط الداعي إلى الله على طريق المشيخة أربعة : علم صحيح ، وذوق صريح ، وهمّة عالية ، وحالة مرضية ، كما قال زروق رضي الله عنه. وقال الشريشي في رائيته :
وللشيخ آياتٌ إذا لَن تَكنّ له
فما هُو إلا في ليالي الْهَوَى يَسْرِي>> إذا لَمْ يكن عِلْم لَديْهِ بِظَاهرٍ
ولاَ باطنٍ فاضْرِبْ بِهِ لُجَجَ الْبَحْرِ
(6/519)
أما العلم الظاهر فإنما يشترط منه ما يحتاج إليه في خاصة نفسه ، ويحتاج إليه المريد في حال سفره إلى ربه ، وهو القَدْر الذي لا بُد منه ، من أحكام الطهارة والصلاة ونحو ذلك ، ولا يشترط التبحُّر في علم الشريعة. قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه : صحبت أبا علي المسندي ، فكنت أُلقنه ما يُقيم به فرضه ، وكان يعلمني التوحيد والحقائق صِرفاً. هـ. ومن المعلوم أن الشيخ ابن عباد لم يُفتح عليه إلا على يد رجل عامي ، وقد تحققت تربية كثير من الأولياء ، كانوا أميين في علم الظاهر. وأما علم الباطن فالمطلوب فيه التبحُّر التام ؛ إذ المقصود بالذات في الشيخ المصطلح عليه عند القوم هو هذا العلم ؛ لأن المريد إنما يطلب الشيخَ ليسلكه ويعلمه علم الطريقة والحقيقة ؛ فيكون عنده علم تام بالله وصفاته وأسمائه ، ذوقاً وكشفاً ، وعلم بآفات الطريق ، ومكائد النفس ، والشيطان ، وطرق المواجيد ، وتحقيق المقامات ، كما هو مقرر في فنه ، وهذا الداعي لا تخلو الأرض منه على الكمال ، خلافاً لمَن حكم بانقطاعه. والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 345
وفي الإحياء : المقتدى به هو الذي استقام في نفسه ، واستنار قلبه فانتشر نوره إلى
346
غيره ، لا مَن يُظهر خلاف ما هو عليه ليُقتدى به ، فإنه مُلَبِّس ، لم ينصح لنفسه ، فكيف بغيره ؟ . هـ.
(6/520)
قال الورتجبي : ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ، أي : ممن عرف الله بعد أن رآه وأحبّه واشتاق إليه ، ودعا الخلق إليه ، من حيث هو فيه وصَدقه في حاله ، يدعو الخلق إلى الله بلسان الأفعال ، وصدق المقال ، وحلاوة الأحوال ، ويذكر لهم شمائل القِدَم وحق الربوبية ، ويُعرفهم صفات الحق وجلال ذاته ، ويُحبب اللهَ في قلوبهم ، وهذا عمله الصالح ، ثم يقول بعد كماله وتمكنه : إنني واحد من المسلمين ، مِن تواضعه ولطفِ حاله خلقاً وظرافةً ، وإن كان إسلامه من قُصارى ـ أي : غاية ـ أحوال المستقيمين. قال سهل : أي ممن دلّ على الله ، وعلى عبادة الله وسُنَّة رسوله ، واجتناب المناهي ، وإدامة الاستقامة مع الله ، ثم قال : {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} بيَّن اللهُ هنا أن الخُلق الحسن ليس كالخُلق السيء ، وأمر بتبديل الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة ، وأحسن الأخلاق : الحلم ؛ إذ يكون به العدو صديقاً ، والبعيد قريباً ، حين دفع غضبه بحلمه ، وظلمَه بعفوه ، وسوءَ جانبه بكرمه ، وفي مظنة الخطاب : أن مَن كان متخلقاً بخلقه ، متصفاً بصفاته ، مستقيماً في خدمته ، صادقاً في محبته ، عارفاً بذاته وصفاته ، ليس كالمدعي الذي ليس في دعواه معنى.
ثم قال : {وما يُلقاها إِلا الذين صبروا} ، بيَّن الله سبحانه ألا يبلغ أحد درجة الخلق الحسن ، وحسنات الأعمال وسُنِيَّات الأفعال ، إلا مَن تصبّر في بلاء الله ، وامتحانه ، بالوسائط وغير الوسائط ، ولا يتحمّل هذه البليات إلا ذو حظ عظيم من مشاهدته ، وذو نصيب من قربه ووصاله ، صاحب معرفة كاملة ، ومحبة شاملة : وكمال هذا الصبر الاتصاف بصبر الله ، ثم الصبر في مشاهدة الأزل ، فبالصبر الاتصافي ومشاهدة الأبدي ، والحظ الجمالي ، يوازي طوارق صدمات الألوهية ، وغلبات القهّارية. ثم قال : عن الجنيد : ما يوفق لهذا المقام إلا ذو حظ عظيم من عناية الحق فيه. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 345
(6/521)
يقول الحق جلّ جلاله : {ومن آياته} الدالة على وحدانيته : {الليلُ والنهارُ} في تعاقبهما على حدِّ معلوم ، وتناوبهما على قدرٍ مقسوم ، {والشمسُ والقمرُ} في
347
اختصاصهما بسير مقدّر ، ونورٍ مقرّر ؛ إذ لا يصدر ذلك إلا من واحد قهّار. {لا تسجدوا للشمسِ ولا للقمر} ؛ فإنها مخلوقان مثلكم ، وإن كثرت منافعهما ، {واسجُدُوا لله الذي خلقهنَّ} أي : الليل والنهار والشمس والقمر. وحكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث في الضمير ، تقول : الأقلام بريتها وبريتهنّ. ولعلّ ناساً من المشركين كانوا يسجدون للشمس والقمر ، تبعاً للصّابئين من المجوس في عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لها السجود لله ـ تعالى ـ فنُهوا عن هذه الواسطة ، وأُمِرُوا أن يقصدوا بسجودهم وَجْهَ الله وحده ، إن كانوا موحدين ، ولذلك قال : {إِن كنتم إِياه تعبدون} فإن السجود أقصى مراتب العبادة ، فلا بد من تخصيصه به سبحانه ، وهذا موضع السجدة عند مالك والشافعي ، وعند أبي حنيفة : (لا يسأمون).
{فإِن استكبروا} عن الامتثال ، {فالذين عند ربك} من الملائكة {يُسبّحون له بالليل والنهار} أي : دائماً ، {وهم لا يسأمون} ؛ لا يملُّون ولا يَفْتُرون ، والمعنى : فإن استكبر هؤلاء وأَبوا إلا الواسطة ، فدعْهم وشأنَهم ، فإن الله غني عنهم ، وقد عمّر سماواته بمَن يعبده ، وينزهه بالليل والنهار عن الأنداد. والعندية عبارة عن الزلفى والكرامة.
{ومن آياته} أيضاً {أنك ترى الأرضَ خاشعةً} ؛ يابسةً مغبرة. والخشوع : التذلُّل ، فاستعير للأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها ، {فإِذا أنزلنا عليها الماء} ؛ المطر {اهتزّتْ} أي : تحركت {ورَبَتْ} ؛ انتفخت ؛ لأن النبات إذا دنا أن يظهر ارتفعت به وانتفخت ، ثم تصدّعت عن النبات ، وقيل : تزخرفت وارتفعت بارتفاع نباتها ، {إِنَّ الذي أحياها لمحيي الموتَى} بالبعث ، {إِنه على كل شيءٍ قديرٌ} ، ومن جملة الأشياء : البعث والحساب.
(6/522)
جزء : 6 رقم الصفحة : 347
الإشارة : الليل والنهار والشمس والقمر خَلَقَهن من أجلك ، فعارٌ عليك أن تخضع لِمَا خُلق لك ، وتترك المنعِّم بها عليك. قال القشيري : الحق ـ سبحانه ـ يأمرك بصيانة وجهك عن الشمس والقمر مع علوهما ، وأنت لأجلِ حظِّ خِسِيسٍ تنقل قَدَمك إلى كلّ أحدٍ ، وتذل وجهك لكل أحد. هـ. وأما الخضوع لمَن أمر الله بالخضوع له من الدعاة إلى الله فهو من الخضوع لله ، كأمر الملائكة بالسجود لآدم ، وكأمره بالخضوع له من الدعاة إلى الله فهو من الخضوع لله ، كأمر الملائكة بالسجود لآدم ، وكأمره بالخضوع للأنبياء والأولياء ، فكان مآل مَن سجد وخضع التقريب ، ومآل مَن استكبر وأنف الطرد والبُعد ، والله تعالى غني عن الكل ، ولذلك قال : {فإن استكبروا...} الآية.
قوله تعالى : {ومن آياته أنك ترى الأرضَ خاشعةً...} الآية ، وكذلك أرض النفوس تراها يابسة بالغفلة والقسوة والجهل ، فإذا أنزل عليها ماء الحياة ، وهي خمرة المحبة ، هاجت وارتفعت ، وحييت بذكر الله ومعرفته ، إن الذي أحيا الأرض الحسية قادر على إحياء النفوس الميتة بالغفلة ، وانظر القشيري.
348
جزء : 6 رقم الصفحة : 347
يقول الحق جلّ جلاله : {إِن الذين يُلحدون في آياتنا} أي : يميلون عن الحق في أدلتنا التكوينية ، الدالة على وحدانيتنا ، فلا ينظرون فيها ، أو : يُلحدون في آياتنا التنزيلية ، بالطعن فيها ، وتحريفها ، بحملها على المحامل الباطلة ، {لا يَخْفَونَ علينا} ، بل نجازيهم على ذلك. يقال : ألحد الكافر ولحدَ : إذا مال عن الاستقامة عن الحق.
ثم ذكر جزاءهم فقال : {أفمن يُلقى في النار خيرٌ أم من يأتي آمناً يومَ القيامةِ} قيل : نزلت في أبي جهل وعثمان ، وهي عامة ، {اعملوا ما شئتم} من الأعمال المؤدية إلى ما ذكر من الإبقاء في النار ، والإتيان آمناً ، وفيه تهديد وتنديد. {إِنه بما تعملون بصيرٌ} فيجازيكم بحسب أعمالكم.
(6/523)
{إِن الذين كفروا بالذِكْرِ} ؛ القرآن {لمَّا} حين {جاءهم} مخلَّدون في النار ، أو : هالكون ، أو : معاندون ، فخبر " إن " محذوف ، دلَّ عليه ما قبله. وقيل : بدل من قوله : {إِن الذين يُلحدون في آياتنا} فخبر " إن " هو الخبر السابق ، وقال عمرو بن العلاء : الخبر : {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ} [فصلت : 44] ، ورُدّ بكثرة الفصل.
ثم فسّر الذكر المذكور بقوله : {وإِنه لكتابٌ عزيز} ، منيع ، محميّ بحماية الله ، لا تتأتى معارضته بحال ، أو : كثير المنافع ، عديم النظير ، {لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه} أي : لا يتطرقه الباطل من جهة من الجهات ، أو : لا يأتيه التبديل والتحريف ، أو : التناقض بوجه من الوجوه ، وأما النسخ فليس بمبطل للمنسوخ ، بل هو : انتهاء حكم إلى مدة وابتداء حكم آخر ، خلافاً لمَن احتجّ بالآية على عدم النسخ في القرآن ، انظر ابن عرفة. {تنزيلٌ من حكيم حميدٍ} أي : تنزيل من حكيم محمود ، فـ " تنزيل " : خبر عن مضمر ، أو : صفة أخرى لكتاب ، مفيدة لفخامته الإضافية ، كما أن الصلتين السابقتين ، مفيدتان لفخامته الذاتية ، كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر به وبشاعة قُبحه.
الإشارة : إن الذين يُلحدون في آياتنا ، فيطعنون في أوليائنا ، الدالين علينا ، لا يخفون علينا ، وسيُلقون في نار القطيعة والبُعد مع عموم الخوف من هول المطَّلع ، أفمن يُلقى في النار خير أم مَن يأتي آمناً يوم القيامة ؟ اعملوا ما شئتم من التسليم أو الانتقاد ، وكل مَن لا يصحب الرجال لا يخلو خاطره من شك أو وَهْم في مواعيد القرآن ، كالرزق وغيره ، ينسحب عليه قوله : {إِن الذين كفروا بالذكر...} الآية ، من طريق الإشارة. والله تعالى أعلم.
349
(6/524)
وقوله تعالى : {وإِنه لكتابٌ عزيز} قال الشيخ عبد الرحمن اللجاي في كتاب " قطب العارفين " : الكتاب عزيز ، وعلم الكتاب أعز ، والعلم عزيز ، والعمل به أعز ، والعمل عزيز ، والذوق أعز ، والذوق عزيز ، والمشاهدة في الذوق أعز ، والمشاهدة عزيزة ، والموافقة في المشاهدة أعز ، والموافقة عزيزة ، والأنفس في الموافقة أعز ، والأنس عزيز ، وآداب الأنس أعز. ثم قال : لكن لا يستنشق رائحة هذه المقامات مَن غلب جهلُه على علمه ، وهواه على عقله ، وسفهُه على حلمه. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 349
يقول الحق جلّ جلاله : {ما يُقال لك} أي : ما يقول لك كفار قومك {إِلا ما قدْ قيلَ للرسل مِن قبلك} ؛ إلا مثل ما قال للرسل كفارُ قومهم ، من الكلمات المؤذية ، والمطاعن في الكتب المنزلة ، فاصبر كما صبروا ، {إِن ربك لذو مغفرةٍ} ورحمة لأنبيائه {وذو عقابٍ أليمٍ} لأعدائهم ، وقد نصر مَن قبلك مِن الرسل ، وانتقم مِن أعدائهم ، وسيفعل مثل ذلك بك وبأعدائك ، و : {ما يُقال لك} من الوحي وتخاطب به من جهته تعالى ، {إِلا ما قد قيل للرسل} وأوحي إليهم ، فلست ببدع منهم {إِن ربك لذو مغفرة} لمَن صدق وحيه ، {وذو عقاب أليم} لمَن كذب.
{ولو جعلناه} أي : الذكر {قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فُصِّلتْ آياتهُ} أي : هلاَّ بُيّنت بلسان العرب حتى نفهمها ، كانوا يقولون : لتعنتِهم : هلاّ نزل القرآن بلغة العجم! فقيل لهم : لو كان كما تقترحون لقلتم : هلاّ بُيّنت آياته بلغتنا لنفهمه ، {أأعجميٌّ وعربيٌّ} ، بهمزتين الأولى للإنكار ، يعني : لو نزل بلغة العجم لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمي ورسول عربي ؟ والأعجمي : الذي لا يفصح ولا يُفهم كلامه ، سواء كان من العجم أو من العرب ، والعجمي : منسوب إلى أمة العجم ، فصيحاً كان أو غير فصيح ، ومَن قرأ بهمزة واحدة ، فالمعنى : هلاَّ فُصّلت آياته فيجعل بعضها أعجمياً لإفهام العجم ، وبعضها عربيّاً لإفهام العرب ، فيكون معنى " فُصِّلت " : نُوِّعَت.
(6/525)
وقُرىء " أعجمي " بفح العين ، ويتجه على كونهم طعنوا فيه من أجل ما فيه من الكلمة العجمية ، كـ {سِجِّينٍ} [المطفِفين : 7] و {إِسْتَبْرَقٍ} [الكهف : 31] ، فقالوا : فيه أعجمي وعربي ، مخلط من كلام العرب وكلام العجم ، وأيّاً ما كان فالمقصود : أن آيات الله ـ عزّ وجل ـ على أيِّ طريق جاءتهم وجدوا متعنتاً يتعلّلون به ؛ لأنهم غير طالبين للحقِّ ،
350
وإنما يتعبون أهواءهم. {قل هو للذين آمنوا هُدًى} يهديهم إلى الحق ، {وشفاءٌ} لما في الصدور من شك وشبهة ؛ إذ الشك مرض.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 350
والذين لا يؤمنون} به {في آذانهم وَقْرٌ} أي : صمم ، فالموصول : مبتدأ ، والجار : خبره ، وقيل : في موضع الجر ، بدل من (الذين آمنوا) أي : هو للذين آمنوا هُدىً وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، إلا أن فيه عطفاً على عاملين ، وهو جائز عند الأخفش. {وهو} أي : القرآن {عليهم عَمىً} ظلمة وشبهة ، {أولئك} البعداء الموصوفون بما ذكر من التعامي عن الحق الذي يسمعونه ، والتعامي عن الآيات الظاهرة التي يشاهدونها ، {يُنادَوْنَ من مكان بعيدٍ} يعني : أنهم لعدم قبولهم وانتفاعهم ، كأنهم يُنادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعون ، لبُعد المسافة ، وهو تمثيل لحالهم بحال مَن يُنادي من مسافة بعيدة ؛ لا يكاد يسمع من مسافتها الأصوات ، وقيل : ينادون في القيامة من مكان بعيد بأقبح الأسماء. الإشارة : ما يُقال لك أيها المتوجه أو الوليّ ، إلا ما قد قيل لِمن قبلك من المنتسبين ، فقد أُوذِي مَن قبلك من أهل النسبة بأنواع الإذايات ؛ من ضربٍ وقتلٍ وسجنٍ ، وغير ذلك ، ففيهم أُسوة لمن بَعدهم ، {إِن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم}. ومما جرت عادة الله في خلقه ألا يُسَلِّموا لأحياء عصرهم ما نطقوا به من حِكَم ، وأَتَوا به من علوم ، ولو بلغت من البلاغة ما بلغت ، كما وقع مِن طعن الكفرة في القرآن ، على أيّ وجه جاء ، وهي نزعة جاهلية.
(6/526)
وقوله تعالى : {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} ، قال الورتجبي : هُدىً ، لقلوب العارفين إلى معدنه ، وهو الذات القديم ، وشفاء لقلوب العاشقين ، وأرواح مرضى المحبة وسُقمى الصبابة ، فلأنه خطاب حبيبهم ، وكتاب مشوقهم ، يستلذُّونه من حيث العبارات ، ويعرفونه من حيث الإشارات. هـ. وقوله تعالى : {في آذانهم وقر} قال ذو النون : من وُقِر سمعُه وأصم عن نداء الحق في الأزل ، لا يسمع نداءه عند الإيجاد ، وإن سمعه كان ذلك عليه عمىً ، ويكون عن دقائقه بعيداً ، وذلك أنهم نُودوا عن بُعد ، ولم يكونوا بالقرب. هـ. فكل مَن قرأه ذاهلاً عن تدبُّره بوساوس نفسه ، فهو ممن نُودي في الأزل عن بُعد. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 350
يقول الحق جلّ جلاله : {ولقد آتينا موسى الكتابَ} ؛ التوراة {فاختُلف فيه} فقال
351
بعضهم : حق ، وقال بعضهم : كتبه بيده في الجبل ، كما اختلف قومك في كتابك القرآن ، فمِن مؤمن به وكافر ، {ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك} في حق أمتك بتأخير العذاب ، {لقُضِيَ بينهم} ؛ لأهلكهم إهلاك استئصال. وقيل : الكلمة السابقة هو العدة بالقيامة لقوله : {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} [القمر : 46] ، وأن الخصومات تُفصل في ذلك اليوم ، ولولا ذلك لقُضي بينهم في الدنيا. {وإِنهم} أي : كفار قومك {لفي شكٍّ منه} من أجل القرآن {مُرِيبٍ} ؛ موقع للريبة ، وقيل : الضمير في (بينهم) و(إنهم) لليهود ، وفي (منه) لموسى ، أو : لكتابه ، وهو ضعيف.
{مَن عَمِلَ صالحاً} بأن آمن بالكُتب وعمل بوحيها ، {فلنفسه} نفع ، لا غيره ، {ومَن أساء فعليها} ضرره ، لا على غيره ، {وما ربك بظلاّمٍ للعبيد} ، فيعذب غير المسيء ، أو يُنقص من إحسان المحسن.
(6/527)
الإشارة : الاختلاف على أهل الخصوصية سُنَّة ماضية ، {ولن تجد لسنة الله تبديلاً} ، فمَن رام الاتفاق على خصوصيته ، فهو كاذب في دعوى الخصوصية ، وفي الحِكَم : " استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك ".
جزء : 6 رقم الصفحة : 351
يقول الحق جلّ جلاله : {إِليه يُرَدُّ عِلْمُ الساعةِ} أي : إذا سُئل عنها يجب أن يقال : الله أعلم بوقت مجيئها ، أو : لا يعلمها إلا الله ، {وما تَخْرُجُ من ثمراتٍ من أكمامها} ؛ من أوعيتها ، جمع " كِمَ " بكسر الكاف ؛ وهو وعاء الثمرة قبل أن تنشق ، أي : لا يعلم كيفية خروجها ومآلها إلا الله. {وما تحمل من أُنثى} أي : تعلقُ النطفة في رحمها ، وما ينشأ عنها من ذكورة وأنوثة وأوصاف الخلقة ؛ تامة أو ناقصة ، {ولا تضع} حَملها {إِلا بعلمه} ؛ استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : ما يحدث شيء من خروج ثمرة ، ولا حمل حامل ، ولا وضع واضع ، ملابساً بشيء من الأشياء إلا ملابساً بعلمه المحيط.
{و} اذكر {يومَ يُناديهم} فيقولُ : {أين شركائي} بزعمكم ، أضافهم إليه على زعمهم ، وفيه تهكم بهم وتقريع ، {قالوا آذَنَّاك ما مِنَّا من شهيدٍ} أي : من أحد يشهد لهم بالشركة ، إذ تبرأنا منهم ، لما عاينا حقيقة الحال ، وتفسير " آذن " هنا بالإخبار ، أحسن من تفسيره بالإعلام ؛ لأن الله تعالى كان عالماً بذلك ، وإعلام العالم محال ؛ أما الإخبار للعالم بالشيء ليتحقق بما علم به فجائز ، إلا أن يكون المعنى : إنك علمت من قلوبنا الآن : أنَّا لا
352
نشهد تلك الشهادة الباطلة ؛ لأنه إذا علمه من نفوسهم ، فكأنهم أعلموه ، أي : أخبرناك بأنَّا ما منا أحد اليوم يشهد بأنّ لك شريكاً ، وما منا إلا مَن هو مُوَحَّد. أو : (ما منا من) أحد يشاهدهم ، لأنهم ضلُّوا عنهم في ساعة التوبيخ ، وقيل : هو من كلام الشركاء ، أي : ما منا شهيد يشهد بما أضافوا لنا من الشركة.
(6/528)
{وضلّ عنهم ما كانوا يَدْعُون} ؛ يعبدون {من قَبْلُ} في الدنيا {وظنوا} ؛ وأيقنوا {ما لهم من محيصٍ} ؛ من مهرب ، والظن معلق عنهم بحرف النفي عن المفعولين.
الإشارة : إليه تعالى يُرَدُّ علمُ الساعة ، التي يقع الفتح فيها على المتوجه ، بكشف الحجاب بينه وبين حبيبه ، وما تخرج من ثمرات العلوم والحِكَم من أكمام قلبه ، وما تحمل نفس من اليقين والمعرفة ، إلا بعلمه. ثم ذمَّ مَن مال إلى غيره بالركون والمحبة ، وذكر أنه يتبرأ منه في حال ضيقه ، فلا ينبغي التعلُّق إلا به ، ولا ميل القصد والمحبة إلا له ـ سبحانه ـ وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 352
يقول الحق جلّ جلاله : {لا يسأمُ الإِنسانُ} أي : جنسه ، أو : الكافر ، بدليل قوله : {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً} [الكهف : 36] ، أي : لا يملّ {من دعاءِ الخيرِ} ؛ من طلب السعة في المال والنعمة ، ولا يملّ عن إرادة النفع والسلامة ، والتقدير : من دعائه الخير ، فحذف الفاعل وأضيف إلى المفعول ، {وإِن مسَّه الشرُّ} ؛ الفقر والضيق ، {فَيَؤُوسٌ} من الخير {قنوطٌ} من الرحمة ، أي : لا يرجو زواله ؛ لعدم علمه بربه ، وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إلى ربه ، بُولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فَعول ، ومن طريق التكرير ؛ لأن اليأس هو القنط ، والقنوط : أن يظهر أثر اليأس فيتضاءل وينكسر ، ويظهرَ الجزع ، وهذا صفة الكافر لقوله : {إِنَّه لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87]. وقال الإمام الفخر : اليأس على أمر الدنيا من صفة القلب ، والقنوط : إظهار آثاره على الظاهر. هـ.
{ولئن أذقناه رحمةً من بعد ضراء مَسَّتْهُ ليقولَنَّ هذا لِي} أي : وإذا فرجنا عنه بصحّة بعد مرض ، أو : سعة بعد ضيق ، قال : {هذا لي} أي : هذا قد وصل إليّ لأني استوجبته
353
(6/529)
بما عندي من خير ، وفضل ، وأعمال برّ ، أو : هذا لي لا يزول عني أبداً ، {وما أظنُّ الساعةَ قائمةً} أي : ما أظنها تقوم فيما سيأتي ، {ولئن رُّجِعْتُ إِلى ربي} كما يقول المسلمون ، {إِنَّ لي عنده لَلْحُسْنَى} أي : الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة ، أو : الجنة. قاس أمر الآخرة على أمر الدينا ؛ لأن ما أصابه من نِعَمِ الدنيا ، زعم أنه لاستحقاقه إياها ، وأن نِعَم الآخرة كذلك. وهذا غرور وحمق ، الرجاء ما قارنه عمل ، وإلا فهو أُمنية ، " الجاهل مَن أَتْبَعَ نَفْسه هواها ، وتمنّى على الله ، والكيِّسُ مَن دَانَ نفسه ، وعَمِلَ لما بعد الموتِ ". {فلننبئَنَّ الذين كفروا بما عَمِلُوا} أي : فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب ، {ولَنُذِيقَنَّهم من عذابٍ غليظٍ} ؛ شديد ، لا يفتر عنهم.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 353
وإِذا أنعمنا على الإِنسان أعْرَضَ} ، هذا ضرب آخر من طغيان الإنسان ؛ إذا أصابه الله بنعمته ، أبطرته النعمة ، وأعجب بنفسه ، فنسي المنعِّم ، وأعرض عن شكره ، {ونأى بجانبهِ} ؛ وتباعد عن ذكر الله ودعائه وطاعته ، أو : ذهب بنفسه وتكبّر وتعاظم ، والتحقيق : أن المراد بالجانب النفس ، فكأنه قال : وتباعد بنفسه عن شكر ربه ، {وإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ} ؛ الفقر والضر ، {فذو دعاءٍ عريضٍ} أي : تضرُّع كثير ، أي : أقبل على دوام الدعاء والابتهال. ولا منافاة بين قوله : {فَيؤوس قنوط} وبين قوله : {فذو دعاء عريض} ؛ لأن الأول في قوم ، والثاني في قوم ، أو : قَنوط في البَر ، وذو دعاء عريض في البحر ، أو : قَنُوط بالقلب ، وذو دعاء باللسان ، أو : قَنُوط من الصنم ، وذو دعاء لله تعالى.
(6/530)
الإشارة : اللائق بالأدب أن يكون العبد عند الشدة داعياً بلسانه ، راضياً بقلبه ، إن أجابه شكر ، وإن منعه انتظر وصبر ، ولا ييأس ولا يقنط ، فإنه ضَمِنَ الإجابة فيما يريد ، لا فيما تريد ، وفي الوقت الذي يريد ، لا في الوقت الذي تريد ، وإن فرّج عنك نسبتَ النعمةَ إليه ، دون شيء من الوسائط العادية ، هذا ما يُفهم من الآية ، وتقدّم الكلام عليها في سورة هود. وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 353
354
يقول الحق جلّ جلاله : {قل أرأيتم} ؛ أخبروني {إِن كان} القرآن {من عندِ اللهِ ثم كفرتُمْ به} ؛ جحدتم أنه من عند الله ، مع تعاضد موجبات الإيمان به ، {مَنْ أَضلُّ} منكم ؟ فوضع قوله : {ممن هو في شقاق بعيد} موضعه ، شرحاً لحالهم ، وتعليلاً لمزيد ضلالهم.
{سَنُريهِمْ آياتنا} الادلة على حقيَّتِه وكونه من عند الله ، {في الآفاق} من فتح البلاد ، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث الآتية ، وآثار النوازل الماضية ، وما يسَّر الله تعالى له ولخلفائه من الفتوحات ، والظهور على آفاق الدنيا ، والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب ، على وجه خرق العادة ، {و} نريهم {في أنفسهم} ؛ ما ظهر من فتح مكة وما حلّ بهم.
وقال ابن عباس : في الآفاق : منازل الأمم الخالية وآثارهم ، وفي أنفسهم : يوم بدر. وقال مجاهد وغيره : في الآفاق : ما يفتح الله من القرى على نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، وفي أنفسهم : فتح مكة. وقيل : الآفاق : في أقطار السموات والأرض ، من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وما يترتب عليها من الليل ، والنهار ، والأضواء ، والظلال ، والظلمات ، ومن النبات ، والأشجار ، والأنهار ، {وفي أنفسهم} : من لطيف الصنعة وبديع الحكمة ، من تكوين النطفة في ظلمات الأرحام ، وحدوث الأعضاء العجيبة ، والتركيبات الغريبة ، كقوله تعالى : {وَفِى أَنفُسِكُمْ...} [الذاريات : 21].
(6/531)
وعبّر بالسين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك ، بمعنى أن الله تعالى سيُطلعهم على تلك الآيات زماناً فزماناً ، ويَزيدهم وقوفاً على حقائقها يوماً فيوماً ، {حتى يتبين لهم} بذلك {أنه الحقُّ} أي : القرآن ، أو : الإسلام ، أو : التوحيد ، {أوَلَمْ يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيدٌ} ، توبيخ على تردُّدهم في شأن القرآن ، وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات ، وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى. والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر يقتضيه المقام ، أي : أَلَمْ يُغن ولم يكف ربك. والباء : مزيدة للتأكيد ، ولا تكاد تزاد إلا مع " كفى ".
جزء : 6 رقم الصفحة : 354
و (أنه...) الخ : بدل منه ، أي : ألم يُغنهم عن إراءة الآيات المبنية لحقيّة القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على كل شيء ، وقد أخبر أنه من عنده. وقيل : معناه : إن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتيقنون عند ذلك أن القرآن تنزيل من عالم الغيب ؛ الذي هو على كل شيء شهيدٌ.
{أَلا إِنهم في مِريةٍ} ؛ شك عظيم {من لقاءِ ربهم} فلذلك أنكروا القرآن ، {ألا إِنه بكل شيءٍ محيط} ؛ عالم بجميع الأشياء وتفاصيلها ، وظواهرها ، وبواطنها ، فلا يخفى عليه خافية منهم ، وهو مجازيهم على كفرهم وشكهم ، لا محالة.
355
(6/532)
الإشارة : قد اشتملت الآية على مقام الاستدلال في مقام الإيمان ، وعلى مقام العيان في مقام الإحسان ، أي : سنُريهم آياتنا الدالة على وجودنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، أي : في العوالم المنفصلة والمتصلة ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أي : وجوده حق ، لأن الصنعة قطعاً تحتاج إلى صانع ، ثم رقَّاهم إلى مقام المراقبة بقوله : {أوَلم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} ، ثم زاد إلى المشاهدة بقوله : {ألا إِنهم} أي : أهل الجهل بالله ، {في مرية من لقاء ربهم} في الدنيا ، بحصول الفناء ، فيفنى وجود العبد في وجود الحق ، ألا إنه بكل شيء محيط ، فبحر العظمة أحاط بكل شيء ، وأفنى كل شيء ، ولم يبقَ مع وجوده شيء. وفي الحِكَم : " ما حجبك عن الله وجود موجود معه ؛ إذ لا شيء معه ، وإنما حجبك توهُّم موجود معه " وقال أيضاً : " الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فأحدية الذات محت وجودَ الأشياء كلها ، ولم يبقَ إلا القديم الأزلي.
وقال القطب ابن مشيش لأبي الحسن رضي الله عنه : يا أبا الحسن ، حدّد بصر الإيمان تجد الله في كل شيء ، وعند كل شيء ، ومع كل شيء ، وقبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، وفوق كل شيء ، وتحت كل شيء ، وقريباً من كل شيء ، ومحيطاً بكل شيء ، بقُرب هو وصفه ، وبحيطة هي نعته ، وعَد عن الظرفية والحدود ، وعن الأماكن والجهات ، وعن الصحبة والقرب في المسافات ، وعن الدور بالمخلوقات ، وأمحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو هو هو ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان. هـ.
وقوله : وعد عن الحجهات ، جاوز عن اعتقادها ؛ إذ لا ظرف ، ولا حد ، ولا مكان ، ولا جهة ، إذ الكل عظمة ذاته ، وأنوار صفاته ، والحد إنما يتصور في المحدود ، ولا حد لعظمة ذاته ولا نهاية ، ولا يحصرها مكان ، ولا جهة ؛ إذ الكل منه وإليه. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد ، عين بحر التحقيق ، وعلى آله وصحبه ، وسلّم تسليماً.
356
جزء : 6 رقم الصفحة : 354(6/533)
سورة الشورى
جزء : 6 رقم الصفحة : 356
يقول الحق جلّ جلاله : {حم. عسق} يُشير ـ والله أعلم ـ بكل حرف إلى وصف يدلّ على تعظيم قدر حبيبه صلى الله عليه وسلم ، فالحاء : أحبَبْنَاك ، أو : حبيْناك ، أي : أَعطيناك الملك والملكوت ، والميم : ملَّكناك ، والعين : عَلَّمناك ما لم تكن تعلم ، أو : عيّناك للرسالة ، والسين : سيّدناك ، والقاف : قرّبناك. {كذلك يُوحِي إِليك} أي : كما خصصناك بهذه الخصائص العظام أوحينا إليك {وإِلى الذين مِن قبلك} ، فقد خصصناهم ببعض ذلك ، وأوحينا إليهم ، وفي ابن عطية : عن ابن عباس : أن هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله ، المنزلة على كل نبيّ أُنزل عليه كتاب ، ولذلك قال تعالى : {كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك}. وقال القشيري : الحاء : مفتاح اسمه حكيم وحفيظ ، والميم : مفتاح اسمه مالك وماجد ومؤمن ومهيمن ، والعين : مفتاح اسمه عليم وعليّ ، والسين : مفتاح اسمه سيد وسميع وسريع الحساب ، والقاف : مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدوس ، أقسم الله تعالى بهذه الحروف أنه كذلك يُوحي إليك يا محمد. هـ.
وقال ابن عطية : وإنما فصلت " حم عسق " ، ولم يفعل ذلك بـ " كهيعص " ؛ لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها. هـ. زاد النسفي : وأيضاً : هذه آيتان ، و " كهيعص " آية
357
واحدة. هـ. فانظره.
{اللهُ} أي : يوحي الله {العزيزُ الحكيمُ} : فاعل " يُوحي " ، وقرأ ابن كثير بالبناء للمفعول. و " الله " : فاعل بمحذوف ، كأن قائلاً قال : مَن المُوحِي ؟ فقال : {الله العزيز الحكيم} أي : الغالب بقهره ، الحكيم في صنعه وتدبيره.
{له ما في السماوات وما في الأرض} مُلكاً وملِكاً ، {وهو العليُّ} شأنه {العظيمُ} سلطانه وبرهانه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 357(6/534)
ثم بيّن عظمته ، فقال : {يكادُ السماواتُ يتفطَّرْنَ من فوقهن} ؛ تتشققن من عظمة الله تعالى وعلو شأنه ، يدلّ عليه مجيئه بعد قوله : {وهو العلي العظيم}. وقيلَ : من دعائهم له ولداً ، كقوله : {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ} [مريم : 90] إلخ ، ويؤيده : مجيء قوله : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} [الشورى : 6]. وقرأ البصريّ وشبعة : " ينفطرن " ، والأول أبلغ. ومعنى : {من فوقهن} أي : يبتدين بالانفطار من جهتهنّ الفوقانية. وتخصيصها على التفسير الأول ؛ لأن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال من تلك الجهة ، وأيضاً : استقرار الملائكة إنما هو من فوق ، فكادت تنشق من كثرة الثِقل ، كما في الحديث : " أطَّت السماء ، وحُقّ لها أن تَئطَّ ، ما فيها موضع قدم إلا وفيها ملك راكع أو ساجد ". وعلى الثاني للدلالة على التفطُّر من تحتهن بالطريق الأولى ؛ لأن تلك الكلمة الشنعاء ، الواقعة في الأرض حين أثرت في جهة الفوق فلأن تؤثر في جهة التحت أولى. وقيل : " من فوقهن " : من فوق الأرض ، فالكناية راجعة إلى الأرض ، من قوله : {له ما في السماوات وما في الأرض} لأنه بمعنى الأرضين. {والملائكةُ يُسبِّحون بحمدِ ربهم} خضوعاً ؛ لِمَا يرون من عظمته ، {ويستغفرون لمَن في الأرض} أي : للمؤمنين منهم ، خوفاً عليهم من سطواته ، ويُوحدون اللهَ وينزهونه عما لا يليق به من الصفات ، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه ، متعجبين لما رأوا من تعرُّض الكفرة لسخط الله تعالى. ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض ، الذين تبرؤوا من تلك الكلمات ، {ألا إِنَّ اللهَ هو الغفورُ الرحيمُ} حيث لا يعاجلهم بالعقوبة على ما وصفوه به مما لا يجوز عليه.
الإشارة : حم عسق ، الحاء تُشير إلى حمده لأوليائه ، وتنويهه بقدرهم ، والميم إلى تمليكهم التصرُّف في حس المُلك ، وأسرار الملكوت ، والعين إلى علو رتبتهم ، أو إلى
358
(6/535)
علومهم اللدنية ، والسين إلى سيادتهم وسَنَا نورهم وسرهم ، والقاف إلى قُربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم في وجود محبوبهم ، فيمتحي القرب من شدة القرب ، وبذلك صاروا مقربين. والوحي ينقسم إلى أربعة أقسام ؛ وحي أحكام ، ووحي منام ، ووحي إلهام ، ووحي إعلام ، فاختصت الأنبياء بالأول ، وشاركتهم الأولياء في الثلاثة. ووحي إعلام هو إطّلاعهم على بعض المغيبات.
وقوله تعالى : {يكاد السماوات يَتَفَطَّرن} أي : يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه. وذلك لما لطُف حسها أدركت هيبة معاني أسرار الذات ، وكذلك الأرواح ؛ إذا لطفت ورقّ حسن بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله ، وإذا كثفت بشريتها ، بمباشرة الحس واتباع الهوى ، غلظ حجابها ، فبعدت عن حضرة الحق في حال قربها. وقوله تعالى : {ويستغفرون لمَن في الأرض} ، انظر جلالة قدر هذا الآدمي ، حتى سخَّر الله له الملائكة الكرام يستغفرون له ، ويسعون في مصالحه ، فاستحِي من الله أيها العبد ، إن كان لك عقل وتمييز.
جزء : 6 رقم الصفحة : 357
قلت : {وكذلك} : الكاف في محل النصب على المصدر ، و {قرآناً} : مفعول " أوحينا ".
يقول الحق جلّ جلاله : {والذين اتخذوا من دونه أولياء} ؛ شركاء ، يُوالونهم بالعبادة والمحبة {اللهُ حفيظ عليهم} : رقيب على أحوالهم وأعمالهم ، فيجازيهم بها ، {وما أنت عليهم بوكيلٍ} ؛ بموكّل عليهم ، تجبرهم على الإيمان ، ثم نسخ بالجهاد. أو : ما أنت بموكول إليك أمرهم ، وإنما وظيفتك الإنذار بما أوحينا إليك.
{وكذلك أوحينا إِليك قرآناً عربيّاً} أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح أوحينا إليك قرآناً عربيّاً ، لا لبس فيه عليك ولا على قومك ، {لِتُنذِر أُمَّ الْقُرَى} أي : أهلها ، وهي مكة ؛ لأن الأرض دحيت من تحتها ، أو : لأنها أشرف البقع ، {و} تُنذر {مَنْ حولها} من العرب أو من سائر البلاد. قال القشيري : وجميعُ العالَم مُحْدِقٌ بالكعبة ؛ لأنها سُرَّةُ الأرضِ. هـ.
359
(6/536)
{وتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} ؛ يوم القيامة ؛ لأنه تجمع فيه الخلائق ، وفيه تجمع الأرواح والأشباح. وحذف المفعول الثاني من " تُنذر " الأول للتهويل ، أي : لتنذر الناس أمراً فظيعاً تضيق عنه العبارة ، {لا ريبَ فيه} ؛ لا شك في وقوع ذلك اليوم ، {فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير} أي : بعد جمعهم في الموقف يفترقون ، فريق يُصرف إلى الجنة ، وفريق إلى السعير بعد الحساب ، والتقدير : فريق منهم في الجنة. والجملة : حال ، أي : وتنذر يوم الجمع متفرقين.
{ولو شاء اللهُ لجعلهم} في الدنيا {أمة واحدة} إما مهتدين كلّهم ، أو ضالين ، {ولكن يُدْخِلُ مَن يشاء في رحمته} أي : ويُدخل مَن يشاء في عذابه ، يدلّ عليه ما بعده ، ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب : اختلاف الداخلين فيهما ، فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة ، بل جعلهم فريقين ، فيسَّر كلاًّ لمَن خُلق له. {والظالمون ما لهم من وَليٍّ ولا نصير} ؛ والكافرون ما لهم من شافع ولا دافع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 359
قال أبو السعود : والذي يقتضيه سياق النظم أن يُراد بقوله : {أمة واحدة} الاتحاد في الكفر ، كما في قوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً...} [البقرة : 213] الآية ، على أحد الوجهين ، بأن يُراد بهم الذين هم في فترة إدريس ، أو فترة نوح. ولو شاء لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر ، بأن لا يُرسل إليهم رسولاً ليُنذرهم ما ذكر من يوم الجمع ، وما فيه من ألوان الأهوال ، فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ، ولكن يُدخل مَن يشاء في رحمته إن شاء ذلك ، فيُرسل إلى الكل مَن ينذرهم ، فيتأثر بعضهم بالإنذار ؛ فيعرفون الحق ؛ فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعة ، ويُدخلهم في رحمته ، ولا يتأثر به الآخرون ، ويتمادى في غيهم ، وهم الظالمون ، فيبقون في الدنيا على ما هم عليه ، ويصيرون في الآخرة إلى السعير ، من غير وليٍّ يلي أمرهم ، ولا نصيرٍ يُخلصهم من العذاب. هـ.
(6/537)
{أَم اتخذوا من دونه أولياءَ} ، هذه جملة مقررة لِما قبلها ، من انتفاء أن يكون للظالمين وَليّ ولا نصير. و " أم " : منقطعة ، وما فيها من الإضراب للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها. والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه ، أي : ليس المتخَذون أولياء ، ولا ينبغي اتخاذ وليّ سواه. وقوله : {فالله هو الوليُّ} : جواب عن شرط مقدّر ، كأنه قيل بعد إبطال ما اتخذوه أولياء من الأصنام : إن إرادوا ولياً في الحقيقة فالله هو الوليّ ، لا وليّ سواه. {وهو يُحيي الموتى} أي : ومن شأنه إحياء الأموات ، {وهو على كل شيءٍ قديرٌ} فهو الحقيق بأن يُتخذ ولياً ، فليخصُّوه بالاتخاذ ، دون مَن لا يقدر على شيء. وبالله التوفيق.
الإشارة : قال القشيري : كلُّ مَن تبع هواه ، وترك لله حدّاً ، أو نقض له عهداً ؛ فهو ممن اتخذ الشيطانَ وليّاً ، فالله يَعلمه ، لا يخفى عليه أمره ، وعلى الله حسابه ، ثم إن شاء عَذَّبه ، وإن شاء غَفَرَ له. هـ. فيقال للواعظ أو الداعي إلى الله : لا تأسَ عليهم إن أدبروا ،
360
الله حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله ، يُنذر الناس بالقرآن ، فمَن تبعه كان من أهل الجنة ، ومَن خالفه كان من أهل السعير ، وبقي خلفاؤه من بعده ، العلماء بالله ، الذين يُذكِّرون الناس ، ويدلونهم على الله ، فمَن صَحِبَهم وتبعهم كان من أهل الجنة ؛ جنة المعارف ، أو الزخارف ، أو هما ، ومَن انحرف عنهم كان من أهل السعير ، نار القطيعة أو الهاوية.
قال القشيري : كما أنهم اليومَ فريقان ؛ فريق في درجات الطاعات وحلاوة العبادات أو المشاهدات ، وفريق في ظلمات الشِّركِ وعقوبات الجحد ، فكذلك غداً ، فريقٌ هم أهل اللقاء ، وفريق هم أهل الشقاء. {ولو شاء الله} أي : أراد أن يجمعهم كلهم على الرشاد لم يكن مانع. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 359
(6/538)
وقوله تعالى : {فاللهُ هو الوليُّ} تحويش إلى التوجُّه إلى الله ، ورفض كل ما سواه ، كما قال بعضهم : اتخذ الله صاحباً ، ودع الناس جانباً ، فكل مَن والى غيرَ الله تعالى خذله ، ومن حُبه أبعده.
جزء : 6 رقم الصفحة : 359
يقول الحق جلّ جلاله : {وما اختلفتمْ فيه من شيءٍ فحُكمه إِلى الله} ، حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ، بدليل قوله : {ذلكم اللهُ ربي} أي : ما خالفكم الكفار فيه من أهل الكتاب والمشركين ، من أمور الدين ، واختلفتم أنتم وهم ، فحُكم ذلك المختلف فيه راجع إلى الله ، ومُفوض إليه ، وهو إثابةُ المحقّين فيه ، ومعاقبة المبطلين. والمختار العموم ، أي : وما اختلفتم فيه أيها الناس من أمور الدين ، سواء رجع ذلك الاختلاف إلى الأصول أو الفروع ، فحُكم ذلك إلى الله ، وقد قال في آية أخرى : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء : 59].
فكل ما اختلف فيه يُردّ إلى كتاب الله ، ثم إلى سنّة رسول الله ، ثم إلى الإجماع ، ثم القياس ، فهذه هي قواعد الشريعة ، وعليها بُنيت الأحكام ، فمَن خرج عنها فهو مبطل ، ففي كتاب الله ، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من علم الأصول والفروع ما فيه غُنية ، فإن لم يوجد نص فالإجماع أو القياس.
وقيل : ما اختلفتم فيه من العلوم ، التي لا تتصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم.
361
ثم قال : {ذلكم اللهُ ربي} أي : ذلكم العظيم الشأن ؛ الله مالكي ومدبر أمري ، {عليه توكلتُ} في جميع أموري ، لا على غيره ، {وإِليه أُنيبُ} ؛ أرجع في كل ما يعرض لي ، لا إلى أحد سواه. وحيث كان التوكُّل أمراً واحداً مستمراً ، والإنابة متعددة ، متجددة بحسب تجدُّد مؤداها ، أُوثر في الأول صيغة الماضي ، والثاني صيغة المضارع.
(6/539)
{فاطرُ السماواتِ والأرضِ} ؛ خالقهما ومظهرهما ، وهو خبر ثان لذلكم ، أو عن مضمر ، {جعل لكم من أنفسكم} ؛ من جنسكم {أزواجاً} ؛ نساء {ومن الأنعام أزواجاً} أي : وجعل للأنعام من جنسها أزواجاً ، أو : خلق لكم من الأنعام أصنافاً ؛ ذكوراً وإناثاً ، {يذرؤكم فيه} أي : يكثّركم فيما ذكر من التدبير البديع ، من : الذرء ، وهو البث ، فجعل الناس والأنعام أزواجاً ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، واختير لفظ " فيه " على " به " ؛ لأنه جَعَل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. والضمير في " يذرؤكم " يرجع إلى المخاطَبين والأنعام ، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على غيرهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 361
وقال الهروي : {يذرؤكم فيه} أي : يكثّركم بالتزويج ، كأنه قال : يذرؤكم به. هـ. وقال ابن عطية : لفظة " ذرأ " تزيد على لفظة " خلق " معنى آخر ، ليس في خلق ، وهو توالي طبقاته على مرّ الزمان ، وقوله : " فيه " الضمير عائد على الجعل. وقال القتبي : الضمير للتزويج. هـ.
{ليس كمثله شيءٌ} أي : ليس مثله شيء في شأن من الشؤون ، التي من جملتها هذا التدبير البديع. قيل : إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل ؛ لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة. قال ابن عطية : الكاف مؤكدة للتشبيه ، فنفي التشبيه أوكد ما يكون ، وذلك أنك تقول : زيد كعمرو ، وزيد مثل عمر ، فإذا أردت المبالغة التامة قلت : زيد كمثل عمرو ، وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب ، وعلى هذا المعنى شواهد كثيرة. هـ.
قال النسفي : وقيل : المثل زائد ، والتقدير : ليس كهو شيء ، كقوله تعالى : {فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ} [البقرة : 137] ، وهذا لأن المراد نفي المثليّة ، وإذا لم نجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل. هـ. والجواب ما تقدّم لابن عطية.
(6/540)
وقيل : الآية جرت على طريق الكناية ، كقولهم : مثلك لا يبخل ، وغيرك لا يجود ، أي : أنت لا تبخل ؛ لأنه إذا نفي البخل عمن هو مثله كان نفيه عنه أولى.
ثم قال تعالى : {وهو السميعُ البصيرُ} ؛ سميع لجميع المسموعات بلا آذان ، بصير بجميع المبصرات بلا أجفان. وذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له ، كما لا مثل له ، وقدّم تنزيهه عن المماثلة على وصفه بالسمع والبصر ليعلمنا أن سمعه وبصره ليس كسمعنا وبصرنا.
362
{له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ} مفاتيح خزائنها ، {يبسطُ الرزقَ لمَن يشاءُ} أي : يوسعه {ويَقْدرُ} أي : يُضيق على ما تقتضيه المناسبة المبنية على الحِكَم البالغة. {إِنه بكل شيءٍ عليمٌ} لا يخفى عليه شيء ، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل ، على ما تقتضيه مشيئته وحكمته البالغة.
قال ابن عرفة : تضمنت هذه الآية وصفه تعالى بجميع صفات الكمال ، فالقدرة في قوله : {فاطر السماوات والأرض} والوحدانية في قوله : {ليس كمثله شيء} والإرادة في قوله : {يبسط الرزق لمَن يشاء} ؛ لأن تخصيص البعض بالبسط إنما هو بالإرادة. والعلم في قوله : {إنه بكل شيء عليم} ، والكلام في قوله : {شرع لكم من الدين} ؛ لأن المراد به الحكم الشرعي ، وهو خطاب الله تعالى المعلّق بأفعال المكلفين ، وخطابه كلامه. هـ. زاد في الحاشية الفاسية : يعني وكل وصف من هذه الأوصاف يستلزم الحياة ، مع أنه قال : {يُحيي الموتى} والإحياء إنما يكون من الحي. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 361
(6/541)
الإشارة : قوله تعالى : {وما اختلفتم فيه من شيء} قال القشيري : ويُقال إذا لم تهتدوا إلى شيء وتعرضت منهم الخواطر ؛ فَدَعُوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلِّ شهود تقديره ، وانتظروا ما الذي ينبغي لكم أن تفعلوا بحُكم تيسيره. ويقال : إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم ، فلا تدرون أبالسعادة جَرَى حُكْمُكم ، أو بالشقاوة جرى اسمُكم ، فَكِلوا الأمرَ فيه إلى الله ، واشتغلوا في الوقت بأمر الله ، دون التفكُّر فيما ليس له سبيل إلى عِلْمِه من عواقبكم. هـ.
وقوله : {فاطرُ السماوات والأرض} أي : شققهما من أسرار الغيب ، ومتجلٍّ بهما وسائر الكائنات. جعل لكم في عالم الحكمة من أنفسكم أزواجاً ليقع التناسل ، بعضكم من بعض ، ومن الأنعام أزواجاً ليقع التناسل فيها ؛ وأما بحر الجبروت فليس كمثله شيء. وقال بعض العارفين : ليت شعري هل معه شيء حتى يشبهه أو لا يشبهه ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان. فقوله تعالى : {ليس كمثله شيء} أي : ليس معه شيء حتى يشبهه.
وقال الورتجبي عن الواسطي : أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية ؛ لأنه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة ، والعبارة منقوضة ؛ لأن الحق لا يُنعت على أقداره ؛ لأن كل ناعت مُشرف على المنعوت ، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق. وقال الشبلي : كل ما ميزتموه بأوهامكم ، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم ، فهو مصروف إليكم ، ومردود عليكم ، محدث مصنوع مثلكم ؛ لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة ، أو يدركها وهم ، أو يحيط بها علم ، كلا ، كيف يحيط به علم ، وقد اتفق فيه الأضداد ، بقوله : {هُوَ الأَوَّلُ وَالأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد : 3] ؟ أيّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ ؟ كلاّ ، قصرت عنه العبارة ، وخرست الألسن لقوله : {ليس كمثله شيء}. هـ.
363
جزء : 6 رقم الصفحة : 361
(6/542)
يقول الحق جلّ جلاله : {شَرَعَ} أي : بيَّن وأظهر {لكم من الذين ما وَصَّى به نوحاً} ومَن بعده مِن أرباب الشرائع ، وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم السلام ، وأمَرَهم به أمراً مؤكداً. وفي بيان نسبته إلى المذكورين تنبيه على كونه ديناً قديماً ، أجمع عليه الرسل ، على أن تخصيصهم بالذكر لِمَا ذكر من علو شأنهم ، ولاستمالة قلوب الكفرة إليه ؛ لاتفاق الكل على نبوة جُلهم. قيل : خصّ نوحاً وإبراهيم بالوصية ، ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالوحي ؛ لأن متعلق الوصية غير الموصي ، بل الموصى إليه به ، ومتعلق الوحي : الموحى إليه بذاته ، ولمَّا كان صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء جعل المُلقى إليه وحياً ، ولمَّا كان ما قبله من الأنبياء متبعين له ، ومنذِرين بشريعته ، أنه سيظهر آخر الزمان نبي اسمه " محمد " ، كان ذلك وصية منهم لقومهم على الإيمان به. انظر ابن عرفة.
قلت : والظاهر أنه تفنُّن ، وفرار من تكرار لفظ الوحي ؛ إذ الموحى به هو قوله : {أنْ أقيموا الدِّين} وهو الذي أوحي إلى نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وقال أبو السعود : والتعبير عن ذلك عند نسبته صلى الله عليه وسلم بـ " الذي " لتفخيم شأنه من تلك الحيثية ، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة ـ يعني في صدر السورة ـ من قوله : {كذلك يُوحي إليك...} وفي آخرها من قوله : {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} ، ولِما في الإيحاء من التصريح برسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ القامع لإنكار الكفرة. والالتفات إلى نون العظمة إظهاراً لكمال الاعتناء بإيحائه ، وهو السر في تقديمه على ما قبله مع تقدمه عليه زماناً. وتقديم وصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً ـ أي : فلا ينبغي إنكاره ـ وتوجيه الخطاب إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بطريق التلوين ؛ للتشريف ، والتنبيه على أنه تعالى شرع لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام. هـ.
(6/543)
جزء : 6 رقم الصفحة : 364
ثم فسَّر ما وصاهم به فقال : {أنْ أقيموا الدينَ} أي : دين الإسلام ، الذي هو توحيد الله تعالى ، وطاعته ، والإيمان بكتبه ورسله ، وبيوم الجزاء ، وسائر أركان الإيمان. والمراد بإقامته : تعليل أركانه ، وحفظه من أن يقع فيه زيغ ، والمواظبة عليه ، والتشمير في القيام به. وموضع " أن أقيموا " إما : نصب ، بدل من مفعول " شرع " ، أو : رفع ، خبر جواب عن
364
سؤال مقدَّر ، كأن قائلاً قال : وما ذاك ؟ فقال : هو إقامة الدين. {ولا تتفرقوا فيه} ؛ ولا تختلفوا في الدين ، فالجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، والمراد : الاختلاف في الأصول ، دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار ، كما ينطق به قوله تعالى : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة : 48].
{كَبُرَ على المشركين} أي : عظم وشقّ عليهم {ما تدعوهم إِليه} من التوحيد ، ورفض عبادة الأصنام ، الذي هو إقامة الدين ، {اللهُ يجتبي} أي : يجلب ويجمع {إِليه مَن يشاء} بالتوفيق والتسديد ، {ويهدي إِليه مَن يُنيبُ} ؛ يُقبل على طاعته. فالاجتباء يرجع إلى تصديق القلب ، والإنابة إلى توفيق الطاعة في الظاهر.
{وما تَفرقوا} أي : أهل الكتاب من بعد أنبيائهم {إِلا مِن بعد ما جاءهم العلمُ} ؛ إلا بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال ، وأمر متوعّد عليه على ألسنة الرسل ، {بغياً بينهم} حسداً ، وطلباً للرئاسة ، والاستطالة بغير حق ، أو : ما تفرّقوا في الدين الذي دُعوا إليه ، وهو الإسلام ، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم إلا مِن بعد ما جاءهم العلم بحقيقته ؛ لما يشهدونه في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن من دلائل الحقيّة ، حسبما وجدوه في كتبهم ، أو : العلم بمبعثه صلى الله عليه وسلم.
(6/544)
{ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك} ، وهي العِدَة بتأخير العقوبة {إِلى أجلٍ مسمى} هو يوم القيامة {لقُضي بينهم} أي : لوقع القضاء بينهم ، وأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترنوا. {وإِن الذين أُورثوا الكتاب مِن بعدهم} وهم المشركون {لفي شك منه} أي : القرآن {مُريبٍ} ؛ مُوقع في الريبة. وهو بيان لكيفية كفر المشركين ، بعد بيان كيفية كفر أهل الكتاب ، أي : وإن المشركين الذي أُوتوا القرآن من بعدهم ، أي : من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ، لفي شك من القرآن مريب. والظاهر : أن التفرُّق المذكور هنا إنما هو في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن سياق النظم إنما هو لبيان أحوال هذه الأمة ، وإنما ذكر مَن ذكر من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم ، أجمع عليه أولئك الأعلام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ تأكيداً لوجوب إقامته ، وتشديداً للزجر عن التفرُّق والاختلاف. فالتعرُّض لبيان تفرُّق أممهم عنه ربما يُوهم الإخلال بذلك المرام. قاله أبو السعود.
جزء : 6 رقم الصفحة : 364
الإشارة : الذي شرع الله من الدين لأقوياء عباده ، ووصّى به خواص أنبيائه : أن يشاهدوه وحده في الباطن ، ويقوموا برسم العبودية في الظاهر ، وهذا هو إقامة الدين ، الذي يجب الاتفاق عليه ، لكن لا ينال هذا إلا بعد موت النفوس ، وحط الرؤوس ، وبذل الفلوس. ولذلك كَبُرَ على أهل الفَرْق ، قال تعالى : {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} ، فإذا وفق العبد لفعل ما تقدم ، وسلك طريقه ؛ اجتباه ربه لحضرته ، بعد أن هداه لسلوك طريقته. قال تعالى ؛ {الله يجتبي إليه مَن يشاء ويهدي إليه مَن ينيب} فالاجتباء
365
(6/545)
جذب ، والإنابة سلوك ، الاجتباء للحقيقة ، والإنابة للشريعة والطريقة. وقدّم الاجتباء على الاهتداء اهتماماً بأمره ؛ لأن الجذب عناية يختص به أهل الولاية ، والإنابة هداية ينالها كل مَن تمسّك بالشريعة. وحقيقة الجذب : شهود الخلق بلا خلق ، وحقيقة السلوك المحض : شهود الخلق بلا حق ، وحقيقة الجذب في السلوك : شهود الحق في قوالب الخلق ، أو : شهود الخلق في مظهر الحق.
فالناس ثلاثة : مجذوبون فقط ، سالكون فقط ، مجذبون سالكون ، فالأولان لا يصلحان للتربية ، والثالث هو الذي يصلح للتربية ، وهو الذي يتقدمه السلوك ، ثم يختطف إلى الحضرة في مقام الفناء ، ثم يرجع إلى السلوك في مقام البقاء. وما وقع من التفرُّق والاختلاف في جانب النبوة ، يقع في جانب الولاية ، سُنَّة ماضية ، فيجب على الداعي إلى الله أن يجهد نفسه في الدعاء إليه ، ولا يبالي باختلافهم
جزء : 6 رقم الصفحة : 364
يقول الحق جلّ جلاله : {فلذلك فادْعُ} أي : فلأجل ذلك التفرُّق ، ولما حدث بسببه من تشعُّب الكفر شعباً ، فادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملّة الحنيفيّة القيّمة ، {واستقِمْ} عليها ، وعلى الدعوة إليها {كما أُمرتَ} ؛ كما أمرك الله. أو : لأجل ما شرع لكم من الدين القويم القديم ، الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون ، فادع الناس كافة إلى إقامته ، والعمل بموجبه ؛ فإن كلاًّ من تفرقهم وشكِّهم ، سبب للدعوة إليه والأمر بها ، أو : فإلى ذلك الدين المشروع فادع ، واستقم عليه ، وعلى الدعوة إليه ، كما أُمرت وأوحي إليك.
(6/546)
{ولا تتبع أهواءهم} الباطلة ، وعقائدهم الزائغة ، {وقل آمنتُ بما أنزلَ اللهُ من كتاب} أيّ كتاب كان من الكتب المنزلة ، لا كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وهم أهل الكتاب ، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [النساء : 151] ، وفيه تحقيق للحق ، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول ، وتأليف لقلوب أهل الكتابين ، وتعريض بهم. {وأُمرتُ لأعْدِلَ بينكم} في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ ، أو : في تبليغ الشرائع والأحكام ، لا أخص بعضاً دون بعض ، أو : لأُسوِّي بيني وبينكم ، ولا آمركم بما لا أعملُ به ، ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه. أو : لا أفرق بين أكابركم وأصاغركم. واللام : إما على حقيقتها ، أي : أمرت بذلك لأعدل ، أو : زائدة ، أي : أمرت أن أعدل بينكم.
{اللهُ ربُّنا وربُّكم} خالقنا جميعاً ، ومتولي أمورنا ، كلنا عبيده ، {لنا أعمالنا} لا يتخطانا ثوابها أو عقابها ، {ولكم أعمالكم} لا يجاوزكم وبالها إلى غيركم ، أو : لنا ديننا
366
التوحيد ، ولكم دينكم الشرك. {لا حُجةَ بيننا وبينكم} أي : لا خصومة ؛ لأن الحق قد وضح ، ولم يبق للمحاجّاة حاجة ، ولا للفصاحة محل ، سوى المكابرة. {اللهُ يجمع بيننا} يوم القيامة {وإِليه المصيرُ} ؛ المرجع ، فيظهر هناك حالنا وحالكم. وهذه محاججة ، لا متاركة ، فلا نسخ فيها.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
(6/547)
والذين يُحاجُّون في الله} ؛ يُخاصمون في دينه {من بعد ما اسْتُجيبَ له} ؛ من بعد ما استجاب له الناس ، ودخلوا فيه ، ليردّوهم إلى دين الجاهلية ، كقوله : {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً...} [البقرة : 109] ، والتعبير عن ذلك بالاستجابة ؛ باعتبار دعوتهم إليه ، أو : من بعد ما استجاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأيّده بنصره ، كيوم بدر ، أو : من بعد ما استجاب له أهل الكتاب ، بأن أقرُّوا بنعوته صلى الله عليه وسلم ، واستفتحوا به قبل مبعثه. وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، فنحن خيرٌ منكم ، فنزلت : {والذين يُحاجون...} الآية. {حُجتُهم داحضةٌ} ؛ باطلة ، {عند ربهم} ، وإذا كانت داحضة من حيث كونه ربّاً رؤوفاً فأحرى من حيث كونه قاهراً منتقماً. وسمّاها حُجة ، وإن كانت شُبهة ؛ لزعمهم أنها حُجة. {وعليهم غَضَبٌ} عظيم ، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره {ولهم عذاب شديدٌ} لا يُقادر قدره.
(6/548)
الإشارة : إذا استولت الغفلة على الناس ، وتفرّقت القلوب ، يجب على أهل البصيرة النافذة أن يتحركوا لوعظ الناس وتذكيرهم ، ولا يلتفتون إلى أهوائهم ، وما هو مشغوفون به من حظوظهم. قال تعالى : {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم} فتدعون الناس إلى التوحيد ، وإقامة الشرائع ، بامتثال الأوامر ، واجتناب المناكر ، ثم يدسونهم إلى حضرة الحق ، إن رأوا منهم مَن هو أهله ، فمَن فعل هذا كان قدره عند الله عظيماً ، وجاهه كبيراً. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفس محمد بيده ؛ إن شئتم لأُقسمنّ لكم : إِنَّ أحب عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده ، ويُحببون عباد الله إلى الله ، ويمشون في الأرض بالنصيحة ". ومن وظيفته أن يقول : آمنتُ بما أنزل الله من كتاب ، وما بعث من نبي ووليّ ، وأمُرتُ لأعدل بينكم في الوعظ ، والنصيحة ، وإمداد المدد ، لكن يأخذ كل واحد على قدر صدقه وتعظيمه ، ثم يقول : {الله ربنا وربكم} ، يخص برحمته مَن يشاء ، لنا أعمالنا : ما يليق بنا من عبادة القلوب ، ولكم أعمالكم : ما تطيقونه من عبادة الجوارح ، لا خصومة بيننا وبينكم ؛ لأن قلوبنا سالمة لكم. الله يجمعُ بيننا وبينكم في الدنيا بجمع متصل ، وإليه مصير الكل بالموت والفناء. والذين يُحاجون في الله ، أي : يخاصمون في طريق الله ، ويقولون : انقطعت التربية ، حُجتهم داحضة ، وعليهم غضب البُعد ، ولهم عذاب الكدّ والتعب.
367
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
(6/549)
يقول الحق جلّ جلاله : {اللهُ الذي أنزل الكتابَ} ؛ القرآن ، أو : جنس الكتاب ، {بالحق} ؛ ملتبساً بالحق في أحكامه وأخباره ، أو : بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام ، {والميزانَ} ؛ وأنزل العدل والتسوية بين الناس ، أي : أنزله في كتبه المنزلة ، وأمر به ، أو : الشرع الذي يُوزن به الحقوق ، ويساوي بين الناس. وقيل : هو عين الميزان ، أي : الآلة ، أنزله في زمن نوح عليه السلام. {وما يُدريكَ} أيَّ شيء يجعلك عالماً {لعلَّ الساعةَ} التي أخبر بها الكتاب الناطق بالحق {قريبٌ} مجيئها. وضمّن الساعة معنى البعث فذكر الخبر ، وقيل : وجه المناسبة في ذكر الساعة مع إنزال الكتاب : أن الساعة يقع فيها الحساب ووضع الموازين بالقسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية ، والعمل بالشرائع ، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ، ووزن أعمالكم.
{يستعجلُ بها الذين لا يؤمنون بها} استعجال إنكار واستهزاء ، {والذين آمنوا مُشْفِقُون} ؛ خائفون {منها} وجلون ؛ لهولها ، {ويعلمون أنها الحقُّ} الكائن لا محالة ، {أَلا إِنَّ الذين يُمارون في الساعة} ؛ يجادلون فيها ، من : المرية ، أو : المماراة والملاحاة ، أو : من : مريت الناقة : إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب ؛ لأن كُلاًّ من المتجادلين يُخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. {لفي ضلالٍ بعيدٍ} عن الحق ؛ لأن قيام الساعة أظهر من كل ظاهر ، وقد تواترت الشرائع على وقوعها ، والعقول تشهد أنه لا بد من دار الجزاء ، وإلا كان وجود هذا العالم عبثاً.
(6/550)
{اللهُ لطيف بعباده} أي : برٌّ بهم في إيصال المنافع ودفع المضار ، أوصل لهم من فنون الألطاف ما لا تكاد تناله أيدي الأفكار والظنون. وقيل : هو مَن لطُف بالغوامض علمه ، وعظُم عن الجرائم حلمه ، أو : مَن ينشر المناقب ويستر المثالب ، أو : يعفو عمَّن يهفو ، أو : مَن يعطي العبد فوق الكفاية ، ويكلّفه من الطاعة دون الطاقة. وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه : الظاهر حمل العباد على ما اصطفاه ، بدليل الإضافة المفيدة للتشريف ، وأنه تعالى لطيف بهم رفيق ، ومن ذلك : حمايتهم من الدنيا ، ومما يطغى من الرزق ، وعليه ينزل قوله : {يرزق مَن يشاء}. هـ. أي : يرزق على حسب مشيئته ، المبنية على الحِكَم البالغة. وفي الحديث : " إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا
368
الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإِنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك ". وأما قوله تعالى : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود : 6] فهو وعد لجميع الخلق ، وهو مبني على المشيئة المذكورة هنا ، فلا منافاة بينهما ، خلافاً لابن جزي ؛ لأن المشيئة قاضية على ظاهر الوعد ، ولا يقضي ظاهر الوعد عليها. انظر الحاشية.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 368
وهو القويُّ} ؛ الباهر القدرة ، الغالب على كل شيء ، {العزيزُ} المنيع ؛ الذي لا يُغْلَب.
(6/551)
الإشارة : الميزان هو العقل ؛ إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها ، نافعها وضارها. فالعقول متفاوتة كالموازين ، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع ، كالذهب ، والإكسير ، والفضة ، والطيب الرفيع ، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة ، دون الخشينة ، كميزان العطار وشبهه ، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة ، كميزان الغزالين والحاكة ، وبعضها لا يصلح إلا للخشين ، كالفحم وشبه ، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير ، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين ، فالأول عقول العارفين ، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، لا يصلح لغيرها ، والثاني للعباد ، والزهّاد ، والعلماء الصالحين ، والثالث للمتجمدين من العلماء ، والرابع لعامة المؤمنين ، والخامس للفجار والكفار ، وفيهم نزل : {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها...} الآية ، وما قبله هو قوله : {والذين آمنوا مشفقون منها}.
وقوله تعالى : {اللهُ لطيف بعباده} ، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق ، مَن ظنَّ انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره ، فمِن لطفه سبحانه بخلقه : أنه أعطاهم فوق الكفاية ، وكلَّفهم دون الطاقة. ومِن لطفه سبحانه : تسهيله الأرزاق ، وتيسير الارتفاق ، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه ، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية ؛ لتحقق بغاية عجزه ، وتيقن بوجود لطفه ، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب ، وملبوس ، ومطعوم. ومن لطفه سبحانه : توفيق الطاعات ، وتسهيل العبادات ، وتيسير الموافقات. ومن لطفه سبحانه : حفظ التوحيد في القلوب ، واطلاعها
369
(6/552)
على مكاشفة الغيوب ، وصيانة العقائد عن الارتياب ، وسلامة القلوب عن الاضطراب. ومن لطفه سبحانه : إيهام العاقبة ؛ لئلا يتكلموا أو ييأسوا. ومن لطفه سبحانه بالعبد : إخفاء أجله عليه ؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ومن لطفه سبحانه بخواصه : ستر عيوبهم ، ومحو ذنوبهم ، حتى وصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه ، فكشف لهم عن أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، فشاهدوه جهراً ، وعبدوه شكراً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 368
يقول الحق جلّ جلاله : {مَن كان يُريد حرثَ الآخرةِ} ، سُمِّي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة المستقبلة حرثاً ، مجازاً ؛ لأن الحرث : إلقاء البذر في الأرض لننظر نتاجه ، فأطلقه على العمل ، لجامع حصول النتاج ، أي : مَن كان يريد بأعماله ثواب الآخرة {نَزِدْ له في حَرْثِه} ؛ نضاعف له ثوابه ، الواحدة بعشر إلى سبعمائة فما فوقها ، أو : نَزِدْ له في توفيقه وإعانته ، وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه. {ومَن كان يريد} بأعماله {حَرْثَ الدنيا} وهو متاعها وطيباتها {نُؤْتِهِ منها} أي : شيئاً منها ، حسبما قسمناه له ، لا ما يريده ويبتغيه ، {وما لهُ في الآخرة من نصيبٍ} إذا كانت همته مقصورة على الدنيا. ولم يذكر في عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه ، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده ، من زكاء أعماله ، وفوزه في المآب ؛ لأن ما يُعطى في الآخرة يستحقر أن يُذكر معه غيره من الدنيا.
(6/553)
الإشارة : قد مرّ مِراراً ذم الدينا وصرف الهمة إليها ، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض خطبه : " أيها الناس ، أَقبِلوا على ما كلفتموه من صالح آخرتكم ، وأَعْرِضوا عما ضُمِنَ لكم من أمر دنياكم ، ولا تشغلوا جوارحكم جوارح غذيت بنعمته في التعرُّض لخطأ بمعصيته ، واجعلوا شغلكم بالتماس معرفته ، واصرفوا هممكم إلى التقرُّب بطاعته ، إنه مَن بدأ بنصيبه من الدنيا فاته نصيبُه من الآخرة ، ولم يدرك منها ما يريد ، ومَن بدأ بنصيبه من الآخرة وصل إليه نصيبه من الدنيا ، وأدرك من الآخرة ما يريد ". قال الورتجبي : حرث الآخرة : مشاهدته ووصاله وقربه ، وهذا للعارفين ، وحرث الدنيا : كرامات الظاهر ، ومَن شغلته الكرامات احتجب بها عن الحق. ثم قال : عن بعضهم : مَن عَمِل لله محبة له ، لا طلباً للجزاء ، صغر عنده كل شيء دون الله ، فلا يطلب حرث الدنيا ، ولا حرث الآخرة ، بل يطلب الله من الدنيا والآخرة. ثم قال : حرث الدنيا :
370
قضاء الوطر منها ، والجمع منها ، والافتخار بها ، ومَن كان بهذه الصفة فما له في الآخرة من نصيب. هـ. وقال بعض الشعراء في هذا المعنى :
يا مؤثرَ الدنيا على دينه
ومشترٍ دنياه بالآخره>> بعتَ الذي يبقى بما ينقضي
تبّاً لها من صفقة خاسره
جزء : 6 رقم الصفحة : 370
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ...}
(6/554)
يقول الحق جلّ جلاله : {أم لهم شركاءُ شرعوا لهم من الدين} ، " أم " : منقطعة ، أي : بل ألهم شركاء ، أو : معادلة لمحذوف ، تقديره : أقبلوا ما شرعت لهم من الدين ، أم لهم آلهة شرعوا من الدين {ما لم يأذن به اللهُ} أي : لم يأمر به ، {ولولا كلمةُ الفصل} أي : القضاء السابق بتأخير الجزاء ، أي : ولولا العِدة بأن الفصل يكون يوم القيامة {لقُضِيَ بينهم} ؛ بين الكفار والمؤمنين. أو : لعجلت لهم العقوبة. {وإِنَّ الظالمين لهم عذابٌ أليمٌ} ؛ وإن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة ، وإن أخّر عنهم في دار الدنيا.
{ترى الظالمينَ} ؛ المشركين في الآخرة {مُشفقينَ} ؛ خائفين {مما كسبوا} ؛ من جزاء كفرهم ، {وهو واقع} ؛ نازل {بهم} لا محالة ، أشفقوا أم لم يُشفقوا. {والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجناتِ} كأنّ روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها ، فالروضات : المواضع المونقة النضرة ، فهم مستقرون في أطيب بقعها وأنزهها. {لهم ما يشاؤون عند ربهم} أي : ما يشتهون من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم ، {ذلك هو الفضلُ الكبير} الذي لا يُقادر قدره ، ولا يبلغ غايته على العمل القليل ، فضلاً من الكبير الجليل.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 371
ذلك الذي يُبَشِّرُ اللهُ} تعالى ، {عبادَه} فحذف عائد الموصول. ويقال : بشَّر وبشر ، بالتشديد والتخفيف ، وقرىء بهما. ثم وصف المبشرين بقوله : {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} دون غيرهم.
الإشارة : كل مَن ابتدع عملاً خارجاً عن الكتاب والسنّة فقد شرع من الدين ، ما لم يأذن به الله ، فينسحب عليه الوعيد ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " مَن سنَّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَن
371
(6/555)
عمل بها إلى يوم القيامة ". وقوله تعالى : {والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضاتِ الجنات} قال القشيري : في الدنيا جنة الوصلة ، ولذاذة الطاعة والعبادة ، وطيب الأُنْسِ في أوقات الخلوة ، وفي الآخرة في روضات الجنات ، إن أرادوا دوامَ اللطفِ دامَ لهم ، وإن أرادوا تمامَ الكشف كان لهم. هـ.
ولمَّا كان من شأن المبشر بالخير أن يلتمس الأجر ، نزّه نبيه عن ذلك ، فقال :
{... قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىا وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}.
يقول الحق جلّ جلاله : {قل} يا محمد {لا أسألكم عليه} ؛ على التبليغ {أجراً}. رُوي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون أن محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً ؟ فنزلت. أي : لا أسألكم على التبليغ والبشارة أجراً ، أي : نفعاً {إِلا المودَة في القربى} ؛ إلا أن تودوا أهل قرابتي ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً ، أي : لا أسألكم أجراً قط ، ولكن أسألُكم أن تودُّوا قرابتي التي هم قرابتكم ، ولا تؤذوهم. ولم يقل : إلا مودّة القربى ، أو : المودة للقربى ؛ لأنهم جُعلوا مكاناً للمودة ، ومقرّاً لها ، مبالغة ، كقولك : لي في مال فلان مودة ، ولي فيهم حبّ شديد ، تريد : أحبهم ، وهم مكان حبي ومحله. وليست " في " بصلة للمودة كاللام ، إذا قلت : إلا المودة للقربى ، وإنما هي متعلقة بمحذوف ، تعلُّق الظرف. به والتقدير : إلا المودة ثابتة في القربى ، ومتمكنة فيها. والقربى : مصدر ، كالزلفى والبشرى ، بمعنى القرابة. والمراد : في أهل القربى.
(6/556)
رُوي أنه لما نزلت قيل : يا رسول الله! مَن أهل قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ قال : " عليّ وفاطمة وابناهما " وقيل : معناه : إلا أن تودّوني لقرابتي فيكم ، ولا تؤذوني ، إذ لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قرابة. وقيل : القربى : التقرُّب إلى الله تعالى ، أي : إلا أن تحبُّوا الله ورسوله في تقرُّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 371
ومن يقترفْ} أي : يكتسب {حسنةً} أيّ حسنة كانت ، فيتناول مودة ذي القربى تناولاً أولياً. وعن السدي : أنها المرادة ، قيل : نزلت في الصدّيق رضي الله عنه ومودته فيهم ، والظاهر : العموم ، {نزدْ له فيها حُسْناً} أي : نضاعفها له في الجنة. {إِن الله غفور} لمَن أذنب بِطَوْلِه {شَكورٌ} لمَن أطاع بفضله ، بتوفية الثواب والزيادة ، أو : غفور :
372
قابل التوبة ، شكور : حامل عليها.
الإشارة : محبة أهل البيت واجبة على البشر ، حرمةً وتعظيماً لسيد البشر ، وقد قال : " مَن أَحبهم فبحبي أُحبهم ، ومَن أبغضهم فببغضي أبغضهم " فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الإيمان ، وعقد من عقوده ، لا يتم الإيمان إلا بها ، وكذلك محبة أهل بيته. وفي الحديث صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحبني ، ولا يحبني حتى يحب ذوي قرابتي ، أنا حرْب لمَن حاربهم. وسلْم لمَن سالمهم ، وعدوٌّ لمَن عاداهم ، ألا مَن آذى قرابتي فقد آذاني ، ومَن آذاني فقد آذى الله تعالى " وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام : " إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلُّوا ، كتابُ الله تعالى وعترتي " ، فانظر كيف قرنهم بالقرآن في كون التمسُّك بهم يمنع الضلال.
(6/557)
وقال صلى الله عليه وسلم : " مَن مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ألا ومَن مات على حب آل محمد بدّل الله له زوار قبره ملائكة الرحمة ، ألا ومَن مات على حب آل محمد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومَن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينية : آيس من رحة الله " انظر الثعلبي. زاد بعضهم : ولو عصوا وغيّروا في المذهب ؛ فنكره فعلَهم ونحب ذاتهم. قال الشيخ زروق في نصيحته : وما ينزل بنا من ناحيتهم نعدّه من القضاء النازل. هـ.
وفي همزية البوصيري رحمه الله :
آلَ بيتِ النبيِّ إِنَّ فؤادِي
ليسَ يُسْلِيهِ عَنكم التَّأسَاء
وقال آخر :
آلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبَّكُمُ
فَرْضٌ من الله في القرآنِ أَنْزَلَهُ>> يَكْفِيكُمُ من عظيمِ المجدِ أَنَّكُم
مَنْ لَم يُصَلِّ عليكم لا صَلاَةَ لَهُ
وقوله تعالى : {ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً} ، الزيادة في الدنيا بالهداية والتوفيق ، وفي الآخرة بتضعيف الثواب وحسن الرفيق. قال القشيري : إذا أتانا بالمجاهدة زدناه بفضلنا تحقيق المشاهدة. ويقال : مَن يقترفْ حسنةَ الوظائف نَزِدْ له حُسْنَ اللطائف.
373
ويقال : الزيادة ما لا يصل إليه العبد بوسيلة ، مما لا يدخل تحت طَوْقِ البشر. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 371
يقول الحق جلّ جلاله : {أم يقولون} أي : بل أيقولون {افْتَرى} محمد {على اللهِ كذباً} في دعوة النبوة ، أو القرآن ؟ والهمزة للإنكار التوبيخي ، كأنه قيل : أيمكن أن ينسبوا مثله ـ عليه الصلاة والسلام ـ للافتراء ، لا سيما لعظم الافتراء ، وهو الافتراء على الله ، فإن الافتراء إنما يُسام به أبعد خلق الله ، ومَن هو عرضة للختم والطبع ، فالعجب ممن يفوه به في جانب أكرم الخلق على الله.
(6/558)
{فإِن يشإِ يختمْ على قلبك} ، هذا استبعاد للافتراء على مثله ؛ لأنه إنما يجترىء على الله مَن كان مختوماً على قلبه ، جاهلاً بربه ، أمَّا مَن كان على بصيرة ومعرفة بربه ، فلا ، وكأنه قال : إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك ، لتجترىء بالافتراء عليه ، لكنه لم يفعل فلم تفتر. أو : فإن يشأ الله عدم صدور القرآن عنك يختم على قلبك ، فلم تقدر أن تنطق بحرف واحد منه ، وحيث لم يكن كذلك ، بل تواتر الوحي عليك حيناً فحيناً ؛ تبين أنه من عند الله تعالى. وهذا أظهر.
وقال مجاهد : إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم ، وعلى قولهم : افترى على الله كذباً ؛ لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم. هـ.
{ويَمْحُ اللهُ الباطلَ ويُحِقُّ الحقَّ بكلماته} ، استئناف مقرر لنفي الافتراء ، غير معطوف على " يختم " كما ينبىء عنه إظهار الاسم الجليل ، وإنما سقطت الواو ـ كما في بعض المصاحف ـ لاتباع اللفظ ، كقوله تعالى : {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ...} [الإسراء : 11] مع أنها ثابتة في مصحف نافع. قاله النسفي. أي : ومن شأنه تعالى أن يمحق الباطل ، ويثبت الحق بوحيه ، أو بقضائه ، كقوله تعالى : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء : 18] ، فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه ودمغه. أو : يكون عِدةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه ، ويثبت الحق الذي هو عليه صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصره عليهم ، وقد فعل ذلك ، فمحا باطلهم ، وأظهر الإسلام. {إِنه عليم بذاتِ الصدور} أي : عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك من المحو والإثبات.
374
{وهو الذي يقبل التوبةَ عن عباده}. يقال : قبلت الشيء منه : إذا أخذته منه ، وجعلته مبدأ قبولك ، وقبلتَه عنه ، أي : عزلته وأبنته عنه. والتوبة : الرجوع عن القبيح بالندم ، والعزم ألا يعود ، ورد المظالم واجب غير شرط.
(6/559)
جزء : 6 رقم الصفحة : 374
قال ابن عباس : لما نزل. {قل لا اسألكم عليه أجراً...} الآية. قال قوم في نفوسهم : ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده ، فأخبر جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد اتهموه ، وأنزل : {أم يقولون افترى على الله كذباً...} الآية ، فقال القوم : يا رسول الله ؛ فإنا نشهد أنك صادق. فنزل : {وهو الذي يقبل التوبة...} هـ.
قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الظمآن الوارد ، فمَن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه ، ولو كانت بقاعُ الأرض خطاياه وذنوبه ". واختلف العلماء في حقيقة التوبة وشرائطها ، فقال جابر بن عبد الله : دخل أعرابي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : اللهم إني أستعيذك وأتوب إليك ، سريعاً ، وكبّر ، فلما فرغ من صلاته ، قال له عليّ : ما هذا ؟ إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين ، وتوبتك تحتاج إلى توبة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة ؟ قال : أسم يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة ، كما أذبتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة ، كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وعن السدي : هي صدقُ العزيمة على ترك الذنوب ، والإنابة بالقلب إلى علاّم الغيوب. وعن سهل : هي الانتقالُ من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وعن الجنيد : هي الإعراض عما سوى الله.
قال الله تعالى : {ويعفو عن السيئاتِ} وهو ما دون الشرك ، يعفو لمَن يشاء بلا توبة ، {ويعلم ما تفعلون} كائناً ما كان ، من خير أو شر ، حسبما تقتضيه مشيئته.
(6/560)
{ويستجيبُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي : يستجيب لهم فحذف اللام كما في قوله : {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطففين : 3] أي : يجيب دعوتهم ، ويثيبهم على طاعتهم ، أو : يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها. قيل لإبراهيم بن أدهم : ما لنا ندعو فلا نُجاب ؟ قال : " لأنه دعاكم فلم تُجيبوا ". {ويَزِيدُهُمْ من فضله} على ما سألوه ، واستحقوه بموجب الوعد. {والكافرون لهم عذابٌ شديد} بدل ما للمؤمنين من الفضل العظيم والمزيد.
الإشارة : قال الورتجبي : {أم يقولون افترى على الله كذباً} فيه تقديس كلامه ،
375
وطهارة نبيه صلى الله عليه وسلم عن الافتراء ، وكيف يفتري وهو مصون من طريان الشك والريب والوساوس والهواجس على قلبه ؟ وقال أيضاً : عن الواسطي : إن يشأ الله يختم على قلبك لكن ما يشاء ، ويمح الله الباطل بنفسه ونعته ، حتى يعلم أنه لا حاجة له إلى أحد من خلقه ، ثم يحقق الحق في قلوب أنشأها للحقيقة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 374
قلت : في الآية تهديد لأهل الدعوى ؛ لأنهم إن داموا على دعواهم الخصوصية بلا خصوصية ؛ ختم الله على قلوبهم بالنفاق ، ثم يمحو الله الباطل بأهل الحق والتحقيق ، فتُشرق حقائقهم على ما يقابلها من البال فتدمغه بإذن الله وقضائه وكلماته.
وقوله تعالى : {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده...} الخ ، لكل مقام توبة ، ولكل رجال سيئات ، فتَوبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من العيوب ، وتوبة خواص الخواص من الغيبة عن شهود علاّم الغيوب. وقوله تعالى : {ويعلم ما تفعلون} يشير إلى الحلم بعد العلم.
(6/561)
وقوله تعالى : {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي : في كل ما يتمنون ، {ويزيدهم من فضله} النظر إلى وجهه ، ويتفاوتون فيه على قدر توجههم ، ومعرفتهم في الدنيا. وذكر في القوت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى : {ويزيدهم من فضله} قال : " يُشفعهم في إخوانهم ، فيدخلهم الجنة " هـ. قال القشيري : ويقال : لمَّا ذكر أن التائبين يقبل توبتهم ، ومَنْ لم يَتُبْ يعفو عن زلَّته ، والمطيع يدخله الجنة ، فلعله خطر ببال أحد : فهذه النار لمَن هي ؟ فقال {والكافرون لهم عذاب شديد} ، ولعله يخطر بالبال أن العصاة لا عذاب لهم ، فقال : (شديد) بدليل الخطاب أنه ليس بشديد هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 374
يقول الحق جلّ جلاله : {ولو بَسَطَ اللهُ الرزقَ لعباده} أي : لو أغناهم جميعاً {لَبَغوا في الأرض} أي : لتَكَبروا وأفسدوا فيها ، بطراً ، ولعلا بعضُهم على بعض بالاستعلاء والاستيلاء ، لأن الغِنى مبطرة مفسدة ، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة. وأصل البغي : تجاوز الاقتصاد عما يجزي من حيث الكمية أو الكيفية. {ولكن يُنَزِّل بِقَدرِ} أي : بتقدير {ما يشاء} أن ينزله ، مما تقضيه مشيئته. يقال : قدره وقدّره قدراً وتقديراً {إِنه بعباده خبير
376
بصير} ؛ محيط بخفايا أمورهم وجلاياها ، فيقدر لكل واحد منهم ما يليق بشأنه ، فيُفقر ويُغني ، ويُعطى ويَمنع ، ويقبض ويبسط ، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ، ولو أغناهم جميعاً لَبَغوا في الأرض ، ولو أفقرهم لهلكوا ، وما ترى من البسط على مَن يبغي ، ومِن البغي بدون البسط ، فهو قليل ، ولكن البغي مع الفقر أقلّ ، ومع البسط أكثر وأغلب ، فالحكمة لا تنافي بغي البعض بدفعه بالبعض الآخر ، بخلاف بغي الجميع. {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ...} [الحج : 40] الآية.
(6/562)
وقال شفيق بن إبراهيم : {لو بسط الله الرزق لعباده} أي : لو رزق الله العباد من غير كسب {لبغوا} ؛ طغوا وسَعَوا في الأرض بالفساد ، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش ، رحمة منه. هـ. أي : لئلا يتفرّغوا للفساد ، ومثله في التنوير. وقال شيخ شيوخنا الفاسي العارف : والظاهر حمل العباد على الخصوص المصْطَفين من المؤمنين ، فإنهم يحمون من الطغيان وبسط الرزق ؛ لئلا يبغوا. هـ.
وقال قتادة : كان يقال : خير الرزق : ما لا يطغيك ، ولا يلهيك ، فذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها " هـ.
رُوي أن أهل الصُّفة تمنوا الغنى ، فنزلت. وقيل : نزلت في العرب ، كانوا إذا أخصبوا تحاربوا ، وإذا جدبوا انتجعوا. هـ.
{وهو الذي يُنَزِّل الغيث} أي : المطر الذي يُغيثهم من الجدب ، ولذا خصّ بالنافع منه ، فلا يقال للمطر الكثير : غيث ، {من بعد ما قنطوا} : يئسوا منه. وتقييد تنزيله بذلك ، مع نزوله بدونه أيضاً ؛ لمزيد تذكُّر كمال النعمة. {وينشُرُ رحمتَه} أي : بركات الغيث ومنافعه ، وما يحصل به من الخصب في كل مكان ، من السهل ، والجبل ، والنبات ، والحيوان. أو : رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر وغيره. {وهو الوليُّ} الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة ، {الحميدُ} ؛ المستحق للحمد على ذلك ، لا غيره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 376
الإشارة : عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار ، ويمنعهم منه فوق الكفاية ؛ لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته ، وفي الحديث : " إن الله يحمي عبده المؤمن ـ أي : مما يضره الدنيا وغيرها ـ كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة " وفي حديث آخر : " إذا أحبّ الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء " ورَوى ابن المبارك ، عن سعيد بن المسيب قال : جاء رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني يا
377
(6/563)
رسول الله بجلساء الله يوم القيامة ؟ فقال : " هم الخائفون ، الخاضعون ، المتواضعون ، الذاكرون كثيراُ " فقال : يا رسول الله ؛ فهم أول الناس يدخلون الجنة ؟ قال : " لا " قال : فمَن أول الناس دخولاً الجنة ؟ قال : " الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة ، فيخرج إليهم ملائكة ، فيقولون : ارجعوا إلى الحساب ، فيقولون : علام نحاسب ؟ والله ما أفيضت علينا الأموال فنفيض فيها ، وما كنا أمراء نعدل ونجور ، ولكنا جاءنا أمره فعبدنا حتى أتانا اليقين " هـ.
قوله : {وهو الذي يُنزل الغيث...} الآية ، كما ينزل غيث المطر على الأرض الميتة ، ينزل أمطار الواردات الإلهية على القلوب الميتة ، فتحيا بالذكر والمعرفة ، بعد أن أيست من الخصوصية.
قال القشيري : بعد كلام : وكذلك العبد إذا ذَبُلَ غُصْنُ وقته ، وتكَدَّرَ صَفْو ودّه ؛ وكسفت شمس أُنسِه ، وبَعُدَ عن الحضرةِ وساحاتِ القرب عَهْدُه ، فربما ينظر إليه الحقُّ نظر رحمة ، فينزل على سِرِّه أمطارَ الرحمة ، ويعود عودُه طريّاً ، ويُنْبِتُ في مشاهد أُنْسِه ورداً جَنِياً ، وأنشدوا في المعنى :
إنْ راعني منك الصُدود
فلعلَّ أيامي تعود>> ولعل عهدك باللِّوى
يحيا فقد تحيا العهود>> والغُصن ييبس تارةً
وتراه مُخْضرّاً يميد
(6/564)
وقوله تعالى : {وهو الوليّ} قال القشيري في شرح الأسماء : الولي هو المتولي لأحوال عباده ، وقيل معناه : المناصر ، فأولياء الله أنصار دينه ، وأشياع طاعته ، والوليّ في صفة العبد : هو مَن يواظب على طاعة ربه ، ومن علامات مَن يكون الحق سبحانه وليَّه : أن يصونه ويكفيه في جميع الأحوال ، ويؤمنه ، فيغار على قلبه أن يتعلق بمخلوق في دفع شر أو جلب نفع ، بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه في كل نَفَس ، فيحقق آماله عند إشارته ، ويجعل مآربه عند خطراته. ومن أمارات ولايته لعبده : أن يديم توفيقه ، حتى لو أراد سوءاً ، أو قصد محظوراً ، عصمه من ارتكابه. ثم قال : ومن أمارات ولايته : أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه. هـ. قلت : " جعل مآربه عند خطراته : ليس شرطاً ؛ لأن هذا من باب الكرامة ، ولا يشترط ظهورها عند المحققين. ورَوى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل ، عن ربه ـ عزّ وجل ـ قال : " مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة ، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، وإني لأغضب لهم ، كما يغضب الليث الحَرِد " انظر بقية الحديث في الثعلبي.
378
جزء : 6 رقم الصفحة : 376
(6/565)
يقول الحق جلّ جلاله : {ومن آياته} الدالة على باهر قدرته ووحدانيته {خلقُ السماواتِ والأرض} على ما هما عليه من تعاجيب الصنعة ، فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه العظيمة ، {وما بثَّ} أي : فرّق {فيهما من دابةٍ} ؛ من حي على الإطلاق ، فأطلق الدابة على مطلق الحيوان ، ليدخل الملائكة. أو : ما يدب على الأرض ، فإن ما يختص أحد الشيئين المجاورين يصح نسبته إليهما ، كقوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن : 22] وإنما يخرج المرجان من الملح ، ولا يبعدُ أن يخلق الله في السموات حيواناً يمشون مشي الأناسيّ على الأرض ، أو : يكون للملائكة مشي مع الطيران ، فوصفوا بالدَّبيب لذلك. {وهو على جَمْعِهم} أي : حشرهم بعد البعث للحساب {إِذا يشاء} أي : في الوقت الذي يشاء {قديرٌ} لا يعجزه شيء.
الإشارة : مِن تعرفاته : إظهار السموات والأرض ، وهذه رسوم المعاني ، وما بثّ فيهما من دابة ، وهذه أشكال توضح أسرار المعاني ، فإذا قبضت المعاني محيت الرسول والأشكال. وقوله تعالى : {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} ، قال القشيري : الإشارة في هذا : أنَّ الحقَّ تعالى يغار على أوليائه أن يَسْكنَ بعضُهم بقلبه إلى بعض ، فأبداً يُبَدّدُ شملهم ، ولا يكاد تتفق الجماعة من أهل القلوب إلا نادراً ، وذلك أيضاً مدة يسيرة ، كما أنشدوا :
رمى الدهرُ بالفتيان حتى كأنَّهم
بأكنافِ أطرافِ السماء نجومُ
وقد يتفضَّل تعالى باجتماعهم في الظاهر ، وذلك وقت نظر الحقّ بفضله إلى العالَم ، وفي بركات اجتماعهم حياةُ العالَم ، وإذ كان قادراً فهو على جمعهم إذا يشاء قدير. هـ.
قلت : مما جرت به عادة الله تعالى في أوليائه : أنه لا يجتمع في موضع واحد منهم اثنان فأكثر إلا قام أحدهما بالآخر ، ويفقد نظامهما ، فلا تكاد تحد أهل النور القوي إلا متباعدي الأوطان ، لئلا يطفي نور إحداهما نورَ الآخر ، وقد يجتمعون نادراً في وقت مخصوص ، وذلك وقت النفحات. كما تقدّم للقشيري.
(6/566)
جزء : 6 رقم الصفحة : 378
يقول الحق جلّ جلاله : {وما أصابكم من مصيبةٍ} غمّ ، أو ألم ، أو مكروه {بما كسبتْ أيديكم} أي : بجنايةٍ كسبتموها ، عقوبةً لكم. ومَن قرأ بالفاء ؛ فـ " ما " شرطية. ومَن
379
قرأ بغيرها فموصلة. وتَعَلقَ بهذه الآية من يقول بالتناسخ ، ومعناه عندهم : أن أرواح المتقدمين حين تموت أشباحها تنتقل إلى أشباح أُخر ، فإن كانت صالحة انتقلت إلى جسم صالح ؛ وإن كانت خبيثة انتقلت إلى جسم خبيث ، وهو باطل وكفر. ووجه التعلُّق : أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألّموا. ويجاب : بأن تألم الأطفال إما زيارة في درجات آبائهم إن عاشوا ، أو في درجاتهم إن ماتوا ؛ لأنهم يلحقون بآبائهم في الدرجة ، ولا عمل لهم إلا هذا التألُّم. والله أعلم.
والآية مخصوصة بالمكلّفين بدليل السياق وهو قوله : {ويعفو عن كثير} أي : من الذنوب فلا يُعاقب عليها ، أو : عن كثير من الناس ، فلا يعاجلُهم بالعقوبة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " واللهُ أكرم من أن يُثَنّي عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا عنه فالله أحلم من أن يعود فيه بعد عفوه " وقال ابن عطاء : مَن لم يعلم أنَّ ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه ، وأن ما عفا عنه مولاه أكثر ، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وقال محمد بن حامد : العبدُ ملازِمٌ للجنايات في كلّ أوان ، وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه ؛ لأن جناية المعصية من وجه ، وجناية الطاعة من وجوه ، والله يُطهِّر العبد من جناياته بأنواع من المصائب ليخفّف عنه أثقاله في القيامة ، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة.
(6/567)
وعن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : هذه أرجى آيةٍ للمؤمنين في القرآن ؛ لأنّ الكريمَ إذا عاقب مرةً لا يُعاقِب ثانياً ، وإذا عفا لا يعود. هـ. وقد تقدّم حديثاً. قال في الحاشية الفاسية : قلت : وإنما يعفو في الدنيا عما يشاء ، ويؤخر عقوبة مَن شاء إلى الآخرة ، فلا يلزم إبطال وعيد الآخرة. ثم الآية إما خاصة بالحدود ، أو بالمجرم المذنب ، وأما مَن لا ذنب له فما يُصيبه من البلاء اجتباء ، وتخصيص ، لا تمحيص. هـ.
قلت : لكل مقام ذنب ، حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فالتمحيص جار في كل مقام ، وراجع ما تقدم عند قوله : {لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ...} [التوبة : 117] وسيأتي عند قوله : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ...} [محمد : 19] ما يبين هذا. والله أعلم.
{
جزء : 6 رقم الصفحة : 379
وما أنتم بمعجزين في الأرض} أي : ما أنتم بفائتين ما قُضيَ عليكم من المصائب ، وإن هجرتم في أقطارها كل مهرب ، {وما لكم من دون الله من وليّ} متولِّ يحميكم منها {ولا نصيرٍ} يدفعها عنكم ، أو يدفع عذابه إن حلّ. الإشارة : إذا كان العبد عند الله في عين العناية أدّبه في الدنيا ، ويبقى في حال قربه ، وإذا كان عنده في عين الإهمال ؛ أمهل عقوبته إلى دار البقاء ، وربما استدرجه بالنعم في
380
حال إساءته ، والعياذ بالله من مكره. وإذا علم العبد أن ما يصيبه في هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص ؛ لم يستوحش منها ، بل يفرح بها ؛ إذ هي علامة العناية ، وإذا كانت على أيدي الناس ، لم يقابلهم بالانتصار ، بل يعفو ويصفح ؛ لعِلمه أن ذلك زيارة وترقية. وقوله تعالى : {ويعفو عن كثير} هذا ـ والله أعلم ـ في حق العامة ، وأما الخاصة ؛ فيشدد عليهم المحاسبة والتأديب ؛ ليرفع مقامهم ، ويُكرم مثواهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 379
(6/568)
يقول الحق جلّ جلاله : {ومن آياته} للدلالة على قدرته ووحدانيته {الجواري} السفن الجارية {في البحر كالأعلام} ؛ كالجبال {إِن يشاء يسكن الرياح} التي تجريها. وقرىء بالإفراد. {فيَظْلَلن رواكدَ على ظهره} ؛ فيبقين ثوابت على ظهر البحر ، أي : غير جاريات لا غير متحركات أصلاً ، {إِن في ذلك لآيات} عظيمة في أنفسها ، كثيرة في العدد ، دلالة على باهر قدرته {لكل صَبَّارٍ شكورٍ} ؛ لكل مَن حبس نفسه عن الهوى ، وصرف همته إلى النظر في آلائه ، أو : لكل صبّار على بلائه ، شكور لنعمائه ، أي : لكل مؤمن كامل ؛ فإن الإيمان نصفان : نصف شكر ، ونصف صبر ؛ لأن الإنسان لا يخلو من ضر يمسه ، أو نفع يناله ، فآداب الضر : الصبر ، وآداب النفع : الشكر ، وأيضاً : راكب السفن ملزوم ، إما للمشقة أو السلامة ، فالصبر والشكر لا زمان له. ولم يعطف إحدى الصفتين على الأخرى ؛ لأنهما لموصوف واحد.
{أو يُوبِقْهُنَّ} أي : يهلكهن ، عطف على قوله : {يُسكنِ} أي : إن يشأ يُسكن الريح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن بعصفها {بما كسبوا} من الذنوب. وإيقاع الإيباق عليهم مع أنه حال أهلهن ؛ للمبالغة والتهويل ، {ويعفُ عن كثيرٍ} منها ، فلا يُجازي عليها ، وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق ، حيث جُزم جزمَه ؛ لأن المعنى : أو إن يشأ يُهلك ويُنج ناساً ، على طريق العفو عنهم. وقرىء : " ويعفو " عن الاستئناف. {ويَعلَمَ الذين يجادلونَ في آياتنا} أي : في إبطالها وردها {ما لهم من محيصٍ} ؛ من مهرب من العذاب. والجملة معلقة بالنفي ، ومن نصب " يعلم " عطفه على عِلة محذوفة ، أي : لينتقم منهم وليعلم ، كما في قوله : {وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ} [مريم : 21]. وقيل غير ذلك. ومَن رفعه فعلى الاستئناف. وقرىء بالجزم ، عطفاً على : " يعف " ، فيكون المعنى : أو إن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء آخرين وتحذير قوم.
الإشارة : ومن آياته الأفكار الجارية في بحر التوحيد ، كالأعلام ، أي : أصحابها
381
(6/569)
كالجبال الرواسي ، لا يهزهم شيء من الواردات ولا غيرها ، إن يشأ يُسكن رياح الواردات عن أسرارهم ، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية ، مستغرقين في شهود الذات العلية ، أو يُوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب ، فيغرقن في الزندقة أو الحلول والاتحاد ، ويعفُ عن كثير ، ويعلم الذين يطعنون في آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 381
يقول الحق جلّ جلاله : {فما أُوتيتم من شيءٍ} مما ترجون وتتنافسون فيه {فمتاعُ الحياةِ الدنيا} أي : فهو متاعها ، تتمتعون به مدة حياتكم ، ثم يفنى ، {وما عند الله} من ثواب الآخرة {خيرٌ} ذاتاً ؛ لخلوص نفعه ، {وأبقى} زماناً ؛ لدوام بقائه. {للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} ، و " ما " الأولى ضُمّنت معنى الشرط ، فدخلت في جوابها الفاء ، بخلاف الثانية. وعن عليّ رضي الله عنه : أن أبا بكر رضي الله عنه تصدَّق بماله كله ، فلامه الناس ، فنزلت الآية.
ثم قال تعالى : {والذين يجتنبون كبائر الإثم} أي : الكبائر من هذا الجنس. وقرأ الأخوان : " كبير الإثم ". قال ابن عباس : هو الشرك ، {و} يجتنبون {الفواحِشَ} وهي ما عظم قُبحها ، كالزنى ونحوه ، {وإِذا ما غَضِبوا} من أمر دنياهم {هم يغفرون} أي : هم الإخِصَّاء بالغفران في حال الغضب ، فيحملون ، ويتجاوزون. وفي الحديث : " مَن كظم غيظه في الدنيا ردّ اللهُ عنه غضبَه يوم القيامة ". {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة} ؛ أتقنوا الصلوات الخمس ، {وأمرُهُم شُورى بينهم} أي : ذو شورى ، يعني : لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعون عليه. وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمورهم. والشورى : مصدر ، كالفتيا ، بمعنى
382
التشاور. {ومما رزقناهم يُنفقون} ؛ يتصدقون.
(6/570)
{والذين إذا أصابهم البغيُ} ؛ الظلم {هم ينتصرون} ؛ ينتقمون ممن ظلمهم ، أي : يقتصرون في الانتصار على ما حُدّ لهم ، ولا يعتدون ، وكانوا يكرهو أن يذلُّوا أنفسَهم فيجترىء عليهم الفسّاق ، فإذا قدروا عفوا ، وإنما حُمدوا على الانتصار ؛ لأن من انتصر ، وأخذ حقه ، ولم يجاوز في ذلك حدّ الله ، فلم يسرف في القتل ، إن كان وليّ دم ، فهو مطيع لله. وقال ابن العربي : قوله : {والذين إذا أصابهم البغي...} الآية ذكر الانتصار في معرض المدح ، ثم ذكر العفو في معرض المدح ، فاحتمل أن يكونَ أحدهُما رافعاً للآخر ، واحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالين ، أحَدُهُما : أن يكون الباغي مُعلناً بالفجور وقحاً في الجمهور ، ومؤذياً للصغير والكبير ، فيكون الانتقامُ منه أفضل ، وفي مثله قال إبراهيم النخعي : يُكره للمؤمنين أن يُذِلُّوا أنفسهم ، فيجترىء عليهم الفُسّاق. وإما أن تكون الفَلتة ، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ، ويسأل المغفرة ، فالعفو ها هنا أفضل ، وفي مثله نزل : {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 277] ، {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ} [النور : 22] الآية. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 382
(6/571)
ثم بيّن حدّ الانتصار ، فقال : {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها} ؛ فالأولى سيئة حقيقة ، والثانية مجازاً للمشاكلة ، وفي تسميتها سيئة نكتة ، وهي الإشارة إلى أن العفو أولى ، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو ، ولذلك عقبه بقوله : {فمَن عَفَا وأصلحَ} بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء {فأجره على الله} ، وهي عِدَةٌ مبهمة لا يقادر قدرها ، {إِنه لا يحب الظالمين} الذين يبدؤون بالظلم ، أو : يتجاوزون حدّ الانتصار. وفي الحديث : " ينادي منادٍ يوم القيامة : مَن كان له أجر على الله فليقم ، فلا يقوم إلا مَن عفا ". {ولمَن انتصرَ بعد ظلمه} أي : أخذ حقه بعدما ظُلم ـ على إضافة المصدر إلى المفعول ـ {فأولئك} جمع الإشارة مراعاة لمعنى " مَن " {ما عليهم من سبيلٍ} للمعاقب ولا للمعاتب {إِنما السبيل على الذين يظلمون الناسَ} ؛ يبتدئونهم بالظلم ، {ويبغون في الأرض} ؛ يتكبّرون فيها ، ويعْلون ، ويفسدون {بغير الحق أولئك لهم عذابٌ أليمٌ} بسبب بغيهم وظلمهم. وفسّر السبيل بالتبعة والحجة.
{ولَمَن صَبَرَ} على الظلم والأذى ، {وغَفَرَ} ولم ينتصر ، أو : وَلَمَن صبر على البلاء من غير شكوى ، وغفر بالتجاوز عن الخصم ، ولا يُبقي لنفسه عليه دعوى ، بل يُبري خصمه من جهته من كل دعوى في الدنيا ، والعقبى ، {إِنَّ ذلك لَمِن عزم الأمور} أي : إن ذلك الصبر والغفران منه لَمِنْ عزم الأمور ، أي : من الأمور التي ندب إليها ، وعزم على فعلها ، أو : مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه ، ولا يترخّص في تركه. وحذف الراجع
383
ـ أي : منه ـ كما حذف في قولهم : السمن مَنْوَانِ بدرهم. وقال أبو سعيد القرشي : الصبر على المكاره من علامات الانتباه ، فمَن صبر على مكروه أصابه ، ولم يجزع ، أورثه الله تعالى حال الرضا ، وهو أصل الأحوال ؛ ومَن جزع من المصيبات ، وشَكى ، وكَلَه إلى نفسه ، ثم لم تنفعه شكواه. هـ. وانظر تحصيل الآية في الإشارة ، إن شاء الله.
(6/572)
قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق ، ثم صفات عُمَر ، ثم صفات عثمان ، ثم صفات عليّ بن أبي طالب ، فأما صفات أبي بكر ، فقوله : {الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر ، وإن كان جميعهم متصفاً بها ، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا مدينة الإيمان ، وأبو بكر بابها " وقال أبو بكر : " لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 382
وأما صفات عمر : فقوله : {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش} ؛ لأن ذلك هو التقوى ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها " ، وقوله : {وإذا ما غَضبوا هم يغفرون} ، وقوله : {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله} نزلت في عمر. وأما صفات عثمان ؛ فقوله : {والذين استجابوا لربهم} ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل ، وفيه نزلت : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً...} [الزمر : 9] الآية. ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة ، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله : {وأمرهم شورى بينهم} ؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى ، وقوله : {ومما رزقناهم يُنفقون} ؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله ، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
(6/573)
وأما صفات عليّ ؛ فقوله : {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} ؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها ، انتصاراً للحق ، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية ، حسبما ورد في الحديث الصحيح ، أنه قال لعمّار : " ويْحَ عمّارٍ ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ " وذلك هو البغي الذي أصابه ، وقوله : {فمَن عفا وأصلح فأجره على الله} إشارة
384
إلى فعل الحسن بن عليّ ، حين بايع معاوية ، وأسقط حق نفسه ، ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن : " إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " وقوله : {ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه ، وطلبه للخلافة ، وانتصاره من بني أمية. وقوله : {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس} إشارة إلى بني أمية ، فإنهم استطالوا على الناس ، كما في الحديث : " إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً ، ومال الله دُولاً " ، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم ، وقوله : {ولمَن صبر وغفر} إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدة بني أمية. هـ.
(6/574)
الإشارة : قوله تعالى : {فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا} أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به ، كما في الخبر ، ولذلك زهَّد فيه بقوله : {وما عند الله خيرٌ وأبقى...} الآية ، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. {والذين يجتنبون كبائر الإثم} هي أمراض القلوب ، كالحسد والكبر والرياء وغيرها ، {والفواحش} هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى : {وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون} لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا ؛ لأن الغضب وصف بشري ، لا ينفك عنه مخلوق ، فالمطلوب المجاهدة في دفعه ، وردّ ما ينشأ عنه ، لا زواله من أصله ، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص ، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه : " مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره ، لا زواله بالكلية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 382
وقوله تعالى : {والذين استجابوا لربهم} قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه ، ولا يبقى لهم منه بقية ، {وأمرهم شورى بينهم} أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي ، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه ، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. هـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات :
الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً ، قدروا أو عجزوا ، لا يتحركون في الانتصار قط ، وهو قوله تعالى : {وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون}.
والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب ، فتحركوا في الانتصار ، ثم عفوا بعد الاقتدار ، وهذا قوله : {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} ، ثم قال : {فمَن عفا وأصلح فأجره على الله}.
385
والثالث : قوم قدروا وانتصروا ، وأخذوا حقهم ، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم ، وهو قوله : {ولمَن انتصر بعد ظلمه...} الآية.
(6/575)
والرابع : قوم ظُلِموا ، فعفوا ، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم ، والدعاء له بالمغفرة ، حتى يصير مرحوماً بهم ، وهي رتبة الصدّيقية ، أن ينتفع بهم أعداؤهم ، وهو قوله تعالى : {ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} ، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون ، والخاصة لا ينتصرون ، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم ، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم ، كما تقدّم. وقال القشيري : {والذين إذا أصابهم البغي} وهو الظلم ، ينتصرون ؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم ، فينتصرون من الظالم ، وهو النفس ، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال : قوله : {ولمَن انتصر...} الآية ، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس ، ولا يستمكن من محاسن الخُلق ، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط ، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. هـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 382
يقول الحق جلّ جلاله : {ومَن يُضْلِل اللهُ فَما له من وليٍّ من بعده} أي : فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه ، ويمنعه من عذابه. {وترى الظالمين} يوم القيامة ، وهم الذين أضلّهم الله ، {لَمَّا رَأَوا العذاب} ؛ حين يرون العذاب ، وأتى بصيغة الماضي للدلالة على تحقيق الوقوع ، {يقولون هل إِلى مَرَدٍّ} ؛ رجعة إلى الدنيا {من سبيل} حتى نُؤمن ونعمل صالحاً.
{وتراهم يُعرضون عليها} ؛ على النار ، يدلّ عليها ذكر العذاب. والخطاب لكل مَن
386
(6/576)