يقول الحقّ جلّ جلاله : {قال} الله تعالى لموسى عليه السلام : {قد أُوتيتَ سُؤْلك} أي : أعطيت مسؤولك ، وبلغنا لك مأمولك في كل ما طبلت منا. والإيتاء ، هنا ، عبارة عن تعلق الإرادة بوقوع تلك المطالب وحصولها ، وإن كان وقوع بعضها مستقبلاً ، ولذلك قال : {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القَصَص : 35] ، وإعادة النداء في قوله : {يا موسى} تشريفًا له بتوجيه الخطاب بعد تشريفه بإجابة المطلب.
273
ثم ذكَّره بنعمة أخرى قد سلفت ، فقال : {ولقد مَنَنَّا عليك مرة أخرى} قبل أن يكون منك لنا طلب ، فكيف لا نجيبك بعد الطلب ؟ وتلك المنة : {إِذْ أوحينا إِلى أمك} حين تحيرت في أمرك ، وخافت عليك من عدوك ، فأوحينا إليها وحي منام أو إلهام أو بملك كريم - عليهما السلام - فقلنا لها : {أنِ اقْذِفيه في التابوت} أي : ضعيه فيه ، وأغلقي عليه حتى لا يصل الماء عليه ، {فاقذفيه في اليمِّ} أي : ألقيه في البحر بتابوته ، {فليُلقَه اليمُّ بالساحل} أي : فسيرميه البحرُ بالساحل ، ولمّا كان إلقاء البحر له بالساحل أمرًا واجب الوقوع ؛ لتعلُق الإرادة الربانية به ، جعل البحر كأنه مأمور بإلقائه ، ذو تمييز ، مطيع ، فإنْ يُلْقه {يأْخُذُه عدوٌ لي وعدوٌ له} وهو فرعون. ولا تخافي عليه ؛ {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القَصَص : 7]. وتكرير عداوته والتصريح بها ؛ للإشعار بأن عداوته له ، مع تحققها ، لا تضره ، بل تؤدي إلى محبته ، لأن الأمر بما فيه الهلاك ؛ من القذف في البحر ، ووقوعه في يد العدو ، مشعر بأن هناك ألطافًا خفية ، ومننًا كامنة مندرجة تحت قهر صوري.
جزء : 4 رقم الصفحة : 273
(4/397)
وليس المراد بالساحل نفس الشاطئ ، بل ما يقابل الوسط ، وهو ما يلي الساحل من البحر ، حيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون ، لِمَا رُوي أنها جعلت في التابوت قطنًا محلوجًا ، ووضعته فيه ، ثم قيَّرته وألقته في اليم. وقيل : كان التابوت من البردى ، صنعته أمه. وقال مقاتل : صنعه لها رجل مؤمن اسمه " حزقيل " ، ثم طلته بالقار - أي : الزفت - وألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير ، فدفعه الماء إليه ، فأتى به إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسًا ثمَّ مع آسية بنة مزاحم ، فأمر به فأُخرج ، فإذا فيه صبي أصبح الناس وجهًا ، فأحبه فرعون حبًا شديدًا لا يكاد يتمالك الصبر عنه ، وذلك قوله تعالى : {وألقيتُ عليك محبةً مني} ، قال ابن عباس : " أحبه وحبَّبَه إلى خلقه ". وقال قتادة : " ملاحة كانت في عيني موسى ، ما رآه أحد إلاَّ عشقه " ، أي : وألقيتُ عليك محبة عظيمة كائنة مني ، قد زرعت في القلوب ، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ، ولذلك أحبك عدو الله وأهله ، وذلك ليتعطف عليك.
{ولتُصنع على عيني} أي : ولتربّى بالحنو والشفقة ، وتغذى بمرأى مني ، مصحوبًا برعايتي وحفظي ، في أحسن تربية ونشأة. وكان ابتداء ذلك : {إِذ تمشي أختك} تتبع تابوتك ، فلما أُخرجتَ التمسوا لك المراضع ، {فتقولُ} لفرعون وآسية ، حين رأتهما يَطْلُبَانِ له مُرضعة يقبل ثديها ، وكان لا يقبل ثديًا. وصيغة المضارع في الفعلين ؛ لحكاية الحال الماضية ، والأصل : إذ مشت فقالت : {هل أدلُّكم على مَن يكفله} ؟ يضمه إلى نفسه ويربيه ، وذلك إنما يكون بقبول ثديها. رُوِيَ أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون
274
أخذوا غلامًا في النيل لا يرتضي ثدي امرأة ، واضطروا إلى تتبع النساء ، فخرجت أختُه مريم لتتعرف خبره ، فجاءت متنكرة ، فقالت ما قالت ، وقالوا : نعم ، فجاءت بأمه فقبِل ثديها.
(4/398)
قال تعالى : {فرَجَعْناك إِلى أمك} ؛ وفاء بعهدنا ، {كي تقرَّ عينُها} بلقائك ، {ولا تحزن} أي : ولا يطرأ عليها حزن بفراقك بعد ذلك ، {وقتلتَ} بعد ذلك {نفسًا} ، وهي نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلي عليه. قال كعب : كان إذ ذاك ابن ثنتي عشرة سنة ، {فنجيناك من الغَمِّ} أي : غم قتله ، خوفًا من عقاب الله تعالى بالمغفرة ، ومن اقتصاص فرعون ، بوحينا إليك بالمهاجرة ، {وفتناك فتونًا} أي : ابتليناك ابتلاءً عظيمًا ، وخلصناك مرة بعد أخرى ، حتى صَلَحْتَ للنبوة والرسالة ، وهو تحمل ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ، ومفارقة الأحباب ، والمشي راجلاً ، وفقد الزاد ، بعد ما خلصه من الذبح ، ثم من البحر ، ثم من القصاص بالقتل. وسُئل عنها ابن عباس ، فقال : خلَّصناك من محنة بعد محنة ، ولد في عام كان يقتل فيه الغلمان ، فهذه فتنة ، وألقته أمه في البحر ، وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطيًا ، وأجَرَّ نَفسه عشر سنين ، وضل الطريق ، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة ، فكل واحدة من هذه فتنة. هـ. لكن الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا تعد إجارته نفسه وما بعدها من الفتون ؛ لأن المراد : ما وقع له قبل وصوله إلى مدين ، بدليل قوله تعالى : {فلبثتَ سنينَ في أهل مَدْيَنَ} ، إذ لا ريب أن الإجارة وما بعدها كانت بعد وصوله إلى مدين ، أي : لبثت عشر سنين في أهل مدين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 273
وقال وَهْب : لبث عند شعيب ثمانيًا وعشرين سنة ، عشرًا منها في مهر امرأته صفراء بنت شعيب ، وثماني عشرة أقام عنده حتى وُلد له. وأشار باللبث في مدين ، دون الوصول إليها ، إلى ما أصابه في تضاعيفها ، من فنون الشدائد والمكاره ، التي كل واحد منها فتنة. و " مدين " : بلدة شعيب عليه السلام ، على ثماني مراحل من مصر ، ولم تبلغها مملكة فرعون ، خوفًا على نفسه من هيبة النبوة أو يصيبه ما أصاب مَنْ خالفه.
(4/399)
{ثم جئتَ} إلى المكان الذي آنستَ فيه النار ، ورأيتَ فيه الخوارق ، وخُصصتَ فيه بالرسالة ، {على قَدَرٍ} قدرته لك في الأزل ، ووقت عينته لك ، لأكلمك وأرسلك فيه إلى فرعون ، فما جئتَ إلا على ذلك القدَر ، غير متقدم ولا متأخر ، وقيل : على مقدار من الزمان ، يُوحى فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة. {واصْطنعتُكَ لنفسي} أي : اختصصتك بالرسالة والمحبة و المناجاة ، وهو تذكير لقوله : {وأنا اخترتك} ، وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مُؤَيَّدًا بأخيه ، حسبما طلب ، بعد تذكيره المنن السالفة ، زيادة في وثوقه عليه السلام بحصول نظائرهم اللاحقة ، والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى : {وفتناك} إلى تاء المتكلم ؛ لمناسبتها للنفس ؛ فإنها أدخل في تحقيق الاصطناع والاستخلاص. والله تعالى أعلم.
275
(4/400)
الإشارة : قال قد أوتيت سؤلك أيها الفقير ، حيث وصلناك إلى من يأخذ بيدك ، ويُرشدك إلى ربك ويُربيك. ولقد مننا عليك مرة أخرى ، حيث أنشأناك بين أبوين مسلمين ، فقذفناك في تابوت الإسلام ، ثم في نهر الإيمان ، ثم رميناك في بحر العرفان ، وألقينا عليك محبة منا ، فأحببناك وأحببتنا ، وألقينا محبتك في قلوب عبادنا ، فتربيت في حفظنا ورعايتنا ، فلما فارقتَ الأوطان وهجرت الإخوان ، في طلب تحقيق العرفان ، رددناك إليهم بعد التمكين ، لتنهضهم إلى الله ، فتقرّ أعينهم بطاعة رب العالمين ، وقتلت نفسًا كانت تحجبك عن ربك ، فنجيناك من غم الحجاب ، وأخرجناك من سجن الأكوان ، إلى فضاء الشهود والعيان ، وفتناك بمجاهدة نفسك فتونًا عظامًا ، فتنة الفقر ، ثم فتنة الذل ، ثم فتنة هجر الأوطان ، حتى تخلصت من حبس الأكوان ، وجئت إلينا على قدر قدرناه لك ، ووقت عيناه لفتحك ، فاصطنعتك لنفسي ، واجتبيتك لحضرتي بسابق عنايتي ، من غير حول منك ولا قوة ، فعِنايتنا فيك سابقة ، فأين كنت حين واجهتك عنايتنا ، وقابلتك رعايتنا ؟ لم يكن في أزلنا إخلاص أعمال ، ولا وجود أحوال ، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال ووجود النوال ، كما في الحكم. وأنشدوا :
جزء : 4 رقم الصفحة : 273
فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إِلَيْك اكْتَسبْته
سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ لا بِشَئ يُعَلَّلُ
وقال آخر :
قَدْ كُنْتُ أَحْسِبُ أنَّ وَصْلَكَ يُشْتَرَى
بَنَفائِسِ الأَمْوَالِ والأرْباحِ
وَظَنَنْتُ جَهْلاً أنَّ حُبَّكَ هَيِّنٌ
تُفْنَىَ عَلَيْه كَرَائِمُ الأرْوَاحِ
حَتَّى رَأَيْتُكَ تَجتبي وَتَخُصُّ مَنْ
تَخْتارُهُ بلَطَائِفِ الإِمْنَاحِ
فَعَلِمْتُ أنَّكَ لا تُنالُ بِحيلَةٍ
فَلَوَيْتَ رَأسِي تحت طَيِّ جَنَاحِ
وَجَعَلْتُ في عُشِّ الغَرَامِ إِقَامَتِي
أبدًا وفيه تَوطُني ورَوَاحِ
جزء : 4 رقم الصفحة : 273
(4/401)
يقول الحقّ جلّ جلاله : لسيدنا موسى عليه السلام : {اذهب أنت وأخوك} أي : ليذهب معك أخوك {بآياتي} : بمعجزاتي التي أريتكَهَا ، من اليد والعصا ، فإنهما وإن
276
كانتا اثنتين ، لكن في كل واحدة منهما آيات ، فإنَّ في انقلاب العصا حيوانًا : آية ، وكونها ثعبانًا عظيمًا : آية ، وسرعة حركته ، مع عِظَمِ جرمه : آية ، وكذلك اليد ؛ فإنَّ بياضها في نفسه آية ، وشعاعها آية ، ثم رجوعها إلى حالَتها الأولى آية. والباء للمصاحبة ، أي : اذهبا مصحوبَيْنِ بمعجزاتنا ، مستمسكَيْنِ بها ، {ولا تَنِيَا} : لا تفترا ولا تقصرا {في ذكري} عند تبليغ رسالتي ، ولا يشغلكما معاناة التبليغ عن ذكري ، بما يليق بحالكما ؛ من ذكر لسان أو تفكر أو شهود ، فلا تغيبا عن مشاهدتي باشتغالكما بأمري ، حتى لا تكونا فاترين في عيني.
{اذهبَا إِلى فرعون إِنه طغى} : تجبر وعلا. ولم يكن هارون حاضرًا وقت هذا الوحي ، وإنما جمعهما ؛ تغليبًا. رُوي أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى - عليهما السلام - ، وقيل : سمع بإقباله فتلقاه.
{فقولا له قولاً لينًا} ؛ لأنَّ تليين القول مما يكسر ثورة عناد العتاة ، ويلين عريكة الطغاة. قال ابن عباس : أي : لا تعنفا في قولكما. وقيل : القول اللين : {هل لك إِلى أن تزكى...} الخ ، ويعارضه قوله بعد : {فقولا إِنا رسولا ربك} وقيل : كنِّياه ، وكان له ثلاثة كنى : أبو العباس ، وأبو الوليد ، وأبو مرة. وقيل : عِدَاه على قبول الإيمان شبابًا لا يهرم ، ومُلكًا لا ينزع منه إلا بالموت ، وتبقى عليه لذة المطعمَ والمشرب والمنكح إلى الموت ، وقيل : اللطافة في القول ؛ فإنه رباك وأحسن تربيتك ، وله عليك حق الأبوة ، {لعله يتذكَّر} بما بلغتماه من ذكر ، ويرغب فيما رغبتماه فيه ، {أو يخشى} عقابي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
(4/402)
ومحل الجملة : النصب على الحال من ضمير التثنية ، أي : فقولا له قولاً لينًا ، رَاجِيَيْنِ تذكرته ، أي : باشرا وعظه مباشرةَ من يرجو ويطمع أن يُثمر علمُه ولا يخيب سعيُه. وفائدة هذا الإبهام : الحَثُّ على المبالغة في وعظه. هذا جواب سيبويه عن الإشكال ، وهو أنه تعالى عَلِمَ أنه لا يؤمن ، وقال : {لعله يتذكَّر} ، فصرف الرجاء إلى موسى وهارون ، أي : اذهبا على رجائكما. وقال الوراق : قد تذكر حين ألجمه الغرق. وقال الزجاج : خاطبهم بما يعقلون. قلت : كونه تعالى علم أنه لا يؤمن هو من أسرار القدر الذي لا يكشف في هذه الدار ، وهو من أسرار الحقيقة ، وإنما بُعثت الرسل بإظهار الشرائع ، فخاطبهم الحق تعالى بما يناسب التبليغ في عالم الحكمة ، والله تعالى أعلم. وجدوى إرسالهما إليه ، مع العلم بإحالته ، إلزام الحجة وقطع المعذرة.
{قالا ربنا إِننا نخاف أن يَفْرُطَ علينا} أي : يعجل علينا بالعقوبة ، ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة. وهو من " فَرطَ " إذا تقدم ، ومنه : الفارط ، للوليد الذي مات صغيرًا. وقرئ بضم الياء ، من " أفرط " إذا حَمله على العجلة ، أي : نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار والخوف على المُلك أو غيرهما ، على المعاجلة والعقاب ،
277
{أو أن يطغى} ؛ يزداد طغيانًا ، كأن يقول في شأنك ما لا ينبغي ، لكمال جرأته وقساوته ، وإظهار " أن " ؛ لإظهار كمال الاعتناء بالأمر ، والإشعار بتحقيق الخوف من كل منهما ، وهذا القول يحتمل أن يكون قاله موسى ودخل هارون بالتبع ، إيذانًا بأصالة موسى عليه السلام في كل قول وفعل ، وتبعية هارون عليه السلام ، أو يكون هارون قال ذلك بعد تلاقيهما ، فحكى الله قولهما عند نزول الآية ، كما في قوله تعالى : {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون : 51] ، فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع ، مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد ؛ لاستحالة جمعهم في الوجود ، فكيف باجتماعهم في الخطاب ؟
(4/403)
{قال} تعالى لهما : {لا تخافا} ، وهو استئناف بياني ، كأن قائلاً قال : فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه ؟ فقيل : قال : لا تخافا ما توهمتما من الأمرين ، {إِنني معكما} بحفظي ورعايتي ونصري ومعونتي ، {أسمعُ وأرى} ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل ، فأفعل في كل حال ما يليق بها ؛ من دفع ضر وشر ، وجلب نفع وخير.
{فأتياهُ} ، أمر بإتيانه ، الذي هو عبارة عن الوصول إليه ، بعد ما أمر بالذهاب إليه ، فلا تكرار ، {فقولا} له : {إِنّا لاسولا ربك} إليك ، أمر بذلك من أول الأمر ، ليعرف الطاغية شأنهما ، ويبني جوابه على ذلك ، {فأرسِلْ معنا بني إِسرائيل} أي : أطلقهم من الأسر والقهر ، وأخرجهم من تحت يدك العادية. وليس المراد إرسالهم معه إلى الشام ، بدليل قوله : {ولا تعذِّبْهم} بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب ، فإنهم كانوا تحت مملكة القبط ، يستخدمونهم في الأعمال الصعبة ، من الحفر ونقل الأحجار ، وضرب اللبن والطين ، وبناء المدائن ، وغير ذلك من الأعمال الشاقة ، ويقتلون ذكور أولادهم عامًا دون عام ، فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وحده ، وتسريح بني إسرائيل. رُوي أنه لمّا رغبه في الإيمان بذكر ما أعد الله لأهله من الخلود في الجنة ولملك الدائم ، أعجبه ، فقال : حتى أستشير هامان ، وكان غائبًا ، فقَدِم ، فأخبره ، فقال هامان : قد كنتُ أرى لك عقلاً ، بينما أنت رب تصيرُ مربوبًا ، وبينما أنت تُعبد تصير تعبد غيرك ، فغلبه على رأيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
فقال له موسى : {قد جئناك بآيةِ من ربك} ، قال فرعون : وما هي ؟ فأدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها بيضاء ، لها شعاع كشعاع الشمس ، فعجب منها ، ولم يُره العصا إلا بعد ذلك ، يوم الزينة. قاله الثعلبي. قلت : والذي يظهر من سورة الشعراء - بل هو صريح فيها - أنه أراه العصا واليد. وإنما أفردت في اللفظ ، هنا ؛ لأن المراد
278
(4/404)
إثبات الحجة بصحة الرسالة ، لا تَعدد الآية ، وكذلك قوله تعالى : {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عِمرَان : 49] ، {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} [الشُّعَرَاء : 30] ، وأما قوله تعالى : {فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعرَاف : 106] ؛ فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات.
ثم قال له : {والسلامُ على مَن اتبعَ الهُدى} أي : وسلام الله وملائكته والمؤمنين المقتضي سلامة الدارين ، على من اتبع الهدى ، بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق ، دون من اتبع الغي والهوى ، وفيه من الترغيب ، في اتباعها على ألطف وجه ، ما لا يخفى. {إِنا قد أُوحي إِلينا} من جهة ربنا ، {أنَّ العذابَ} الدنيوي والأخروي {على مَن كذَّب} بآيات الله {وتولى} أي : أعرض عن قبولها ، وفيه من التلطف في الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به ما لا مزيد عليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي لأهل العلم ولأهل الوعظ والتذكير أن يتعاونوا على نشر العلم ووعظ العباد ، ويتوجهوا إليهم في أقطار البلاد ، فإن ذلك فرض كفاية على أهل العلم ، ولا يشغلهم نشر العلم عن ذكر الله ، ولا تذكير العباد عن شهود الله ، كما قال الله تعالى : {ولا تنيا في ذكري} أي : ولا تغفلا عن شهودي وقت إرشاد عبادي ، فإن توجهوا إلى الجبابرة والفراعنة فليلينوا لهم المقال ، وليدعوهم إلى أسهل الخلال ، فإن ذلك أدعى إلى الامتثال ، خلافًا لمن قال هذه ملة موسوية ، وأما الملة المحمدية فقال تعالى فيها : {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29] ؛ فإنَّ بيان الحق لا ينافي أن يكون بملاطفة وإحسان ، فإن خاف الواعظ من صولة المتجبر فإن الله معه ، يحفظه ويرعاه ، ويسمعه ويراه ، فإن لم يسمع لقوله ولم يتعظ لوعظه ، فقد بلغ ما عليه ، وليقل بلسان الحال أو المقال : (والسلام على من اتبع الهدى). وبالله التوفيق.
(4/405)
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
قلت : {خَلْقَه} : يحتمل أن يكون اسمًا بمعنى المخلوق ، فيكون مفعولاً أولاً ، و {كل شيء} : مفعولاً ثانيًا ، أو يكون مصدرًا بمعنى الخلقة ، فيكون مفعولاً ثانيًا ، أي : أعطى كل شيء خِلقتَه وصُورته التي هو عليها.
279
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قال} فرعونُ في جواب موسى ، لما أتاه مع أخيه وبلغا الرسالة ، وقالا له ما أمرهما به ربهما ، وإنما حذفه للإيجاز ، وللإشعار بأنهما لما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال من غير تلعثم ، أو بأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به ، فقال لهما فرعون : {فمن ربكما يا موسى} ؟ لم يضف الرب إلى نفسه ؛ لغاية عتوه وطغيانه ، بل أضافه إليهما ، وفي الشعراء : {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاء : 23] ، والجمع بينهما تَعدد الدعوة ، ففي كل مرة حكى لنا ما قال. وتخصيص النداء بموسى ، مع توجيه الخطاب إليهما ؛ لأنه الأصل في الرسالة ، وهارون وزيره.
{قال} موسى عليه السلام مجيبًا له : {ربُنا الذي أعطى كُلَّ شيءٍ خلقه} أي : ربنا هو الذي أعطى كل شيء خلقه ، أي : مخلوقاته ؛ مما يحتاجون إليه ويرتفقون به في قوام أبدانهم ومعايشهم ، أو أعطى كل شيء خِلْقته وصُورته التي يختص بها ، ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا. أو أعطى كل شيء فعله وتصرفه ، فاليد للبطش ، والرجل للمشي ، واللسان للنطق ، والعين للنظر ، والأذن للسمع ، أو أعطى كل شيء شكله من جنسه ، للإنسان زوجةً ، وللبعير ناقةً ، وللفرس رَمْكةً ، وللحمار أتَانًا. {ثم هَدى} إلى طريق الانتفاع والارتقاء ، بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله ، فألهمه الرضاع والأكل والشرب والجماع ، وطلب الرعي وتوفي المهالك ، وكيف يأتي الذكرُ الأنثى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 279
(4/406)
ولمّا كان الخلق - الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام - مقدمًا على الهداية ، التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام ، عطف بثم المفيدة للتراخي. ولقد ساق عليه السلام جوابه على نمط رائق ، وأسلوب لائق ؛ حيث بيَّن أنه تعالى عالم قادر بالذات ، خالق لجميع الكائنات ، منعم عليهم بجميع النعم السابغات ، هادٍ لهم إلى طرق المرْتَفقات.
{قال} فرعون : {فما بالُ القرونِ الأُولى} أي : ما حالها بعد الموت ، وما فعل الله بها ؟ فقال له موسى : هذا غيب لا يعلمه إلاّ الله ، وهو معنى قوله : {علمها عند ربي} ، أو ما حال القرون الماضية والأمم الخالية ، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة ؟ فأجابه عليه السلام بأن العلم بأحوالهم مفصلةً مما لا ملامسة له بمنصب الرسالة ، وإنما علمها عند الله عزّ وجلّ. وكأنَّ عدو الله ، لما خاف أن يُبهت ، ويُفتضح ، ويظهر للناس حجة موسى عليه السلام ، أراد أن يصرفه عليه السلام إلى ما لا يعني ، من ذكر الحكايات التي لا مسيس لها بمنصب الرسالة ؛ فلذلك أعرض عنه ، و {قال علمها عند ربي} ، وهذا أحسن من الأول ؛ لأنه لو كان سؤاله عن أحوالها بعد الموت لأمكن أن يقول له : من اتبع الهدى منهم فقد سلم وتنعم ، ومن تولى فقد عُذب وتألّم ، حسبما
280
نطق به قوله تعالى : {والسلام على مَن اتبع الهدى}. وقيل : فما بالها لم تبعث كما يزعم موسى ، أو : ما بالها لم تكن على دينك ، أو : ما بالها كذبت ولم يُصبها عذاب ، وكلها بعيدة.
(4/407)
قلت : والذي يظهر أن الطاغية فَهِمَ قوله تعالى : {ثم هدى} أي : إلى الإيمان ، فاعترض بقوله : فما بال القرون الأولى لم تؤمن حتى هلكت ؟ فأجابه موسى عليه السلام بقوله : {علمها عند ربي} ، فهو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى. وقوله : {في كتاب} أي : اللوح المحفوظ ، فقد أثبتت فيه بتفاصيلها ، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن تمكنه وتقريره في علم الله - عزّ وجلّ - تمكن من استحفظ الشيء ، وقيده بالكتابة ، كما يَلوحُ به قوله تعالى : {لا يَضِلُّ ربي} أي : لا يخطئ ابتداء ، {ولا ينسى} فيتذكر. وفيه تنبيه على أن كتابته في اللوح المحفوظ ليس لحاجته إليه في العلم به ابتداء أو بقاءًا. وإظهار {ربي} في موضع الإضمار ، للتلذذ بذكره ، وللإشعار بعلّية الحكم ؛ فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان.
ولقد أجاب عليه السلام عن السؤال بجواب عبقري بديع ، حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها ، مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شؤونه تعالى ، ووصف الحق تعالى بأوصاف لا يمكن عدو الله أن يتصف بشيء منها ، لا حقيقة ولا مجازًا ، ولو قال له : هو الخالق الرازق ، وشبه ذلك ، لأمكن أن يغالط ويدعي ذلك لنفسه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 279
(4/408)
ثم تخلص إليه ؛ حيث قال : بطريق الحكاية عن الله عزّ وجلّ ، أو من كلامه عليه السلام : {الذي جعل لكمُ الأرضَ مهادًا} أي : كالمهد تتمهدونها بالسكن والقرار ، أي : جعل كل موضع منها مهدًا لكل واحد منكم. {وَسَلَكَ لكم فيها سُبُلاً} أي : طُرقًا تتوصلون بها من قطر إلى قطر ، لتقضوا منها مآربكم ، وتنتفعوا بمرافقها ومنافعها ، ووسطها بين الجبال والأودية لتعرف أمارات سُبلها. {وأنزل من السماء ماءً} هو المطر ، {فأخرجنا به} ، يحتمل أن يكون من كلام الله ، وما قبله من كلام موسى ، أو كله من كلام الله تعالى ، حكاه موسى عليه السلام ، وإنما التفت إلى التكلم ؛ للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة ، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ، أي : فأخرجنا بذلك الماء {أزواجًا} : أصنافًا ، سميت أزواجًا ؛ لازدواجها ، واقتران بعضها ببعض ، كائنة {من نباتٍ شتى} : متفرقة ، جمع شتيت : أي : متفرق ، وهو ، في الأصل ، مصدر ، يستوي فيه الواحد والجمع ، يعني : أنها مختلفة في الشكل واللون والطعم والرائحة والنفع ، وبعضها صالح للناس على اختلاف صلاحها لهم ، وبعضها للبهائم. ومن تمام نعمته تعالى أن أرزاق عباده ، لمَّا كان تحصيلها بعمل الأنعام ، جعل عَلفَها مما يفضل عن حاجتهم ، ولا يليق بكونه طعامًا لهم ، وهو معنى قوله : {كُلوا
281
وارْعَوا أنعامكم} ، والجملة : حالٌ ، على إرادة القول ، أي : أخرجنا منها أصناف النبات ، قائلين : كلوا وارعوا أنعامكم ، آذنين في ذلك لكم.
(4/409)
{إِن في ذلك} المذكور ، من شؤونه تعالى ، وأفعاله وأنعامه ، {لآياتٍ} جليلة واضحة الدلالة على عظيم شأنه تعالى ، في ذاته وصفاته وأفعاله ، وعلى صحة نبوة موسى وهارون - عليهما السلام- ، {لأُولي النُّهَى} أي : العقول الصافية ، جمع " نُهْيَة " ، سمى بها العقل ، لنهيه عن اتباع الباطل ، وارتكاب القبيح ، أي : لذوي العقول الناهية عن الأباطيل ، التي من جملتها ما يدعيه الطاغية وما يقبله منه الفئة الباغية. وتخصيص كونها آيات لهم ، مع أنها آية للعالمين ؛ لأنهم المنتفعون بها.
{منها خلقناكم} أي : من الأرض الممهدة لكم ، خلقناكم بخلق أبيكم آدم عليه السلام ، وأنتم في ضمنه ، إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه عليه السلام ، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس ، انطواء إجماليًا ، فكان خلقه عليه السلام منها خلقًا لكل منها ، وقيل : خلقت أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض. وقال عطاء : إن المَلَك الموكل بالرحم ينطلق ، فيأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه العبد ، فيذره على النطفة ، فتخلق من التراب ومن النطفة. هـ.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 279
وفيها نُعيدكم} بالإماتة وتفريق الأجزاء ، والكلام على الأشباح دون الأرواح ، فإنها ، بعد السؤال ، تصعد إلى السماء ، كما يأتي عند قوله تعالى : {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقِعَة : 88] الآية. ولم يقل : وإليها نُعيدكم ؛ إشارة إلى استقرار العبد فيها ، {ومنها نُخرجكم تارةً أخرى} بتأليف أجزائكم المتفتتة ، المختلطة بالتراب ، على الهيئة السابقة ، ورد الأرواح إليها. وكون هذا الإخراج تارة أخرى : باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها ، وإن لم يكن على التارة الثانية. والتارة في الأصل : اسم للتور ، وهو الجريان ، فالتارة واحدة منه ، ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتحدة ، كما مر في المرة. والله تعالى أعلم.
(4/410)
الإشارة : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ، مما سبق لهم في أزله ، ثم هدى إلى الأسباب الموصلة إليه ، فمنهم من كان حظه في الأزل قوت الأشباح ، هداه إلى أسبابها ، وهم أهل مقام البعد ، ومنهم من كان حظه قوت القلوب ، فهداه إلى أسبابها من المجاهدة في الطاعات وأنواع القربات ، وهم أنواع :
فمنهم من شغلهم بتدريس العلوم وتدقيق الفهوم ، وتحرير المسائل وتمهيد النوازل ، وهداهم إلى أسباب ذلك ، وهم حملة الشريعة ، إن صحت نيتهم وثبت إخلاصهم. ومنهم من شغلهم بتوالي الطاعات وتعمير الأوقات ، وهداهم إلى أسبابها ، وقواهم على مشاقها ، وهم العباد والزهاد. ومنهم من شغلهم بإطعام الطعام والرفق بالأنام ، وتعمير الزوايا وقبول الهدايا ، وهداهم إلى أسباب عمارتها والقيام بها ، وهم الصالحون. ومنهم : من
282
كان حظه قوت الأرواح ، وهم المريدون السائرون ، أهل الرياضة والتصفية ، والتخلية والتحلية ، والتهذيب والتدريب ، وهداهم إلى أسبابها ، ووصلهم إلى شيخ كامل يُبينها ويسلّكها ، وهم في ذلك مقامات متفاوتة ، على حسب صدقهم وجدهم ، ومنهم من كان حظه قوت الأسرار ، وهم العارفون الكبار ، السابقون المقربون ، أهل الفناء والبقاء ، أهل الرسوخ والتمكين ، فهداهم إلى ما أمّلوا ، ووصلهم إلى ما طلبوا. نفعنا الله بهم ، وخرطنا في سلكهم. آمين.
(4/411)
وقوله : {فما بال القرون الأولى...} الآية ، فيه زجر للمريد عن الاشتغال بالحكايات الماضية ، لأن في ذلك شُغُلاً عن الله ، إلا ما كان فيه زيادة إلى الله ، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. وقوله تعالى : {الذي جعل لكم الأرض مهادًا} أي : جعل أرض النفوس مهادًا للقيام برسم العبودية ، وسلك فيها سبلاً توصل إلى مشاهدة الربوبية ، لمن سلكها بالرياضة والمجاهدة ، وأنزل من سماء الملكوت ماء الواردات الإلهية ، تحيا به الأرواح ، فتخرج أصنافًا من العلوم والحكم شتى ، كُلوا برعي القلوب في نِوار تجلياتها ، وارعوا لقوت أشباحكم من ثمار حسياتها ، إن في ذلك لآيات لأولي النُهى. {منها خلقناكم} : من أرض نفوسكم أخرجناكم ، بشهود عظمة الربوبية ، وفيها نُعيدكم ؛ للقيام برسم العبودية ، ومنها نُخرجكم ؛ لتكونوا لله ، لا لشيء دونه. أو منها خلقناكم ، أي : أخرجناكم من شهود ظلمتها إلى نور خالقها ، بالفناء عنها ، وفيها نُعيدكم بالرجوع إلى الأثر في مقام البقاء ، {ومنها نُخرجكم تارة أخرى} ؛ بعقد الحرية في مقام البقاء ، فتكونوا عبيدًا شُكَّرًا. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 279
قلت : {موعدًا} : مصدر ، مفعول أول لـ {اجعل}. و {مكانًا} : مفعول بفعل محذوف ، أي : تعدنا مكانًا سُوى ، لا بموعد ، لأنه وصف ، ويجوز نصبه على إسقاط الخافض ، و {يوم الزينة} : على حذف مضاف ، أي : مكان يوم الزينة ، و {أن يحشر} : عطف على يوم ، أو الزينة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولقد أريناه} أي : فرعون ، {آياتنا} ، حين قال له : {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَىا عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ
283
(4/412)
ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشُّعَرَاء : 31-33] ، وعبّر بالجمع ، مع كونهما اثنتين ، باعتبار ما في تضاعيفهما من الخوارق ، التي كل واحدة منها آية. وقد رأى فرعونُ من هاتين الآيتين أمورًا دواهي ، فإنه روى أنه عليه السلام ، لما ألقى العَصا ، انقلبت ثعبانًا أشعر ، فاغرًا فاه ، بين لَحْيَيْهِ ثمانون ذراعًا ، وضع لحيه الأسفل على الأرض ، والأعلى على سور القصر ، ثم توجه نحو فرعون ، فهرب وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا من قومه ، فصاح فرعون : يا موسى أُنشدك الذي أرسلك إلا أخذته ، فأخذه ، فعاد عصًا. ورُوي أنها ، لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون ، وجعلت تقول : يا موسى مُرني بما شئت ، ويقول فرعون : أنشدك... الخ. ونزع يده من جيبه ، فإذا هي بيضاء بياضًا نورانيًا خارجًا عن العادة. ففي تضاعيف كُلٍّ من الآيتين آيات جمة ، لكنها لما كانت غير مذكورة بالصراحة ، أكدت بقوله تعالى : {كلَّها} ، كأنه قيل : أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها ، قصدًا إلى بيان أنه لم يبق له في ذلك عذر.
وقيل : أريناه آياتنا التسع ، وهو بعيد ؛ لأنها إنما ظهرت على يده عليه السلام بعد ما غلبت السحرة على مَهَل ، في نحو من عشرين سنة ، والكلام هنا قبل المعارضة ، اللهم إلا أن يكون الحق تعالى أخبرنا أنه أراه الآيات التسع كلها ، فأبى عن الإيمان ، ثم رجع إلى إتمام القصة.
(4/413)
وأبعد منه : من عَدّ في الآيات ما جُعِل لإهلاكهم ، لا لإرشادهم إلى الإيمان ؛ من فلق البحر ، وما ظهر بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني إسرائيل ؛ من نتق الجبل والحجر ، وغير ذلك ، وكذلك من عَدّ منها الآيات الظاهرة على يد الأنبياء - عليهم السلام - ؛ حيث حكاها موسى عليه السلام لفرعون ، بناء على أن حكايته إياها له في حكم إظهارها بين يديه ؛ لاستحالة الكذب عليه ، فإنَّ حكايته إياها لفرعون مما لم يجر ذكره هنا ، فكل هذا بعيد من سياق النظم الكريم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 283
قال تعالى : {فَكَذَّبَ} فرعونُ موسى ، {وأَبَى} الإيمان والطاعة ، مع ما شاهد على يده من الشواهد الناطقة بصدقه. جحودًا وعنادًا ؛ لعتوه واستكباره ، وقيل : كذَّب بالآيات جميعًا ، وأبَى أن يقبل شيئًا منها. {قال أجئتنا لتُخْرِجَنا من أرضنا بسحرك يا موسى} ، هذا استئناف مُبين لكيفية تكذيبه وإبائه. والمجيء إما على حقيقته ، أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له ، أي : أجئتنا من مكانك الذي كنتَ فيه ترعى الغنم ؛ لتُخرجنا من أرضنا ؟ أو : أقبلت إلينا ؛ لتُخرجنا من مصر ؛ بما أظهرت لنا من السحر ، فإن ذلك مما لا يصدر عن عاقل ؛ لكونه من باب محاولة المحال ، وإنما قاله ؛ تحريضًا لقومه على مقت موسى والبعد عنه ، بإظهار أن مراده عليه السلام إخراج القبط من وطنهم ، وحيازة أموالهم ،
284
(4/414)
وإهلاكهم بالكلية ، حتى لا يميل أحد إليه ، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىا أَمْرِهِ} [يوسف : 21]. وسمى ما أظهره عليه السلام من المعجزة الباهرة سحرًا ، ثم ادعى أنه يعارضه ، حيث قال : {فَلنَأْتينك بسحرٍ مثله} أي : وإذا كان الأمر كذلك ، فوالله لنأتينك بسحر مثل سحرك ، {فاجعلْ بيننا وبينك موعدًا} أي : وعدًا {لا نُخلفه} أي : لا نخلف ذلك الوعد ، ولا نجاوزه {نحنُ ولا أنت} ، بل نجتمع فيه وقت ذلك الموعد ، وإنما فوض اللعينُ أمرَ الوعد إلى موسى عليه السلام ؛ للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب ودخول الرعب إليه ، وإظهار الجلادة ، بإظهار أنه متمكن من تهيئَة أسباب المعارضة ، طال الأمر أو قصر ، كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السلام ، وتوسيط كلمة " النفي " بينهما ؛ للإيذان بمسارعته إلى عدم الاختلاف.
وقوله تعالى : {مكانًا سُوىً} أي : يكون ذلك الوعد - أي : وعد الاجتماع - في مكان مستوٍ ، تستوي مسافته بيننا وبينك ، عدلاً ، لا ظلم على أحد في الإتيان إليه ، منا ومنك ، وفيه لغتان : ضم السين وكسرها.
{قال} لهم موسى عليه السلام : {موعدُكُم يومُ الزينة} أي : مكان الزينة ؛ لأن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم ، وهو يوم عيد لهم ، في كل عام يتزينون ويجتمعون فيه ، وقيل : يوم النيروز ، وقيل : يوم عاشوراء ، وقيل : يوم سوق لهم. {وأن يُحشر الناسُ ضحًى} أي : موعدكم يوم الزينة ، وحشرُ الناس ضحى ، أو يوم حشر الناس في وقت الضحى ، يجتمعون نهارًا جهارًا ، أراد عليه السلام أن يكون أبلغ في إظهار الحجة وإدحاض الباطل ، بكونه على رؤوس الأشهاد. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 283
الإشارة : من سبق له البعد عن الرحمن ، لا ينفع فيه خوارق معجزاتٍ ، ولا قاطع برهان ودليل ، أبعده التكبر والطغيان ، ودفعُ الحق بالباطل. نعوذ بالله من موارد الخذلان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 283
285
(4/415)
قلت : {إن هذان لساحران} : مَنْ خَفَّفَ {إن} : جعلها نافية ، أو مخففة ، واللام فارقة. ومَنْ ثَقَّلها وقرأها : {هذان} ؛ بالألف ، فقيل : على لغة بلحارث بن كعب وخثعم وكنانة ، فإنهم يَلْزَمُونَ الألف ؛ رفعًا ونصبًا وجرًا ، ويُعرِبُونَها تقديرًا ، وقيل : اسمها : ضمير الشأن ، أي : إنه الأمر والشأن هاذان لهما ساحران. وقيل : " إن " بمعنى " نعم " ، لا تعمل ، وما بعدها : جملة من مبتدأ وخبر. وقالت عائشة - رضي الله عنها - : إنه خطأ من الكُتاب ، مثل قوله : {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ} [النِّساء : 162] ، {وَالصَّابِئُونَ} [المائدة : 69] ، في المائدة ، ويرده تواتر القراءة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {فتولَّى فرعونُ} أي : انصرف عن المجلس ، ورجع إلى وطنه ، {فجمعَ كيده} أي : حِيلَه وسَحرته ؛ ليكيد به موسى عليه السلام ، {ثم أتى} الموعد ، ومعه ما جمعه من كيده وسحرته ، وسيأتي عددهم.
{قال لهم موسى} ، حيث اجتمعوا من طريق النصيحة : {ويلَكُم} أي : ألزمَكم اللهُ الويل ، إن افتريتم على الله الكذب ، {لا تفتروا على الله كذبًا} بإشراك أحد معه ، كما تعتقدون في فرعون ، أو بأن تحيلوا الباطل حقًا ، {فَيُسْحِتَكم} أي : يستأصلكم ، بسببه ، {بعذابٍ} لا يُقَادَر قدره ، وقرئ رباعيًا وثلاثيًا ، يقال : سحت وأسحت. فالثلاثي : لغة أهل الحجاز ، والرباعي : لغة بني تميم ونجد. {وقد خاب} وخسر {مَن افترى} على الله ، كائنًا من كان ، بأي وجه كان ، فيدخل الافتراء المنهي عنه دخولاً أوليًا ، أو : قد خاب فرعون المفتري على الله ، فلا تكونوا مثله في الخيبة.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 285
(4/416)
فتنازعوا} أي : السحرة ، حين سمعوا كلامه عليه السلام ، {أمرَهُم} أي : في أمرهم الذي أريد منهم ؛ من مغالبته عليه السلام ، وتشاوروا وتناظروا {بينهم} في كيفية المعارضة ، وتشاجروا ، ورددوا القول في ذلك ، {وأسَرُّوا النجوى} أي : من موسى عليه السلام ؛ لئلا يقف عليه فيدافعه ، ونجواهم على هذا هو قوله : {قالوا إِنْ هذان} أي : موسى وهارون ، {لساحران} عظيمان {يُريدان أن يُخرجاكم من أرضكم} ؛ مصر ، بالاستيلاء عليها {بسحرهما} الذي أظهره قبل ، {ويَذْهبا بطريقتكُمُ المثلى} أي : بمذهبكم ، الذي هو أفضل المذاهب وأمثلُها ، بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما.
قال ابن عطية : والأظهر ، في الطريقة هنا ، أنه السيرة والمملكة. والمُثلى : تأنيث الأمثل ، أي : الفاضلة الحسنة. هـ. وقيل : الطريقة هنا : اسم لوجوه القوم وأشرافِهم ، لأنهم قدوة لغيرهم ، والمعنى : يريدان أن يصرفا وجوه الناس وأشرافَهم إليهما ، ويُبطلان ما أنتم عليه. وقال قتادة : (طريقتهم المثلى يومئذ : بنو إسرائيل ، كانوا أكثر القوم عددًا وأموالاً ، فقال فرعون : إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما). ولا شك أن حمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل من بينهم ، مع بقاء قوم فرعون على حالهم آمِنين في ديارهم بعيد ، مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله.
286
(4/417)
وقوله تعالى : {فأجْمِعُوا كيدكم} : تصريح بالمطلوب ، أي : إذا كان الأمر كما ذكر ، من كونهما ساحرين يُريدان إخراجكم من بلادكم ، فأجمعوا كيدكم ، أي : اجعلوه مُجمعًا عليه ، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم ، وارموه عن قوس واحدة. وقرأ أبو عمرو : {فاجْمَعُوا} ، من الجمع ، أي : فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغي ، {ثم ائْتُوا صفًّا} أي : مصطفين ، أمروا بذلك ؛ لأنه أَهْيَبُ في صدور الرائين ، وأَدْخَلُ في استجلاب الرهبة من المشاهدين. قيل : كانوا سبعين ألفًا ، مع كل واحد منهم حبل وعصا ، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحرًا ؛ اثنان من القبط ، والباقي من بني إسرائيل ، وقيل : تسعمائة ؛ ثلاثمائة من الفُرس ، وثلاثمائة من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندرية ، وقيل : خمسة عشر ألفًا. والله تعالى أعلم. ولعل الموعد كان مكانًا متسعًا ، خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره ، وتنازعوا أمرهم في قطر آخر ، ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الوجه المذكور.
ثم قالوا في آخر نجواهم : {وقد أفلح اليوم مَن استعلى} ؛ فاز بالمطلوب مَنْ غلب ، يريدون بما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب ، أو بالرئاسة والجاه والذكر الحسن في الناس. وقيل : كان نجواهم أن قالوا - حين سمعوا مقاله موسى عليه السلام - : ما هذا بقول ساحر ، وقيل : كان ذلك أن قالوا : إن غلبنا موسى اتبعناه ، وقيل : قالوا فيها : إن كان ساحرًا غلبناه ، وإن كان من السماء فله أمر. فيكون إسرارهم حينئذ من فرعون ، ويحمل قولهم : {إِن هذان لساحران...} الخ ، على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورة ، ثم أعرضوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر ، واستقرت آراؤهم على المغالبة والمعارضة. والله تعالى أعلم بما كان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 285
(4/418)
ثم طلبوا المعارضة ، فقالوا : {يا موسى إِما أن تُلقي} ما تلقيه أولاً ، {وإِما أن نكون أول من ألقى} ما نلقيه. خيروه عليه السلام فيما ذكر ؛ مراعاة للأدب ، لما رأوا عليه من مخايل الخير ، وإظهارًا للجلادة ، {قال بل أَلْقُوا} أنتم أولاً ، مقابلة لأدبهم بأحسن منه ، فَبَتَّ القول بإلقائهم أولاً ، وإظهارًا لعدم المبالاة بسحرهم ، ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء ، وليستفرغوا أقصى جهدهم وسعيهم ، ثم يُظهر اللهُ سبحانه سلطانه ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه كما تعودَ من ربه.
فألقوا ما عندهم ، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِم أَنَّهَا تَسْعَى} أي : ففوجئ موسى ، وتخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم ، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت ، فخيل إليه أنها تتحرك. قلت : هكذا ذكر كثير من المفسرين. والذي يظهر أن تحريكها إنما كان من تخييل السحر الذي يقلب الأعيان في مرأى العين ، كما يفعله أهل الشعوذة ، وهو علم معروف من علوم السحر ، ويدل على ذلك ما ورد أنها انقلبت حيات تمشي على بطونها ، تقصد موسى
287
عليه السلام ، فكيف يفعل الزئبق هذا ؟ قال ابن جزي : استدل بعضهم بهذه الآية أن السحر تخييل لا حقيقة له. هـ.
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} أي : خوفًا ، {موسى} : أي : أضمر في نفسه بعض خوف ، من جهة الطبع البشري المجبول على النفرة من الحيات ، والاحتراز من ضررها. وقال مقاتل : إنما خاف موسى ، إذ صنع القوم مثل صنيعه ، بأن يشكُّوا فيه ، فلا يتبعوه ، ويشك فيه من تابعه. {قلنا لا تخف} ما توهمت ، {إِنك أنت الأعلى} ؛ الغالب عليهم ، والجملة : تعليل لنهيه عن الخوف ، وتقرير لغلبته ، على أبلغ وجه ، كما يُعرب عنه الاستئناف ، وحرف التحقيق ، وتأكيد الضمير ، وتعريف الخبر ، ولفظ العلو.
(4/419)
ثم قال له : {وأَلْقِ ما في يمينك} أي : عصاك ، وإنما أبهمت ؛ تفخيمًا لشأنها ، وإيذانًا بأنها ليست من جنس العصا المعهودة ، بل خارجة عن حدود أفراد الجنس ، مبهمة الكنه ، مستتبعة لآثار غريبة ، وأما حملُ الإبهام على التحقير ، بمعنى : لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العُوَيْد الذي في يدك ، فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفُها مع وحدته وكثرتها ، وصغره وكبرها ، فيأباه ظهور حالها ، وما وقع منها فيما مر من تعظيم شأنها.
وقوله تعالى : {تَلْقَفْ ما صنعوا} : جواب الأمر ، من لقفه ، إذا ابتلعه والتقمه بسرعة ، أي : تبتلع ، وتلتقم بسرعة ، ما صنعوا من الحبال والعصي ، التي تخيل إليك ، والجملة الأمرية معطوفة على النهي عن الخوف ، موجبة لبيان كيفية غلبته عليه السلام وعلوه ، وإدحاض الخوف عنه ، فإن ابتلاع عصاه لأباطيلهم ، التي منها أوجس في نفسه ما أوجس ، مما يقلع مادته بالكلية. وهذا ، كما ترى ، صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن - كما قال مقاتل - من خوف شك الناس وعدم اتباعه له عليه السلام ، وإلا لعلله بما يزيله من الوعد بالنصر الذي يُوجب اتباعه. فتأمله. قاله أبو السعود. وفيه نظر بأن قوله : {تلقف ما صنعوا} صريح في عدم الالتباس ؛ إذ لا ينبغي التباس مع ابتلاع عصاه لعصيهم ، فتأمله. {إِنما صنعوا كَيْدُ ساحرٍ} أي : إن الذي صنعوه كيد ساحر وحِيلَهُ. وقرأ أهل الكوفة : {سِحْر} ؛ بكسر السين ، فالإضافة للبيان ، كما في " علم فقه " ، أو : كيد ذي سحر ، أو يسمى الساحر سحرًا ؛ مبالغة. والجملة تعليل لقوله : {تلقف} أي : تبتلعه ؛ لأنه كيد ساحر ، {ولا يُفلح الساحرُ حيث أتى} أي : حيث وُجد ، وأين أقبل ، وهو من تمام التعليل. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 285
(4/420)
الإشارة : يقال للفقير ، المتوجه إلى الله تعالى ، من قبل الحق : إمَّا أن تُلقي الدنيا من يدك ، وإمَّا أن نكون أول من ألقاها عنك ، أي : إما أن تتركها اختيارًا ، أو تزول عنك اضطرارًا ؛ لأن عادته تعالى ، مع المتوجه الصادق ، أن يدفع عنه كل ما يشغله من أمور الدنيا فيقول - إن كان صادق القلب - : بل ألقها ، ولا حاجة لي بها ، فألقاها الحق تعالى ،
288
وأخرجها من يده ، عناية به ، فإذا أشغالها وعلائقها كانت تسعى في هلاكه وخراب قلبه وتضييع عمره ، فأوجس في نفسه خيفة من العيلة ولحوق الفاقة ، قلنا : لا تخف ، حيث توجهت إلى مولاك ، فإن الله يرزق بغير حساب وبلا أسباب ، وأَلقِ ما في يمين قلبك من اليقين ، تلقف ما صنعوا ، أي : ما صنعت بِكَ خواطر السوء والشيطان ، لأنه يَعدِ بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وإنما صنعوا ذلك ؛ تخويفًا وتمويهًا ، لا حقيقة له ، كما يفعل الساحر ، {ولا يفلح الساحر حيث أتى}.
جزء : 4 رقم الصفحة : 285
قلت : {في جذوع النخل} ، قال المحلي : أي : عليها ، وهو مذهب كوفي ، وأما مذهب البصريين فيقولون : ليست " في " بمعنى " على " ، ولكن شبه المصلوب ، لتمكنه في الجذع ، بالحالّ في الشيء ، وهو من الاستعارة التعبيرية ، و {من خلاف} : في موضع الحال ، أي : مختلفات.
(4/421)
يقول الحقّ جلّ جلاله : فلما ألقى موسى عصاه انقلبت حية عظيمة ، فابتلعت تلك الحبال والعصي ، {فألقي السحرةُ سُجّدًا} لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر ، وإنما هي آية من آيات الله. رُوي أن رئيسهم قال : كنا نغلب أعين الناس ، وكانت الآلات تُبقى علينا ، فلو كان هذا سحرًا ، فأين ما ألقينا من الآلات ؟ فاستدلوا بما رأوا على صحة رسالة موسى. فألقاهم ما شاهدوه على وجوههم ، فتابوا وآمنوا ، وأتوا بما هو غاية الخضوع ، قيل : لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ، والثواب والعقاب. وعن عكرمة : لما خروا سُجدًا ، أراهم الله تعالى ، في سجودهم ، منازلهم في الجنة. ولا ينافيه قولهم : {إِنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا} ، لأن كون تلك المنازل منازلهم هو السبب في صدور هذا القول منهم.
{قالوا آمنا بربّ هارون وموسى} ، قدّموا هارون ؛ إما لكبر سنه ، أو للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون ، حيث كان ربَّى موسى عليه السلام في صغره ، فلو قدّموا موسى لربما توهم اللعين وقومه ، من أول الأمر ، أن مرادهم فرعون ، فأزاحوا تلك الخطرة من أول مرة. {قال آمنتم له} أي : لموسى ، واللام ؛ لتضمن الفعل معنى الانقياد والخضوع ، أي : أذعنتم له {قبل أن آذن لكم} أي : من غير أن آذن لكم ، {إِنه} أي : موسى {لكبيرُكُم} أي : أستاذكم وأعلمُكم في فنكم ، {الذي عَلّمكُمُ السحرَ} ، فتواطأتم على ما فعلتم ، وهذه منه شبهة واهية ؛ أين كان
289
موسى عليه السلام ، وأين كان السحرة ، حتى علمهم ؟ ولكن صدر منه هذا ؛ خوفًا على الناس أن يتبعوا موسى عليه السلام ، ويقتدوا بالسحرة ، فأوهم عليهم ، مع ما سبق في علم الله من ضلالتهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 289
(4/422)
ثم اقبل على السحرة بالوعيد ، فقال : {فلأقَطِّعَنّ أيديَكم} أي : فوالله لأقطعن أيديَكم {وأرجُلَكم من خلافٍ} أي : اليد اليمنى والرجل اليسرى. وتعيين تلك الحال ؛ للإيذان بتحقيق هذا الأمر وإيقاعه لا محالة ، فتعيين تلك الحالة المعهودة من باب السياسة ، أو لأنها معهودة لمن خرج عن حكم طاعته. {ولأصلبَنَّكم في جذوع النخل} أي : عليها ، وإتيان كلمة " في " ؛ للدلالة على إبقائهم عليها زمنًا مديدًا ، تشبيهًا في استمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه ، وقيل : هو أول من صلب. {ولتعلمنّ أيُّنا} ، يريد نفسه أو موسى عليه السلام ، حيث خافوا من عصاه فأسلموا ، فَهِم اللعين أن إيمانهم لم يكن للمعجزة ، إنما كان خوفًا ، حيث رأوا عصاه ابتلعت حبالهم وعصيهم ، أو يريد {أينا} أي : أنا أو رب موسى وهارون ، الذي آمنتم به ، {أشدُّ عذابًا وأبقى} أي : أدوم. قالوا : لم يثبت في القرآن أن فرعون فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به ، ولم يثبت في الأخبار ، لكن رُوي عن ابن عباس ، وغيره ، أنه أنفذه. ورُوي أن امرأة فرعون كانت تسأل : من غلب ؟ فيقال لها : موسى ، فقالت : آمنت برب موسى وهارون ، فأرسل إليها فرعون يُهددها ، وقال : انظروا أعظم صخرة ، فإن استقرت على قولها فألقوها عليها ، فلما ألقوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة ، فمضت على قولها ، وانتزعت روحها منها ، وألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه. قاله الثعلبي. والله تعالى أعلم.
(4/423)
الإشارة : من سبقت له العناية ، لا تضره الجِنَايَة. هؤلاء السحرة جاؤوا يحادون الله ورسوله ، فأضحوا أولياء الله. رُوي أن موسى عليه السلام لما قال لهم : {ألقوا ما أنتم ملقون} ، سمع هاتفًا يقول : ألقوا يا أولياء الله ، فتحير موسى عليه السلام ، وأوجس في نفسه خيفة ، وقال : كيف أعارض أولياء الله ، فلما ألقى عصاه ظهرت ولايتهم. فكم من لصوص خرج منهم الخصوص. ففي أمثال هؤلاء تقوية لرجاء أهل الجناية ، إذا طلبوا من الله سِرَّ العناية ، وإدراك مقام الولاية ، ولذلك ابتدأ القشيري في رسالته بذكر من تقدم له جنايات من الأولياء ، كالفضيل ، وابن أدهم ، وأضرابهم - رضي الله عن جميعهم -.
جزء : 4 رقم الصفحة : 289
قلت : {هذه الحياة الدنيا} : نصب على إسقاط الخافض. اتساعًا ، لا نصب على الظرفية ؛ لأن الظرف المختص لا ينتصب على الظرفية ، على المشهور ، و {الذي فطرنا} : عطف على {ما جاءنا} ، أو قَسَمٌ حُذف جوابه ، أي : وحق الذي فطرنا لا نؤثرك... الخ.
(4/424)
يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكيًا عن السحرة ، لمَّا خوفهم فرعونُ : {قالوا} غير مكترثين بوعيده : {لن نُؤْثِرَكَ} أي : لن نختارك ، باتباعك {على ما جاءنا} من الله تعالى على يد موسى عليه السلام {من البينات} أي : المعجزات الظاهرة ؛ لأن ما ظهر من العصا كان مشتملاً على معجزات جمة ، كما تقدم. {والذي فَطَرَنَا} : خلقنا وخلق سائر المخلوقات ، أي : لن نختارك على ما ظهر لنا من دلائل صحة نبوة موسى ، ولا على الذي خلقنا ، حتى نتبعك ونترك الحق ، وكان ما شاهدوه آية حسية ، وهذه آية عقلية. وإيراده بعنوان فاطريته تعالى ؛ للإشعار بعِلِّية الحكم ، فإن خالقيته تعالى لهم ولفرعون - وهو من جملة مخلوقاته - مما يوجب عدم إيثارهم له عليه سبحانه ، أو : وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على ما جاءنا ، {فاقض ما أنت قاضٍ} أي : فاصنع ما أنت صانعه ، أو : فاحكم ما أنت حاكمه. وهو جواب لقوله : {لأقطعن أيديكم...} الخ. {إنما تقضي هذه الحياةَ الدنيا} أي : إنما تصنع ما تهواه ، أو تحكم ما تراه في هذه الحياة الدنيا الفانية ، ولا رغبة لنا في البقاء فيها ، رغبة في سكنى الدار الدائمة ، بسبب موتنا على الإيمان.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 290
(4/425)
إِنّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا} التي اقترفنا ، من الكفر والمعاصي ، ولا يؤاخذنا بها في الآخرة ، فلا نغتر بتلك الحياة الفانية ، حتى نتأثر بما أوعدتنا به من القطع والصلب ، {و} يغفر لنا أيضًا {ما أكرهتنا عليه من السحر} الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام ، بإكراهك وحشرك لنا من المدائن القاصية ، وخصوه بالذكر ، مع اندراجه في خطاياهم ؛ إظهارًا لغاية نفرتهم عنه ، ورغبة في مغفرته ، وفي ذكره الإكراه : نوع اعتذار ؛ لاستجلاب المغفرة ، وقيل : أرادوا الإكراه على تعلم السحر ، لما رُوي أن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين ؛ اثنان منهم من القبط ، والباقي من بني إسرائيل ، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر ، وقيل : إنه أكرههم على المعارضة ، حيث رُوي أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائمًا ، ففعل ، فوجدوه تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر ، فإن الساحر إذا نام بطل سحره ، فأبى إلا أن يعارضوه. لكن يأباه تصديهم للمعارضة بالرغبة والنشاط ، كما يُعرب عنه قولهم : {إِنَّ لَنَا لأَجْراً...} [الأعرَاف : 113] الخ ، وقولهم : {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشُّعَرَاء : 44] ، إلا أن يُقال : لما رأوا جدَّهُ
291
(4/426)
طمعوا وطلبوا الأجر. {والله خيرٌ وأبقى} أي : وثواب الله خير من إيثار الدنيا الفانية ، وأبقى في الدار الباقية ، أو : والله في ذاته خير ، وجزاؤه أبقى ، نعيمًا كان أو عذابًا. ثم عللوا خيريته وبقاءه فقالوا : {إِنه مَن يأت ربه مجرمًا} بأن يموت على الكفر والمعاصي ، {فإِنّ له جهنمَ لا يموتُ فيها} فيستريح وينتهي عذابه ، وهذا تحقيق لقوله : {وأبقى} ، {ولا يحيا} حياة ينتفع بها ، وضمير {إنه} : للشأن ، وفيه تنبيه على فخامة مضمون الجملة ؛ لأن مناط وضع الضمير موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره ، مع ما فيه من زيادة التقرير ، فإن الضمير لا يفهم منه أول الأمر إلا شأنٌ مبهَمٌ له خطر ، فيبقى الذهن مترقبًا لما يعقبه ، فيتمكن ، عند وروده ، فَضل تمكن ، كأنه قيل الشأن الخطير هذا.
{ومَن يأتِهِ مؤمنًا} به تعالى ، وما جاء من عنده من المعجزات ، التي من جملتها ما شهدناه ، حال كونه {قد عمل الصالحات} أي : الأعمال الصالحات ، وهي كل ما استقام شرعًا وخلص عقدًا ، {فأولئك} أي : من يأت مؤمنًا... الخ. وجمع الإشارة ؛ باعتبار معنى " مَن " ، كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظها ، وما فيه من معنى البُعد ؛ للإشعار بعلو درجتهم وبُعد منزلتهم ، أي : فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات ، {لهم} بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحات {الدرجات العُلى} أي : المنازل الرفيعة ، وليس فيه ما يدل على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل في استتباع الثواب ؛ لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى ، لا بالثواب مطلقًا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 290
(4/427)
ثم فسر تلك الدرجات ، فقال : {جناتُ عَدْنٍ} أي : إقامة على الخلود ، حال كونها {تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها وذلك جزآء من تزكى} الإشارة إلى ما أنتج لهم من الفوز بالدرجات العلى. والبعد في الإشارة ؛ للتفخيم ، أي : ما تقدم من الفوز بالدرجات العلى هو جزاء من تطهر من دنس الكفر والمعاصي ، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة ، وهذا تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى. وتقدم ذكر حال المجرم ، للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه ودوامه ، ردًا على ما ادعاه فرعون بقوله : {أينا أشدُ عذابًا وأبقى} ، هذا وقد قيل : إن قوله : {إِنه من يأت...} الخ ، ابتداء كلام من الله عزّ وجلّ. والله تعالى أعلم.
الإشارة : في الآية تحريض للفقراء أهل النسبة وأرباب الأحوال ، على الثبوت في طريق السلوك ، وعدم الرجوع عنها ، حين يكثر عليهم الإنكار والتهديد ، والتخويف بأنواع العذاب ، فلا يكترثون بذلك ولا يتضعضعون ، وليقولوا كما قال سحرة فرعون : {لن نُؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضِ ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا...} الآية. وقد جرى هذا على كثير من الصوفية ، أُوذوا على النسبة ، فمنهم من قُتل ، ومنهم من طُوف ، ومنهم من أُجلى عن وطنه ، إلى غير ذلك مما جرى عليهم ،
292
ومع ذلك لم يرجعوا عما هم عليه ، حتى وصلوا إلى حضرته تعالى وذاقوا. وما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما من وصل فلا يرجع أبدًا ، ولو قُطع إربًا إربًا. والله ولي المتقين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 290
(4/428)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولقد أوحينا إِلى موسى أنْ أسرِ بعبادي} بعد ما لبث يدعو فرعون إلى الله تعالى ويُريه الآيات المفصلات ، بعد غلبة السحرة ، نحوًا من عشرين سنة ، كما فصّل ذلك في الأعراف ، فلما أيس من إيمانهم أوحى الله بالخروج عنهم ، أي : والله لقد أوحينا إلى موسى أن أسر ، أو بأن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من يد فرعون ، أي : سر بهم من مصر ليلاً إلى بحر القلزم. والتصدير بالقسم ؛ لإبراز كمال العناية بمضمونها ، والتعبير عنهم بعبادي ؛ لإظهار الرحمة والاعتناء بهم ، والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون ، حيث استعبدهم ، وهم عباده عزّ وجلّ ، وفعل بهم من فنون العذاب ما فعل. {فاضربْ لهم} أي : اجعل لهم ، أو اتخذ لهم {طريقًا في البحر يبسًا} أي : يابسًا لا ماء فيه ، {لا تخاف دَرَكًا} أي : حال كونك آمنًا من أن يُدرككم العدو ، {ولا تخشى} الغرق ، وقرأ حمزة : " لا تخف " بالجزم ، جوابًا للأمر ، فيكون {ولا تخشى} : إما استئناف ، أي : وأنت لا تخشى ، أو عطف عليه ، والألف للإطلاق ، أو يقدر الجزم ، كقوله :
ألَمْ يأتِكَ والأنْباءُ تَنْمِي
..الخ.
وتقديم نفي خوف الدرك ، للمسارعة إلى إزاحة ما كانوا عليه من الخوف ، حيث قالوا : {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشُّعَرَاء : 61]. {فَأَتْبَعَهُمْ فرعونُ بجنوده} أي : تبعهم ومعه جنوده حتى لحقهم ، يقال : اتبعتهم ، أي : تبعتهم ، إذا كانوا سبقوك ولحقتهم ، ويؤيده قراءة : {فاتَّبَعَهُمْ} بالشد. وقيل : الباء زائدة ، والمعنى : فأتبعهم فرعون جنودَه ، أي : ساقهم خلفهم ، وأيًا ما كان ، فالفاء فصيحة مُعْربة عَن مضمر قد طوى ذكره ، ثقة بظهوره ،
293
وإيذانًا بكمال مسارعة موسى إلى الامتثال ، أي : فَفَعل ما أُمر به من الإسراء بهم ، وضرب الطريق في البحر وسلكوه ، فأتبعهم بجنوده برّا وبحرًا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 293
(4/429)
رُوِيَ أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل ، وكانوا ستمائة وسبعين ألفًا ، فأخبر فرعون بذلك ، فأتبعهم بعساكره ، وكانت مقدمته سبعمائة ألف ، فقص أثرهم فلحقهم ، بحيث تراءى الجمعان ، فلما أبصروا رهجَ الخيل ، قالوا : {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشُّعَرَاء : 61 ، 62]. فلما قربوا ، قالوا : يا موسى أين نمضي ، البحر أمامنا ، وخيل فرعون خلفنا ، فعند ذلك ضرب موسى عصاه البحر فانفلق على ثنتي عشرة فرقة ، {كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشُّعَرَاء : 63] أي : كالجبل العظيم من الماء ، وكانوا يمرون به ، وكلهم بنو أعمام ، لا يرى بعضُهم بعضًا ، فقالوا : قد غرق إخواننا ، فأوحى الله إلى أطواد الماء : أن اشتبكي ، وصارت شبابك ، يرى بعضهم بعضًا ، ويسمع بعضهم كلامَ بعض ، فلما أتى فرعونُ الساحلَ ، وجد البحر منفلقًا ، فقال : سحر موسى البحر ، فقالوا : إن كنت ربًا فادخل كما دخل ، فجاء جبريلُ على رَمَكةٍ ودَيِقٍ ، أي : تحب الفحل ، وكان فرعون على حصان ، فاقتحم جبريل بالرمكة الماء ، فلم يتمالك حصان فرعون ، فاقتحم البحر على إثره ، ودخل القبط كلهم ، فلما لَجَّجُوا ، أوحى الله تعالى إلى البحر أن أغرقهم ، فعلاهم البحر وأغرقهم. فَعبَر موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين ، وأما فرعون وجنوده {فغَشِيَهم من اليمِّ ما غشيهم} أي : علاهم منه وغمرهم من الأمر الهائل ، الذي لا يُقادر قدره ولا يبلغ كنهه. قال القشيري : فغرقوا بجملتهم ، وآمن فرعونُ لما ظهر له البأس ، فلم ينفعه إقراره ، وكان ينفعه لو لم يكن إصرارُه ، وقد أدركته الشقاوةُ التي سَبَقَتْ له من التقدير. هـ. وقال الكواشي : {وغشيهم} من الغضب والغرق ، وغير ذلك ، ما لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى. هـ. فإبهام الصلة ؛ للتهويل والتفخيم ، وقيل : {غشيهم من اليم} ما سمعتَ قصته في غير هذه السورة ، وليس بشيء ؛ فإن مدار الإبهام على التهويل والتفخيم ، بحيث يخرج عن حدود الفهم(4/430)
والوصف ، لا سماع قصته فقط.
{وأضلّ فرعونُ قومَه} أي : أتلفهم وسلك بهم مسلكًا أدى بهم إلى الخيبة والخسران ، حيث ماتوا على الكفر ، وأوصلهم إلى العذاب الهائل الدنيوي ، المتصل بالعذاب الدائم الأخري ، {وما هدَى} أي : ما أرشدهم قط إلى طريق توصلهم إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية. وهو تقرير لإضلاله وتأكيد له ، وفيه نوع تهكم به في قوله : {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غَافر : 29] ، فإن نفي الهداية عن شخص
294
مشعر بكونه ممن يتصور منه الهداية في الجملة ، وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 293
الإشارة : انظر عاقبة من شدّ يده على دينه ، وصبر على شدائد زمانه ، كيف خرقت له العوائد ، وجاءه العز والنصر فأنساه تلك الشدائد ، وأهلك الله من كان يؤذيه من الأعداء ، وسلك به سبيل النجاة والهدى ، وهذه عادة الله مع أوليائه ، يُشدد عليهم أولاً بضروب البلايا والمحن ، ثم يعقبهم العز والنصر وضروب المنن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 293
(4/431)
يقول الحقّ جلّ جلاله : لبني إسرائيل ، بعد ما أنجاهم من الغرق ، وأفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية : {يا بني إِسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم} ؛ فرعون وقومه ، حيث كانوا {يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} [البَقَرَة : 49] ، {ووعدناكم جانبَ الطُّورِ الأيمنِ} أي : واعدناكم بواسطة نبيكم ، إتيان جانب الطور ، الجانب الأيمن منه للمناجاة وإنزال التوراة. وهل هو الطور الذي أبصر فيه النار ووقعت فيه الرسالة ، أو غيره ؟ خلاف. ونسبة المواعدة إليهم ممع كونه لموسى عليه السلام خاصة ، أو له وللسبعين المختارين ، نظرٌ إلى ملابستها إياهم ، وسراية منفعتها إليهم ، وإعطاء لمقام الامتنان حقه. كما في قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعرَاف : 11] ؛ حيث نسب الخلق والتصوير للمخاطبين ، مع أن المخلوق كذلك هو آدم عليه السلام.
ثم قال تعالى : {ونزَّلنا عليكم} حين تُهتم ، {المنَّ والسَّلْوى} أي : الترنجبين والطير السُّماني ، حيث كان ينزل عليهم المنَّ وهم في التيه ، مثل الثلج ، من الفجر إلى الطلوع ، لكل إنسان صالح ، ويبعث الجنوب عليهم السُّماني ، فيذبح الرجل منه ما يكفيه. وقلنا لهم : {كُلوا من طيباتِ ما رزقناكم} أي : من لذائده ، أو حلاله. وفي البدء بنعمة الإنجاء ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن الترتيب ما لا يخفى. {ولا تطغَوا فيه} أي : فيما رزقناكم بالإخلال بشكره ، والتَعدي لما حَدَّ لكم فيه ، كالترفه والبطر والمنع من المستحق. وقال القشيري : مجاوزة الحلال إلى الحرام ، أو بالزيادة على الكفاف وما لا بُدَّ منه ، فأزاد على سدِّ الرمق ، أو بالأكل على الغفلة والنسيان. هـ. وقيل : لا تدخروا ، فادَّخروا فتعودوا ، وقيل : لا تنفقوه في المعصية ، {فيَحِلَّ عليكم
295
(4/432)
غضبي} بفعل شيء من ذلك ، أي : ينزل ويجب ، من حَلَّ الدين ؛ إذا وجب. {ومَن يَحْلِلْ عليه غضبي فقد هَوَى} أي : تردَّى وهلك ، أو وقع في المهاوي.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 295
وإِني لغفارٌ} أي : كثير الغفران {لمن تابَ} عن الشرك والمعاصي ، التي من جملتها الطغيان فميا ذكر ، {وآمن} بما يجب الإيمان به ، {وعَمِلَ صالحًا} أي : عملاً صالحًا مستقيمًا عند الشرع ، وفيه ترغيب وحث لمن وقع في زلَّة أو طغيان على التوبة والإيمان ، {ثم اهتدى} أي : استقام على الهدى ودام عليها حتى مات. وفيه إشارة إلى أن من لم يستمر عليها بمعزل عن الغفران. قال الكواشي : {ثم اهتدى} أي : علم أن ذلك بتوفيق من الله تعالى. هـ.
الإشارة : إذا ذهبت عن العبد أيام المحن ، وجاءت له أيام المنن ، فينبغي له أن يتذكر ما سلف له من المحن ، وينظر ما هو فيه الآن من المنن ، ليزداد شكرًا وتواضعًا ، فتزداد نعمه ، وتتواتر عليه الخيرات. وأما إن نسي أيام المحن ، ولم يشكر ما هو فيه من المنن ، فحقيق أن تزول عنه ، ويرجع إلى ما كان عليه. وتَذَكَّرْ حديث الأبرص والأقرع والأعمى ، حسبما في الصحيح. فإن الأبرص والأقرع ، حين شفاها الله وأغناهما ، أنكرا ما كانا عليه ، فرجعا إلى ما كانا عليه ، والأعمى حين أقر بما كان عليه ، وشكر الحال الذي حال إليه ، دامت نعمته وكثر خيره. فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود. فيقال لأهل النعم ، إن قاموا بشكرها : كُلوا من طيبات ما رزقناكم ، ولا تطغوا فيه ، بأن تصرفوه في غير محله ، أو تمنعوه عن مستحقه ، {فيحلَّ عليكم غضبي...} الآية.
وقوله تعالى : {وإِني لغفار لمن تاب...} الخ ، قال القشيري : {وإني لغفار لمن تاب} من الزَّلَّة {وآمن} فلم يَرَ أعماله من نَفْسه ، بل جميع الحوادث من الحقِّ ، {وعمل صالحًا} فلم يُخِلّ بالفرائض ، {ثم اهتدى} للسُّنَّةِ والجماعة ، وقال أيضًا : ثم اهتدى بنا إلينا. هـ.
(4/433)
قال الورتجبي : التائب : المنقطعُ إلى الله ، والمؤمن : العارف بالله ، والعمل الصالح : تركه ما دون الله ، فإذا كان كذلك ، فاهتدى بالله إلى الله ، ويكون مغمورًا برحمة الله ، ومعصومًا بعصمة الله. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 295
يقول الحقّ جلّ جلاله لموسى عليه السلام ، لما ذهب إلى الطور ، لموافاة الميقات ، للعهد الذي عهد إليه ، واختار سبعين من بني إسرائيل ، يحضرون معه ؛ لأخذ التوراة بأمره تعالى ، فلما دنا من الجبل حمله الشوق ، فاستعجل إلى الجبل ، وترك قومه أسفله ، فقال له الحق جلّ جلاله : {وما أعجَلَكَ عن قومك يا موسى} أي : ما حملك على العَجَلَة ، وأيُّ شيء أعجلك منفردًا عن قومك ، وقد أمرتك باستصحابهم ، ولعل في إفرادك عنهم عدم اعتناء بهم ؟ فأجاب عليه السلام بقول : {هُمْ أُولاءِ على أَثَري} أي : هم هؤلاء قريبًا مني ، فهُم معي ، وإنما سبقتهم بخطا يسيرة ، ظننت أنها لا تُخلُّ بالمعية ، ولا تقدح في الاستصحاب ، فإن ذلك مما لا يُعتد به فيما بين الرفقة.
قال الكواشي : ولما كان سُؤال الرب تعالى لموسى يقتضي شيئين : أحدهما : إنكار العَجَلة ، والثاني : السؤال عن السبب والحامل عليها ، كان أهم الأمرين إلى موسى بسَطَ العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه ، فاعتل أن قال : إن ما وُجدَ مني تقدم يسير ، لا يُعتد بمثله في العادة لقربه ، كما يتقدم الوفدَ رئيسُهم ومُتقدمُهم ، ثم عقبه بجواب السؤال فقال : {عَجِلْتُ إِليك رَبِّ لِترضَى} ؛ لتزداد عني رضا ؛ لمسارعتي إلى الامتثال لأمرك ، واعتنائي بالوفاء بعهدك ؛ لأنه ظن أن إسراعه إليه أبلغ في رضاه. وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء - عليهم السلام - والمعنى : لتعلم أني أُحبك ولا قرار لي مع غيرك. هـ.
(4/434)
وقال القشيري : {هم أولاء على أثري} ؛ ما خلَّفْتُهم لتضييعي إياهم ، ولكن عَجِلْتُ إليك ربِّ لترضى. قال : يا موسى ، رضائي في أن تكون مَعهم ، ولا تتقدمهم ولا تَسْبِقَهم ، وكونُكَ مع الضعفاءِ ، الذين استصحبتهم في حصول رضاي ، أبلغُ مِن تَقَدُّمِكَ عليهم. هـ.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
قال} له تعالى : {فإِنا فتنَّا قومَك من بعدِك} أي : ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم. رُوِيَ أنهم أقاموا على ما وصاهم به موسى عليه السلام عشرين ليلة ، بعد ذهابه ، فحسبوها مع أيامها أربعين ، وقالوا : قد أكملنا العدة ، وليس من موسى عين ولا أثر ، وكان وعدهم أن يغيب عنهم أربعين يومًا ، واستخلف هارون على من بقي منهم ، وكانوا ستمائة ألف ، فافتتنوا بعبادة العجل كلهم ، ما نجا منهم إلا اثنا عشر ألفًا.
297
وهذا معنى قوله تعالى : {وأضلَّهُمُ السامريُّ} ، حيث كان هو السبب في فتنتهم ، فقال لهم : إنما أخلف موسى عليه السلام ميعادكم ؛ لِمَا معكم من حُليّ القوم ، فهو حرام عليكم ، فكان من أمر العِجل ما يأتي تفسيره إن شاء الله. فإخباره تعالى بهذه الفتنة عند قدومه عليه السلام ، قبل وقوعها ، إما باعتبار تحققها في علمه تعالى ، وإما باعتبار التعبير عن المتوقع بالواقع ، كما في قوله تعالى : {وَنَادَىا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعرَاف : 44] ، أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام ، وتصدى لها بترتيب مبادئها ، فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار بها.
والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل ، يقال لها : سامرة ، وقيل : كان رجلاً من كرمان. وقال ابنُ عباس : كان من قرية يعبدون البقر ، فدخل في بني إسرائيل وأظهر الإسلام ، وفي قلبه ما فيه من حب عبادة البقرة ، فابتلى اللهُ به بني إسرائيل ، واسمه : موسى بن ظفر.
(4/435)
{فرجع موسى إلى قومه} بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة ، لا عقب الإخبار بالفتنة ، كما يتوهم من قوله تعالى : {غضبانَ أسِفًا} ، فإن كون الرجوع بعد الأربعين أمر مقرر مشهور ، يرفع كون الرجوع عقب الفتنة. والأسف : أشد الغضب ، وقيل : أسفًا : حزينًا جزعًا على ضلال قومه. {قال يا قوم ألم يَعِدْكُم ربُّكم وعدًا حسنًا} ؛ بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى ، {أَفَطَالَ عليكم العهدُ} أي : مدة مفارقتي إياكم. والهمزة للإنكار ، والمعطوف محذوف ، أي : أوَعَدَكم ذلك فطال زمان الإنجاز ، فأخطأتم بسببه ، {أم أردتم أن يَحِلَّ عليكم غضبٌ} شديد كائن {من ربكم} أي : من مالك أمركم ، {فأخلفتم موعدي} أي : وعدي إياكم بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات ، أو وعْدَكم إياي بأن تثبتُوا على ما أمرتكم به ، على إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله ، والفاء ، لترتيب ما بعدها ، كأنه قيل : أنسيتم الوعد بطول العهد فأخلفتموني خطأ {أم أردتم} حلول الغضب عليكم فأخلفتموه ؛ عمدًا.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
قالوا ما أخلفنا موعدك} أي : وعدنا إياك بالثبات على ما أمرتنا به ، {بمَلْكنا} أي : بسلطاننا وقدرتنا ، ونحن نملك أمرنا. وفيه لغتان : فتح الميم وكسرها. يعنون : لو خلينا وأُمورَنا ، ولم يسوِّل لنا السامريُّ ما سوله ، ما أخلفنا ، ولكن غلبنا على أمرنا ، واستغوانا السامري مع مساعدة الأحوال.
وقال القشيري : أي : لم نكن في ابتداء حالنا قاصدين إلى ما حَصَلَ مِنَّا ، ولا عالمين بما آلَتْ إليه عاقبة أمرِنَا ، وإنَّ الذي حملنا عليه حُلِيّ القبط ، صاغَ السامريُّ منه العجلَ ، فآل الأمر إلى ما بلغ من الشر ، وكذلك الحرامُ لا يخلو شؤمُه من الفتنة والشر. هـ.
298
(4/436)
وقوله تعالى : {ولكِنَّا حُمِّلْنَا أوزارًا من زينةِ القوم} ، استدراك عما سبق ، واعتذار ببيان منشأ الخطأ ، أي : حملنا أحمالاً من حُليّ القبط ، التي استعرناها منهم ، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس. وقيل : كانوا استعاروها لعيد كان لهم ، ثم لم يردوها إليهم ، مخافة أن يقفوا على أمرهم. وقيل : لما رمى البحر أجساد القبط ، وكان غالب ثيابهم الذهب والفضة ، التقطها بنو إسرائيل ، فهي زينة القوم التي صيغ منها العجل ، ولعل تسميتها أوزارًا ؛ لأنها تبعات وآثام ، حيث لم تحل الغنائم لهم.
{فقذفناها} أي : في النار رجاء الخلاص من عقوبتها ، أو قذفناها إلى السامري وألقاها في النار ، {فكذلك ألقى السامريُّ} ما كان معه منها كما ألقيناه ، أو ألقى ما كان معه من تراب حافر فَرس جبريل ، كان قد صرَّه في عمامته ، وكان ألقى إليه الشيطان : أنه ما خالط شيئًا إلا حيى ، فألقاه في فمه فصار يخور. رُوِيَ : أنه قال لهم : إنما تأخر موسى عنكم ، لما معكم من الأوزار ، فالرأي أن نحفر حفرة ويُسجر فيها نار ، ونقذف فيها كل ما معنا ، ففعلوا ، {فأخرج لهم} من ذلك الحليّ المذاب {عِجْلاً} أي : صورة عجل {جَسدًا} أي : جثة ذات لحم ودم ، أو جسدًا من ذهب لا روح فيه ، {له خُوار} أي : صوت عِجْل ، {فقالوا} أي : السامري ومن افتتن به : {هذا إِلهكم وإِله موسى فَنَسِيَ} أي : غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. فقوله تعالى : {فَأخْرجَ لهم...} الخ... هو من كلام الله تعالى ، حكاية لنتيجة فتنة السامري ، قولاً وفعلاً ، قصدًا إلى زيادة تقريرها ، وتمهيدًا للإنكار عليهم ، وليس من كلام المعتذرين ، وإلا لقال : فَأَخْرجَ لنا... والله تعالى أعلم.
(4/437)
الإشارة : ينبغي لرئيس القوم ، إذا كان في سفر ، أن يكون وسَطهم ، أو سائقًا لهم ، ولا يتقدمهم أو يستعجل لأمر عنهم ، فإن التأني كله من الله ، والعَجَلة كلها من الشيطان ، والخير كله في الاجتماع مع الضعفاء والمساكين ، حتى يكون كأحدهم ، فإن فارقهم ، لأمر مهم ، فليستخلف عليهم من يثق به في دينه ، وليكن اعتماده في ذلك على ربه ، ونظره كله إلى رعايته وحفظه. قال الكواشي : عن ابن عطاء : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : أتدري من أين أُتيت ؟ - يعني في فتنة قومه - قال : لا يا رب ، قال : حين قلت لهارون : اخلفني في قومي ، أين كنتُ أنا حين اعتمدتَ على هارون ؟ . هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
فكل فتنة أو ضلال يُصيب الفقراء ، فإنما ذلك من عدم الاجتماع مع أهل الفن ، أو قلة الاستماع لهم ، فإن أصابتهم فتنة الأسباب ، والركون إلى شيء من الدنيا في غيبة الشيخ ، فليرجع إليهم غضبان أسفًا ، وليقل لهم : ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا ، وهو الفتح الكبير لو صبرتم على السير والتجريد ، أفطال عليكم العهد ، فقد كانت الرجال تمكث في خدمة الأشياخ العشرين والثلاثين سنة ، أم أردتم أن يحل عليكم
299
غضب من ربكم ، بالإبعاد وإسْدَال الحجاب ، حيث خالفتم عهود أشياخكم ، فإن اعتذروا فليقبل عذرهم ، وإن ركنوا إلى عبادة شيء من عجل الدنيا فليخرجه من أيديهم ، وليقل : وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفًا ، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفًا. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
قلت : {ألا يرجع} : " أن " مخففة ، لأنَّ الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين ، ومن قرأ بالنصب جعل الرؤية بصرية.
(4/438)
يقول الحقّ جلّ جلاله : مُنكرًا على عبدة العجل ومقبحًا لرأيهم : {أفلا يَرَوْنَ} أي : أفلا يتفكرُ هؤلاء الضالون المضلون فيعلمون {أن} الأمر والشأن : {لا يرجع إِليهم} العجل كلامًا ، ولا يرد عليها جوابًا ، وإنما هو جماد لا روح فيه ؟ فكيف يتوهمونه أنه إله ؟ وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه عدميًا ؛ للتنبيه على كمال ظهوره ، المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم. {و} هو أيضًا {لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا} أي : أفلا يرون أيضًا أن العجل لا يقدر أن يدفع عنهم ضرًا ، أو يجلب لهم نفعًا ؟ أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه ، أو ينفعهم إن عبدوه.
{ولقد قال لهم هارونُ من قبلُ} أي : والله لقد نصحهم هارون ونبههم على الحق ، من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم ، وقال لهم : {يا قوم إِنما فُتنتم به} أي : وقعتم في الفتنة بالعِجْل أو ضللتم به ، والمعنى : إنما فعل بكم الفتنة ، لا الإرشاد إلى الحق ، {وإِنَّ ربكم الرحمنُ} وحده ، لا العِجْل ، أرشدهم إلى الحق بعد أن زجرهم عن الباطل. والتعرض لعنوان الرحمانية ؛ للاعتناء باستمالتهم إلى الحق المُفضي إلى الرحمة الشاملة ، أي : إن ربكم الذي يستحق أن يُعبد هو الرحمن لا غير. {فاتبعوني} على الثبات على الدين ، {وأطيعوا أمري} من ترك عبادة ما علمتم شأنه.
{قالوا} في جواب هارون عليه السلام : {لن نبرحَ عليه عاكفين} أي : لن نزال على عبادة العجل مقيمين {حتى يرجع إلينا موسى} ، جعلوا رجوعه عليه السلام غاية لعكوفهم على عبادة العجل ، لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه ، بل بطريق
300
التعلل والتسويف ، وقد دسُّوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجع بشيء مبين لإبطالها ، تعويلاً على مقالة السامري.
جزء : 4 رقم الصفحة : 300
(4/439)
رُوِيَ أنهم ، لما قالوا ذلك ، اعتزلهم هارون عليه السلام في اثني عشر ألفًا ممن لم يعبد العجل ، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجَلَبة ، وكانوا يرقصون حول العجل ، قال للسبعين الذين كانوا معه : هذا صوت الفتنة ، فلما وصل إليهم قال لهم ما قال من قوله : {ألم يعدكم...} الخ. وسمع منهم ما قالوا من قولهم : {ما أخلفنا...} الخ. فلما رأى هارونَ أخذ شعره بيمينه ، ولحيته بشماله ، غضبًا ، {قال يا هارونُ} ، وإنما جرده من الواو ؛ لأنه استئناف بياني ، كأنه قيل : ماذا قال موسى لهارون حين سمع جوابهم له ؟ وهل رضي بسكوته بعدما شهد منهم ما شهد ؟ فقيل : {قال يا هارونُ ما منعك إِذْ رأيتَهم ضلّوا} بعبادة العجل ، وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالة الشنعاء ، {ألا تتَّبعنِ} أي : أن تتبعني. على أن " لا " مزيدة ، أيْ : أيّ شيء منعك ، حين رأيت ضلالتهم ، من أن تتبعني فميا أمرتك ، وتعمل بوصيتي فتقاتلهم بمن معك ؟ قال ابن عطية : والتحقيق : أن " لا " غير مزيدة ، ويُقدر فعل ، أي : ما منعك مجانبتهم وسوّل لك ألا تتبعن. هـ. قلت : وفيه نظر ؛ لأن مجانبة هارون عليه السلام للقوم كانت حاصلة ، وإنما أنكر عليه عدم مقاتلتهم ، أو عدم لحوقه ليخبره ، فتأمله. وقيل : المعنى : ما حملك على ألا تتبعن ، فإن المنع من الشيء مستلزم للحمل على مقابله ، وقيل : ما منعك أن تلحقني وتُخبرني بضلالهم ، فتكون مفارقتك زجرًا لهم ، وهذا أظهر.
{أفعَصَيتَ أمري} بالصلابة في الدين والمحاماة عليه ، فإن قوله : {اخلفني في قومي} متضمن للأمر بهما حتمًا ، فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرًا ، والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف ، أي : أخالفتني فعصيت أمري.
(4/440)
{قال يا ابن أمَّ} ، خص الأم بالذكر ؛ استعطافًا لحقها ، وترقيقًا لقلبه ، لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه ، فإن الجمهور على أنهما شقيقان. قال له : {لا تأخذْ بلحيتي ولا برأسي} أي : بشعر رأسي. وقد كان عليه السلام أخذ بهما كما تقدم ، من شدة غيظه وفرط غضبه لله ، وكان حديدًا متصلبًا في كل شيء ، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل ، حتى فعل ما فعل. ثم اعتذر له أخوه بقوله : {إِني خشيتُ} إن قاتلتُ بعضهم ببعض وتفرقوا ، {أن تقول فرقتَ بين بني إِسرائيل} برأيك ، مع كونهم أبناء رجل واحد ، كما يُنبئ عنه ذكرهم بذلك العنوان دون القوم ونحوه. وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتال من التفريق : الذي لا يُرى بعده اجتماع ، فخشيتُ أن تقول : فرقت بينهم ، {ولم ترقبْ قولي} أي : قوله : {اخلفني في قومي وأصلح...} الخ ، يعني : إني رأيت أن الأصلح هو في حفظ الدماء والمداراة معهم ، إلى أن ترجع إليهم ، فلذلك استأنيتك ؛
301
لتكون أنت المتدارك للأمر بما رأيت ، لا سيما وقد كانوا في غاية القوة ، ونحن على القلة والضعف ، كما يُعرب عنه قوله : {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} [الأعرَاف : 150]. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 300
الإشارة : كل من اعتمد على غير الله ، أو مال بمحبته إلى ما سوى الله ، فهو في حقه عجل بني إسرائيل ، فيقال له : كيف تركن إليه وهو لا يملك لك ضرًا ولا نفعًا ، وإنما فُتنت به عن السير إلى ربك ، وانطمست به حضرة قدسك ، فربك الرحمن الكريم المنان ، فاتبع ما أمرك به من الطاعات ، وكن عبدًا له في جميع الحالات ، تكن خالصًا لله ، حُرًا مما سواه. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 300
(4/441)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قال} موسى عليه السلام في توبيخ السامري : {فما خطبُك يا سامريُّ} أي : ما شأنك ، وما مطلوبك فميا فعلتَ من فتنة القوم ؟ خاطبه بذلك ؛ ليظهرَ للناس بطلانُ كيده باعترافه ، وليفعل به وبما صنع من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به ، ولمن خلفهم من الأمم من بعده ، {قال} السامري في جوابه : {بَصُرْتُ بما لم يَبْصُرُوا به} أي : علمت ما لم يعلمه القوم ، وفطِنت لما لم يفطنوا به ، أو رأيتُ ما لم يروه ، وهذا أنسب ، وقد كان رأى جبريل عليه السلام ، جاء راكبًا فرسًا ، وكان كلما رفع الفرسُ يده أو رجله عن الطريق اليبس ، اخضر ما تحت قدمه بالنبات ، فعرف أن له شأنًا ، فأخذ من موطئه شيئًا من التراب. وذلك قوله تعالى : {فقبضتُ قبضةً من أَثَرِ الرسولِ} أي : أثر فرس الرسول ، وهو جبريل ، الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور.
وقال في اللباب : كان السامري من المقربين لموسى عليه السلام ، فرأى جبريلَ راكبًا على فرس ، وقد دخل البحر فانفلق ، فأخذ من أثره ، ولم ير ذلك إلا من كان مع موسى. هـ. وقال قتادة : كان السامري عظيمًا في بني إسرائيل ، من قبيلة يقال لها : سامرة ، ولكن عدو الله نافق ، بعدما قطع البحرَ مع بني إسرائيل ، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة ، وهم يعكفون على أصنام لهم ، وكانوا يعبدون البقر ، {قَالُواْ يامُوسَىا اجْعَلْ لَّنَآ إِلَـاهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعرَاف : 138]. فاغتنمها السامري فاتخذ العجل. هـ.
302
وقال الكواشي : وإنما عرف السامريُّ جبريلَ من بين سائر الناس ؛ لأن أمه ولدته في السنة التي يُقتل فيها الغلمان ، فوضعته في كهف ؛ حذرًا عليه ، فبعث الله تعالى جبريل ؛ ليربيه لِمَا قضى على يديه من الفتنة. هـ. وضعّفه ابن عطية. قلت : ولعل تضعيفه من جهة النقل ، وأما القدرة فهي صالحةَ ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 302
(4/442)
ثم قال : فأخذت تلك القبضة {فنبذتُها} في فم تلك الصورة المذابة من الحُليّ ، فصارت تخور ، {وكذلك سَوَّلَتْ لي نفسي} ؛ أي : زينت. والإشارة : نعت لمصدر محذوف ، أي : سَوَّلَتْ لي نفسي تسويلاً كائنًا مثل ذلك التسويل البديع.
وحاصل جوابه : أن ما فعله إنما صدر منه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة وإغوائها ، لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهي ، فند ذلك {قال} له موسى عليه السلام : {فاذهبْ} أي : اخرج من بين الناس ، {فإِنَّ لك في الحياة} أي : في مدة حياتك ، {أن تقولَ لا مِسَاس} والمعنى : أن لك في مدة حياتك أن تفارقهم مفارقة كلية ، لا بحسب الاختيار ، بل بحسب الاضطرار الملجئ إليه ، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام ، لا يكاد يَمَسُّهُ أحد ، أو يمسُّ أحدًا ، إلا حُمّ من ساعته حمى شديدة ، فتحامَى الناسَ وتحاموه ، وكان يَصيح بأقصى طوقه : لا مساس. وقيل : إن موسى عليه السلام نفاه من قومه ، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه. قال الحسن : (جعل الله عقوبة السامري ألا يمَاس الناسَ ولا يماسوه. جعل ذلك له ولمن كان منه إلى يوم القيامة). فكأن الله تعالى شدَّد عليه المحنة ، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال : ابتلي بالوسواس ، وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة : بقاياه اليوم يقولون ذلك : لا مساس. ويقال : إن موسى همّ بقتل السامري ، فقال الله تعالى له : لا تقتله ؛ فإنه سخي. ولعل الحكمة في عقابه بهذه العقوبة : أن مخالطته للناس نشأت من هذه الفتنة ، فعوقب بالطرد والبعد عنهم.
(4/443)
ثم قال له الله : {وإِنَّ لك موعدًا} أي : في الآخرة ، {لن تُخْلَفه} أي : لن يُخلفك الله ذلك الوعد ، بل يُنجزه لك أَلبتةَ ، بعد ما عاقبك في الدنيا. أو لن تجاوزه ولن تخطئه ، بل لا بد لك من ملاقاته. {وانظر إِلى إِلهك} العجل ، {الذي ظَلْتَ عليه عاكفًا} ؛ مقيمًا على عبادته ، {لنُحَرِّقنه} أي : والله لنحرقنه بالنار ، وقيل بالمبْرد ، مبالغةً في الحرق ، ويعضده قراءة : " لنحْرُقنه " ، {ثم لنَنْسِفَنَّه} أي : لنذرينه بالريح {في اليمِّ} ؛ في البحر ، رمادًا ، أو مبرودًا كأنه هباء ، {نَسْفًا} بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر ، وقد فعل عليه السلام ذلك كله حينئذ ، كما يشهد بذلك الأمرُ بالنظر ، وإنما لم يصرح به ؛ تنبيهًا على كمال ظهوره ، واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين.
303
ثم نبَّه على الحق فقال : {إِنما إِلهُكم الله} أي : إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله. والجملة : استئنافية مسوقة لتحقيق الحق ، إثر إبطال الباطل ، بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل ، ثم وصفه بقوله : {الذي لا إِله إِلا هو} وحده ، من غير أن يُشاركه في الألوهية شيء من الأشياء ، {وَسِعَ كل شيءٍ علمًا} أي : وسع علمه كل ما من شأنه أن يُعلم. وجملة : {وسع} : بدل من الصلة ، أي : إنما إلهكم : الذي وسع كل شيء علمًا لا غيره كائنًا ما كان ، فيدخل فيه العجل دخولاً أوليًا. وهذا ختم كلام موسى عليه السلام ، بتقرير أمر التوحيد ، كما كان افتتاح الوحي إليه به بقوله : {إِنني أنا الله لا إِله إِلا أنا}. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 302
(4/444)
الإشارة : انظر أثر حافر فرس جبريل : كيف حييت به الأشباح ، فكيف لا تحيا بتقبيل أثر وطء العارفين بالله ، أو بتقبيل أقدامهم ، بل كل من خضع لهم وقبَّل أقدامهم حييت روحه ، وشعشعت أنواره ، وتحقق عرفانه ، كما هو معلوم ؛ لأن الخضوع لأولياء الله إنما هو خضوع لله ؛ لأنهم يدلون على الله ، ويبعدون عن كل ما سواه. وانظر السامري ؛ حين خضع لغير الله بمجرد هواه كيف طُرد وأُبعد ، حتى صار مثلاً في الناس. فقالت الصوفية : ينبغي للفقير أن يفر من أبناء جنسه ، ويكون كالسامريِ ، إذا رأى أحدًا قال : لا مساس ، وأنشدوا :
وخَفْ أبناءَ جنسك واخش منهم
كما تخشى الضراغم والسُّنْبَتا
وخالِطْهم وزايلهم حِذارًا
وكن كالسامري إذا لُمِسْتَ
والسنبتاء : كل حيوان جريء ، وقيل : اسم للنمر.
ويقال ، لمن ركن إلى شيء دون الله تعالى ؛ مِنْ علم ، أو عمل ، أو حال ، أو مقام ، أو فني في مخلوق : (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفًا لنُحرقنه ثم لننسفنّه في اليم نسفًا). وفي بعض الأثر : يقول الله : " يا عبدي ، لا تركْن لشيء دوني ، فإنْ ركنتَ إلى علم جهّلناك فيه ، وإن ركنت إلى عمل رددناه عليك ، وإن ركنتَ إلى حال وقفناك معه ، وإن ركنتَ إلى معرفة نكرناها عليك. فأي حيلة لك أيها العبد ، فكن لنا عبدًا أكن لك ربًّا " أو كما قال. وإليه الإشارة بقوله : {إنما إلهكم الله...} الآية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 302
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ...}
قلت : محل الكاف : نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : نقص عليك قصًا مثل ذلك القص المارّ. وما في الإشارة من معنى البُعد ؛ للإيذان بعلو درجته - عليه الصلاة والسلام - وبُعد منزلته في الفضل. و {من أنباء} : في محل النصب ، إما على أنه
304
مفعول {نقُصّ} ؛ باعتبار معناه ، أي : نقص عليك بعض أنباء ، وإما على أنه متعلق بمحذوف ؛ صفة للمفعول ، أي : نقص عليك خبرًا كائنًا من أخبار ما قد سبق.
(4/445)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {كذلك} أي : مثل ذلك القصص البديع الذي سمعته {نقصُّ عليك من أنباء ما قد سبق} أي : من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية ؛ ليكون تبصرة لك ، وزيادة في علمك ، وتذكيرًا لغيرك ، وعبرة لمن يقف عليه ممن يأتي بعدك. والله تعالى أعلم.
الإشارة : حكايات الصالحين وسِيَر العارفين جند من جنود القلب ، فيها تنشيط لمن يريد اللحوق بهم ، وتشويق لمقاماتهم ، وتسلية لمن يُصاب في ذات الله بمثل ما أصابهم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد مَن أعرض عن القرآن المشتمل على هذه الأنباء الحسان ، فقال :
{...
جزء : 4 رقم الصفحة : 304
(4/446)
وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَىا فِيهَا عِوَجاً وَلاا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} قلت : {مَن أعرض} : شرطية أو موصولة ، وعلى كلٍّ فهي صفة لذِكْرًا ، و {خالدين} : حال من فاعل {يحمل} ، أو الجمع ، باعتبار معنى " مَن " ، و {حِمْلاً} : تمييز ، تفسير لضمير {ساء} ، والمخصوص محذوف ، أي : ساء حملاً وزرهم ، و {يوم يُنفخ} : بدل من {يوم القيامة} ، أو منصوب باذكر. و {يتخافتون} : استئناف مُبين لحالهم يومئذ ، أو حال أخرى من {المجرمين}. و {قاعًا} : حال من ضمير {يذرها} ، أو مفعول ثان ليذر. و {صفصفًا} : حال ثانية ، أو بدل من المفعول الثاني ، وجملة : {لا ترى} : استئناف مبين لما سبق من القاع الصفصف ، أو حال أخرى ، و {يومئذ} : ظرف ليتبعون ، أو بدل من {يوم القيامة}.
(4/447)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقد آتيناك} يا محمد {من لَّدُنا} ؛ خصوص عنديتنا {ذِكْرًا} عظيمًا وقرآنا كريمًا ، جامعًا لكل كمال ، مُخبرًا بعجائب القصص والأمثال. {مَنْ أعْرَضَ عنه} أي : عن ذلك الذِكْر العظيم الشأن ، المستتبع لسعادة الدارين ، بأن لم يؤمن
305
به ، {فإِنه يحملُ يومَ القيامة وِزْرًا} أي : عقوبة ثقيلة فادحة على كفره وسائر ذنوبه. وتسميتها وزرًا لتشبيهها في ثقلها على المعاقَب ، وصعوبة احتمالها ، بالحمل الذي يُثقل الحامل ويُنقِضُ ظهره ، وقيل : يُجسّم ، ويُجعل على ظهره في طريق الحشر ، والأول أنسب لقوله : {خالدين فيه} أي : في ذلك الوزر ، وهو العذاب ، أو في ذلك الحمل الثقيل ؛ لاستمراره فيه بعد دخول النار ، {وساء لهم يوم القيامة حِمْلاً} أي : بئس حملهم هذا يوم القيامة ، وإعادة يوم القيامة ؛ لزيادة التهويل.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 304
يوم يُنفخُ في الصُّور} أي : ذلك اليوم هو يوم يُنفخ في الصور ، أو : اذكر يوم ينفخ في الصور نفخة البعث ، {ونَحشُر المجرمين} أي : المشركين {يومئذٍ} أي : يوم ينفخ في الصور ، وأعاده ، تهويلاً ، حَال كونهم {زُرقًا} أي : زُرق العُيون. وإنما جُعلوا كذلك ؛ لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب ، وكانت تتشاءم بزرقة العين ، كما قال الشاعر :
لَقَدْ زَرِقَتْ عَيْنَاكَ يا ابنْ مُكَعْبَرٍ أَلاَ كُلُّ ضَبِّيِّ مِنَ اللؤْم أزرقُ
وقيل زرقًا ، أي : عُميًا ؛ لأن حدقة العين تزرق من شدة العمى. وقيل : عِطاشًا ؛ لأن سواد العين يتغير من شدة العطش ويرزق.
(4/448)
{يَتخَافَتُون بينهم} أي : يخفضون أصواتهم ويخفونها ؛ لِمَا علا صدورهم من الرعب والهول. يقول في تلك المخافتة بعضهم لبعض : {إِن لبثتم إِلا عَشْرًا} أي : ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال ؛ استقصارًا لمدة لبثهم فيها ، لزوالها ، أو لتأسفهم عليها ، لما شهدوا الشدائد والأهوال ، أو في القبر ، وهو الأنسب بحالهم ، فإنهم ، حيث يُشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويعدونه من قبيل المحال لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك ؛ اعترافًا به ، وتحقيقًا لسرعة وقوعه ، كأنهم قالوا : قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة. وقيل : ما بين النفختين ، وهو أربعون سنة. رُوي أنه يرفع العذاب عن الكفار في تلك المدة ، فيستقصرون تلك المدة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة ، لأنهم في طول مدتهم في عذاب القبر لا يعقلون.
قال تعالى : {نحن أعلم بما يقولون} ، وهو مدة لبثهم ، أو نحن عالمون اليوم بما يقولون في ذلك الوقت قبل وقوعه ، {إِذْ يقولُ أمثلُهم طريقةً} أي : أعدلهم رأيًا وأوفاهم عقلاً : {إِن لبثتم إلا يومًا} ، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم : استرجاع منه تعالى ، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق ، بل لكونه أدل على شدة الهول.
{ويسألونك عن الجبال} أي : عن مآل أمرها ، وقد سأل عنها رجل من ثقيف ، وقيل : مشركو مكة ، على طريق الاستهزاء ، {فقلْ} لهم : {يَنْسِفُهَا ربي نَسْفًا} أي : يجعلها كالرمل ، ثم يُرسل عليها الرياح فتفرقها ، أو يقلعها ويطرحها في البحار كالهباء المنثور ، {فيَذرُها} أي : يترك ما كان تحتها من الأرض {قاعًا صفصفًا} أي : أرضًا
306
مستوية ؛ لأن الجبال إذا سُويت ، وجُعل سطحها مساويًا لسائر أجزاء الأرض ، فقد جعل الكل سطْحًا واحدًا. فالضمير في {يذرها} إما للجبال ، باعتبار أجزائها السافلة ، الباقية بعد النسف ، وهي مقارها ومراكزها ، وإما للأرض ، المدلول عليها بقرينة الحال ؛ لأنها الباقية بعد نسف الجبال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 304
(4/449)
والقاع والقيعة : ما استوى من الأرض وصلُب ، وقيل : السهل ، وقيل : ما لا نبات فيه. والصفصف : الأرض المستوية الملساء ، فإن أجزاءها صف واحد من كل جهة ، {لا ترى فيها} أي : في الأرض الذي نسفت جبالُها {عِوَجًا} أي : اعوجاجًا وانخفاضًا ، {ولا أمْتًا} ؛ نتوءًا وارتفاعًا. قال ابن عباس : العوج : الأودية ، والأمت : الروابي. وقال مجاهد : العوج : الانخفاض ، والأمت : الارتفاع ؛ والمعنى : أنك ، إن تأملت بالمقاييس الهندسية ، وجدتها مستوية الجهات. والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية.
{يومئذ} أي : يوم إذ نسفت الجبال ، {يتبعون الداعيَ} أي : يتبع الناسُ داعي الله تعالى إلى المحشر ، وهو إسرافيل عليه السلام ، يدعو الناس بعد النفخة الثانية ، قائمًا على صخرة بيت المقدس : أيها الناس هلموا إلى ربكم ، بعد أن يدعوهم إلى الخروج من قبورهم ، قائلاً : أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتمزقة ، واللحوم المتفرقة ؛ قوموا إلى العرض والحساب ، فَيُقبلون من كل جانب منتشرين ، كأنهم جراد منتشر ، لا يدرون أين يذهبون ، فَيُنادي حينئذ من الصخرة للجمع للحساب. هذا ما تدل عليه الأحاديث والأخبار.
وقوله تعالى : {لا عِوَجَ له} أي : لا يعوجُ له مدعو ولا يعدل عنه ، فلا يزيغ عنه ، بل كلهم يقصدون صوته ، من مشارق الأرض ومغاربها وجوانبها. والتقدير : لا عوج للصوت عن أحد ، بل يصل إليه أينما كان ، ويتوجه إليه حيث كان ، {وخشعتِ الأصواتُ للرحمن} أي : خضعت وسكنت لهيبته {فلا تسمع إلا همسًا} أي : صوتًا خفيًا. والهمس : صوت وطء الأقدام في نقلها إلى المحشر ، أي ، انقطعت أصوات اللسان ، فلا تسمع إلا همس الأقدام في مشيها إلى المحشر ، من شدة الهيبة والخوف.
(4/450)
{يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعة} أي : يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة لا تنفع شفاعة أحد ، {إِلا من أَذِنَ له الرحمن} في الشفاعة ، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء ، {وَرَضِيَ له قولاً} أي : ورضي قوله في المشفوع له بحيث يقبل شفاعته. وقيل : {ورضي له قولاً} في الدنيا ، وهو : لا إله إلا الله ، مخلصًا من قلبه... أو : إلا من أذن له الرحمن أن يشفع فيه ، ورضي لأجله قولاً من الشافع. وهذا أليق بمقام التهويل. وأما من عداه فلا تنفع ، وإن وقعت ؛ لقوله تعالى : {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدَّثِّر : 48].
307
{يعلم ما بين أيديهم} أي : ما تقدمهم من الأحوال ، أو من أمر الدنيا ، {وما خلفهم} : وما بعدهم مما يستقبلونه ، أو من أمر الآخرة ، {ولا يُحيطون به علمًا} أي : لا تُحيط علومهم بذاته المقدسة ، بحيث يدركون كنه الربوبية ، أو : لا تحيط علومهم بمعلوماته تعالى. قال القشيري : الكناية في قوله : {به} ، يحتمل أن تعود إلى {ما بين أيديهم وما خلفهم} ، ويحتمل أن تعود إلى الحقِّ - سبحانه - وهو طريقة السَّلفَ ، يقولون : يُعلَم الحق ولا يحيط به العلم ، كما قالوا : إنه يُرى ولا يُدْرَك. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 304
الإشارة : وقد آتيناك من لدُنَّا ذِكْرًا ، أي : قرآنًا يجمع القلوبَ على الله ، ويدل على مشاهدة الله. من أعرض عنه - أي : عن الله - ولم يتوجه إليه بكليته ، فإنه يحمل وِزرًا ، يثقله عن الترقي إلى مقام العارفين ، فيبقى مُخلدًا في حضيض الغافلين ، وذلك في يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، فيُكرم المتقين ، ويُهين المجرمين ، حيث يزول عنهم ما كانوا فيه من الدعة والسعة ، كأنهم ما لبثوا فيه غير ساعة.
(4/451)
ويسألونك ، أيها العارف ، عن جبال العقل ، حين تطلع على نور قمره شمسُ العرفان ، فقل ينسفها ربي نسفًا ، فيذر أرض النفس ، حين استولت عليها أسرار المعاني ، قاعًا صفصفًا ، لاتصالها بفضاء المعاني ، حين ذهبت أغيار الأواني ، لا ترى فيها انخفاضًا ولا ارتفاعًا. وإنما ترى وجودًا متصلاً ، وبحرًا طامسًا ، ليس فيه بُعدٌ ولا قُرب ، ولا علو ولا سفل ، وفي ذلك يقول الشاعر :
مَن أبصر الخلق كالسرابِ
فقد ترقى عن الحجابِ
إلى وجود تراه رَتْقًا
بلا ابتعاد ولا اقتراب
ولم يشاهد به سواه
هناك يُهدى إلى الصواب
فلا خطاب به إليه
ولا مشير إلى الخطاب
والمراد بالخلق : جميع الكائنات ، فلا خطاب من العبد إلى ربه ، لمحو العبد من شدة القرب ، ولم تبق له إشارة ولا عبارة. وفي الحِكَم : " ما العارفُ مَنْ إذا أشار وجد الحق أقرب إليه من إشارته ، بل العارف من لا إشارة له ؛ لفنائه في وجوده وانطوائه في شهوده ". وقالوا : من عرف الله كلّ لسانه ، وإليه الإشارة بقوله : {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا}. وهذا بعد اتباع الداعي إلى الله وصحبته ، من غير عوج عنه ، ولا خروج عن رأيه ، حتى يقول له : ها أنت وربك. فحينئذ تحصل الهيبة والتعظيم ، فلا يقدر أحد أن يرفع صوته ، وهو في حضرة الملك الكريم ، وهذا شأن الصوفية ، كلامهم كله تخافت وتسارر ؛ لغلبة الهيبة عليهم.
قوله تعالى : {يومئذ لا تنفع الشفاعة} أي : في دخول الحضرة ، {إلا من أذن له الرحمن} في التربية والترقية ، {ورضي له قولاً} ، وهو ذكر الله ، يأمر به من أراد
308
شفاعته فيه ، حتى تستولي عليه أنوار الذكر ، فيدخل مع الأحباب ، ويجلس على بساط الاقتراب ، فحينئذ يحصل له العلم بالله ، على نعت الذوق والوجدان ، وشهود العيان ، لا على نعت الدليل والبرهان.
(4/452)
وقوله تعالى : {ولا يُحيطون به علمًا} إشارة إلى عدم الإحاطة بكُنْه الربوبية لمن دخل الحضرة ، فلو حصل لهم الإحاطة بالكنْه لم يبق لهم تَرَقِّ ، وكيف ؟ وهم يترقون في أسرار الذات وأنوار الصفات دائمًا سرمدًا ، في هذه الدار وفي تلك الدار! ففي كل ساعة يتجدد لهم من لذيذ المشاهدات وأنوار المكاشفات ، ما تعجز عنه العقول ، وتكِلُّ عنه طروس النقول. نعم يحصل لهم العلم الضروري بالذات العلية ، ويُشاهدون ما تجلى من أسرارها وأنوارها ، وتسرح فكرتهم في بحر الأولية والآخرية ، والظاهرية والباطنية ، والعظمة الفوقية وما تحت الثرى ، ويخوضون في بحار الأحدية ، ويتفكرون في قاموس كنه الربوبية ، فلا خوف ولا ملل ، من غير إحاطة ، كما تقدم. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 304
قلت : {وقد خاب…} الخ : استئنافٌ ، تعليلُ ما لأجله عنت وجوههم ، أو اعتراض ، كأنه قيل : خابوا وخسروا ، أو حال من الوجوه ، و {مَنْ} : عبارة عنها ، مُغنية عن ضميرها ، أي : خضعت الوجوه ، والحال أنها خابت حين حملت ظلمًا. وقيل : {الوجوه} على العموم ، فالمعنى حينئذ : وقد خاب من حمل منهم ظلمًا ، ومن قرأ : " فلا يخف " : فعلى النهي ، وهو جواب ، ومن قرأ بالرفع : فعلى الخبر ، أي : فهو لا يخاف.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وعَنَتِ الوجوهُ للحيّ القيّوم} أي : ذلت وخضعت خضوع العناة ، أي : الأسارى في يد الملك القهار ، ومنه قيل للأسير : " عانٍ " ، أي : خاضع ذليل ، وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت :
مَليكٌ عَلَى عَرْشِ السماءِ مُهَيْمنٌ
لِعزَّتِه تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
ولعلها وجوه المجرمين ، كقوله تعالى {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [المُلك : 27] ، ويؤيده وصله بقوله : {وقد خابَ من حَمَلَ ظلمًا} أي : وعنت الوجوه ؛ لأنها قد خابت وخسرت حين حملت ظلمًا.
309
(4/453)
قال ابن عباس رضي الله عنه : (خسر من أشرك بالله ولم يتب) ، فإنما تذل وجوه من أشرك بالله ، وأما أهل التوحيد فأشار إليهم بقوله : {ومن يعمل من الصالحات…} الخ ، فهو قسيمٌ لقوله : {ومن خاب من حمل ظلمًا} ، لا لقوله : {وعنت الوجوه}.
وإذا حملنا {عَنَت} على مطلق الخضوع أو السجود كان عامًا ، لأن الخلائق كلها تخضع لله في ذلك الوقت. ثم فصلهم : فمن حمل ظلما فقد خاب وخسر ، {ومن يعمل من الصالحات} أي : بعضها ، {وهو مؤمن} ، فالإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات ، {فلا يخاف ظُلمًا} أي : منع ثواب قد استحقه بموجب الوعد ، أو زيادة عقاب على موجب سيئاته ، {ولا هضمًا} أي : كسرًا ونقصًا من ثواب حسناته ، وأصل الهضم : النقص والكسر ؛ يقال : هضمت لك من حقك ، أي : حططت ، وهضمت الطعام : حططته إلى أسفل المعدة ، وامرأة هضيمة الكشح : أي : ضامرة البطن ، فالحق تعالى إنما تعرض لنفي الظلم والهضم عن عامل الصالحات ، لأن نفي ذلك إنما يكون مع العمل ، ففيه يتوهم الهضم والنقص ، وأما بدونه فلا… نعم ، الإيمان المجرد نافع على مذهب أهل السنة ، لكن صاحبه على خطر في نفوذ الوعيد ، ولو غفر له ، فإنه ناقص عن درجة عامل الصالحات ، كما علم شرعًا. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 309
الإشارة : إذا سرحت الفكرة ، وجالت في أقطار الملكوت وأسرار الجبروت ، وتحققت بعدم الإحاطة ، رجعت إلى عش العبودية ، وخضعت للحي القيوم ، وقد خاب وخسر من لم يبلغ إلى هذا المقام ، حين حمل ظلمًا بالميل إلى الشيء من السِّوى ، بغلبة الطبع والهوى ، وأما من نهض إلى مولاه ، واشتغل بالعمال التي تقربه إلى حضرته ، فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا ؛ فإن الله يرفع العبد على قدر همته ، وينعمه على قدر طاعته. وبهذا جاء الوحي والتنزيل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 309
(4/454)
قلت : {وكذلك} : عطف على قوله : {كذلك نقصّ} ، و " ذلك " : إشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد ، المنبئة عما سيقع من أهوال يوم القيامة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وكذلك} أي : ومثل ذلك الإنزال المتقدم ، {أنزلناه} أي : القرآن كله ، وإضماره ، من غير سبقية ذكره ؛ للإيذان بنباهة شأنه ، وكونه مركوزًا في العقول ، حاضرًا في الأذهان ، حال كونه : {قرآنًا عربيًّا} ؛ ليفهمه العرب ، ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز ، الدال على كونه خارجًا عن طوق البشر ، نازلاً من عند خلاّق القوى والقُدَر. {وصرَّفْنا فيه من الوعيد} أي : كررنا فيه بعض الوعيد ، أو من جنس
310
الوعيد ، {لعلهم يتقون} أي كي يتقوا الكفر والمعاصي بالفعل ، {أو يُحْدِثُ لهم ذِكْرًا} ؛ اتعاظًا واعتبارًا يؤديهم إلى الارتقاء ، {فتعالى الله} أي : تعاظم شأنه عما يصفه الكفرة ، وتهاون العصاة ، الذين لم يُحدث فيهم القرآن زجرًا ولا وعظًا ، أي : ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله ، {الملكُ} لها ، النافذ أمره ونهيه ، الحقيق بأن يُرجى وعده ، ويُخشى وعيده ، {الحقُّ} في ألوهيته لذاته ، أو الثابت الذي لا يمكن عدمه ، أزلاً وأبدًا.
(4/455)
{ولا تَعْجَلْ بالقرآنِ من قبل أن يُقضى إِليك وحيُه} أي وإذا كنا أنزلنا عليك قرآنًا عربيًا ، وصرفنا فيه من الوعيد ، فَأَمْهِلْ عند نزوله ، حتى يقرأه عليك الملك ، ولا تعجل به قبل أن يتم وحيه ، ويفرغ من قراءته عليك. كان صلى الله عليه وسلم ، إذا ألقى جبريلُ عليه الوحي ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة ، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ ، فنهى عن ذلك ؛ لأنه ربما يشغله التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها ، ولأنَّ المراد من الألفاظ فهم المعاني المتضمنة للعلوم التي لا حصر لها ، ولذلك أمره باستفاضة العلم واستزادته منه فقال : {وقل ربِّ زِدْني علمًا} أي : وقل في نفسك ، أو بلسانك : رب زدني علمًا ، والمراد : سل الله عزّ وجلّ زيادة العلم به وبأحكامه ؛ إذ لا نهاية لعلمه كما لا نهاية لذاته ، فإنه الموصل إلى مطلبك دون الاستعجال. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 310
الإشارة : وكذلك أنزلناه قرآنًا عربيًا ، يُعرب عن كمال ظهور ذاته وأنوار صفاته ، وصرفنا فيه من الوعيد ، لمن تخلف عن شهوده ، بعد كمال ظهوره ، لعلهم يتقون ما يحجبهم عن رؤيته ، أو يُحدث لهم ذكرًا ، أي : شوقًا يُزعجهم إلى النهوض إلى حضرته ، والوصول إليه ، فتعالى الله الملك الحق أن يتصل بشيء ، أو يتصل به شيء ، وإنما الوصول إليه : العلم بإحاطته ووحدة ذاته.
ولا تعجل ، أيها العارف ، بالقرآن الذي ينزل على قلبك من وحي الإلهام ، من قبل أن يُقضى إليك وحيه ، فإنَّ الواردات الإلهية تأتي مجملة ، وبعد الوعي يكون البيان ، {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} ، ولكن استزد من ربك العلوم اللدنية والكشوفات الإلهية ، أي : لا يكن همك استعجالَ الواردات أو بقاءها ، وليكن همك استزادةُ العلوم ومعرفة واهبها ، فإن العلوم وسائل لمعرفة المعلوم ، والوصول للحي القيوم. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 310
(4/456)
{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىا ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُوااْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىا فَقُلْنَا ياآدَمُ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىا إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىا وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىا فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ ياآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىا شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىا فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ...}
قلت : يقال : عهد إليه الملك ، وأوعد إليه ، وتقدم إليه : إذا أمره ووصاه.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} الله {لقد عَهدنا} وتقدمنا {إِلى آدم} من غرور الشيطان وعداوته ، ووصيناه ألا يغتر به ، {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك} ، فلا تغتر بنصحه {فَنَسِيَ} ذلك العهد ولم يحتفل به ، حتى غفل عنه ، واغتر بإظهار نصحه ، حتى أكل من الشجرة ، متأولاً أن النهي للتنزيه ، أو عن عين الشجرة ، لا عن جنسها ، فأكل من غيرها ، {ولم نَجِدْ له عَزْمًا} أي : ثبات قدم ، وحزمًا في الأمور ، إذ لو كان كذلك لما غرّه الشيطان بوسوسته ، وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره ، قبل أن يجرب الأمور ؛ ويتولى حارها وقارها ، ويذوق شرِّيها وأريها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لو وُزنت أحلام بني آدم - أي : عقولهم - بحلم آدم ، لرجح حلمه " وقيل : {ولم نجد له عزمًا} على الذنب ، فإنه أخطأ ، أو تأول ، ولم يتعمد ، وأما قوله : {وعصى…} ؛ فلعلو شأنه وقُربه عُد عصيانًا في حقه ، " حسنات الأبرار سيئات المقربين ".
جزء : 4 رقم الصفحة : 311
(4/457)
ثم شرع في بيان المعهود ، وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه ، فقال : {وإذ قلنا} أي : واذكر وقت قولنا {للملائكة اسجدوا لآدم} ، وتعليق الذكر بالوقت ، مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث ؛ للمبالغة في إيجاب ذكرها ، فإن الوقت مشتمل على تفاصيل الأمور الواقعة فيه ، فالأمر بذكره أمر بذكر تفاصيل ما وقع فيه بالطريق البرهاني ، أي : اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه ، حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه ، فقد أمرنا الملائكة بالسجود {فسجدوا} كلهم {إِلا إبليس آَبَى} السجود واستكبر ، أو فعل الإباء وأظهره.
{فقلنا} عقب ذلك ، اعتناء بنصحه ، وهو العند الذي عهدناه إليه : {يا آدمُ إِنَّ هذا} الذي رأيته فَعَلَ ما فعل {عدوٌّ لك ولزوجك} ؛ حيث لم يرض بالسجود لك ، {فلا يُخرجكما من الجنة} أي : لا يكونن سببًا لإخراجكما من الجنة ، والمراد : نهيهما عن الاغترار به ، {فتشقى} : جواب النهي ، أي : فتتعب بما ينالكما من شدائد الدنيا ، من
312
الجوع والعطش ، والفقر والضر ، وتعب الأبدان في تحصيل المعاش واللباس ، فيكون عيشك من كد يمينك. قال ابن جبير : (اهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يَحرث عليه ، ويمسح العرق عن جبينه ، فهو شقاؤه). ولم يقل : فتشقيا ؛ لأنه غلَّب الذِّكَرَ ؛ لأن تعبه أكثر ، مع مراعاة الفواصل.
(4/458)
قال تعالى له : {إِنَّ لك} يا آدم {أن لا تجوع فيها ولا تَعْرى} من فقد اللباس ، {وأنك لا تظمأ} : لا تعطش {فيها ولا تضحى} ؛ تبرزُ للشمس فيؤذيك حرها ، إذ ليس في الجنة شمس ولا زمهرير والعدول عن التصريح له بما في الجنة من فنون النعم من المآكل والمشارب ، والتمتع بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية - مع أن فيها من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى - إلى ما ذكر من نفي نقائضها ، التي هي الجوع والعطش والعري والضحو ؛ لتنفير تلك الأمور المنكرة ؛ ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها ، على أن الترغيب قد حصل له بما أباح له من التمتع بجميع ما فيها ، سوى ما استثنى من الشجرة ، حسبما نطق به قوله تعالى : {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البَقَرَة : 35] ، وقد طوي ذكرها هنا ؛ اكتفاءً بما في موضع آخر ، واقتصر هناك على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب ، ونفي الجوع وما بعده عن أهل الجنة لأنهم لا يُعْوزون طعامًا ولا شرابًا ولا كِنَّا ، بل كلما تمتعوا بشيء مما ذكر ، أتبعهم بأمثاله أو أفضل منه ، من غير أن ينتهوا إلى حد الضرورة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 311
قال تعالى : {فوسوس إِليه الشيطانُ} أي : أنهى إليه وسوسته ، أو أسرها إليه ، {قال} فيها : {يا آدمُ هل أدلُّكَ على شجرة الخُلْدِ} ؟ أي : شجرة من أكل منها خلد ، ولم يمت أصلاً ، سواء كان على حاله ، أو بأن يكون ملكًا ، {و} أدلك على {مُلكٍ لا يَبْلَى} أي : لا يفنى ولا يزول ، ولا يَخْتَلُّ بوجه من الوجوه ، {فأكلا منها فبدتْ لهما سوآتُهما} قال ابن عباس رضي الله عنه : عَريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما ، حتى بدت فروجهما. {وطفِقَا يَخْصِفَان} ؛ يَرْقََعانِ {عليهما من ورقِ الجنة} ، وقد تقدم في الأعراف.
(4/459)
الإشارة : ولقد عهدنا إلى آدم ألا ينسانا ، وألا يغيب عن شهودنا بمُتْعَةِ جنتنا ، فنسي شهودنا ، ومال إلى زخارف جنتنا ، فأنزلناه إلى أرض العبودية ، حتى يتطهر من البقايا ، وتكمل فيه المزايا ، فحينئذ نُسكنه في جوارنا ، ونكشف له عن حضرة جمالنا ، على سبيل الخلود في دارنا.
قال جعفر الصادق : عهدنا إلى آدم ألا ينسانا ، فنسي واشتغل بالجنة ، فابتلى بارتكاب النهي ، وذلك أنه ألهاه النعيم عن المنعم ، فوقع من النعمة في البلية ، فأُخرج من
313
النعيم والجنة ؛ ليعلم أن النعيم هو مجاورة المنعم ، لا الالتذاذ بالأكل والشرب. فلا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ما سواه ، نسأل الله تعالى أن يمدنا وإياك بالتوفيق والعناية. هـ. قال بعض الحكماء : إنما نسي آدم العهد ؛ لأنه لما خلقت له زوجته أوقع الله في قلبه الأنس بها ، وابتلاه بشهوات النفس فيها ، فرأى في وجهها شجرة الحسن بادية ، وشهوة الوقاع عليه غالبة. هـ. أي : فترك النظر إلى جمال المعاني ، واشتغل بحس الأواني ، فأفضى به إلى ترك الأدب ، ولزمه التعب ، فليحذر المريد جهده من الميل إلى الحظوظ ، وليكن على حذر من الغفلة حين تناولها ، والعصمةُ من الله.
(4/460)
وقوله تعالى : {ولم نجد له عزمًا} ، قال الحاتمي : أي : على انتهاك الحرمة ، بل وقع بمطالعة قدَر سابق ، أنساه ما توجه على التركيب من خطاب الحِجْر. هـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : وبما أشار إليه من مطالعة القدر يتضح لك قوله عليه السلام : " فحج آدمُ موسى " ، وليس ذلك لغيره إن لم يكن مجبورًا ومأخوذًا عنه ، وهذا القدر هو الفارق بين ما يجري من المخالفة على الولي وغيره. وقد نبه على ذلك الجنيد بقوله : {وكان أمر الله قدرًا مقدورًا} ، فأشار لغلبة القدر وقهره ، من غير وجود عزم من العبد. هـ. قلت : احتجاج آدم وموسى - عليهما السلام - لم يكن في عالم الأشباح ، الذي هو محل التشريع ، إنما كان في عالم الأرواح ، الذي هو محل التحقيق ، فالنظر في ذلك العالم الروحاني ، إنما هو لسر الحقيقة ، وهو ألا نسبة لأحد في فعل ولا ترك ، فمن احتج بهذا غَلب ، بخلاف عالم الأشباح ، لا يصح الاحتجاج بالقدر ؛ لأن فيه خرق رداء الشريعة. فتأمله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 311
وقال في التنوير : اعلم أن أكل آدم من الشجرة لم يكن عنادًا ولا خلافًا ، فإما أن يكون نسي الأمر ، فتعاطى الأكل وهو غير ذاكر ، وهو قول بعضهم ، ونحمل عليه قوله سبحانه : {فَنَسِيَ} ، وإن كان تناوله ، ذاكرًا للأمر ، فهو إنما تناول لأنه قيل له : {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ...} [الأعرَاف : 20] الآية ، فلحبه في الله ، وشغفه به ، أحب ما يؤديه إلى الخلود في جواره والبقاء عنده ، أو ما يؤديه إلى الملَكِية ؛ لأن آدم عليه السلام عاين قُرب الملائكة من الله ، فأحب أن يأكل من الشجرة ؛ ليتناول الملَكِية ، التي هي في ظنه أفضل ، لا سيما وقد قال سبحانه : {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعرَاف : 21] ، قال آدم عليه السلام : (ما ظننتُ أن أحدًا يحلف بالله كاذبًا) ، فكان كما قال الله سبحانه : {فدلاهما بغرور}. هـ.
(4/461)
وسُئل ابن عطاء عن قوله تعالى : {هل أدلك على شجرة الخلد} ؟ فقال : قال آدم عليه السلام : يا رب لِمَ أدَّبتني ، وإنما أكلتُ من الشجرة طمعًا في الخلود في جوارك ؟
314
فقال الله : يا آدم طلبتَ الخلود من الشجرة لا مني ، والخلود بيدي وملكي ، فأشركْتَ بي ، وأنت لا تعلم ، ولكن نبهتك بالخروج من الجنة حتى لا تنساني في وقت من الأوقات. هـ. والحاصل : أنه إمَّا أن يُحمل النسيان على حقيقته ، ويكون معه وقوع الأكل بمطالعة القدر وقبضة الجبر ، ولا يُعارضه : {ما نهاكما عن هذه الشجرة} ؛ لأنه اتفق ذلك صورة وظاهرًا ، مع شهود الجبر بانًا ، وإمّا أن يُحمل النسيان على الترك ، بتأويل أن النهي ليس على التحتم ، فتركه لما أمل من جوار الحق وقربه في الأكل ، فقدمه ؛ لأنه أرجح عنده. قاله المحشي.
وقوله تعالى : {فوسوس إِليه الشيطان...} الآية ، يؤخذ منه سد باب التأويلات والرخص في الأمر الممنوع شرعًا ، فإن أُبيح بعضه ومُنع البعض فلا توسعة ، فلأن تترك مباحًا خير من أن تقع في محرم ، وقد كان السلف يتركون مائة جزء من المباح ، خوفًا من الوقوع في المحرم. والله الهادي إلى سواء الطريق.
ثم قال تعالى :
{... وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىا قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىا قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيا أَعْمَىا وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىا وَكَذالِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىا}
جزء : 4 رقم الصفحة : 311
(4/462)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وعصى آدمُ ربَّه} بما ذكر من أكل الشجرة {فَغَوى} أي : ضل عن مطلوبه ، الذي هو الخلود ، بل ترتب عليه نقيضه ، فكان تأميل ذلك باطلاً فاسدًا ؛ لأنه خلاف القدر ، أو عن الرشد ، حيث اغتر بقول العدو. وقال الكواشي : فعل فعلاً لم يكن له فعله ، أو أخطأ طريق الحق ، حيث طلب الخلد بأكل المنهي عنه ، فخاب ولم ينل مراده. هـ. وفي وصفه عليه السلام بالعصيان والغواية ، مع صغر زلته ، تعظيم لها ، وزجر بليغ لأولاده عن أمثالها.
{ثم اجتباه ربُّه} أي : اصطفاه وقرّبه إليه ، بالحمل على التوبة والتوفيق لها. وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره ، مزيد تشريف له عليه السلام ، يعني : آدم. {فتاب عليه} أي : قَبِلَ توبته حين تاب هو وزوجته ، قائلين : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعرَاف : 23] الآية. {وهَدَى} أي : هداه إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة. وإفراد آدم عليه السلام بقبول توبته واجتبائه ؛ لأصالته في الأمور ، واستلزام قبول توبته لقبول توبتها. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} [النِّساء : 34].
315
(4/463)
{قال اهبطا منها جميعًا} ، وهو استئناف بياني ، كأنَّ سائلاً قال : فما قال تعالى بعد قبول توبته ؟ فقيل : قال له ولزوجته : {اهبِطَا منها} أي انزلا من الجنة إلى الأرض ، حال كونكم {بعضُكم لبعض عدوٌّ} أي متعادين في أمر المعاش ، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب والاختلاف في الدين. والجمع ؛ لأنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد وفي اللباب : ولما أُهبطوا إلى الأرض ألقى آدمُ يده تحت خده ، وبكى مائة سنة ، وألقت حواءُ يدها على رأسها ، وجعلت تصيح وتصرخ ، فبقيت سنَّة في النساء. ولم يزل آدم يبكي حتى صار بخديه أخاديد من كثرة الدموع ، وجرى من عينيه على الأرض جدولان ، يجريان إلى قيام الساعة. وأُهبط آدم على ورقة من ورق الجنة ، كان يتستر بها ، وفي يده قبضة من ريحان الجنة ، فلما اشتغل بالبكاء أدارتها الرياحُ في أرض الهند ، فصار أكثر نباتها طيبًا. انظر بقية كلامه.
{فإِمّا يأتينكم مني هُدًى} أي : هداية من رسول وكتاب يهدي إلى الوصول إليَّ ، أي : سيأتيكم مني رسل وكتاب. والخطاب لهما بما اشتملا عليه من ذريتهما. {فمن اتبع هُدايَ} بأن آمن بالرسل وبما جاؤوا به من عند الله {فلا يضل} في الدنيا {ولا يشقى} في الآخرة. ووضع الظاهر موضع المضمر يعني : من اتبع هداي ، مع الإضافة إلى ضميره تعالى ؛ لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وعن ابن عباس رضي الله عنه : (من قرأ الفرقان ، واتبع ما فيه ، هداه الله من الضلالة ، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب ، وذلك لأن الله تعالى يقول : {فمن اتبع هداي} ؛ أي : كتابي ورسولي ، {فلا يضل} في الدنيا ، {ولا يشقى} في الآخرة). وفي لفظ آخر : (أجار الله تابع القرآن أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة). قال ابن عرفة : والعطف بالفاء في قوله : {فإما…} الخ ، إشارة إلى أن العداوة سبب في أن يبعث لهم الرسل يهدونهم إلى طريق الحق ، فضلاً منه تعالى ، ولذلك أتى " بإن " ، دون " إذا " المقتضية للتحقيق الموهم للوجوب. فانظره.
{
(4/464)
جزء : 4 رقم الصفحة : 311
ومَنْ أعرَضَ عَن ذِكْرِي} ؛ عن القرآن ، أو عن الهُدى الذاكر لي والداعي إليّ ، {فإِنَّ له معيشةً ضنكًا} : ضيقًا ، مصدر وصف به ، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث ، يقال : منزل ضنك وعيشة ضنك. وقرئ : " ضنكى " كسكرى. وإنما كان عيشُهُ ضيقًا ؛ لأن مجامع همته ، ومطامح نظره مقصورة على أغراض الدنيا ، وهو متهالك على ازديادها ، وخائف من انتقاصها ، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة ، فإنَّ نور الإيمان يُوجب له القناعة ، التي هي رأس الغنى وسبب الراحة ، فيحيى حياة طيبة ، وقيل : هو عذاب القبر. ورُوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو سعيد الخدري : " يُضيق عليه قبره ، حتى
316
تختلف أضلاعه ، ويسلط عليه تسعة وتسعون تنينا… " الحديث ، وقيل : الصبر على الزقوم والضريع والغسلين.
{ونحْشُره يومَ القيامةِ أعمى} : فاقد البصر كقوله : {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىا وُجُوهِهِمْ عُمْياً} [الإسراء : 97]. لا أعمى عن الحجة كما قيل. {قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا} في الدنيا ؟ {قال كذلك} أي : مثل ذلك فعلتَ أنتَ ؛ {أتتك آياتُنا} أي : حجتنا النيرة على أيدي رسلنا {فنسيتَها} أي : عميتَ عنها ، وتركتها ترك المنسي الذي لا يذكر قط ، {وكذلك اليومَ تُنسى} : تُترك في العمى والعذاب ، جزاء وفاقًا. وحشره أعمى لا يدل على دوامه ، بل يزيله عنه فيرى أهوال الموقف ومقعده ، وكذلك الصمم والبكم يزيلهما الله تعالى عنهم. {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريَم : 38] ، فيومُ القيامة ألوان. ثم قال تعالى : {وكذلك} أي : مثل ذلك الجزاء الموافق للجنايات. {نجزي من أسْرَف} وتَعدى ؛ بالانهماك في الشهوات ، {ولم يُؤمن بآياتِ ربه} ، بل كذّب بها وأعرض عنها ، {ولعذابُ الآخرة} على الإطلاق ، أو عذاب النار ، {أشدُّ وأبقى} من ضنك العيش ، أو منه ومن الحشر أعمى ، عائذًا بالله من جميع ذلك.
(4/465)
الإشارة : قوله تعالى : {وعصى آدمُ ربَّه} ، اعلم أن العصيان الحقيقي هو عصيان القلوب ، كالتكبر على عباد الله وتحقير شيء من خلق الله ، وكالاعتراض على مقادير الله ، وعدم الرضا بأحكام الله. قال بعض الصوفية : (أذنبتُ ذنبًا فأنا أبكي منه أربعين سنة ، قيل : وما هو ؟ قال : قلت لشيء كان : ليته لم يكن). وأما معصية الجوارح ، إن لم يكن معها إصرار ، فقد تُوجب القرب من الكريم الغفار ؛ " معصية أورثت ذُلاً وافتقارًا خير من طاعة أورثت عزّا واستكبارًا " ، وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول وتأمل معصية إبليس حيث كانت من القلب أورثت طردًا وإبعادًا ، ومخالفة آدم ؛ حيث كانت الجوارح أورثت قُربًا واجتباء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 311
والحاصل : أن كل ما يَردُّ العبد إلى مولاه ، ويحقق له العبودية والانكسار ، فهو شرف له وكمال ، وكل ما يُقوي وجود النفس ورفعتها فهو نقص وإبعاد ، كائنًا ما كان ، فالعصمة والحِفظة إنما هي من المعاصي القلبية ، أو من الإصرار ، وأما معاصي الجوارح فيجري على العبد ما كتب ، ولا تنقصه ، بل تكمله ، كما تقدم فالتنزيه إنما يكون من النقائص ، وهي التي تُوجب البعد عن الحق ، لا مما يؤدي إلى الكمال ، وبهذا تفهم أن ما وقع من الأنبياء - عليهم السلام - مما صُورته المعصية ، ليس بنقص ، إنما هو كمال. وكذا ما يصدر من الأولياء ، على سبيل الهفوة ، فتأمله ، ولا تبادر بالاعتراض ، حتى تصحب الرجال ، فيعلموك النقص من الكمال.
قال الواسطي : العصيان لا يُؤثر في الاجتبائية ، وقوله : {وعصى} أي : أظهر خلافًا ، ثم أدركته الاجتبائية فأزالت عنه مذمة العصيان ، ألا ترى كيف أظهر عذره
317
بقوله : {فنسي ولم نجد له عزمًا}. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : (نعمت المعصية أورثت الخلافة).
(4/466)
واعلم أن آدم عليه السلام قد أهبط إلى الأرض قبل أن يخلق ، قال تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البَقَرَة : 30] ؛ فقد استخلفه قبل أن يخلقه ، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب ، فكان أكله سببًا في نزوله للخلافة والرسالة وعمارة الأرض ، فهو نزول حسًا ، ورفعة معنى ، وكذلك زلة العارف تنزله لشرف العبودية ، فيرتفع قدره عند الله.
وقوله تعالى : {بعضكم لبعض عدو} ، هذا فيمن غلبت عليها الطينية الإمشاجية ، وأما من غلبت عليه الروحانية فهم إخوان متحابون ، أخلاء متقون ، قال تعالى : {1649;لأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزُّخرُف : 67].
وقوله تعالى : {فإما يأتينكم مني هدى} أي : داع يدعو إليَّ ، ويهدي إلى معرفتي ودخول حضرتي ، فمن تبعهم دخل تحت تربيتهم ، فلا يضل ولا يشقى ، بل يهتدي ويسعد السعادة العظمى. ومن أعرض عن ذكرهم ووعظهم ، وتنكب عن صحبتهم ، فإن له معيشة ضنكًا ، مصحوبة بالحرص والطمع ، والجزع والهلع ، ونحشره يوم القيامة أعمى عن شهود ذاتنا ، فلا يرى إلا الأكوان الحسية ، والزخارف الحسية دون أسرار الذات القدسية. قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى عن شهود أسرار المعاني ، عند رؤية الأواني ، وقد كنتُ بصيرًا في الدنيا ببصر الحس ؟ قال : كذلك أتتك آياتنا ، وهم الأولياء العارفون ، فنسيتها ولم تحتفل بشانها ، وكذلك اليوم تُنسى ؛ لأن المرء يموت على ما عاش عليه ، ويُبعث على ما مات عليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 311
(4/467)
قال الورتجبي : ونحشره يوم القيامة أعمى ، يعني : جاهلاً بوجود الحق ، كما كان جاهلاً في الدنيا ، كما قال عليّ - كرم الله وجهه - : من لم يعرف الله في الدنيا لا يعرفه في الآخرة. وقيل : عن رؤية أوليائه وأصفيائه. هـ. وقال القشيري : في الخبر : " مَنْ كان بحالة لقي الله بها " فَمن كان في الدنيا أعمى القلب ، يُحشرُ على حالته ، يعيش على ما جهل ، ويُحشر على ما جهل ، ولذلك يقولون : {من بعثنا من مرقدنا} ؟ إلى أنْ تصيرْ معارفُهم ضرورية ، كما يَتركون التَدبُّرَ في آياتهِ يُتركون غدًا في العقوبة من غير رحمةٍ على ضعفِ حالاتهم. هـ.
وكذلك نجزي من أسرف بالعكوف على شهواته ، واغتنام أوقات لذاته ، حتى انقضت أيام عمره في البطالة ، نجزيه غم الحجاب والبعد عن حضرة الأحباب ، حيث لم يصدق بوجود آيات ربه ؛ وهم الدعاة إلى الله. ولعذاب حجاب الآخرة أشد وأبقى ؛ لدوامه واتصاله ، نعوذ بالله من غم الحجاب وسوء الحساب ، والتخلف عن حضرة الأحباب. وبالله التوفيق.
318
جزء : 4 رقم الصفحة : 311
قلت : {أفلم} الهمزة للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أغْفَلوا فلم يهد لهم. وعدى الهداية باللام لتضمنها معنى التبيين ، والفاعل مضمونُ {كم أهلكنا} ، أي : أفلم يُبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى ؟ وقيل : الفاعل ضمير عائد إلى الله. و {كم…} الخ : مُعلق للفعل سد مسد مفعوله. أي : أفلم يُبين الله لهم كثرة إهلاك القرون من قبلهم ؟ والأوجه : أنْ لا يُلاحظ له مفعول ، كأنه قيل : أفلم يفعل الله لهم الهداية ، ثم قيل بطريق الالتفات : كم أهلكنا… الخ ؛ بيانًا لتلك الهداية. و {مِنَ القُرون} : في محل نصب ، نعت لمفعول محذوف ، أي : قرنًا كائنًا من القرون.
(4/468)
وجملة {يمشون} : حال من القرون ، أي : أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم ، أو من الضمير في " لهم " ، مؤكد للإنكار ، والعامل : " يهد " ، والمعنى : أفلم يهد لهم إهلاكنا للقرون السالفة ، كقوم نوح ولوط وأصحاب الأيكة ، حال كونهم ، أي : قريش - ماشين في مساكنهم إذا سافروا إلى الشام - ، و {أجل مسمى} : عطف على {كلمة} ، أو استئناف ، أي : وأجل مسمى حاصل لهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أفَلَمْ يَهْدِ لهم} أي : أو لم يُبين لهم عاقبة أمرهم {كم أهلكنا قبلَهم من القرون} أي : كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم ، وهم {يمشون في مساكنهم} إذا سافروا إلى الشام ، كأصحاب الحجر ، وثمود ، وفرعون ، وقوم لوط ، مشاهدين لآثار ديارهم خاربة ، مع علمهم بما جرى عليهم ، بسبب تكذيبهم ، فإنَّ ذلك مما يُوجب أن يهتدوا إلى الحق ، فيعتبروا ، لئلا يحل بهم مثل ما حلّ بأولئك ، أو : {أفلم يهد لهم} كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم ، حال كونهم آمنين ، {يمشون} في ديارهم ويتقلبون في رباعهم {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف : 78].
{إِنّ في ذلك} الإهلاك الفظيع {لآياتٍ} كثيرة عظيمة واضحة الهداية ، دالة على الحق {لأُولي النُّهى} ؛ لذوي العقول الناهية عن القبائح ، التي من أقبحها ما يتعاطاه كفار مكة من الكفر بآيات الله ، والتعامي عنها ، وغير ذلك من فنون المعاصي.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك} ، وهو تأخير العذاب عن هذه الأمة إلى الآخرة ؛ لحكمة ، لعجلنا لهم الهلاك كما عجلنا لتلك القرون المهلكة ، التي يمرون عليها
319
(4/469)
ولا يعتبرون ، فأصروا على الكفر والعصيان ، فلولا تلك العِدّة بتأخير العذاب {لكان لزامًا} أي : لكان عقاب جناياتهم لازمًا لهؤلاء الكفرة ، بحيث لا يتأخرون عن جناياتهم ساعة ، لزوم ما أنزل بأولئك الغابرين ، وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - تلويح بأن ذلك التأخير تشريف له صلى الله عليه وسلم ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال : 33]. واللزام : مصدر لازم ، وصف به ؛ للمبالغة ، {وأجَلٌ مسمىً} أي : لولا كلمة سبقت بتأخيرهم ، وأجل مسمى لأعمارهم أو عذابهم ، وهو يوم القيامة ، أو يوم بَدْرٍ ، لَمَا تأخر عذابهم أصلاً. وإنما فصله عما عطف عليه ، للمسارعة إلى بيان جواب " لولا " ، وللإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب المعجل ، ومراعاة فواصل الآية الكريمة.
{فاصبر على ما يقولون} أي : إذا كان الأمر على ما ذكرنا ؛ من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال ، بل إمهال ، وأنه لازم لهم ألبتة. فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر ؛ فإن علمه صلى الله عليه وسلم بأنهم هالكون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر ، أو اصبر على ما يقولون ، واشتغل بالله عنهم ، ولا تلتفت إلى هلاكهم ولا بقائهم ، فالله أدرى بهم. {وسَبِّحْ بحمدِ ربك} أي : نزّهه عما ينسبون إليه ، ما لا يليق بشأنه الرفيع ، حامدًا له على ما خصك به من الهدى ، معترفًا بأنه مولى النعم كلها.
قال الورتجبي : سماع الأذى يُوجب المشقة ، فأزال عنه ما كان قد لحقه من سماع ما يقولونه بقوله : {وسبح بحمد ربك} أي : إن كان سماع ما يقولون يُوحشك ، فتسبيحنا يُروحك. هـ. أو : صَلِّ وأنت حامد لربك ، الذي يبلغك إلى كمال هدايتك ، ويرجح هذا قوله : {قبل طُلوع الشمس وقبل غُروبها} ، فإن توقيت التنزيه غير معهود ، فإنَّ المراد بقبل طلوع الشمس : صلاة الفجر ، وقبل غروبها : صلاة الظهر والعصر ، وقيل : العصر فقط.
(4/470)
{ومن أناء الليل} أي : ساعاته {فسبِّح} أي : صَلِّ ، والمراد به المغرب والعشاء ، وآناء : جمع " إنَى " ، بالكسر والقصر ، أو " أناء " بالفتح والمد. وتقديم المجرور في قوله تعالى : {ومن آناء الليل فسبح} ؛ لاختصاصها بمزيد الفضل ، فإن القلب فيها أجمع ، والنفس إلى الاستراحة أميل ، فتكون العبادة فيها أشق ، ولذلك قال تعالى : {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المُزمّل : 6]. {و} سبح أيضًا ، {أطراف النهار} وهو تكرير لصلاتي الفجر والمغرب ؛ إيذانًا باختصاصهما بمزيد مزية. وجمع (أطراف) بحسب اللفظ مع أمن اللبس ، أو يراد بأطراف النهار : الفجر والمغرب والظهر ؛ لأنها نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الثاني ، أو يريد التطوع في أجزاء النهار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
قلت : وإذا حملناه على التنزيه - وهو أن يقول : سبحان الله ، أو : لا إله إلاّ الله ، أو كل ما يدل على تنزيه الحق - يكون تخصيص هذه الأوقات بالذكر ؛ لشرفها. فقد
320
(4/471)
وردت أحاديث في الترغيب في ذكر الله أول النهار وآخره ، وآناء الليل حين ينتبه من نومه ، بحيث يكون كلما تيقظ من نومه سبَّح الله وهلّله وكبّره ، قبل أن يعود إلى نومه. وهكذا كان أهل اليقظة من السلف الصالح. وقوله تعالى : {لعلك ترضى} أي : بما يعطيك من الثواب الجزيل ، بالتسبيح في هذه الأوقات. أو ترضى بالشفاعة في جميع الخلائق ، فتقر عينك حينئذ. وفي صحيح البخاري : " إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشمس ليس دونها سحاب ، فَإِنِ استَطَعْتُم أَلا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غروبِها فافْعَلُوا " ، ثُم تَلا هذه الآية : {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} ، ففيه ترجيح من فسرها بالصلاة ، وفيه إشارة إلى أن الصلاة ذكر وإقبال على الله وانقطاع إليه ، وذلك مزرعة المشاهدة والرؤية في الآخرة. وقد جاء في أهل الجنة : " أنهم يرون ربهم بكرة وعشيًا " ، هذا في حق العموم ، وأما خصوص الخصوص ، ففي كل ساعة ولحظة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أفَلَم يَهد لأهل الإيمان والاعتبار ، وأهل الشهود والاستبصار ، كم أهلكنا قبلهم من القرون الخالية ، والأمم الماضية ، فهم يمشون في مساكنهم الدارسة ، ويُشاهدون آثارهم الدائرة ، كيف رحلوا عنها وتركوها ، واستبدلوا ما كانوا فيه من سعة القصور بضيق القبور ، وما كانوا عليه من الفُرش الممهدة بافتراش التراب وتغطية اللحود الممددة ، فيعتبروا ويتأهبوا للحوق بهم ، فقد كانوا مثلهم أو أشد منهم ، قد نما ذكرهم ، وعلا قدرهم ، وخسف بعد الكمال بدرهم. فكأنهم ما كانوا ، وعن قريب مضوا وبانوا ، وأفضوا إلى ما قدموا ، وانقادوا ؛ قهرًا ، إلى القضاء وسلموا ، ففي ذلك عِبَر وآيات لأولي النُهى. لكن القلوب القاسية لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير ، فلولا كلمة الرحمة والحلم بتأخير العذاب ، وأجل مسمى لأعمارهم ، لعجل لهم العقاب.
(4/472)
فاصبر ، أيها المتوجه إلى الله ، المنفرد بطاعة مولاه ، على ما يقولون ، مما يُكدر القلوب ، واشتغل بذكر ربك وتنزيهه ، مع الطلوع والغروب وآناء الليل والنهار ، حتى تغيب في حضرة علام الغيوب ، لعلك ترضى بمشاهدة المحبوب. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
321
قلت : {زهرة} : مفعول بمحذوف ، يدل عليه {مَتَّعْنَا} أي : أعطينا ، أو على الذم ، وفيه لغتان : سكون الهاء وفتحها.
يقول الحقّ جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم : {ولا تمدنَّ عينيك} أي لا تطل نظرهما ، بطريق الرغبة والميل {إلى ما متّعنا به} من زخارف الدنيا {أزواجًا منهم} أي : أصنافًا من الكفرة ، والمعنى : لا تنظر إلى ما أعطيناه أصناف الكفرة من زخارف الدنيا الغرارة ، ولا تستحسن ذلك ، فإنه فانٍ ، وهو من {زهرة الحياة الدنيا} أي بهجتها ، ثم يفنى ويبيد ، كشأن الزهر ، فإنه فائق المنظر ، سريع الذبول والذهاب.
متعناهم بذلك ، وأعطيناهم الأموال والعز في الدنيا ؛ {لنفتنهم فيه} أي : لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم ، هل يقومون بشكره فيؤمنوا بك ، ويصرفوه في الجهاد معك ، وينفقوه على من آمن معك… أم لا ؟ أو لنعذبهم في الآخرة بسببه ، فلا تهتم بذلك. {ورزقُ ربك} أي : ما ادخر لك في الآخرة {خيرٌ} ، أو : ورزقك في الدنيا من الكفاف مع الهُدى ، خير مما منحهم في الدنيا ، لأنه مأمون الغائلة ؛ بخلاف ما منحوه ، فعاقبته الحساب والعقاب. {وأبقى} ؛ فإنه لا ينقطع نفْسُه أو أثره ، بخلاف زهرة الدنيا ، فإنها فانية منقطعة.
(4/473)
فالواجب : الاشتغال بما يدوم ثوابه ، ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم : {وَأْمُرْ أهْلَكَ بالصلاةِ} ، أمره بأن يأمر أهل بيته ، أو التابعين له من أمته ، بالصلاة ، بعد ما أمر هو بقوله : {وسبح بحمد ربك} على ما مر ؛ ليتعاونوا على الاستعانة على الخصاصة ، ولا يهتموا بأمر المعيشة ، ولا يلتفتوا لغنى أرباب الثروة. {واصْطَبر عليها} ؛ وتكلف الصبر على مداومتها ، غير ملتفت لأمر المعاش ، {لا نسألك رزقًا} أي : لا نُكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك ، {نحن نرزقك} وإياهم ، ففرغ قلبك لمشاهدة أسرارنا ، {والعاقبةُ} المحمودة {للتقوى} أي : لأهل التقوى. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أَهْلَه ضُر أو خصاصة أَمَرهُمْ بِالصّلاة ، وتلا هذه الآية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما خوطب به نبينا صلى الله عليه وسلم خوطب به خاصة أمته ، فلا تمدن عينيك ، أيها الفقير ، إلى ما متع به أهل الدنيا ، من زهرتها وبهجتها ، بل ارفع همتك عن النظر إليها ، واستنكف عن استحسان ما شيدوا وزخرفوا ، فإن ذلك حمق وغرور. كان عروة بن الزبير رضي الله عنه إذا رأى أبناء السلاطين وشاراتهم دخل داره وتلا : {ولا تمدن عينيك…} الآية. وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء زمانه : يا علماء السوء ؛ دياركم هامانية ، ومراكبكم قارونية ، وملابسكم فرعونية ، فأين السنة المحمدية ؟
322
ولا تشتغل بطلب رزق فرزق ربك - وهو ما يبرز لك في وقتك من عين المنة ، من غير سبب ولا خدمة - خير وأبقى - ، أما كونه خيرًا ؛ فلِمَا يصحبه من اليقين والفرح بالله وزيادة المعرفة ، وأما كونه أبقى ؛ لأن خزائنه لا تنفد ، مع بقاء أثره في القلب من ازدياد اليقين ، والتعلق برب العالمين. {وأْمر أهلك بالصلاة} واصطبر أنت عليها ، فإن رزقنا يأتيك لا محالة ، في الوقت الذي نريده ، {لا نسألك رزقًا} لك ولا لأهلك ، {نحن نرزقك} ، لكن رزق المتقين ، لا رزق المترفين ، {والعاقبة للتقوى}. وبالله التوفيق.
(4/474)
جزء : 4 رقم الصفحة : 321
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقالوا} أي : كفار مكة : {لولا} : هلاّ {يأتينا بآية من ربه} تدل على صدقه ، أو بآية مما اقترحوها ؛ من تفجير الأرض وتسيير الجبال ، ولم يعدوا ما شهدوا من المعجزات التي تخر لها الجبال من قبيل الآيات ؛ مكابرة وعنادًا. قال تعالى : {أوَلَمْ تَأْتِهِم بينةُ ما في الصُّحف الأولى} أي : أوَ لَمْ يأتهم القرآن الذي فيه بيان ما في الصحف الأولى ؛ التوراة والإنجيل والزبور ، وسائر الكتب السماوية لاشتماله على ما فيها ، وزيادة علوم وأسرار. وهذا رد من جهته تعالى لمقالتهم ، وتكذيب لهم فيها دسوا تحتها ، من إنكار إتيان الآية ، بإتيان القرآن الكريم ، الذي هو أبهر الآيات ، وأسنى المعجزات ، وأعظمها ، وأبقاها ؛ لأن حقيقة المعجزة : اختصاص مدّعي النبوة بنوع من الأمور الخارقة للعادة ، أيّ أمر كان ، ولا ريب في أن العلم أجلْ الأمور وأعلاها ؛ إذ هو أصل الأعمال ، ولقد ظهر ، مع حيازته لعلوم الأولين والآخرين ، على يد أمي ، لم يمارس شيئًا من العلوم ، ولم يدارس أحدًا من أهلها أصلاً ، فأيّ معجزة تراد بعد وروده ؟ وأيّ آية ترام مع وجوده ؟ ! وفي إيراده بعنوان كونه بينة لما في الصحف الأولى ، أي : شاهدًا بحقية ما فيها من العقائد والأحكام ، التي أجمعت عليها كافة الرسل ، ما لا يخفى من تنويه شأنه وإنارة برهانه ، ومزيد تقرير وتحقيق لإتيانه. وقال بعض أهل المعاني : أو لم يأتهم بيان ما في الكتب الأولى ، من أنباء الأمم الذين أهلكناهم ، لما سألوا الآيات ، فأتتهم ، فكفروا بها ، كيف عجلنا لهم الهلاك ؟ فما يُؤمن هؤلاء ، إن أتتهم البينة ، أن يكون حالهم كأولئك.
323
(4/475)
{ولو أنَّا أهلكناهم} في الدنيا {بعذابٍ} مستأصل ، {من قَبْلِه} أي : من قبل إتيان البينة ، وهو نزول القرآن ومجيء محمد صلى الله عليه وسلم ، {لقالوا ربنا لولا أرسلتَ إِلينا رسولاً} يدعونا مع كتاب يهدينا ، {فنتّبعَ آياتك} التي جاءنا بها ، {من قبل أن نَّذِلَّ} بالعذاب في الدنيا ، {ونخْزَى} بدخول النار يوم القيامة ، ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها ، فانقطعت حجتهم ، فإذا كان يوم القيامة {قَالُواْ بَلَىا قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [المُلك : 9].
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 323
قُلْ} لأولئك الكفرة المتمردين : {كُلٌّ} أي : كل واحد منكم ومنا ، {متربصٌ} : منتظر ما يؤول إليه أمرنا وأمركم ، {فتربصوا} فانتظروا. أو كُلٌّ منتظر دوائر الزمان ، ولمن يكون النصر ، {فتربصوا فستعلمون} عن قريب {من أصحابُ الصراطِ السَّوِيِّ} أي : المستقيم ، أو السواء ، أي : الوسط الجيد ، {ومن اهتدى} من الضلالة ، هل نحن أو أنتم. والله تعالى أعلم.
(4/476)
الإشارة : لا يُشترط في الولي العارف بالله ، الداعي إلى الله ، إظهار الآيات ، ويكفي ، برهانًا عليهم ، كونهم على بينة من ربهم ، وهداية الخلق على أيديهم ، وما أظهروه من علم أسرار التوحيد ، ومن فنون علم الطريق ، مع كون بعضهم أميين ، لم يتقدم له مدارسة علم قط ، كما شهدناهم ، بعثهم الله في كل عصر ، يُعرفون بالله ، ويدلون على أسرار ذاته وأنوار صفاته ، على سبيل العيان ، لتقوم الحجة على العباد ، فإذا بُعثوا يوم القيامة جاهلين بالله محجوبين عن شهود ذاته ، متخلفين عن مقام المقربين ، يقولون : لولا أرسلت إلينا رسولاً يُعرفنا بك ، فنتبع آياتك حتى نصل إليك ، من قبل أن نذل بالانحطاط عن درجة المقربين ، أو نخزى بإسدال الحجاب. يقول الحق تعالى : قد بعثتهم ، فأنكرتموهم ، فإذا اغتروا اليوم ، واحتجوا بقول من قال : انقطعت التربية ، فقل : كلٌّ متربص فتربصوا ، فستعلمون من أصحاب الصراط السَّوي ومن اهتدى. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وسلَّمَ تسليمًا.
324
جزء : 4 رقم الصفحة : 323(4/477)
سورة الأنبياء
جزء : 4 رقم الصفحة : 324
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ...}
قلت : {وهم} : مبتدأ ، و {في غفلة} : خبر ، و {معرضون} : خبر بعد خبر ، والجملة : حال من الناس. و {من ذِكْر} : فاعل بيأتي. و {مِن} : صلة ، و {من ربهم} : صفة لذكر ، أي : حاصل من ربهم ، أو متعلق بيأتيهم ، أو صفة لذكر ، وجملة {استمعوه} : حال من مفعول " يأتيهم " ، بإضمار {قد} أو بدونه ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال. و {هم يلعبون} : حال أيضًا من فاعل " استمعوه " ، و {لاهية} : حال من واو " يلعبون " ، و {قلوبهم} : فاعل بلاهية.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {اقتربَ للناس حسابُهُم} أي : قَرُبَ قيام الساعة التي هي محل حسابهم. قال ابن عباس : " المراد بالناس : المشركون " وهو الذي يُفصح عنه ما بعده ، ولم يقل تعالى : " اقترب حساب الناس " ، بل قدّم لام الجر على الفاعل ؛ للمسارعة إلى إدخال الروعة ، فإن نسبة الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجًا ، كما أن تقديم اللام في قوله تعالى : {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البَقَرَة : 29] ؛ لتعجيل المسرة ؛ لأن كون الخلق لأجل المخاطبين مما يسرهم ويزيدهم رغبة وشوقًا إليه تعالى.
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب المنبئ عن التوجه نحوهم ، مع صحة إسناد الاقتراب إليهم بأن يتوجهوا نحوه ، من تفخيم شأنه ، وتهويل أمره ، ما لا يخفى ، لِمَا فيه من تصويره بشيء مقبل عليهم ، لا يزال يطلبهم حتى يصيبهم لا محالة. ومعنى اقترابه :
325
دنوه منهم شيئًا فشيئًا حتى يلحقهم ؛ لأن كل آت قريب ، أي : دنا حساب أعمالهم السيئة الموجبة للعقاب.
{وهم في غفلةٍ} تامة منه ، ساهون بالمرة عنه ، غير ذاكرين له ، لا أنهم غير مبالين به ، مع اعترافهم بإتيانه ، بل هم منكرون له ، كافرون به ، {معرضون} عن الآيات والنُذر المنبهة لهم عن سِنة الغفلة. {ما يأتيهم من ذكر} أي : من طائفة نازلة من القرآن ، تذكر ذلك الحساب ، وتنبههم عن الغفلة عنه ، كائن أو نازل {من ربهم} ، أو ذاكر ومذكر من ناحية ربهم. وفي إضافته إليه سبحانه دلالة على شرفه ، وكمال شناعة ما فعلوه من الإعراض عنه ، وفي التعبير بعنوان الربوبية تشنيع لكمال عتوهم ، ومِنْ صفة ذلك الذكر {مُّحْدَث} تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة ، بمعنى أنه نزل شيئًا فشيئًا ، أو قريب عهد بالنزول ، فمعاني القرآن قديمة ، وإظهاره بهذه الحروف والأصوات حادث. وقال ابن راهويه : قديم من رب العزة ، محدث إلى أهل الأرض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 325(4/478)
فما ينزل عليهم شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم {إِلا استمعوه وهم يلعبون} ؛ لا يتعظون به ، ولا يتدبرون في معانيه ، {لاهيةً قلوبُهم} ؛ ساهية ، معرضة عن التفكر والتدبر في معانيه. وتقدير الآية : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، في حال من الأحوال ، إلا حال استماعهم إياه كانوا لاعبين مستهزئين به ، لاهين عنه ، حال كون قلوبهم لاهيةً عنه ؛ لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر والتفكر في عواقب الأمور. والله تعالى أعلم.
الإشارة : حمل الآية على العموم هو الظاهر عند الصوفية. وقد ورد عن رجل من الصحابة أنه كان يبني ، فلقي بعض الصحابة فقال : ماذا نزل اليوم من القرآن ؟ فقال له : {اقترب للناس حسابهم} ، فنفض التراب ، وقال : والله لا بنيتُ. هـ. أي : اقترب للناس حسابهم على النقير والقطمير ، وهم في غفلة عن التأهب والاستعداد ، معرضون عن اتخاذ الزاد ، ما يأتيهم من ذكر من ربهم ، يعظهم ويُوقظهم ، إلا استمعوه بآذانهم ، وهم يلعبون ساهون عنه بقلوبهم ؛ لحشوها بالوساوس الشيطانية والعلائق النفسانية. لاهية قلوبهم عن التفكر والاعتبار والتدبر والاستبصار.
قال القشيري : ويقال : الغفلة على قسمين ؛ غافلٍ عن حسابه ؛ لاستغراقه في دنياه ، وغافلٍ عن حسابه ؛ لاستهلاكه في مولاه ، فالغفلة الأولى سِمَةُ الهجر ، والثانية صِفَةُ الوصل ، فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا في عسكر الموتى ، وهؤلاء لا يرجون عن غيبتهم أبَدَ الأبد ؛ لفنائهم في وجود الحق. هـ.
قلت : القسمة ثلاثية : قوم غفلوا عن حسابهم ؛ لاشتغالهم بحظوظهم وهواهم ، وهم : الغافلون الجاهلون ، وقوم ذكروا حسابهم ، وجعلوه نصب أعينهم ، وتأهبوا له ،
326
وهم : الصالحون والعباد والزهاد ، وقوم غفلوا عنه ، وغابوا عنه ؛ لاستغراقهم في شهود مولاهم ، وهم : العارفون المقربون. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر المنهمكين في الغفلة ، فقال :
(4/479)
{... وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قَالُوااْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}
قلت : {الذين ظلموا} : بدل من الواو ، مُنبئ عن كونهم موصوفين بالظلم فيما أسروا به. وقال الكلبي : فيه تقديم وتأخير ، أراد الذين ظلموا أسروا النجوى. فيكون {الذين} : مبتدأ و {أسروا} : خبر مقدم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 325
(4/480)
وقال قطرب : على لغة بعض العرب ، يقولون : أكلوني البراغيث ، وهي بلغة بلحارث وغيرهم. وقال الفراء : بدل من الناس ، أي : اقترب للناس وهم الذين ظلموا. و {هل هذا...} الخ : بدل من النجوى ، أو مفعول بقول مضمر ، كأنه قيل : ماذا قالوا في نجواهم ؟ فقيل : قالوا : هل هذا... الخ و {أنتم تبصرون} : حال من واو " تأتون " ؛ مقررة للإنكار ، مؤكدة للاستبعاد. و {من قرية} : فاعل آمنت ، و " من " : صلة للعموم. و {أهلكناها} : صفة لقرية. يقول الحقّ جلّ جلاله : {وأسَرُّوا النجوى} : أخفوا تناجيهم بحيث لم يشعر أحد بما قالوا ، وهم {الذين ظلموا} بالكفر والطغيان ، قائلين في تلك النجوى الشنيعة : {هل هذا} أي : ما هذا الرجل الذي يزعم أنه رسول {إلا بشرٌ مثلكم} أي : من جنسكم ، وما أتى به سحر ، {أفتأتون السحر وأنتم تُبصرون} أي : تعلمون ذلك فتأتونه ، وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول ، وأنتم تعاينون أنه سحر ؟ قالوا ذلك ، بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ ، أن الرسول لا يكون إلا مَلَكًا ، وأنَّ كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق هو من قبيل السحر ، وغاب عنهم أن إرسال البشر إلى البشر هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. قاتلهم الله أنى يؤفكون. وإذا أسروا ذلك ولم يعلنوه ؛ لأنه كان على طريق توثيق العهد ؛ خفية ، وتمهيدًا لمقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة ، وإطفاء نور الدين. {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف : 8].
ثم فضح الله سرهم ونجواهم بقوله : {قل ربي يعلم القولَ في السماء والأرض} أي : قل يا محمد : ربي يعلم القول ، سرًا كان أو جهرًا ، سواء كان في السماء أو الأرض ، فلا يخفى عليه ما تناجيتم به ، فيفضحكم به ويجازيكم عليه. وقرأ أكثر أهل
327
(4/481)
الكوفة : (قال) ؛ على الخبر ، وهو حكاية من جهته تعالى لِمَا قاله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما أوحى إليه أحوالهم وأقوالهم ؛ بيانًا لظهور أمرهم وانكشاف سرهم ، وإيثار القول المشتمل على السر والجهر ؛ للإيذان بأن علمه تعالى بالسر والجهر على وتيرة واحدة ، لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء ، كما في علوم الخلق.
{وهو السميعُ العليم} أي : المبالغ في العلم بالمسموعات والمعلومات ، التي من جملة ما أسروه من النجوى ، فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم. {بل قالوا أضغاثُ أحلام} ، هو إضراب من جهته تعالى ، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب في مضارب البطلان ، أي : لم يقتصروا على أن يقولوا في حقه - عليه الصلاة والسلام - : هل هذا إلا بشر ، وفي حق ما ظهر على يديه من القرآن الكريم : إنه السحر ، بل قالوا : هو تخاليط أحلام وأباطيلها ، فهو أشبه شيء بالهذيان ، ثم أضربوا عنه ، وقالوا : {بل افتراه} من تلقاء نفسه ، من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل. ثم قالوا : {بل هو شاعر} ، وما أتى به شعر يُخيل إلى السامع ، لا حقيقة لها. وهكذا شأن المبطل المحجوج ، متحير ، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ، ويتذبذب بين فاسد وأفسد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 325
فالإضراب الأول ، كما ترى ، من جهته تعالى ، والثاني والثالث من قِبلهم. وقد قيل : الكل من قِبلهم ، حيث أضربوا عن قولهم : هو سحر ، إلى أنه تخاليط أحلام ، ثم إلى أنه كلام مفترى ، ثم إلى أنه قول شاعر ، وهو بعيد ؛ لأنه لو كان كذلك لقال : قالوا : بل أضغاث أحلام... الخ.
ثم قالوا : {فلْيأتِنا بآيةٍ} ؛ وهو جواب عن شرط محذوف ، يُفصح عنه السياق ، كأنه قيل : وإن لم يكن كما قلنا ، بل كان رسولاً من الله تعالى ، فليأتنا بمعجزة ظاهرة {كما أُرسل الأولون} أي : مثل الآية التي أُرسل بها الأولون ؛ كاليد ، والعصا ، و الناقة وشبه ذلك. فالكاف : صفة لمصدر محذوف ، أي : إتيانًا مثل إتيان الأولين.
(4/482)
قال تعالى : {ما آمنت قبلَهم من قرية أهلكناها} أي : أهلكنا أهلها ، {أَفَهُمْ} أي : هؤلاء المقترحون عليك الآيات ، {يُؤمنون} أي : قد اقترحت الأمم السالفة الآيات على رُسلها ، فأعطوا ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا ، فأهلكناهم ، فكيف يؤمن هؤلاء ، وهم أعتى منهم ؟ فالهمزة : لإنكار الوقوع ، والفاء : للعطف على مقدر ، فأفادت إنكار وقوع إيمانهم. والمعنى : لم تُؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات ، أهم لم يؤمنوا ، فهؤلاء يُؤمنون ، لو أُجيبوا إلى ما سألوا وأُعطوا ما اقترحوه من الآيات ، أهم لم يؤمنوا ، فهؤلاء يُؤمنون ، لو أُجيبوا إلى ما سألوا وأُعطوا ما اقترحوه ، مع كونهم أعتى منهم وأطغى ؟ فهم في اقتراح الآيات كالباحث على حتفه فطلبه ، وفي ترك إجابتهم إبقاء عليهم ، كيف لا ، ولو أعطوا ما اقترحوا ، مع عدم إيمانهم قطعًا ، لوجب استئصالهم ، بجريان سُنَّةِ الله تعالى من الأمم السالفة أن المقترحين ، إذا أُعطوا ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا ، نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ، وقد سبقت كلمة الحق منه تعالى أن هؤلاء
328
لا يُعذبون بعذاب الاستئصال ، فلذلك لم يُظهر لهم ما اقترحوا من الآيات. والله تعالى أعلم.
الإشارة : العلماء بالله ، الداعون إلى الله ، هم ورثة الأنبياء والرسل ، فما قيل في الأصل قد قيل في الفرع ، فكل عصر يُوجد من يُنكر على خواص ذلك العصر ، ويرميهم بالسحر والجنون. والافتراء على الله سُنة ماضية. غير أن أولياء هذه الأمة على قدم نبيهم ، رحمة للعالمين ، فمن آذاهم لا يُعاجَل بالعقوبة في الغالب ، وقد تكون باطنية ، كقسوة القلوب ، والخذلان ، والشكوك ، والأوهام. وهذا الوصف في العارفين الكملة ، وأما الزهاد والعباد والصالحون : فمن آذاهم عُوجل بالعقوبة في الغالب ؛ لنقص كمالهم ، وعدم اتساع دائرة معرفتهم. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 325
(4/483)
يقول الحقّ جلّ جلاله في جواب قول الكفرة : {هَلْ هَـاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الأنبيَاء : 3] بعد تقديم الجواب عن قولهم : {فليأتنا بآية} ؛ لأنهم قالوه بطريق التعجيز ، فلا بد من المسارعة إلى رده ، كما تقدم مرارًا في الكتاب العزيز ، كقوله : {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ...} [هُود : 33] الآية ، {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الحجر : 8] الآية. إلى غير ذلك ، فقال جلّ جلاله : {وما أرسلنا قَبلك} في الأمم السالفة {إِلا رجالاً} ؛ بشرًا من جنس القوم الذين أُرسلوا إليهم ؛ لأن مقتضى الحكمة أن يُرسل البشر إلى البشر ، والملَك إلى الملَك ، حسبما نطق به قوله تعالى : {قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسرَاء : 95] ، فإن عامّة البشر لا تطيق المفاوضة مع الملك ؛ لتوقفها على التناسب بين المفاوض والمستفيض ؛ فبعث لكل جنس ما يناسبه ؛ للحكمة التي يدور عليها فلك التكوين والتشريع ، والذي تقتضيه الحكمة الإلهية أن يبعث الملك إلى خواص البشر المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيدين بالقوة القدسية ، المتعلقين بالعالم الروحاني والجسماني ، ليتلَقوا من جانب العالم الروحاني ، ويلقوا إلى العالم الجسماني ، فبعث رجالاً من البشر يوحي إليهم على أيدي الملائكة أو بلا واسطة.
والمعنى : وما أرسلنا إلى الأمم ، قبل إرسالك إلى أمتك ، إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنس ، متأهلين للاصطفاء والإرسال ، {نوحي إليهم} ، بواسطة الملك ، ما
329
(4/484)
يُوحي من الشرائع والأحكام ، وغيرهما من القصص والأخبار ، كما يُوحي إليك من غير فرق بينهما ، {فاسألوا أهل الذِّكر إٍن كنتم لا تعلمون} أي : فاسألوا ، أيها الجهلة ، أهلَ العلم ؛ كأهل الكتب الواقفين على أحوال الرسل السالفة - عليهم الصلاة والسلام - لتزول شبهتكم إن كنتم لا علم لكم بذلك. أُمروا بذلك ؛ لأن إخبار الجم الغفير يُوجب العلم الضروري ، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين عداوته صلى الله عليه وسلم ، ويشاورونهم في أمورهم ، فإذا أخبروهم أن الرسل إنما كانوا بشرًا ، ولم يكونوا ملائكة ، حصل لهم العلم بالحق ، وقامت الحجة عليهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 329
وتوجيه الخطاب إلى الكفرة في السؤال ، بعد توجيهه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الإرسال ؛ لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك العلوم والحقائق الأنيقة ، وأما الوقوفُ عليها باستخبار من الغير فهو من وظائف العوام.
ثم بيَّن كون الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أسوة لأفراد الجنس في أحكام البشرية ، فقال : {وما جعلناهم جسدًا} أي : أجسادًا ، فالإفراد لإرادة الجنس ، أو ذوي جسد ، {لا يأكلون الطعامَ} أي : وما جعلناهم أجسادًا صمدانيين ، أغنياء عن الطعام والشراب ، بل مُحتاجين إلى ذلك ؛ لتحقيق العبودية التي اقتضت شرفهم. {وما كانوا خالدين} ؛ لأن كل من يفتقر إلى الغذاء لا بدّ أن يتحلل بدنه بسرعة ، حسبما جرت العادة الإلهية ، والمراد بالخلود : المكث المديد ، كما هو شأن الملائكة أو الأبدية. وهم معتقدون أنهم كانوا يموتون. والمعنى : بل جعلناهم أجسادًا مفتقرة صائرة إلى الموت عند انقضاء آجالهم ، لا ملائكة ولا أجسادًا صمدانية.
(4/485)
{ثم صَدَقْناهم الوعد} بالنصر وإهلاك أعدائهم ، وهو عطف على ما يُفْهَمُ من وحيه تعالى إليهم ، كأنه قيل : أوحينا إليهم ما أوحينا ، ثم صدقناهم في الوعد ، الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي ، بإهلاك أعدائهم ، {فأنجيناهم ومَنْ نشاء} من المؤمنين وغيرهم ، ممن تستدعي الحكمة إبقاءه ، كمن سَيُؤمن هو أو بعض فروعه ، وهو السر في حماية العرب من عذاب الاستئصال. أو يخص هذا العموم بغير نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ؛ فإن أمته لا تستأصل ، وإن بقي فيها من يكفر بالله ؛ لعل الله يُخرج من أصلابهم من يُوحد الله تعالى. {وأهلكنا المسرفين} أي : المجاوزين الحد في الكفر والمعاصي.
ولمّا ذكر برهان حَقِّيَّةِ الرسول - عليه الصلاة والسلام - ذكر حقية القرآن المنزل عليه ، الذي ذكر في صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته ، فقال : {لقد أنزلنا إِليكم} ، صدّره بالقسم ؛ إظهارًا لمزيد الاعتناء بمضمونه ، وإيذانًا بكون المخاطبين في أقصى مراتب التنكير ، أي : والله لقد أنزلنا إليكم ، يا معشر قريش ، {كتابًا} عظيم الشأن نيّر البرهان. فالتنكير للتفخيم ، أي : كتابًا جليل القدر {فيه ذِكْرُكم} أي : شرفكم وحسن صيتكم ، كقوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزّخرُف : 44] ، أو فيه تذكيركم
330
وموعظتكم ، أو ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم ، أو ما تطالبون به حسن الذكر والثناء من مكارم الأخلاق ، {أفلا تعقلون} فتتدبروا في معانيه حتى تُدركوا حقيته. فالهمزة للإنكار التوبيخي. وفيه حث لهم على التدبر في أمر الكتاب ، والتأمل في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر ، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة ، والمعطوف : محذوف ، أي : أَعَمِيَتْ بصائركم فلا تعقلون ؟ والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 329
(4/486)
الإشارة : ثبوت الخصوصية لا ينافي وصفَ البشرية ، فنسبة أهل الخصوصية من البشر كاليواقيت بين الحجر. ولا فرق بين خصوصية النبوة والولاية في الاتصاف بأوصاف البشرية ، التي لا تُؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية. وتتميز خصوصية النبوة من الولاية بوحي الأحكام ، وتتميز خصوصية الولاية من العمومية بالتطهير من الرذائل والتحلي بالفضائل ، وبالغيبة عن رؤية الأكوان ، بإشراق شمس العرفان ، وذلك بالفناء عن الأثر بشهود المؤثِر ، ثم بالبقاء بشهود الأثر ؛ حكمةً ، مع الغيبة عنه ، قدرةً ، ولا يعرف هذا إلا أهل الذكر الحقيقي ، فلا يعرف مقام الأولياء إلا من دخل معهم ، ولا يُسأل عنهم إلا أمثالُهم ؛ {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل : 43]. فلا يشترط في الولي استغناؤه عن الطعام والشراب ؛ إذ لم يكن للأنبياء ، فكيف بالأولياء ؟ ولا استغناؤه عن النساء ، قال تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرّعد : 38] ، نعم ؛ صاحب الخصوصية مالك لنفسه من غلبة الشهوة عليه ، ينزل إلى أرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. وتقدم الكلام على قوله تعالى : {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} في سورة النحل. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 329
قلت : {كم} : خبرية مفيدة للتكثير ، ومحلها نصب ، مفعول بقصمنا ، و {من قرية} : تمييز ، و {كانت...} الخ : صفة لقرية.
(4/487)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وكم قَصَمْنَا من قرية} أي : كثيرًا أهلكنا من أهل قرية {كانت ظالمةً} بآيات الله تعالى ، كافرين بها. وفي لفظ القصم - الذي هو عبارة عن الكسر ؛ بإبانة أجزاء المكسور وإزالتها بالكلية - من الدلالة على قوة الغضب والسخط ما لا يخفى. {وأنشأنا} أي : أحدثنا {بعدها} أي : بعد إهلاكها {قومًا آخرين} ليسوا منهم نسبًا ولا دينًا ، ففيه تنبيه على استئصالهم وقطع دابرهم بالكلية. {فلما أحسُّوا
331
بأسنا} أي : أدركوا عذابنا الشديد إدراك المشاهدَ المحسوس {إِذا هم منها} أي : من القرية {يركُضُون} : يهربون مدبرين راكضين دوابهم. فقيل لهم ، بلسان الحال أو المقال من الملَك ، أو ممن حضرهم من المؤمنين ، بطريق الاستهزاء والتوبيخ : {لا تركُضُوا وارجعوا إِلى ما أُتْرفْتُم فيه} من النعم والتلذذ {و} إلى {مساكِنِكُم} التي كنتم تفتخرون بها ، {لعلكم تُسألون} ؛ تقصدون للسؤال ، إذ كانوا أغنياء ، أو للتشاور والتدبر في المهمات والنوازل ، أو تُسألون الفداء فَتُفتدَوْا من العذاب ، أو تُسألون عن قتل نبيكم وفيم قتلتموه.
قيل : نزلت في أهل حاضُورا قرية باليمن ، وكان أهلها العرب ، فبعث الله إليهم نبيًا فكذبوه وقتلوه ، فسلط الله تعالى عليهم بُخْتنصَّرْ ، فقتلهم وسباهم ، فلما انهزموا وهربوا قالت لهم الملائكة : لا تركضوا ، وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم ؛ استهزاءً بهم ، وأتبعهم بُختنصر ، فأخذتهم السيوف ، ونادى مناد من السماء : يا لَثَارات الأنبياء ، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم ، فقالوا : {يا ويلنا} ؛ يا هَلاَكنا ؛ {إِنّا كنا ظالمين} مستوجبين العذاب. وهذا اعتراف منهم وندَم حين لم ينفعهم ذلك.
(4/488)
{فما زالتْ تلك دعواهم} أي : فما زالوا يُرددون تلك الكلمة ، ويدعون بها ، ويقولون : يا ويلنا ، {حتى جعلناهم حصيدًا} أي : مثل الحصيد ، وهو المحصود من الزرع والنبات ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، فلذلك لم يجمع ، كجريح وقتيل. وجعلناهم {خامدين} ؛ ميتين ، من خمدت النار إذا طفئت. وهو ، مع " حصيدًا " ، في حيز المفعول الثاني لجعل ، كقولك : جعلته حلوًا حامضًا ، والمعنى : جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود ، أو حال من الضمير المنصوب في " جعلناهم " ، ولفظ الآية يقتضي العموم. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 331
الإشارة : وكم من قرية من قرى القلوب قصمنا أهلها ، أي : ما فيها من الشكوك والأوهام ، كانت ظالمة بتلك الخواطر ، فأخرجناهم منها ، وأنشأنا بعدها أنوارًا وأسرارًا وعلومًا آخرين. فلما حسوا بأسنا بورود الواردات الإلهية عليها ، التي تأتي من حضرة القهار ، إذا هم منها يركضون ؛ لأن الواردات الإلهية تأتي من حضرة القهار ، لأجل ذلك لا تصادم شيئًا من الظلمات إلا دمغته ، فيقال لتلك الظلمات ، التي هي الشكوك والأوهام : لا تركضوا ، ولكن ارجعوا أنوارًا ، وانقلبوا وارداتٍ وأسرارًا ، وتنعموا في محلكم بشهود الحق ، لعلكم تُسألون ، أي : تُسْتَفْتَوْنَ في الأمور ، لأن القلب إذا صفا من الأكدار استفتى في العلوم ، وفي الأمور التي تعرض ، قالوا بلسان الحال - أي تلك الظلمات - : يا ويلنا إنا كنا ظالمين ؛ بحجب صاحبنا عن الله ، فما زالت تلك دعواهم حتى صاروا خامدين ، هامدين ، ساكنين تحت مجاري الأقدار ، مطمئنين بالله الواحد القهار ، وهذه إشارة دقيقة ، لا يفهمها إلا دقيق الفهم غزير العلم. وبالله التوفيق.
332
جزء : 4 رقم الصفحة : 331
قلت : {لاعبين} : حال من فاعل خلق ، و " إن كنا " : شرط حُذف جوابه ، أي : إن كنا فاعلين اتخذناه من لّدُنا ، وقيل : نافية.
(4/489)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وما خلقنا السماءَ والأرضَ وما بينهما} من المخلوقات التي لا تُحصى أجناسها ، ولا تُعد أفرادها ، ولا تُحصر أنواعها وآحادها ، على هذا النمط البديع والأسلوب الغريب ، {لاعبين} ؛ خالية عن الحِكم والمصالح ، بل لحِكَم بديعة ومصالح عديدة ، دينية تَقْضي بسعادة الأبد أو بشقاوته ، ودنيوية لا تُعد ولا تُحصى ، وهذا كقوله : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص : 27] ، فالمراد من الآية : إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم ، وإبداع بني آدم ، مؤسس على قواعد الحِكَم البالغة ، المستتبعة للغايات الجليلة ، وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل ، والعقاب النازل بأهل القُرى ، من مقتضيات تلك الحِكم ، ومتفرع عليها حسبما اقتضته أعمالهم. وإنما فعل ذلك ؛ عدلاً منه ، ومجازاة على أعمالهم ، وأن المخاطبين المتقدمين - وهم قريش - على آثارهم ؛ لأن لهم ذنوبًا مثل ذنوبهم. وإنما عبَّر عن نفي الحكمة باللعب ، حيث قال : {لاعبين} ؛ لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخاليِ عن الحكمة ، بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره منه سبحانه ، وهو اللهو واللعب ، بل إنما خلقناهما ، وما بينهما ؛ لتكون مبدأ الوجود الإنساني وسببًا لمعاشه ، ودليلاً يقوده إلى تحصيل معرفتنا ، التي هي الغاية القصوى والسعادة العظمى.
(4/490)
ثم قرر انتفاء اللعب واللهو عنه ، فقال : {لو أردنا أن نتخذ لهوًا} أي : ما يلهى به ويلعَب ، {لاتَّخذناه من لدُنَّا} أي : من أنفسنا ؛ لعلمنا بحقائق الأشياء ، واستغنائنا عن جلب المصالح ودرء المفاسد. والمعنى : لو أردنا أن نخلق شيئًا ، لا لتحصيل مصلحة لكم ، ولا لدرء مفسدة عنكم ، لفعلنا ذلك في أنفسنا ؛ بأن نخلق عوالم ومظاهر عارية عن الحكمة والمصلحة ؛ لأنا أحق منكم بالاستغناء عما يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة ، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها ، وأنا لم نخلق شيئًا عبثًا ، بل خلقنا كل نوع من النبات والحيوانات والجمادات ؛ لمصلحة ومنفعة ، عَلِمها ، من عَلِمها وجَهِلَها من جَهِلَها ، فحصل من هذا نفي التحسين والتقبيح ؛ عقلاً ، بهذه الشرطية ، وإثباته سمعًا.
333
أو : {لاتخذناه من لدُنَّا} مما يليق بشأننا من المجردات ، لا من الأجسام المرفوعة والأجرام الموضوعة ، كعادة الجبابرة ؛ مِنْ رفع العروش وتحسينها ، وتمهيد الفرش وتزيينها ، لأغراض عِراض ، لكن يستحيل إرادتنا لذلك ؛ لمنافاته للحكمة الإلهية المنزهة عن الأغراض. هـ. من أبي السعود ، وأصله للزمخشري. وفيه تكلف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 333
(4/491)
وسأل طاوسُ ومجاهدُ الحسنَ عن هذه الآية ؟ فقال : اللهو : المرأة. وقال ابن عباس : " الولد ". ومعنى {لاتخذناه من لدُنَّا} : بحيث لا يطلعون عليه ، وما اتخذنا نساءًا وولدًا من أهل الأرض. نزلت في الذين قالوا : اتخذ الله ولدًا. وتكون الآية ، حينئذ تتميمًا لِما قبلها ، أي : ليس اللعب واللهو من شأننا ، إذ لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدنا. قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي : حمل الآية على الزوجة غير مفيد ، إلا أن يراد بذلك مجرد الرحمة والشفقة ، مما يمكن عقلاً ، فيصح دخول النفي الشرعي عليه. انظر ابن عرفة ، فقد جوّز ، عقلاً ، اتخاذه على معنى الرحمة. وكذا ابن عطية في آية الزمر. ومنع ذلك القشيري. قلت : وكأنه لِما يشير إليه قوله تعالى : {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزُّمَر : 4] ، فإن القهر لا يناسب التبني بوجه ، وقد يقال : إنه مانع سمعي شرعي ، لا عقلي ، فلا يخالف ما قاله ابن عرفة ولا ابن عطية. وفيه نظر ؛ لأنه يُؤدي إلى تعطيل اسمه القهار ونحوه ، وهو محال ، والله أعلم. هـ.
قلت : قد حمل النسفي الآية على الولد ، فقال : {لو أردنا أن نتخذ لهوًا} أي : ولدًا ، أو امرأة ، رد على من قال عيسى ابنه ، ومريم صاحبته ، {لاتخذناه من لدُنَّا} من الولدان أو الحور ، {إِن كنا فاعلين} أي : إن كنا ممن يفعل ذلك ، ولسنا ممن يفعله لاستحالته في حقنا. هـ. قلت : والذي تكلف الحمل الأول رأى أن حمله على الولد يقتضي جواز الاتخاذ عقلاً ؛ وإنما منعه عدم الإرادة. وأجاب ابن عرفة : بأن يحمل الاتخاذ على معنى الرحمة ، لا على حقيقة البنوة. قلت : من خاض بحار التوحيد الخاص وحاز مقام الجمع ، لا يتوقف في مثل هذا ؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر ، لكن لم يوجد منها ، ولم تتعلق إرادته إلا بما هو كمال في حقه تعالى في باب القدرة ، وأما باب الحكمة ، فهي رداء لمحل النقائص ، فافهم ، وأصحب أهلَ الجمع حتى يفهموك ما ذكرتُ لك ، والسلام.
(4/492)
ثم قال تعالى : {بل نقذفُ بالحق على الباطل} أي : نرمي بالحق ، الذي هو الجد ، على الباطل ، الذي من جملته اللهو ، وهو إضراب عن اتخاذ الولد ، بل عن إرادته ، كأنه قيل : لكنا لا نريده ، بل شأننا أن نقذف بالحق على الباطل {فيدْمَغُه} : فيمحقه بالكلية ، كما فعلنا بأهل القُرى المحكية وأمثالهم ، وقد استعير ، لإيراد الحق على
334
الباطل ، القذف ، الذي هو الرمي الشديد ، وللباطل الدمغ ، الذي هو تشتيت الدماغ وتزهيق الروح ، فكأنَّ الباطل حيوان له دماغ ، فإذا تشتت دماغه مات واضمحل ، {فإِذا هو زاهق} أي : فإذا الباطل ذاهب بالكلية ، متلاش عن أصله. وفي {إذا} الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال السُرعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 333
ثم ردَّ على أهل الباطل فقال : {ولكم الويلُ مما تصفون} أي : وقد استقر لكم الويل والهلاك ؛ من أجل ما تصفونه ، سبحانه ، بما لا يليق بشأنه الجليل ، من الولد والزوجة ، وغير ذلك مما هو باطل. وهو وعيد لقريش ومن دان دينهم ، بأنَّ لهم أيضًا مثل ما لأولئك القرى المتقدمة من الهلاك ، إن لم ينزجروا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما نصبت لك الكائنات لتراها كائنات ، بل لتراها أنوارًا وتجليات ، الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فالغير والسِّوى عند أهل الحق باطل ، والباطل لا يثبت مع الحق. قال تعالى : {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}. قال القشيري : نُدْخِلُ نهارَ التحقيق على ليالي الأوهام ، أي : فتمحى ، وتبقى شمس الأحدية ساطعة. هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 333
(4/493)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وله من في السماوات والأرض} أي له جميع المخلوقات ، خلقًا ومِلكًا ، وتدبيرًا وتصرفًا ، وإحياء وإِماتة ، وتعذيبًا وإثابة ، من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل ، لا استقلالاً ولا استتباعًا ، ولا فرق بين أهل العالم العلوي والسفلي ، {ومَنْ عنده} وهم الملائكة - عليهم السلام - عبَّر عنهم بذلك إثر ما عبَّر عنهم بمن في السماوات ؛ تنزيلاً لهم - لكرامتهم عليه ، وزلفاهم عنده - منزلة المقربين عند الملك ، وهو مبتدأ وخبره : {لا يستكبرون عن عبادته} أي : لا يتعاظمون عنها ، ولا يَعُدون أنفسهم كبراء ، {ولا يستحسرون} أي : لا يكِلُّون ولا يَعْيون ، {يُسبِّحُون الليلَ والنهار} أي : ينزهونه في جميع الأوقات ، ويُعظمونه ويمجدونه دائمًا. وهو استئناف
335
بياني ، كأنه قيل : ماذا يصنعون في عبادتهم ، أو كيف يعبدون ؟ فقال : يُسبحون.. الخ. {لا يَفْتَرُون} أي : لا يتخلل تسبيحَهم فترة أصلاً ، ولا شغل آخر.
(4/494)
ولمّا برهن على وحدانيته تعالى في ملكه بأنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة ، وأنهم قاطبة تحت ملكه وقهره ، وأنَّ عباده مذعنون لطاعته ، ومثابرون على عبادته ، ومنزهون له عن كل ما لا يليق بشأنه ، أنكر على من أشرك معه بعد هذا البيان ، فقال : {أم اتخذوا آلهة} يعبدونها {من الأرض} أي : اتخذوها من جنس الأرض ، أحجارًا وخشبًا ، {هم يُنْشِرُون} أي : يبعثون الموتى. وهذا هو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع ، لا نفس الاتخاذ ، فإنه واقع لا محالة ، أي : بل اتخذوا آلهة من الأرض ، هم مع حقارتهم ، ينشرون الموتى ، كلا... فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك ، وهم ، وإن لم يقولوا بذلك صريحًا ، لكنهم حيث ادعوا لها الألوهية ، فكأنهم ادعوا لها الإنشار ، ضرورة ؛ لأنه من خصائص الإلهية ، ومعنى التخصيص في تقديم الضمير في : {هم يُنشِرون} : التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار ، الموجبة لمزيد الإنكار ، كما في قوله تعالى : {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم : 10]. وفي قوله تعالى : {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} [التّوبَة : 65] ، فإنَّ تقديم الجار والمجرور ؛ للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
(4/495)
ثم أبطل الاشتراك في الألوهية ، فقال : {لو كان فيهما آلهةً إِلا الله} أي : لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله ، كما هو اعتقادهم الباطل ، {لفسدَتَا} أي : لفسد نظامهما بما فيهما ، لوجود التمانع ، كعادة الملوك ، أو لبطلتا بما فيهما ، ولم يوجد شيء منهما ؛ للزوم العجز لهما ، بيان ذلك : أن الألوهية مستلزمة للقدرة على الاسْتِبْدَادِ بالتصرف فيهما على الإطلاق ، تغييرًا وبديلاً ، وإيجادًا وإعدامًا ، وإحياء وإماتة ، فبقاؤهما على ما هما عليه من غير فساد ، إما بتأثير كل منها ، وهو محال ؛ لاستحالة وقوع الأثر الواحد بين مؤثرين ، وإما بتأثير واحد منها ، فالباقي بمعزل عن الإلهية ، والمسألة مقررة في علم الكلام. و {إلا} : صفة لآلهة ، كما يُوصف بغير ، ولمَّا كانت حرفًا ، ظهر إعرابها في اسم الجلالة ، ولا يصح رفعه على البدل ؛ لعدم وجود النفي. ثم قال تعالى : {فسبحان الله} أي : فسبحوا سُبحان الله اللائق به ، وننزهوه عما لا يليق به من الأمور ، التي من جملتها : أن يكون له شريك في الألوهية. وإيراد الجلالة في موضع الإضمار ، حيث لم يقل فسبحانه ؛ للإشعار بعلية الحكم ، فإنَّ الألوهية مناط لجميع صفات كماله ، التي من جملتها : تنزهه تعالى عما لا يليق به ، ولتربية المهابة وإدخال الروعة. ثم وصفه بقوله : {ربِّ العرش} ، وخصه بالذكر ، مع كونه رب كل شيء ؛ لعظم شأنه ؛ لأنَّ الأكوان في جوفه كلا شيء ، أي : تنزيهًا له عما يصفونه عن أن يكون من دونه آلهة.
336
(4/496)
ثم بيَّن قوة عظمته وعز سلطانه القاهر ، فقال : {لا يُسأل عما يَفعل} أي : لا يمكن لأحد من مخلوقاته أن يناقشه أو يسأله عما يفعل ؛ هيبةً وإجلالاً ، {وهم يُسألون} أي : وعباده يُسألون عما يفعلون ، نقيرًا وقطميرًا ؛ لأنهم مملوكون له تعالى ، مستعبدون ، ففيه وعيد للكفرة ، فالآية تتميم لقوله : {لاعبين} ، بل خلقنا الأشياء كلها لحكمة ، فمنها ما أدركتم حكمته ، ومنها ما غاب عنكم ، فكِلُوا أمره إلى الله ، ولا تسألوه عما يفعل ، فإنه لا يُسأل عن فعله ، وأنتم تُسألون.
ثم قال تعالى : {أم اتخذوا من دونه آلهة} ، هو إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة ؛ بإظهار خلوها من خصائص الألوهية ، التي من جملتها إنشار الموتى ، وإقامة البرهان القاطع على استحالة تعد الإله ، إلى إظهار بُطلان اتخاذهم تلك الآلهة ، مع عرائها عن تلك الخصائص ، وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة. والهمزة : لإنكار ما اتخذوه واستقباحه ، أي : بل اتخذوا من دونه - أي : متجاوزين إياه تعالى ، مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية - آلهة ، مع ظهور خلوهم عن خصوص الإلهية بالكلية.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
قلْ} لهم ، بطريق التبكيت : {هاتُوا برهانكم} على ما تَدَّعونَه ، من جهة العقل والنقل ؛ فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية ، لا سيما في هذا الأمر الخطير ، فإن بُهتوا فقل لهم : {هذا ذكر مَنْ معي وذكر مَنْ قبلي} أي : بهذا نطقت الكتب السماوية قاطبة ، وشهدت به سُنَّة الرسل المتقدمة كافة. فهذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع {ذُكر من معي} من أمتي ، أي : عظتهم ، {وذكرُ مَن قبلي} من الأمم السالفة ، أي : بهذا أمَرنا ربُنا ووعظنا ، وبه أمر مَنْ قبلنا ، يعني : انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه بها.
(4/497)
وقيل : المعنى : هذا كتاب أُنزل على أمتي ، وهذا كتاب أُنزل على أمم الأنبياء - عليهم السلام - قبلي ، فانظروا : هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ، ففيه تبكيت لهم. {بل أكثرهم لا يعلمون الحقَّ} أي : لا يفهمونه ، ولا يميزون بينه وبين الباطل ، فهو إضراب وانتقال من تبكيتهم بمطالبة البرهان ، إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المحاججة ؛ لجهلهم وعنادهم ، ولذلك قال : {فهم معرضون} أي : فهم لأجل جهلهم وعتوهم مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول ، لا يَرْعَوُونَ عما هم عليه من الغي والضلال ، وإن كررت عليهم البينات والحجج. أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية ؛ لانهماكهم.
{وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ من رسولٍ إِلا يوحى إِليه أنه لا إِله إِلا أنا فاعبدون} ، هذا مقرر لما قبله ؛ من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية ، وأجمعت عليه الرسل -
337
عليهم السلام - قاطبة. وصيغة المضارع في (يوحى) ؛ لحكاية الحال الماضية ؛ استحضارًا لصورة الوحي العجيبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} ، العندية ، هنا ، عندية اصطفاء وتقريب ، وهذه صفة العارفين المقربين ، لا يستكبرون عن عبادته ، بل خاضعون لجلاله وقهريته على الدوام ، ولا يستحسرون : لا يملُّون منها ولا يشبعون ، غير أنهم يتلونون فيها ؛ من عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب ؛ كالتفكر والاعتبار ، إلى عبادة الأرواح ؛ كالشهود والاستبصار ، إلى عبادة الأسرار ؛ كالعكوف في حضرة الكريم الغفار ، يُنزهون الله تعالى في جميع الأوقات ، لا يفترون عن تسبيحه بالمقال أو الحال.
(4/498)
وقوله تعالى : {أم اتخذوا آلهة...} الخ ، تَصْدُق على من مال بقلبه إلى محبة الأكوان ، أو ركن إلى الحظوظ والشهوات ، وقوله تعالى : {لو كان فيهما آلهة إِلا الله لفسدتا} ، اعلم أن ثلاثة اشياء إذا تعدد مدبرها فسد نظامها ؛ أولها : الألوهية ، فلو تعددت لفسد نظام العالم ، وثانيها : السلطنة ، إذا تعددت في قُطْر واحد فسدت الرعية ، وثالثها : الشيخوخة ، إذا تعددت على مريد واحد فسدت ترتبيته ، كالطبيب إذا تعدد على مريض واحد فسد علاجه. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
وقوله تعالى : {لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون} قال الكواشي : يعني : لا يُسأل عن فعله وحُكمه ؛ لأنه الرب ، وهم يُسألون ؛ لأنهم عبيده. وبعض الناس يقول : هذه آية الدبوس. قلت : وقد تقلب السين زايًا ، ومعناها : أن كل ما تحكم به القدرة يجب حنو الرأس له ، من غير تردد ولا سؤال. ثم قال : ولو نظر النظر الصحيح لرآها أنصف آية في كتاب الله تعالى ؛ وذلك لأنه جمع فيها بين صفة الربوبية وصفة العبودية. هـ.
وقوله : {وما أرسلنا من قبلك من رسول إِلا نُوحيَ إِليه أنه لا إله إلا أنا} يعني : أن التوحيد مما أجمعت عليه الرسل والكتب السماوية. والفناء فيه على ثلاثة أقسام : فناء في توحيد الأفعال ، وهو ألا يرى الفعل إلا من الله ، ويغيب عن الوسائط والأسباب ، وفناء في توحيد الصفات ، وهو أن يرى ألا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم إلا الله ، وفناء في توحيد الذات ، وهو أن يرى ألا موجود إلا الله ، ذوقًا ووجدًا وعقدًا. كما قال صاحب العينية :
هُوَ الموجِدُ الأشْيَاءِ وَهْوَ وُجُودُهَا
وعَيْنُ ذَوَاتِ الكُلِّ وَهْوَ الجَوَامِعُ
وقد أشار بعضهم إلى هذه الفناءات ، فقال :
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى
فكان فناؤه عين البقاءِ
وهنا - أي : في مقام الفناء والبقاء - انتهت أقدام السائرين ، ورسخت أسرار العارفين ، مع ترقيات وكشوفات أبد الآبدين ، جعلنا الله من حزبهم. آمين.
338
(4/499)
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا} ، حكى الله تعالى جناية أخرى لبعض المشركين ، جيء بها ؛ لبيان بطلانها. والقائل بهذه المقالة حيٌ من خزاعة ، وقيل : قريش وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح ، يقولون : الملائكة بنات الله ، وأمهاتهم سروات الجن ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن كون جميع ما سواه مربوباً له تعالى ، نعمة أو منعمًا عليه ؛ لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة ، {سبحانه} أي : تنزه تنزيهًا يليق بكمال ذاته ، وتقدَّس عن الصاحبة والولد ، {بل} هم {عبادٌ} لله تعالى ، و " بل " إبطال لما قالوا ، أي : ليست الملائكة كما قالوا ، {بل عبادٌ مكرمون} ؛ مقربون عنده ، {لا يسبقونه} أي : لا يتقدمونه {بالقول} ، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به. وهذه صفة أخرى لهم ، منبهة على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى ، أي : لا يقولون شيئًا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به. وأصله : لا يسبق قولُهم قولَه ، ثم أسند السبق إليهم ؛ لمزيد تنزههم عن ذلك ، {وهم بأمره يعملون} أي : لا يعملون إلا ما أمرهم به ، وهو بيان لتبعيتهم له تعالى في الأفعال ، إثر بيان تبعيتهم له في الأقوال ، فإن نفي سبقيتهم له تعالى بالقول : عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه ، كأنه قيل : هم بأمره يقولون وبأمره يعملون ، لا بغير أمره أصلاً.
(4/500)
{يعلمُ ما بين أيديهم وما خلْفَهم} أي : ما عملوا وما هم عاملون ، وقيل : ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم. وهو تقرير لتحقق عبوديتهم ؛ لأنهم إذا كانوا مقهورين تحت علمه تعالى وإحاطته انتفت عنهم أوصاف الربوبية المكتَسبَة من مجانسة البنوة ، {ولا يشفعون إِلا لمن ارتضى} أن يشفع له ، مهابة منه تعالى. قال ابن عباس : " هم أهل لا إله إلا الله " ، {وهم من خشيته} عزّ وجلّ {مشفقون} : خائفون مرتعدون. قال بعضهم : أصل الخشية : الخوف مع التعظيم ، ولذلك خص بها العلماء ، وأصل الإشفاق : الخوف مع الاعتناء ، فعند تعديته بمن : يكون معنى الخوف فيه أظهر ، وعند تعديته بعلى : ينعكس الأمر ؛ فيكون معنى الإشفاق فيه أظهر.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 339
ومن يَقُلْ منهم} أي : من الملائكة ؛ إذ الكلام فيهم ، {إِني إِلهٌ من دونه} أي : متجاوزًا إياه تعالى ، {فذلك} الذي فرض أنه قال ذلك فرض المحال ، {نَجْزِيه جهنم} كسائر المجرمين ، ولا ينفي هذا عنهم ما ذكر قبلُ من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية ؛
339
(4/501)
لأنه فرض تقدير ، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى ، وعزة جبروته ، واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما توهمه أولئك الكفرة ، ما لا يخفى ، {كذلك نجزي الظالمين} أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين ، الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها ، ويتعدون أطوارهم. قال الكواشي : هذا القول وارد على سبيل التهديد والوعيد الشديد على ارتكاب الشرك ، كقوله : {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعَام : 88]. هـ. فالقصد : تفظيع أمر الشرك ، وأنه لو صدر ممن صدر لأحبط عمله ، وكان جزاء صاحبه جهنم ، ومثل ذلك الجزاء نجزي الظالمين ، وهم الكافرون ، والحاصل : أنه على سبيل الفرض ، مع علمه تعالى أنه لا يكون من الملائكة ، فهو من إخباره عما لا يكون كيف يكون ، لعلمه بما لا يكون ، مما جاز أن يكون ، كيف يكون. هـ. من الحاشية الفاسية ببعض اختصار.
فالكاف من " كذلك " : في محل مصدر تشبيهي ، مؤكد لمضمون ما قبله. والقصر ، المستفاد من التقديم للمصدر ، معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة ، أي : لا جزاء أنقص منه. والله تعالى أعلم.
(4/502)
الإشارة : أنوار الملكوت متدفقة من بحر أسرار الجبروت ، من غير تفريع ، ولا تولد ، ولا علاج ، ولا امتزاج ، بل : كن فيكون ، لكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأشياء وتفريع بعضها من بعض ، ليبقى السر مصونًا والكنز مدفونًا. فأسرار الذات العلية منزّهة عن اتخاذ الصاحبة والولد ، بل القدرة تُبرز الأشياء بلا علاج ولا أسباب ، والحكمة تسترها بوجود العلاج والأسباب. فكل ما ظهر في عالم التكوين قد عَمَّتْهُ قهرية العبودية ، وانتفت عنه نسبة البُنوة لأسرار الربوبية ، فأهل الملأ الأعلى عباد مكرمون ، مقدّسون من دنس الحس ، مستغرقون في هَيَمَان القرب والأنس ، وأهل الملأ الأسفل مختلفون ، فمن غلب عقلُه على شهوته ، ومعناه على حسه ، وروحانيته على بشريته ، فهو كالملائكة أو أفضل. ومن غلبت شهوته على عقله ، وحسه على معناه ، وبشريته على روحانيته ، كان كالبهائم أو أضل. ومن التحق بالملأ الأعلى ، من الأولياء المقربين ، انسحب عليه ما مدحهم به تعالى من قوله : {يُسبحون الليل والنهار لا يَفْتُرون} ، ومن قوله : {لا يسبقونه بالقول} ، بأن يدبروا معه شيئًا قبل ظهور تدبيره ، وهم بطاعته يعملون ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهم من خشية هيبته مشفقون ، {ومَن يقل منهم إني إله من دونه} ؛ بأن يدّعي شيئًا من أوصاف الربوبية ، كالكبرياء ، والعظمة على عباده ، فذلك نجزيه جهنم ، وهي نار القطيعة ، كذلك نجزي الظالمين. وفي الحِكَم : " منعك أن تدّعي ما ليس لك مما للمخلوقين ، أفيبيح لك أن تدّعي وصفه وهو رب العالمين " ؟
340
جزء : 4 رقم الصفحة : 339
قلت : {فِجَاجًا} : حال من " سُبل " ، وأصله : وصف له ، فلما تقدم أُعرب حالاً. وقيل {سُبُلاً} : بدل من {فجاجًا}. وفي إتيانه : إيذان أن تلك الفجاج نافذة ؛ لأن الفج قد يكون نافذًا وقد لا. قاله المحشي.
(4/503)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أوَ لَمْ يَر الذين كفروا} رؤية اعتبار {أنّ السماواتِ والأرضَ} أي : جماعة السماوات وجماعة الأرض {كانتا} ، ولذلك لم يقل كُنَّ ، {رَتْقًا} أي : ملتصقة بعضها ببعض. والرتق : الضم والالتصاق. وهو مصدر بمعنى المفعول ، أي : كانتا مرتوقتين ، أي : ملتصقتين ، {ففتقناهما} ؛ فشققناهما ، فالفتق ضد الرتق. قال ابن عباس رضي الله عنه : " كانتا شيئًا واحدًا متصلتين ، ففصل الله بينهما ، فرفع السماء إلى حيث هي ، وأقرّ الأرض ". وفي رواية عنه : أرسل ريحًا فتوسطتهما ففتقتهما. وقال السدي : (كانت السماوات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها ، فجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض ، كانت طبقة واحدة ، ففتقها ، فجعلها سبع أرضين).
فإِن قيل : متى رأوهما رتقًا حتى جاء تقريرهم بذلك ؟ قلنا : مصب الكلام والتقرير هو فتق السماوات ورفعها ، وهو مشاهد بالأبصار ، وهم متمكنون من النظر والاعتبار ، فيعلمون أن لها مدبرًا حكيمًا ، فَتَقَهَا ورفعها ، وهو الحق جلّ جلاله ، وذكر الرتق زيادة إخبار ، فكأنه قال : ألم يروا إلى فتق السماوات ورفعها ؟ وقال الكواشي : لَمّا كان القرآن معجزًا ، كان وروده برتقهما كالمشاهد المرئي ، أو : لمّا كان تلاصق السماوات والأرضين ، وما بينهما ، وتباينهما ، جائزًا عقلاً ، وجب تخصيص التلاصق من التباين ، وليس ذلك إلا لله تعالى. هـ.
وقيل : كانت السماوات صلبة لا تمطر ، والأرض رتقًا لا تنبت ، ففتق السماء بالأمطار ، والأرض بالنبات. ورُوي هذا عن ابن عباس أيضًا ، وعليه أكثر المفسرين ، وعِلْمُ الكفرةِ الرتقِ والفتق ، بهذا المعنى ، مما لا خفاء فيه. والرؤية على الأول رؤية علم ، وعلى الثاني رؤية عين.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 341
وجعلنا من الماء كل شيءٍ حيٍّ} أي : خلقنا من الماء كل حيوان ، كقوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} [النُّور : 45] ، وذلك لأنه من أعظم مواده ، أو لفرط احتياجه
341
(4/504)
إليه ، وحبه له ، وعدم صبره عنه ، وانتفاعه به ، ويدخل في ذلك : النبات ؛ مجازًا دون الملائكة ، فأَلْ فيه للحقيقة والماهية ، إلا أنه صرفه عن ذلك إلى العهد الذهني قرينةُ الجعل ، كما في آية : {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يُوسُف : 17] ، فإن القرينة تخلص ذلك للبعضية وإرادة الأشخاص. وقيل المراد به : المَنِيُّ. فأَلْ فيه ، حينئذ ، للعهد الذهني فقط. قال القشيري : كُلُّ مخلوقٍ حيٍّ فَمِنَ الماء خَلْقُه ، فإنَّ أصلَ الحيوان الذي يحصل بالتناسل النطفةُ ، وهي من جملة الماء. هـ. وتقدم أن الملائكة لا تناسل فيها. {أفلا يؤمنون} بالله وحده ، وهو إنكار لعدم إيمانهم ، مع ظهور ما يُوجبه حتمًا من الآيات الآفاقية والأنفُسية ، الدالة على تفرده تعالى بالألوهية. {وجعلنا في الأرض رواسِيَ} أي : جبالاً ثوابت ، من رسا الشيءُ ؛ إذا ثبت ورسخ ، {أن تميد بهم} أي : كراهية أن تتحرك وتضطرب بهم ، أو لئلا تميد بهم - بحذف اللام - ، و " لا " ؛ لعدم الإلباس. {وجعلنا فيها} أي : في الأرض ، وتكرير الجعل ؛ لاختلاف المجعولين ، ولتوفية مقام الامتنان حقه ، أو في الرواسي ؛ لأنها المحتاجة إلى الطرق ، {فِجاجًا} : جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، نفذ أم لا ، أي : جعلنا في الأرض مسالك واسعة ، و {سُبُلاً} نافذة : فالسبل هي الفجاج مع قيد النفوذ. فإن قيل : أيّ فرق بين هذا وبين قوله : {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نُوح : 20] ؟ فالجواب : أنه هُنا بيَّن أنه خلقها على هذه الصفة ، وهناك بيَّن أنه جعل فيها طُرقًا واسعة ، وليس فيه بيان أنه خلقها كذلك ، فما هنا تفسير لما هناك. انظر النسفي.
(4/505)
وقوله تعالى : {لعلهم يهتدون} أي : إلى البلاد المقصودة بتلك السبل ، أو إلى مصالحهم ومهماتهم. {وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا} من السقوط ، كقوله : {وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحَجّ : 65] ، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم ، أو من استراق السمع بالشهب ، كما قال : {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [الصَّافات : 7]. {وهم} أي : الكفار {عن آياتها} أي : عن الأدلة التي فيها ، كالشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك مما فيها من العجائب الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته وحكمته ، التي بعضها محسوس ، وبعضها معلوم بالبحث في علمي الطبيعة والهيئة ، {مُعْرِضُون} لا يتدبرون فيها ، فيقفون على ما هم عليه من الكفر والضلال ، فيؤمنون.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 341
وهو الذي خلق الليلَ} لتسكنوا فيه ، {والنهارَ} لتتصرفوا فيه ، {والشمسَ} لتكون سراجَ النهار ، {والقمرَ} ليكون سراج الليل ، وهذا بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون. وقوله : {كلٌّ} أي : كلهم ، والمراد : جنس الطوالع ، {في فَلكٍ يَسْبَحُون} أي : يسيرون سير العائم في الماء. عن ابن عباس رضي الله عنه : الفلك السماء ، وقيل : موج مكفوف تحت السماء ، يجري فيه الشمس والقمر والنجوم. وجمهور
342
أهل الهيئة أن الفلك : جسم مستدير ، وأنهن تسعة ، وهل هي السماوات السبع ، فيكون الكرسي ثامنًا ، والعرش تاسعًا ، أو غيرهن ، فتكون تحت السماوات أو فوقها ؟ قولان لهم. والمراد هنا : الجنس ، كقولك : كَسَاهُمُ الأميرُ حلةٌ ، أي : حُلة حُلةً ، وجعل الضمير واو العقلاء ؛ لأن السباحة حالُهم.
(4/506)
قال في المستخرج من كتاب الغزنوني : " كلٌّ " أي : كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارة ، وإن لم تُذْكرون ؛ لأنه جمعَ قوله : {يَسْبَحُون} والمعنى : يجرون كالسابح أو يدورون ، والسيارة تجري في الفلك على عكس جري الفلك ، ولها تسعة أفلاك ، فالقمر في الفلك الأدنى ، ثم عطارد ، ثم الزهرة ، ثم الشمس ، ثم المريخ ، ثم المشتري ، ثم زُحل ، والثامن : فلك البروج ، والتاسع : الفلك الأعظم. هـ. وقال في سورة يس : خص الشمس والقمر هنا ، وفي سورة الأنبياء ؛ لأن سيرهما أبدًا على عكس دور الفلك ، وسَيْر الخمسة قد يكون موافقًا لسيره عند رجوعها. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أوَ لَم ير الذين كفروا بوجود التربية أن سماوات الأرواح وأرض النفوس كانتا رتقًا صلبة ، ميتة بالجهل ، ففتقناهما بالعلوم وأسرار التوحيد ؟ والمعنى : أن بعض الأرواح والنفوس تكون ميتة صلبة ، فإذا صَحِبَتْ أهل التربية ، انفتقت بالعلوم والأسرار ، فهذا شاهد بوجود أهل التربية ، ومن قال بانقطاعها فقوله مردود بالمشاهدة. وجعلنا من ماء الغيب - وهي الخمرة الأزلية - كلَّ شيء حي ، أفلا يؤمنون بوجود هذا الماء عند أربابه ؟ وجعلنا في أرض النفوس جبالاً من العقول ؛ لئلا تميل إلى الهوى فتموت ، وجعلنا فيها طُرقًا يسلك منها إلى الحضرة ، وهي كيفية الرياضة وأنواع المجاهدة ، وهي طرق كثيرة ، والمقصد واحد ، وهو الوصول إلى الفناء والبقاء ، التي هي معرفة الحق بالعيان ، وهو قوله تعالى : {لعلهم يهتدون} إلى الوصول إلى حضرتنا.
(4/507)
وجعلنا السماء ، أي : سماء القلوب الصافية ، سقفًا محفوظًا من الخواطر والوساوس والشكوك والأوهام والشياطين ، قال بعضهم : " إذا كان الحق تعالى قد حفظ السماء بالشهب من الشياطين ، فقلوب أوليائه أولى بالحفظ). وهم عن آياتها ، أي : عن دلائل حفظها وصيانتها معرضون ؛ لانهماكهم في الغفلة. وهو الذي خلق ليل القبض ونهار البسط وشمس العرفان وقمر توحيد الدليل والبرهان ، كلٌّ في موضعه ، لا يتعدى أحد على صاحبه ، ولكل واحد سير معلوم وأدب محتوم. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 341
ولمّا قامت الحجة على الكفرة بما ذكرَ من الآيات والدلائل القاطعة ، وانقطعوا ، قالوا : ننتظر به ريب المنون ، فنستريح منه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 341
343
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : {وما جعلنا لبشرٍ من قبلكَ الخُلدَ} أي : البقاء الدائم ؛ لكونه مخالفًا للحكمة التكوينية والتشريعية ، {أَفإِن مِّتَّ} بمقتضى حكمتنا {فهُم الخالدون} بعدك ؟ نزلت حين قالوا : نتربص به رب المنون ، فنفى عنه الشماتة بموته ، فإن الشماتة بالموت مما لا ينبغي أن يصدر من عاقل ، أي : قضى الله ألا يخلد في الدنيا بشرًا ، فإن مِّتَّ - يا محمد - أيبقى هؤلاء الكفرة ؟ كلا ؛ {كلُّ نَفْسٍ ذائقةُ الموت} أي : ذائقة مرارة مفارقتها جسدها ، فتستوي أنت وهم فيها ، فلا تتصور الشماتة بأمر عام.
(4/508)
{ونبلُوكم} ، الخطاب : إما للناس كافة بطريق التلوين ، أو للكفرة بطريق الالتفات ، وسمي ابتلاء ، وإن كان عالمًا بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم ؛ لأنه في صورة الاختبار ، أي : نختبركم {بالشر والخير} ، أي : بالفقر والغنى ، أو بالضر والنفع ، أو بالعطاء والمنع ، أو بالذل والعز ، أو بالبلاء والعافية ، {فتنةً} ؛ اختبارًا ، هل تصبرون وتشكرون ، أو تجزعون وتكفرون. و {فتنة} : مصدر مؤكد {لنبلوكم} ، من غير لفظه. {وإِلينا تُرجعون} لا إلى غيرنا ، فنجازيكم على حسب ما يُؤخذ منكم ؛ من الصبر والشكر ، أو الجزع والكفران. وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الدنيا : الابتلاء والتعرض للثواب والعقاب. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا بد لهذا الوجود بما فيه أن تنهد دعائمه ، وتُسلَب كرائمه ، ولا بد من الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار التعب إلى دار الهناء ، ومن دار العمل إلى دار الجزاء. فالعاقل من أعرض بكليته عن هذه الدار ، وصرف وجهته إلى دار القرار ، فاشتغل بالتزود للرحيل ، وبالتأهب للمسير ، فلا مطمع للخلود في هذه الدار ، وقد رحل منها الأنبياء والصالحون والأبرار ، وتأمل قول الشاعر :
صبرًا في مجال الموت صبرًا
فما نيل الخلود بمستطاع
جزء : 4 رقم الصفحة : 343
(4/509)
وقوله تعالى : {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} ، اعلم أن تخالف الآثار وتنقلات الأطوار على العبد من أفضل المنن عليه ، إن صَحِبَتْه اليقظة ، فيرجع إلى الله تعالى في كل حال تنزل به ، إن أصابته ضراء رجع إلى الله بالصبر والرضا ، وإن أصابته سراء رجع إليه بالحمد والشكر ، فيكون دائمًا في السير والترقي ، وهذا معنى قوله تعالى : {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإِلينا تُرجعون} أي : بهما. فالرجوع إلى الله في السراء والضراء من أركان الطريق ، والرجوع إلى الله في الضراء بالصبر والرضا ، وفي السراء بالحمد والشكر ، ورؤية ذلك من الله بلا واسطة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " من ابتلي فَصَبَرَ ، وأُعطِي فَشَكَرَ ،
344
وظُلِم فغفر أو ظلَم فاسْتَغْفَرْ " ، ثم سكت - عليه الصلاة والسلام - فقالوا : ما له يا رسول الله ؟ قال : {أولئك لَهُمُ الأمْنُ وهم مُهْتَدُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم : " عجبًا لأمرِ الْمُؤْمِن ، إِنَّ أمرهُ كُلَّهُ خيرٌ ، ولَيْسَ ذلِكَ لأحَد إلاَّ للمُؤْمنِ ، إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَر ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وإنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فكَانَ خَيرًا لَهُ ". والرجوع إلى الله في الضراء أصعب ، والسير به أقوى ؛ لِمَا فيه من التصفية والتطهير من أوصاف البشرية ، ولذلك قدَّمه الحق تعالى. وفي الحديث : " إذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا ابْتَلاَهُ ، فإن صبر اجتباه ، وإن رضي اصطفاه " وفي الخبر عن الله تعالى : " الفقر سجني ، والمرض قيدي ، أحبس بذلك من أحببتُ من عبادي " وبه يحصل على عمل القلوب ؛ الذي هو الصبر والرضا والزهد والتوكل ، وغير ذلك من المقامات ، وذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، ومن أعمال القلوب يُفضي إلى أعمال الأرواح والأسرار ، كفكرة الشهود والاستبصار. وفكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة ، بل من أَلْفِ سنة ، كما قال الشاعر :
كُلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ
قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّهْ
(4/510)
لأن المقصود من الطاعات وأنواع العبادات : هو الوصول إلى مشاهدة الحق ومعرفته ، فالفكرة والنظرة لا جَزاء لها إلا زيادة كشف الذات وأنوار الصفات ، منحنا الله من ذلك ، الحظ الأوفر. آمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 343
345
قلت : {أهذا الذي} : مقول لحال محذوفة ، أي : قائلين : أهذا الذي ، وحذف الحال ، إذا كان قولاً ، مطردٌ. {وهم بذكر الرحمن} : حال ، و {بل تأتيهم} : عطف على {لا يكُفُّون} أي : لا يكفونها ، بل تأتيهم.
(4/511)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإِذا رآك الذين كفروا} أي : المشركون {إِن يتخذونك} ؛ ما يتخذونك {إِلا هُزُوًا} ؛ مهزوءًا بك ؛ على معنى قصر معاملتهم معه - عليه الصلاة والسلام - على اتخاذهم إياه هزوًا ، كأنه قيل : ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوًا. نزلت في أبي جهل - لعنه الله - ، مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم ، فضحك وقال : هذا نبيُّ بني عبد مناف. قال القشيري : (لو شاهدوه على ما هو عليه من أوصاف التخصيص ، وما رقَّاه الله من المنزلة ، لظلوا له خاضعين ، ولكنهم حُجِبُوا عن معانيه وسريرته ، وعاينوا فيه جسمه وصورته). فاستهزؤوا بما لم يُحيطوا بعلمه ، حَال كونهم يقولون : {أهذا الذي يَذْكُرُ} أي : يعيب {آلهتكم} ، فالذكر يكون بخير وبضده ، فإنْ كان الذاكر صديقًا للمذكور فهو ثناء. وإن كان عدوًا فهو ذم. {وهم بذكر الرحمن} أي : بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية ، {هم كافرون} ؛ لا يصدقون به أصلاً ، فهم أحق بالهزء والسخرية منك ؛ لأنك مُحق وهم مُبطلون. والمعنى أنهم يعيبون - عليه الصلاة والسلام - أن يذكر آلهتهم ، التي لا تضر ولا تنفع ، بالسوء ، والحال : أنهم بذكر الرحمن ، المنعم عليهم بأنواع النعم ، التي هي من مقتضيات رحمانيته ، كافرون ، لا يذكرونه بما يليق به من التوحيد وأوصاف الكمال ، أو : بما أنزل من القرآن ؛ لأنه ذكر الرحمن ، {هم كافرون} ؛ جاحدون ، فهم أحقاء بالعيب والإنكار. وكرر لفظ " هُم " للتأكيد ، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر ، فأعيد المبتدأ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 345
(4/512)
ثم قال تعالى : {خُلِقَ الإنْسانُ من عَجَل} ، العَجَل والعَجَلة مصدران ، وهو تقديم الشيء على وقته. والمراد بالإنسان : الجنس ، جُعل لفرط استعجاله ، وقلة صبره ، كأنه خُلق من العَجَلة ، والعرب تقول لمن يكثر منه الشيء : خُلق منه ، تقول لمن يكثر منه الكرم : خُلق من الكرم. ومن عجلته : مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد. رُوي أنها نزلت في النضر بن الحارث ، حين استعجل العذاب بقوله : {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا...} [الأنفَال : 32] الآية ، كأنه قال : ليس ببدع منه أن يستعجل ، فإنه مجبول على ذلك ، وطبعُه ، وسجيته.
وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام ، فإنه حين بلغ الروح صدره أراد أن يقوم. ورُوي : أنه لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، ولمَّا وصل جوفه اشتهى الطعام ، فكانت العجلة من سجيته ، وسرت في أولاده. وإنما
346
منعَ الإنسان من الاستعجال وهو مطبوع عليه ، ليتكمل بعد النقص ، كما أمره بقطع الشهوة وقد رَكّبها فيه ؛ لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العَجَلة. قال القشيري : العَجَلةُ مذمومةٌ ، والمُسَارَعَةُ محمودةٌ. والفرق بينهما : أن المسارعة : البِدارُ إلى الشيء في أول وقته ، والعَجَلة : استقباله قبل وقته ، والعَجَلةُ سمة وسوسة الشيطان ، والمسارعةُ قضية التوفيق. هـ.
وقال الورتجبي : خلقهم من العَجَلة ، وزجرَهم عن التعجيل ؛ إظهارًا لقهاريته على كل مخلوق ، وعجزهم عن الخروج عن ملكه وسلطانه. وحقيقة العَجَلة متولدة من الجهل بالمقادير السابقة. هـ. قلت : ما زالت الطمأنينة والرَّزانَةُ من شأن العارفين ، وبها عُرفوا ، والعَجَل والقلق من شأن الجاهلين ، وبها وصفوا.
وقيل : العَجَل الطين ، بلغة حِمْير ، ولا مناسبة له هنا.
(4/513)
قال تعالى ، صارفًا للخطاب عن الرسول إلى المستعجلين : {سأُوريكم آياتي} : نَقَماتي ، كعذاب النار وغيره ، {فلا تستعجلون} بالإتيان بها ، وهو نهي عما جُبلت عليه نفوسهم ؛ ليقهروها عن مرادها من الاستعجال.
{ويقولون متى هذا الوعد} : إتيان العذاب ، أو القيامة ، {إِن كنتم صادقين} في وعدكم بأنه يأتينا ، قالوه استعجالاً بطريق الاستهزاء ، والإنكار ، لا طلبًا لتعيين وقته ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن مجيء الساعة. قال تعالى : {لو يعلمُ الذين كفروا} ، هذا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه ، وفظاعة ما فيه من العذاب ، وأنهم يستعجلونه لجهلهم بشأنه. وقوله تعالى : {حين لا يَكُفُّون عن وجوههم النارَ ولا عن ظهورهم ولا هم يُنصرون} : مفعول {يعلم} ، وهو عبارة عن الوقت الموعود ، الذي كانوا يستعجلونه. وقوله : {لو يعلمُ الذين كفروا} أي : حين يرون ويعلمون حقيقة الحال ، وهو معاينة العذاب. وجواب " لو " : محذوف ، أي : لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم : متى هذا الوعد ؟ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار من ورائهم وقدامهم ، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم ، لَمَا كانوا بهذه الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عندهم.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 345
بل تأتيهم بغتة} أي : بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة ، {فتَبهتُهُم} : فتُحيِّرهم أو تغلبهم ، {فلا يستطيعون ردَّها} ؛ فلا يقدرون على دفعها عنهم ، أي : النار أو الساعة ، {ولا هم يُنظرون} : يُمهلون ؛ ليستريحوا طرفة عين.
ثم سلّى رسوله عن استهزائهم ، فقال : {ولقد استُهزئ برسل من قبلك فحاقَ} : نزل أو أحاط أو حلّ {بالذين سخروا منهم} أي : من أولئك الرّسل - عليهم السلام - جزاء {ما كانوا به يستهزئون} ، وهو العذاب الدائم. نسأل الله العافية.
347
(4/514)
الإشارة : كل من خرق عوائد نفسه ، وخرج عن عوائد الناس ، أو أمر بالخروج عن العوائد ، رفضه الناس واتخذوه هُزوًا ، سنة الله التي قد خلت من قبل ، لم يأت أحد بذلك إلا عُودي ، فإن ظهر عليه أثر الخصوصية ؛ من علم لدني ، أو هداية خلق على يده ، استعجلوه بإظهار الكرامة ، كما هو شأن الإنسان ، خُلق من عَجَل ، فيقول : سأوريكم آياتي ، فإن الأمر إذا كان مؤسسًا على الحق لا بد أن تظهر أنواره وأسراره ، فلو يعلم الذين كفروا بطريق الخصوص ، حين ترهقهم الحسرة ، وتُحيط بهم الندامة ، إذا رأوا أهل الصفاء يسرحَون في أعلى عليين حيث شاؤوا ، وجوههم كالشموس الضاحية ، لبادروا إلى الانقياد لهم ، وتقبيل التراب تحت أقدامهم ، ولكنهم اليوم في غفلة ساهون. ويقال لمن أنكر عليه أهلُ زمانه طريقَ التجريد وخرقَ العوائد : ولقد استُهزئ بمن كان قبلك ممن سلك هذه الطريق ، فأُوذوا ، وضُربوا ، وأُخرجوا من بلادهم ، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ، إما في الدنيا أو في الآخرة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 345
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قلْ} لهم يا محمد : {مَن يكلؤكُم} : يحفظكم {بالليل والنهار من} بأس {الرحمنِ} الذي تستحقونه ، إذا نزل بكم ليلاً أو نهارًا. قال الواسطي : من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن أن يظهر عليكم ما سبق فيكم ؟ وقال ابن عطاء : من يكلؤكم من أمر الرحمن سوى الرحمن ، وهل يقدر أحد على الكلاءة سواه ؟ وتقديم الليل ؛ لأن الدواهي فيه أكثر وقوعًا وأشد وقعًا. وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كلاءتهم ليس إلا برحمته العامة. {بل هم عن ذِكْرِ ربهم معرضون} أي : بل هم معرضون عن ذكره ، ولا يُخطِرونه ببالهم ، فضلاً أن يخافوا بأسه ، حتى إذا رزقوا الكلاءة عرفوا مَن الكالئ ، وصلحوا للسؤال عنه.
(4/515)
والمعنى : أنه أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - بسؤالهم عن الكالئ ، ثم أضرب عنه ، وبيَّن أنهم لا يصلحون لذلك ، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. هكذا للزمخشري ومن تبعه. وقال ابن جزي : والمعنى : أنه تهديد وإقامة حجة عليهم ؛ لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا بأنه ليس لهم مانع ولا حافظ غيره تعالى - يعني لِمَا جربوه في أحوال محنتهم - ثم قال : وجاء قوله : {بل هم عن ذكر ربهم معرضون} ، بمعنى أنهم ، إذا سُئلوا ذلك السؤال ، لم يجيبوا عنه ، لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا ، ولكنهم
348
يعرضون عن ذكر الله. هـ. أي : يعرضون عن أن يقولوا : كالأنا الله عتوًا وعنادًا. وهو معنى قوله : {بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون} ، كأنه قال : لو سُئلوا ، لم يجدوا جوابًا ، إلا أن يقولوا : هو الله ، لكنهم يعرضون عن ذكره ؛ مكابرة. قلت : وما قاله ابن جزي أحسن مما قاله الزمخشري ومن تبعه ، وأقرب.
ثم قال تعالى : {أم لهم آلهةٌ تمنعُهم من دوننا} ، هذا انتقال من بيان جهلهم بحفظه تعالى ، أو إعراضهم عن ذكره ، إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم. والمعنى : ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تجاوز منعنا وحفظنا ، فهم يعولون عليها واثقون بحفظها ؟ وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة بما ذكر من المنع ، لا إلى نفس الصفة ، بأن يقال : أم تمنعهم آلهتهم... الخ. من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود ، فضلاً عن رتبة المنع ، ما لا يخفى. ثم قال تعالى : {لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منّا يُصْحَبُون} أي : يُجَارون. والصاحب : المُجِير الوافي ، يعني : أن الأصنام لا تُجير نفسها ، ولا نُجيرهم نحن ، أو لا يصحبُهم نصر من جهتنا ، فهم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ، ولا يُصحبون بالنصر والتأييد من جهتنا ، فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم ؟
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 348
(4/516)
بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العُمُرُ} ، إضراب عما توهموه من منع آلهتهم وحفظها لهم ، أي : ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا ، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا ، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعًا لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً ، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم ، وظنوا أنهم دائمون على ذلك ، وهو أمل كاذب. {أفلا يَرَوْن أنَّا نأتي الأرضَ ننقُصُها من أطرافها} أي : ألا ينظرون فيرون أنَّا نأتي أرض الكفرة فننقصها من أطرافها ؛ بإدخالها في أيدي المسلمين ، فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا. وهو تمثيل وتصوير لما يخربه الله من ديارهم على أيدي المسلمين ، ويضيفها إلى دار الإسلام. وفي التعبير بنأتي : إشارة إلى أن الله تعالى يجريه على أيدي المسلمين ، وأن عساكرهم كانت تأتيهم لغزوهم غالبة عليهم ، ناقصة من أطراف أرضهم. {أفهم الغالبون} على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم ؟ أي : ليس كذلك ، بل يغلبهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه الكرام ، وقد تحقق ذلك وأنجز الله وعده ، والله غالب على أمره.
الإشارة : قل من يكلؤ قلوبكم وأسراركم من الرحمن ، أن يذهب بما أودع فيها من المعارف وأنوار الإحسان ؟ فلا أحد يحفظها إلا من رحمها بما أودع فيها ، ولهذا كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، لا يعتمدون على عمل ولا حال ، ولا على علم ولا مقال ، وفي الحكم : " إلهي ، حكمك النافذ ، ومشيئتك القاهرة ،
349
لم يتركا لذي حال حالاً ، ولا لذي مقال مقالاً ". وقال أيضًا : " إلهي كم من طاعة بنيتُها وحالة شيدتُها ، هدم اعتمادي عليها عدلك ، بل أقالني منها فضلك ". وكثير من الناس غافلون عن هذا المعنى ، بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون.
(4/517)
قال الورتجبي : قوله تعالى : {قل من يكلؤكم...} الآية ، أخبر عن كمال إحاطته بكل مخلوق ، وتنزيهه عن العَجَلة بمؤاخذتهم ، كأنه يقول : أنا بذاتي تعاليت ، أدفع بلطفي القديم عنكم قهري القديم ، ولولا فضلي السابق وعنايتي القديمة بالرحمة عليكم ، من يدفعه بالعلة الحدثانية ؟ وهذا من كمال لطفي عليكم وأنتم بعد معرضون عني يا أهل الجفا ، وذلك قوله : {بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون}. هـ. بلفظه مع تصحيف في النسخة.
وقوله تعالى : {بل متعنا هؤلاء...} الآية ، تمتيع العبد بطول الحياة ، إن كان ذلك في طاعة الله ، وازدياد في معرفته ، فهو من النعم العظيمة. وفي الحديث : " خَيرُكُم مَنْ طَال عُمُرهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ " لكن عند الصوفية : أنه لا ينبغي للمريد أن ينظر إلى ما مضى من عمره في طريق القوم ، فقد كان بعض الشيوخ يقول : لا يكن أحدكم عبد الدهور وعبد العدد. قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : معنى كلامه : أنه لا ينبغي للفقير أن يعدكم له في طريق القوم ، ليقول : أنا لي كذا وكذا من السنين في طريق القوم. هـ. بالمعنى. ولعل علة النهي ؛ لئلا يرى للأيام تأثيرًا في الفتح ، فقد قالوا : هي لمن صدق لا لمن سبق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 348
وقوله تعالى : {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} قال القشيري : فيه إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين ، وتطاول العمر ، فإن آخر الأمر كما قيل :
آخِرُ الأمر ما تَرَى
القبرُ واللَّحدُ والثرى
وكما قيل :
طَوَى العَصْرانِ ما نَشَرَاهُ مني
فأبلى جِدَّتِي نَشْرٌ وطيُّ
أراني كلَّ يوم في انتقاصٍ
ولا يبقى مع النقصان شيُّ
وكأنه فسر الأرض بأرض النفوس من باب الإشارة. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 348
(4/518)
ولمَّا بيَّن الحق تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ، ونهاية سوء حالهم ، عند إتيانه ، ونعى عليهم جهلهم بذلك ، وإعراضهم عند ذكر ربهم ، الذي يكلؤهم من طوارق
350
الليل والنهار ، أمَرَ نبيه - عليه الصلاة والسلام - بأن يخبرهم أن ما ينذرهم به ، مما يستعجلونه ، إنما هو بالوحي ، لا من عنده.
قلت : مَن قرأ : {يَسمع} بفتح الياء ، فالصُّم : فاعل ، والدعاء : مفعول ، ومن قرأ بضم التاء ، رباعي ؛ فالصم : مفعول أول ، والدعاء : مفعول ثان. ومن قرأ : {مثقال} ؛ بضم اللام ، فكان تامة ، وبالنصب : خبر كان ، أي : وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قل} لهم يا محمد {إِنما أُنذِرُكُم} وأخوفكم من العذاب الذي تستعجلونه ، أو بالساعة الموعودة ، {بالوحي} القرآني الصادق ، الناطق بإتيانه ، وفظاعة شأنه ، أي : إنما شأني أن أُنذركم بالإخبار به ، لا بإتيانه ؛ فإنه مخالف للحكمة الإلهية ؛ إذ الإيمان برهاني لا عياني ، فإذا أَنذرتَهم فلا يسمع إنذارك إلا من سبقت له العناية ، دون من سبق له الشقاء ، ولذلك قال تعالى : {ولا يسمع الصمُّ الدعاءَ} أي : الإنذار ، أو لا تُسمع أنت الصمَّ الدعاءَ {إِذا ما يُنذَرُون} ؛ يُخوَّفون ، واللام في للعهد ، وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين ، والأصل : ولا يسمعون إنذارك إذا يُنذرون ، فوضع الظاهر موضع المضمر ؛ إشارة إلى تصاممهم وسد أسماعهم إذا أنذروا ، وتسجيلاً عليهم بذلك. وفي التعبير بالدعاء ، دون الكلام في الإنذار ، إشارة إلى تناهي صممهم في حال الإنذار ، فإن الدعاء من شأنه أن يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئة دالة عليه ، فإذا لم يسمعوا ، مع هذه الحالة ، يكون صممهم في غايةٍ لا غاية ورائها.
(4/519)
{ولَئِنْ مسّتْهم نفحةٌ} أي : دفعة يسيرة {من عذاب ربك} أي : كائنة منه ، {ليقولنَّ يا ويلنا إِنا كنا ظالمين} ، وهذا بيان لسرعة تأثيرهم من مجيء نفس العذاب ، إثر بيان عدم تأثرهم من مجرد الإخبار به ، لانهماكهم في الغفلة ، أي : والله لئن أصابهم أدنى شيء من هذا العذاب الذي يُنذرون به ، لذلوا ، ودَعوا بالويل على أنفسهم ، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصامموا وأعرضوا. وقد بُولغ في الكلام ، حيث عبَّر بالمس والنفح ؛ لأن النفح يدل على القلة ، فأصل النفح : هبوب رائحة الشيء ، يُقال : نفحه بعطية ، إذا أعطاه شيئًا يسيرًا ، مع أن بناءها للمرة مؤكد لقلتها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 350
ثم بيَّن ما يقع عند إتيان ما أنذروه ، فقال : {ونضع الموازينَ القِسْطَ} أي : نقيم الموازين العادلة التي تُوزن بها الأعمال ، وهو جمع ميزان ، وهو ما يوزن به الشيء ليُعرف
351
كمِّيته. وعن الحسن : " هو ميزان له كفتان ولسان " ، وإنما جمع الموازين ؛ لتعظيم شأنها ، والوزن لصحائف الأعمال في قول ، وقيل : وضع الميزان كناية عن تحقيق العدل ، والجزاء على حسب الأعمال. وإفراد القسط ؛ لأنه مصدر وصف به ؛ للمبالغة ، كأنها في نفسها قسط ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوات القسط. وقوله : {ليوم القيامة} أي : لأهل يوم القيامة ، أي : لأجلهم ، أو في يوم القيامة ، {فلا تُظلم نفسٌ شيئًا} من الظلم ، ولا تنقص حقًا من حقوقها ، بل يُؤتى كل ذي حق حقه ، إن خيرًا فخيرٌ ، وإن شرًّا فشر.
{وإِن كان مثقالَ حبةٍ من خَرْدَلٍ} أي : وإن كان الشيء أو العمل مثقال حبة من خردل ، {أتينا بها} : أحضرناها وجازينا عليها ، وأنث ضمير المثقال ؛ لإضافته إلى حبة ، {وكفى بنا حاسبين} ، إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا ، أو عالمين حافظين ، لأن من حسب شيئًا علمه وحفظه ، قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(4/520)
الإشارة : كان صلى الله عليه وسلم يُنذر الناس ويذكّرهم بالوحي التنزيلي ، وبقي خلفاؤه يذكرون بالوحي الإلهامي ، موافقُا للتنزيلي ، ولا يسمع وعظهم ويحضر مجالسهم إلا من سبقت له سابقة العناية ، وأما من انتكبت عنه العناية تنكب مجالسهم ، وتصامم عن وعظهم وتذكيرهم ، ولا يسمع الصمُّ الدعاء إذا ما ينذرون ، ولا يندمون إلا حين تنزل بهم الأهوال ، ولا ينفع الندم وقد جف القلم ، وذلك حين تُوضع موازين الأعمال ، فتثقل أعمال المخلصين ، وتخف أعمال المخلَّطين ، ولا تُوضع الموازين إلا لأهل النفوس الموجودة ، وأما من غاب عن نفسه في شهود محبوبه ، لفنائه في شهوده ، وانطوائه في وجوده ، فلا ينصب له ميزان ؛ إذ لا يشهد لنفسه حسًا ولا فعلاً ولا تركًا ، وإنما الفعل كله للواحد القهار. ويكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه. آمين.
ثم شرع في تفصيل ما أجمل في قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيا إِلَيْهِمْ} ، [الأنبياء : 7] إلى قوله : {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ} [الأنبيَاء : 9].
جزء : 4 رقم الصفحة : 350
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقانَ وضياءً وذِكْرًا للمتقين} ، هذه الأوصاف كلها للتوراة ، فهي فرقان بين الحق والباطل ، وضياء يستضاء به ، ويتوصل به إلى سبيل النجاة ، وذِكْرًا ، أي : شرفًا ، أو وعظًا وتذكيرًا. وتوكيده بالقسم ؛ لإظهار كمال الاعتناء به ، أي : والله لقد آتيناهما وحيًا ساطعًا وكتابًا جامعًا بين كونه فارقًا بين الحق والباطل ، وضياء يُستضاء به في ظلمات الجهل والغواية ، وذكرًا ينتفع
352
(4/521)
به الناس ، أو شرفًا لمن عمل به ، وتخصيص المتقين بالذكر ؛ لأنهم المستضيئُون بأنواره ، المغتنمون لمغانم آثاره ، أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع والأحكام ، ودخلت الواو في الصفات ، كقوله تعالى {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً} [آل عِمرَان : 39] ، وتقول : مررت بزيد الكريم والعالم والصالح.
ثم وصف المتقين أو مدحهم بقوله : {الذين يخشَون ربهم} ، حال كونهم {بالغيب} أي : يخافون عذابه تعالى ، وهو غائب عنهم غيرُ مشاهَدٍ لهم ، ففيه تعريض بالكفرة ، حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يُشاهدوا ما أنذروه. أو يخافون الله في الخلاء كما يخافونه بين الناس ، أو يخافونه بمجرد الإيمان به غير مشاهدين له ، {وهُمْ من الساعة مشفقون} أي : خائفون معتنون بالتأهي لها. وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر ، بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق ؛ للإيذان بكونها أعظم المخلوقات ، وللتنصيص على الاتصاف بضد ما اتصف به الكفرة الغافلون عنها ، وإيثار الجملة الاسمية ؛ للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه لهم.
(4/522)
{وهذا} أي : القرآن الكريم ، أشير إليه بهذا ؛ إيذانًا بغاية وضوح أمره ، {ذِكْرٌ} يتذكر به من تذكر ، وصفه ببعض أوصاف التوراة ؛ لموافقته له في الإنزال ، ولما مرّ في صدر السورة من قوله : {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ} [الأنبيَاء : 2] الخ ، {مباركٌ} ؛ كثير الخير ، غزير النفع ، يتبرك به على الدوام. قال القشيري : وصْفُه بالبركة هو إخبارٌ عن ثباته ، من قولهم : بَرَكَ البعيرُ ، وبَرَكَ الطائرُ على الماءِ ، أي : داومَ. وهذا الكتاب دائم ، لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفِه ، وهو دال على كلامه القديم ، فلا انتهاء له ، كما لا ابتداء له ولا انتهاء لكلامه. هـ. {أنزلناه} على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو صفة ثانية للكتاب {أفأنتم له منكرون} ؛ استفهام توبيخي ، أي : جاحدون أنه منزل من عند الله ، والمعنى : أبَعْدَ أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة ، في الإنزال والإيحاء ، أنتم منكرون ؛ لكونه منزلاً من عندنا ؛ فإن ذلك ، بعد ملاحظة التوراة ، مما لا مساغ له أصلاً. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 352
الإشارة : كل ما وصف به التوراة وصف به كتابنا العزيز ، قال تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىا عَبْدِهِ} [الفرقان : 1]ٍ ، وقال : {وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النِّساء : 174] ، وقال هنا : {وهذا ذكر مبارك} ، فزاده البركة ؛ لعموم خيره ودوام نفعه ، وخصوصًا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب : قال القشيري : والخشية بالغيب : إطراقُ السريرة في أول الحضور ، باستشعار الوَجَلِ من جريان سوء الأدب ، والحذَرُ من أنْ يبدوَ من الغيبِ بَغَتَات التقدير ، مما يوجِبُ حجبة العبد. هـ.
353
جزء : 4 رقم الصفحة : 352
قلت : {إذ قال} : ظرف لآتينا ، أو لرُشْدَه.
(4/523)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولقد آتينا إِبراهيم رُشدَه} أي : الرشد اللائق به وبأمثاله من كُبراء الرسل ، وهو الاهتداء الكامل ، المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحي ، مع الاقتدار على إصلاح الأمة وإرشادها بسياسة النبوة والوحي الإلهي ، {من قبلُ} أي : من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة ، وتقديم ذكرهما ، لما بين التوراة والقرآن من الشبه التام. وقيل : من قبل إنزال القرآن ، أو من قبل استنبائه ، أو من قبل بلوغه ، {وكُنا به عَالمين} أي : بأنه أهل لما آتيناه ، أو عالمين برُشده ، وما خصصناه به من الهداية الخاصة. {إذ قال لأبيه وقومه} أي : آتيناه ذلك حين قال لأبيه ، أو اذكر وقت قوله لهم : {ما هذه التماثيلُ} أي : الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان ، وفيه تجاهل بهم ؛ تحقيرًا لها ، مع علمه بتعظيمهم لها ؛ توبيخًا لهم على إجلالها مع كونها خشبًا وأحجارًا لا تضر ولا تنفع ، {التي أنتم لها عاكفون} أي : لأجل عبادتها مقيمون ، فلما عجزوا عن الدليل {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} فقلدناهم ، فأبطله عليه السلام ، على طريقة التوكيد بالقسم ، فقال : {لقد كنتم أنتم وآباؤكم} الذين سنُّوا لكم هذه السُّنَّة الباطلة ، {في ضلال مبين} : ظاهر بيِّن ، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ، أي : والله لقد كنتم مستقرين في ضلال عظيم ظاهر ؛ لعدم استناده إلى دليل ، فالتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحَقِّية في الجملة ، لا فيما اتضح بطلانه ، سيما في أمر التوحيد.
{قالوا أجئتنا بالحق} أي : بالجد ، {أم أنت من اللاعبين} ، فتقول ما تقول على الملاعبة والمزاح. والمعنى : أجادٌ أنتَ ، أم لاعب فيما تقول ؟ قالوا ذلك ؛ استعظامًا منهم لإنكاره ، واستبعادًا لكون ما هم عليه ضلال ، وتعجيبًا من تضليله إياهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 354
(4/524)
ثم أضرب عنهم ؛ مخبرًا بأنه جاد فيما قال ، غير لاعب ، بإقامة البرهان على بطلان ما ادعوه فقال : {بل ربُّكم ربُّ السماواتِ والأرض الذي فطرهنَّ} ، لا التماثيل التي صورتم. وقيل : هو إضراب عما بنوا عليه مقالتهم ؛ من اعتقاد كونها أربابًا لهم ، كما يُفصح عنه قولهم : {نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشُّعَرَاء : 71] ، كأنه قال : ليس الأمر كذلك ، بل ربكم رب السماوات والأرض الذي خلقهن وأنشأهن ، فالضمير للسماوات والأرض ، وصفَه تعالى بإيجادهن ، إثر وصفه تعالى بربوبيته لهن ؛ تحقيقًا للحق ،
354
وتنبيهًا على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية ، أي : أنشأهن بما فيهن من المخلوقات ، التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه ، من غير مثالٍ يُحتَذِيه ، ولا قانون ينتحيه. وقيل : الضمير للتماثيل ، وهو أدخل في تضليلهم ، وأظهر في إلزام الحجة عليهم ؛ لِمَا فيه من التصريح المُغني عن التأمل في كون ما يعبدونه من المخلوقات ، والأول أقرب. ثم قال عليه السلام : {وأنا على ذلكم} الذي ذكرتُ : من كون ربكم رَبَّ السماوات والأرض ، دون ما عداه ، كائنًا ما كان ، {من الشاهدين} أي : العالمين به على سبيل الحقيقة ، المبرهنين عليه ، فإن الشاهد على الشيء : مَنْ تحققه وبرهن عليه ، كأنه قال : وأنا أعلم ذلك ، وأتحققه ، وأُبرهن عليه ، والله تعالى أعلم.
(4/525)
الإشارة : زخارف الدنيا وبهجتها ، من تشييد بناء ، وتزويق سقف وحيطان ، وإنشاء غروس وبساتين ، وجمع أموال ، وتربية جاه ، كلها تماثيل لا حقيقة لها ، فانية لا دوام لها. فمن عكف عليها ، وأولع بخدمتها وجمعها وتحصيلها ، كان عابدًا لها ، فينبغي لذي الرشد والعقل الوافر ، الذي تحرر منها ، أن يُنكر عليهم ، ويقول لهم : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، فإن قالوا : وجدنا أباءنا يفعلون هذا ، وعلماءنا مثلنا ، فليقل لهم : لقد كنتم وآباؤكم وعلماؤكم في ضلال مبين ، عما كان عليه الأنبياء والأولياء والسلف الصالح. فإن قالوا : أجادٌّ أنت أم لا ؟ فليقل : بل ربكم الذي ينبغي أن يُفرد بالمحبة والخدمة ، وهو رب السماوات والأرض ، لا ما أنتم عليه من محبة الدنيا وبهجتها ، وأنا على ذلكم من الشاهدين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 354
قلت : {مَن فَعَلَ} : استفهام ، وقيل : موصولة ، و {إنه} : خبرها ، أي : الذي فعل هذا معدود من الظلمة ، و {يذْكُرهم} : إما مفعول ثان لسمع ؛ لتعلقه بالذات ، على قول ، أو صفة لفتى. و {يُقال} : صفة أخرى لفتى. و {إبراهيم} : نائب فاعل يُقال.
355
(4/526)
يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكيًا عن خليله عليه السلام : {وتالله لأكيدنّ أصنامكم} أي : لأمكرنّ بها ، وأجتهد في كسرها ، وفيه إيذان بصعوبة الانتهاز ، وتوقفه على الحيل والسياسة ، وذلك الكيد {بعد أن تُولُّوا مُدبرين} ؛ بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم. قال مجاهد : إنما قاله سرًا ، ولم يسمعه إلا رجلٌ فأفشاه عليه ، وقال : سمعت فتى يذكرهم. وقال السدي : كان لهم في كل سنة مجمعٌ وعيد ، فإذا رجعوا من عيدهم دخلوا على أصنامهم فسجدوا لها ، وقال أبو إبراهيم : يا إبراهيم ، لو خرجتَ معنا إلى عيدنا لأعجبك ، فخرج إلى بعض الطريق ، وقال : إني سقيم ، أَشتكي رجلي. فلما مضوا نادى في آخرهم - وقد بقي ضعفاء الناس - : {تالله لأكيدنَّ أصنامكم بعد أن تُولُّوا مدبرين} فسمعوه ، ثم دخل بيت الأصنام ، فوجد طعاماً كانوا يضعونه عندها للبركة ، فإذا رجعوا أكلوه ، فقال : {ألا تأكلون} ؟ استهزاءً بها ، فلم يجبه أحد ، فقال : ما لكم لا تنطقون {فَرَاغَ} ؛ مال {عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصَّافات : 93].
{فجعلهم جُذاذًا} أي : قطعًا ، جمع جذيذ. وفيه لغتان : الكسر ، كخفيف وخِفاف ، والضم ؛ كحطيم وحُطام. رُوي أنها كانت سبعين صنمًا مصطفة. وثَمَّ صنم عظيم مستقبل الباب ، وكان من ذهب ، وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسر الكل بفأس كان بيده ، ولم يُبق إلا الكبير ، علّق الفأس في عنقه ، وذلك قوله تعالى : {إِلا كبيرًا لهم} أي : للأصنام {لعلهم إِليه} أي : إلى إبراهيم عليه السلام {يرجعون} ؛ فيحاجهم بما سيأتي فيغلبهم ، أو إلى دينه ؛ إذا قامت الحجة عليهم. وقيل : إلى الكبير يسألونه عن الكاسر ؛ لأن من شأن الكبير أن يرجع إليه في الملمات. وقيل : إلى الله تعالى وتوحيده ، عند تحققهم بعجز آلهتهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 355
(4/527)
فلما رجعوا من عيدهم ، ورأوا ما صُنِع بآلهتهم ، {قالوا مَن فعلَ هذا بآلهتنا} ، على طريق الإنكار والتوبيخ ، {إِنه لَمِنَ الظالمين} أي : لشديد الظلم ؛ لجرأته على الآلهة ، التي هي عندهم في غاية التوقير والتعظيم. أو لَمِنَ الظالمين حيث عَرَّض نفسه للهلكة ، {قالوا} أي : بعضٌ منهم ، وهو من سمع مقالته : {سمعنا فتىً يذكرهم} أي : يعيبهم ، فلعله فعل ذلك بها ، {يُقال له إِبراهيم} أي : يقال له هذا الاسم. {قالوا} أي : السائلون : {فأْتُوا به على أعين الناس} أي : بمرأى منهم ، بحيث يكون نصبَ أعينهم ، لا يكاد يخفى على أحد ، {لعلهم يشهدون} عليه بما سُمع منه ، أو بما فعله ، كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة ، أو يَحضرون عقوبتنا له. فلما أحضروه {قالوا أأنت فعلتَ هذا بآلهتنا يا إِبراهيم} ؟ واختصر إحضاره ؛ للتنبيه على أن إتيانهم به ، ومسارعتهم إلى ذلك ، أمر محقق غني عن البيان {قال} إبراهيم عليه السلام : {بل فعله كبيرُهُم هذا} ، غار أن يُعبدوا معه ، مشيرًا إلى الذي لم يكسره. وعن الكسائي : أنه يقف على {بل فعله} أي : فعله من فعله ، ثم ابتدأ :
356
كبيرهم هذا يُخبركم فسلوه... الخ ، والأكثر : أنه لا وقف ، والفاعل : كبيرهم. و " هذا " : بدل ، أو وصف ، ونسبَ الفعل إلى كبيرهم ، وقصده تقريره لنفسه وإسناده لها ، على أسلوب تعريضي ؛ تبكيتًا لهم ، وإلزامًا للحجة عليهم ، لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح عَلِموا عجز كبيرهم ، وأنه لا يصلح للألوهية ، وهذا كما لو كتبت كتابًا بخط أنيق ، وأنت شهير بحسن الخط ، ومعك صاحب أُميّ ، فقال لك قائل : أأنت كتبت هذا ؟ فتقول : بل كتبه هذا ، وهو يعلم أنه أُميّ لا يُحسن الكتابة ، فهو تقرير لإثبات الكتابة لك على أبلغ وجه.
(4/528)
قال الكواشي : ومن الجائز أن يكون أَذِنَ الله تعالى له في ذلك كما أَذِنَ ليوسف حين نادى على إخوته : {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يُوسُف : 70] ، ولم يكونوا سارقين ؛ لِمَا في ذلك من المصلحة ؛ لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح ، وسألوا عَلِمُوا أن كبيرهم لم يفعل شيئًا ، وأنه عاجز عن النطق ، فضلاً عن الفعل ، فلا يجوز أن يُعبد ، ولا يستحق العبادة إلا القادر الفعال. هـ.
وقيل : اسند الفعل إلى كبيرهم ؛ لأنه الحامل له على كسرها ، حيث رآه يُعظَّم أكثر منها ، ويُعبد من دون الله ، فاشتد غضبه حتى كسرها ، وهو بعيد ؛ إذ لو كان كذلك لكسره أولاً ، فتحصل أنه عليه السلام إنما قصد التعريض بعبادتهم ، لا الإخبار المحض ، حتى يكون كذبًا. فإن قلت : قد ورد في الحديث أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات ؟ فالجواب : أن معنى ذلك : أنه قال قولاً ظاهره الكذب ، وإن كان القصد به معنى آخر. قاله ابن جزي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 355
ثم قال لهم : {فاسْألوهم} عن حالهم ، {إِن كانوا ينطقون} فتجيبكم بمن كسرهم ، وأنتم تعلمون عجزهم عنه ، {فَرَجعوا إِلى أنفسهم} أي : رجعوا إلى عقولهم ، وتفكروا بقلوبهم ، وتذكروا أنَّ ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإخبار بمن كسره ، فكيف يستحق أن يكون معبودًا ؟ {فقالوا} أي : قال بعضهم لبعض : {إِنكم أنتم الظالمون} على الحقيقة ، حيث عبدتم من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع ؛ لأنَّ من لا يدفع عن رأسه الفأس ، فكيف يدفع عن عابده البأس! فأنتم الظالمون بعبادتها ؛ لا من ظلمتموه بقولكم : {إنه لمن الظالمين}. أو : أنتم الظالمون لا من كسرها ، {ثم نُكِسُوا على رؤوسهم} ، وردّوا إلى أسفل سافلين ، أُجري الحقُّ على لسانهم في القول الأول ، ثم أدركتهم الشقاوة ، أي : انقلبوا إلى المجادلة ، بعدما استقاموا بالمراجعة ، شَبَّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه ، قائلين : {لقد علمتَ} يا إبراهيم {ما هؤلاء ينطقون} ، فكيف تأمرنا بسؤالها ؟
(4/529)
357
{قال} ؛ مبكتًا لهم وتوبيخًا : {أفتعبدون من دون الله} أي : متجاوزين عبادته تعالى إلى {ما لا ينفعكم شيئًا} من النفع ، {ولا يضُركُم} إن لم تعبدوه ، فإنَّ العلم بالحالة المنافية للألوهية مما يُوجب اجتناب عبادته ، {أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله} ، أُفّ : اسم صوت تدل على التضجر ، تَضجر عليه السلام من إصرارهم على الباطل ، بعد انقطاع عذرهم ووضوح الحق ، فأفَّف بهم وبأصنامهم ، أي : لكم ولأصنامكم هذا التأفف ، {أفلا تعقلون} أن من هذا وصفه لا يستحق أن يكون إلهًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من أراد أن يكون إبراهيميًا حنيفيًا فليكسر أصنام نفسه ، وهي ما كانت تهواه وتميل إليه من الحظوظ النفسانية والشهوات الجسمانية ، حتى تنقلب حقوقًا ربانية ، فحينئذ يريه الحق ملكوتَ السماواتِ والأرض ، ويكون من الموقنين. ، وأمُّ الشهوات : حب الدنيا ، ورأسها : حب الرئاسة والجاه ، وأكبر الأصنام : وجودك الحسي ، فلا حجاب أعظم منه ، ولذلك قيل :
وُجودُكَ ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ
فإن غبتَ عنه ، وكسرته ، غابت عنك جميعُ العوالم الحسية ، وشهدت أسرار المعاني القدسية ، فشهدت أسرار الذات وأنوار الصفات ، وإلى هذا المعنى أشار ابن العريف رضي الله عنه بقوله :
بَدَا لَكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتتَامُهُ
وَلاَحَ صَبَاحُ كُنْتَ أنْتَ ظَلاَمُهُ
فَأنْتَ حِجَابُ القَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيبهِ
وَلَوْلاَكَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ
جزء : 4 رقم الصفحة : 355
فَإنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ وَطَنَّبَتْ
عَلَى مَوْكبِ الكَشْفِ المصُونِ خِيَامُهُ
وَجَاء حَدِيثٌ لا يُمَلُّ سَمَاعُهُ
شَهِيٌّ إليْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
إذَا سَمِعَتْهُ النَّفْسُ طَابَ نَعِيمُهَا
وَزَالَ عَنِ القَلْبِ المُعَنَّى غَرامُهُ
(4/530)
فالغيبة عن وجود العبد فناء ، والرجوع إليه لوظائف العبودية بقاء ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {إلا كبيرًا لهم لعلهم إليه يَرجعون} أي : إلا كبير الأصنام ، وهو وجودك الوهمي ، فلا ينبغي الغيبة عنه بالكلية حتى يترك وظائف العبودية والقيام بحقوق البشرية ، فإنَّ هذا اصطلام ، بل ينبغي ملاحظته ، لعله يقع الرجوع إليه في مقام البقاء ، والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 355
358
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قالوا حرِّقوه} أي : قال بعضهم لبعض ، لَمَّا عجزوا عن المحاججة ، وضاقت عليهم الحيل ، وعييت بهم العلل ، وهذا دَيْدنُ المبطل المحجوج ، إذا قُرعَت شبهه بالحجة القاطعة وافتضح ، لم يبق له حينئذ إلا المناصبة والمعاداة ، فناصبوا إبراهيم عليه السلام ، وقالوا حرِّقوه بالنار ؛ لأنه أشد العقوبات ، {وانصُروا آلهتكم} بالانتقام لها {إن كنتم فاعلين} للنصر ، أي : إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرًا مؤزرًا ، فاختاروا له أهول المعاقبات ، وهو الإحراق ، وإلاَّ فقد فرطتم في نصرتها ، والذي أشار بالإحراق نمرود ، أو رجل من أكراد فارس ، اسمه " هيزن " ، وقيل : " هدير " ، خسفت به الأرض ، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة.
(4/531)
رُوِيَ أنهم ، لما أجمعوا على حرقه عليه السلام ، بنوا له حظيرة بكُوثَى - قرية من قرى الأنباط بالعراق - فجمعوا صلاب الحطب من أصناف الخشب ، مدة أربعين يومًا ، وقيل : شهرًا ، حتى إن المرأة تنذر : لَئِنْ أصابت حاجتها لتَحِطَبنَّ في نار إبراهيم. ثم أوقدوا نارًا عظيمة ، لا يكاد يحومُ حولها أحد ، حتى إن كانت الطير لتمرُ بها ، وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها ، ولم يقدر أحد أن يقربها ، فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها ، فأتى إبليس وعلمهم علمَ المنجنيق ، فعملوه. وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد ، فخسف الله تعالى به في الأرض مثل الآخر ، ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام ، فوضعوه فيه مغلولاً مقيدًا مجردًا ، فصاحت السماءُ والأرضُ ومن فيها من الملائكة : يا ربنا ، إبراهيم ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيرُه ، يُحرق فيك ، فَأذَنْ لنا في نصرته ، فقال لهم : إن استغاث بواحد منكم فأغيثوه ، فرموا به فيها من مكان شاسع ، فقال له جبريل عليه السلام ، وهو في الهواء : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا. قال : فسل ربك. فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فرفع همته عن الخلق ، واكتفى بالواحد الحق ، فجعل الله الخطيرةَ روضة. وهذا معنى قوله : {قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إِبراهيم} أي : كوني ذات برد وسلام ، أي : ابردي بردًا غير ضار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 358
(4/532)
قال ابن عباس : لو لم يقل {وسلامًا} لمات إبراهيم من بردها ، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ، ظنت أن الخطاب توجه لها ، فما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار ، ولم تبق دابة إلا أتت تطفئ عنه النار ، إلا الوزغ. فلذلك أمر نبيُنا صلى الله عليه وسلم. بقتلها ، وسماها فويسقا. قال السدي : فأخذت الملائكة بضَبْعَي إبراهيم وأقعدوه على الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس. قال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه. ورُوي أنه عليه السلام مكث فيها سبعة أيام ، وقيل : أربعين ، وقيل : خمسين ، والأول أقرب.
359
قال إبراهيم عليه السلام : ما كنتُ أيامًا قط أنعم مني من الأيام التي كنتُ فيها. قال ابن بسار : وبعث الله تعالى ملك الظل فقعد إلى جنبه يُؤنسه ، قالوا : وبعث الله بقميص من حرير الجنة. قلت : وقد تقدم ذكره في سورة يوسف. وأتاه جبريل فقال : إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. فنظر نمرود من صرحه ، فأشرف عليه ، فرآه جالسًا في روضة مونقة ، ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة ، والنار محيطة به ، فنادى : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم ، قال : فاخرج ، فقام يمشي فخرج منها ، فاستقبله نمرود وعظَّمه. وقال : من الرجل الذي رأيتُه معك ؟ قال ذلك ملك الظل ، أرسله ربي ليؤنسني ، فقال : إني مُقرب إلى إلهك قربَانًا لِمَا رأيته من قدرته وعزته فيما صنع بك. فقال عليه السلام : لا يقبل الله منك ما دُمتَ على دينك هذا ، حتى تفارقه إلى ديني ، قال : لا استطيع ترك ملكي ، ولكن سأذبح له أربعة آلاف بقرة ، فذبحها ، وكف عن إبراهيم عليه السلام.
(4/533)
قال شعيب الجبائي : أُلقِي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة ، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين ، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة ، ولَمَّا علت ما أراد من ذبحه بقيت يومين وماتت في الثالث. هـ. وهذا كما ترى من أكبر المعجزات ، فإنَّ انقلاب النار هواء طيبًا ، وإن لم يكن بدعًا من قدرة الله ، لكنه من أكبر الخوارق ، واختلف في كيفية برودتها ؛ فقيل : إن الله تعالى أزال ما فيها من الحر والإحراق ، وقيل : دفع الله عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع تَرْكِ ذلك فيها ، والله على كل شيء قدير.
قال تعالى : {وأرادوا به كيدًا} ؛ مكرًا عظيمًا في الإضرار ، {فجعلناهم الأخسرين} أي : أخسر من كل خاسر ، حيث جاء سعيهم في إطفاء نور الحق برهانًا قاطعًا على أنه عليه السلام على الحق ، وهم على الباطل ، وموجبًا لارتفاع درجته واستحقاقهم للهلاك ، فأرسل الله على نمرود وقومه البعوض ، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ، ودخلت بعوضة في دماغ نمرود فأهلكته بعد المحنة الشديدة ، وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 358
الإشارة : أجرى الله تعالى عادته في المتوجه الصادق ، إذا أراد الوصول إلى حضرته ، أن يبْتَليه قبل أن يُمكنه ، ويمتحنه قبل أن يُصافيه ؛ لأنَّ محبته تعالى مقرونة بالبلاء ، والداخل على الله منكور ، والراجع إلى الناس مبرور. فإذا رُمِيَ الولي في منجنيق الابتلاء ، وألقي في نار الجلال ، وتعرضت له الأكوان : ألك حاجة ؟ فيقول - إن كان مؤيَدًا - : أمَّا إليك فلا ، وأما إلى الله فبلى ، فإذا قيل له : سله ، فيقول : علمه
360
(4/534)
بحالي يغني عن سؤالي. فلا جرم أن الله تعالى يقول لنار الجلال : كوني بردًا وسلامًا على وليي ، فينقلب حرها بردًا وسلامًا ، فلا يرى أيامًا أحلى من تلك الأيام التي ابتُلي فيها. وهذا أمر مجرب مَذُوق ، وأما إن التفت إلى التعلق بغير الله تعالى ، فإنَّ البلاء يُشدد عليه ، أو يخرج من دائرة الولاية ، والعياذ بالله. فالولي هو الذي يقلب الأعيان بهمته ، وبالنور الذي في قلبه ، حسية كانت أو معنوية ، فيقلب الخوف أمنًا ، والحزن سرورًا ، والقبض بسطًا ، والفاقة غنًى ، وهكذا... فحينئذ تنفعل له الأشياء وتطيعه ، وتخرق له العوائد ، حتى لو ألقي في النار الحسية لبردت. قال الورتجبي : كان الخليل منُورًا بنور الله ، وكان فعل النار من فعل الله ، فغلب نور الصفة على نور الفعل ، ولو بقيت النار حتى وصل إليها الخليل لصارت مضمحلة ، فعلم الحق ذلك ، فقال لها : {كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} حتى تبقى لظهور معجزته وبيان كرامته. هـ. ومصداق ما ذكره : قول النار يوم القيامة للمؤمن : جُز فقد أطفأ نورك لهبي ، كما ورد. والله أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 358
قلت : {إلى الأرض} : يتعلق بحال محذوفة ، ينساق إليها الكلام ، أي : ذاهبًا بهما إلى الأرض.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ونجيناه} أي : إبراهيم {ولوطًا} ابن أخيه هاران ، ذاهبًا بهما من العراق {إِلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} ، وهي أرض الشام. وبركاته العامة : أنَّ أكثر الأنبياء بُعثوا فيها ، فانتشرت في العالمين شرائعهم ، التي هي مبادئ الخيرات الدينية والدنيوية ، وهي أرض المحشر ، فيها يجمع الناس ، وفيها ينزل عيسى عليه السلام ، وقال أُبي بن كعب : ما من ماء عذب إلاَّ وأصله من تحت صخرة بيت المقدس ، وهي أرض خِصب ، يعيش فيها الفقير والغني.
(4/535)
قال ابن إسحاق : خرج إبراهيم من كُوثى من أرض العراق ، وخرج معه لوط وسارة ، فنزل حَرّان ، ثم خرج منها إلى مصر ، ثم خرج منها إلى الشام ، فنزل السَّبُعَ من أرض فلسطين بزوجه سارة ، بنت عمه هاران الأكبر ، ونزل لوط عليه السلام بالمؤتفكة ، وبينهما مسيرة يوم وليلة ، وكلاهما من الشام.
361
{ووهبنا له إسحاق ويعقوبَ نافلةً} أي : وهبنا له إسحاق ولدًا من صلبه ، وزاد يعقوب ، ولد ولده ، نافلة ؛ لأنه سأل ولدًا بقوله : {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينِ} [الصَّافات : 100] فأُعطيه ، وأُعطى يعقوب نافلة ، زائدًا على ما سأل ؛ لأنه أعطى من غير سؤال ، فكأنه تبرعًا. قال ابن جزي : واختار بعضهم - على هذا - الوقف على " إسحاق " لبيان المعنى ، وهذا ضعيف ؛ لأنه معطوفٌ على كل قول. هـ. وقيل : {نافلة} يرجع لهما معًا ، أي : أعطيناه ولدًا وولد ولد ، عطيةً ، فيكون حالاً منهما معًا ، قيل : هو مصدر ، كالعاقبة من غير لفظ الفعل ، الذي هو {وهبنا} وقيل : اسم ، {وكُلاًّ} أي : كل واحد من هؤلاء الأربعة ، {جعلنا صالحين} ؛ بأن وفقناهم لصلاح الظاهر والباطن ، حتى استحقوا الخصوصية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الهجرة سُنَّة من سُنن الأنبياء والأولياء ، فكل من لم يجد في بلده من يعينُه على دينه ، يجب عليه الانتقال إلى بلدٍ يجد فيها ذلك. وكذلك المريد إذا لم يجد قلبه في محل ؛ لكثرة عوائده وشواغله بحيث يشوش عليه قلبه فلينتقل إلى بلد تقل فيها العلائق والشواغل ، إن وجد فيها من يحرك معهم فنَّه ، كان بادية أو حاضرة. والغالب أن الحاضرة تكثر فيها العوائد والحظوظ والشهوات ، فلا يدخلها المريد حتى يتقوى ويملك نفسه ، يأخذ النصيب من كل شيء ، ولا ينقص من نصيبه شيء ، وقد تقدم هذا مرارًا. وبالله التوفيق.
362
جزء : 4 رقم الصفحة : 361
(4/536)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وجعلناهم} أي : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، {أئمةً} يُقتدى بهم في أمور الدين ؛ إجابة لدعوته بقوله : {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البَقَرَة : 124] أي : فاجعل أئمة ، {يَهدُون} الخلق إلى الحق ، {بأمرِنَا} لهم بذلك ، وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين ، أو يهدون الخلق بإرادتنا ومشيئتنا. {وأوحينا إِليهم فعلَ الخيرات} وهي جميع الأعمال الصالحة ، أي : أمرناهم أن يفعلوا جميع الخيرات ، ليتم كمالهم بانضمام العمل الصالح إلى العلم ، وأصله : أن يفعلوا الخيرات ، ثم فعلَ الخيرات ، {وإِقامَ الصلاةِ وإِيتاءَ الزكاة} ، وهو من عطف الخاص على العام ؛ دلالة على فضله وشرفه ، وأصله : وإقامة الصلاة ، فحذفت التاء المعوضة من إحدى الألفين ؛ لقيام المضاف إليه مقامها. {وكانوا لنا عابدين} : قانتين مُطيعين ، لا يخطر ببالهم غير عبادتنا ومشاهدتنا. وأنتم يا معشر العرب والعجم من ذريتهم ، فاتبعوهم في ذلك. وبالله التوفيق.
الإشارة : إنما يعظم جاه العبد عند الله بثلاثة أمور : انحياشه بقلبه إلى الله ، ومسارعته إلى ما فيه رضا الله ، وإرشاد العباد إلى الله ، بدعائهم إلى الله بالحال والمقال ، فبقدر ما يقع من هداية الخلق على يديه يعلو مقامه عند الله ، إن حصلت المعرفة بالله ، وبهذا تعرف شرف مرتبة مشيخة الصوفية ، الدالين على الله ، الداعين إلى حضرة الله ، إن تكلموا وقع كلامهم في قلوب الخلق ، فيرجعون إلى الله من ساعتهم ، مجالسهم كلها وعظ وتذكير ، حالهم يُنهض إلى الله ، ومقالهم يدل على الله ، ففي ساعة واحدة يتوب على يديهم من الخلق ما لا يتوب على يد العالم في سنين ؛ وذلك لإنهاض الحال والمقال ، فلا جَرَمَ أنهم أعز الخلق إلى الله ، وأعظمهم قدرًا عند الله.
(4/537)
قال السهروردي في العوارف : ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم ، إن أحب عباد الله إلى الله يُحَبِّبُونَ الله إلى عباده ، ويُحبِّبُون عباد الله إلى الله ، ويمشون في الأرض بالنصيحة " وهذا الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رتبة المشيخة والدعوة ؛ فإن الشيخ يُحبب الله إلى عباده حقيقة ، ويحبب عباد الله إلى الله.
فأما كونه يُحبب عباد الله إلى الله ؛ لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه. ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله ، قال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عِمرَان : 31] ، ووجه كونه يُحبب الله إلى عباده ؛ لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية ، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب ، ودخل فيها نور العظمة الإلهية ، ولاح فيها جمال التوحيد ، وذلك ميراث التزكية ، قال الله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشّمس : 9] ، وفلاحها : الظفر بمعرفة الله ، فإذا عرفه ، قطعًا ، أحبه وفنى فيه. فرتبة المشيخة من أعلى الرتب ؛ لأنها خلافة النبوة في الدعوة إلى الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 363
(4/538)
ثم قال : فعلى المشايخ وقار لله ، وبهم يتأدب المريد ظاهرًا وباطنًا ، قال الله تعالى : {أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعَام : 90] ، فالمشايخ ، لَمَّا اهتَدْوا ، أُهِّلُوا للاقتداء بهم ، وجُعِلوا أئمة للمتقين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حاكيًا عن الله عزّ وجلّ : " إذا كان الغالبُ على عبدي الاشتغال بي ، جعلت همته ولذَّتهُ في ذكري ، فإذا جعلت همته ولذته في ذكري ، أحبني وأحببته ، ورفعتُ الحجابُ فيما بيني وبينه ، لا يسهو إذا سَهَا الناسُ ، أولئك كلامُهُم كلام الأنبياءِ ، أولئك الأبطالُ حقًا ، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرضِ عقوبةً أو عذابًا ، ذكرتُهم فصرفتُه بهم عنهم " انتهى كلامه رضي الله عنه.
363
ومن كلام ذي النون المصري - لمّا تكلم على الأبدال - قال : فهمُهم إليه ثائرة ، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة ، قد أقامهم على باب النظر من رؤيته ، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته ، ثم قال لهم : إن أتاكم عليل من فقدي فداووه ، أو مريض من فراقي فعالجوه ، أو خائف مني فانصروه ، أو آمن مني فحذّروه ، أو راغب في مواصلتي فمنوه ، أو راحل نحوي فزودوه ، أو جبان في متاجرتي فشجعوه ، أو آيس من فضلي فرجُّوه ، أو راجٍ لإحساني فبشروه ، أو حسن الظن بي فباسطوه ، أو مُعظَّم لقدري فعظموه ، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه ، أو مسترشد فأرشدوه. هـ. وهذه صفة مشايخ التربية على ما شهدناهم ، وما شهدنا إلا بما علمنا. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 363
قلت : {ولوطًا} : إما مفعول بمحذوف يُفسره قوله : {آتيناه} أي : وآتينا لوطًا ، أو : باذكر. و {نوحًا} : مفعول باذكر.
(4/539)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولوطًا آتيناه حُكمًا} أي : حكمة ، أو نبوة ، أو فصْلاً بين الخصوم بالحق ، {وعلمًا} بِنَا وبما ينبغي علمه للأنبياء - عليهم السلام - من علم السياسة ، {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائثَ} ؛ اللواطة ، وقذف المارة بالحصى ، وغيرها ، وصفت بصفة أهلها ، وأسندت إليها على حذف مضاف ، أي : من أهل القرية ، بدليل قوله : {إِنهم كانوا قوم سَوْءٍ فاسقين} : خارجين عن طاعة الله ورسوله. {وأدخلناه في رحمتنا} أي : في أهل رحمتنا ، أو جنتنا ، {إنه من الصالحين} الذين صلحت ظواهرهم وبواطنهم ، فنجيناه ؛ جزاء على صلاحه ، كما أهلكنا قريته ؛ عقابًا على فسادهم.
{و} اذكر {نوحًا} ، وقدّم هؤلاء عليه ؛ لتعلقهم بإبراهيم ، أي : خبره ، {إِذْ نادى} أي : دعا الله تعالى على قومه بالهلاك ، أي : اذكر نبأه الواقع وقت دعائه ، {من قبلُ} هؤلاء المذكورين ، {فاستجبنا له} دعاءه الذي من جملته قوله : {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القَمَر : 10] ، {فنجيناه وأهله} المؤمنين به ، من ولده وقومه ، {من الكرب العظيم} ، وهو الطوفان وتكذيب أهل الطغيان. وأصل الكرب : الغم الشديد ، {ونصرناه} نصرًا مستتبعًا للانتقام ، {من القوم الذين كذبوا بآياتنا} أي : منعناه من
364
إذايتهم ، {إِنهم كانوا قومَ سَوْءٍ} ، تعليل لما قبله ، {فأغرقناهم أجمعين} ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ؛ لأن الإصرار على تكذيب الحق ، والانهماك في الشر والفساد ، مما يُوجب الإهلاك العام. والله تعالى أعلم.
(4/540)
الإشارة : نبي الله لوط عليه السلام لمَّا هاجر من أرض الظلمة إلى الأرض المقدسة ، أعطاه الله العلم والحكمة. فكل من هاجر من الغفلة إلى محل الذكر واليقظة ، وهجر ما نهى الله عنه عوَّضه الله علمًا بلا تعلم ، وأجرى على لسانه ينابيع الحكمة. قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه : إذا اعتقدت النفس على ترك الآثام ، جالت في الملكوت ، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة ، من غير أن يُؤدِّيَ إليها عالمٌ علمًا. ومصداقه الحديث : " من عمل بما يعلم ، ورثه الله عَلْمَ ما لم يعلم " ولمَّا أجهد نفسه في تغيير المنكر نجّاه الله من أذاهم وما لحق بهم ، وكذلك نبيه نوح عليه السلام ؛ لما دعا قومه إلى الله ، وأجهد نفسه في نصحهم ، نجاه الله من شرهم وجعل النسل من ذريته ، فكان آدم الأصغر. وهذه عادة الله تعالى في خواصه ، يُكثر فروعهم ، ويجعل البركة في تركتهم. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 364
قلت : {وداود} : عطف على {نوحًا} ، أو معمول لاذكر ، و {إذ يحكمان} : ظرف للمضاف المقدر ، أي : اذكر خبرهما ، و {إذ نفشت} : ظرف للحكم. {ففهمناها} : عطف على {يحكمان} ؛ فإنه في حكم الماضي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر خبر {داودَ وسليمانَ إِذْ يحكمان} أي : وقت حكمهما {في الحرث} أي : في الزرع ، أو في الكرم المتدلي عناقيده ، والحرث يطلق عليهما ، {إِذ نَفَشَتْ} : دخلت {فيه غنمُ القوم} فأفسدته ليلاً ، فالنفش : الرعي بالليل ، والهمَلُ بالنهار ، وهما الرعي بلا راع. {وكنا لحُكمِهم} أي : لهما وللمتحاكمين إليهما ، أو على أنَّ أقل الجمع اثنان ، {شاهدين} ، كان ذلك بعلمنا ومرأى منا ، لم يغب عنا
365
شيء منه ، {ففهمناها} أي : الحكومة ، أو الفتوى ، {سليمانَ} ، وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان.
(4/541)
وقصتهما على ما قال ابن عباس وغيره : أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما : صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الزرع : إنَّ هذا نفشت غنمه ليلاً ، فوقعت في حرثي ، فلم تُبق منه شيئًا ، فقال له داود : اذهب فإن الغنم لك ، ولعله استوت قيمتاهما - أي : قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث - فخرج الرجلان على سليمان ، وهو بالباب ، وكان ابن إحدى عشرة سنة ، فأخبراه بما حكم به أبوه ، فدخل عليه ، فقال : يا نبي الله ؛ لو حكمت بغير هذا لكان أرفق بالفريقين ، قال : وما هو ؟ قال : يأخذ صاحبُ الغنم الأرضَ ليُصلحها ، حتى يعود زرعها كما كان ، ويأخذ صاحب الزرع الغنمَ ينتفع بألبانها وصوفها ونسلها ، فإذا كمل الزرع ، رُدت الغنم إلى صاحبها ، والأرض بزرعها إلى ربها ، فقال داود : وُفقت يا بُني ، وقضى بينهم بذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 365
والذي يظهر : أن حكمهما - عليهما السلام - كان باجتهاد ، ففيه دليل على أن الأنبياء يجتهدون فيما لم ينزل فيه وحي ، فإنَّ قول سليمان عليه السلام : " هذا أرفق " ، وقوله : " أرى أن تدفع... " الخ ، صريح في أنه ليس بطريق الوحي ، وإلا لبت القول بذلك ، ولعله وجه حكم داود عليه السلام قياس ذلك على جناية العبد ، فإنَّ العبد فيما جنى. وإذا قلنا : كان بوحي ، يكون حكم سليمان ناسخًا لحكم داود عليه السلام.
(4/542)
وأما حُكْم إفساد المواشي للزرع في شرعنا : فقال مالك والشافعي : يضمن أربابُ المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار ؛ للحديث الوارد في ذلك ، على تفصيل في مذهب مالك فيما أفسدت بالنهار. وقال أبو حنيفة : لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " العَجْماءُ جُرْحُها جُبَار " ، ما لم يكن معها سائق أو قائد ، فيضمن عنده. قال تعالى : {وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا} أي : كل واحد منهما آتيناه حكمًا ، أي : نبوة ، وعلمًا : معرفة بمواجب الحكم ، لا سليمان وحده. وفيه دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح في علمه ولا يرفع عنه صفة الاجتهاد.
ثم بيَّن ما اختص به كل واحد منهما من المعجزات ، فقال : {وسخَّرنا} أي : ذللنا {مع داود الجبالَ} ، حال كونها {يُسَبِّحْنَ} أي : مسبحات ؛ ينزهْنَ الله تعالى بلسان المقال ، كما سبّح الحصا في كف نبينا عليه الصلاة والسلام. {و} سخرنا له {الطير} ؛ كانت تسبح معه. وقدَّم الجبال على الطير ؛ لأن تسخيرها وتسبيحها أغرب وأدخل
366
في الإعجاز ؛ لأنها جماد. قال الكواشي : كان داود إذا سبّح سبّح معه الجبالُ والطير ، وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر ، وكان إذا فتَر من التسبيح ، يُسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير ؛ لينشط في التسبيح ويشتاق إليه. ورُوي أنه كان إذا سار سارت الجبال معه مسبحة ، قال قتادة : " يُسبحن " ، أي : يصلين معه إذا صلى ، وهذا غير ممتنع في قدرة الله تعالى. وفي الأثر : " كان داود يمرُّ ، وصِفَاح الروحاءُ تجاوبه ، والطير تساعده ". {وكنا فاعلين} بالأنبياء أمثال هذا وأكثر ، فليس ذلك ببدع منا ولا صعب على قدرتنا.
(4/543)
{وعلّمناه صنعةَ لَبُوسٍ} أي : صنعة الدروع. واللبوس لغة في اللباس ، والمراد : الدرع ، {لكم} أي : نافع لكم ، {ليُحْصِنَكُم} أي : اللبوس ، أو داود. وقرئ بالتأنيث ، أي : الصنعة ، أو اللبوس بتأويل الدرع. وقرئ بنون العظمة ، أي : الله تعالى ، وهو بدل اشتمال من " لكم ". وقوله : {من بأسكم} أي : من حرب عدوكم ، أو من وقع السلاح فيكم ، {فهل أنتم شاكرون} الله على ذلك ؟ وهو استفهام بمعنى الأمر ؛ للمبالغة والتقريع.
جزء : 4 رقم الصفحة : 365
ثم ذكر ما اختص به سليمان عليه السلام فقال : {ولسليمان الريحَ} أي : وسخرنا له الريح. وإيراد اللام هنا ، دون الأولى ؛ للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت ، فإن تسخير ما سخر لسليمان عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي والامتثال لأمره ونهيه ، بخلاف تسخير الجبال ، لم يكن بهذه المثابة ، بل بطريق التبعية والاقتداء. حال كون الريح {عاصفةً} شديدة الهبوب ، من حيث إنها كانت تقطع مسافة بعيدة في مدة يسيرة ، وكانت رُخاء في نفسها ، طيبة ، وقيل : كانت رُخاء تارة ، وعاصفة أخرى ، على حسب ما أراد منها. أو رُخاء في ذهابه وعاصفة في رجوعه ؛ لأن عادة المسافرين : الإسراع في الرجوع ، أو عاصفة إذا رفعت البساط ورخاء إذا جرت به.
(4/544)
{تجري بأمره} ؛ بمشيئة سليمان ، {إِلى الأرض التي باركنا فيها} بكثرة الأنهار والأشجار والثمار ، وهي الشام. وكان منزله بها ، وتحمله إلى نواحيها. قال وهب : كان سليمان إذا خرج من منزله عكفت عليه الطير ، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره ، وكان غزّاءً ؛ لا يقصر عن الغزو ، فإذا أراد غزوًا أمر فضرب له بخشب ، ثم يُنصب له على الخشب ، ثم حَمَلَ عليه الناس والدواب وآلة الحرب ، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف فدخلت تحت الخشب فاحتملته ، فإذا استقلت ، أمر الرخاء فمرت به شهرًا في روحته وشهرًا في غدوته ، إلى حيث أراد. هـ. {وكُنَّا بكل شيء عالمين} أي : أحاط علمنا بكل شيء ، فنُجري الأشياء على ما سبق به علمنا ، واقتضته حكمتنا.
{ومن الشياطين} ، قيل : لمَّا ذكر تسخير الريح - وهي شفافة لا تعقل - ذكر ما هو شفاف يعقل ، وهم الشياطين ، مع سرعة الحركة في الكل ، أي : وسخرنا له من الشياطين {مَن يغوصون} في البحار ، ويستخرجون {له} من نفائسه ، كالدر والياقوت ، {ويعملون
367
عملاً دون ذلك} أي : غير ما ذكر ؛ من بناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات ، وقيل : الحمام ، والنورة ، والطاحون ، والقوارير ، والصابون ، مما استخرجوه له ، {وكنا لهم حافظين} أن يزيغوا عن أمره ، أو يُبدلوا ، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه ، على ما هو مقتضى جبلتهم. وقال الزجاج : كان يحفظهم من أن يُفسدوا ما عملوا ، وكان دأبهم أن يُفسدوا بالليل ما عملوه بالنهار. وقيل : وكَّل بهم جمعًا من الملائكة ، وجمعًا من مؤمني الجن. رُوي أن المُسَخَّر له عليه السلام : كفارهم ، لا مؤمنهم ؛ لقوله تعالى : {ومن الشياطين}. والله تعالى أعلم.
(4/545)
الإشارة : قوله تعالى : {ففهمناها سليمان} ، قال الورتجبي : بيَّن ، سبحانه ، أن الفضل متعلق بفضله ، لا يتعلق بالصغر والكبر والشيخوخة والاكتساب والتعلم ، إنما الفهم تعريف الله أحكام ربوبيته بنور هدايته ، وإبراز لطائف علومه الغيبية ، فحيث يظهر ذلك فهناك مواضع الفهوم من العلوم ، فهو سبحانه منَّ على سليمان بعلمه ، ولم يمنّ عليه بشيء خارج عن نفسه ؛ من الملك ، والحدثان أفضل من العلم ؛ فإنَّ العلم صفة من صفاته تعالى ، فلمَّا جعله متصفًا بصفاته منَّ عليه بجلال كبريائه. هـ. وقال في قوله : {وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا} : حُكمًا ؛ معرفة بالربوبية ، وعلمًا بالعبودية. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 365
وقوله تعالى : {وسخرنا مع داود الجبال...} الخ. {ولسليمان الريح...} الآية ، لمّا كانا - عليهما السلام - مع المُكَوِّنِ كانت الأكوان معهما ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك " ، وذكر في القوت : أن سليمان عليه السلام لبس ذات يوم قميصًا رفيعًا جديدًا ، ثم ركب البساط ، وحملته الريح ، فبينما هو يسير إذ نظر إلى عطفه نظرةً ، فأنزلته الريح ، فقال : لِم أنزلتني ولم آمرك ؟ ! فقالت : نطيعك إذا أطعت الله ، ونعصيك إذا عَصَيْتَه. فاستغفر وحملته. هـ بالمعنى. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 365
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر خبر {أيوبَ} عليه السلام {إِذْ نادى ربَّه} : دعاه : {إني} أي : بأني {مسَّنيَ الضرُّ} وهو بالضم : ما يصيب النفس من مرض وهزال ، وبالفتح : الضرر في كل شيء ، {وأنت أرحمُ الراحمين} ، تلطف في السؤال ؛ حيث ذكر نفسَه بما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة ، ولم يصرح بالمطلوب ؛ من كمال أدبه ، فكأنه قال : أنت أهل أن تَرحم ، وأيوب أهل أن يُرحَم ، فارحمه ، واكشف
368
(4/546)
عنه ضره الذي مسه. عن أنس : أنه أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة ، ولم يشتك ، وكيف يشكو ، والله تعالى يقول : {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ} [ص : 44].
وقيل : إنما اشتكى إليه ؛ تلذذًا بالنجوى ، لا تضررًا بالشكوى ، والشكاية إليه غاية في القُرب ، كما أن الشكاية منه غاية في البُعد ، وسيأتي في الإشارة تكميله ، إن شاء الله. رُوي أن أيوب عليه السلام ، كان من الروم ، وهو أيوب بن أمُوص ابن تارَح بن رعويل بن عيص بن إسحاق. وكانت أمه من ولد لوط عليه السلام اصطفاه الله للنبوة والرسالة ، وبسط عليه الدنيا ؛ فكان له ثلاثة آلاف بعير ، وسبعة آلاف شاة ، وخمسمائة فدان ، يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ، وكان له سبعة بنين ، وسبع بنات. قاله النسفي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 368
(4/547)
زاد الثعلبي : وكانت له المشيئةُ من أرض الشام كلها ، وكان له فيها من صنوف المال ما لم يكن لأحد ؛ من الخيل والبقر والغنم والحُمُر وغيره ، وكان برًا تقيًا رحيمًا بالمساكين ، يكفل الأرامل والأيتام ، ويُكرم الضيف ، ويُبلغ ابن السبيل ، شاكرًا لأنعم الله ، لا يصيب منه إبليس ما يصيب من أهل الغنى من الغفلة والغِرَّة ، وكان معه ثلاثةً قد آمنوا به : رجل من اليمن واثنان من بلده ، كُهُولا. قال وهب : فسمع إبليس تَجَاوُبَ الملائكة بالصلاة عليه في السماء فحسده ، فقال : إلهي ، عبدك أيوب أنعمتَ عليه فشكرك ، وعافيته فحمدك ، ولم تجرّبه بشدّة ولا بلاء ، فلو جربته بالبلاء ليكفرنّ بك وبنعمتك ، فقال له تعالى : انطلق ، فقد سلطتك على ماله ، فجمع عفاريته وأخبرهم ، فقال عفريت من الجن : أُعطيتُ من القوة ما إذا تحوّلت إعصارًا من نار أحرقتُ كل شيء آتي عليه ، فقال له إبليس : دونك الإبل ورعاتها ، فجاءها حتى وثبت في مراعيها ، فأثار من تحت الأرض إعصارًا من نار فأحرقها وأحرق رعاءها. فلما فرغ منها تمثل إبليس براعيها ، وجلس على قَعُودٍ منها ، فأتاه ، وقال : يا أيوب ، إن ربك الذي عبدته قد أحرق إبلك ورُعَاءَها ، فقال أيوب : هو ماله ، أعارنيه ، يفعل فيه ما يشاء ، فرجع إبليس خاسئًا ، حين حمد أيوبُ ربه ، فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا صِحتُ لم يسمع صوتي ذو رُوح إلا خرجت روحه ، قال له إبليس : ائت الغنم ورعاءَها ، فأتى ، فصاح ، فصارت أمواتًا ورعاتها ، ثم خرج إبليس متمثلاً بقهرَمَان الرعاة ، فقال له كمقالته في الإبل ، فأجابه أيوب بمثل ما أجابه فيها ، فرجع خاسئًا ، فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا تحولتُ ريحًا عاصفًا نسفتُ كل شيء أتيت عليه ، قال إبليس : فأتِ الفدادين والحرث ، فجاءها ، فَهبَّتْ ريح عاصفة فنسفت كل شيء ، حتى كأنه لم يكن ثَمَّ شيء ، فخرج إبليس
369
(4/548)
متمثلاً بقهْرَمَان الحرث ، فقال له مثل قوله الأول ، وردَّ عليه مثل رده ، حتى أتى على جميع ماله ، وأيوب يحمد الله تعالى. فقال إبليس : إلهي ؛ إن أيوب يقول : إنك ما متعْتَهُ إلا بنفسه وولده ، فهل تسلطني على ولده ، فإنها الفتنة ؟ قال الله تعالى : قد سلطتك على ولده ، فجاء إبليس فقلب عليهم القصر منكسين ، وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمُعلم الذي يُعلمهم الحكمة ، وهو جريح ، فقال : يا أيوب ؛ لو رأيت بنيك كيف عُذبوا ؟ ونُكِّسوا على رؤوسهم ، وسال دماغهم من أنوفهم ، فلم يزل من قوله حتى رقَّ أيوبُ وبكى ، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه ، فصعد إبليس مسرورًا ، ثم ذهب أيوب ، فلما أبصر ذلك استغفر ، وصعد قرناؤه من الملائكة ، بتوبته فبادروا إلى الله تعالى ، وهو أعلم ، فوقف إبليس خاسئًا ، فقال : إلهي ؛ إنما هوّن أيوب خطر المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده ، فإني لك زعيم إن سَلَّطَّني على جسده ليكفرنّ بك ، قال الله تعالى : قد سلطتك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله ، فجاءه إبليس فوجده ساجدًا ، فجاء من قِبل الأرض ، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده ، فَوهِلَ ، وخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليَاتِ الغنم ، ووقعت به حكة لا يملكها ، فحك بأظفاره ، ثم بالمسُوح الخشنة ، ثم بالحجارة ، حتى نغل لحمه ، وتغير ، ونش ، وتدود ، فأخرجه أهل القرية ، وجعلوه على كناسة ، وجعلوا له عريشًا ، ورفضه الخلق كلهم ، إلا {رحمةً} ؛ امرأته بنت إفراثيم بن يوسف عليه السلام ، فقامت عليه بما يصلحه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 368
(4/549)
روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ أيُّوبَ نبي الله لَبث به بَلاؤُه ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَة ، فَرَفَضه الْقَرِيبُ والبَعِيدُ " الحديث ، وقال كعب : سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وما قاله - عليه الصلاة والسلام - إن ثبت ، هو الصحيح. وقال الحسن : مكث أيوب مطرودًا على كناسة ، في مزبلة بني إسرائيل سبع سنين وشهرًا ، يختلف فيه الدود. ويمكن الجمع بين الأقوال بأن الشدة كانت سبعًا والباقي مقدمات لها.
رُوِيَ أن امرأته قالت له يومًا : لو دعوتَ الله عزّ وجلّ ؟ فقال لها : كم كانت مدة الرخاء ؟ قالت : ثمانين سنة. فقال : إني أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي. هـ. ورُوي أن الدود أكل جميع جسده حتى بقي عظامًا نخرة ، وهو مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله وحمده وشكره ، فصرخ إبليس صرخة ، وقال : أعياني هذا العبد الذي سألتُ ربي أن يسلطني عليه ، قالت له العفاريت : أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة ، ما أتيته إلا من قِبَلِ امرأته ، فتمثل بها بصورة رجل طيب ، وفي رواية الحسن : في هيئة ليست كهيئة بني آدم ، في أحسن صورة ، فقال لها : أين بعلك يا أمة الله ؟ فقالت : هو
370
(4/550)
ذاك ، يحك قروحه ، ويتردد الدود في جسده ، فقال لها : أنا إله الأرض الذي صنعتُ بصاحبك ما صنعت ؛ لأنه عبد إله السماء وتركني ، فلو سجد لي سجدة واحدة لرددت لكما ما كان لكما. وقال وهب : قال لها : لو أكل طعامًا ولم يسمّ عليه لعُوفيَ من البلاء ، فأخبرت أيوب ، فقال : أتاك عدوُ الله ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم ، إن عافه الله ، ليضربنها مائة ضربة. ثم حلف لا يأكل لها طعامًا ، فبقي مهملاً لا يأتي إليه أحد ، وقال عند ذلك : {مسّني الضر} من طمع إبليس في سجودي له ، {وأنت أرحم الراحمين} ، فقيل له : {اركض برجلك} فركض ، فنبعت عين ماء ، فاغتسل منها ، فلم يبق من دائه شيء ، وسقطت الدود من جسده ، وعاد شبابه وجماله. ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى ، فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج ، وكانت امرأته " رحمة " حين حلف ، تركته مدة ، ثم ندمت وعادت ، فوجدته في أحسن هيئة ، فلم تعرفه ، فقالت له : أين الرجل المبتلى الذي كان هنا ؟ قال : أنا هو ، شفاني الله ، ثم عرفته بضحكه ، فتعانقا ، ثم أمره الله تعالى أن يأخذ جماعة من القضبان فيضربها ضربة واحدة ليبرّ في يمينه. هـ.
قلت : تسليط الشيطان على بشرية الأنبياء الظاهرة : جائز وواقع. وأما الأمراض المنفرة ، فإن كانت بعد التبليغ وتقرير الشرائع ، فجائز عند بعضهم ، وهو الصواب ، جمعًا بين ما ثبت في الأخبار عن السلف وبين الدلائل العقلية في تنزيه الأنبياء - عليهم السلام - ، لأن العلة هي تنفير الخلق عنهم ، وبَعْد التبليغ فلا يضر ، وقد ورد أن شُعيبًا عليه السلام عَمى في آخر عمره ، وكذلك يعقوب ، وكان بعد تبليغ الرسالة ، فلم يضر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 368
(4/551)
ثم قال تعالى في حق أيوب عليه السلام : {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُرّ} ؛ إنعامًا عليه ، فلمّا قام من مرضه جعل يلتفت فلا يرى شيئًا مما كان له من الأهل ، والمال ، ثم أحيا الله أولاده بأعيانهم ، ورزقه مثلهم ، ورد عليه ماله ، بأن أخلف له مثله ، وذلك قوله تعالى : {وآتيناه أهلَه ومثلهم معهم} وقيل : كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان له. وقال عكرمة : آتيناه أهله في الآخرة ، ومثلهم معهم في الدنيا ، والأول هو ظاهر الآية ، ردهم الله تعالى بأعيانهم ؛ إظهارًا لكمال قدرته تعالى. ثم قال {رحمةً من عندنا} : مفعول من أجله ، أي : آتينا ما ذكر لرحمتنا أيوب ، {وذكرى للعابدين} أي : وتذكرة لغيره من العابدين ؛ ليصبروا كما صبر ، ويُثابوا كما أُثيب ، أو لرحمتنا العابدين ، الذين من جملتهم أيوب ، وذكرنا إياهم بالإحسان ، وعدم نسياننا لهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما ينزل بالمؤمن من الأوجاع والأسقام والشدائد والنوائب ، في النفس أو في الأهل ، كله رحمة ، عظيمة ، ومنَّة جسيمة ، ويقاس عليه : مفارقة الأحباب
371
والأوطان ومشاق الأسفار والمتاعب البدنية ، ويُسمى عند الصوفية : التعرفات الجلالية ؛ لأن الله تعالى يتعرف إليهم بها ؛ ليعرفوه عيانًا ، ولذلك تجدهم يفرحون بها ، وينبسطون عند ورودها ؛ لما يتنسمون فيها ، ويجدون بعدها ، من مزيد الاقتراب وكشف الحجاب ، وطي مسافة البُعد بينهم وبين رب الأرباب ، فهم يؤثرونها على الأعمال الظاهرة ؛ لِمَا يتحققون بها من وجود الأعمال الباطنية ؛ كالصبر والزهد والرضا والتسليم ، وما ينشأ عنها ، عند ترقيق البشرية ، من تشحيذ الفكرة والنظرة ، وغير ذلك من أعمال القلوب.
(4/552)
وفي الحكم : " إذا فتح لك وجهة من التعرف ، فلا تُبالي معها إن قلَّ عملك ؛ فإنه ما فتحها لك إلاَّ وهو يريد أن يتعرف إليك منها ، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك ، والأعمال أنت مهديها إليه ، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك ؟ ". قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : معرفة الله تعالى هي غاية المطالب ، ونهاية الأماني والمآرب ، فإذا واجه اللهُ عبده ببعض أسبابها ، وفتح له باب التعرّف له منها ، فذلك من النعم الجزيلة عليه ، فينبغي ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر ، وما يترتب عليها من جزيل الأجر ، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقرّبين ، المؤدي إلى حقائق التوحيد واليقين ، من غير اكتساب من العبد ولا تَعَمُّلٍ ، والأعمالُ التي من شأنها أن يتلبس بها هي باكتسابه وتعمله ، وقد لا يسلم من دخول الآفات عليها ، والمطالبة بوجود الإخلاص فيها ، وقد لا يحصل له ما أمّله من الثواب عند مناقشة الحساب ، وأين أحدهما من الآخرة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 368
(4/553)
ومثاله : ما يُصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تُنَغِّصُ عليه لذات الدنيا ، وتمنعه من كثير من أعمال البر ، فإنَّ مرادَ العبد أن يستمر بقاؤه في الدنيا ، طيَّبَ العيش ناعمَ البال ، ويكون حاله في طلب سعادة الاخرة حال المترفين ؛ فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة ، التي لا كثير مُؤْنَةٍ عليه فيها ولا مشقة ، ولا تقطع عنه لذة ، ولا يفوته شهوة ، ومراد الله منه أن يُطهره من أخلاقه اللئيمة ، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة ، ويُخرجه من أَسْرِ وجوده إلى متسع شهوده ، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام ، إلا بما يُضادُ مراده ، ويشوّش عليه معتادَه ، وتكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن ، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة ، فإذا فَهِمَ هذا عَلِمَ أن اختيار الله له ، ومرادَه منه ، خيرٌ من اختياره لنفسه ومراده لها. وقد رُوِيَ أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه : " إني إذا أنزلت بعبدي بلائي ، فدعاني ، فماطلتُه بالإجابة ، فشكاني ، قلت : عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك " ؟ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : إذا ابتليت
372
(4/554)
عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوّاده ، أنشطته من عقالي ، وبدَّلته لحمًا خيرًا من لحمه ، ودمًا خيرًا من دمه ، ويستأنف العمل " ثم نقل عن أبي العباس ابن العريف رضي الله عنه قال : كان رجل بالمغرب يُدعى أبا الخيَّار ، وقد عمّ جسده الجذامُ ، ورائحة المسك تُوجد منه على مسافة بعيدة ، لقيه بعضُ الناس ، فقال له : يا سيدي كأن الله تعالى لم يجد للبلاء مَحلاً من أعدائه حتى أنزله بكم ، وأنتم خاصة أوليائه!! فقال لي : اسكت ، لا تقل ذلك ؛ لأنا لمّا أشرفنا على خزائن العطاء ، لم نجد عند الله أشرف ولا أقرب من البلاء ، فسألناه إِيّاه ، وكيف بك لو رأيت سيّد الزهّاد ، وقطبَ العباد ، وإمام الأولياء والأوتاد ، في غار بأرض طرطوس وجبالها ، ولحمُه يتناثر ، وجلده يسيل قيحًا وصديدًا ، وقد أحاط به الذباب والنمل ، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر الله وشكره على ما أعطاه من الرحمة ، حتى يشدّ نفسه بالحديد ، ويستقبل القبلة عامَّةَ ليله حتى يطلع الفجر. هـ.
وقد تكلم الصوفية في قول أيوب عليه السلام : {مسّني الضر} ؛ هل شكى ضرر جسمه ، أو ضرر قلبه من جهة دينه ؟ قال بعضهم : قيل : إنه أراد النهوضِ إلى الصلاة فلم يستطع ، فقال : {مسّني الضر} ، وقيل : إنه أكل الدود جميع جسده ، حتى بقي عظامًا ، فلما قصد الدودُ قلبَه ولسانَه غار على قلبه ؛ لأنه موضع المعرفة والتوحيد ، والنبوة والولاية ، وأسرار الله تعالى ، وخاف انقطاع الذكر ، فقال : {مسّني الضر} ، وقيل : خاف تبدد همه وتفرق قلبه ، وليس في العقوبة شيء أشد من تبدد الهم ، فتارة يقول : لعلي ببلائي مُعاقب ، وتارة يقول : بضري مُستدرج ، فلما خاف تشتيت خاطِره عليه ، قال : {مسّني الضر}. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 368
(4/555)
قلت : هذا المقام لا يليق بالأنبياء ، وإنما يجوز على غيرهم ؛ إذ الأولياء يترقون عن هذا المقام فكيف بالأنبياء! وقال بعضهم : قال : مسني الضر من شماتة الأعداء ، واقتصر عليه ابنُ جُزي ، وفيه شيء ؛ إذ كثير من الأولياء سقط الناس من عينهم ، فلا يُبالون بخيرهم ولا شرهم ، ولا مدحهم ولا ذمهم ، فكيف بالأنبياء - عليهم السلام - ؟ !
وقال القشيري " كان ذلك منه إظهارًا للعجز ، لا اعتراضًا ، فلا يُنافي الصبر ، مع ما فيه من التنفيس عن الضعفاء من الأمة ، ليكون أسوة. وقال : إن جبريل أمره بذلك ، وقال له : إن الله يغضبُ إن لم يُسأل ، وسيان عنده البلاء والعافية ، فسَله العافية. ويقال : إن أيوب كان مُكَاشَفًا بالحقيقة ، مأخوذًا عنه ، وكان لا يُحِسُّ بالبلاء ، فَسَتَر عليه ، فردَّه إليه ، فقال : مَسني الضُّرُّ ، وقيل : أَدْخَل على أيوب تلك الحالة ، فاستخرج منه تلك المقالة ؛ ليظهر عليه سمة العبودية. هـ.
373
(4/556)
وقال الورتجبي : سُئل الجنيد عن قوله : {مسّني الضر} ، فقال عرّفه فاقة السؤال ، ليمنّ عليه بكرم النوال ، وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب {مسّني الضر} فبكى - عليه الصلاة والسلام - وقال : والذي بعثني بالحق نبيًا ما شكى فقرًا نزل من ربه ، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، فلما كان في بعض الساعات وثب ليُصلي ، فلم يستطع النهوض ، فقال : {مسني الضر} الخ. ثم قال : - عليه الصلاة والسلام - : أكل الدود عامة جسده حتى بقي عظامًا نخرة ، فكادت الشمس تطلع من قُبله وتخرج من دُبره ، وما بقي إلا قلبه ولسانه ، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله ، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه ، فلما أحب الله له الفرج ، بعث إليه الدودتين ؛ إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه ، فقال : يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان ، أذكرك بهما ، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلاني عنك ويطلعان على سري ، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. هـ.
وفي قوله تعالى : {رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} : تسلية لمن أصيب بشيء من هذه التعرفات الجلالية ، وقد تقدم في أول الإشارة الكلام على هذا. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 368
(4/557)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر {إِسماعيلَ} بن إبراهيم ، وكان أكبر من إسحاق ، {وإِدريسَ} واسمه : أخنوخ بن شيث بن آدم. قاله النسفي {وذا الكفل} وهو إلياس ، أو زكريا ، أو يوشع بن نون ، قلت : كونه زكريا بعيد ؛ لأنه سيذكره بخصُوصه بعدُ. وسُمي ذا الكفل ؛ لأنه ذو حظ من الله ، والكفل : الحظ. أو تكفل بضعف عمل أنبياء زمانه ، أو بصيام النهار وقيام الليل. وقال أبو موسى الأشعري : إنَّ ذا الكفل لم يكن نبيًا ، ولكنه كان عبدًا صالحًا ، تكفل بعمل رجل صالح عند موته ، وكان يُصلي لله تعالى ، في كل يوم ، مائة صلاة ، فأحسن الله عليه الثناء. هـ. وقال عمر بن عبد الله بن الحارث : إن نبيًا من الأنبياء قال : من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ؟ فقال شاب : أنا ، فمات ذلك النبي ، فجلس ذلك الشاب يقضي بين الناس ، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ؛ ليُغضبه وهو صائم ، فضرب الباب ضربًا شديدًا ، فقال : من هذا ؟ فقال : رجل له حاجة ، فأرسل له رجلاً ، فلم يرض ، ثم أرسل معه آخر ، فلم يرض ، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه إلى السوق ، ثم خلاه وذهبَ ، فسُمي ذا الكفل. هـ.
374
{كلٌّ من الصابرين} أي : كل واحد من هؤلاء موصوف بالصبر التام على مشاق التكليف وشدائد النوب ، {وأدخلناهم في رحمتنا} ؛ في النبوة ، أو في الآخرة ، {إنهم من الصالحين} أي : الكاملين في الصلاح الذي لا تحوم حوله شائبة الفساد ، وهم الأنبياء ، فإن صلاحهم معصوم من كدر الفساد. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد مدح الله هؤلاء السادات بخصلتين ، من تحقق بهما : التحق بهم ، وانخرط في سلكهم : الصبر على مشاق الطاعة ، وعلى ترك المعصية ، وفي حال البلية. والصلاح ، وهو : إصلاح الظاهر بالشريعة ، وإصلاح الباطن بنور الحقيقة. فمن تحقق بهاتين الخصلتين كان من المقربين مع النبيين والصديقين. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 374
(4/558)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر {ذا النُّون} أي : صاحب الحوت ، وهو يونس عليه السلام ، {إِذ ذهبَ مغاضِبًا} أي : مراغمًا لقومه ، فارًا عنهم ، وغضب من طول دعوته إياهم ، وشدة شكيمتهم ، وتمادي إصرارهم ، فخرج مهاجرًا عنهم ، قبل أن يُؤمر ، وقيل : وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم ؛ لأجل توبتهم ، ولم يشعر بها ، فظن أنه كذبهم ، فغضب من ذلك ، فهو من باب المغالبة ؛ للمبالغة ؛ أو لأنه غضب لما رأى منهم من الإصرار ، وغضبوا لمفارقته إياهم ، وكان من حقه عليه السلام أن يصبر وينتظر الإذن الخاص من الله تعالى ، فلما استعجل ابتلي ببطن الحوت ، وقال ابن عباس : قال جبريلُ ليونس عليه السلام : انطلق إلى أهل نِينَوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم ، قال : ألتمس دابة ، قال : الأمر أعجل من ذلك ، فانطلق إلى السفينة فركبها ، فاحتبست السفينة فساهموا فسهم ، فجاءه الحوت يبصبص بذنبه ، فنودي الحوت : إنا لم نجعل يونس لك رزقًا ، إنما جعلناه لك حِرزًا ، فالتقمه ، ومرّ به على الأبُلة ، ثم على دجلة ، ثم مَرَّ به حتى ألقاه بنينَوَى. هـ.
وقال وهب بن منبه رضي الله عنه : إنَّ يونس كان عبدًا صالحًا ضَيِّق الخلق ، فلما حمل أثقال النبوة تفسخ منها تفسُّخَ الرّبَع تحت الحمل الثقيل ، فقذفها وخرج هاربًا عنها ، ولذلك أخرجه الله من أولي العزم ، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف : 35] ، وقال : {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القَلَم : 48] ، أي : لا تلق أمري كما ألقاه. هـ. وأما قول الحسن : مغاضبًا لربه ، فلا يليق بمقام الأنبياء - عليهم السلام - إلا أن يحمل على أن خروجه بلا إذن كأنه مغاضب. والله تعالى أعلم.
375
(4/559)
ثم قال تعالى : {فظنَّ أن لن نقْدِرَ عليه} أي : لن نضيق عليه ، أو لن نقدر عليه بالعقوبة ، فهو من القدرة ، ويؤيده قراءة من شدَّد ، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : دخلت يومًا على معاوية ، فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة ، فغرقت فيها ، فلا أرى لنفسي خلاصًا إلا بك ، قال : وما هي ؟ فقرأ الآية... فقال : أو يظن نبي الله ألا يقدر عليه ؟ قال : هذا من القدر لا من القدرة. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 375
وقيل : إنه على حذف الاستفهام. أي : أيظن أن لن نقدر عليه ، وقيل : هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن يقدر عليه ، أي : تعامل معاملة من ظن أن لن نقدر عليه ؛ حيث استعجل الفرار. قلت : لإعلاء مقامه كثرت مطالبته بالأدب ، فحين خرج من غير إذن خاص ؛ عُدَّ خروجه كأنه ظن ألا تنفذ فيه القدرة ، وتمسك عليه السلام بالإذن العام ، وهو الهجرة من دار الكفر ، وهو لا يكفي في حق أمثاله ، فعوقب بالسجن في بطن الحوت. {فنادى في الظلمات} أي : في الظلمة الشديدة المتكاثفة كقوله : {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ...} [البَقَرة : 17] ، أو في ظلمة بطن الحوت والبحر والليل : {أن لا إِله إِلا أنتَ} أي : بأنه لا إله إلا أنت ، أو تفسيرية ، أي : قال : لا إله إلا أنت ، {سبحانك} أي : أنزهك تنزيهًا لائقًا بك من أن يعجزك شيء ، أو : تنزيهًا لك عما ظننتُ فيك ، {إِني كنتُ من الظالمين} لنفسي ؛ بخروجي عن قومي قبل أن تأذن لي ، أو من الظالمين لأنفسهم بتعريضها للهلكة ، وعن الحسن : ما نجاه ، والله ، إلا إقراره على نفسه بالظلم.
(4/560)
{فاستجبنا له} أي : أجبنا دعاءه الذي دعا في ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وأحسنه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذا الدُّعَاءِ إلاّ اسْتُجِيبَ لَهُ " {ونجيناه من الغم} : الذلة والوحشة والوحدة ، وذلك بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات ، وقيل : بعد ثلاثة أيام ، {وكذلك نُنجي المؤمنين} أي : مثل ذلك الإنجاء الكامل نُنجي المؤمنين من غمومهم ، إذا دعوا الله ، مخلصين في دعائهم. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اسم الله الذي إذا دُعي به أجب ، وإذا سُئل به أعطى " دعوة يونس بن متى ، قيل : يا رسول الله ، أليونس خاصة ؟ قال : " بل هي عامة لكل مؤمن ، ألم تسمع قول الله تعالى : {وكذلك ننجي المؤمنين} " وهنا قراءات في {نُنجي} ، مذكورة في كتب القراءات ، تركتها لطول الكلام فيها.
الإشارة : من تحققت له سابقة العناية لا تُبعده الجناية ، ولا تُخرجه عن دائرة الولاية ، بل يؤدب في الدنيا بالابتلاء في بدنه أو ماله ، على قدر الجناية وعلو المقام ، ثم يُرد
376
إلى مقامه. وها هنا حكايات للصوفية - رضي الله عنهم - من هذا النوع ، مِنْهَا : حكاية خير النساج رضي الله عنه ، قيل له : أكان النسج صنعتك ؟ قال : لا ، ولكن كنتُ عاهدت الله واعتقدت ألا آكل الرطب ، فغلبتني نفسي واشتريت رطلاً منه ، فجلستُ لآكله ، فإذا رجل وقف عليّ ، وخنقني ، وقال : يا عبد السوء ، أتهرب من مولاك - وكان له عبد اسمه : " خير " أَبَقَ مِنْه ، أَلقى الله شبهه عليَّ - فحملني إلى حانوته ، وقال : اعمل عملك ، أمرني بعمل الكرباس - وهو القطن - فدليت رجلي لأنسجه ، فكأني كنت أعمله سنين ، فبقيت معه أشهرًا ، فقمتُ ليلة إلى صلاة الغداة ، وقلت : إلهي لا أعود ، فأصبحت ، فإذا الشبه قد زال عني ، وعُدتُ إلى صورتي التي كُنتُ عليها ، فأُطلقت ، فثبت عليّ هذا الاسم ، فكان سببُه اتباع شهوتي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 375
(4/561)
ومنها قضية أبي الخير العسقلاني رضي الله عنه قال : اشتهيتُ السمك سنين ، ثم ظهر له من وجه حلال ، فلما مد يده ليأكل ، أخذت شوكة من عظامه إصبعَه ، فذهبت في ذلك ، فقال : إلهي هذا لمن مد يده لشهوة من حلال ، فكيف بمن مد يده لشهوة من حرام. ومنها : قضية إبراهيم الخواص رضي الله عنه قال : كنت جائعًا في الطريق ، فوافيت الرِّي - اسم بلدة - فخطر ببالي أن لي بها معارف ، فإذا دخلتها أضافوني وأطعموني ، فلمَّا دخلت البلد رأيت فيها مُنكرًا احتجت أن آمر فيه بالمعروف ، فأخذوني وضربوني ، فقلتُ في نفسي : من أين أصابني هذا ، على جوعي ؟ فنُوديت في سري : إنك سكنت إلى معارفك بقلبك ، ولم تسكن إلى خالقك.
وأمثال هذا كثير بأهل الخصوصية ، يُؤدبون على أقل شيء من سوء الأدب ؛ لشدة قربهم ، ثم يُردون إلى مقامهم. ومن هذا النوع قصة سيدنا يونس عليه السلام ؛ حيث خرج من غير إذن خاص ، فأدَّبه ، ثم رده إلى النبوة والرسالة ، وقد كنتُ سمعت من بعض الأشياخ أن أيوب عليه السلام إنما أصيب في ماله ، لأنه كان بجوار ماله كافر ، فكان يداريه ؛ لأجل ماله ، فأصيب فيه وفي بدنه ؛ تأديبًا وتكميلاً له. و الله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 375
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر خبر {زكريا إِذ نادى ربَّهُ} في طلب الولد ، وقال : {ربِّ لا تذرني فَرْدًا} ؛ وحيدًا بلا ولد يرثني ، ثم ردّ أمره إليه ؛ مستسلمًا ، فقال : {وأنت خيرُ الوارثين} ، فحسبي أنت ، وإِنْ لم ترزقني وارثًا فلا أبالي ؛ فإنك خير وارث ،
377
(4/562)
{فاستجبنا له} دعاءه ، {ووهبنا له يحيى} ولدًا {وأصلحنا له زوجه} أي : أصلحناها للولادة بعد عُقمها ، أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلْقها. وكانت قبل سيئة الخلق ، {إنهم} أي : ما تقدم من الأنبياء ، {كانوا يُسارعون في الخيرات} أي : إنما استحقوا الإجابة إلى مطالبهم ، وأسعفناهم فيما أمَّلوا ؛ لمبادرتهم أبواب الخير ، ومسارعتهم إلى تحصيلها ، مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير كله ، وهو السر في إتيان : {في} ، دون " إلى " ، المشعرة بخلاف المقصود ؛ من كونهم خارجين عن أصل الخيرات ، متوجهين إليها ، كما في قوله تعالى : {وَسَارِعُوااْ إِلَىا مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عِمرَان : 133].
{و} كانوا {يدعوننا رغَبًا ورَهَبًا} ؛ طمعًا وخوفًا ، وهما مصدران في موضع الحال ، أو المفعول له ، أي : راغبين في الثواب أو الإجابة ، وراهبين من العقاب أو الخيبة ، أو للرغبة والرهبة ، {وكانوا لنا خاشعين} : متواضعين خائفين ، أي : إنما نالوا هذه المراتب العلية ، واستحقوا هذه الخصوصية ؛ لاتصافهم بهذه الأوصاف الحميدة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الغالب في وراثة الخصوصية الحقيقية أن تكون لغير ورثة النسب ، وأما الخصوصية المجازية ، التي هي مقام الصلاح أو العلم ، فقد تكون لورثة النسب ، وتكون لغيرهم. والخصوصية الحقيقية هي مقام الفناء والبقاء ، والتأهل للتربية النبوية ، ولا بأس بطلب وارث هذه الخصوصية ، لئلا ينقطع النفع بها. وقد قيل ، في قول الشيخ ابن مشيش رضي الله عنه : اسمع ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا ، إنه أشار إلى طلب الوارث الروحاني. والله تعالى أعلم.
(4/563)
وقوله تعالى : {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} ، فيه إشارة إلى بيان سبب حصول الخصوصية ؛ لأن بابها هو المسارعة إلى عمل الخيرات وأنواع الطاعات ، وأوكدها ثلاثة : دوام ذكر الله ، وحسن الظن بالله ، وبعباد الله. وفي الحديث : " خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير : حسن الظن بالله ، وحسن الظن بعباد الله " وقوله : {ويدعوننا رَغَبًا ورهبًا} ، هذه حالة الطالبين المسترشدين المتعطشين إلى الله ، يدعونه رغبًا في الوصول ، ورهبًا من الانقطاع والرجوع ، وقد تكون للواصلين ؛ رغبًا في زيادة الترقي ، ورهبًا من الوقوف أو الإبعاد. وقال بعضهم : الرغب والرهب حاصلتان لكل مؤمن ، إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطًا ، وهو كفر ، ولو لم تكن رهبة لكان أمنًا ، والأمن كفر. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 377
378
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر {التي أحصنت فرْجَها} على الإطلاق من الحلال والحرام ، والتعبير عنها بالموصول ؛ لتفخيم شأنها ، وتنزيهها عما زعموه في حقها. {فنفخنا فيها من رُّوحِنَا} أي : أجرينا روح عيسى فيه وهو في بطنها ، أو نفخنا في درع جيبها من ناحية روحنا ، وهو جبريل عليه السلام ، فأحدثنا بذلك النفخ عيسى عليه السلام ، وإضافة الروح إليه تعالى ؛ لتشريف عيسى عليه السلام ، {وجعلناها وابنها} أي قضيتهما ، أو حالهما ، {آية للعالمين} ، فإن من تأمل حالهما تحقق بكمال قدرته تعالى. وإنما لم يقل آيتين ، كما قال : {وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسرَاء : 12] ؛ لأن مجموعهما آية واحدة ، وهي ولادتها إياه من غير فحل. وقيل : التقدير : وجعلناها آية وابنها كذلك ، فآيةٌ مفعول المعطوف عليه ، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. والله تعالى أعلم.
(4/564)
الإشارة : مَنْ حَصَّلَ التقوى في صغره ، كان آية في كِبَرِهِ. تقول العامة : الثور الحراث في الربك يبان ، وتقول الصوفية : البداية مجلاة النهاية. وقالت الحكماء : الصغر يخدم على الكبر. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 378
قلت : {أمة} : حال من {أمتكم} أي : متحدة أو متفقة ، والعامل فيه ومعنى الإشارة ، والإشارة إلى طريق الأنبياء المذكورين قبلُ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِنّ هذه} الطريق والسيرة التي سلكها الأنبياء المذكورون ، واتفقوا عليها ، وهو التوحيد ، هي {أُمتكم} أي : ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها ، ولا تخرجوا عنها ، حال كونها {أمةً واحدةً} ، غير مختلفة فيما بين الأنبياء - عليهم السلام - وإن اختلفت شرائعهم. وفي الحديث : " الأنْبِيَاءُ أبناء عَلاَّتٍ ، أُمهَاتُهمْ شتَّى ، وأبوهم واحد " والعلات : الضرائر ، أي : شرائعهم مختلفة ، وأبوهم واحد ، وهو التوحيد. قال القشيري : {وأنا ربكم فاعبدون} أي : ربيتكم ؛ اختيارًا ، فاعبدوني ؛ شكرًا وافتخارًا. هـ. والخطاب للناس كافة.
{وتقطعوا أمرهم} ، أصل الكلام : وتقطعتم في أمر دينكم وتفرقتم. إلاَّ أن الكلام صرف إلى الغيبة ، على طريقة الالتفات ؛ ليَنْعي عليهم ما أفسدوه في الدين ، والمعنى : فجعلوا أمر دينهم فيما {بينهم} قِطَعًا ، وصاروا أحزابًا متفرقة ، كأنه يُنْهِي إلى أهل التوحيد قبائح أفعالهم ، ويقول : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله ، الذي
379
أجمعت عليه كافة الأديان ؟ ثم توعدهم بقوله : {كُلٌّ إِلينا راجعون} أي : كل واحد ، من الفرق المتقطعة ، راجع إلينا بالبعث ، فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم.
(4/565)
ثم فصَّل الجزاء فقال : {فمن يعملْ} شيئًا {من الصالحات وهو مؤمنٌ} بالله ورسله وبما يجب الإيمان به. قال القشيري : (وهو مؤمن ، أي : في المآل بأن يختم له به) ، وكأنه يشير إلى الخاتمة ؛ لأن من لم يختم له بالإيمان لا ثواب لأعماله ، والعياذ بالله ، {فلا كُفْرَانَ لسَعْيِهِ} أي : لا حرمان لثواب عمله ، بل سعيُه مشكور مقبول ، فالكفران مَثلٌ في حرمان الثواب ، كما أن الشكر مثلٌ في إعطائه ، وعبّر عن ذلك بالكفران ، الذي هو ستر النعمة وجحدها ؛ لبيان كمال تنزهه تعالى عنه. وعبّر عن العمل بالسعي ؛ لإظهار الاعتداد به ، {وإِنّا له} أي : لسعيه {كاتبون} ؛ مُثبتون في صحائف أعمالهم ، نأمر الحفظة بذلك ، لا نغادر من ذلك شيئًا. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 379
الإشارة : الصوفية - رضي الله عنهم - ، في حال سيرهم إلى الحضرة وسلوكهم في طريق التربية ، مختلفون بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص. وفي حال نهايتهم - وهو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان ، وإشراق شمس العرفان ، الذي هو مقام الإحسان ، ويُعبِّرون عنه بالفناء والبقاء ، وهو التوحيد الخاص - متفقون ، وفي ذلك يقول القائل :
عباراتنا شتى وحسْنُك واحد
وكُلٌّ إلى ذاك الجَمَالِ يُشير
لأن ما كان ذوقًا ووجدًا لا يختلف ، بل يجده كل من له ذوق سليم. نعم تتفاوت أذواقهم على حسب مشاربهم ، ومشاربُهم على حسب إعطائهم نفوسَهم وبيعها لله ، وتتفاوت أيضًا بحسب التخلية والتفرغ ، وبحسب الجد والاجتهاد ، وكلهم على بصيرة من الله وبينة من ربهم : نفعنا الله بذكرهم ، وخرطنا في سلكهم ، آمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 379
(4/566)
قلت : {حرام} : مبتدأ ، وفيه لغتان : حرام وحِرْم ، كحلال وحِلّ. و {أنهم...} الخ : خبر ، أو فاعل سد مسده ، على مذهب الكوفيين والأخفش. والجملة : تقرير لقوله : {كُلٌّ إلينا راجعون} ، و {لا} نافية ، أي : ممتنع على قرية أهلكناها عدمُ رجوعهم إلينا بالبعث ، بل كل إلينا راجعون. وقيل : {لا} زائدة ، والتقدير : ممتنع رجوع قرية أردنا إهلاكها عن غيهم ، {فإنهم} : على هذا : فاعل بحرام. قاله القصار. و {حتى} :
380
ابتدائية ، غاية لما يدل عليه ما قبلها ، أي : يستمرون على ما هم عليه من الهلاك ، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ، ويقولون : {يا ويلنا}. وقال أبو البقاء : {حتى} : متعلقة في المعنى بحرام ، أي : يستقر الامتناع ، أي : هذا الوقت. و {فإذا هي} : جواب {إذا}. وفي الأزهري : وقد يجمع بين الفاء وإذا الفجائية ؛ تأكيدًا ، خلافًا لمن منع ذلك. قال تعالى : {فإذا هي شاخصة} ، فإنه لو قيل : إذا هي ، أو فهي شاخصة لصح. هـ. وقيل : {يا ويلنا} : على حذف القول ، أي : إذا فتحت قالوا : يا ويلهم. و {اقترب} : عطف على فُتحت.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وحرامٌ} أي : ممتنع {على} أهل {قريةٍ أهلكناها} ؛ قدرنا هلاكها ، أو حكمنا بإهلاكها ؛ لعتوهم ، {إنهم إلينا لا يَرجعون} بالبعث والحشر ، بل لا بد من بعثهم وحشرهم وجزائهم على أعمالهم. وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع للكل ؛ لقوله : {كُلٌ إلينا راجعون} ؛ لأنهم المنكِرون للبعث والرجوع دون غيرهم. وقيل : المعنى : وممتنع على قرية ، أردنا إهلاكها ، رجوعهم إلى التوبة ، أو ممتنع على قرية ، أهلكناها بالفعل ، رجوعهم إلى الدنيا. وفيه رد على مذهب القائلين بالرجعة من الروافض وأهل التناسخ ، على أن " لا " صلة. وقُرئ بالكسر ، على أنه تعليل لما قبله ، فحرام ، على هذا ، خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : ذلك العمل الصالح حرام على قرية أردنا إهلاكها ؛ لأنهم لا يرجعون عن غيرهم.
(4/567)
وقال الزجاج : المعنى : وحرام على قرية ، أردنا إهلاكها ، أن يُتَقَبَّلَ منهم عمل ؛ لأنهم لا يرجعون ، أي : لا يتوبون ، ويجوز حمل المفتوحة على هذا بحذف اللام ، ويستمرون على ما هم عليه من الهلاك ، أو : فليستمر امتناعهم من الرجوع.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 380
حتى إذا فُتحت يأجوجُ ومأجوج} ونُفخ في الصور ، وقامت القيامة ، فيرجعون ، ولا ينفعهم الرجوع. ويأجوج ومأجوج قبيلتان ، يقال : الناس عشرة أجزاء ، تسعة منها يأجوج ومأجوج. والمراد بفتحها : فتح سدها ، على حذف مضاف ؛ أي : حتى إذا فُتح سد يأجوج ومأجوج ، {وهم} أي : يأجوج ومأجوج ، وقيل : الناس بعد البعث ، {من كل حَدَبٍ} أي : نشز ومرتفع من الأرض ، {يَنسِلُونَ} : يسرعون ، وأصل النسل : مقاربة الخطو مع الإسراع. ويدل على عَود الضمير ليأجوج ومأجوج : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ويفتح ردم يأجوج ومأجوج ، فيخرجون على الناس ، كما قال الله تعالى : {من كل حدب ينسلون...} " الحديث ، ويؤيد إعادتَه على الناس قراءة مجاهد : " من كل جدث " ؛ بالجيم ، وهو القبر.
381
ثم قال تعالى : {واقتربَ الوعدُ الحقُّ} أي : ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب ، {فإِذا هي شاخصةٌ} أي : فإذا القصة أو الشأن ، وهو {أبصارُ الذين كفروا} شاخصة ، أي : مرتفعة الأجفان ، لا تكاد تطرق من شدة الهول ، حال كونهم يقولون : {يا ويلنا} ؛ يا هلكتنا ، هذا أوانك ، فاحضري ، {قد كُنَّا في غفلةٍ} تامة {من هذا} الذي دهَمنا ؛ من البعث ، والرجوع إليه تعالى ، للجزاء ، ولم تعلم ، حيث نُبِّهْنَا عليه بالآيات والنُذر ، أنه حق ، {بل كنا ظالمين} بتلك الآيات والنذر ، مُكذبين بها ، أو ظالمين أنفسنا ؛ بتعريضها للعذاب المخلد. وهو إضراب عما قبله ، من وصف أنفسهم بالغفلة ، أي : لم نكن غافلين عنه ، حيث نُبِّهْنَا عليه بالآيات والنذر ، بل كنا ظالمين بتكذيبهم ، والله تعالى أعلم.
(4/568)
تذييل : رَوى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أولا الآية : الدَّجال ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من قرن عدن ، تسوق النار إلى المحشر - أي الشام - تقيل معهم إذا قالوا ، والدُّخان ، والدَّابة ، ثم يأجوج ومأجوج " قلت : وبعد موت يأجوج ومأجوج ، تبقى مدة عيسى عليه السلام ، في أَمَنَةٍ ورَغَدِ عَيْشٍ. قيل : سبع سنين ، وقيل : أربعون. ثم يُقبض عيسى ، ويُدفن في روضته صلى الله عليه وسلم ، ثم تهب ريح تقبض المؤمنين ، فلا يبقى من يقول الله الله ، قيل : مائة سنة ، وقيل : أقل ، ثم تخرب الكعبة ، ثم يُنفخ في الصور للصعق ، واقترب الوعد الحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الحضرة محرمة على قلبٍ خراب ، أهلكه الله بالوساوس والخواطر ، وفتحت عليه من الشواغل والشواغب والخواطر يأجوج ومأجوج ، فأفسدته وخربته وجعلته مزبلة للشياطين. فحرام عليه رجوعه إلى الحضرة حتى يتطهر من هذه الوساوس والخواطر ، ومن الشواغل والعلائق. قال بعض الصوفية : (حضرة القدوس محرمة على أهل النفوس). فإذا اقترب وعد الحق ، وهو أجل موته ، قال : يا ويلنا إنا كنا عن هذا غافلين ، لم نتأهب للقاء رب العالمين ، حتى لقيتُه بقلب سقيم. والعياذ بالله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 380
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِنكم} ، يا كفار قريش ومن دان دينكم ، {وما تعبدون من دون الله} من الأصنام والشياطين ؛ لأنهم ، لطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم ، في
382
حكم عبادتهم ، ويدخل فيه الشمس والقمر والنجوم ، وكل ما عُبد من دون الله ممن لا يعقل ، للحديث الوارد في دخولهم النار ، تبكيتًا لمن عبدهم ؛ لأنهم لا يتضررون بالنار. وأما من يعقل فلا يدخل ؛ حيث عبَّر بما. وقيل : يدخل ، ثم استثناه بقوله : {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى...} ، فكل من عبد شيئًا من دون الله فهو معه ، {حَصَبُ جهنم} أي : حطبها ، وقرئ بالطاء ، أي : وقودها {أنتم لها واردون} أي : فيها داخلون.
(4/569)
{لو كان هؤلاء آلهةً} كما زعمتم {ما وردوها} ؛ ما دخلوا النار ، {وكلٌّ فيها خالدون} أي : وكل من العابد والمعبود في النار خالدون. {لهم فيها زفير} أي : للكفار في النار أنينٌ وبكاء وعويل ، {وهم فيها لا يسمعون} شيئًا ؛ لأن في سماع بعضهم بعضًا نوع أُنس. قال ابن مسعود رضي الله عنه : يُجعلون في توابيت من نار ، ثم جعلت التوابيت في توابيت أُخَر لها مسامير من نار ، فلا يسمعون شيئًا.
(4/570)
رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام ، وصَنَادِيدُ قُريشٍ في الحَطِيمِ ، وَحَوْلَ الكَعْبَةِ ثلاثمائة وَسِتونَ صَنَمًا ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ ، فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ ، فكلَّمهُ النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى أفْحَمَهُ ، ثُمَّ تلا عليه وعليهم : {إِنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم...} الآيات الثلاث. ثم أقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزِبَعْرَى فرآهم يتساهمون ، فقال : فيم خوضكم ؟ فأخفى الوَلِيدُ ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أخبره بعضهم بما قاله ، عليه الصلاة والسلام ، فقال ابن الزبعرى للنبي صلى الله عليه وسلم : أأنت قلت : {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} ؟ قال : نعم ، قال : قد خصمتك ، ورب الكعبة ، أَلَيْست اليَهُودُ تعبد عُزَيرًا ، والنصارى تعبد المَسِيحَ ، وبَنُو مُلَيْحٍ يعبدون الملائكة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بَلْ هُمْ يَعْبُدُونَ الشياطِينَ الّتي أَمَرَتْهُم بِهذا ، فأنزل الله تعالى : {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى...} ". قلت : كل من عَبَدَ شيئًا من دون الله فإنما عَبَدَ في الحقيقة الشيطان ؛ لأنه أمر به وزينه له ، ويدل على ذلك أنهم يتبرؤون يوم القيامة ، حين تتحقق الحقائق ، من عبادتهم ، كما قال تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} [الفُرقان : 17 ، 18] مع قوله تعالى : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [العَنكبوت : 38]. والله تعالى أعلم.
383
(4/571)
الإشارة : من أحب شيئًا حُشر معه ، من أحب أولياء الله حُشر معهم ، ومن أحب الصالحين حُشر معهم ، ومن أحب الفجار حُشر معهم ، ومن أحب الدنيا بُعث معها ، ثم بعث إلى النار ، وهكذا... المرء مع من أحب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 382
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِن الذين سبقت لهم منا الحسنى} أي : الخصلة الحسنى ، أو المشيئة الحسنى ، وهي السعادة ، أو التوفيق للطاعة ، أو البُشرى بالثواب ، {أولئك عنها} : عن جهنم {مبعدون} ؛ لأنهم في الجنة ، وشتان ما بنيهما. قال القشيري : لم يقل متباعدون ؛ ليَعْلَم العابدون أن المدارَ على التقدير وسبق الحكم من الله ، لا على تَبَاعد العبد وتَقَرُّبه. هـ. وكأنه يشير لقوله : " هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أُبالي " ، أي : بأعمالهم.
{لا يسمعون حَسِيسَهَا} أي : صوتها الذي يحس ، وحركة تلهبها ، وهذه مبالغة في الإبعاد ، أي : لا يقربوها حتى لا يسمعوا صوتها أو صوت من فيها. قال الكواشي : لا يسمعون صوت النار وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم من الجنة. هـ. وقال ابن عطية : وذلك بعد دخولهم الجنة ؛ لأن الحديث يقتضي أن في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا خرَّ على ركبتيه. هـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : محمل الحديث ، إن صح في حق الأنبياء والأكابر ، على شهود الجلال والإجلال لله تعالى ، ولذلك يقولون : " نفسي نفسي " ، لا من خوف النار. هـ.
(4/572)
قلت : أما كون الناس يُصعقون يوم القيامة ، فيكون المصطفى أول من يفيق ، فثابت في الصحيح ، أما سبب الصعقة فقد ورد في غير البخاري : " أنه يُؤتى بجهنم ، ولها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ، ثم تزفر زفرة ، فلا يبقى نبي ولا ملك إلا خرّ " .. الحديث ، ويؤيده قوله تعالى : {وَجِياءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفَجر : 23] والأنبياء - عليهم السلام - بَشَر عبيد ، قد تعمهم القهرية ، ولا تقدح في منصبهم ، وليس صعقهم خوفًا ، لكن غلبة ودهشًا ، كما صعق موسى - عليه السلام - عند الرؤية ،
384
ونبينا - عليه الصلاة والسلام - حين تجلى له جبريل على صورته. والله أعلم. وقال جعفر الصادق : وكيف يسمعون حسيسها ، والنار تخمد بمطالعتهم ، وتتلاشى برؤيتهم ؟ ثم ذكر حديث قول النار للمؤمن : جُز... الخ.
ويدل على أن هذه الحالة إنما هي بعد دخولهم الجنة ، قوله تعالى : {وهم فيما اشتهت أَنفُسُهُم} من النعيم {خالدون} : دائمون ، والشهوة : طلب النفس للذة. وهو بيان لفوزهم بالمطالب ، إثر بيان خلاصهم من المهالك والمعاطب ، أي : دائمون في غاية التنعم ، {لا يحزنهم الفزعُ الأكبر} ، وهو القيام من القبور عند صيحة البعث ، بدليل قوله : {وتتلقاهم الملائكةُ}. قال ابن عباس : " تتلقاهم الملائكة بالرحمة ، عند خروجهم من القبور " ، قائلين : {هذا يومُكم الذي كنتم تُوعدون} بالكرامة والثواب ، والنعيم المقيم فيه ، أي : بعد دخولكم الجنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 384
(4/573)
وقال الحسن : الفزع الأكبر : الانصراف إلى النار. وعن الضحاك : حين يُطبق على أهل النار. وقيل : حين نفخة الصعق ، وقيل : حين يُذبح الموت. قلت : من سبقت له الحسنى ينجو من جميعها. وقيل : تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة ، مُهنئين لهم قائلين : {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} في الدنيا ، ويُبشرون بما فيه من فنون المثوبات على الإيمان والطاعات. وهذا ، كما ترى ، صريح في أن المراد بالذين سبقت لهم الحسنى : كافةُ المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحة ، لا من ذكر ؛ من المسيح ، وعُزير ، والملائكة ، كما قيل. قاله أبو السعود ، قلت : وقد يجاب بأنها نزلت في شأنهم وتعم غيرهم ؛ لأن سبب النزول لا يخصص. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قال الجنيد رضي الله عنه : {إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى} أي : سبقت لهم منا العناية في البداية ، فظهرت لهم الولاية في النهاية. هـ. {أولئك عنها} أي : عن نار القطيعة ، وهي أغيار الدنيا ، مُبعدون ، لا يسمعون حسيسها ، ولا ما يقع فيها من الهرج والفتن ، لغيبتهم عنها بالكلية في الشغل بالله تعالى ، فهم فيما اشتهت أنفسهم ؛ من لذة الشهود ، والقُرب من الملك الودود ، خالدون دائمون ، لا يحزنهم الفزع الأكبر في الدنيا والآخرة ، وتتلقاهم الملائكة بالبُشرى بالوصول ، هذا يومكم الذي كنتم توعدون ، وهو يوم ملاقاة الحبيب والعكوف في حضرة القريب ، عند مليك مقتدر. منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنّه وكرمه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 384
385
قلت : {يوم} : ظرف لاذكر ، أو لقوله : {لا يحزنهم الفزع} ، أو لتتلقاهم. والسجل : الصحيفة ، والكتاب : مصدر ، و {كما بدأنا} : منصوب بمضمر ، يُفسره ما بعده ، و {ما} : موصولة.
(4/574)
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر {يوم نَطْوِي السماءَ} ؛ وذلك يوم الحشر والناس في الموقف ، فتجمع وتُكوّر وتُطوى {كطَيِّ السِّجِلِّ} ؛ الصحيفة {للكتاب} أي : لأجل الكتابة فيها ؛ لأن الكاتب يطوي الصحيفة على اثنين ؛ ليكتب فيها. فاللام للتعليل ، أو بمعنى " على " ، أي : كطي الصحيفة على الكتابة التي فيها ، لتُصان ، وقرأ أبو جعفر : " تُطوى " ؛ بالبناء للمفعول. وذلك بمحو رسومها وتكوير نجومها وشمسها وقمرها. وأصل الطي : الدرج ، الذي هو ضد النشر. وقرأ الأخوان وحفص : {للكُتُبِ} بالجمع ، أي : للمكتوبات ، أي : كطي الصحيفة ؛ لأجل المعاني الكثيرة التي تكتب فيها ، أو كطيها عليها ؛ لتُصان. فالكتاب أصله مصدر ، كالبناء ، ثم يوقع على المكتوب. وقيل : السجل : ملك يطوي كتب ابن آدم ، إذا رفعت إليه ، فالكتاب ، على هذا ، اسم للصحيفة المكتوب فيها ، والطي مضاف إلى الفاعل ، وعلى الأول : إلى المفعول.
{كما بدأنا أول خَلقٍ نُعيده} أي : نعيد ما خلقنا حين نبعثهم ، كما بدأناهم أول مرة ، فالتنوين في {خَلقٍ} مثله في قولك : أول رجلٍ جاءني ، تريد أول الرجال والتقدير : كما بدأنا أول الخلائق ، نعيدهم حفاةً عراة غُرلاً. قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّكُمْ تَحْشَرُونَ يَوْمَ القيَامَة حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً. وأول مَنْ يُكْسَى إبْرَاهِيمُ خليلُ الله " ، أي : لأنه جرد في ذات الله ، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : واسوءتاه! فلا يحتشم الناس بعضهم من بعض ؟ فقال : " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يُغنيه " ثم قرأ - عليه الصلاة والسلام - : {كما بدأنا أول خلق نعيده}.
كما بدأناه من الماء نعيده كيوم ولدته أمه. قلت : قد استدل بعضهم ، بظاهر الآية والحديث ، أن أهل الجنة ليس لهم أسنان ، ولا دليل فيه ؛ لأن المقصود من الآية : الاستدلال على كمال قدرته تعالى ، وعلى البعث الذي تُنكره الكفرة ، لا بيان الهيئة ، وعدمُ وجودها نقصان ، ولا نقص في الجنة.
(4/575)
ثم أكد الإعادة بقوله : {وعدًا علينا} أي : نُعيده وعدًا ، فهو مصدر مؤكد لغير فعله ؛ بل لِمَا في " {نعيده} من معنى العِدة ، أي : وعدنا ذلك وعدًا واجبًا علينا إنجازه ؛ لأنا لا نُخلف الميعاد ، {إِنا كنا فاعلين} لما ذكرنا لا محالة ، فاستعدوا له ، وقدِّموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال. وبالله التوفيق.
386
الإشارة : إذا أشرقت على القلب شموسُ العرفان ، انطوت عن مشهده وجودُ الأكوان ، وأفضى إلى فضاء العيان ، فلا سماء تظله ولا أرض تحمله ، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه :
لقد تجلى ما كان مخبى
والكون كُلٌّ طويت طي
جزء : 4 رقم الصفحة : 385
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولقد كتبنا في الزَّبور} كتاب داود عليه السلام ، {من بعْدِ الذِّكْرِ} : التوراة ، أو اللوح المحفوظ ، {أنَّ الأرض} أي : جنس الأرض ، يعني : مشارقها ومغاربها ، {يرثُها عبادي الصالحون} وهم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ففي الآية ثناء عليهم وبشارة لهم ، وإخبار بظهور غيب تحقق ظهوره في الوجود ؛ مِن فَتْح الله على هذه الأمة مشارقَ الأرض ومغاربها ، كقوله : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} [النُّور : 55]. وقال القشيري : على قوله : {عبادي الصالحون} : هم أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - وهم بجملتهم قوم صالحون لنعمته ، وهم المطيعون ، وآخرون صالحون لرحمته وهم العاصون. هـ.
(4/576)
قال في الحاشية الفاسية : والظاهر أن حديث : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله " ، مفسر للآية ، وموافق لوعدها. قيل : وهذه الطائفة مُفْتَرَقَةً من أنواع المؤمنين ، ممن فيه عائدة على الدين ونفع له ؛ من شجعان مقاتلين ، وفقهاء ومحدِّثين ، وزهاد وصالحين ، وناهين وآمرين بالمعروف. هـ. قلت : وعارفين متمكنين ، علماء بالله ربانيين. ثم قال : وغير ذلك من أنواع أهل الحسنى ، ولا يلزم اجتماعهم ، بل يكونون متفرقين في أقطار. هـ. قلت " : وفيه نظر ؛ لأن مراد الآية الأمة كلها ، كما قال القشيري ، ومراد الحديث بعضها ، فلا يليق أن يكون تفسيرًا لها ، وهي أعم منه. وقيل : المراد بالأرض : أرض الشام ، وقيل : أرض الجنة.
ثم قال تعالى : {إِنَّ في هذا} أي : ما ذكر في السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة ، والوعد والوعيد ، والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة ، {لبلاغًا} أي : كفاية ، أو سبب بلوغ إلى البغية ، من رضوان الله تعالى ، ومحبته ، وجزيل ثوابه ، فمن تبع القرآن وعمل به ، وصل إلى ما يرجو من الثواب العظيم ، فالقرآن زادُ
387
الجنة كبلاغ المسافر ، فهو بلاغ وزاد {لقومٍ عابدين} أي : لقومٍ همتُهُم العبادة دون العادة. وبالله التوفيق.
(4/577)
الإشارة : قد أورث الله أرضه وبلاده لأهل التوجه إلى الله ، والإقبال عليه. فوراثة كل أحد على قدر توجهه وإقباله على مولاه. والمراد بالوراثة : التصرف بالهمة ونفوذ الكلمة في صلاحَ الدين وهداية المخلوقين ، وهم على قسمين : قسم يتصرف في ظواهر الخلق بإصلاح ظواهرهم ، وهم العلماء الأتقياء ، فهم يُبلغون الشرائع والأحكام ، لإصلاح نظام الإسلام ، وقد تقدم تفصيلهم في سورة التوبة عند قوله تعالى : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ...} [التّوبَة : 122] الخ ، وقسم يتصرفون في بواطنهم ؛ وهم أهل التصرف العارفون بالله ، على اختلاف مراتبهم ؛ من غوث وأقطاب وأوتاد ، وأبدال ، ونجباء ، ونقباء ، وصالحين ، وشيوخ مربين ، فهم يُعالجون بواطن الناس بالتربية بالهمة والحال والمقال ، حتى يتطهر مَنْ يصحبهم من الرذائل ، ويتحلى بأنواع الفضائل ، فيتأهل لحضرة القدس ومحل الأنس. وهؤلاء حازوا الوراثة النبوية كلها ، كما قال ابن البنا في مباحثه :
جزء : 4 رقم الصفحة : 387
تَبِعَهُ العَالِم في الأقوال
والعابد الزاهد في الأفعال
وبهما الصوفي في السباق
لكنه قد زاد بالأخلاق
جزء : 4 رقم الصفحة : 387
قلت : {رحمة} : مفعول لأجله ، أو حال.
(4/578)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وما أرسلناك} يا محمد {إِلا رحمةً للعالمين} أي : ما أرسلناك بما ذكر من الشرائع والأحكام ، وغير ذلك ؛ مما هو مناط سعادة الدارين ، لعلة من العلل ، إلا لرحمتنا الواسعة للعالمين قاطبة. أو ما أرسلناك في حال من الأحوال ، إلا حال كونك رحمة لهم ، فإن ما بُعثتَ به سببٌ لسعادة الدارين ، ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين ، ومن لم يضرب له في هذه المغانم بسهم فإنما أُوتي من قِبل نفسه ، حيث فرط في اتّباعه ، وقيل : إنه رحمة حتى في حق الكفار في الدنيا ؛ بتأخير عذاب الاستئصال ، والأمن من المسخ والخسف والغرق ، حسبما نطق به قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفَال : 33].
388
{قل إِنما يوحى إِليّ أَنما إِلهكم إِلهٌ واحد} أي : ما يوحى إليّ إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد ؛ لأنه المقصود الأصلي من البعثة ، وأما ما عداه فإنما هو من الأحكام المتفرعة عليه ، لا يصح بدونه. و {إنما} الأولى : لقصر الحكم على الشيء ، كقولك : إنما يقوم زيد ، والثانية : لقصر الشيء على الحكم ، كقولك : إنما زيد قائم ، أي : إنما يُوحى إليّ وحدي أنما إلهكم واحد. {فهل أنتم مسلمون} أي : مخلصون العبادة لله {فإن تولوا} عن الإسلام ، ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من استماع الوحي ، {فقل آذنتُكم} أي : أعلمتكم ما أُمرت به ، أو بمحاربتي لكم ومخالفتي لدينكم ، فتكونوا {على سواءٍ} ، أو كائنين على سواء في الإعلام به ، لم أطوه عن أحد منكم ، أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به من الشرائع ، لم أظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره. وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية. قيل : وهذه من فصاحة القرآن وبلاغته.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 388
(4/579)
وإِنْ أَدْرِي} أي : ما أدري {أقريبٌ أم بعيدٌ ما تُوعدون} من البعث والحساب متى يكون ؛ لأن الله تعالى لم يُطلعني عليه ، ولكن أنبأني أنه آت لا محالة ، وكل آت قريب. ولذلك قال : {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبيَاء : 97] ، أو : لا أدري متى يحل بكم العذاب ، أو ما توعدون من إظهار المسلمين وظهور الدين ، {إِنه يعلم الجهرَ من القول ويعلم ما تكتمون} أي : إنه عالم بكل شيء ، يعلم ما تجهرون به ؛ من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات ، وما تكتمونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين ، فيجازيكم عليه نقيرًا وقطميرًا. {وإِنْ أدري لعله فتنةٌ لكم} أي : ما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم ؛ لينظر كيف تعملون ، أو استدراج لكم ، وزيادة في افتتانكم ، {ومتاعٌ إلى حين} أي : تمتع لكم إلى حين موتكم ؛ ليكون حجة عليكم ، أو إلى أجل مقدر تقتضيه المشيئة المبنية على الحِكَم البالغة. {قل ربِّ احكُم بالحق} أي : اقض بيننا وبين كفار مكة بالعدل ، المقتضي لتعجيل العذاب. فهو كقول شعيب عليه السلام : {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعرَاف : 89] ، أو بما يحق عليهم من العذاب ، واشدد عليهم ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطأَتَكَ عَلَى مُضَرَ " ، وقد استجيب دعاؤه - عليه الصلاة والسلام - ، حيث عُذبوا ببدر أيّ تعذيب. وقرأ الكسائي وحفص : {قال} ؛ حكاية لدعائه صلى الله عليه وسلم. ثم استعان بالله على إبطال ما كانوا يؤملون من النصرة لهم ، وتكذيبهم في ذلك ، فقال : {وربنا الرحمن} ؛ كثير الرحمة على عباده ، {المستعان على ما تصفون} من كون الغلبة لكم. كانوا يصفون
389
الحال على خلاف ما جرت عليه ، وكانوا يطمعون أن تكون الشركة والغلبة لهم ، فكذب الله ظنونهم ، وخيّب آمالهم ، وغيّر أحوالهم ، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم ، وخذلهم ؛ لكفرهم. وبالله التوفيق.
(4/580)
الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : الأنبياء - عليهم السلام - خُلقوا من الرحمة ، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو عين الرحمة ، قال تعالى : {وما أرسلناك إِلا رحمة للعالمين}. هـ. وقال أيضًا : الأنبياء - عليهم السلام - لأممهم صدقة ، ونبينا صلى الله عليه وسلم لنا هدية. قال صلى الله عليه وسلم : " وأنا النعمة المهداة " ، فالصدقة للفقراء ، والهدية للكبراء. ثم إن غاية الرحمة : الوصول إلى التوحيد الخاص ؛ لأنه سبب الزلفى من الله والاختصاص ، ولذلك أمره به ، بعد أن جعله رحمة ، فقال : {قل إنما يُوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد...} الخ. فمن أعرض عنه فقد أوذن بالبُعد والطرد. ولعل تأخير العقوبة عنه ، في الدنيا ، استدراج ومتاع إلى حين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 388
ثم إن الصارف عن الدخول إلى التوحيد الخاص - وهو توحيد العيان - : القواطع الأربع : النفس ، والشيطان ، والدنيا ، والهوى. زاد بعضهم : الناس - أي : عوام الناس ، فإذا حكم الله بين العبد وبين هذه القواطع ، وصل إلى صريح المعرفة. {قل ربِّ احكم بالحق} ؛ أي : احكم بيني وبين عدوي بحكمك الحق ، حتى تدفعه عني وتدمغَهُ ، {وربنا الرحمن المستعان} به {على ما تصفون} من التعويق والتشغيب. والله المستعان ، وعليه أتوكل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
390
جزء : 4 رقم الصفحة : 388(4/581)
سورة الحج
جزء : 4 رقم الصفحة : 390
قلت : {زلزلة} : مصدر مضاف إلى فاعله على المجاز ، أو إلى الظرف ، وهي الساعة. و {يوم} : منصوب بتذهل.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {يا أيها الناس اتقوا ربكم} ، الخطاب عام لجميع المكلفين ممن وُجد عند النزول ، وينخرط في سلكهم من سيُوجد إلى يوم القيامة. ولفظ {الناس} يشمل الذكور والإناث. والمأمور به مطلق التقوى ، الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ظاهرًا وباطنًا ، والتعرض لعنوان الربوبية ، مع إضافتها لضمير المخاطبين ؛ لتأكيد الأمر ، وتأكيد إيجاب الامتثال به ؛ لأن الربوبية دائمة ، والعبودية واجبة بدوامها ، أي : احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم.
ثم علل وجوب التقوى بذكر بعض عقوبته الهائلة عند قيام الساعة ، فقال : {إِن زلزلة الساعة شيء عظيم} ، فإن ملاحظة عظمها وهولها وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته ، مما يوجب مزيد اعتناء بملابسة التقوى والتدرع بها. والزلزلة : التحرك الشديد والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير ، بحيث تزيل الأشياء من مقارها ، وتخرجها عن مراكزها ، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى : {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزّلزَلة : 1] الآية. واخْتُلِفَ في هذه الزلزلة وما ذكر بعدها ، هل هي قيام الساعة عند نفخة الصعق ، أو بعدها عند الحشر ؟ فقال الحسن رضي الله عنه : إنها تكون يوم القيامة. وعن
391(4/582)
ابن عباس رضي الله عنه : زلزلة الساعة : قيامها. وعن علقمة والشعبي : أنها قبل طلوع الشمس من مغربها ، فإضافتها إلى الساعة ؛ لكونها من أشراطها. قال الكواشي : وهذه الزلزلة تكون قبل قيام الساعة من أشراطها. قالوا : ومن أشراط الساعة ، قبل قيامها ، ست آيات : بينما الناس في أسواقهم ، إذ ذهب ضوء الشمس ، ثم تناثرت النجوم ، ثم وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت الأرض ، ففزع الإنسُ والجن ، وماج بعض في بعض ؛ خوفًا ودهشًا ، فقالت الجنُ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فذهبوا ، فرأوا البحار تَأَجَّجُ نارًا ، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة ، ثم جاءتهم الريح فماتوا. هـ. وانظر ابن عطية. قاله المحشي. والتحقيق : ما قدمناه عند قوله : {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبيَاء : 97] ، وأنَّ الريح إنما تقبض أرواح المؤمنين ، وهذه الزلزلة إنما تقع عند نفخة الصعق. والله تعالى أعلم. وفي التعبير بـ {شيء عظيم} إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها ، والعبارة ضيقة ، لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 391
قلت : {زلزلة} : مصدر مضاف إلى فاعله على المجاز ، أو إلى الظرف ، وهي الساعة. و {يوم} : منصوب بتذهل.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {يا أيها الناس اتقوا ربكم} ، الخطاب عام لجميع المكلفين ممن وُجد عند النزول ، وينخرط في سلكهم من سيُوجد إلى يوم القيامة. ولفظ {الناس} يشمل الذكور والإناث. والمأمور به مطلق التقوى ، الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ظاهرًا وباطنًا ، والتعرض لعنوان الربوبية ، مع إضافتها لضمير المخاطبين ؛ لتأكيد الأمر ، وتأكيد إيجاب الامتثال به ؛ لأن الربوبية دائمة ، والعبودية واجبة بدوامها ، أي : احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم.
(4/583)
ثم علل وجوب التقوى بذكر بعض عقوبته الهائلة عند قيام الساعة ، فقال : {إِن زلزلة الساعة شيء عظيم} ، فإن ملاحظة عظمها وهولها وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته ، مما يوجب مزيد اعتناء بملابسة التقوى والتدرع بها. والزلزلة : التحرك الشديد والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير ، بحيث تزيل الأشياء من مقارها ، وتخرجها عن مراكزها ، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى : {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزّلزَلة : 1] الآية. واخْتُلِفَ في هذه الزلزلة وما ذكر بعدها ، هل هي قيام الساعة عند نفخة الصعق ، أو بعدها عند الحشر ؟ فقال الحسن رضي الله عنه : إنها تكون يوم القيامة. وعن
391
ابن عباس رضي الله عنه : زلزلة الساعة : قيامها. وعن علقمة والشعبي : أنها قبل طلوع الشمس من مغربها ، فإضافتها إلى الساعة ؛ لكونها من أشراطها. قال الكواشي : وهذه الزلزلة تكون قبل قيام الساعة من أشراطها. قالوا : ومن أشراط الساعة ، قبل قيامها ، ست آيات : بينما الناس في أسواقهم ، إذ ذهب ضوء الشمس ، ثم تناثرت النجوم ، ثم وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت الأرض ، ففزع الإنسُ والجن ، وماج بعض في بعض ؛ خوفًا ودهشًا ، فقالت الجنُ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فذهبوا ، فرأوا البحار تَأَجَّجُ نارًا ، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة ، ثم جاءتهم الريح فماتوا. هـ. وانظر ابن عطية. قاله المحشي. والتحقيق : ما قدمناه عند قوله : {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبيَاء : 97] ، وأنَّ الريح إنما تقبض أرواح المؤمنين ، وهذه الزلزلة إنما تقع عند نفخة الصعق. والله تعالى أعلم. وفي التعبير بـ {شيء عظيم} إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها ، والعبارة ضيقة ، لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 391
(4/584)
ثم هوَّل شأنها ، فقال : {يوم ترونها} أي : الزلزلة ، وتُشاهدون هول مطلعها ، {تذهل كل مرضعة} أي : مباشرة للإرضاع ، {عما أرضعت} أي : تغفل وتغيب ، من شدة الدهش عما هي بصدد إرضاعه من طفلها ، الذي ألقمته ثديها. فالمرضعة ، بالتاء ، هي المباشرة الإرضاع بالفعل ، والمرضع - بلا تاء - لمن شأنها ترضع ، ولو لم تباشر الإرضاع. والتعبير عنه " بما " ، دون " من " ؛ لتأكيد الذهول ، كأنها من شدة الهول لا تدري من هو بخصوصه ، وقيل : " ما " مصدرية ، أي : تذهل عن إرضاعها. والأول أدل على شدة الهول وكمال الانزعاج.
{وتضع كل ذات حملٍ حملها} أي : تلقى جنينها من غير تمام ، كما أن المرضعة تذهل عن ولدها قبل الفطام. وهذا على قول من يقول : إنها قبل نفخة الصعق ظاهر ، وأما على من يقول ، إنها بعد قيام الساعة ، فقد قيل : إنه تمثيل ؛ لتهويل الأمر وشدته. {وترى الناس سُكارى} أي : وترى أيها الناظر الناس سكارى ، على التشبيه ، من شدة الهول ، كأنهم سكارى لمّا شاهدوا بساط العزة وسلطنة القهرية ، حتى قال كلُّ نبي : نفسي نفسي. {وما هم بسُكارى} على التحقيق ، {ولكنَّ عذاب الله شديد} ، فخوف عذابه هو الذي أذهل عقولهم ، وطيَّر تمييزهم ، وردهم في حال من يَذهب السكُر بعقله وتمييزه. وعن الحسن : وترى الناس سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب. وقرئ : (سكْرى) ؛ كعطشى. والمعنى واحد ، غير أن فعلى يختص بما فيه آفة ، كجرحى وقتلى ومرضى. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يا أيها الناس اتقوا ربكم وتوجهوا إليه بكليتكم ، حتى تُشرق على قلوبكم أنوار ربكم ، فتزلزل أرض نفوسكم ، وتدك جبال عقولكم ، عند سطوح شمس العرفان ،
392
(4/585)
والاستشراف على مقام الإحسان. إن زلزلة الساعة ، التي تشرف فيها على أسرار الذات ، شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، لو كانت أنثى ، وتضع كل ذات حمل حملها كذلك ، أو تضع كل ذات حمل أثقالها ؛ بالغيبة في ربها ، وترى الناس سكارى من خمر المحبة ، وما هم بسكارى من شراب الدَّوالي ، لكن من خمر الكبير المتعالي ، كما قال الششتري في الخمرة الأزلية - بعد كلام - :
لاَ شَرابَ الدَّواليِ إِنَّها أَرْضِيَّة
خَمْرُهَا دُون خَمْرِي خَمْرَتِي أَزَلِيّة
ولكن عذاب الله - الذي قدمه قبل دخول جنته المعنوية وحفت به ، وهي جنة المعارف - شديد ، ولكنه يحلو في جانب ما ينال بعده ، كما قال الشاعر :
والنَّفْسُ عَزَّتْ ولكنْ فيكَ أبْذُلُهَا
والذُّلُّ مرٌّ ولكن في رضاكَ حَلاَ
جزء : 4 رقم الصفحة : 391
يا من عذابِيَ عَذْبٌ في محبته
لا أشتكي منك لا صَدّا ولا مَلَلا
جزء : 4 رقم الصفحة : 391
قلت : {ومن الناس} : خبر ، و {مَن يجادل} : مبتدأ ، و {بغير علم} : حال من ضمير " يُجادل " ، و {أنه} : نائب فاعل {كُتب} ، أي : كتب عليه إضلال من تولاه ، و {فإنه} : مَنْ فتح : عنده خبر عن مبتدأ مضمر ، أي : فشأنه أن يضله ، والجملة جواب " مَن " ، إن جعلتها شرطية ، وخبر ، إنْ جعلتها موصولة متضمنة لمعنى الشرط ، ومن كسر : فخبر ، أو جواب " مَنْ ".
(4/586)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ومن الناس من يُجادل} ويخاصم {في الله} أي : في شأنه ، ويقول ما لا يليق بجلال كبريائه وكمال قدرته ، ملابسًا {بغير علم} ، بل بجهل عظيم حمله على ما فعل. نزلت في النضر بن الحارث ، وكان جَدلاً ، يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، ولا بعث بعد الموت ، والله غير قادر على إحياء من بَلى وصار رميمًا. وهي عامة له ولأضرابه من العتاة المتمردين ، وكل من يخاصم في الدين بالهوى. {ويتَّبعُ} في ذلك {كلَّ شيطان مَرِيدٍ} ؛ عاتٍ متمرد ، مستمر في الشر. قال الزجاج : المَريد والمارد : المرتفع الأملس ، أي : الذي لا يتعلق به شيء من الخير ، والمراد : إما رؤساء الكفرة الذين يدعونهم إلى الكفر ، وإما إبليس وجنوده.
ثم وصَف الشيطان المريد بقوله : {كُتِبَ عليه} أي : قضى على ذلك الشيطان {أنه} أي : الأمر والشأن {مَن تولاه} أي : اتخذه وليًا وتبعه ، {فأنَّه} أي : الشيطان {يُضِلُّه} عن سواء السبيل ، {ويهديه إِلى عذاب السعير} أي : النار. والعياذ بالله.
393
الإشارة : ومِن الناس من تنكبت عنه سابقةُ الخصوصية ، فجعل يجادل في طريق الله ، وينكر على المتوجهين إلى الله ، إذا حرقوا عوائد أنفسهم ، وسَدَّ الباب في وجوه عباد الله ، فيقول : انقطعت التربية النبوية ، وذلك منه بلا عِلْمِ تحقيقٍ ولا حجةٍ ولا برهان ، وإنما يتبع في ذلك كُلَّ شيطان مريد ، سوَّل له ذلك وتبعه فيه. كُتب عليه أنه من تولاه ، وتبعه في ذلك ، فإنه يُضله عن طريق الخصوص ، الذين فازوا بمشاهدة المحبوب ، ويهديه إلى عذاب السعير ، وهو غم الحجاب والحصر في سجن الأكوان ، وفي أسر نفسه وهيكل ذاته ، عائذًا بالله من ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 393
(4/587)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث} أي : إن شككتم في أمر البعث ، فمُزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم ، وقد كنتم في الابتداء تُرابًا وماء ، وليس سبب إنكاركم بالبعث إلا هذا ، وهو صيرورة الخلق ترابًا وماء ، فكما بدأكم منه يعيدكم منه ، كما قال تعالى : {فإِنّا خلقناكم} أي : أباكم {من تراب ، ثم} خلقناكم {من نطفة ثم من علقة} أي : قطعة دم جامدة ، {ثم من مضغة} أي : لحمة صغيرة ، بقدر ما يمضغ ، {مُخَلَّقةٍ} أي : مصورة الخلقة ، {وغيرِ مُخَلَّقةٍ} أي : لم يتبين خلقها وصورتها بعدُ. والمراد : تفصيل حال المضغة ؛ من كونها أولاً مضغة ، لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ، ثم ظهرت بعد ذلك شيئًا فشيئًا. وكان مقتضى الترتيب أن يُقدم غير المخلقة على المخلقة ، وإنما أخرت عنها ؛ لأنها عدم الملكة ، والملكة أشرف من العدم.
وإنما فعلنا ذلك ؛ {لنُبيِّنَ لكم} ، بهذا التدريج ، كمال قدرتنا وحكمتنا ؛ لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً ، ثم من نطفة ثانيًا ، وقدر على أن يجعل النطفةَ علقةً ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظامًا ، قدر على إعادة ما بدأ ، بل هو أهون في القياس
394
{ونُقِرُّ} أي : نثبت {في الأرحام ما نشاء} ثبوته {إِلى أجلٍ مسمى} : وقت الولادة ، وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام. {ثم نُخرِجُكم} من الرحم {طفلاً} ، أي : حال كونكم أطفالاً. والإفراد باعتبار كل واحد منهم ، أو بإرادة الجنس ، {ثم لتبلغوا أشدَّكم} أي : ثم نربيكم ؛ لتبلغوا كمال عقلكم وقوتكم. والأشد : من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل له واحد. ووقته : قيل : ثلاثون سنة ، وقيل : أربعون.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 394
(4/588)
ومنكم مَن يُتوفى} قبل بلوغ الأشد أو بعده ، {ومنكم من يُردُّ إِلى أرذل العُمُر} أي : أخسه ، وهو الهرَمُ والخرف ، {لكيلا يعلمَ من بعد علم شيئًا} أي : لكيلا يعلم شيئًا من بعد ما كان يعلمه من العلوم ، مبالغة في انتقاص علمه ، وانتكاس حاله ، أي : ليعود إلى : ما كان عليه في أوان الطفولية ، من ضعف البنية ، وسخافة العقل ، وقلة الفهم ، فينسى ما علمه ، وينكر ما عرفه ، ويعجز عما قدر عليه. قال ابن عباس : من قرأ القرآن ، وعمل به ، لا يلحقه أرذل العمر. ثم ذكر دليلاً آخر على البعث ، فقال : {وترى الأرض هامدةً} : ميتة يابسة ، {فإِذا أنزلنا عليها الماء اهتزت} ؛ تحركت بالنبات {ورَبَتْ} ؛ انتفخت {وأنبتتْ من كل زوج} : صنف {بهيج} : حسن رائق يسر ناظره.
{ذلك بأن الله هو الحق} أي : ذلك الذي ذكرنا ؛ من خلق بني آدم ، وإحياء الأرض ، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحِكم ، حاصل بهذا ، وهو أن الله هو الحق ، أي : الثابت الوجود. هكذا للزمخشري ومن تبعه ، وقال ابن جُزَي : والظاهر : أن الياء ليست سببية ، كما قال الزمخشري ، وهو أيضًا مقتضى تفسير ابن عطية ، وإنما يُقدر لها فعل يتعلق به ويقتضيه المعنى ، وذلك أن يكون التقدير : ذلك الذي تقدم من خلق الإنسان والنبات ، شاهد بأن الله هو الحق ، وبأنه يحيي الموتى ، وبأن الساعة آتية ، فيصح عطف {وأن الساعة} على ما قبله ، بهذا التقدير ، وتكون هذه الأشياء المذكورة ، بعد قوله : {ذلك} ، مما استدل عليه بخلقة الإنسان والنبات. هـ.
(4/589)
قال المحشي الفاسي : ويرد عليه : أن تقديره عاملاً خاصًا يمنع حذفه ، وإنما يحذف إذا كان كونًا مُطلقًا ، فلا يقال : زيد في الدار ، وتريد ضاحكٌ مثلاً ، إلا أن يقال في الآية : دل عليه السياق ، فكأنه مذكور. وعند الكواشي : ليعلموا بأن الله هو الحق. وقال القرطبي : قوله : {ذلك بأن الله هو الحق} ، لمّا ذكر افتقار الموجودات إليه ، وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره ، قال بعد ذلك : {ذلك بأن الله هو الحق} ، نبه بهذا على أن كل ما سواه ، وإن كان موجودًا ؛ فإنه لا حقيقة له من نفسه ؛ لأنه مسخر ومُصَرفٌ ، والحق الحقيقي هو الموجود المطلق ، الغني المطلق ، وإنَّ وجود كل موجود من وجوب وجوده ، ولهذا قال في آخر السورة : {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحَجّ : 62] ، والحق هو الوجود الثابت ، الذي لا يزول ولا يتغير ، وهو الله تعالى. ثم قال عن الزجاج : {ذلك} في موضع رفع ، أي : الأمر ما وُصِفَ لكم وبُيِّن ؛
395
لأن الله تعالى هو الحق ، ويجوز كونه في مَوْضِع نصب ، أي : فعل ذلك بأن الله هو الحق ، قادر على ما أراد. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 394
(4/590)
وذلك أيضًا شاهد بأنه {يُحيي الموتى} كما أحيا الأرض ، مرة بعد أخرى ، {وأنه على كل شيء قدير} أي : مبالغ في القدرة ، وإلاَّ لَمَا أوجد هذه الموجودات الفائتة الحصر. وتخصيص إحياء الموتى بالذكر ، مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها ؛ للتصريح بما فيه النزاع ، وللطعن في نحور المنكرين. {وأنَّ الساعة آتيةً} : قادمة عليكم ، {لا ريبَ فيها} ، وإيثار اسم الفاعل على الفعل ؛ للدلالة على تحقق إتيانها وتقريره ألْبَتَّةَ. ومعنى نفي الريب عنها : أنها ، في ظهور أمرها ووضوح دلائلها ، بحيث ليس فيها مظنة الريب ، {وأنَّ الله يبعثُ من في القبور} ؛ لأنه تعالى حكم بذلك ووعد به ، وهو لا يخلف الميعاد ، والتعبير بـ " من في القبور " : خرج مخرج الغالب ، وإلاَّ فهو يبعث كل من يموت. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة : يا أيها الناس المنكرون لوجود التربية النبوية ، وظهور أهل الخصوصية في زمانهم ، الذين يحيي الله الأرواح الميتة ، بالجهل والغفلة ، على أيديهم ؛ إن كنتم في ريب من هذا البعث فانظروا إلى أصل نشأتكم وتنقلات أطواركم ، فمن فعل ذلك وقدر عليه ، قدر أن يحيي النفوس الميتة بالغفلة في كل زمان. وفي الحِكَم : " من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يُخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شيء مقتدرًا ". وجرت عادته أنه لا يحييها في الغالب إلا على أيدي أهل الخصوصية. وترى أرض النفوس هامدة ميتة بالغفلة ، فإذا أنزلنا عليها ماء الحياة ، وهي الواردات الإلهية ، وأسقيناها الخمرة القدسية ، اهتزت فرحًا بالله ، وربت ، وارتفعت بالعلم بالله ، وأنبتت من أصناف العلوم والحكم ، ما تَبْهَجُ منه العقول ، ذلك شاهد بوحدانية الحق ، وأن ما سواه باطل. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 394
(4/591)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ومن الناس من يُجادل في الله} أي : في شأنه ، فيصفه بغير ما هو أهله ، وهو أبو جهل ، كما قال ابن عباس رضي الله عنه ، وقيل : هو من يتصدى لإضلال الناس ، كائنًا من كان. حال كونه {بغير علم} ، بل بجهل وهوىً. والمراد بالعلم : الضروري ، كما أن المراد بالهدى في قوله : {ولا هُدىً} : هو الاستدلال والنظر الصحيح ، الهادي إلى المعرفة. {ولا كتابٍ منير} أي : وحي يستند إليه ، والحجة
396
إنما تقوم بأحد هذه الثلاثة ، أي : يجادل في شأنه تعالى ، من غير تمسك بمقدمة ضرورية ، ولا بحجة نظرية ، ولا برهان سمعي.
حال كونه {ثانِيَ عِطْفِه} أي : لاويًا عُنُقَهُ عن طاعة الله ؛ كبرًا وعُتوًا ، أو عاطفًا بجانبه ، وطاويًا كَشْحَهُ ، معرضًا متكبرًا ، فثنْي العطف كناية عن التكبر. وقرأ الحسن بفتح العين ، أي : مانعًا تعطفه على المساكين ؛ قسوةً. فعل ذلك الجدال {ليضلَّ عن سبيل الله} أي : ليضل الناس عن سبيل الله ؛ فإنَّ غرضه بالمجادلة إضلال المؤمنين ، أو جميع الناس ، وقرأ المكي وأبو عمر : بفتح الياء ، أي : ليصير ضالاً عن سبيل الله. وجعل ضلاله غاية لجداله ، من حيث إن المراد به الضلال المبين ، الذي لا هداية بعده ، مع تمكنه منها قبل ذلك ، أي : ليرسخ في الضلالة أيّ رسوخ ، {له في الدنيا خِزيٌ} : هوان وذُل ، وهو القتل يوم بدر ، وهو بيانُ نتيجةِ ما سلكه من الطريقة ، أي : يثبت له ، بسبب ما فعل ، خزي وصغار ، وهو ما أصابه ببدر ، {ونُذِيقه يومَ القيامة عذابَ الحريق} أي : النار المحرقة.
(4/592)
{ذلك} أي : ما ذكر من العذاب الدنيوي والأخروي. وما في الإشارة من البُعد ؛ للإيذان بكونه في الغاية القاصية من الهول والفظاعة ، أي : ذلك العذاب الهائل {بما قدمتْ يداك} أي : بسبب ما اقترفْتَهُ من الكفر والمعاصي. وإسناده إلى يديه ؛ لأن الاكتساب في الغالب بهما. والالتفات ؛ لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد. أو يقال له يوم القيامة : {ذلك بما قدمت يداك وأنَّ الله ليس بظلام للعبيد} ، فلا يأخذ أحدًا بغير ذنب ولا بذنب غيره. وهو خبر عن مضمر ، أي : والأمر أنَّ الله ليس بمعذبٍ لعبيده بغير ذنب ، وأما عطفه على " بما " فغير سديد ، ولفظ المبالغة ؛ لاقترانه بلفظ الجمع في العبيد ، ولأن قليل الظلم منه ، مع علمه بقبحه واستغنائه عنه ، كالكثير منا. قاله النسفي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 396
وقِيل : {ظلام} : بمعنى : ذي ظلم ، فتكون الصيغة للنَّسَبِ. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم ، مع أن تعذيبهم بغير ذنب ، ليس بظلم قطعًا ، على ما تقرر في مذهب أهل السنة ، فضلاً عن كونه ظلمًا بالغًا ؛ لأن الحق تعالى إنما يُظهر لنا كمال العدل ، وغاية التنزيه ، وإن كان في نفس الأمر جائز أن يعذب عباده بلا ذنب ، ولا يسمى ظلمًا ؛ لأنه تصرف في ملكه ، لكنه تعالى لم يظهر لنا في عالم الشهادة إلا كمال العدل. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من يخاصم في طريق القوم ، وينفيها عن أهلها ، إما أن يكون تقليدًا ، وهو ما تقدم ، أو يكون تكبرًا وعتوًا ، بحيث لم يرض أن يحط رأسه لهم ، وهو ما أشير إليه هنا. ولا شك أن المتكبر لا بد أن يلحقه ذل ، ولو عند الموت. ويوم القيامة يُحشر صاغرًا كالذر ، كما في الحديث. والله تعالى أعلم.
397
جزء : 4 رقم الصفحة : 396
(4/593)
قلت : {لَمَن ضره} : قال ابن عطية : جرى فيه إشكال ؛ وهو دخول اللام على " مَنْ " ، وهو في الظاهر مفعول ، واللام لا تدخل على المفعول. وأجيب بثلاثة أوجه ؛ أحدها : أن اللام متقدمة على موضعها ، والأصل أن يقال : يدعو مَنْ لَضَرُّهُ أقرب ، فموضعها الدخول على المبتدأ ، وثانيها : أنَّ {يدعوا} تأكيد ليدعو الأول ، وتم الكلام عنده ، ثم ابتدأ قوله : {لَمَن ضره} ، فمن مبتدأ ، وخبره : {لبئس المولى} - قلت - : وإياه اعتمد الهبطي في وقفه ، وثالثها : أن معنى {يدعو} : يقول يوم القيامة هذا الكلام ، إذا رأى مضرة الأصنام ، فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام. هـ.
قلت والأقرب ما قاله الزجاج ، وهو : أن مفعول {يدعو} محذوف ، ويكون ضميرًا يعود على الضلال ، وجملة : {يدعو} : حال ، والمعنى : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه ، أي : حال كونه مدعوًا له ، ويكون قوله : {لمن ضره} مستأنفًا مبتدأ ، خبره : {لبئس المولى}. نقله المحشي. وحكم المحلي بزيادة اللام.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ} أي : على طرف من الدين لا ثبات له فيه ، كالذي ينحرف إلى طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قرَّ ، وإلا فر. وفي البخاري عن ابن عباس : " كان الرجل يَقدمُ المدينة ، فإن ولدت امرأتُهُ غلامًا ونُتجَتْ خَيْلُه ، قال : هذا دينٌ صالح ، وإن لم تَلِد امرأته ، ولم تنتج خيلُه ، قال : هذا الدين سُوء ". وكأن الحق تعالى سلك في الآية مسلك التدلي ، بدأ بالكافر المصمم ، يجادل جدالاً مجملاً ، يتبع فيه كل شيطان مريد. والثاني : مقلد مجادل ، من غير دليل ولا برهان ، والثالث : كافر أسلم إسلامًا ضعيفًا. ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم ، بقوله : {إن الله يدخل الذين آمنوا...} الآية.
(4/594)
ثم كمَّل حال المذبذب بقوله : {فإِن أصابه خيرٌ} أي : دنيوي ؛ من الصحة في البدن ، والسعة في المعيشة ، {اطمأن به} أي : ثبت على ما كان عليه ظاهرًا ، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين ، الذين لا يلويهم عنه صارف ، ولا يثنيهم عنه عاطف. {وإِن أصابته فتنةٌ} : بلاء في جسده ، وضيق في معيشته ، أو شيء يفتتن به ، من مكروه يعتريه
397
في بدنه أو أهله أو ماله ، {انقلب على وجهه} أي : ارتد ورجع إلى الكفر ، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل. أو انقلب على جهته التي كان عليها. وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، مهاجرين ، فكان أحدهم إذا صحَّ بدنه ونتجَتْ فَرَسُه مُهْرًا سريًا ، وولدت امرأته غلامًا سويًا ، وكَثُرَ مالُه وماشيته ، قال : ما أصبتُ ، مذ دخلت في ديني هذا ، إلا خيرًا ، واطمأن ، وإن كان الأمر خلافه ، قال : ما أصبتُ إلا شرًّا ، وانقلب عن دينه. وعن أبي سعيد رضي الله عنه : أَنَّ يهُوديًا أَسْلَمَ فَأَصابَتْهُ مَصَائبُ ، وتَشَاءَمَ بالإِسْلامِ ، فَأَتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَال : أَقِلْنِي ، فقال : " إنَّ الإسْلاَمَ لا يُقالُ " فَنَزلت.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 397
خَسِرَ الدنيا والآخرة} : فَقَدَهُما ، وضيعهما ؛ بذهاب عصمته ، وحبوط عمله بالارتداد. وقرأ يعقوب : خاسر ، على حال. {ذلك هو الخسران المبين} ؛ الواضح ، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله.
ثم بيَّن وجه خسرانه بقوله : {يدعو} أي : يعبد {مِن دون الله} أي : متجاوزًا عنه تعالى ، {ما لا يضرُّه} إذا لم يعبده ، {وما لا ينفعه} إذا عبده. {ذلك} الدعاء {هو الضلالُ البعيد} أي : التلف البعيد عن الحق.
(4/595)
{يدعو} أي : يعبد {لَمَن ضَرُّهُ} أي : الصنم الجامد الذي ضرره {أقربُ من نفعه}. وقرأ ابن مسعود : " يدعو من ضره " ، بحذف اللام. أو : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه. قال ابن جزي : وهنا إشكال : وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع ، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها ، فنفى الضر ثم أثبته ؟ والجواب : أن الضر المنفي أولاً يُراد به ما يكون من فعلها ، وهي لا تفعل شيئًا ، والضر الثاني ، الذي أثبته لها ، يُراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره. هـ. {لبئس المولى} أي : الناصر ، {ولبئس العَشِيرُ} أي : الصاحب. أو يدعو ويصرخ يوم القيامة ، حين يرى استضراره بالأصنام ، ولا يرى لها أثر الشفاعة ، ويقول لِمَنْ ضره أقرب من نفعه : لبئس المولى هو ولبئس العشير. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ومن الناس من يعبد الله على حرف ؛ على طرف من الدين ، غير متمكن فيه ، فإنه أصابه خير ، وهو ما تُسر به النفس من أنواع الجمال ، اطمأن به ، وإن أصابته فتنة ، وهو ما يؤلم النفس وينغص عليها مرادها وشهوتها من أنواع الجلال ، انقلب على وجهه. أو : ومن الناس من يعبد الله على طمع في الجزاء الدنيوي أو الأخروي ، فإن أصابه خير فرح واطمأن به وإن أصابته فتنة سخط وقنط وانقلب على وجهه. أو : ومن الناس من يعبد الله ويسير إليه على حرف ، أي : حالة واحدة ، فإن أصابه خير ؛ كقوة
399
(4/596)
ونشاط وورود حال ؛ اطمأن به وفرح ، وإن أصابته فتنة ؛ كضعف وكسل وذهاب حال ، انقلب على وجهه ، ورجع إلى العمومية ، أو وقف عن السير ، خسر الدنيا والآخرة. خسران الدنيا : ما يفوته من عزّ الله ونصره لأوليائه ، وحلاوة برد الرضا والتسليم ، ولذيذ مشاهدته. وخسران الآخرة : ما يفوته من درجة المقربين ودوام شهود رب العالمين - فالواجب على العبد أن يكون عبدًا لله في جميع الحالات ، لا يختار لنفسه حالاً على حال ، ولا يقف مع مقام ولا حال ، بل يتبع رياح القضاء ، ويدور معها حيث دارت ، ويسير إلى الله في الضعف والقوة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 397
قال بعضهم : سيروا إلى الله عَرْجَى ومكاسير. وفي الحكم : " إلهي ؛ قد علمتُ ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطور أن مرادك مني أن تتعرف إليّ في كل شيء ، حتى لا أجهلك في شيء ". وقال أيضًا : " لا تطلبن بقاء الواردات ، بعد أن بسطت أنوارها ، وأودعت أسرارها ، فلك في الله غنى عن كل شيء ، وليس يغنيك عنه شيء ". فكن عبد المحوِّل ، ولا تكن عبد الحال ، فالحال تَحُولُ وتتغير ، والله تعالى لا يحول ولا يزول ، فكن عبدًا لله ، ولا تكن عبدًا لغيره.
لِكَلِّ شَيء إن فارقْتَهُ عِوَضٌ
وَلَيْسَ لله إنْ فَارقَْتَ مِنْ عِوَض
جزء : 4 رقم الصفحة : 397
(4/597)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِن الله يُدخلُ الذين آمنوا} ، وتمكنوا من الإيمان ، وعبدوا الله وحده في جميع الحالات ، ولم يعبدوه على حرف ، {وعملوا} الأعمال {الصالحات} ، {جناتٍ تجري من تحتها} أي : من تحت قصورها {الأنهارُ} الأربعة. وهذا بيان حال المؤمنين العابدين له تعالى في جميع الحالات ، وأنَّ الله تفضل عليهم ، بما لا غاية وراءه ، إثر بيان سوء حال الكفرة ، من المجاهرين والمذبذبين ، وأنَّ معبودهم لا ينفعهم ، بل يضرهم مضرة عظيمة. ثم قال تعالى : {إِن الله يفعل ما يريد} من الأفعال المتقنة ، المبنية على الحِكَم البالغة الرائقة ، التي من جملتها : إثابة من آمن به ، وصدّق رسوله ، وعبده على كل حال ، وعقابُ من أشرك به ، وكذب رسول الله ، أو عبده على حرف. وبالله التوفيق.
400
الإشارة : إن الله يُدخل الذين آمنوا ، واطمأنوا به ، وعبدوه في جميع الحالات ، وقاموا بعمل العبودية في كل الأوقات ، جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم والحكم ، إن الله يفعل ما يريد ؛ فيقرب هذا ، ويُبعد هذا ، بلا سبب ؛ " جَلَّ حُكْمُ الأزلِ أن يُضَافَ إلى العِلَلِ ". وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 400
يقول الحقّ جلّ جلاله : لا تظنوا أن الله غير ناصر لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ بل هو ناصر له في الدنيا والآخرة لا محالة ، فمن كان {يظن أن لن ينصرهُ الله في الدنيا والآخرة} ، ويغيظه ذلك من أعاديه وحُساده ، ويفعل ما يدفع ذلك ؛ من الخدع والمكائد ، فليبالغ في استفراغ المجهود ، وليجاوز كل حد معهود ، فعاقبة أمره أن يختنق خنقًا من ضلال مساعيه ، وعدم إنتاج مقدماته ومبادئه. {فليمدد بسبب إِلى السماء} أي : فليمدُد حبلاً إلى سقف بيته ، {ثم ليقطع} أي : ليختنق ، من قَطعَ : إذا اختنق ؛ لأنه يقطع نفَسه بحبس مجاريه. أو : ليقطع من الأرض ، بعد ربط الحبل في العنق وربطه في السقف.
(4/598)
{فلينظر هل يُذهِبَنَّ كيدُه} أي : فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك ؛ هل يذهب نصر الله الذي يغيظه بسبب فعله ، وسمى فعله كيدًا ، على سبيل الاستهزاء ؛ لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه. والمراد : ليس في يده إلا ما لَيْسَ بمُذهب لما يغيظه ، فَتَحَصَّل أن الضمير في {ينصره} يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يتقدم ذكره صراحة ، لكنه معهود ؛ إذ الوحي إنما ينزل عليه. وقيل : يعود على {مَن} ، والمعنى على هذا : من ظن - بسبب ضيق صدره ، وكثرة غمه - أن لن ينصره الله ، فليختنق وليمت بغيظه ، فإنه لا يقدر على غير ذلك ، فموجب الاختناق ، على هذا ، القنوطُ والسخط من القضاء ، وسوء الظن بالله تعالى ، حتى يئس من نصره.
قال ابن جزي : وهذا القول أرجح من الأول ؛ لوجهين : أحدهما : أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف ؛ لأنه ، إذا أصابته فتنة ، انقلب وقنط ، حتى ظنّ أن لن ينصره الله. ويؤيده من فسّر {أن لن ينصره الله} أي : لن يرزقه ؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله عزّ وجلّ ، فيكون الكلام ، على هذا ، متصلاً بما قبله. ويؤيده أيضًا : قوله تعالى ، قبله : {إن الله يفعل ما يريد} أي : الأمور بيد الله ، فلا ينبغي لأحد أن يسخط من قضاء الله ، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة ، والوجه الثاني : أن الضمير في " ينصره " ، على هذا ، يعود على ما تقدّمه ذكر ، دون الأول. هـ. وانظر ابن عطية والكواشي ، ففيهما ما يدفع درك ابن جزي ، ورده للأول ، بما في سبب الآية ونزولها من المناسبة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 401
ثم قال تعالى : {وكذلك أنزلناه آيات} أي : ومثل ذلك الإنزال البديع ، المنطوي على الحِكَم البالغة ، أنزلناه ، أي : القرآن الكريم كله ، حال كونه {آيات بيناتٍ}
401
(4/599)
واضحات الدلالة على معانيها الرائقة ، {وأن الله يهدي} به {مَن يريد} هدايته ؛ ابتداء ، أو يثبته على الهُدى دوامًا ، ومحل " أن " : إما الجار ، أي : ولأن الله يهدي ، أو الرفع ، أي : والأمر أن الله يهدي من يريد. الإشارة : من غلبته نفسُه ، وملكته وأسرته في يدها ؛ فدواؤه : الفزع إلى الله ، والاضطرار إليه آناء الليل والنهار ، والمنهاج الواضح في علاجها وقهرها : هو الفزع إلى أولياء الله ، العارفين به ، الذين سلكوا طريق التربية على يد شيخ كامل ، فإذا ظفر بهم ، فليلزم صُحبتهم ، وليتبع طريقهم ، وليسارع إلى فعل كل ما يشيرون به إليه ، من غير تردد ولا توقف ، فهم معناه ، شرعًا ، أم لا ، فلا شك أن الله ينصره ويُؤيده ، ويظفر بنفسه في أسرع مدة. وليس الخبر كالعيان ، وجَرِّبْ... ففي التجريب علم الحقائق ، وكذلك من ابتلي بالوسواس وخواطر السوء في أمر التوحيد ، فليفزع إليه ، حتى يقلعوا من قلبه عروق الشكوك والأوهام ، وتذهب عنه الأمراض والأسقام ، بإشراق شمس العرفان على قلبه ، ويُفضي إلى طريق الذوق والوجدان ، وغير هذا عناء وتعب ، ولو فرض أنه يسكن عنه ذلك ، فلا يذهب عنه بالكلية ، فربما يهيج عليه في وقت الضعف ، عند الموت ، فلا يستطيع دفعه ، فيلقى الله بقلب سقيم. والعياذ بالله.
فإن قلت : هذا الذي دللتني عليه عزيز غريب ، فقد دللتني على عَنقاء مغرب ؟ قلت : والله ، إن حسنت الظن بالله وبعباد الله ، واضطررت إليه اضطرار الظمآن إلى الماء ، لوجدته أقرب إليك من كل شيء. والله ، لقد وجدناهم وظفرنا بهم ، على مناهج الجنيد وأضرابه ، يُغنون بالنظر ، ويسيرون بالمريد حتى يقول له : ها أنت وربك. والمنة لله. فمن ترك ما قلنا له ، وآيس من الدواء ، وظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ، فليمت غيظًا وقنطًا ، فلا يضر إلا نفسه ؛ لأن الله يهدي من يريد ، فيوفقه للدواء ، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 401
(4/600)
قلت : إنَّ {الله يفصل} : خبر " إنَّ " الأولى.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِن الذين آمنوا} بما ذكر من الآيات البينات ، أو بكل ما يجب الإيمان به - فيدخل ما ذكر دخولاً أوليًا - أي : آمنوا بذلك ، بهداية الله وإرادته ، {والذين هادوا والصابئين} ، وهم قوم من النصارى ، اعتزلوهم ، ولبسوا المسوح ، وقيل :
402
أخذوا من دين النصارى شيئًا ، ومن دين اليهود شيئًا ، وهم القائلون بأن للعالم أصلين : نورًا وظلمة ، ويعتقدون تأثير النجوم. {والمجوس} وهم الذين يعبدون النار ، ويقولون : إن الخير من النور ، والشر من الظلمة ، {والذين أشركوا} ، وهم عبدة الأصنام ؛ من العرب وغيرهم ، فهذه ستة أديان ، خمسة للشيطان ، وواحد للرحمن. {إِن الله يفصِلُ بينهم يوم القيامة} ؛ في الأحوال والأماكن ، فلا يجازيهم جزاء واحدًا ، ولا يجمعهم في موطن واحد. أو يحكم بين المؤمنين ، وبين الفرق الخمسة المتفقة على ملة الكفر ، بإظهار المحق من المبطل ، فيُكْرم المحق ويهين المبطل ، {إن الله على كل شيء شهيد} أي : عالم بكل شيء ، مراقب لأحواله ، حافظ له ، مطلع على سره وعقده. ومن قضية الإحاطة بتفاصيل كل فرد من أفراد الفرق المذكورة : إجراء جزائه اللائق عليه ، وهو أبلغ وعيد. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كما يفصل اللهُ يوم القيامة بين الملل المستقيمة والفاسدة ؛ يفصل أيضًا بين أرباب القلوب المستقيمة الصحيحة المعمورة بنور الله ، وبين أرباب القلوب السقيمة الخاربة من النور ، المعمورة بالظلمة من الوساوس والخواطر ، فيرفع الأولين مع المقربين الصديقين ، ويسقط الآخرين في أسفل سافلين ، أو مع عامة أهل اليمين. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 402
(4/601)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ألم ترَ} ، أيها السامع ، أو من يتأتى منه الرؤية ، أي : رؤية علم واستبصار ، أو : يا محمد ، علمًا يقوم مقام العيان ، {أنَّ الله يسجد له} أي : ينقاد إليه انقيادًا تامًا {مَن في السماواتِ} من الملائكة ، {ومن في الأرض} من الإنس والجن والملائكة. ويحتمل أن تكون " من " ؛ عامة للعاقل وغيره ، فيدخل كل ما في السماوات من عجائب المصنوعات ، وكل ما في الأرض من أنواع المخلوقات. ويكون قوله : {والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ} ، من عطف الخاص على العام ؛ لاستبعاد ذلك منها عادة. ويُحتمل أن يكون السجود على حقيقته ، ولكن لا نفقه ذلك ، كما لا نفقه تسبيحهم.
ونقل الكواشي عن أبي العالية : (ما في السماء نجم ، ولا شمس ، ولا قمر ، إلا يقع ساجدًا حين تغيب ، ثم لا ينصرف حتى يُؤذن له). وذكر في صحيح البخاري : " أن
403
الشمس لا تطلع حتى تسجد وتستأذن " وقال مجاهد : (سجود الجبال والشجر والدواب : تَحَوُّلُ ظِلاَلِها). أو سجودُها : طاعتها ؛ فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله تعالى ، خاشع ، يُسبح له. شَبَّه طاعتها له وانقيادها لأمره بسجود المكلف الذي كلٌّ خضوعٌ دونه.
{وكثيرٌ من الناس} يسجد لله تعالى سجود طاعة وعبادة ، {وكثيرٌ حقَّ عليه العذابُ} ؛ حيث امتنع من هذا السجود ، الذي هو سجود عبادة ؛ لكفره وعتوه. قال ابن عرفة قوله : {وكثير} : يحتمل كونه مبتدأ ، ويكون في الآية حذف المقابل ، أي : وكثير من الناس مثاب ، وكثير حق عليه العذاب. فلا يرد سؤال الزمخشري. هـ. وقدَّره غيرُه : وكثير من الناس يسجدون ، وكثير يأبى السجود ؛ فحق عليه العذاب. وقيل : وكثير حق عليه العذاب بإنكاره النبوة ، وإن سجد للصانع ؛ كالفلاسفة واليهود والنصارى. هـ.
(4/602)
{ومَن يُهِنِ اللهُ} ؛ بأن صرفته الشقاوة عن الانقياد لأمره الشرعي ، {فما له من مُكرمٍ} بالسعادة ، أو يوم القيامة ، بل يذل ويهان ، {إن الله يفعل ما يشاء} في ملكه ؛ يُكرم من يشاء بفضله ، ويُهين من يشاء بعدله ، لا معقب لحكمه. اللهم أكرمنا بطاعتك ومحبتك ، واجعلنا منقادين لأمرك وحكمك ، ونعّمنا بحلاوة شهودك ومعرفتك ، إنك على كل شيء قدير. هكذا يُدعى في هذه السجدة. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 403
الإشارة : قد تجلى الحق جلّ جلاله بأسرار ذاته لباطن الأشياء ، وبأنوار صفاته لظاهرها ، فتعرف لكل شيء بأسرار ذاته وأنوار صفاته ، فعرفه كلُّ شيء ، ولذلك سجد له وسبح بحمده. وفي الحِكَم : " أنت الذي تَعَرَّفْتَ لكل شيء ، فما جَهِلَكَ شيءٌ ". فظواهر الأواني ساجدة لأسرار المعاني ، وخاضعة للكبير المتعالي ، ولا يفقه هذا إلا من خاض بحر المعاني ، ولم يقف مع حس الأواني ، ولم يمتنع من الانقياد والخضوع لجلال الحق وكبريائه في الظاهر والباطن ، إلا من أهانه الله من عُصاة بني آدم. ومن يُهن الله فما له من مكرم ، إن الله يفعل ما يشاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 403
قلت : {خصمان} : صفة لمحذوف ، أي : فريقان خصمان ، والمراد : فريق المؤمنين ، وفريق الكفرة بأقسامه الخمسة. وقيل : اسم يقع على الواحد والاثنين والجماعة ، والمراد هنا : الجماعة ، بدليل قوله : {اختصموا} ؛ بالجمع.
(4/603)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {هذان خصمان} أي : مختصمان {اختصموا} أي : فريق المؤمنين والكافرين. وقال ابن عباس رضي الله عنه : (راجع إلى أهل الأديان المذكورة) ؛ فالمؤمنون خَصْمٌ ، وسائرُ الخمسة خصمٌ ، تخاصموا {في ربهم} أي : في شأنه تعالى ، أو في دينه ، أو في ذاته وصفاته. والكل من شؤونه تعالى ، فكل فريق يصحح اعتقاده. ويُبطل اعتقاد خصمه. وقيل : تخاصمت اليهود والمؤمنون ؛ فقالت اليهودُ : نحن أحق بالله وأقدمُ منكم كتابًا ، ونبيُّنا قبل نبيِّكم. وقال المؤمنون : نحن أحقُّ بالله منكم ، آمنا بنبينا ونبيكم ، وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم كفرتم به ؛ حسدًا. وكان أبو ذر يُقسِمُ أنها نزلَتْ في ستة نفر من قريش ، تبارَزوا يوم بَدر ؛ حمزةُ وعليٌّ ، وعبيدة بن الحارث ، مع عتبة ، وشيبة ابني ربيعةَ ، والوليدُ. وقال عليّ رضي الله عنه : إني لأوَّلُ من يجثو بين يدَيِ الله يوم القيامة ؛ للخُصومة. هـ.
ثم بيَّن الفصل بينهم ، المذكور في قوله : {إن الله يفصل بينهم يوم القيامة} ، فقال : {فالذين كفروا} بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، {قُطِّعَت لهم ثيابٌ من نار} أي فصّلت وقُدرت على مقادير جثثهم ، تشتمل عليهم ، كما تقطع الثياب للبوس. وعبَّر بالماضي ؛ لتحقق وقوعه. {يُصَبُّ من فوق رؤوسهم الحميمُ} أي : الماء الحار. عن ابن عباس رضي الله عنه : " لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها ". {يُصهَرُ} : يُذاب {به} أي : بالحميم ، {ما في بطونهم} من الأمعاء والأحشاء ، {والجلودُ} تذاب أيضًا ، فيُؤثر في الظاهر والباطن ، كلما نضجت جلودهم بُدلت. وتقديم ما في الباطن ؛ للإيذان بأن تأثيرها في الباطن أقوى من تأثيرها في الظاهر ، مع أن ملابستها على العكس.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 404
(4/604)
ولهم مقامعُ من حديدٍ} أي : ولتعذيب الكفرة ، أو لأجلهم ، مقامع : جمع مقمعة ، وهي آلة القمع ، أي : سيَاط من حديد ، يُضربون بها. {كُلما أرادوا أن يخرجوا منها} أي : أشرفوا على الخروج من النار ، ودنوا منه ، حسبما رُويَ : أنها تضربهم بلهبها فترفعهم ، حتى إذا كانوا بأعلاها ضُربوا بالمقامع ، فَهَوَوْا فيها سبعين خريفًا. وقوله : {من غَمّ} : بدل اشتمال من ضمير {منها} ؛ بإعادة الجار ، والعائد : محذوف ، أي : كلما
405
أرادوا أن يخرجوا من غم شديد من غمومها {أُعيدوا فيها} أي : في قعرها ، بأن رُدوا من أعاليها إلى أسافلها ، من غير أن يخرجوا منها ، {و} قيل لهم : {ذُوقوا عذابَ الحريق} أي : الغليظ من النار ، العظيم الإحراق.
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر ، وهم أهل الحق ، فقال : {إن الله يُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} ، وغيَّر الأسلوب فيه ، بإسناد الإدخال إلى الله عزّ وجلّ ، وتصدير الجملة بحرف التأكيد ؛ إيذانًا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة ، وإظهارًا لمزيد العناية بحال المؤمنين ، {يُحلَّون فيها} من التحلية ، وهو التزين ، أي : تحليهم الملائكة بأمره تعالى {من أساورَ} أي : بعض أساور : جمع سوار ، {من ذهبٍ} للبيان ، أي يلبسون أساور مصنوعة من ذهب ، {ولؤلؤًا} ، من جَرَّهُ : عَطَفَهُ على {ذهب} ، أو {أساور} ، ومَنْ نَصَبَهُ : فعلى محل {من أساور} ، أي : ويُحَلَّوْنَ لؤلؤًا ، أو بفعل محذوف ، أي : ويُؤْتَوْنَ لؤلؤًا. {ولباسُهُم فيها حريرٌ} : أبريسِمْ ، وغيَّر الأسلوب ، فلم يقل : ويلبسون حريرًا ؛ لأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غَنِيُّ عن البيان ، إذ لا يمكن عراؤهم عنه ، وإنما المحتاج للبيان : أيُّ لباس هو ، بخلاف الأساور واللؤلؤ ، فإنها ليست من اللوازم الضرورية ، فجعل بيان حليتهم بها مقصودًا بالذات. انظر أبا السعود.
(4/605)
{وهُدُوا إِلى الطيب من القول} ، وهو كلمة التوحيد : لا إله إلا الله أو : الحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، بدليل قوله : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فَاطِر : 10]. {وهُدُوا إِلى صراط الحميد} أي : المحمود ، وهو الإسلام. أو : ألهمهم اللهُ في الآخرة أن يقولوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وهداهم فيها إلى طريق الجنة. وقيل : إلى طريق الوصول إلى الله العزيز الحميد ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد اختصم أهل الظاهر مع أهل الباطن في شأن الربوبية ، فقال أهل الظاهر : الحق تعالى لا يُرى في دار الدنيا ، ولا تُمكن معرفته ، إلا من جهة الدليل والبرهان ، على طريق الإيمان بالغيب. وقال أهل الباطن من أكابر الصوفية : الحق تعالى يُرى في هذه الدار ، كما يرى في تلك الدار ، من طريق العرفان ، على نعت الشهود والعيان ، لكن ذلك بعد موت النفوس وحط الرؤوس لأهل التربية النبوية ، فلا يزال يحاذيه ويسير به ، حتى يقول : ها أنت وربك ، فحينئذ تشرق عليه شموسُ العرفان ، فتُغطى عنه وجود حس الأكوان ، فلا يرى حينئذ إلا المكون ، حتى لو كُلف أن يرى غيره لم يستطع ؛ إذ لا غير معه حتى يشهده.
جزء : 4 رقم الصفحة : 404
وقال بعضهم : (مُحال أن تشهده ، وتشهد معه سواه). وفي مناجاة الحكم العطائية : " إلهي ، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غِبْتَ ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟ !
406
(4/606)
ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ ! ". وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : (أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان). وهذه الطريق هي طريق التربية ، لا تنقطع أبدًا ، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة ، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته ، محصورًا في هيكل ذاته ، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان ، يُصب من فوق رأسه ، إلى قلبه ، حَرُّ التدبير والاختيار ، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال ؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات ، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات. ويقال له : ذق عذاب الحريق ، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق.
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص ، جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم ، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل ، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل ، وهُدوا إلى الطيب من القول ، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم ، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية ، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية ، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب ، الحامد المحمود ، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنِّه وكرمه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 404
قلت : خبر {إن} : محذوف ، يدل عليه ما بعده ، أي : الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم ؛ لأنه إذا كان الملحِدُ في الحرم مُعَدَّبًا فالجامع بين الكفر والصد أَولى. ومن رفع {سواء} جعله خبرًا مقدمًا. و {العاكف} : مبتدأ. ومن نصبه : جعله مفعولَ {جعل} ، و {العاكف} فاعل به.
(4/607)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِن الذين كفروا ويَصدون} الناس {عن سبيل الله} ، أي : واستمروا على الصد ، ولذلك حسن عطفه على الماضي ، {و} يصدون أيضًا عن {المسجد الحرام} والدخول فيه ، كأهل مكة مع المسلمين ، {الذي جعلناه للناس} أي : مقامًا ومسكنًا للناس ، كائنًا من كان ، لا فرق فيه بين مكي وآفاقي ، وضعيف وقوي ، حاضر وباد. فإن أُريد بالمسجد الحرام " مكة " ، ففيه دليل على أن دور مكة لا تُباع ، وأن الناس فيها سواء ، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء ، وليس لأحد فيها مِلك. وبه قال
407
أبو حنيفة. وقال مالك وغيره : ليست الدور فيها كالمسجد ، بل هي مُتَمَلَّكَةٌ. وإن أريد به البيت كان نصًا في إباحته لجميع المؤمنين. وهو مجمع عليه.
{سواءً العاكفُ فيه} أي : مستوٍ المقيم فيه {والباد} ، أي : المسافر من أهل البادية ، {من يُرِدْ فيه} أي : في المسجد ، إحداث شيء {بإِلحادٍ} أي : بسبب ميل عن القصد ، {بظُلم} ، وهما حالان مترادفان ، أي : ومن يرد فيه إحداث شيء ؛ مائلاً عن الحق ، ظالمًا فيه ، {نذِقْهُ من عذابٍ أليم} في الآخرة. وكل من ارتكب فيه ذنبًا فهو كذلك.
{و} اذكر يا محمد {إِذْ بوّأنا} : حين هيأنا {لإبراهيم مكانَ البيت} وعيناه له ، حتى بناه في مكانه مسامتًا للبيت المعمور ، حيث كان بناه آدم عليه السلام ، وقد كان رُفع إلى السماء الرابعة ، أيام الطوفان ، وكان من ياقوتة حمراء ، فأعلم اللهُ إبراهيم مكانه ، بريح أرسلها ، يقال لها : الخَجُوح ، فكنست مكان البيت ، وقيل : سحابة على قدر البيت ، وقيل : كلمته ، وقالت له : ابنِ على قَدري. هـ. فبناه على أساسه القديم ، وفي ابن حجر : أنه جعل طوله في السماء تسعة أذرع ، ودوره في الأرض ثلاثين ذراعًا بذراعه. وأدخل الحِجْر في البيت ، وكان قبل ذلك لغنم إسماعيل. وبنى الحجارة بعضها على بعض ، أي : بلا تراب ، ولم يجعل له سقفًا ، وحفر له بئرًا ، عند بابه خزانة للبيت ، يُلقي ما يهدى له. هـ.
(4/608)
جزء : 4 رقم الصفحة : 407
رُوِيَ أن الكعبة الشريفة بُنيت خمس مرات ، إحداها : بنتها الملائكة ، وكانت من ياقوتة حمراء ، ثم رُفعت أيام الطوفان. والثانية : بناها إبراهيم عليه السلام ، وقيل : إن جُرهم كانت بنتها قبله ، ثم هدمت ، ويدل عليه : التجاء عادٍ إليها ، حين نزل بهم القحط. فأرسل الله عليهم الريح ، وكان ذلك قبل إبراهيم عليه السلام ، والثالثة : بنتها قريش ، وقد حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة. والرابعة : بناها ابن الزبير ، والخامسة : الحجاج.
ثم قال تعالى : {أن لا تُشرك} أي : وقلنا له : ألا تشرك {بي شيئًا} ، بل خلص عملك في بنائها وغيره ، من شوائب حظ النفس ، عاجلاً وآجلاً ، لا طَمَعًا في جزاء ، ولا خوفًا من عقوبة ، بل محبة وشكرًا وعبودية. قال القشيري : أي : لا تلاحظ البيت ولا بنيانك. هـ. وقيل : في الآية طعن على من أشرك من قُطَّان البيت ، أي : هذا الشرط كان على أبيكم فمَنْ بعده وأنتم ، فلم تقبلوه ، بل أشركتم وصددتم وألحدتم ، فاستحققتم التوبيخ والذم على سلوككم على غير طريق أبيكم.
{وطهِّرْ بيتيَ} من الأصنام والأقذار ، {للطائفين} به {والقائمين} للصلاة فيه ، أو المقيمين فيه ، {والركَّع السجود} أي : المصلين ، جمعًا من راكع وساجد. والله تعالى أعلم.
408
(4/609)
الإشارة : إن الذين كفروا بطريق الخصوصية ، ويصدون الناس عن الدخول فيها ، ويُعوقونهم عن مسجد الحضرة ، الذي جعله للناس محلاً تسكن فيه قلوبهم ، وتعشش فيه أرواحهم. فكل من قصده وباع نفسه وقلبه لله ، وصله ودخله ، وهو محل المشاهدة والمكالمة ، والمساررة والمناجاة ، محل شهود الحبيب والمساررة مع القريب ، محل نزهة الأفكار في فضاء الشهود والاستبصار ، فمن عاق عنها نُذقه من عذاب أليم. وقوله تعالى : {سواء العاكفُ فيه الباد} ، قال القشيري : فيه إشارة إلى أن التفاوت إنما يكون في الطريق ، وأما بعد الوصول ، فلا تفاوت. ثم إذا اجتمعت النفوس ، فالموضع الواحد مجمعها ، ولكن لكلٍّ حالٌ يُعرف به. هـ. قلت : مقام التوحيد الخاص ، وهو الفناء ، هو محل الاجتماع ، وتتفاوت بعد ذلك أذواقهم ومواجيدهم ، وازدياد كشوفاتهم وترقياتهم ، تفاوتًا بعيدًا ، على حسب التفرغ والانقطاع ، والتأهب والاتباع ، حسبما سبقت به القسمة الأزلية.
(4/610)
وقال الورتجبي ، على قوله تعالى : {وإذ بوأنا...} الآية : هيأ لخليله وجميع أحبائه بيته ، ودلَّه إلى ما فيه من الكرامات والآيات ، وما ألبسه من أنوار حضرته ؛ ليكون وسيلة لعبادته ، ومرآة لأنوار آياته. هـ. قلت : الإشارة بالبيت إلى القلب ؛ لأنه بيت الرب ، أي : هيأنا لإبراهيم مكان قلبه ؛ لمشاهدة أسرار جبروتنا وأنوار ملكوتنا ، ليكون من المُوقنين بشهود ذاتنا ، وقلنا له : لا تشرك بنا شيئًا من السِّوى ، ولا ترى معنا غيرنا ، وطهِّر بيتي ، الذي هو القلب ، من الأغيار والأكدار ، ليكون محلاً للطائفين به من الواردات والأنوار ، والعاكفين فيه من المشاهدات والأسرار ، والركع السجود من القلوب التي تواجهك بالتعظيم والانكسار ، فإنَّ قلبَ العارف كعبة للواردات والأسرار ، ومحل حج قلوب الصالحين والأبرار. وفي بعض الأثر : " يا داود ؛ طهر لي بيتًا أسكنه ، فقال : يا رب... وأيُّ بيت يسعك ؟ فقال : لم يسعني أرضي ولا سمائي. ووسعني قلب عبدي المؤمن ". وفيه عند أهل الحديث كلام. ووسعه للربوبية بالعلم والمعرفة الخاصة. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 407
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىا كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِيا أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىا مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ...}
409
(4/611)
قلت : {وعلى كل ضامر} : حال معطوفة على حال ، أي : يأتوك حال كونهم رجالاً وركبانًا. و {يأتين} : صفة لكل ضامر ؛ لأنه في معنى الجمع. وقرأ عبد الله : " يأتون " ، صفة لرجال. و {رجال} : جمع راجل ؛ كقائم وقيام.
يقول الحقّ جل جلاله : لإبراهيم عليه السلام : {وأذِّن في الناس بالحج} أي : نادِ فيهم ليحجوا. رُوي : أنه عليه السلام صعد أبا قبيس ، فقال : يا أيها الناس ، حجوا بيت ربكم ، فأسمعه الله تعالى الأرواح ، فأجاب من قُدِّر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك. {يأتوك} إن أذنت {رجالاً} أي : مشاةً {و} ركبانًا {على كل ضامر} أي : بعير مهزول ، أتعبه بُعدُ الشُقة ، فهزّله ، أو زاد هزاله. وقدّم الرجال على الركبان ؛ لفضيلة المشاة ، كما ورد في الحديث {يأتين} تلك الضوامر بركبانها ، {من كل فج} ؛ طريق {عميق} ؛ بعيد. قال محمد بن ياسين : قال لي شيخٌ في الطواف : من أين أنت ؟ فقلت : من خُراسان. فقال : كم بينك وبين البيت ؟ فقلت : مسيرة شهرين أو ثلاثة. قال : فأنتم جيران البيت. فقلتُ : وأنت من أين سَعيت ؟ فقال : من مسيرة خمس سنوات ، وخرجت وأنا شاب ، فاكتهلت. فقلت : هذه واللهِ هي الطاعة الجميلة ، والمحبة الصادقة ، فضحك. وقال :
زُرْ مَن هَوَيْتَ وإن شطتْ بِكَ الدارُ
وحالَ من دُونه حُجُبٌ وأستارُ
جزء : 4 رقم الصفحة : 409
لا يَمْنََعَنَّكَ بُعْدٌ عنْ زِيارته
إنَّ المُحب لمنْ يهواه زوَّارُ
(4/612)
{ليشهدوا منافعَ لهم} أي : يأتوك ليحضروا منافع لهم ، دنيوية ودينية ، لا تُوجد في غير هذه العبادة ؛ كالطواف ونظر الكعبة ، وتضعيف أمر الصلاة ؛ لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم ، أو بالمال ، وقد اشتمل الحج عليهما ، مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال ، وقطع الأسباب وقطيعة الأصحاب ، وهجرة البلاد والأوطان ، ومفارقة الأهل والولدان. ولذلك ورد أنه يُكفر الذنوب كلها ، كما في الحديث : " مَنْ حَجَّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجعَ من ذُنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " {ويذكروا اسمَ الله} عند ذبح الضحايا والهدايا {في أيام معدوداتٍ} ، وهي أيام النحر عند مالك ، وعند الشافعي : اليوم الأول والثاني والثالث ؛ لأن هذه هي أيام الضحايا عنده. ولم يجز ذبحها بالليل ؛ لقوله : {في أيام}. وقال أبو حنيفة : الأيام المعلومات : عشر ذي الحجة ويوم النحر ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه ، وأما الأيام المعدودات ، فهي : الثلاثة بعد يوم النحر - فيوم النحر معلوم لا معدود - ، ورابعه : معدود
410
لا معلوم ، واليومان بعده : معلومان ومعدودان. فيذكروا اسم الله {على ما رزقهم} أي : على ذبح ما رزقهم {من بهيمة الأنعام} ، وهي الإبل والبقر والغنم ، {فكُلُوا منها} ؛ من لحومها ، والأمر : للإباحة ، ولإزاحة ما كانت عليه الجاهلية من التحرج.
قال ابن جزي : ويُستحب أن يأكل الأقل من الضحايا ، ويتصدق بالأكثر. هـ. وقال النسفي : ويجوز الأكل من هَدي التطوع والمتعة والقِران ؛ لأنه دم نسك ؛ لأنه أشبه الأضحية ، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا. هـ. وهو حنفي ، وفي مذهب مالك تفصيل يطول ذكره.
{وأطعموا البائسَ} ، وهو الذي أصابه البؤس ، أي : ضرر الحاجة ، وقيل : المتعفف ، وقيل : الذي يظهر عليه أثر الجوع ، {الفقير} : المحتاج الذي أضعفه الإعسار.
(4/613)
{ثم لْيَقْضُوا تَفَثَهم} أي : ليزيلوا عنهم أدرانهم ، قاله نفطويه. وقيل : قضاء التفث : قصُ الشارب والأظافر ، ونتف الإبط ، والاستحداد ، وسائر خصال الفطرة. وهذا بعد أن يُحلوا من الحج ؛ التحلل الأصغر بالنحر. {ولْيُوفُوا نذورَهم} أي : ما ينذرونه من البر في الحج وغيره ، وقيل : مواجب حجهم من فعل أركانه ، {وليَطّوفوا} طواف الإفاضة ، الذي هو ركن لا يُجبر بالدم ، وبه يتم الحج ، ويكون {بالبيت العتيق} : القديم ؛ لأنه أول بيت وضع للناس ، بناه آدم ثم جدَّده إبراهيم ، أو الكريم ، ومنه : عتاق الخيل لكرائمها ، أو : لأنه عتق من الغرق ، أو من أيدي الجبابرة ، فكم من جبار رام هدمه فمنعه الله منه. وقيل : عتيق لم يملكه أحد قطُّ ، وهو مَطاف أهل الغبراء ، كما أن البيت المعمور مطاف أهل السماء.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 409
ذلك} أي : الأمر ذلك ، وهذا من فضل الكلام ، كما يقدم الكاتبُ جملة من الكلام ، ثم يقول : هذا ، وقد كان كذا وكذا وكذا ، إذا أراد أن يخرج من كلام إلى كلام آخر ، وإن كان له تعلق بما قبله. والكلام هنا متصل بتعظيم حرمات البيت ، فقال : {ومن يعظِّم حُرمات الله} ، جمع حرمة ، وهو ما لا يحل هتكه من الشريعة ، فيدخل ما يتعلق بالحج دخولاً أوليًا ، وقيل : حرمات الله : البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام. وقيل : المحافظة على الفرائض والسنن واجتناب المعاصي ، {فهو خيرٌ له} أي : فالتعظيم خير له ثوابًا {عند ربه} ، ومعنى التعظيم : العلم بوجوب مراعاتها ، والعمل بموجبه ، والاهتمام بشأنه والتأدب معه. والله تعالى أعلم.
(4/614)
الإشارة : قوله تعالى : {ثم ليقضوا تفثهم} ، قال القشيري : أي : حوائجهم ، ويحققوا عهودهم ، ويُوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم ، فَمَنْ كان عقدُه التوبةَ ؛ فوفاؤه ألاَّ يرجعَ إلى العصيان ، ومَنْ كان عَهْدُه اعتناقَ الطاعةِ ، فَشَرْطُ وفائه ترك تقصيره ، ومن كان عهدُه ألاَّ يرجع إلى طلب مقامٍ وتطلع إكرامٍ ، فوفاؤه استقامته على الجملة ، التي
411
دخل عليها في هذه الطريق ، بألا يرجع إلى استعجال نصيبٍ واقتضاءِ حظ. هـ. قلت : ومن كان عقده الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس ، فوفاؤه ألا يرجع عن صحبة من سقاه خمرة المحبة ، وحمله إلى درجة المعرفة. ثم قال : ومَنْ عاهد الله بقلبه ، ثم لا يفي بذلك ، فهو من جملة قول الزور. هـ. وهو أيضًا ليس بمُعَظِّمٍ لحرمات الله ، حيث طلبها ثم تهاون وتركها. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان الإحرام يُحرم لحوم الصيد ، فربما يتوهم أن اللحوم كلها تجتنب ، رفعَ ذلك الإبهام ، فقال :
{... وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىا عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وأُحِلتْ لكم الأنعامُ} أي : أكلها ، {إِلا ما يُتلىَ} أي : سيتلى {عليكم} منها في آية المائدة ، كالميتة والموقوذة وأخواتهما. والمعنى : إن الله قد أحل لكم الأنعام إلاَّ ما بيَّن في كتابه ، فحافظوا على حدوده ، ولا تُحرِّموا شيئًا مما أحلَّ لكم ، كتحريم البحيرة وما معها ، ولا تُحلوا ما حرَّم ، كإحلال المشركين الميتة والموقوذة وغيرهما.
جزء : 4 رقم الصفحة : 409
(4/615)
ثم نهى عن الأوثان التي كانوا يذبحون لها ، فقال : {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} ؛ لأن ذلك من تعظيم حرمات الله ، و {من} : للبيان ، أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. والرجس : كل ما يستقذر من الخبث ، وسمى الأوثان رجسًا على طريقة التشبيه ، أي : فكما تنفرون بطباعكم من الرجس ، فعليكم أن تنفروا عنها. والمراد : النهي عن عبادتها ، أو عن الذبح تقربًا لها. {واجتنبوا قولَ الزُّور} ، وهو تعميم بعد تخصيص ، فإنَّ عبادة الأوثان رأس الزور ، ويدخل فيه الكذب والبهتان وشهادة الزور. وقيل : المراد شهادة الزور فقط ، لِمَا رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " عَدلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِاللهِ تعالى " ثلاثًا ، وتلى هذه الآية. والزور من الزّور ، وهو الانحراف والميل ؛ لأن صاحبه ينحرف عن الحق ، ولا شك أن الشرك داخل في الزور ؛ لأن المشرك يزعم أن الوثن تحق له العبادة ، وهو باطل وزور.
ثم قال تعالى : {حنفاءَ لله} : مائلين عن كل دين زائغ إلى دين الحق ، مخلصين لله ، {غير مشركين به} شيئًا من الأشياء ، {ومن يُشرك بالله} ، أظهر الاسم الجليل ؛
412
لإظهار كمال قبح الشرك ، {فكأنما خَرَّ} : سقط {من السماء} إلى الأرض ؛ لأنه يسقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر. وقيل : هو إشارة إلى ما يكون له حين يصعد بروحه عند الموت ، فتطرح من السماء إلى الأرض. قاله ابن البنا. {فتخطفه الطير} أي : تتناوله بسرعة ، فالخطف والاختطاف : تناول الشيء بسرعة ؛ لأن الأهواء المردية كانت توزع أفكاره ، {أو تَهْوِي به الريحُ} أي : تسقطه وتقذفه. والهوى : السقوط. {في مكان سحيق} : بعيد ؛ لأن الشيطان قد طرحه في الضلال والتحير الكبير. والله تعالى أعلم.
(4/616)
الإشارة : جعل الحقُّ تعالى شكرَ النعم أمرين : طهارة الباطن من شرك الميل إلى السِّوى ، ولسانه من زور الدعوى ، وهو الترامي على مراتب الرجال قبل التحقق بها ، حنيفًا موحدًا ، شاكرًا لأنعمه يجتبيه ربه ، ويهديه إلى صراط مستقيم. ومن يشرك بالله ؛ بأن يُحب معه غيره ، فقد سقط عن درجة القرب والتحقيق ، فتخطفه طيور الحظوظ والشهوات ، وتهوي به ريح الهوى ، في مكان سحيق. والعياذ بالله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 409
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ذلك} أي : الأمر ذلك ، أو امتثلوا ذلك ، {ومن يُعَظِّمْ شعائرَ الله} أي : الهدايا ، فإنها معالم الدين وشعائره تعالى ، كما يُنبئ عنه : {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} وتعظيمها : اعتقاد التقرب بها ، وأن يختارها سِمَانًا حسانًا غالية الأثمان ، رُوي " أنه صلى الله عليه وسلم أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةِ ، فِيهَا جَمَلٌ لأَبِي جَهْلٍ ، في أنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَب ". وأن عمر رضي الله عنه - أهدى نجيبة طُلبت منه بثلاثمائة دينار -. وقيل : شعائر الله : مواضع الحج ، كعرفة ومنى والمزدلفة. وتعظيمها : إجلالها وتوقيرها ، والتقصد إليها. وقيل : الشعائر : أمور الدين على الإطلاق ، وتعظيمها : القيام بها ومراعاة آدابها. {فإِنها} أي : فإن تعظيمها {من تقوى القلوب} أي : من أفعال ذوي
413
تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات. أو فإن تعظيمها ناشئ من تقوى القلوب ؛ لأنها مراكز التقوى.
(4/617)
{لكم فيها منافع} ؛ من الركوب عند الحاجة ، ولبنها عند الضرورة ، {إِلى أجل مسمى} ؛ إلى أن تُنحر. ومن قال : شعائر الله : مواضع الحج ، فالمنافع : التجارة فيها والأجر ، والأجل المسمى : الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة. {ثم مَحِلُّها} منتهية {إِلى البيت العتيق} ، قال ابن جزي : من قال : إن الشعائر الهدايا ، فمحلها موضع نحرها ، وهي مِنى ومكة. وخصّ البيت بالذكر ؛ لأنه أشرف الحرم ، وهو المقصود بالهدي. و " ثم " ، على هذا ، ليست للترتيب في الزمان ؛ لأن محلها قبل نحرها ، وإنما هي لترتيب الجمل. ومن قال : إن الشعائر مواضع الحج ، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم ، أي : آخر ذلك كله : الطواف بالبيت ، أي : طواف الإفاضة ؛ إذ به يحل المحرم. هـ. أي : محل شعائر الحج كلها تنتهي إلى الطواف بالبيت ، طواف الإفاضة. ومثله في الموطأ.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 413
ولكلِّ أمة} ؛ جماعة مؤمنة قبلكم ، {جعلنا منسَكًا} أي : مُتَعبدًا وقربانًا يتقربون به إلى الله - عزّ وجلّ - والمنسك - بالفتح - : مصدر ، وبالكسر : اسم موضع النُسك ، أي : لكلٍّ حعلنا عبادة يتعبدون بها ، أو موضع قربان ، يذبحون فيه مناسكهم ، {ليذكروا اسمَ الله} دون غيره ، {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} أي : عند نحرها وذبحها ، {فإِلهكم إِلهٌ واحدٌ} أي : اذكروا على الذبائح اسم الله وحده ؛ فإن إلهكم إله واحد ، {فله أسلِمُوا} أي : فإذا كان إلهكم إلهًا واحدًا ؛ فأخلصوا له التقرب ، أو الذكر خاصة ، واجعلوه له سالمًا ، لا تشوبوه بإشراك.
(4/618)
{وبشر المخبتين} ؛ المطمئنين بذكر الله ، أو المتواضعين ، أو المخلصين ، فإن الإخبات من الوظائف الخاصة بهم. والخَبْتُ : المطمئن من الأرض. وعن ابن عباس رضي الله عنه : هم الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقيل : تفسيره ما بعده ، وهو قوله : {الذين إِذا ذُكرَ اللهُ وجِلَتْ قلوبُهم} : خافت منه ؛ هيبة ؛ لإشراق أشعة جلاله عليها. {والصابرين على ما أصابهم} من مشاق التكاليف ومصائب الزمان والنوائب ، {والمقيمي الصلاة} في أوقاتها ، {ومما رزقناهم يُنفقون} في وجوه الخيرات.
{والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله} أي : من أعلام دينه ، وأضافها إلى نفسه ؛ تعظيمًا لها ، وهي : جمع بدنة ، سميت به ؛ لعظم بدنها ، ويتناول الإبل والبقر والغنم. {لكم فيها خيرٌ} أي : منافع دينية ودنيوية ، النفع في الدنيا ، والأجر في العقبى. {فاذكروا اسم الله عليها} بأن تقولوا عند ذبحها : بسم الله ، اللهم منك وإليك. حال كونها {صوافَّ} أي : قائمات ، قد صففن أيديهن وأرجلهن. {فإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} : سقطت على الأرض ، وسكنت حركتها ، من وجب الحائط وجبة : سقط ، وهي كناية
414
عن الموت. {فكُلُوا منها} إن شئتم {وأطعِمُوا القانعَ} : السائل ، مِنْ : قنع إليه قنوعًا : إذا خضع ، {والمُعْتَرَّ} ؛ الذي يُعَرِّضُ ولا يسأل. وقيل : القانع : الراضي بما عنده وبما يُعطي من غير سؤال ، والمعترَّ : المتعرض للسؤال. {كذلك سخرناها لكم} أي : كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم ، أي : ذللناها لكم ، مع قوتها وعظم أجرامها ؛ لتتمكنوا من نحرها ، {لعلكم تشكرون} أي : لكي تشكروا إنعام الله عليكم.
(4/619)
{لن ينال اللهَ لحومُها} المُتَصَدَّقُ بها ، {ولا دماؤها} المهراقة بالنحر ، أي : لن يصل إلى الله اللحم والدم ، {ولكن ينالُه التقوى منكم} ؛ فإنه هو الذي طلب منكم ، وعليه يحصل الثواب. والمراد : لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء ، وإنما تصلون إليه بالتقوى ، أي : الإخلاص لله ، وقصد وجه الله ، بما تذبحون وتنحرون من الهدايا. فعبَّر عن هذا المعنى بلفظ {ينال} ؛ مبالغةً وتأكيدًا ، كأنه قال : لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله ، وإنما يصل إليه التقوى منكم ، وقيل : كان أهل الجاهلية يلطخون الكعبة بدماء قربانهم ، فهم المسلمون أن يفعلوا مثل ذلك ، فنزلت الآية.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 413
كذلك سخرها لكم} أي : البدن ، وهو تكرير للتذكير والتعليل ، لقوله : {لتكبِّروا الله على ما هداكم} أي : لتعرفوا عظمة الله ، باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره ، فتوحدوه بالكبرياء ؛ شكرًا على هدايته لكم. وقيل : هو التكبير عند الذبح {وبشر المحسنين} : المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم. وبالله التوفيق.
الإشارة : أعظم شعائر الله التي يجب تعظيمها أولياء الله ، الدالين على الله ، ثم الفقراء المتوجهون إلى الله ، ثم العلماء المعلمون أحكام الله ، ثم الصالحون المنتسبون إلى الله ، ثم عامة المؤمنين الذين هم من جملة عباد الله. ويجب تعظيم مَنْ نصبه الله لقيام خطة من الخطط ؛ لإصلاح العباد ؛ كالسلاطين ، ولو لم يعدلوا ، والقضاة والقواد ، والمقدمين لأمور العامة ، فتعظيم هؤلاء كله من تقوى القلوب. ويدخل في ذلك : الأماكن المعظمة ؛ كالمساجد والزوايا ، وأما الفقير فَيُعَظِّمُ كل ما خلق الله حتى الكلاب ، ويتأدب مع كل مخلوق.
(4/620)
وقوله تعالى : {لكم فيها منافع} أي : لكم في هذه التجليات ، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها ، منافع ، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها ، فتزدادوا معرفة وتكميلاً ، إلى أجل مسمى ، وهو مقام التمكين ، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة ، فتكون الأنوار له ، لا هو للأنوار ، لأنه لله لا لشئ دونه ، {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام : 91]. ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة ، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه. وقوله تعالى : {ولكل أمة جعلنا منسكًا} أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة ، والوصول واحد ؛ ولذلك قال : {فإلهكم إله واحد}. وقال القشيري : الشرائعُ مختلفةٌ
415
فيما كان من المعاملات ، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال : ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم ، {فله أسلموا} : اسْتَسلموا لحكمِه ، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ. هـ.
وقوله تعالى : {والبدن...} الآية. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات ، وزمها بالرياضات عن المخالفات ، وفناء الوجود للمشاهدات ، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه ، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق. هـ.
وفي قوله تعالى : {فاذكروا اسم الله عليها صواف} ، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه ، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها ، وظفرتم بها ؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها ؛ لأن النفس ، إذا ماتت ، حييت الروح ، وفاضت عليها العلوم اللدنية ، فكلوا منها ، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى : {لن ينال الله لحومها...} الآية ، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى ، لا يلحق الحق بحق المراد منه ، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته ، ذُبح بسيف شوقه ، مطروح على باب عشقه. قال سهل في قوله : {ولكن يناله التقوى} : هو التبري والإخلاص. هـ.
(4/621)
جزء : 4 رقم الصفحة : 413
قال القشيري : لا عِبْرةً بإظهار الأفعال ، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا ، أو مما يتعلق بالوجهين ، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص ، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود ، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار ، صَلُحَتْ للقبول ، وينال صاحبها القرب ، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال : {لتكبروا الله على ما هداكم} وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع ، {وبشر المحسنين} ، الإحسان ، كما في الخبر : " أنْ تعبد الله كَأنك تراه " وأمارةُ صحته : سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ. هـ. قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر ؛ لأنه طبع بشري ، وإنما يضر ما سكن في القلب.
وقال في الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم ، بل ميل القلب عن حب الدنيا ، وبذلُها ؛ إيثارًا لوجه الله تعالى ، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة ، وإن عاق عن العمل عائق. فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ، والتقوى ها هنا عمل القلب ، من نية القربة ، وإرادة الخير ، وإخلاص القصد لله ، وهو المقصود ، وعمل الظاهر مؤكد له ، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله ؛ فإنَّ الطاعات غذاء القلوب ، والمقصود : لذة السعادة بلقاء الله تعالى ، والتنعم بها ، وذلك فرع محبته والأنس به ، ولا يكون إلاّ بذكره ، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا ، وترك شواغلها والانقطاع عنها. هـ.
416
جزء : 4 رقم الصفحة : 413
(4/622)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِن الله يُدافع} يدفع غائلة المشركين {عن الذين آمنوا} ؛ فلا يقدرون أن يعوقوهم عن شيء من عبادة الله ، بل ينصرهم ويؤيدهم كما قال تعالى : {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [غَافر : 51] ، وصيغة المفاعلة : إمَّا للمبالغة ، أو للدلالة على تكرير الدفع ، فإنها قد تجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين ، فيبقى تكرره من جانب واحد ، كما في المحارسة ، أي : يبالغ في دفع ضرر المشركين وشوكتهم ، التي من جملتها صدهم عن سبيل الله ، مبالغةَ مَن يغالَبُ فيه ، أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى ، بحسب تجرد قصد الإضرار بالمسلمين ، كما في قوله : {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المَائدة : 64]. وقرأ المكي والبصري : " يدفع ".
ثم علّل ذلك الدفع بقوله : {إِن الله لا يُحب كل خَوّانٍ كفور} أي : لأنَّ الله يبغض كل خوان في أمانة الله تعالى ، وهي : أوامره ونواهيه ، ومن أعظمها : الإيمان بالله ورسوله. أو في جميع الأمانات ، كفورٌ لنعم الله. والمعنى : إن الله يدافع عنهم ؛ لأنه يبغض أعداءهم ، وهم : الخونة الكفرة ، الذين يخونون الله والرسول ، ويخونون أماناتهم. وصيغة المبالغة فيها ؛ لبيان أنهم كذلك فيهما ، لا لتقييد البعض بغاية الجناية ؛ فإن الخائن ممقوت مطلقًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إن الله يدفع عن أوليائه ، والمتوجهين إليه ، كل عائق وشاغل ، وغائلة كل غائل ، الذين حازوا ذروة الإيمان ، وقصدوا تحقيق مقام الإحسان. فمن رام صدّهم عن ذلك فهو خائن كفور ، {إن الله لا يحب كل خَوّانٍ كفور}.
جزء : 4 رقم الصفحة : 416
417
قلت : {إلا أن يقولوا} ، قيل : منقطع ، وقال الزمخشري : في محل الجر ، بدل من حق. هـ. وهو على طريق قول الشاعر :
لاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِراعِ الكَتَائِبِ
(4/623)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أُذِنَ} أي : رُخص وشرع ، أو أَذن اللهُ {للذين يُقاتَلون} أي : يُقاتلهم الكفارُ المشركون ، وحذف المأذون فيه ؛ لدلالة " يُقاتَلون " عليه ، أي : في قتالهم ، {بأنهم ظُلموا} أي : بسبب كونهم مظلومين ، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان مشركو مكة يؤذونهم أذىً شديدًا ، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروبٍ ومشجوج ، فيتظلمون إليه ، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصبروا ؛ فإني لم أومر بالقتال " حتى هاجر ، فنزلت هذه الآية. وهي أول آية نزلت في الجهاد ، بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية.
{وإِنّ الله على نصرهم لقديرٌ}. وعدٌ لهم بالنصر ، وتأكيد لِما مرّ من العِدَة الكريمة بالدفع ، وتصريح بأن المراد ليس مجرد تخليصهم من يد المشركين ، بل بغلبتهم وإظهارهم عليهم. وتأكيده بكلمة التحقيق. واللام ؛ لمزيد من تحقيق مضمونه ، وزيادة توطين نفوس المؤمنين.
ثم وصف الذين أَذن لهم ، أو فسرهم ، أو مدحهم بقوله : {الذين أُخرجوا من ديارهم} ، يعني مكة : {بغير حق} ؛ بغير ما يوجب إخراجهم {إلا أن يقولوا ربنا الله} أي : بغير موجب سوى التوحيد ، الذي ينبغي أن يكون موجبًا للإقرار لا للإخراج. ومثله : {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المَائدة : 59].
(4/624)
{ولولا دفعُ اللهِ الناسَ} : لولا أن يدفع الله الناس {بعضهم ببعض} ؛ بتسليط المؤمنين على الكافرين في كل عصر وزمان ، وإقامة الحدود وكف المظالم ، {لهُدِّمت} أي لخربت ؛ باستيلاء الكفرة على الملل ، {صَوَامِعُ} : جمع صومَعة - بفتح الميم - ، وهي : متعبد النصارى والصابئين منهم ، ويسمى أيضًا الدير. وسُمي بها موضع الأذان من الإسلام : {وَبِيَعٌ} : جمع بيعة - بكسر الباء - : كنائس النصارى ، {وصلوات} : كنائس اليهود ، سميت بما يقع فيها ، وأصلها : صلَوتا بالعبرانية ، ثم عُربت ، {ومساجد} للمسلمين ، {يُذْكَرُ فيها اسمُ الله كثيرًا} أي : ذكرًا كثيرًا ، أو وقتًا كثيرًا ، صفة مادحة للمساجد ، خُصت بها ؛ دلالةً على فضلها وفضل أهلها. وقيل يرجع للأربع ، وفيه نظر ؛ فإنَّ ذكر الله تعالى في الصوامع والبيع والكنائس قد انقطع بظهور الإسلام ، فَقَصْدُ بيانِه ،
418
بعد نسخ شرائعها مما لا يقتضيه المقام ، ولا ترتضيه الأفهام. وقدمت الثلاثة على المساجد ؛ لتقدمها وجودًا ، أو لقربها من التهديم.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 417
ولينصرنّ اللهُ مَن ينصره} أي : وتالله ، لينصرن الله من ينصر دينه ونبيه - عليه الصلاة والسلام - وأولياءه. ومن نصرِه : إشهاره وإظهاره ، وتعليمه لمن لا يعلَمه ، وإعزاز حامل لوائه من العلماء والأولياء. وقد أنجز الله وعده ، حيث سلط المهاجرين والأنصارعلى صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، {إِن الله لقوي عزيز} : غالب على ما يريد ، ومن جملته : نصرهم وإعلاؤهم.
(4/625)
ثم وصف الذين أُخرجوا من ديارهم بقوله : {الذين إِن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتُوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهوا عن المنكر} قلت : الصواب ما قاله مكي : أنه بدل مِن : " مَن ينصره " ، في محل نصب. قيل : المراد بهم : الصحابة - رضي الله عنهم - ، وقيل : الأمة كلها. وقيل الخلفاء الأربعة ؛ لأنهم هم الذين مُكِّنوا في الأرض بالخلافة ، وفعلوا ما وصفهم الله به. وفيه دليل صحة أمرِ الخلفاء الراشدين ؛ لأن الله - عزّ وجلّ - أعطاهم التمكين ، ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة. وعن عثمان رضي الله عنه : (هذا ، والله ، ثناء قبل بلاء) ، يعني : أن الله تعالى أثنى عليهم قبل ظهور الشر من الهرج والفتن فيهم. {ولله عاقِبةُ الأمور} ؛ فإنَّ مرجعها إلى حكمه وتقديره فقط. وفيه تأكيد للوعد بإظهار أوليائه وإعلاء كلمته.
الإشارة : إذا اتصل الإنسان بشيخ التربية فقد أذن له في جهاد نفسه ، إن أراد الوصول إلى حضرة ربه ؛ لأنها ظالمة تحول بينه وبين سعادته الأبدية. وإن الله على نصرهم لقدير ؛ لأن هِمَّةَ الشيخ تحمله وتنصره بإذن الله. وأما إن لم يتصل بشيخ التربية ، فإن مجاهدته لنفسه لا تُصيب مَقاتلها ؛ لدخولها تحت الرماية ، فلا يُصيبها ضربه ، وأما الشيخ ؛ فلأنه يريه مساوئها ويعينه على قتلها.
وقوله تعالى : {الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق} ؛ هم الذين أُمروا بقتل نفوسهم ، فإنهم إذا خرقوا عوائد نفوسهم ، وخرجوا عن عوائد الناس ، رفضوهم وأنكروهم ، وربما أخرجوهم من ديارهم ، فقلَّ أن تجد وليًا بقي في وطنه الأول ، وما نقموا منهم وأخرجوهم إلا لقصدهم مولاهم ، وقولهم : ربُّنا الله دون شيء سواه ، فحيث خرجوا عن عوائدهم وقصدوا مولاهم ، أنكروهم وأخرجوهم من أوطانهم ، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض ؛ بأن شفع خيارهم في شرارهم ، لهدمت دعائم الوجود ؛ لأنَّ من آذى وليًا فقد آذن بالحرب.
(4/626)
قال القشيري : {ولولا دفع الله الناس} ، أي : يتجاوز عن الأصاغر لِقَدْرِ الأكابر ؛ استبقاء لمنازل العبادة ، تلك سُنَّة أجراها. ثم قال : {الذين إن مكّناهم في الأرض} ، أي : لم يشتغلوا في ذلك بحظوظٍ ، ولكن قاموا لأداء حقوقنا. هـ.
419
جزء : 4 رقم الصفحة : 417
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإن يُكذبوك} يا مُحمد ، أي : أهل مكة ، فلا تحزن ؛ فلست بأول من كُذب ، {فقد كَذَّبت قبلهم} أي : قبل قومك {قومُ نوح} نوحًا ، {وعادٌ} هودًا ، {وثمودُ} صالحًا ، {وقومُ إِبراهيمَ} إبراهيم ، {وقومُ لوطٍ} لوطًا ، {وأصحابُ مدينَ} شعيبًا ، {وكُذِّب موسى} ؛ كذَّبه فرعونُ والقبط. ولم يقل : وقوم موسى ؛ لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه القبطُ. أو : كأنه لمَّا ذكر تكذيب كلُّ قوم رسولهم ، قال : وكُذِّب موسى ، مع وضوح آياته وظهور معجزاته ، فما ظنك بغيره ؟ {فأمليتُ للكافرين} : أمهلتهم وأخرت عقوبتهم ، {ثم أخذتُهم} : عَاقَبْتُهم على كفرهم ، أي : أخذت كل فريق من فِرَقِ المكذبين ، بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله ، {فكيف كان نكير} أي : إنكاري وتغييري ؛ حيث أبدلتهم بالنعم نقمًا ، وبالحياة هلاكًا ، وبالعمارة خرابًا ، فكان ذلك في غاية ما يكون من الهول والفظاعة.
(4/627)
{فكأيِّن من قريةٍ أهلكناها} أي : كثيرًا من القرى أهلكناها وخربناها بإهلاك أهلها ، {وهي ظالمةٌ} أي : والحال أنها ظالمة بالكفر والمعاصي ، {فهي خاوية} : ساقطة على {عروشها} ، من خوى النجم : سقط. والمعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي : خربت سقوفُها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. ويجوز أن يكون {على عروشها} : خبرًا بعد خبر ، أي : فهي خالية من السكان ، وهي على عروشها ، أي : قائمة مشرفة على السقوف الساقطة. {وبئرٍ مُعَطَّلَةٍ} أي : وكم من بئر متروكة مهملة في البوادي والحواضر ، لا يستسقى منها ؛ لهلاك أهلها مع توفير مائها ، {وقصْرٍ مَشيدٍ} : مرفوع البنيان ، من شاد البنيان : إذا رفعه ، أو مجصّص بالشيد ، أي : الجص ، أي : مبنيًا بالشيد والجندل.
وقال الضحاك : كانت هذه البئر المعطلة بحضرموت ، في بلدة يقال لها : حاضوراء ، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح ، ونجوا من العذاب ، أتوا حضرموت ، ومعهم صالح ، فلما حضروا ذلك الموضع ، مات صالح ، فسُمي حضرموت ؛ لأن صالحًا لما حضره مات ، فبنوا حاضوراء ، وقعدوا على هذه البئر ، فأقاموا دهرًا طويلاً ، وتناسلوا حتى كثروا ، ثم عبدوا الأصنام وكفروا ، فأرسل
420
الله إليهم نبيًا يقال له : " حنظلة بن صفوان " ، فقتلوه فأهلكهم الله ، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 420
وحاصل المعنى : وكم قرية أهلكناها ، وكم بئر عطلناها عن سقاتها ، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنه ، أي : أهلكنا البادية والحاضرة جميعًا ، فخلت القصور عن أربابها ، والآبار عن روادها. فالأظهر أن البئر والقصر على العموم.
(4/628)
الإشارة : ما سلّى به الرسل - عليهم السلام - تسلى به الأولياء - رضوان الله عليهم - فتكذيب أهل الخصوصية سُنَّة ماضية ، غير أن مُكذبي الرسل يُعاجَلون بالعقوبة ، ومكذبي الأولياء يعاقبون بالبعد والحجاب. وقال القشيري : {وبئر معطلة} ، الإشارة إلى العيون المفجرة من بواطنهم ، {وقصر مشيد} ؛ الإشارة إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها ، من الهيبة والأنس وسائر المواجيد. هـ. قلت : وكأنه فسر القرية بالقلب ، وهلاكه : خلاؤه من نور التوحيد ، فقلوب الغافلين خاوية على عروش عقولهم ، المطموس نورها ، وعيون بواطنهم معطلة من الفكرة ، وأسرارهم خاربة من نور النظرة. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 420
قلت : {أفلم} : الفاء عطف على مقدار ؛ أي أَغفلوا فلم يسيروا فيعتبروا ، {فإنها} : ضمير القصة ، أو مبهم يُفسره ما بعده. و {لن يخلف الله وعده} : حالية ، أي : ينكرون مجيء العذاب الموعود ، والحال : أنه تعالى لا يخلف وعده ، أو اعتراضية مُبينة لما ذكر ، و {إنَّ يومًا} : استئنافية ، إن كانت الأولى حالية ، ومعطوفة ، إن كانت اعتراضية سيقت لبيان خطئهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أَفَلَمْ يسيروا في الأرض} فيروا مصارعَ من أهلكهم اللهُ بكفرهم ، ويشاهدوا آثارهم الدارسة وقصورهم الخالية ، وديارهم الخربة ، فيعتبروا. وهو حث لهم على السفر ليشاهدوا ذلك. {فتكون لهم} ؛ بسبب ما شاهدوه من مظان الاعتبار ومواطن الاستبصار {قلوبٌ يعقلون بها} ما يجب أن يُعقل من التوحيد ونحوه ، {أو آذانٌ يسمعون بها} ما يجبُ أن يُسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورُهم من الناس ؛ فإنهم أعرف بحالهم. قال ابن عرفة : لما تضمن الكلام السابق إهلاك الأمم السالفة ، وبقيت آثارهم خرابًا ، عقبه بذم هؤلاء في عدم اتعاظهم بذلك.
421
(4/629)
والسير في الأرض : إمَّا حسي ، أو معنوي باعتبار سماع أخبارها من الغير ، أو قراءتها في الكتب. فقوله : {فتكون لهم قلوب} : راجع للسير الحسي ، وقوله : {أو آذان} للسير المعنوي. هـ.
{فإنها لا تعمى الأبصارُ} الحسية ، {ولكن تعمى القلوبُ} عن التفكر والاعتبار ، أي : ليس الخلل في مشاعرهم ، ولكن الخلل في عقولهم ، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة. وذكر الصدور ؛ للتأكيد ، ونفي توهم التجوز ؛ لأن قلب الشيء : لبه ، فربما يقال : إن القلب يراد به هذا العضو ، ولكل إنسان أربع أعين : عينان في رأسه ، وعينان في قلبه ، وتسمى البصيرة ، فإن انفتح ما في القلب ، وعمي ما في الرأس ؛ فلا يضر ، وإن انفتح ما في الرأس وانطمس ما في القلب لم ينفع ، والتحق بالبهائم ، بل هو أضل.
ثم ذكر علامة عمى القلوب ، وهو الاستهزاء بالوعد الحق ، فقال : {ويستعجلونك بالعذاب} المتوعد به ؛ استهزاء وإنكارًا وتعجيزًا ، {ولن يخلف الله وعده} أي : يستعجلون به ، والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبدًا ، وقد سبق الوعد به ، فمن لا يخلف وعده فلا بد من مجيئه ، ولو بعد حين. {وإِن يومًا عند ربك كألفِ سنةٍ مما تَعدُّون} أي : كيف يستعجلونك بعذاب من يومْ واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم ؛ لأن أيام الشدة طُوال. وقيل : تطول حقيقة ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ الجَنَّةَ قِبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْم ، وذَلِكَ خَمْسِمِائِةِ سَنَةٍ " {وكأيِّن من قريةٍ أمليت لها وهي ظالمةٌ ثم أخذتُها} أي كثيرًا من أهل قرية كانوا ظالمين مثلكم ، قد أمهلتهم حينًا وأمليت لهم ، كما أمليت لكم ، ثم أخذتهم بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال. والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة. {وإِليَّ المصيرُ} أي : المرجع إليَّ ، فلا يفوتني شيء من أمر المستعجلين وغيرهم ، أو : إلى حكمي مَرجع الكل ، لا إلى غيري ، لا استقلالاً ولا شركة ، فأفعل بهم ما يليق بأعمالهم. والله تعالى أعلم.
(4/630)
جزء : 4 رقم الصفحة : 421
الإشارة : عمى القلوب هو انطماس البصيرة ، وعلامة انطماسها أمور : إرسال الجوارح في معاصي الله ، والانهماك في الغفلة عن الله ، والوقيعة في أولياء الله ، والاجتهاد في طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه الله. وفي الحِكَم : " اجتهادك فيما ضمن لك ، وتقصيرك فيما طلب منك ، دليل على انطماس البصيرة منك ". وعلامة فتحها أمور : المسارعة إلى طاعة الله ، واستعمال المجهود في معرفة الله ، بصحبة أولياء الله ، والإعراض عن الدنيا وأهلها ، والأنس بالله ، والغيبة عن كل ما سواه. واعلم أن البصر
422
والبصيرة متقابلان في أصل نشأتهما ، فالبصر لا يُبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة ، والبصيرة لا تُبصر إلا المعاني القديمة الأزلية ، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقًا عن الله ، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة. وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه.
مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ في عمى البصيرة
ومن نظر الكون بالمكون صادق علاج السريرة
(4/631)
وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر ، فانعكس نور البصر إلى البصيرة ، فلا يرى العبدُ إلا أسرار المعاني الأزلية ، المفنية للأواني الحادثة ، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون. وعِلاَجُ انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله ، يقدحها له بمرود التوحيد ، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال ، ثم توحيد الصفات ، ثم توحيد الذات ، حتى تنفتح. فتوحيد الأفعال والصفات يُشهد قُرب الحق من العبد ، وتوحيد الذات يُشهد عدمه لوجود الحق ، وهو الذي أشار إليه في الحكم بقوله : " شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق ، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان ". فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون ، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون. وفي ذلك يقول الحلاج :
قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ
تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا
وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ
إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا
وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِي
تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا
وقال الورتجبي : الجهال يرون الأشياء بأبصار الظواهر ، وقلوبهم محجوبة عن رؤية حقائق الأشياء ، التي تلمع منها أنوار الذات والصفات ، وأعماهم الله بغشاوة الغفلة وغطاء الشهوة. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 421
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قُل} يا محمد : {يا أيها الناس إِنما أنا لكم نذيرٌ مبينٌ} أي : أنذركم إنذارًا مبينًا بما أوحي إليَّ من أخبار الأمم المهلَكة ، من غير أن يكون لي دخل في الإتيان بما توعَدُونه من العذاب الذي تستعجلونه… وإنما لم يقل : نذير وبشير ، مع ذكر الفريقين بعده ؛ لأن الحديث مسوق إلى المشركين فقط. والمراد بالناس :
423
(4/632)
الذين قيل فيهم : {أفلم يسيروا في الأرض} ، ووصفوا بالاستعجال ، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم ؛ زيادة في غيظهم. {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة} لذنوبهم ، {ورزقٌ كريمٌ} أي : حسن ، وهي الجنة. والكريم من كل نعيم : ما يجمع فضائله ويجوز كمالاته.
{والذين سَعَوا} ، يقال : سَعَى في أمر فلان : إذا أفسده بسعيه ، أي : أفسدوا {في آياتنا} أي : القرآن ؛ بسعيهم في إبطاله ، {معاجزين} أي : مسابقين. وقرأ المكي والبصري : " معجّزين ". بالشد ، أي : مُثبطين الناس عن الإيمان. يقال : عاجزه : سابقه ؛ لأنَّ كل واحد منهما يطلب عجز الآخر ، واللحوق به ، فإذا غلبه ، قيل : أعجزه وعجزه. والمعنى : سعوا في معناها بالفساد ؛ من الطعن فيها ، حيث سمُّوها سحرًا وشعرًا وأساطير الأولين ، مسابقين في زعمهم وتقديرهم ، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم. {أولئك أصحابُ الجحيم} أي : ملازمو النار الموقودة. وقيل : هو اسم دركة من دركاتها.
الإشارة : الدعاة إلى الله تعالى إنما شأنهم التحذير والتبشير ، ثم ينظرون ما يفعل الله في ملكه وخلقه ، من هداية أو إضلال ، وليس من شأنهم طلب ظهور المعجزات ، أو الكرامات ، ولا الحرص على هداية الخلق بالكد والاجتهاد ، إنما شأنهم التذكير ، ويردون الأمر إلى الملك القدير ، فلا يتأسفون على من تخلف عنهم.
وكان عليه الصلاة والسلام - يحرص على هداية قومه - ، فلما نهاه الحق تعالى عن ذلك ، رجع وتأدب بكمال العبودية ، وبه اقتدى خلفاؤه من بعده ، فكان صلى الله عليه وسلم في أول أمره يتمنى أن ينزل عليه ما يُقارب بينه وبين قومه ، لعلهم يتدبرون فيما ينزل عليه فيُسلموا ، فقرأ يومًا سُورَةَ النَّجْمِ ، فَأُلقِي في مسامعهم ما يدل على مدح آلهتهم ، فحزن - عليه الصلاة والسلام - حين نسبوا ذلك له.
جزء : 4 رقم الصفحة : 423
(4/633)
قال ابن عباس وغيره من المفسرين الأولين - رضي الله عنهم - : لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مباعدة قومه وتوليهم ، وشق عليه ذلك تمنى أن يأتيه من الله تعالى ما يُقارب بينه وبين قومه ، فجلس يومًا في جمع لهم ، فنزلت سورة النجم ، فقرأها عليهم ، فلما بلغ : {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىا وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىا} [النّجْم : 19 ، 20] ، ألقى الشيطان على
424
لسانه : تلك الغرانيق العُلى وإنْ شفاعتهم لترجى. هـ. قلت : بلى ، ألقى ذلك في مسامعهم فقط ، ولم ينطق بذلك - عليه الصلاة والسلام - فلما سمعت ذلك قريش فرحوا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة ، وسجد المسلمون والمشركون ، إلا الوليد بن المغيرة ، رفع حفنة من التراب وسجد عليه ، فقالت قريش : ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا : قد عرفنا أن الله يُحيي ويميت ، ويخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإذا جعل محمد لها نصيبًا فنحن معه ، فلما أمسى أتاه جبريل. فقال يا محمد ؛ ما صنعتَ فقد تلوتَ على الناس ما لم آتك به ؟ فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا ، فنزلت الآية ؛ تسلية له عليه الصلاة والسلام.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وما أرسلنا من قبلك من رسول} ، يُوحى إليه بشرع ، ويُؤمر بالتبليغِ ، {ولا نبيٍّ} يُوحى إليه ، ولم يُؤمر بالتبليغ ، فالرسول مكلف بغيره ، والنبي مقتصر على نفسه ، أو الرسول : مَن بُعث بشرع جديد ، والنبي : مَنْ قرر شريعة سابقة ، ولذلك شبه صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم ، فالنبي أعم من الرسول ، وقد سئل - عليه الصلاة والسلام - عن الأنبِيَاءِ ، فقال : " مِائَةُ أَلْفٍ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألْفًا ، قِيل : فَكمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ ؟ قال : ثَلاثُمِائةٍ وثلاثَةَ عَشَرَ ، جَمًّا غَفِيرًا "
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 424
(4/634)
إِلاَّ إِذا تَمَنَّى} ؛ هيأ في نفسه ما يهواه ؛ كهداية قومه ومقاربتهم له ، {ألقى الشيطانُ في أُمنيته} ؛ في تشهيه ما يُوجب حصول ما تمناه ، أو مقاربته ، كما ألقى في مسامع قريش ما يُوجب مقاربتهم له - عليه الصلاة والسلام - ثم ينسخ الله ذلك. أو {إذا تمنى} : قرأ ، كما قال الشاعر :
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ
تَمَنَّى دَاوُدَ الزَّبُورَ علَى رِسْلِ
{ألقى الشيطان في أُمنيته} : في قراءته ، حين قرأ سورة النجم بعد قوله : {ومناة الثالثة الأخرى} ، تلك الغرانيق العُلى ، كما تقدم.
قال القشيري : كانت لنبينا صلى الله عليه وسلم سكتات ، في خلال قراءته عند قراءة القرآن ، عند انقضاء كل آية ، فتلفظ الشيطان ببعض الألفاظ ، فمن لم يكن له تحصيل توهم أنه من ألفاظ الرسول. هـ. وقال ابن البنا : التمني هو التلاوة التي يُتمنى فيها ، فيتلو النبي وهو يريد أن يفهم عنه معناها ، فيلقي الشيطان في فهوم السامعين غير المعنى المراد ، وما قال الزمخشري : قرأ تلك الغرانيق العلى ، على جهة السهو والغلط ، فباطل ، لقول الله العظيم :
425
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىا إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىا} [النّجْم : 3 ، 4] ، فهو معصوم من السهو والغلط في تبليغ الوحي. هـ.
(4/635)
قلت : فتحصل أنه - عليه الصلاة والسلام - لم ينطق بتلك الكلمات قط ، لا سهوًا ولا عمدًا ، وإنما أُلقيت في مسامع الكفار ليحصل ما تمناه - عليه الصلاة والسلام - من المقاربة. ويدل على هذا أن من حضر من المسلمين لم يسمعوا من ذلك شيئًا. فإذا تقرر هذا علمت أن ما حكاه السلف الصالح من المفسرين وأهل السير من أصل القصة في سبب نزول الآية صحيح ، لكنه يحتاج إلى نظر دقيق وتأويل قريب ، فلا تَحْسُن المبادرة بالإنكار والرد عليهم ، وهم عدول ، لا سيما حبر هذه الأمة ، وإنما يحتاج اللبيب إلى التطبيق بين المنقول والمعقول ، فإن لم يمكن ، قدَّم المنقول ، إن ثبتت صحته ، وحكم على العقل بالعجز. هذا مذهب المحققين من الصوفية - رضي الله عنهم - ونسبة الإلقاء إلى الشيطان أدب وتشريع ؛ إذ لا فاعل في الحقيقة سواه تعالى.
{فينسخ اللهُ ما يُلقي الشيطانُ} أي : يَذهب به ويُبطله ، أو يُرشد إلى ما يزيحه ، {ثم يُحْكِمُ اللهُ آياته} أي : يُثبتها ويحفظها عن لحوق الزيادة من الشيطان ، {والله عليمٌ حكيم} أي : عليم بما يوحى إلى نبيه ، حكيم في وحيه ، لا يدع الباطل يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 424
ثم ذكر حكمة ذلك الإلقاء ، فقال : {ليجعل ما يُلقي الشيطانُ فتنةً} أي : محنة وابتلاء {للذين في قلوبهم مرضٌ} : شك وشرك ، {والقاسية قلوبهم} ؛ البعيدة من الخير ، الخاربة من النور ، واليابسة الصلبة ، لا رحمة فيها ولا شفقة ؛ وهم المشركون المكذبون ، فيزدادون به شكًا وظلمة. {وإِنَّ الظالمين} وهم الكفرة المتقدمة ، ووضع الظاهر موضع المضمر ؛ تسجيلاً عليهم بالظلم ، {لفي شقاقٍ بعيد} أي : عداوة شديدة ومخالفة تامة بعيدة عن الحق.
(4/636)
{وليعلم الذين أُوتوا العلم} بالله {أنه} أي : القرآن {الحقُّ من ربك} أي : النازل من عنده {فيُؤمنوا به} أي : بالقرآن {فتُخْبتَ} : تطمئن ، أو تخشع {له قلوبُهم} بالانقياد إليه والإذعان لما فيه ، {وإِنَّ الله لهادي الذين آمنوا إِلى صراط مستقيم} بالنظر الموصل إلى الحق الصريح ، فيتأولوا ما تشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ، ويطلبوا ، لما أشكل منه ، المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة ، حتى لا يلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا وقع التعبير من جانب الحق فكل واحد من المستمعين يسمع ما يليق بمقامه ويقويه فيه. فأهل الباطل يسمعون ما يليق بباطلهم ويمدهم فيه ، وأهل الحق يسمعون ما يليق بحقهم ويرقيهم ، فأهل الإيمان يسمعون ما يقوي إيمانهم ويزيدهم يقينًا ، وأهل الوصول يسمعون ما يليق بمقامهم ويرقيهم فيه ، وهكذا. وتأمل قضية الثلاثة الذين
426
سمعوا قائلاً يقول : يا سعترا بري. فسمع أحدهم : اسْعَ تَر بري ، وسمع الآخر : الساعة ترى بري… وسمع الثالث : ما أوسع بري ، فالأول : طالب للوصول ، فقال له : اسع ترى بري ، والثاني : سائر مستشرف على الوصول ، فقال له : الساعة ترى بري ، والثالث : واصل قد اتسع عليه ميدان النعم ، فقال له : ما أوسع بري. وكل من قَدِمَ على الأولياء فإنما يسمع حسب ما عنده ؛ فمن قَدِمَ عليهم بالميزان لا يسمع إلا ما يُبعده ، ومن قَدِمَ بالتصديق والتعظيم لا يسمع ولا يرى إلا ما يُقربه من الكمالات والأنوار. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 424
(4/637)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولا يزال الذين كفروا في مريةٍ} : شك {منه} ؛ من القرآن ، أو الصراط المستقيم ، {حتى تأتيهم الساعةُ بغتةً} : فجأة ، {أو يأتيهم عذاب يومٍ عقيم} ، وهو عذاب يوم القيامة ، كأنه قيل : حتى تأتيهم الساعة أو عذابها ، فزاد " اليوم العقيم " ؛ لمزيد التهويل. واليوم العقيم : الذي لا يوم بعده ، كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام ، فما لا يوم بعده يكون عقيمًا. وقيل : اليوم العقيم : يوم بدر ، فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فَرح أو راحة ، كالريح العقيم ؛ لا تأتي بخير ، أو لأنه لا مثل له في عِظم أمره ؛ لقتال الملائكة فيه ، ولكن لا يساعده ما بعده ، من قوله : {المُلكُ يومئذٍ لله} أي : السلطان القاهر ، والتصرف التام ، يومئذ لله وحده ، ولا منازع له فيه ، ولا تصرف لأحد معه ، لا حقيقة ولا مجازاً ، ولا صورة ولا معنىً ، كما في الدنيا ، فإنَّ للبعض فيه تصرفًا مجازيًا صُوريًا. {يحكم بينهم} أي : بين فريق أهل المرية وأهل الإيمان.
ثم بيّن حكمه فيهم ، فقال : {فالذين آمنوا} بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه ، {وعملوا الصالحات} امتثالاً لما أمر به في تضاعيفه {في جنات النعيم} ، {والذين كفروا} بالقرآن وشكوا فيه ، أو بالبعث والجزاء ، {وكذبوا بآياتنا} الدالة على كمال قدرتنا أو القرآن ، {فأولئك لهم عذابٌ مهين} ، يُهينهم ويُخزيهم.
ثم خص قومًا من الفريق الأول بفضيلة ، فقال : {والذين هاجروا في سبيل الله} : خرجوا من أوطانهم مجاهدين ، {ثم قتلوا} في الجهاد ، {أو ماتوا} حتف أنفهم ،
427
(4/638)
{لَيَرزقنَّهم الله رزقًا حسنًا} ، وهو ما لا ينقطع من نعيم الجنان. ومراتب الحسن متفاوتة ، فيجوز تفاوت حال المرزوقين ، حسب تفاوت أرزاق الجنة. رُوي أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نَبِي الله ؛ هؤُلاَءِ الذين قُتِلُوا في سَبِيل اللهِ قَدْ عَلِمْنَا مَا أعْطَاهُمُ الله مِن الخَيْرِ ، ونَحْنُ نُجَاهِدُ مَعَكَ كَما جَاهَدُوا ، فَمَا لَنَا مَعَكَ ؟ فنزلت : {والذين هاجروا…} الآيتين. وقيل : نزلت في طوائف ، خرجوا من مكة إلى المدينة ، فتبعهم المشركون فقتلوهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 427
ثم قال تعالى : {وإِن الله لهو خير الرازقين} ، فإنه يرزق بغير حساب ، مع أنَّ ما يرزقه لا يقدر عليه غيره ، {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} ، وهو الجنة ؛ لأنَّ فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، قيل : لَمَّا ذكر الرزق ذكر المسكن ، {وإِن الله لعليمٌ حليمٌ} ، عليم بأحوال من قضى نحبه مجاهدًا ، وآمال من مات وهو ينتظره معاهدًا ، حليم بإمهال من قاتلهم معاندًا.
الإشارة : من لم يصحب العارفين أهل الرسوخ واليقين ، لا يمكن أن تنقطع عنه خواطر الشكوك والأوهام ، حتى يلقى الله بقلب سقيم ، فيُفضي إلى الهوان المقيم. والذين هاجروا في طلب محبوبهم لتكميل يقينهم ، ثم قتلوا قبل الوصول ، أو ماتوا بعد الوصول ، ليرزقنهم الله جميعًا رزقًا حسنًا ، وهو لذة الشهود والعيان ، في مقعد صدق مع المقربين ، {وإن الله لهو خير الرازقين}. والمدخل الذي يرضونه : هو القرب الدائم ، والشهود المتصل. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 427
قلت : {ذلك} : خبر ، أي : الأمر ذلك. و {مَن عاقب} : شرط سدّ مسد جوابه ، أي : من عاقب بمثل ما عُوقب به ينصره الله.
(4/639)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ذلك} أي : الأمر ذلك ، كما أخبرتك في بيان الفريقين ، ثم استأنف فقال : {ومن عاقب بمثل ما عُوقِبَ به} أي : لم يزد في القصاص على ما فُعل به ، وسمى الابتداء عقابًا ؛ للمشاكلة ولملابسته له ، من حيث إنه سبب له وهو مسبب عنه. {ثم بُغِيَ عليه لينصُرَنَّه اللهُ} أي : من جازى بمثل ما فُعل به من الظلم ، ثم ظُلم ،
428
بعد ذلك ، وبُغي عليه بعد ذلك ، فحق على الله أن ينصره ؛ {إِنَّ الله لعفوٌّ} يمحو آثار الذنوب ، {غفورٌ} يستر أنواع العيوب.
ومناسبة الوصفين لما قبلهما : أن المعاقب مأمور بالعفو من عند الله ، بقوله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى : 40] ، {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى : 43] ، فحين لم يفعل ذلك ، وانتصر لنفسه ، فكأنه مُذنب ، فمعنى العفو في حقه أنه لا يلزمه على ترك الفضل شيء ، وأنه ضامن لنصره في الكرة الثانية ، إذا ترك العفو وانتقم من الباغي عليه ، وعَرَّضَ ، مع ذلك ، بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين.
ثم ذكر دلائل قدرته على النصر وغيره بقوله : {ذلك بأن الله يُولج الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل وأنَّ الله سميع بصيرٌ} أي : ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء. ومن آيات قدرته أنه {يُولجُ الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل} أي : يُدخل أحدهما في الآخر ، فيدخل الليلَ في النهارِ إذا طال النهار ، ويُدخل النهارَ في الليل إذا طال الليلُ ، فيزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر. أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما ، بإدخال أحدهما على الآخر ، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر ، والبغي والإنصاف. {وأن الله سميع} لما يقولون ، لا يشغله سمع عن سمع ، وإن اختلفت في النهار الأصوات بفُنون اللغات ، {بصير} بما يفعلون ، فلا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي ، وإن توالت الظلمات.
{
(4/640)
جزء : 4 رقم الصفحة : 428
ذلك بأن الله هو الحقُّ} الواجب لذاته ، الثابت في نفسه ، الواحد في صفاته وأفعاله ، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان كونه مُبديًا لكل ما يوجد من الموجودات ، عالمًا بكل المعلومات. وإذا ثبت أنه الحق فدينُه حق ، وعبادته حق ، {وأن ما تدعون من دونه} إلهًا {هو الباطل} ي : المعدوم في حد ذاته. أو الباطل ألوهيته ، {وأن الله هو العليُّ الكبيرُ} أي : المتعالي عن مدارك العقول ، وعن سمات الحدوث ، أو المرتفع على كل شيء بقهريته ، أو المتعالي عن الأنداد والأشباه ، الكبير شأنًا وعظمةً وكبرياء ؛ إذ كل شيء يصغر دون كبريائه ، فلا شيء أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا ؛ لأن له الوجود المطلق. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ومن عاقب نفسه وجاهدها وأدَّبها في أيام اليقظة ، بمثل ما عاقبته وجنت عليه وطغت في أيام الغفلة ، ثم صرعته بعد ذلك وغلبته ؛ لينصرنه الله عليها ، حتى يغلبها ويملكها ، فكلما هاجت عليه هجم عليها ، حتى يملكها ؛ ذلك بأن الله يُولج ليلَ المعصية في نهار الطاعة ، ويولجُ نهارَ الطاعة في
429
ليلِ المعصية ، أي : يدخل أحدهما على الآخر ، فلا يزال العبد يعصي ويطيع حتى يمنَّ عليه بالتوبة النصوح. أو يولج ليل المعصية في نفس الطاعة ، فتنقلب الطاعة معصية ، إذا صحبها علو واستكبار. ويولج نهار الطاعة في عين المعصية ، فتنقلب طاعة إذا صحبها ذل وافتقار. ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما دونه باطل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 428
(4/641)
قلت : {فتصبح} : عطف على {أنزل} ، والعطف بالفاء أغنى عن الضمير ، وإيثار صيغة الاستقبال ؛ للإشعار بتجدد أثر الإنزال ، وهو الاخضرار واستمراره ، أو لاستحضار صورة الاخضرار ، وإنما لم ينصب جوابًا للاستفهام ؛ لأنه لو نصب لبطل الغرض ؛ لأن معناه في الرفع إثبات الاخضرار ، فينقلب في النصب إلى نفيه ، كما تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر ، إن نصبته نفيت شكره ، وشكوت من تفريطه ، وإن رفعته أثبت شكره.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ألم تر} يا محمد ، أو يا من يسمع ، {أن الله أنزل من السماء ماءً} ؛ مطرًا {فتصبحُ الأرض مخضرةً} بالنبات ، بعدما كانت مسودة يابسةً ، {إِنَّ اللهَ لطيفٌ} بعباده ، أو في ذاته لا يدرك ، {خبيرٌ} بمصالح خلقه ومنافعهم ، أو اللطيف المختص بدقائق التدبير ، الخبير بكل جليل وحقير ، قليل وكثير. {له ما في السماوات وما في الأرض} ؛ مُلكًا ومِلْكًا ، قد أحاط بهم ؛ قدرةً وعلمًا ، {وإِنَّ الله لهو الغني} عن كل شيء ، المفتقر إليه كل شيء ، {الحميد} : المحمود بنعمته ، قبل ثناء من في السماوات والأرض عليه ، أو المستحق للحمد ، أعطى أو لم يعط.
ثم ذكر موجب الحمد من عباده ، فقال : {ألم ترَ أن الله سخَّر لكم ما في الأرض} من الأنعام ؛ لتأكلوا منها ، ومن البهائم ؛ لتركبوها في البر ، {والفُلكَ تجري في البحر بأمره} : بقدرته وإذنه ، أي : وسخر لكم المراكب حال كونها جارية في البحر بإذنه ، {ويُمسكُ السماء أن تقعَ على الأرض} أي : يحفظها من السقوط ، بأن خلقها على هيئة متداعية إلى الاستمساك ، {إِلا بإِذنه} : إلا بمشيئته ، وذلك يوم القيامة ، وفيه رد لاستمساكها بذاتها ؛ فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية ، فتكون قابلة للميل الهابط قبُولَ غيرها. {إِنَّ الله بالناس لرؤوفٌ رحيمٌ} ؛ حيث هيأ لهم هذه الأسباب لقيام معاشهم ، وفتح لهم أبواب المنافع ، ودفع عنهم أنواع المضار ، فأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية ، فله الحمد وله الشكر.
430
(4/642)
الإشارة : ألم تر أن الله أنزل من سماء المعاني ماء علم الغيوب ، وهو علم أسرار الذات وأنوار الصفات ، أعني : التوحيد الخاص ، فإذا نزل على أرض النفوس ، اهتزت وربت ، واخضرت بالعلوم والمعارف ، إن الله لطيف خبير ، لطيف ؛ لسريان معانيه اللطيفة في كل شيء ، خبير ببواطن كل شيء ، فمن كوشف بلطيف معانيه وإحاطة علمه في كل شيء ، وبكل شيء ، حيي قلبه بمعرفة الله ، واخضرت أرض نفسه بأنواع العلوم والمعارف. ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض ، يكون عند أمركم ونهيكم ، وفلك الفكرة تجري في بحر التوحيد بأمره ، ويُمسك سماء الأرواح أن تقع على أرض الحظوظ إلا بإذنه ، بعد الرسوخ في معرفته ، والتمكين من الفهم عنه ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم ؛ حيث فتح لهم باب العلوم ، وهيأ لهم أسباب الفهوم ، وهي الرياضة والتأديب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 430
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وهو الذي أحياكم} بعد أن كنتم جمادًا ، عناصر ونطفًا في الأصلاب والأرحام ، حسبما فُصل في صدر السورة ، {ثم يُميتُكم} عند مجيء آجالكم ، {ثم يُحييكم} عند البعث ، لإيصال جزائكم ، {إِنَّ الإِنسان لكفور} : لَجَحُود لِمَا أفاض عليه من ضُروب النعم ، ودفع عنه من صنوف النقم ، أو لا يعرف نعمة الإيجاد المُظهرة للوجود ، ولا نعمة الإمداد الممدة بعد الوجود ، ولا نعمة الإفناء المقربة إلى الموعود ، ولا نعمة الإحياء الموصلة إلى المقصود ، وهو التنعم في جوار الملك الودود ، فله الحمد دائمًا وله الشكر.
الإشارة : وهو الذي أحياكم باليقظة بعد الغفلة ، وبالعلم بعد الجهل ، ثم يميتكم عن حظوظ نفوسكم وهواها ، ثم يُحييكم بالمعرفة به ، حياةٌ لا موت بعدها ، فمن لم يعرف هذا فهو كنود.
جزء : 4 رقم الصفحة : 430
431
(4/643)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {لكل أمةْ} من الأمم الخالية والباقية {جعلنا} أي : وضعنا ، وعَيَّنا {منسَكًا} : شريعة خاصة يتمسكون بها ، أي : عيّنا كل شريعة لأمة معينة من الأمم ، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى ، لا استقلالاً ولا اشتراكًا ، فكل جيل لهم شرع مخصوص ، {هم ناسكوه} : عاملون به ، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى - عليهما السلام - منسكهم التوراة ، هم عاملون به لا غيرهم. والتي كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم منسكهم الإنجيل ، هم ناسكوه وعاملون به. وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي - عليه الصلاة والسلام - ومن بعدهم إلى يوم القيامة ؛ فهم أمة واحدة ، منسكهم القرآن ، ليس إلا.
والفاء في قوله : {فلا ينازعنك في الأمر} لترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ فإن تعيين كل أمة بشرع مخصوص ، يجب اتباعه ، يُوجب اتباع هؤلاء الموجودين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم منازعتهم له في أمر الدين ، أي : فلا يجادلنك في أمر الدين ، بل يجب عليهم الاستسلام والانقياد لكل أمر ونهي. أو : فلا تلتفت إلى قولهم ، ولا تمكنهم من أن ينازعوك في الأمر ، أي : أمر الدين أو أمر الذبائح. قيل : نزلت حين قال المشركون للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتله الله ؟ يعني : الميتة ، فأمر الله بالغيبة عنهم ، وعدم الالتفات إلى قولهم. {وادعُ إلى ربك} أي : دم على الدعاء إلى الله ، والتمسك بدينه القويم ؛ {إِنك لعلى هُدىً مستقيم} : طريق قويم موصل إلى الحق.
(4/644)
{وإن جادلوك} بعد ظهور الحق ؛ مِراء وتعنتًا ، كما يفعله السفهاء ، بعد اجتهادك ألاَّ يكون بينك وبينهم تَنازع وجدال ، {فقل اللهُ أعلمُ بما تعملون} أي : فلا تجادلهم ، وادفعهم بهذا القول ، والمعنى : إن الله عالم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء ، فهو يُجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار ، ولكن برفق ولين ، يُجيب به العاقلُ كلَّ متعنت سفيه. قال تعالى : {اللهُ يحكمُ بينكم يومَ القيامةِ فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين ، وهو خطاب من الله تعالى للمؤمنين والكافرين ، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 431
ألم تعلم أن الله يعلمُ ما في السماء والأرض} ، الاستفهام للتقرير ، أي : قد علمت أن الله يعلم كل ما يحدث في السماء والأرض ، ولا يخفى عليه شيء من الأشياء ، ومن جملتها : ما تقوله الكفرة وما يعملونه ، {إِنَّ ذلك في كتاب} ؛ في اللوح المحفوظ ، {إِنَّ ذلك على الله يسير} أي : علمه بجميع ذلك عليه يسير ، فلا يخفى عليه معلوم ، ولا يعسُر عليه مقدور. {ويعبدونَ من دون الله} أي : متجاوزين إياه ، مع ظهور دلائل عظمته وقدرته وتوحيده ، {ما لم يُنزل به سلطانًا} : حجة وبرهانًا ، {وما ليس لهم به علمٌ} أي : وما ليس لهم بجواز عبادته علم ؛ من ضرورة أو استدلال ، أي : لم يتمسكوا في
432
عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي ، ولا حملهم عليها دليل عقلي ، بل لمجرد التقليد الرديء ، {وما للظالمين من نصير} أي : وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم من أحد ينصرهم ، أو يصوب مذهبَهم ، أو يدفع العذاب عنهم ، حين يعتريهم بسبب ظلمهم. والله تعالى أعلم.
(4/645)
الإشارة : كما اختلفت الشرائع باختلاف الملل ، اختلفت التربية باختلاف الأشخاص والأعصار ، وقد تقدم عند قوله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة : 48]. وجملتها ترجع إلى الهمة والحال ، وبهما كانت التربية في الصدر الأول ، فكانت الملاقاة والصحبة تكفي ، ويحصل التهذيب والتصفية وكمال المعرفة. وذلك في زمان الصحابة والتابعين إلى القرن الثالث ؛ لقربهم من النور النبوي. فلما بَعُد الأمر ، وأظلمت القلوب ، أحدثوا تربية الاصطلاح ، وهو التزيي بزي مخصوص ، كالمرقعة وحمل السبحة في العنق ، والركوة ، وغير ذلك من مسائل التجريد ، وترتيب أمور تموت بها النفوس وتعالج بها القلوب ، واستعمال أوراد مخصوصة ، فكانت التربية حينئذ بالهمة والحال والاصطلاح. وقد تحصل التربية لمن له الهمة والحال بغير اصطلاح ، إذا رآه ينجع فيه ذلك ، فبقي الأمر كذلك إلى القرن التاسع ، فتصدى للتربية بالاصطلاح قوم مُدَّعُون ، لا همة لهم ولا حال ، فقال الحضرمي حسمًا لهذه الدعوى : قد انقطعت التربية بالاصطلاح ، وما بقي إلا الهمة والحال ، فعليكم بالكتاب والسنة ، أي : بظاهر الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان ، يعني طريق الأحوال والاصطلاح. ومراده بذلك : قطع التربية بالاصطلاح من غير همة ولا حال. وأما من له الهمة والحال فلا يقصد الحضرمي قطع تربيته بالاصطلاح. والحاصل : أن الحضرمي ما حكم إلا على وقته ؛ لِمَا رأى من الفساد الذي دخل في التربية. وق وُجد بعده رجال مُربون بالاصطلاح مع الهمة والحال. والمراد بالهمة : العلم بالله على نعت الشهود والعيان ، وبالحال : إنهاض القلوب عند رؤيته لذكر الله ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " خَيْرُكُمْ مَنْ إِذا رُؤوا ذُكر اللهُ " ولا بد من إذن خاص من الشيخ ، أو من يقوم مقامه ، وإلا فلا تنجح تربيته ، ولا ينهض حاله. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 431
(4/646)
فإن تأهلتَ للتربية بإذن خاص ، فلا ينازعنك في الأمر ، أي : لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية ؛ تعنتًا وعنادًا. وادع إلى ربك ، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري : قوله : {وإن جادلوك…} الخ ، أي : كِلْهُم إلينا ، عندما راموا أمر الجدال ، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال ، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال ؛ فإنهم قوالبُ خاويةٌ. وأشباحٌ من رؤية المعاني خالية. هـ. ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل ، ويقال في شأن من يعبد هواه : {ويعبدون من دون الله…} الآية.
433
جزء : 4 رقم الصفحة : 431
قلت : {وإذا تُتلى} : عطف على {يعبدون} ، وصيغة المضارع ؛ للدلالة على الاستمرار التجددي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإِذا تُتلى عليهم} أي : على المشركين {آياتُنا} القرآنية ، حال كونها {بيناتٍ} : واضحات الدلالة على العقائد الحقية ، والأحكام الصادقة ، {تعرِفُ في وجوه الذين كفروا المنكَر} أي : الإنكار بالعبوس والكراهة ، فالمُنكَر : مصدر بمعنى الإنكار. {يكادون يَسطُون} : يبطشون ، والسطو : الوثب والبطش ، أي : يثبون على الذين {يتلُون عليهم آياتنا} ؛ من فرط الغيظ والغضب ، والتالون هم : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. {قلْ} لهم : {أفأنبئُكُم بشرٍّ من ذلكم} ؛ من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم ، أو مما أصابكم من الكراهة والضجر ، بسبب ما يتلى عليكم ، هو {النارُ وَعَدها اللهُ الذين كفروا} مثلكم ، {وبئس المصيرُ} النار ، التي ترجعون إليها مخلدين.
الإشارة : من شأن أهل العتو والتكبر أنهم إذا وعظهم الفقراء عنفوا واستنكفوا ، ويكادون يسطون عليهم من شدة الغضب ، فما قيل لكبراء الكفار يجرُ ذيله على من تشبّه بهم من المؤمنين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 433
(4/647)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {يا أيها الناس ضُرب مثلٌ} أي : يُبين لكم حالٌ مستغربة ، أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مَثَلاً ، وتنشر في الأمصار والأعصار ، {فاستمعوا له} ؛ لضرب هذا المثل ؛ استماع تدبر وتفكر ، وهو : {إِنَّ الذين تدْعُون} ، وعن يعقوب : بياء الغيبة ، أي : إن الذين تدعونهم آلهة وتعبدونهم {من دون الله لن يخلقُوا ذُبابًا} أي : لن يقدروا على خلقه أبدًا ، مع صغره وحقارته. و {لن} : لتأبيد النفي ، فتدل على استحالته ، {ولو اجتمعوا له} أي : الذباب. ومحله : نصب على الحال ، كأنه قال :
434
لا يقدرون على خلقه مجتمعين له ، متعاونين عليه ، فكيف إذا كانوا منفردين ؟ ! وهذا أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش ، حيث وَصَفوا بالألوهية - التي من شأنها الاقتدار على جميع المقدورات ، والإحاطة بكل المعلومات - صُورًا وتماثيل ، يستحيل منها أن تقدر على أضعف ما خلقه الله تعالى وأذله ، ولو اجتمعوا له.
{وإِن يسلبْهُمُ الذبابُ شيئًا} من الطيب وغيره ، {لا يستنقذوه منه} أي : هذا الخلق الأرذل الأضعف ، لو اختطف منهم شيئًا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه ، لم يقدروا وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنهم كانوا يطلُونها بالعسل والطيب ، ويغلقون عليها الأبواب ، فيدخل الذبابُ من الكُوِي فيأكله ، فتعجز الأصنام عن أخذه. {ضَعُفَ الطالبُ} : الصنمُ بطلب ما سُلب منه ، {والمطلوبُ} : الذباب بما سَلَب. وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ، ولو حققت لوجدت الطالب أضعفَ وأضعفَ ؛ فإنَّ الذباب حيوان والصنم جماد.
(4/648)
{ما قَدَروا الله حقَّ قدره} : ما عرفوه حق معرفته ، حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكًا له ، {إِن الله لقويٌّ عزيز} أي : قادر غالب ، فكيف يتجه أن يكون العاجز المغلوب شبيهًا له! أو لقوي ينصر أولياءه ، عزيز ينتقم من أعدائه. بَعْدَ أن ذكر تعالى أنهم لم يقدروا له قدرًا ؛ حيث عبدوا معه من هو منسلخ من صفاته ، وسموه باسمه مع عجزه. ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم ؛ وهي القوة والغلبة. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 434
الإشارة : كل من تعلق في حوائجه بغير الله أو ركن بالمحبة إلى شيء سواه ، فقد أشرك مع الله أضعف شيء وأقله. فماذا يجدي تعلقُ العاجزُ بالعاجز ، والضعيف بالضعيف ، ضَعف الطالبُ والمطلوب. فما قدر الله حقَ قدره من تعلق في أموره بغيره. قال الورتجبي : بيَّن سبحانه - بعد ذكر عجز الخلق والخليقة - جلال قدره الذي لا يعرفه غيره ، بقوله : ما قدروا الله حق قدره ، قال : وهذه شكاية عن إشارة الخلق إليه بما هو غير موصوف به ، فذكر غيرته ؛ إذ أقبلوا إلى غير من هو موصوف بالقوة الأزلية والعزة السرمدية. ألا ترى كيف قال : {إن الله لقويٌ عزيزٌ}.
جزء : 4 رقم الصفحة : 434
يقول الحقّ جلّ جلاله : {الله يصطفي} : يختار {من الملائكة رُسلاً} يرسلهم إلى صفوة خلقه ، كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم ، {ومن الناسِ} ، كإبراهيم وموسى
435
(4/649)
وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُعرِّفون بجلال الله ومعرفة قدره ، حتى يقدروه حق قدره باعتبارهم لا باعتباره ؛ فإنَّ الله تعالى لا يمكن لأحد أن يقدرُه حق قدره. قال سيد العارفين : " لا أُحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ". وقيل : نزلت ؛ ردًا لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر ، وبيانًا أن رُسل الله على ضربين : ملك وبشر. وقيل : نزلت في قولهم : {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} [ص : 8]. {إِن الله سميع بصير} أي : سميع لقولهم ، بصير بمن يختاره للرسالة. أو سميع لأقوال الرسل ، بصير بأحوال الأمم في الردِّ والقبول. {يعلم ما بين أيديهم} : ما مضى ، {وإِلى الله تُرجع الأمورُ} أي : إليه مرجع الأمور كلها ، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدبيره واختياره مَن شاء من رُسلِه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : شرب الخمرة ، وهي المحبة الحقيقية والمعرفة الكاملة ، لا تكون إلاَّ على أيدي الوسائط ، والنادر لا حكم له ، فالأنبياء وسائطهم الملائكة ، والأولياء وسائطهم خلفاء الأنبياء ، وهم أهل العلم بالله الذوقي العِيَاني. وقال الورتجبي - إثر ما تقدم عنه - : فالملائكة وسائط الأنبياء ، والأنبياء وسائط العموم ، والأولياء للأولياء خاصة. هـ. وتوسيط الأنبياء للعموم في مطلق المحبة ، وتعليم ما يقرب إليها ، وأما المحبة الحقيقية فهي خاصة بالأولياء للأولياء ، كما قال. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 435
قلت : {ملة أبيكم} : منصوب بمحذوف ، أي : اتبعوا ملة إبراهيم.
(4/650)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} في صلاتكم ، وكانوا أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان ، وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة ، قاله النسفي. {واعبدوا ربكم} أي : واقصدوا بعبادتكم وجه الله ، وأخلصوا فيها ، أو هو عطف عام على خاص ؛ فإن العبادة أعم. {وافعلوا الخير} كله. قيل : لما كان للذكر مزية على غيره دعا المؤمنين أولاً للصلاة التي هي ذكر خالص ؛ لقوله : {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِيا} [طه : 14] ، ثم إلى العبادة بغير الصلاة ، كالصوم والحج ، ثم عم
436
بالحث على سائر الخيرات. وقال ابن عرفة : وافعلوا الخير : راجع للعبادة المتعدية ، وما قبله يختص بالقاصرة. قال المحشي : وفيه نظر ؛ لشمول العبادة لِمَا هو متعدي النفع ، كتعليم العلم ، والصدقة ونحو ذلك ، بل أمر أولاً بالصلاة ، وهي نوع من العبادة ، وثانيًا بالعبادة ، وهي نوع من فعل الخير ، وثالثًا بفعل الخير ، وهو أعم من العبادة. فبدأ بخاص ثم عام ثم بأعم. هـ. {لعلكم تُفلحون} : كي تفوزوا ، أي : افعلوا هذا كله ، وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ، فلا تتكلوا على أعمالكم.
{وجاهدوا في الله} أي : في ذات الله ومن أجله {حقَّ جهاده} ، أمرٌ بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر ، ومنه : كلمة حق عند أمير جائر. قال - عليه الصلاة والسلام - : " أعمال البر كلها ، إلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كنفثة إلى جنب البحر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جنب الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ كنفثة في بحر ، والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ إلى جنب مجاهدة النفس عن هواها في اجتناب النهي ، كنفثة في جنب بحر لجيّ " وهذا على معنى الخبر الذي جاء : " جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " يعني : مجاهدة النفس. قاله في القوت.
جزء : 4 رقم الصفحة : 436
(4/651)
قال القشيري : حق الجهاد ما يوافق الأمر في القَدْرِ والوقتِ والنوعِ ، فإذا حَصَل في شيءٍ منه مخالفة فليس حَقَّ جهاده. هـ. قلت : موافقة القَدْر ، في جهاد النفس ، أن يكون بغير إفراط ولا تفريط ، فالإفراط يُمل ، والتفريط يُخل ، وموافقة الوقت أن يكون قبل حصول المشاهدة ؛ إذ لا تجتمع مجاهدة ومشاهدة في وقت واحد. والنوع أن يجاهدها بما يُباح في الشرع ، لا بمحرم ولا مكروه. وقال في الحاشية : هو الوفاء بالمشروع مع رفع الحرج ، بدليل ما بعده ، فهو موافق لقوله تعالى : {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التّغَابُن : 16] ، ومما هو ظاهر في الآية : الذب عن دينه وتغيير المناكر. هـ.
{هو اجتباكم} : اختاركم لدينه بإظهاره والذب عنه ، وهو تأكيد للأمر بالجهاد ، أي : وجب عليكم أن تجاهدوا ؛ لأنَّ الله اختاركم لإظهار دينه ، {وما جعل عليكم في الدين من حَرجٍ} : ضيقٍ ، بل وسع عليكم من جميع ما كلفكم به ، من الطهارة ، والصلاة والصوم والحج ، بالتيمم والإيماء ، وبالقصر في السفر ، والإفطار لعذر ، وعدم الاستطاعة في الحج. فاتبعوا {ملةَ أبيكم إِبراهيم} ؛ فإن ما جاءكم به رسولكم موافق لملته في الجملة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " جئتكم بالحنيفية السمحة ". وسماه أبًا ، وإن لم يكن أبًا للأمة كلها ؛ لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبًا لأمته ؛ لأن أمة الرسول في حكم أولاده. قال صلى الله عليه وسلم : " إنَمَّا أَنَا لكُمْ مِثْلُ الوَالِدِ ".
437
(4/652)
{هو سماكم المسلمين} أي : الله ، بدليل قراءة أُبي : " الله سماكم " أو إبراهيم لقوله : {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البَقَرَة : 128] {من قبلُ} أي : سماكم من قبل ظهورهم في الكتب السالفة ، {وفي هذا} أي : القرآن ، فقد فضلكم على سائر الأمم ، وسماكم بهذا الاسم الأكرم ، {ليكون الرسولُ شهيدًا عليكم} أنه قد بلغكم رسالة ربكم ، {وتكونوا شهداء على الناس} بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم. وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة {فأقيموا الصلاة} بواجباتها ، {وآتوا الزكاة} لشرائطها ، {واعتصموا بالله} أي ثقوا به وتوكلوا عليه ، لا بالصلاة والزكاة. أو : ثقوا به في جميع أموركم ، ولا تطلبوا الإعانة والنصر إلا منه. {هو مولاكم} : مالككم وناصركم ومتولي أموركم ، {فنعم المولى} ؛ حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم ، {ونعمَ النصير} أي : الناصر ؛ حيث أعانكم على طاعتكم ومجاهدة نفوسكم وأعدائكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 436
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا تقربوا إليَّ بأنواع الطاعات وبالمسارعة إلى الخيرات ، لعلكم تفوزون بمعرفة أسرار الذات وأنوار الصفات ، وجاهدوا نفوسكم بأنواع المجاهدات ، كي أجتبِيكم وأنزهكم في أسرار ذاتي ، فإني قد اجتبيتكم قبل كونكم في أزل أزلي. وكأنه يشير إلى قوله : " لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه ، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به... " الحديث.
والمأمورُ به من التقرب والمجاهدة قدر الاستطاعة ، من غير تشديد ولا تعقيد ، لقوله : {وما جعل عليكم في الدين من حَرج} ؛ لأن مبني الشرع الكريم على السهولة ، فالذي يتوصل إلى رضوانه أو صريح معرفته ، لا يشترط أن يستغرق كنه إمكان العبد فيه. " لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك ، لم تصل إليه أبدًا ، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ، ونَعْتَكَ بنعته ، فوصلك بما منه إليك ، لا بما منك إليه ". كما في الحِكَم.
(4/653)
وقال الورتجبي : {وما جعل...} الآية ، أي : إذا شاهدتم مشاهد جمالي سهل عليكم فناؤكم في جلالي ، وسهل عليكم بذل مهجكم إليه. ألا ترى كيف قال : {ملة أبيكم إبراهيم} ، ومن ملته : الاستسلام والانقياد ، وبذل الوجوه بنعت السخاء والكرم ، يا أسباط خليلي ، رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم ، قبل وجودكم بنور النبوة ، فسماكم المسلمين ، أي : منقادين بين يديَّ ، عارفين بوحدانيتي. وفيما ذكرنا من أوصافكم ، حبيبي شاهد عليكم ، يعرف هذه الفضائل منكم ، وهو بلغكم نشر فضائلي عليكم. ثم قال : اطلبوا الاعتصام مني ، استعينوا لأقويكم في طاعتي. ثم قال : {فنعم
438
المولى} حيث لا مولى غيره ، {ونعم النصير} حيث لا يُخذل من نصره ؛ فإن الله عزيز ممتنع من نقائص النقص. قال جعفر في قوله : {حق جهاده} : ألاَّ تختارَ عليه شيئًا ، كما لم يختر عليك ؛ لقوله : {هو اجتباكم}. هـ.
وقوله تعالى : {وتكونوا شهداء على الناس...} الآية ، أي : اجتباكم واختاركم وسماكم مسلمين ، لتكونوا مرضيين عدولاً ، تشهدون على الأمم ، كما يشهد محمد صلى الله عليه وسلم عليكم ويزكيكم ، فهو كقوله تعالى : {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ} [البَقَرَة : 143] الخ. وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ، ولا تطلبوا الولاية والنصرة إلا منه فهو خير ولي وناصر ، ومن كان الله تعالى مولاه وناصره فقد أفلح وفاز ، ولذلك افتتح السورة التي تليها به. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
439
جزء : 4 رقم الصفحة : 436(4/654)
سورة المؤمنون
جزء : 5 رقم الصفحة : 3
يقول الحق جل جلاله : {قد أفلح المؤمنون} أي : فازوا بكل مطلوب ، ونالوا كل مرغوب ، فالفلاح : الفوز بالمرام والنجاة من المكاره والآلام ، وقيل : البقاء في الخير على الأبد ، وقد تقتضي ثبوت أمر متوقع ، فهي هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل ، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة ؛ وهي الإخبار بثبوت الفلاح لهم ، فخُوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والإيمان في اللغة : التصديق بالقلب ، والمؤمن : المصدِّق لِما جاء به الشرع ، مع الإذعان بالقلب ، وإلا.. فكم من كافر صدّق بالحق ولم يذعن ، تكبُّراً وعناداً ، فكل من نطق بالشهادتين ، مواطئاً لسانُه قلبَه فهو مؤمن شرعاً ، قال عليه الصلاة والسلام :
3
" لَمَّا خَلَقَ الله الجَنَّةَ ، قَالَ لَهَا : تَكَلَّمِي ، فَقَالَتْ : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمنُون - ثلاثاً - أنا حرامٌ على كلِّ بخيل مُرائي " ؛ لأنه بالرياء أبطل العبادات الدينية ، وليس له أعمال صافية.
ثم وصف أهل الإيمان بست صفات ، فقال : {الذين هم في صلاتهم خاشعون} : خاضعون بالقلب ساكنون بالجوارح ، وقيل : الخشوع في الصلاة : جمع الهمة ، والإعراض عما سواها ، وعلامته : ألا يجاوز بصرُه مصلاه ، وألاّ يلتفت ولا يعبث. وعن أبي الدرداء : (هو إخلاص المقال ، وإعظام المقام ، واليقين التام ، وجمع الاهتمام). وأضيفت الصلاة إلى المصلين ؛ لانتفاع المصلِّي بها وحده ، وهي عُدَّته وذخيرته ، وأما المُصلَّى له فَغَني عنها.(5/3)
{والذين هم عن اللغو مُعرضون} ، اللغو : كل كلام ساقط ، حقه أن يُلغَى ، كالكذب والشتم ونحوهما. والحق إن اللغو : كل ما لا يَعني من الأقوال والأفعال ، وصفهم بالحزم والاشتغال بما يعنيهم وما يقربهم إلى مولاهم في عامة أوقاتهم ، كما ينبىء عنه التعبير بالاسم الدال على الثبوت والاستمرار ، بعد وصفه لهم بالخشوع ؛ ليجمع لهم بين الفعل والترك ، الشاقَّين على النفس ، اللذَيْن هما قاعدتا التكليف. {والذين هم للزكاة فاعلون} : مؤدون ، والمراد بالزكاة : المصدر ، الذي هو الإخراج ، لا المخرج. ويجوز أن يراد به العين ، وهو الشيء المُخْرج ، على حذف مضاف ، أي : لأداء الزكاة فاعلون. وصفهم بذلك ، بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة ؛ للدلالة على أنهم بلغوا الغاية القصوى من القيام بالطاعة البدنية والمالية ، والتجنب عن النقائص ، وتوسيط الإعراض عن اللغو بينهما ؛ لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة ؛ لأن من لزم الصمت والاشتغال بما يعني عَظُم خشوعُه وأُنسه بالله.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 3
(5/4)
والذين هم لفروجهم حافظون} : ممسكون لها ، ويشمل فرجَ الرجل والمرأة ، {إلا على أزواجهم} ، الظاهر أن " على " بمعنى " عن " أي : إلا عن أزواجهم ، فلا يجب حفظها عنهن ، ويمكن أن تبقى على بابها ، تقول العرب : احفظ عليّ عنان فرسي ، أي : أمسكه ، ويجوز أن يكون ما بعد الإستثناء حالاً ، أي : إلا والين على أزواجهم ، من قولك : كان زياد على البصرة ، أي : والياً عليها ، والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال ، إلا في حالة تزوجهم أو تسريهم. أو يتعلق " على " بمحذوف يدل عليه : (غير ملومين) ، كأنه قيل : يُلامون إلا على أزواجهم ، أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أبيح لهم ، فإنهم غير ملومين عليه ، {أو ما ملكت أيمانهم} أي : سراريهم ، وعبَّر عنهن بما ؛ لأن المملوك يجري مجرى غير العقلاء ، لأنه يباع كما تباع البهائم. وقال في الكشاف : وإنما قال " ما " ، ولم يقل " مَن " ؛ لأن الإناث يجرين مجرى غير العقلاء. هـ. يعني : لكونهن ناقصات عقل ، كما في الحديث. وفيه احتراس من الذكور بالملك ، فلا يباح إتيانهم والتمتع بهم للمالك ولا للمالكة ، بإجماع.
4
وقوله تعالى : {فإنهم غير مَلومين} أي : لا لوم عليهم في عدم حفظ فروجهم عن نسائهم وإمائهم. {فمن ابتغى وراء ذلك} ؛ طلب قضاء شهوته في غير هذين ، {فأولئك هم العادُون} : الكاملون في العدوان ، وفيه دليل على تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة ؛ لأن نكاح المتعة فاسد ، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً ، ويدل على فساده عدم التوارث فيه بالإجماع ، وكان في أول الإسلام ثم نُسخ.
(5/5)
{والذين هم لأمانتهم وعهدهم} أي : لما يؤتمنون عليه ، ويُعَاهَدون عليه من جهة الحق أو الخلق ، {راعون} : حافظون عليها قائمون بها ، والراعي : القائم على الشيء بحفظ وإصلاح ، كراعي الغنم. {والذين هم على صلواتهم} المفروضة عليهم {يحافظون} : يداومون عليها في أوقاتها. وأعاد الصلاة ؛ لأنها أهم ، ولأن الخشوع فيها زائد على المحافظة عليها ، وَوُحِّدَت أولاً ؛ ليُفاد أَن الخشوع في جنس الصلاة أيَّةَ صلاة كانت ، وجُمعت ثانياً ؛ ليُفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل. قاله النسفي.
{أولئك} الجامعون لهذه الأوصاف {هم الوارثون} الأحقاء بأن يُسَمَّوُا وارثين ، دون غيرهم ممن ورث رغائِب الأموال والذخائر وكرائمها ، وقيل : إنهم يرثون من الكفار منازلهم في الجنة ، حيث فوَّتُوها على أنفسهم ، لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار ، ففي الحديث : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاّ ولَهُ مَنْزِلاَنِ : مَنْزِلٌ في الجنة ومَنْزِلٌ في النَّارِ ، فَإِن مَاتَ ودَخَلَ الجَنَّة ، وَرٍثَ أَهْلُ النَّارِ مَنْزِله ، وإِنْ مَات ودَخَلَ النَّارَ ، وَرثَ أَهْلُ الجَنَّةَ مَنْزِلَهُ ". ثم ترجم الوارثين بقوله : {الذين يرثون الفردوس} ، هو في لغة الروم والحبشة : البستان الواسع ، الجامع لأصناف الثمر ، والمراد : أعلى الجنان ، استحقوا ذلك بأعمالهم المتقدمة حسبما يقتضيه الوعد الكريم ، {هم فيها خالدون} ، أنث الفردوس بتأويل الجنة ، أو لأنه طبقة من طبقاتها ، وهي العليا. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 3
الإشارة : قال القشيري : الفلاح : الفوزُ بالمطلوب ، والظَّفَرُ بالمقصود. والإيمان : انتسامُ الحقِّ في السريرة ،
5
(5/6)
ومخامرة التصديق بخُلاصة القلب ، واستكمال التحقيق من تامور الفؤاد. والخشوع في الصلاة : إطراق السِّرِّ على بساط النَّجوى ، باستكمال نَعْتِ الهيبة ، والذوبانِ تحت سلطان الكشف ، والانمحاءِ عند غلبات التَّجلِّي. هـ.
قلت : كأنه فسر الفلاح والإيمان والخشوع بغايتهن ، فأول الفلاح : الدخول في حوز الإسلام بحصول الإيمان ، وغايته : إشراق شمس العرفان ، وأول الإيمان : تصديق القلب بوجود الرب ، من طرق الاستدلال والبرهان ، وغايته : إشراق أسرار الذات على السريرة ، فيصير الدليل محل العيان ، فتَبتَهج السريرة بمخامرة الذوق والوجدان ، وأوا الخشوع : تدبر القول فيما يقول ، وحضوره عندما يفعل ، وغايته : غيبته عن فعله في شهود معبوده ، فينمحي وجود العبد عند تجلي أنوار الرب ، فتكون صلاته شكراً لا قهراً ، كما قال سيد العارفين صلى الله عليه وسلم : " أفلا أكون عبداً شكوراً ". ولا تتحقق هذه المقامات إلا بالإعراض عن اللغو ، وهو كل ما يشغل عن الله ، وتزكية النفوس ببذلها في مرضاة الله ، وإمساك الجوارح عن محارم الله ، وحفظ الأنفاس والساعات ، التي هي أمانات عند العبد من الله.
(5/7)
قال في القوت : قال بعض العارفين : إن الله - عز وجل - إلى عبده سرّيْن يُسِرهما إليه ، يُوجده ذلك بإلهام يُلهَمهُ ، أحدهما : إذا وُلِد وخرج من بطن أمه ، يقول له : " عبدي ، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً ، واستودعتك عُمرك ، ائتمنتك عليه ، فانظر كيف تحفظ الأمانة ، وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك ، " وسِرٌ عن خروج روحه ، يقول له : " عبدي ، ماذا صنعت في أمانتي عندك ؟ هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية ، فالقاك بالوفاء والجزاء ؟ أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب ؟ " فهذا داخل في قوله عز وجل : {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} ، وفي قوله عز وجل : {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيا أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة : 40] فعُمْر العبد أمانة عنده ، إن حفظه أدى الأمانة ، وإن ضيَّعه فقد خان ، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال : 58]. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 3
قلت : " خلق " : إن كان بمعنى اخترع وأحدث ؛ تعدى إلى واحد ، وإن كان بمعنى صَيَّر ؛ تعدى إلى مفعولين ، ومنه {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} ، ومن بعده.
يقول الحق جل جلاله : {ولقد خلقنا الإنسان} ؛ جنس الإنسان ، أو آدم ، {من سُلالةٍ} ؛ " من " : للابتداء ، والسلالة : الخُلاصة ؛ لأنها تسل من بين الكدر ، وهو ما سُلَّ من الشيء واستخرج منه ، فإن (فُعالة) اسم لما يحصل من الفعل ، فتارة يكون مقصوداً منه ، كالخُلاصة ، وتارة غير مقصود ، كالقُلامة والكناسة ، والسلالة من قبيل الأول ؛ فإنها مقصودة بالسَّل ، وقيل : إنما سمي التراب الذي خُلق من آدم سلالة ، لأنه سُلّ من كل تربة. وقوله : (من طين) ، بيان ، متعلقة بمحذوف ، صفة للسلالة ، أي : خلقناه من سلالة كائنة من طين.
6
(5/8)
{ثم جعلناه} أي : الجنس ، باعتبار أفراده المتغايرة لآدم عليه السلام ، وجعلنا نسله ، على حذف مضاف ، إن أُريد بالإنسان آدم ، فيكون كقوله تعالى : {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [السجدة : 8 ، 7] أي : جعلنا نسله {نطفة} : ماءً قليلاً {في قرار مكين} أي : في مستقر - وهو الرحم - (مكين) : حصين ، أو متمكن فيه ، وَصف الرحم بصفة ما استقر فيه ، مثل طريق سائر ، أي : مسير فيه.
{ثم خلقنا النطفة علقة} أي : دماً جامداً ، بأن جعلنا النطفة البيضاء علقة حمراء ، {فخلقنا العلقة مُضغة} أي : قطعة لحم لا استبانةَ ولا تمايز فيها ، {فخلقنا المضغة} أي : غالبها ومعظمها ، أو كلها {عظاماً} ، بأن صلبناها ، وجعلناها عَموداً على هيئةٍ وأوضاع مخصوصة ، تقتضيها الحكمة ، {فكسونا العظام} المعهودة {لحما} بأن أنبتنا عليها اللحم ، فصار لها كاللباس ، أو كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم ، على مقدار لائق به ، وهيئة مناسبة. وقرئ بالإفراد فيهما ، اكتفاء بالجنس ، وبتوحيد الأول فقط ، وبتوحيد الثاني فحسب. {ثم أنشأناه خلقاً آخر} أي : خلقاً مبايناً للخلق الأول ، حيث جعله حيواناً ، وكان جماداً ، وناطقاً وسميعاً وبصيراً ، وكان بضد هذه الصفات ، ولذلك قال الفقهاء : من غصب بيضة فأفرخت عنده ضمِّنَ البيضة ، ولم يَرُدّ الفرخ ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
(5/9)
فتبارك الله أحسن الخالقين} أي : فتعالى أمره في قدرته الباهرة ، وعلمه الشامل. والالتفات إلى الإسم الجليل ؛ لتربية المهابة ، وإدخال الروعة ، والإشعار بأنَّ ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية ، وللإيذان بأنَّ من حق كل من سمع ما فصَّل من آثار قدرته تعالى أو لاحظه ، أن يسارع إلى التكلم به ، إجلالاً وإعظاماً لشؤونه تعالى ، وقوله : (أحسن الخالقين) : بدل اسم الجلالة ، أو نعت ، على أنَّ الإضافة محضة ؛ ليطابقه في التعريف ، أو خبر ، أي : هو أحسن الخالقين خلقاً ، أي : أحسن المقدرين تقديراً ، فحذف التمييز ؛ لدلالة الخالقين عليه. قيل : إنَّ عبدَ اللهِ بنَ أبي سَرْح كان يَكْتُبُ الوحيَ للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا انتهى - عليه الصلاة والسلام - إلى قوله : {خلقا آخَر} ، سَاَرَعَ عبدُ الله إلى النُطقِ بِذَلِكَ ، فَنَطَقَ بذلِكَ ، قبل إِمْلاَئِهِ ، فَقَالَ له رسُول الله صلى الله عليه وسلم " اكْتبْ ، هَكَذَا أُنْزِلَتْ " فَشَكَّ عبدُ الله ، فَقَالَ : إنْ كانَ مُحمدٌ يُوحَى إليْهِ ، فَأَنَا يُوحَى إليَّ ، فارتدَّ ولَحِق بمكَّةَ كافِراً ، ثم أَسْلَمَ يَوْمَ الفَتْحِ. وقيل : الحكاية غير صحيحة ؛ لأن ارتداده كان بالمدينة ، والسورة مكية.
ثم قال تعالى : {ثم إنكم بعد ذلك} أي : بعد ما ذكر من الأمور العجيبة ، حسبما ينبىء عنه ما في اسم الإشارة من البُعد ، المشعر بعُلُوِّ مرتبة المشار إليه وبُعد منزلته في الفضل ، {لميتون} : لصائرون إلى الموت لا محالة ، كما يؤذن به صيغة الصفة ، وقرئ " المائتون " ، {ثم إنكم يوم القيامة} أي : عند النفخة ، {تبعثون} في قبوركم للحساب
7
والمجازاة ، فإن قلت : لِمَ أكدَّ الأول بإنّ واللام ، وعبَّر بالاسم دون الثاني ، الذي هو البعث ، والمتبادر للفهم العكس ؛ لأن الموت لم ينكره أحد ، والبعث أنكره الكفار والحكماء ؟ فالجواب كما قال ابن عرفة : إنه من حمَل اللفظ على غير ظاهره ، مثل :
جَاءَ شَقِيقٌ عَارضاً رُمْحَه
(5/10)
إِنَّ بني عَمِّك فِيهِمْ رِمَاحُ
فَهُم ، لعصيانهم ومخالفتهم ، لم يعملوا للموت ، فحالهم كحال المنكر لها ، ولمّا كانت دلائل البعث ظاهرة صار كالأمر الثابت الذي لا يُرتاب فيه. هـ.
الإشارة : اعلم أن الروح لها أطوار كأطوار البشرية ، من الضعف والقوة شيئاً فشيئاً ، باعتبار قوة اليقين ، والترقي إلى العلم بالله ومشاهدته ، فتكون أولاً صغيرة العلم ، ضعيفة اليقين ، تم تتربى بقوت القلوب وغذاء الأرواح ؛ فقوتُ القلوب : العمل الظاهر ، وقوت الأرواح : العمل الباطن ، فلا تزال تتقوت بالعمل الظاهر شيئاً فشيئاً حتى تقوى على كمالِ غايته ، ثم تنتقل إلى قوت العمل الباطن ؛ كالذكر القلبي ، والتفكر والاعتبار ، وجولان القلب في ميادين الأغيار ، ثم دوام حضور القلب مع الحق على سبيل الاستهتار ، ثم يفتح لها ميادين الغيوب ، ويوسع عليها فضاء الشهود ، فيكون قُوتها حينئذٍ رؤية المحبوب ، وهو غاية المطلوب ، فتبلغ مبلغ الرجال ، وتحوز مراتب الكمال ، ومن لم يبلغ هذا بقي في مرتبة الأطفال ، ولا يمكن حصول هذا إلا بصحبة طبيب ماهر ، يعالجها ويربيها ، وينقلها من طور لى طور ، وإلاَّ بقيت الروح مريضة لا تتقوت إلا بالمحسوسات ، وهي لا تُشبع ولا تُغني من جوع. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
قلت : " سيناء " ، مَنْ فتحها : جعل همزتها للتأنيث ، فلم يصرفه ؛ للتأنيث والوصف ، كحمراء ، أو لألف التأنيث ، لقيامه مقام علتين ، ومن كسرها : لم يصرفه ؛ للتعريف والعجمة ، وهذا البناء ليس من أبنية التأنيث ، وإنما ألفُهُ ألف الإلحاق ، كعلِباء وجِرباء.
ونبت وأنبت : لغتان بمعنى واحد وكذلك سقى وأسقى.
يقول الحق جل جلاله : {ولقد خلقنا فوقكم سبعَ طرائق} ، وهي السموات السبع ،
8
(5/11)
جمع طريقة ؛ لأنها طرق الملائكة وتقلباتها ، وطرق الكواكب ، فيها مسيرها ، {وما كنا عن الخلق غافلين} ، أراد بالخلق السموات ، كأنه قال : خلقناها وما غفلنا عن حفظها وإمساكها ، أو الناس ، أي : خلقناها فوقكم ؛ لنفتح عليكم منها الأرزاق والبركات ، وما كنا غافلين عنكم وعما يصلحكم ، أو : خلقناها فوقكم ، وما حالت بيننا وبينكم ، بل نحن أقرب إليكم من كل شيء ، فلا نغفل عن شيء من أمركم ، قلَّ أو جلَّ.
{وأنزلنا من السماء ماءً} هو المطر ، وقيل : الأنهار النازلة من الجنة ، وهي خمسة : سَيْحُون نهر الهند ، وَجَيْحونُ نهر بلخ ، ودِجْلَةُ والفُراتُ نهرا العراق ، والنيل نهر مصر ، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة. هـ. وقوله تعالى ؛ {بقدَرِ} أي : بتقدير ، يَسْلَمون معه من المضرة ، ويصلون إلى المنفعة ، أو بمقدار ما علمنا بهم من الحاجة ، أو : بقدر سابق لا يزيد عليه ولا ينقص ، {فأسكناه في الأرض} أي : جعلناه ثابتاً قاراً فيها ، كقوله : {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأَرْضِ} [الزمر : 21] ، فماء الأرض كله من السماء ، {وإنا على ذهاب به} أي : إزالته بالإفساد والتغوير ، حيث يتعذر استنباطه ، {لقادرون} كما كنا قادرين على إنزاله ، وفي تنكير " ذهاب " : إيماء إلى كثرة طرقه ، ومبالغة في الإيعاد به ، ولذلك كان أبلغ من قوله : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} [الملك : 30].
جزء : 5 رقم الصفحة : 8
(5/12)
ثم ذكر نتائجه ، فقال : {فأنشأنا لكم به} أي : بذلك الماء {جنات من نخيلِ وأعنابِ لكم فيها} أي : في الجنات ، {فواكهُ كثيرةٌ} تتفكهون بها سوى النخيل والأعناب ، {ومنها تأكلون} أي من الجنات تأكلون تغذياً ، وتفكهاً ، أو تُرزقون وتحصِّلون معايشكم ، من قولهم : فلان يأكل من حرفته ، وهذه الجنة وجوه أرزاقكم منها ترزقون وتتمعشون ، ويجوز أن يكون الضميران للنخيل والأعناب ، أي : لكم في ثمرتها أنواع من الفواكه ، الرطب والعنب ، والتمر والزبيب ، والعصير والدِّبْسُ ، وغير ذلك وطعاماً تأكلونه.
{و} أنبتنا به {شجرةً} هي الزيتون {تخرج من طُور سَيْناء} ، وهو جبل موسى عليه السلام بين مصر وأيلة ، وقيل : بفلسطين ، ويقال : فيه طور سنين ، فإمَّا أن يكون الطور اسم الجبل ، وسيناء اسم البقعة أضيف إليها ، أو المركب منهما عَلَمٌ له ، كامرئ القيس ، وتخصيصها بالخروج منه ، مع خروجها من سائر البقع ، إما لتعظيمها ، أو لأنه المنشأ الأصلي لها ؛ لأن أصل الزيتون من الشام ، وأول ما نبت في الطور ، ومنه نُقل إلى سائر البلاد ، {تَنْبُتُ بالدُّهن} أي : متلبسة بالدهن ، أي : ما يدهن به ، وهو الزيت ، {وصِبْغِ للآكلين} أي : إدام لهم ، قال مقاتل : جعل الله في هذه إداماً ودُهناً ، فالإدام : الزيتون ، والدهن : الزيت. وقيل : هي اول شجرة تنبت بعد الطوفان ، وخص هذه الأنواع الثلاثة ؛ لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأنفعها.
9
(5/13)
{وإنَّ لكم في الأنعام} ، جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، {لَعِبْرَةً} تعتبرون بها ، وتستدلون بأحوالها على عظم قدرة الله تعالى ، وسابغ نعمته ، وتشكرونه عليه ، {نُسقيكم مما في بطونها} من الألبان سائغة للشاربين ، أو مما استقر في بطونها من العلَف ؛ فإنَّ اللبن يتكون منه ، {ولكم فيها منافعُ كثيرةٌ} ، سوى الألبان ، وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار. {ومنها تأكلون} أي : من لحومها ، {وعليها} أي : على الأنعام في البر ، {وعلى الفُلك} في البحر {تُحملون} في أسفاركم ومتاجركم ، والمراد بالأنعام في الحمل الإبل ؛ لأنها هي المحمول عليها في البر ، فهي سفائن العرب ، كما قال ذو الرمة :
سَفِنَةُ بَرِّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا
يريد ناقته. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ولقد خلقنا فوق قلوبكم سبعة حجب ، فمن خَرقَها أفضى إلى فضاء شهود ذاتنا وأنوار صفاتنا ، وهي حجاب المعاصي والذنوب ، وحجاب النقائص والعيوب ، وحجاب الغفلات ، وحجاب العوائد والشهوات ، وحجاب الوقوف مع حلاوة المعاملات ، وحجاب الوقوف مع الكرامات والمقامات ، وحجاب حس الكائنات ، فمن خرق هذه الحجب بالتوبة والتزكية واليقظة والعفة والرياضة ، والأنس بالله والغيبة عما سواه ، ارتفعت عنه الحجب ، ووصل إلى المحبوب. قال الورتجبي : أوضح سبع طرائق لنا إلى أنوار صفاته السبعة. هـ. وقال القشيري : الحق - سبحانه - لا يستتر من رؤيته مُدْرَكٌ ، ولا تخفى عليه من مخلوقاته خافية ، وإنما الحُجُبُ على أبصارِ الخَلْق وبصائرهم ، والعادةُ جاريةٌ أنه لا يخلق لنا الإدراك لِمَا وراء الحُجُب ، ولذلك أدخِلَت الغفلةُ القلوبَ ، واستولى عليها الذهول ، سدَّت بصائرها ، وغيبت فهومها ، ففوقها حجب ظاهِرة وباطنة ، ففي الظاهر : السموات حجبٌ تحول بيننا وبين المنازل العالية ، وعلى القلوب أغشية وأغطية ، كالشهوة والأمنية ، والإرادات الشاغلة والغفلة المتراكمة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 8
(5/14)
ثم ذكر أن طرائق المريدين الفَتْرَة ، وطرائق الزاهدين ترك عُروق الرغبة. قال : وأما العارفون فربما تظلهم في بعض أحيانهم وقفةٌ في تضاعيف سيرهم إلى ساحات الحقائق ، فيصيرون موقوفين ريثما يتفضّلُ الحقُّ - سبحانه - عليهم بكفاية ذلك ، فيجدون نفاذاً ، ويدفع عنهم ما عاقهم من الطرائق ، وفي جميع ذلك فالحق - سبحانه - غير تاركٍ للعبد ولا غافلٍ عن الخلق. هـ.
وقوله : {وما كنا عن الخلق غافلين} أي : وما كنا غافلين عن إرسال من يخرجهم من تلك الحجب القهرية ، بل بعثنا الرسل ، وفي أثرهم العارفين الربانيين ، يُخرجون من تعلق بهم من تلك الطرائق ، ويوصلونهم إلى بحر الحقائق. وأنزلنا من سماء الغيوب ماء العلم اللدني ، فأسكناه في أرض النفوس والقلوب ، بقدر ما سبق لكل قلب منيب ، وإنا
10
على ذهاب به من القلوب والصدور لقادرون. ولذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، فأنشأنا بذلك العلم في قلوب العارفين جنات المعارف من نخيل الأذواق والوجدان ، وأعناب خمرة العيان ، لكم فيها فواكه كثيرة ، أي : تمتع كثير بلذة الشهود ، ومنها تتقوت أرواحكم وأسراركم ، وشجرة المعرفة تخرج من القلوب الصافية ، التي هي محل المناجاة ، كطور موسى ، أي : تنبت فيها ويخرج أغصانها إلى ظاهر الجوارح ، تنبت في القلب بدهن الذوق والوجد ، وصبغ للآكلين ، أي : المريدين الآكلين من تلك الشجرة ، فتصبغ قلوبهم بالمعرفة واليقين.
(5/15)
وقوله تعالى : {وإن لكم في الأنعام لعبرة} ، قال القشيري : الإشارة فيه : أنّ الكدوراتِ الناجمةَ المتراكمةَ لا عِبْرَةَ بها ولا مبالاة ، فإنَّ اللَّبنَ الخالص السائغَ يخرجُ من أخلاف الإبل والأنعام ، من بين ما ينطوي حواياها عليها من الوحشة ، ولكنه صافٍ لم يؤثر فيها بُحكم الجِوار ، والصفا يوجد أكثره في عين الكُدروة ؛ إذ الحقيقة لا يتعلق بها حق ولا باطل. ومَنْ أَشرف على سِرِّ التوحيد تحقَّقَ بأنَّ ظهور جميع الحدثان من التقدير ، فتسْقُط عنه كلفة التمييز ؛ فالأسرارُ عند ذلك تصفو ، والوقت لصاحبه لا يجفو ، (ولكم فيها منافع) لازمةٌ لكم ، ومتعدية منكم إلى كلِّ متصلٍ بكم. انتهى على لحن فيه ، فتأمله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 8
قلت : ذكر في الحاشية وجوهاً من المناسبة ، فقال : لمّا استطرد ذكر الفلك ناسب ذكر نوح إثره ، لقوله : (اصنع الفلك) ، وأيضاً : هو أبو البشر الثاني ، فَذُكِرَ كما ذكر أولاً آدم ، في ذكر خلق الإنسان ، وأيضاً في ذكر نجاة المؤمنين وفلاحهم ، فناسب صدر السورة ، وهلاك الكافر وهو ضد المؤمن ، كما صرح بذلك في قوله في آخرها : (إنه لا يفلح الكافرون) ، وفي النجاة في الفلك مناسبة للنعم المقررة قبل ذكره. هـ. (وإن كنا
11
لمبتلين) : " إنْ " : مخففة ، واسمها : ضمير الشأن ، واللام فارقة.
(5/16)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد أرسلنا} : وتالله لقد أرسلنا {نوحاً إلى قومه} ، وقد مرّ في الأعراف نسبه وكيفية بعثته ، {فقال} لقومه حين أُرسل إليهم ، متعطفاً عليهم ، ومستميلاً لهم إلى الحق : {يا قوم اعبدوا الله} وحده ؛ إذ العبادة مع الإشراك لا عبرة بها ، فلذلك لم يقيدها هنا ، وقيدها في هود ، بقوله : {أَن لاَّ تَعْبُدُوااْ إِلاَّ اللَّه} [هود : 26] {ما لكم من إلهٍ غيرهُ} أي : ما لكم من الوجود إله يستحق أن يُعبد غيره ، فالرفع على المحل ، والجر على اللفظ. {أفلا تتقون} ؛ أفلا تخافون عقوبة الله ، الذي هو ربكم وخالقكم ، إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء ، أو : أفلا تخافون عذابه الذي يستوجبه ما أنتم عليه ، كما يُفصح عنه قوله تعالى : {إِنِّىِا أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف : 59].
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 11
(5/17)
فقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي : أشرافهم لعوامهم : {ما هذا إلا بشرٌ مثلكُم} في الجنس والوصف ، يأكل ويشرب مثلكم ، من غير فرق بينكم وبينه ، {يُريد أن يتفضَّل عليكم} أي : يطلب الفضل عليكم ، ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم ، والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية والخضوع للحَجَر ، ولم يرضوا بنبوة البشر. ثم قالوا : {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} أي : لو شاء الله إرسال الرسل لأرسل رسلاً من الملائكة. وإنما قال : لأنزل ولم يقل : لأرسل ؛ لأنَّ إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال ، فمفعول المشيئة مطلق الإنزال ، أي : لو شاء ربنا إنزال شيء من الوحي لأنزل ملائكة يرسلهم إلينا ، {ما سمعنا بهذا} أي بمثل هذا الكلام ، الذي هو الأمر بعبادة الله وحده ، وترك عبادة ما سواه ، أو : ما سمعنا بأنَّ البشر يكون رسولاً ، أو بمثل نوح عليه السلام في دعوى النبوة ، {في آبائنا الأولين} أي : الماضين قبل بعثة نوح عليه السلام ، وإنما قالوا ذلك ؛ إما من فرط عنادهم ، أو لأنهم كانوا في فترة متطاولة ، وقيل : معناه : ما سمعنا به أنه نبي ، {إنْ هو} أي : ما هو {إلا رجل به جِنَّةٌ} أي جنون ، أو جن يخبلونه ، ولذلك يقول ما يقول : {فتربصوا به حتى حين} أي : انتظروا واصبروا إلى زمان حتى ينجلي أمره ، فإن أفاق من جنونه ، وإلا قتلتموه. {قال ربّ انصرني بما كذَّبونِ} ، لمَّا أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم ، فالجملة استئناف نشأ عن سؤال ، كأنه قيل : فماذا قال عليه السلام ، بعدما سمع هذه الأباطيل ؟ فقيل : قال ، لما رآهم قد أصروا على الكفر والتكذيب ، وتمادوا في الغواية والضلال ، حتى أيس من إيمانهم بالكلية وقد أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن : {رب انصرني} بإهلاكهم بالمرة ، فهو حكاية إجمالية لقوله : {لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ
12
(5/18)
مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح : 26]. {بما كذَّبون} ؛ بسبب تكذيبهم إياي ، أو بدل تكذيبهم ، كقولك : هذا بذاك ، أي : بدل ذاك ، والمعنى : أبدلني من غم تكذيبهم سلَوة النصر عليهم.
{فأوحينا إليه} ؛ أجببنا دعاءه وأوحينا إليه عند ذلك {أَنِ اصنعِ الفُلكَ بأعيننا} أي : ملتبساً بحفظنا وكلاءتنا ، كأنَّ معك حُفاظنا يكلؤونك بأعينهم ، لئلا يتعرض لك أحد ، يفسد عملك ، ومنه قولهم : عليه من الله عيون كالئة ، {ووَحْينا} أي : أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها. رُوي : أنه أوحى إليه أن يصنعها مثل جُؤْجؤ الطائر. وفي القاموس جُؤجؤ - كَهُدْهُد- : الصدرُ. {فإذا جاء أَمْرُنا} أي : عذابنا بأمرنا ، {وفار التنُّور} أي : فار الماء من تنور الخبز ، فخرج سبب الغرق من موضع الحرق ؛ ليكون أبلغ في الإنذار والإعتبار. رُوي أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور من التنور ؛ فاركب أنت وأهلك السفينة ، فلما نبع الماء من التنور ؛ أخبرته امرأته ، فركب ، وكان التنور تنورَ آدم ، فصار إلى نوح ، وكان من حجارة. واختلف في مكانه ، فقيل : في مسجد الكوفة عن يمين الداخل ، وقيل : بالشام ، وقيل : بالهند.
جزء : 5 رقم الصفحة : 11
(5/19)
فإذا فار {فاسْلُكْ فيها} : فَأَدْخِلْ في السفينة {من كل زوجين اثنين} ؛ من كل أمة اثنين مزدوجين ، ذكر وأنثى. قال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض ، فأما البق والدود والزباب ، فلم يحمل منه شيئاً ، وإنما يخرج من الطير. هـ. {و} احمل في السفينة {أهلَك} ؛ نساءك وأولادك ، أو من آمن معك ، {إلا من سبق عليه القولُ منهم} أي : القول من الله بهلاكه ، وهو ابنه وإحدى زوجتيه ، وإنما جيء بعلى ؛ لكون السابق ضاراً ، كما جيء باللام في قوله : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَىا} [الأنبياء : 101] ، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات : 171] ؛ لكونه نافعاً ، ونحوه : {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة : 286] ، {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} أي : لا تسألني نجاة الذين كفروا ، إنهم مقضى عليهم بالإغراق لا محالة ؛ لظلمهم بالإشراك والإصرار ، ومَنْ هذا شأنه لا يُشفع له ، وكأنه عليه السلام ندم على الدعاء عليهم ، حين تحقق هلاكهم ، فهَمَّ بمراجعة الحق فيهم ؛ شفقة ورحمة ، فَنُهي عن ذلك.
ثم قال له : {فإِذا استويتَ أنت ومن معك على الفُلْك} ؛ فإذا تمكنتم عليها راكبين {فقل الحمد لله الذي نجَّانا من القوم الظالمين} ، أُمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم على طريق : {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام : 45]. ولم يقل : فقولوا ، وإن كان أهله ومن معه قد استووا معه ؛ لأنه نبيهم وإمامهم ، فكان قوله قولَهم ، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة.
{وقل ربِّ أنزلني} في السفينة ، أو منها {مُنْزَلاً مباركاً} أي : إنزالاً مباركاً ، أو
13
(5/20)
موضع إنزال يستتبع خيراً كثيراً ، {وأنت خير المُنزِلين} ؛ خير من ينزل في كل خير ، أُمر عليه السلام بأن يشفع دعاءه بما يطابقه من ثنائه عليه تعالى ، توسلاً به إلى إجابة دعائه ، فالبركة في السفينة : النجاة فيها ، وبعد الخروج منها : كثرة النسل وتتابع الخيرات ، {إِنَّ في ذلك} فيما فعل بنوح وقومه {لآياتِ} : لعبراً ومواعظ ، {وإن كنا} أي : وإن الشأن والقصة كنا {لمبتلين} : مُصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو : مختبرين بهذه الآيات عبادنا ، لننظر من يعتبر ويذكر ، كقوله : {وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر : 15]. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 11
الإشارة : تقدمت إشارة هذه القصة مراراً بتكررها ، وفيها تسلية لمن أوذي من الأولياء بقول قبيح أو فعل ذميم. وقال القشيري في قوله : {وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً} : الإنزال المبارك : أن تكون بالله ولله على شهود الله ، من غير غفلة عن الله ، ولا مخالفة لأمر الله. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 11
يقول الحق جل جلاله : {ثم أنشأنا من بعدهم} ؛ من بعد قوم نوح {قرناً} أي : قوماً {آخرين} هم عادٌ قوم هود ، حسبما رُوي عن ابن عباس ، ويشهد له قوله تعالى : {وَاذكُرُوااْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف : 69] ، ومجيء قصة هود على إثر قصة نوح في الأعراف وهود والشعراء ، ونقل ابن عطية عن الطبري : أن المراد بهم ثمود قوم صالح ، قال : والترتيب يقتضي قوم عاد ، إلاَّ أنهم لم يُهلكوا بالصيحة ، بل بالريح ، قال في الحاشية : والظاهر أنهم صالح. كما قاله الطبري. وحمل الواحدي الصيحة على صيحة العذاب ، فيتجه لذلك أنهم عاد قوم هود ، وقد تقرر أن ثمود بعد عاد. ثم قال : وفي السيرة : عادٌ بن عوص بن إرَم بن سام بن نوح ، وثمود بن عابر بن أرَم بن سام بن نوح. هـ.
14
(5/21)
{فأرسلنا فيهم} ، الإرسال يُعَدّى بإلى ، ولم يُعَدَّ بها هنا وفي قوله : {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِىا أُمَّةٍ} [الرعد : 30] ، {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} [الأعراف : 94] ؛ لأن الأمة والقرية جعلت موضعاً للإرسال ، إيذاناً بأن المرسَل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم ، بل إنما نشأ بين أظهرهم ، كما ينبىء عنه قوله : {رسولاً منهم} أي : من جملتهم نسباً ، وهو : هود أو صالح ، فإنهما - عليهما السلام - كانا منهم. قائلاً لهم : {أنِ اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرهُ أفلا تتقون} عذابه ، الذي يقتضيه ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 14
وقال الملأُ من قومه} ، ذكر مقال قوم هود ، في جوابه ، في الأعراف وهود بغير " واو " ؛ لأنه على تقدير سؤال سائل ، قال : فما قال قومه ؟ فقيل : قالوا : كيت وكيت ، وهنا مع الواو ؛ لأنه عطفٌ لما قالوه على ما قاله الرسول ؛ ومعناه : حكاية قولهم الباطل إثر حكاية قول الرسول الحق ، وليس بجواب للنبي متصل بكلامه ، وجيء بالفاء في قصة نوح عليه السلام ؛ لأنه جواب لقوله ، واقعٌ عَقِبَه ، ، أي : وقال الأشراف من قومه {الذين كفروا} ، وُصفوا بالكفر ؛ ذَماً لهم ، وتنبيهاً على غُلوِّهم فيه ، {وكذَّبوا بلقاء الآخرة} أي : بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك ، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية ، {وأترفناهم} : نَعَّمناهم {في الحياة الدنيا} بكثرة الأموال والأولاد ، أي : قالوا لأتباعهم ، مُضلين لهم : {ما هذا} النبي {إلا بشرٌ مثلُكم} في الصفة والأحوال ، والاحتياج إلى القِوام ، ولم يقولوا : مثلنا ؛ تهويناً لأمره عليه السلام.(5/22)
ثم فسر المثلية بقوله : {يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} أي : منه ، فحذف ؛ لدلالة ما قبله عليه ، {ولئن أطعتم بشراً مثلكم} فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، {إنكم إذاً لخاسرون} بالانقياد لمثلكم ، ومن حمقهم أنهم أبَوْا اتِّباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم. {أَيعدُكُمْ أنكم إِذا مِتُّم} - بالكسر والضم - ؛ من مات يُمات ويموت ، {وكنتم تراباً وعظاماً} نخرة ، {أنكم مُخْرَجُون} ، فأنكم الثانية ، توكيد للأولى ؛ للفصل بينهما ، والتقدير : أيعدكم أنكم مخرجون بالبعث إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً ؟ {هيهات هيهاتَ} ، تكرير ؛ لتأكيد البُعد ، وهو اسم فعل مبني على الفتح ، واقع موقع بَعُد ، فاعلها مضمر ، أي : بعد التصديق أو الوقوع {لِما تُوعدون} من العذاب ، أو فاعلها : " ما توعدون " ، واللام زائدة ، أي بَعُد ما تعدون من البعث ، وقيل : ما توعدون من البعث. وقيل : مبتدأ ، وهما اسم للبعد ، و (لما توعدون) : خبر ، أي : بُعْدٌ بُعْدٌ لما توعدون ، {إن} : ما {هِيَ إلا حياتنا الدنيا} ، والضمير لا يُعْلَمُ ما يُغْنَى به إلا بما بعده من بيانه ، وأصله : إن الحياةُ إلا حياتنا ، وأتى بالضمير ؛ حذراً من التكرير ، أي : لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ، ودنت منها ، {نموت ونحيا} أي : يموت بعضنا ويولد بعضٌ ، إلى انقراض العصر ، {وما نحن بمبعوثين} بَعد الموت ، {إن} ؛ ما {هو إلا رجل افترى على الله كَذِباً} فيما يدَّعيه
15
من الإرسال ، وفيما يَعدنا من البعث ، {وما نحن له بمؤمنين} : بمصدِّقين بما يقول.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 14
(5/23)
قال} هود ، أو صالح - عليهما السلام - بعدما سلك في دعوتهم كل مسلك ، متضرعاً إلى الله - عز وجل - : {ربِّ انصرني} عليهم ، وانتقم منهم {بما كذَّبونِ} أي : بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه ، {قال} تعالى ؛ إجابة لدعائه : {عمَّا قليلٍ} أي : عن زمان قليل ، زيدت " ما " ، بين الجار والمجرور ؛ لتأكيد معنى القلة ، أو نكرة موصوفة ، أي ؛ عن شيء قليل {ليصبِحُنَّ نادمين} عما فعلوا عن التكذيب ، وذلك عند معاينتهم العذاب.
{فأخذتهم الصيحةُ} ، لعلهم ، حين اصابتهم الريح العقيم ، أُصيبوا في تضاعيفها بصيحة هائلة من صوته. أو يراد بها : صرير الريح وصوته. وقد رُوي أن شَدَّاداً حين أتم بناء إرم ، سار إليها بأهله ، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء ، فهلكوا ، وقيل : الصيحة : العذاب المصطلِم ، قال الشاعر :
صَاحَ الزَّمانُ بآلِ فُدَكٍ صيَحةً
خَرُّوا ؛ لشِدَّتها ، على اْالأَذْقَانِ
وإذ قلنا : هم قوم صالح ، فالصيحة صيحة جبريل عليه السلام ، صاح عليهم فدمرهم. وقوله : {بالحق} أي : بالعدل من الله ، يقال : فلان يقضي بالحق ، أي بالعدل ، أو : أخذتهم بالحق ، أي : بالأمر الثابت الذي لا دفاع له ، {فجعلناهم غُثاء} أي : كغثاء السيل ، وهو ما يحمله من الورق والحشيش ، شبههم في دمارهم بالغثاء ، وهو ما يرميه السيل ، من حيث أنهم مَرْمِي بهم في كل جانب وسَهْب. {فبُعداً} : فهلاكاً ، يقال بَعُدَ بُعْداً ، أي : هلك هلاكاً ، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر أفعالها ، أي : فسحقاً {للقوم الظالمين} ، وهو إخبار ، أو دعاء ، واللام ؛ لبيان من دُعي عليه بالبُعد ، كقوله : {هَيْتَ لَكَ} [يوسف : 23]. والله تعالى أعلم.
(5/24)
الإشارة : من عادة الحق - سبحانه - ، إذا أكب الناس على دنياهم ، واتخذوا إلههم هواهم ، بعث من يذكرهم بالله ، فيقول لهم : اعبدوا الله ، ما لكم من إله غيره ، أي : أفردوه بالمحبة ، واقصدوه بالوجهة ، فما عبدَ الله من عبد هواه ، فيقول المترفون ، وهم المنهمكون في الغفلة ، المحجوبون بالنعمة عن المنعم ، الذين اتسعت دائرة حسهم : ما هذا الذي يعظكم ، ويريد أن يخرجكم عن عوائدكم ، ألا بشر مثلكم ، يأكل مما تأكلون ، ويشرب مما تشربون ، وما دَروا أنَّ وصف البشرية لا ينافي وجود الخصوصية ، فإذا تمادوا في غفلتهم ، وأيس من هدايتهم ، ربما دعا عليهم ، فأصبحوا نادمين ، حين لا ينفعهم الندم ، وذلك عند نزول هواجم الحِمَامِ. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 14
16
قلت : القرن : أهل العصر ، سُموا به ؛ لِقران بعضهم البعض ، و (تترا) : حال ، فمن قرأه بالألف فهو كسكرى ، وهو من الوتر ، واحداً بعد واحد ، فالتاء الأولى بدل من الواو ، وأصله : وَترى ، كتراث وتقوى ، والألف للتأنيث ، باعتبار أن الرسل جماعة ، ومن نَوَّنَه جعله كأرطى ومعزى ، فيقال : أرطى ومعزى ، وقيل : مصدر بمعنى فاعل ، أي : متتابعين.
يقول الحق جل جلاله : {ثم أنشأنا من بعدهم} أي : من بعد قوم هود ، {قروناً آخرين} ؛ قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم ، {ما تسبق من أمة} ، " مِنْ " صلة ، أي : ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة {أجلَها} الذي عُيِّن لهلاكها في الأزل ، {وما يستأخرون} عنه ساعة. {ثم أرسلنا رسلَنا} ، عطف على " أنشأنا " ، على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة ، وما بينهما اعتراض ، والمعنى : ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ، قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولاً خاصاً به ، والفصل بين الجملتين بالجملة المتعرضة الناطقة بعدم تقدم الأمم من أجلها المضروب لهلاكهم ؛ للمسارعة إلى بيان هلاكهم على وجهٍ إجمالي.
(5/25)
وقوله : {تَتْرَى} أي : متواترين واحداً بعد واحد ، أو متتابعين يتبع بعضهم بعضاً ، {كلما جاء أمةً رسولها كذبوه} ، الرسول يلابس المرسِل والمرسلَ إليه ، والإضافة تكون بالملابسة ، فأضافهم أولاً إلى نون العظمة ، وهنا إلى المرسل إليهم ؛ للإشعار بكمال شناعتهم وضلالتهم ، حيث كذبت كلُّ أمةٍ رسولها المعين لها ، وعبَّر عن التبليغ بالمجيء ؛ للإيذان بأنهم كذبوه في الملاقاة الأولى ، {فأتبعنا بعضَهم بعضاً} في الهلاك ، كما تبع بعضهم بعضاً في الكفر والتكذيب ، الذي هو سبب الهلاك ، {وجعلناهم أحاديثَ} ؛ أخبار ، يُسمر بها ويُتعجب منها ، أي : لم يبق منهم إلا حكايات يعتبر بها المعتبرون ، والأحاديث يكون اسم جمع للحديث ، ومنه : أحاديث النبي - عليه الصلاة والسلام - ويكون جمعاً للأحدوثة ، وهي ما يتحدث بها الناس ؛ تلهياً وتعجباً ، وهو المراد هنا ، {فبعداً لقوم لا يؤمنون} به وبرسله ، اقتصر هنا على عدمإيمانهم ، وأما القرون الأولى ، فحيث نقل عنهم ما مرَّ من العتو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان ، وصفهم بالظلم. والله تعالى أعلم وأحكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 16
الإشارة : كل ما حكى الله تعالى عن القرون الماضية والأمم السابقة ، فالمراد ترهيب هذه الأمة المحمدية ، وإزعاجٌ لها عن أسباب الهلاك ، وإنهاض لها إلى العمل الصالح ، لتكون أحاديث حِساناً بين الأمم ، فكل إنسان ينبغي له أن يجتهد في تحصيل الكمالات العلمية والعملية ، ليكون حديثاً حسناً لمن بعده ، كما قال القائل :
مَا الْمَرءُ إلا حديثٌ من بَعدِه
فَكنْ حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعَا
وقال آخر :
ومَا الْمَرءُ إلا كالشَّهابِ وضَوْؤهُ
يَحورُ رَماداً بَعْدَما هو سَاطِعُ
17
ومَا المَالُ والأَهلْونَ إلا وديعةٌ
ولا بُدَّ يوماً أن تُردَّ الْودَائِعُ
وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 16
قلت : " هارون " : بدل من " أخاه ".
(5/26)
يقول الحق جل جلاله : {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا} التسع ؛ من اليد ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقُمَّل ، والضفادع ، والدم ، ونقص الثمرات ، والطاعون. ولا مساغ لعدّ فلق البحر منها ؛ إذ المراد الآيات التي كذبُوها واستكبروا عنها ، بدليل ما بعدها. {وسلطانٍ مبينٍ} ؛ وحجة واضحة مُلزِمَة للخصم الإقرار بما دُعي إليه ، وهي إمّا العصا ، وإفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات ؛ لأنها أبهر آياته عليه السلام ، وقد تضمنت معجزات شتى ؛ من انقلابها ثعباناً ، وتلقفها ما أفكته السحرة ، كما تقدم. وأما التعرض لانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر ؛ بضربها ، وحراستها ، وصيرورتها شمعة ، وشجرة خضراء مثمرة ، ودلْواً ورشاء ، وغير ذلك مما ظهر منها في غير مشهد فرعون وقومه ، فغير ملائم لمقتضى المقام ، وإمّا ما أتى به من الحجج الباهرة ، فيشمل ما تقدم وغيره.
(5/27)
{إلى فرعون وملَئه} أي : أشراف قومه ، خصهم بالذكر ؛ ليرتب عليه ما بعده من قوله : {فاستكبروا} عن الإنقياد وتمردوا. تكبراً وترفعاً ، {وكانوا قوماً عالين} : متكبرين ، متمردين ، {فقالوا} ، فيما بينهم ، على طريق المناصحة : {أنؤمن لبشَرَيْنِ مثلنا} ، " مثل " و " غير " يوصف بها الإثنان والجمع والمذكر والمؤنث ، والبشر يطلق على الواحد ، كقوله : {بَشَراً سَوِياًّ} [مريم : 17] ، وعلى الجمع ، كقوله : {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} [مريم : 26] ، وأراد به هنا الواحد ، فثناه ، أي : كيف نؤمن لبشرين مثلنا في العجز والافتقار ، {وقومهما لنا عابدون} أي : خادمون منقادون لنا كالعبيد ، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بهما - عليهما السلام - ، وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية ، بناء على زعمهم الفاسد ، من قياس الرئاسة الدينية على الرئاسات الدنيوية ، الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية ، من المال والجاه ، كدأب قريش ، حيث قالوا : {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف : 11]. {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف : 31]. وعلى جهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العلية ، وإحراز الكمالات السنية ، جِبِلَّةً او اكتساباً ، {فكذبوهما} أي : فتمادوا
18
على تكذيبهما ، وأصروا ، واستكبروا استكباراً ، {فكانوا من المهلَكِين} بالغرق في بحر القلزم.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 18
(5/28)
ولقد آتينا} بعد إهلاكهم ، وإنجاء بني إسرائيل من مِلكِهم واسترقاقهم ، {موسى الكتابَ} : التوراة ، ولَمَّا نزلت لإرشاد قومه جُعلوا كأنهم أوتوها ، فقيل : {لعلهم يهتدون} إلى الحق بالعمل بما من الشرائع والأحكام ، وقيل : على حذف مضاف ، أي : آتينا قوم موسى ، كقوله : {عَلَىا خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس : 83] ، أي : من آل فرعون وملئهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من طُرد وأُبعد عن ساحة رحمة الله تعالى والوصول إليه ، فإنما سببه التكبر والعلو ، وكل من قرب ووصل إلى الله فإنما سببه التواضع والحنو ، ولذلك ورد : " لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كان في قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ " وحقيقة الكِبرِ : بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ ، أي : إنكار الحق واحتقار الناس ، وفي مدح التواضع والخمول ما لا يخفى. فمن تواضع ، دون قدره ، رَفَعَهُ الله فوق قدره ، فالتواضع مصيدة الشرف ، به يصطاد وينال ، ومن أوصاف أهل الجنة : " كل ضعيف مستضعف ، لو أقسم على الله لأبره في قسمه " ، إلى غير ذلك من الأخبار.
وكل من أنكر على أهل الخصوصية فسببه إما الحسد ، أو الجهل بأن الخصوصية لا تنافي أوصاف البشرية ، أو قياس الرئاسة الباطنية الدينية على الرئاسة الدنيوية ، فأسقط من لا رئاسة له في الظاهر ولا جاه ، أو لعدم ظهور الكرامة ، وهي غير مطلوبة عند المحققين. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 18
(5/29)
يقول الحق جل جلاله : {وجعلنا ابنَ مريَم وأمه آيةً} دالة على كمال قدرتنا ؛ بولادته منها من غير مسيس بشر ، ووحَّدها ؛ لأن الأعجوبة فيهما واحدة. أو المراد : وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية ، فحذفت الأولى ؛ لدلالة الثانية عليها ، أي : وجعلنا ابن مريم وحده ، من غير أن يكون له أب ، آية ، وأمه ، من حيث أنها وَلدت من غير ذَكَر ، آية ، وتقديمه عليه السلام ؛ لأصالته فيما ذَكَر من كونه آية ، كما أن تقديم أمه في قوله تعالى : {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 91] ، لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ.
{وآويناهما} أي : جعلنا مأويهما ومنزلهما {إلى ربوةٍ} أي : أرض مرتفعة ، وهو بيت المقدس ؛ فإنها كبد الأرض ، وأقرب الأرض إلى السماء ، بمعنى أنه يزيد علوها على
19
علو الأرض ، فينتقصُ بُعدها عن السماء عن بُعد غيرها منها بثمانية عشر ميلاً ، كما جاء ، ولعل ذلك سر كونها أرض الحشر ، وكون الإسراء وقع منها. قاله المحشي ، وقيل : دمشق ، وقيل : فلسطين ، والرملة. {ذات قرارٍ} ؛ مستقر من الأرض ، مستوية منبسطة ، سهلة ، أو ذات ثمار ، يستقر ؛ لأجل ثمارها ، ساكنوها فيها ، {ومَعِين} أي : ماء معين ، ظاهر ، جارٍ ، فقيل : من معن ، إذا جرى ، أو مدرك بالعين لظهوره ، من عانه ، إذا أدركه بعينه ، أو من الماعون ، وهو النفع ؛ لأنه نفاع لظهوره وجريه. والله تعالى أعلم.
(5/30)
الإشارة : كان عيسى عليه السلام منقطعاً عن هذا العالم ، متبتلاً زاهداً ، لم يتخذ في هذه الدنيا قراراً ، ولم يبن فيها مسكناً ولا داراً ، فكان آية للعباد والزهاد من الرجال. كما أن أمه كانت آية للنساء العابدات ، في التبتل والانقطاع ، فآواهما إلى ربوة التقريب والاصطفاء ، ذات قرار وتمكين ومصافاة ووفاء ، وجعل ، جل جلاله ، أولياءه على قدم أنبيائه ، فمنهم على قدم نوح عليه السلام في القوة ونفوذ الهمة ، مهما دعا على أحد هلك. ومنهم على قدم إبراهيم عليه السلام في الشفقة والرحمة وعلو الهمة ، وتحقيق التوحيد ، وإمام أهل التفريد ، ومنهم على قدم موسى عليه السلام في المناجاة والمكالمة والقوة والعزم ، ومنهم على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع ، ومنهم على قدم نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - ؛ وهو الجامع لما افترق في غيره ، وهو قطب الدائرة ، نفعنا الله بهم جميعاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 19
قلت : (وإن هذه) : مَن كسره استأنف ، ومَن فتحه حذف اللام ، أي : فاتقون ؛ لأنَّ هذه ، أو معطوف على ما قبله : (بما تعملون عليم) ، وبأن هذه ، أو بتقدير : واعلموا أن هذه. و(زُبُراً) : حال من : " أَمْرهم " ، أو من " واو " (تقطعوا) ، و (نُسارع) : خبر " أن " ، و " ما " : موصولة.
يقول الحق جل جلاله : {يا أيها الرسل كُلوا من الطيبات} ، هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما ؛ لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة ، وإنما المعنى : الإعلام بأنَّ كل رسول في زمانه نُودي بذلك ، ووصي به ؛ للإيذان بأن إباحة الطيبات شرعٌ قديم ، جرى عليه جميع الرسل - عليه الصلاة والسلام - وَوُصّوا به ، أي : وقلنا لكل رسول : كُلْ من
20
(5/31)
الطيبات واعمل صالحاً. فعبَّر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع ؛ للإيجاز ، وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات ما لا يخفى. قاله أبو السعود. وقيل : خطاب لعيسى عليه السلام ؛ لاتصال الآية به ، وكان يأكل من غزل أمه ، وهو من أطيب الطيبات ، وقيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لفضله وقيامه مقام الكل ، وكان يأكل من الغنائم ، وما رزقه الله من غير اختيار على الله ، والجمع : للتعظيم فيهما ، والطيبات : ما يُستطاب ويُستلذ من مباحات المآكل والفواكه ، حسبما يُنبىء عنه سياق النظم الكريم.
{واعملوا} عملاً {صالحاً} ، فإنه المقصود منكم ؛ شكراً لما أُسدي إليكم ، ولا تشتغلوا بالنعم عن طاعة المنعم وشهوده ، {إني بما تعملون} من الأعمال الظاهرة والباطنة ، {عليم} ، فأجازيكم عليه ، وفيه تهديد للمذكورين ، فما بالك بغيرهم ممن ألهته النعم عن شهود المنعم وشكره ؟ !
{وإن هذه أمتكم} أي : ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها {أمةً واحدة} أي : ملة واحدة ، متحدة في أصول الشرائع ، التي لا تُبدل بتبدل الأعصار ، وهو التوحيد وما يتبعه من أصول العقائد. {وأنا ربكم} من غير أن يكون لي شريك في الربوبية ، {فاتقون} : فخافوا عتابي في مخالفتكم أمري ، أو في شق العصا ، والمخالفة بالإخلال بمواجب ما ذكر من اختصاص الربوبية بي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 20
والخطاب
21
للرسل والأمم جميعاً ، على أن الأمر في حق الرسل للتهييج ، وفي حق الأمم للتحذير. قيل : وجاء هنا : " فاتقون " ، الذي هو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء : {فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء : 92] ؛ لأن هذه جاءت عقب إهلاك طوائف كثيرين ، وفي الأنبياء ، وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها ، فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام ، في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم ، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته.
(5/32)
ثم قال تعالى : {فتقطَّعوا أمرهم} أي : فتفرقوا في أمر دينهم مع اتحاده ، وجعلوه قطعاً متفرقة ، وأدياناً مختلفة ، {بينهم زُبراً} أي : قطعاً - جمع زَبور ، بمعنى الفرقة ، ويؤيده قراءة من قرأ : (زُبَراً) بفتح الباء ، جمع زُبْرة ؛ كغُرْفة ، أي : قطعاً مختلفة ، كلٌّ ينتحل كتاباً ، وقيل : جمع زَبور ، بمعنى كتاب ، أي : كل فريق يزعم أن له كتاباً يتمسك به. وعن الحسن : قطعوا كتاب الله قطعاً وحرَّفوه ، والأول أقرب ، أي : تفرقوا في أصل الدين فرقاً ، وتحزبوا أحزاباً ، {كل حزب} من أولئك المتحزبين {بما لديهم} من الدين الذي اختاروه ، أول من الهوى والرأي ، {فَرِحُون} : مُعجبُون ، يعتقدون أنه الحق.
{فذَرهم في غمرتهم} ؛ في جهالتهم وغفلتهم ، شبَّه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة ؛ لأنهم مغمورون فيها ، سابحون في بحر الجهالة ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ إيذاناً بأنهم مطبوع على قلوبهم ، أي : اتركهم على حالهم {حتى حين} : حتى نأمرك فيهم بما شئتُ من الجهاد أو غيره ، أو : إلى أن يُقتلوا أو يموتوا على الكفر ، أو : إلى وقت حلول العذاب بهم. فهو تهديد وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهى عن استعجال عذابهم ، وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل.
{أيحسبون أنما نُمِدُّهم به} أي : نعطيهم إياه ونجعله مدداً لهم ، {من مالٍ وبنين} ؛ " من " : بيان ، أي : أيظنون أن الذي نمدهم به من الأموال والبنين ، {نُسارعُ لهم} بذلك {في الخيرات بل لا يشعرون} أنه استدراج ، قيل : استدراك لقوله : {أيحسبون} أي : بل هم أشباه البهائم ، لا شعور لهم حتى يتأملوا في ذلك ، هل هو استدراج أو مسارعة في الخيرات ؟ وحاصل المعنى : أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي ، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ، ومعاملة لهم بالثواب ، جزاء على حسن صنيعهم.
(5/33)
وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح ؛ لأنهم يقولون : إن الله - تعالى - لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين ، وقد أخبر أن ذلك لا خير لهم فيه ولا صلاح ، والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 20
الإشارة : تناول الطيبات وما تشتهيه النفس من أنواع الملذوذات ، مباح في الشرع قديماً وحديثاً ، إن كان من وجه مباح وقارنه الشكر ؛ لأن الحق تعالى ما خلق ذلك إلا لعباده ؛ ليشكروه ويحمدوه ، ويتذكروا بذلك نعيم الجنان ، الذي لا يفنى ولا يزول ، وما هذا النعيم الدنيوي إلا أنموذج من نعيم الآخرة ، قال تعالى : {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة : 38]. هذا باعتبار عامة المسلمين ، وأما الخاصة ؛ من العُبَّاد والزهاد والمريدين السائرين ، فهم يجتنبون ما تجنح إليه النفس ، ويتعلق به القلب ؛ خوفاً من الإشتغال بذلك عن العبادة أو السير ؛ لأن القلب إذا توجه لأمر أعرض عن الآخر ، فإذا توجه إلى طلب الشهوات أعرض عن الله ، وتَفَتَّر عن السير ، وتَكَبَّل عن النهوض إلى الحضرة. ولذلك قال في الحِكَم : " كيف يشرق قلب : صُورُ الأكوان منطبعة في مرآته ؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مُكَبَّل بشهواته ؟ أم كيف يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته ؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته ؟ " وقال بعضهم : لَدغُ الزنابير على الأجسام المَقرحة ، أيسر من لدغ الشهوات على القلوب المتوجهة. هـ.
وأما خاصة الخاصة ؛ وهم العارفون المتمكنون ، فهم مع مولاهم ، يأخذون من يده ما يعطيهم ؛ لأن قلوبهم قد استغرقتها الأنوار ، فلم يبق فيها متسع للأغيار ، قد تهذبت نفوسهم ، واطمأنت بالله قلوبهم ، فلا تلتفت إلى غير مولاها. وبالله التوفيق.
(5/34)
وقوله تعالى : {فتقطعوا أمرهم بينهم...} إلخ ، الاختلاف ، إن كان التوحيد وما يرجع إليه من أصول العقائد ، فهو مذموم ، وهو الذي نعاه الله على الكفرة المتحزبة ،
22
وأمَّا إن كان في الفروع فهو مشروع ، كاختلاف الشرائع والمذاهب ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام- : " اختلاف أمتي رحمة " ، وقال بعض الصوفية : ما زالت الصوفية بخير ما تنافروا ، فإن توافقوا فلا خير فيهم.هـ. والمراد بالتنافر - في حقهم - التناصح ، وإنكار بعضهم على بعض ؛ إذا رأى من أحد عيباً ، فإن سكتوا عن بعضهم ، وتوافقوا على مساوئ بعضهم بعضاً ، فلا خير فيهم ، وأما قلوبهم فهي متوافقة مؤتلفة.
وقوله تعالى : {كل حزب بما لديهم فرحون} ، أما أهل الحق فهم فرحون ؛ لسلوكهم على المنهاج المستقيم ، المُفضي إلى رضوان الله ورحمته ، وأما أهل الباطل فزين لهم الشيطان أعمالهم ؛ ليتمكنوا من التقرر عليه حتى ينفذ مراد الله فيهم ، ولو تحققوا أنهم على باطل لم يمكن قرارهم عليه ، فتبطل حكمته وقهريته ، وكل من أقامه الحق - تعالى - في حرفة أو خُطة ، زينها الله - تعالى - في قلبه حتى يقوم بها ، وكذلك أهل الأسباب من أرباب الدليل والبرهان ، مع أهل التجريد من أهل الشهود والعيان ، لو علموا بمقام أهل العيان ما أقاموا في الأسباب ، ولتجردوا كلهم ، فتبطل الحكمة الإلهية. وكان إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه يقول : (لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف) : فسبحان من قرَّب قوماً وأبعد قوما ، {وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا}. والله تعالى أعلم وأحكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 20
قال في الحاشية : لمّا ذكر تعالى غفلةَ الكفار ووعيدهم ، عقَّب ذلك بوصف المؤمنين بضد ذلك ويقينهم بالرُّجْعَى ، وإشفاقهم من جلال الحق وقهره.هـ.
(5/35)
يقول الحق جل جلاله : {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي : من عذابه خائفون حذرون ، {والذين هم بآيات ربهم} المنصوبة والمُنَزَّلة ، (يؤمنون) بتصديق مدلولها ، وبكتب الله كلها ، لا يُفرقون بين كتبه ، كالذين تقطعوا أمرهم بينهم - وهم أهل الكتاب وغيرهم ، {والذين هم بربهم لا يشركون} شركاً جلياً ولا خفياً ، بخلاف مشركي العرب والعجم.
{والذين يُؤتون ما آتَوْا} أي : يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات. وقرئ : (يأَتُونَ مَا أَتَواْ) بالقصر ، أي : يفعلون من الطاعات ، {وقلوبهم وَجِلةٌ} : خائفة ألاَّ تُقبل منهم ؛ لتقصيرهم ؛ بأن لا يقع على الوجه اللائق ، فيُؤخذوا به ويُحرموا ثوابه ؛ لأنهم {إلى
23
ربهم راجعون} فيعاتبهم ، أو من مرجعهم إليه ، وهو يعلم ما يحيق عليهم ، والمصولات الأربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر ، في حَيِّزِ صِلاتِهَا من الأوصاف الأربعة ، لا عن طوائف ، كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة ، كأنه قيل : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، وبآيات ربهم يؤمنون... إلخ.
وإنما كرر الموصول ؛ إيذاناً باستقلال كل واحد من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حِيالها ، وتنزيلاً لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها ، وخبر " إنّ " : {أولئك يسارعون} ، أشار إليهم بالجمع اعتبار اتصافهم بتلك النعوت ، مع أنَّ الموصول واقع على الجمع.
(5/36)
ومعنى البُعد ؛ للإشعار ببُعد رُتبتهم في الفضل ، أي : أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة يسرعون {في الخيرات} أي : يرغبون في الطاعات أشد الرغبة ، فيبادرون إليها. أويسارعون في نيل الخيرات العاجلة والآجلة الموعودة على الأعمال الصالحات ؛ كما في قوله تعالى : {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران : 148] ، وقوله : {وَآتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل : 122] ، فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم ، غير أنه غيّر الأسلوب ، حيث لم يقل : أولئك نسارع لهم في الخيرات ؛ بل أسند المسارعة إليهم ؛ إيماءاً إلى كمال استحقاقهم نيل الخيرات لمحاسن الأعمال. وإيثار كلمة " في " ، عن كلمة " إلى " ؛ إيذانا بأنهم مُتَقلِّبون في فنون الخيرات ، لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها ، كما في قوله تعالى : {وَسَارِعُوااْ إِلَىا مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران : 133] الآية.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 23
(5/37)
وهم لهم} أي : لأجل نيل تلك الخيرات ، {سابقون} الناس إلى الطاعات ، أو : وهم إياها سابقون ، واللام زائدة ؛ لتقوية العامل ، كقوله : {وهم لها عاملون} أي : ينالونها قبل الآخرة ، فتُعجل لهم في الدنيا ، وعن ابن عباس : {هم لها سابقون} أي : سبقت لهم من الله السعادة ، فلذلك سارعوا في الخيرات. هـ. فهو إشارة إلى تيسير كلِّ لما خُلِق له ، وأنه يَسَّرهمُ القدرُ لما وصفهم به من الخير ، كما أن الكفار أُمدوا بما يدعو للغفلة والإعجاب ، مما هو استدراج ومكر من حيث لا يشعرون. قال تعالى : {ولا نُكلِف نفساً إلا وُسْعَها} أي : طاقتها ، فهو تحريض على تحصيل ما وُصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات ؛ ببيان سهولته ، وأنه غير خارج عن حد الوسع والطاقة ، أي : عادتنا جارية بأنْ لا نكلف نفساً من النفوس إلا ما في طاقتها ، فإن لم يبلغوا في فعل الطاعة مراتب السابقين ، فلا عليهم ، بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم.
{ولدينا كتابٌ} أي : صحائف الأعمال التي يرونها عند الحساب ، حسبما يُعرب عنه قوله : {ينطِق بالحق} ، كقوله : {هَـاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ
24
(5/38)
تَعْمَلُونَ} [الجاثية : 29] أي : عندنا كتاب أثبت فيه أعمال كل أحد على ما هو عليه ، أو أعمال السابقين والمقتصدين جميعاً ، وقوله : (بالحق) : يتعلق بينطق ، أي : يُظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ، أو يظهره للسامع ، فيظهر هناك جلائل أعمالهم ودقائقها ، ويرتب عليها أجزيتها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرٌ ، وقيل : المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، وهو مناسب لتفسير ابن عباس بسبق السعادة ، وقوله : {وهم لا يظلمون} ، بيان لفضله تعالى وعدله في الجزاء ، إثر بيان لطفه في التكليف وكتب الأعمال ، أي : لا يظلمون في الجزاء ؛ بنقص الثواب أو بزيادة عذاب ، بل يُجزون بقدر أعمالهم التي كُلّفوها ، ونطقت بها صحائف أعمالهم ، أو : لا يُظلمون بتكليف ما لا وسع فيه ، أو : لا ينقصون مما سبق لهم في اللوح المحفوظ شيئاً ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : ذكر في هذه الآية أربعة أوصاف من أوصاف المقربين ، أولها : الخوف والإشفاق من الطرد والإبعاد ، والثاني : الإيمان الذي لا يبقى معه شك ولا وَهْم ، بما تضمنته الآيات التنزيلية من الوعد والإيعاد ، والثالث : التوحيد الذي لا يبقى معه شرك جلي ولا خفي ، والرابع : السخاء والكرم ، مع رؤية التقصير فيما يعطي. فمن جمع هذه الخصال كان من السابقين في الخيرات ويُسارع لهم في تعجيل الخيرات ، وكل ذلك بقدر ما يطيق العبد ، مع بذل المجهود في فعل الخيرات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 23
(5/39)
قال في الحاشية : والمسارعة إلى الخيرات إنما هو بقطع الشرور ، وأول الشرور : حب الدنيا ؛ لأنها مزرعة الشيطان ، فمن طلبها وعمرها فهو حراثه وعبده ، وشر من الشيطان من يُعين الشيطان على عمارة داره ، وما ذلك إلا أنه لم يهتم بأمر معاده ومنقلبه ، لما جرى عليه في السابقة من الحكم ، ولا كذلك من وصفه في الإشفاق من المؤمين ؛ إجلالاً لربهم ، ورجوعاً لحكمه فيهم غيباً ، فلا يأمنون مكره بحال ، ولا يركنون إلى أعمال ، بل عمدتهم ربهم ورحمته في كل حال. والله أعلم. والحاصل : أنهم مع كونهم يخشون ربهم ويؤمنون بآياته ، ولا يشركون به شيئاً ، ويودون طاعته ، يخافون عدم قبوله لهم عند الرجوع إليه ، ولقائهم له ؛ لأنه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأحكامه لا تعلل ، ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده. هـ.
قوله : " ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده " ، أي : لأنه قد يرتب ذلك على شروط أخفاها عنه ، ليدوم خوفه واضطراره ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، وليس خوف العارف من السابقة ولا من الخاتمة ؛ لأنه شغله استغراقه في الحق والغيبة فيه عن الشعور بالسابقة واللاحقة ، إنما خوفه من الإبعاد بعد التقريب ، أو الافتراق بعد الجمع ، وهذا أيضاً قبل التمكين ، وإلا فالكريم إذا أعطى لا يرجع. والله تعالى أعلم.
25
جزء : 5 رقم الصفحة : 23
قلت : " بل " إضراب عما قبله من أوصاف المؤمنين ، وانتقال إلى أضدادهم من الكافرين ، والضمير للكفرة ، و " حتى " : ابتدائية مختصة بالدخول على الجُمل.
(5/40)
يقول الحق جل جلاله : {بل قلوبُهم} أي : الكفرة المستدرج بهم ، وهم لا يشعرون ، {في غَمْرَةٍ} ؛ في غفلة غامرة لها ، مما عليه هؤلاء الموصوفون بما تقدم من الخشية وما بعده ، أو مما بيَّن في القرآن من أن لديه كتاباً ينطق بالحق ، ويُظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد ، فيُفضحون بها ، كما ينبئ عنه ما بعده من قوله {قد كانت آياتي تتلى عليكم..}. {ولهم أعمال من دون ذلك} أي : ولهم أعمال خبيثة كثيرة ، متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون ، من الأعمال الصالحات ، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم ، {هم لها عاملون} ، وعليها مقيمون ، مستمرون عليها ، حتى يأخذهم الله بالعذاب ، كما قال : {حتى إذا أخذنا مُتْرَفِيهم} أي : منعميهم {بالعذاب} أي : عذاب الدنيا ، وهو القحط سبع سنين ، حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، واجعلها عَلَيْهمَ سِنِينَ كَسِنيِّ يُوسُفَ " ، فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام. أو : القتل يوم بدر. والحق : إنه العذاب الأخروي ؛ إذ هو الذي يُفاجأون عنده بالجؤار ، فيجابون بالرد والإقناط عن النصر ، وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار ، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون : 76] فإنَّ المراد به ما جرى عليهم يوم بدر كما يأتي. وأما الجوع فإن أبا سفيان ، وإن تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد عليه بالإقناط ، بل دعا لهم فكشف عنهم. وقوله تعالى : {إذا هم يجأرون} أي : يصرخون ؛ استغاثة ، والجؤار : الصراخ باستغاثة. فيقال لهم : {لا تجأروا اليوم} ؛ فإن الجؤار غيرُ نافع لكم ، {إنكم منا لا تُنصرون} أي : لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 26
(5/41)
وقد كانت آياتي} القرآنية {تُتلى عليكم} في الدنيا ، {فكنتم على أعقابكم تَنكصُونَ} أي : ترجعون القهقرى ، وتعرضون عن سماعها أشد الإعراض ، فضلاً عن تصديقها والعمل بها ، والنكوص : الرجوع القهقرى ، وهي أقبح المشية ؛ لأنه لا يرى ما وراءه ، {مستكبرين به} ، الظاهر أن الضمير للقرآن ؛ لتقدم ذكر آياته ، والباء بمعنى " عن " أي : متكبرين عن سماعه والإذعان له ، أو سببية ، أي : فكنتم بسبب سماعه مستكبرين عن قبوله ، وعمن جاء به ، أو ضَمَّن مستكبرين معنى مُكذبين ، وقيل : يعود إلى البيت الحرام ،
26
أو الحرم ، وأضمر ولم يذكر ؛ لأنه من السياق. والمعنى : أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام ؛ لأنهم أهله وأهل ولايته ، وكانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد ؛ لأن أهل الحرم ، وقيل : تتعلق بالباء بقوله : {سامراً} أي : تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون ، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه ، وفي النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به ، و " سامراً " : مفرد بمعنى الجمع ، وقرئ سُمَّاراً ، {تهجرون} ، إما من الهَجر بالفتح ، بمعنى الهذيان ، أي : تهذون في شأن القرآن كما يهذو الحالم أو السكران. أو من الترك ، أي : تتركونه وتفرون منه ، أو تهجرون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أو من " الهجر " بالضم ، وهو الفحش ، ويؤيده قراءة من قرأ : " تُهجِرون " ، من أهجر في منطقة : إذا أفحش. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من كان قلبه في غمرة حظوظه وهواه ، عاكفاً على جمع دنياه ، لا يطمع في دخول حضرة مولاه ، ولو صلى وصام ألف سنة. قال القشيري : لا يَصلُحُ لهذا الشأنِ إلا من كان فارغاً من الأعمال كلها ، لا شغلَ له في شأن الدنيا والآخرة ، فأمَّا من شُغل بدنياه ، وعلى قلبه حديثٌ من عقباه ، فليس له نصيبٌ من حديث مولاه. هـ. وفي الحديث : " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهمَا كَثِيرٌ مِنَ الناس : الِّصحَّةُ والفَرَاغُ ".
(5/42)
جزء : 5 رقم الصفحة : 26
قلت : الهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أَفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار فلم يتدبروا القرآن ، و " أم " : منقطعة ، فيها معنى الإضراب والتوبيخ في الجميع.
يقول الحق جل جلاله : {أَفَلَمْ يدّبروا القولَ} ؛ يتدبروا القرآن ليعرفوا ، بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول ، والإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة ، أنه الحق ، فيؤمنوا به ، ويُذعنوا لمن جاء به ، {أم جاءهم} ؛ بل أَجاءهم من الكتاب {ما لم يأتِ
27
آباءهم الأولين} ، حتى استبعدوه واستبدعوه ، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال ، {أم لم يعرفوا رسولهم} أي : بل ألم يعرفوه - عليه الصلاة والسلام - بالأمانة والصدق ، وحسن الأخلاق ، وكمال العلم من غير تعلم ولا مدارسة ، وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء قبله ، بل عرفوه بذلك {فهم له منكِرون} بغياً وحسداً.
(5/43)
{أم يقولون جِنَّة} ؛ جنون ، وليس كذلك ؛ لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلاً ، وأثقبهم ذهناً ، وأتقنهم رأياً ، وأوفرهم رزانة ، ولقد شهد له بذلك كل من رآه من الأعداء والأحباب ، {بل جاءهم بالحق} أي : ليس الأمر كما زعموه في حق الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وما جاء به من القرآن ، بل جاءهم بالحق الأبلج والصراط المستقيم ، وبما خالف أهواهم ، من التوحيد الخالص والدين القيم ، ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً ، فلذلك نسبوه إلى الجنون ، {وأكثرُهُم للحقِّ} من حيث هو حق ، لا لهذا بعينه ، فلذلك أظهر في موضع الإضمار ، {كارهون} ؛ لِمَا في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل ؛ ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج ، وزاغوا عن الطريق الأبهج ، وفي التعبير بالأكثر دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق بل كان تاركاً للإيمان به ، أنفةً واستنكافاً من توبيخ قومه ، أو لقلة فطنته وعدم تفكره ، كأبي طالب وأضرابه. قال ابو السعود : وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق ، مع اتفاق الكل على الكفر به ، مما لا يساعده المقام أصلاً. هـ. فحمل الأكثر على الكل.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 27
ولو اتبع الحقُّ أهواءهم} بأن كان في الواقع آلهة شتى ؛ {لفسدتِ السمواتُ والأرضُ ومن فيهن} كما تقدم في قوله : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء : 22] ، فالاتباع هنا مجاز ، أي : لو جاء الوحي على ما يشتهون لفسدت السموات ، فالحق هنا هو المذكور في قوله : {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} ، والمعنى : لو كان ما كرهوه من الحق ، الذي من جملته ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، موافقاً لأهوائهم الباطلة ؛ لفسد نظام العالم ، وتخصيص العقلاء بالذكر حيث عبَّر بمن ؛ لأنَّ غيرهم تبع.
(5/44)
{بل أتيناهم بذكْرهم} : بشرفهم ، وهو القرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم ، كما قال تعالى : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف : 44] ؛ لأن الرسول منهم ، والقرآن لغتهم ، أو بتذكيرهم ووعظهم ، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ، ويقولون : {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأَوَّلِينَ} [الصافات : 168] ، {فهم عن ذِكْرِهم معرضون} أي : فهم ، بما فعلوا من النكوص ، عن فخرهم وشرفهم معرضون ، وهذا مما جُبِلَتْ عليه النفوس الأَمّارة ؛ الإعراض عما فيه خيرها ، والرغبة فيما فيه هلاكها ، إلا من عصم الله ، وفي إسناد الإتيان إلى نون العظمة ، بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ، ومن التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. انظر أبا السعود.
{أم تسألُهُم خَرْجاً} ، هذا انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم : {أم يقولون به جِنَّة} ،
28
إلى التوبيخ بوجه آخر ، كأنه قال : أم يزعمون أنك تسألهم عن أداء الرسالة {خَرْجا} أي : جُعلاً ، فيتهمونك ، أو يثقل عليهم فلذلك لا يؤمنون ، {فخراجُ ربك خيرٌ} أي : رزقه في الدنيا ، وثوابه في الآخرة ، خير لك من ذلك ؛ لدوامه وكثرته ، أي : لا تسألهم ذلك ؛ فإن ما رزقك الله في الدنيا والعقبى خير لك من ذلك ؛ وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ، من تعليل الحكم وتشريفه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
(5/45)
والخَرْج والخراج واحد ، وهو : الأجر المأخوذ على العمل ، ويطلق على الغلة والضريبة كخراج العبد والأرض ، وقال النضر بن شُميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفراق بين الخراج والخَرْج ، فقال : الخراج ما لزمك ، والخرج مَا تَبَرَّعْتَ به ، وقيل : الخرج أخص من الخراج ؛ لأنَّ الخراج يطلق على كل ما يستفيده المرء من غلة ، أو أجرة ، أو زكاة ، والخرج خاص بالأجرة ، وفي الخراج إشعار بالكثرة ، فلذلك عبَّر به في جانبه - تعالى - والمعنى : أم تسألهم ، على هدايتك لهم ، قليلاً من عطاء الخلق ، فالكثير من عطاء الخالق خير ، {وهو خير الرازقين} : أفضل المعطين.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 27
وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} تشهد العقول السليمة باستقامته ، ليس فيه شائبة اعوجاج ، توجب اتهامهم لك بوجه من الوجوه ، ولقد ألزمهم الله - تعالى - الحجة ، وأزاح عِللهم في هذه الآيات ، حيث حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام من قوله : {أم لم يعرفوا رسولهم...} إلى هنا ، وبيَّن انتفاءها ، ولم يبق إلا كراهة الحق وعدم الفطنة أو العناد أو المكابرة ، {وإنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط} ؛ عن طريق الحق {لناكِبُون} أي : لعَادلون عن هذا الصراط المذكور ، وهو الصراط المستقيم ، وصفهم بعدم الإيمان بالآخرة ، تشنيعاً لهم بما هم عليه من الانهماك في الدنيا ، وزعمهم ألاَّ حياة إلاَّ حياة الدنيا ، وإشعاراً بعِلّيّة الحُكم ؛ فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أمور الدعاوي إلى طلب الحق وسلوك سبيله. والله تعالى أعلم.
(5/46)
الإشارة : كل من أنكر على أهل الخصوصية ، ولم يعرف خصوصيتهم ؛ فسببه ثلاثة أمور : إما أنه لم يصحبهم ولم يتدبر ما يقولون ، ولا ما يأمرون به وينهون عنه ، وإنما يرميهم رجماً بالغيب ، وإما أنه حسدهم وخاف على جاهه أن يتنقل لغيره ، وإما أنهم أتوا بخرق عوائد النفوس التي لم تكن لآبائهم الأولين ، فقالوا : {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمِ مُّقْتَدُونَ} ، وإنما جاءهم بالحق ، وأكثرهم للحق كارهون ، وكيف تُخرق للعبد العوائد ، وهو لم يخرق من نفسه العوائد ؟ . {وَلَوِ اْتَّبَعَ اْلحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} ، بأن كانت التربية على طريق العوائد ، والاستمرار معها لفسد النظام ، ولبقي الكون كله ظلمة لجميع الأنام ؛ إذ لا يمكن أن يصير الكون نوراً ، بظهور الحق فيه ، إلا بخرق عوائد النفوس ، وإخراجها عن هواها ، فحينئذٍ تخرق له ظلمة الكَون ، فيفضي إلى شهود المكَوّن ، (بل أتيناهم
29
بذكرهم) أي : بشرفهم ، بمعرفة الحق على نعت العيان ، (وهم عن ذكرهم معرضون) ؛ حيث انهمكوا في عوائدهم ، ولم يقبلوا من يخرجهم عنها ويعرفهم بالله لله ، من غير خراج ولا طمع.
(5/47)
قال تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : {أَمْ تَسْئَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ}. قال القشري : أي : إنَّكَ لا تُطالبهم على تبليغ الرسالة بأجرة ، ولا بإعطاءِ عِوَض ، حتى تكون في موضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة ، أم لعلك تريد أن يَعْقدُوا لك الرئاسة ، ثم قال : والذي لَكَ من الله - سبحانه - من جزيل الثواب ، وحسن المآب ، يُغْنيك عن التصدي لنيلِ ما يكون في حصوله منهم مطمع. هذه كانت سُنَّة الأنبياء والمرسلين - عليهم السلام - ؛ عملوا لله فلم يطلبوا عليه أجراً من غير الله ، والعلماء ورثة الأنبياء في التنزه من التَّدَنُّس بالأطماع ، والأكل بالدين ، فإنه ربا مُضِرٌّ بالإيمان ، إن كان العملُ لله فالأجر مُنتظرٌ من الله ، وهو موعودٌ مِن قبل الله. هـ. وراجع ما تقدم في سورة هود ؛ فإنه أوفى من هذا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 27
وقوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، وهو طريق الوصول إلى شهود الذات الأقدس ، من طريق التربية ، التي هي مخالفة الهوى والخروج عن العوائد. وقال القشيري : الصراطُ المستقيمُ : هو شهودُ الحقِّ بنعت الإنفراد في جميع الأشياء ، والإيجاف ، والاستسلام لقضايا الإلزام ، بمواطأة القلب من غير استكراها الحُكمْ. هـ. وقال الورتجبي عن بعضهم : لولا أن الله - تعالى - أمر بمخالفة النفوس ومباينتها ، لاتَّبع الخلق أهواءهم في شهوات النفوس ، ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية ، وتركوا أوامر الله ، وأعرضوا عن طاعته ، ولزموا المخالفة ، ألا ترى الله يقول : {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}.
(5/48)
ثم بيَّن سبحانه أن حبيبه - عليه الصلاة والسلام - يدعوهم إلى تلك المشاهدة بقوله : {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي : مما أوضحه أنوار جماله وشاهَدْتَه ، وهي طريق معرفته في قلوب الصِّدّيقين للأرواح القدسية. وتلك الطريقة منتهاها المحبة ، وبدايتها الأسوة والمتابعة ؛ لقوله : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران : 31]. هـ. قلت : المراد بالمحبة محبة الحق لعبده ؛ بدليل الآية التي ذكر. وقال ابن عطاء : إنك لتحملهم على مسالك الوصول ، وليس كل أحد يصلح لذلك السلوك ، ولا يوفق له إلا أهل الإستقامة ، وهم الذين استقاموا مع الله ولم يطلبوا معه سواه ، ولم يروا لأنفسهم درجة ولا مقاماً. هـ.
قوله تعالى : {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي : لا يؤمنون بالحياة الآخرة ، وهي
3
حياة النفوس بالمعرفة العيانية ، بعد موتها بالجهل والوقوف مع الحس والعوائد ، ممن لا يصدق بهذه الحياة ، وأنكر وجود من يوصل إليها عن طريق الحق الموصلة إليه ، لناكبون ، فهم في الحيرة والتلف تائهون ، عائذاً بالله من ذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 27
(5/49)
يقول الحق جل جلاله : {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضُرّ} ، كقحط وجدب ، {لَلَجُّوا} : لتمادَوا {في طغيانهم} : إفراطهم في الكفر والعتو والإستكبار وعداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين ، {يعمهون} : يترددون عامهين عن الهدى. قال ابن عباس : لما أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بن أَثالٍ الحنفي ، ورجع إلى اليَمَامَةِ ، مَنَعَ المِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّة ، وَأَخَذَهُمُ الله تعالى بالسنين حَتَّى أَكلَّوا العِلْهِزَ ، جَاءَ أبو سُفْيانَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال له : أَنْشدُك الله والرَّحِمَ ، ألسْتَ تزعمُ أَنّك بُعثْتَ رَحْمَة للعالَمين ؟ قال : بَلَى ، قال : قتلتَ الآباءَ بالسَّيف ، والأبنَاءَ بالجوعِ ، فنزلت. قال ابن جُزي : وفيه نظر ؛ فإن الآية مكية باتفاق ، وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بعد الهجرة ، حسبما ورد في الحديث. هـ.
قلت : والتحقيق : أن القحط نزل بهم مرتين ، أحدهما قبل الهجرة ، حين دعا عليهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " اللهم أَعنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف " ، فأخذتهم سَنَةٌ حصدت كل شيء ، حتى أكلوا الميتة والعظام ، وكانوا يرون كهيئة الدخان من الجوع ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمد ، جئت تأمر بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادعُ الله يغيثنا ، فدعا لهم.. الحديث. وفيه نزل الله تعالى : {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان : 10] الآية ، وقوله هنا : {ولو رحمناهم وكشفنا...} الآية. ومرة أخرى بالمدينة ؛ حين استغاثوا به عليه السلام وهو يخطب ، ولعله هو الذي ذكره ابن عباس في إسلام ثمامة ، ولعل قوله : " فنزلت الآية " سهو ؛ لأنها نزلت قبل الهجرة ، إلاّ أن تكون الآية مدنية في السورة المكية ، وقول ابن جزي : " دعا عليهم بعد الهجرة " ، التحقيق ، أنه دعا عليهم قبلُ وبعدُ. والله أعلم.
(5/50)
والمعنى : لو رحمناهم ، وكشفنا ما بهم من القحط والهزال ؛ برحمتنا إياهم ، ووجدوا الخصب ، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والاستكبار ، ولذهب عنهم هذا الخلق والتعلق بك ، وهذا كقوله تعالى في الدخان : {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} [الدخان : 15] ، قيل :
31
المراد بالضر : العذاب الأخروي ، فيكون كقوله : {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام : 28].
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 31
ولقد أخذناهم بالعذاب} ، وهو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر ، وهو قوله - تعالى - في الدخان {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىا} [الدخان : 16]. {فما استكانُوا لربهم} بذلك ، أي : لم يخضعوا ولم يتذللوا. و " استكانوا " : افتعل من السكون ، والألف زائدة ، أو استفعل من الكون ، أي : انتقل من كون إلى كون ، كاستحال ، إذا انتقل من حالٍ إلى حال ؛ لأن الخاضع ينتقل من كون إلى كون {وما يتضرعون} أي : وليس من حالهم التضرع إليه تعالى ، وعبَّر بالمضارع ، ليدل على الاستمرار ، أي : ليس شأنهم التضرع في هذه الحالة وغيرها ، أو : فما استكانوا فيما مضى ، وما يتضرعون فيما ينزل بهم في المستقبل ، والمعنى : تالله لقد أخذناهم بالعذاب ، وقتلناهم بالسيوف ، وما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم ، فما وُجدت ، بعد ذلك ، منهم استكانة ولا تضرع. {حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذابٍ شديد} ، وهو عذاب الآخرة ، {إذا هم فيه مبلسون} : متحيرون آيسون من كل خير ، وهذا هو الصواب من حمل العذاب على عذاب الآخرة ، بدليل وصفه بالشدة والإياس. والله تعالى أعلم.
(5/51)
الإشارة : أهل الغفلة والبُعد لا يرجعون إلى الله في السراء ولا في الضراء ؛ لانهماكهم في الغفلة والقساوة ، وأهل اليقظة يرجعون إلى الله في السراء والضراء ، في السراء بالحمد والشكر ، وفي الضراء بالصبر والرضا والتسليم ، مع التضرع والابتهال ؛ عبوديةً ، والمقتصدون يرجعون إليه - تعالى - في الضراء ، ويغفلون عن الشكر في السراء ، والأول ظالم لنفسه ، والثاني سابق ، والثالث مقتصد. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 31
يقول الحق جل جلاله : {وهو الذي أنشأ} : خلق {لكم السمع والأبصار} ؛ لتشاهدوا بها عجائب مصنوعاته ودلائل قدرته ، أو لتتوصلوا إلى شهود آياته الكونية والتنزيلية ، {والأفئدة} ؛ لتتفكروا بها فيما تشاهدونه منها وتعتبروا ، وخصها بالذكر ؛ لأنه
32
يتعلق بها من بالمنافع ما لا يتعلق بغيرها ، وقدَّم السمع ؛ لأنَّ أكثر العلوم إنما تُنال به ، {قليلاً ما تشكرون} أي : شكراً قليلاً غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة ؛ لأن العمدة في الشكر : صرف تلك القوى - التي هي في أنفسها نِعمَ باهرة - إلى ما خلقت له ، وأنتم تنتحلون بها ضلالاً عظيماً. {وهو الذي ذرأكم في الأرض} أي : خلقكم وبثكم فيها بالتناسل ، {وإليه تُحشرون} أي : تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم ، فيجازيكم على إحسانكم وإساءتكم.
(5/52)
{وهو الذي يُحيي ويميت} ، من غير أن يشاركه في ذلك أحد ولا شيء من الأشياء ، {وله اختلافُ الليل والنهار} أي : المؤثر في اختلافهما ، {أفلا تعقلون} فتعرفون بالنظر والتأمل أن الكل منا ، وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات ، التي من جملتها البعث والحساب ، وقُرئ " يعقلون " ؛ بالغيب ، على الالتفات ؛ لحكاية سوء حال المخاطبين ، {بل قالوا} عطف على مضمر يقتضيه المقام ، أي : فلم يعقلوا {بل قالوا مثلَ ما قال الأولون} أي : آباؤهم ومن دان دينهم ، {قالوا أئذا مِتْنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون} ، هو تفسير لما أبهم قبله ، أي : قالوا : أُنبعث بعد هذه الحالة ، {لقد وُعِدْنَا نحن وآباؤنا هذا} البعث {من قبل} : متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم ، أي : وُعِدَ هذا آباؤنا من قبلُ ، أو حال من آبائنا ، أي : كائنين من قبل ، {إنْ هذا} أي : ما هذا {إلا أساطير الأولين} أي : أكاذيبهم التي سطروها ، وهي جمع أسطورة كأُحدوثة وأُعجوبة ، أو جمع أسطار ، جمع سطر ، فيكون جمع الجمع. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 32
(5/53)
الإشارة : ذكر في الآية خمس نِعَم ، يجب على العبد شكر كل واحدة منها ، فشُكْر نعمة السمع : أن تسمع به ما ينفع ، وتكفه عما لا ينفع ، وإذا سمعت خيراً أفشيته ، وإذا سمعت شراً دفنته. وشكر نعمة البصر : أن تنظر به في ملكوت السموات والأرض وما بينهما ، فتعرف عظمة الصانع ، أو تشاهده وتوحده فيها. وشكر نعمة القلوب : أن تعرف بها علام الغيوب ، وتُفرده بالوجود في كل مرغوب ومرهوب. وشكر نعمة الإيجاد : أن تكون له عبداً في كل حال. وشكر نعمة الإعادة : أن تتأهب للقائه في كل لحظة وساعة. (وهو الذي يحيي ويميت) ؛ يحيي قلوباً بالمعرفة بعد الجهل ، ويميت قوباً بالغفلة والجهل بعد العلم واليقظة ، وذلك بالسلب بعد العطاء والعياذ بالله. وله اختلاف ليل القبض ونهار البسط على العبد ، ثم يُخرجه عنهما ؛ ليكون مع الله لا مع شيء سواه. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 32
يقول الحق جل جلاله : {قل} يا محمد لمن أنكر البعث : {لِمن الأرضُ ومن فيها} من المخلوقات ؛ عاقلاً أو غيره ، أي : من أوجدها ، ودبر أمرها ، {إن كنتم تعلمون} شيئاً ؟ والجواب محذوف ، أي : فأخبروني ؛ فإن ذلك كاف في الجواب ، {سيقولون لله} ؛ لأنهم مُقرُّون بأنه الخالق ، فإن أقروا بذلك {فقل أفلا تذكرون} فتعلمون أنَّ من قدر على خلق السموات والأرض وما فيهن ، كيف لا يقدر على إعادة الخلق بعد عدومها ؟ فإن الإعادة أهون من البدء. {قل من ربُّ السموات السبع وربُّ العرش العظيم} ، أعيد الرب ؛ تنويهاً لشأن العرش ، ورفعاً لمحله ؛ لئلا يكون تبعاً للسموات والأرض ، وجوداً وذكراً ، ولقد روعي في الأمر بالسؤال الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، فإن سألتهم (سيقولون لله) أي : هي لله ، كقولك : مَن رب هذا الدار ؟ فتقول : هي لفلان ، وقال الشاعر :
إذَا قِيل : مَن رَبُّ الْمَزالِفِ والْقِرَى
ورَبُّ الْجِياد الجُرْدِ ؟ قيل : لخَالِدِ
(5/54)
وقال الأخَفش : اللام زائدة ، أي : هو الله ، وبعدمه قرأ أهل البصرة ، فيه وفيما بعده ، واتفقوا على إثباته في الأول ، ليطابق السؤال ، فإن أجابوا بذلك {فقل أفلا تتقون} أي : أتعلمون ذلك ، ولا تتقون عذابه في كفركم وجحودكم قدرته على البعث ؟
{قل من بيده ملكوت كل شيء} أي : التصرف التام في كل شيء بقهره وسلطانه ، فالملكوت ، في أصل اللغة ، مبالغة في الملك ، زيدت الواو والتاء ؛ للمبالغة ، كالجبروت ؛ مبالغةً في الجبر ، وفي عرف الصوفية ، الملكوت : ما بطن من أسرار المعاني القائمة بالأواني ، أو نقول : ما غاب في عالم الشهادة من أسرار الذات ، فحس الأواني مُلك ، ومعانيها ملكوت ، والجبروت : ما خرج عن دائرة الأكوان من بحر الأسرار ، الفائض بأنوار الملكوت ، وهذه أسماء لمسمى واحد ، وهو بحر الوحدة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 33
ثم قال تعالى : {وهو يُجير} أي : يغيث ، يقال : أجرت فلاناً على فلان : إذا أغثته منه ، يعني : وهو يغيث من شاء ممن شاء ، {ولا يُجار عليه} : ولا يغيث أحد عليه ، أي : لا يمنع أحدٌ أحداً بالنصر عليه. {إن كنتم تعلمون} شيئاً ما ، أو تعلمون ذلك ، فأجيبوني ؟ {سيقولون لله} أي : لله ملكوت كل شيء ، وهو يُجير ولا يُجار عليه ، {قلْ فأنى تُسحرون} أي : فمن أين تُخدعون وتُصرفون عن الرشد ، وعن توحيد الله وطاعته ؟ فإنَّ من لا يكون مسحوراً مختل العقل لا يكون كذلك ، قال تعالى : {بل أتيناهم بالحق} الذي لا محيد عنه ؛ من التوحيد والوعد بالبعث ، {وإنهم لكاذبون} فيما قالوا من الشرك وإنكار البعث. وبالله التوفيق.
34
(5/55)
الإشارة : قل : لمن أرض النفوس ، وما فيها من الأهوية والحظوظ والعلائق ؟ سيقولون : هي لله يتصرف فيها كيف يشاء ، فتارة يُملِّكها لعبده ، فتكون تحت قهره وسلطانه ، فيكون حراً من رق الأشياء ، وتارة يُملّكه لها بعدله ، فيكون تحت قهرها وسلطانها ، تتصرف فيه كيف تشاء ، ويكون مملوكاً لها ، ينخرط في سلك من اتخذ إلهه هواه ، قل : من رب سماوات الأرواح وعرش الأسرار والأنوار ، وهو القلب الذي هو بيت الرب ، قل : سيقولون : لله ، يظهرها متى شاء ، ويوصلها إلى أصلها كيف شاء ، قل : من بيده ملكوت كل شيء ، فيتصرف في النفوس والأرواح ؛ بالتقريب والتبعيد ، وهو يُجير مِن الحظوظ والأهوية مَن يشاء ، ويسلطها على مَن يشاء ، ولا يُجار عليه ، لا يمينع من قهره أحد ، فأنَّى تسحرون. قال القشيري : أولاً قال : (أفلا تذكرون) ، ثم قال بعده : (أفلا تتقون) ؛ قدَّمَ التذكرَ على التقوى ؛ لأن بتذكيرهم يَصلُون إلى المعرفة ، وبعد أن عرفوه ، علموا أنه يجب عليهم اتقاءُ مخالفته ، ثم بعد ذلك قال : (فأنى تُسْحَرون) ؟ أي : بعد وضوح الحجة ، أيُّ شَكٍّ بَقِيَ حتى تَنْسِبُوه إلى السِّحر ؟ . هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 33
يقول الحق جل جلاله : {ما اتخذَ الله من ولدٍ} ، خلاف ما يقوله النصارى ، والعرب التي قالت : للملائكة بنات الله ، تعالى عن قولهم علواً كبيراً ، {وما كان معه من إلهٍ} يُشاركه في ألوهيته ، كما يقول عبدة الأوثان وغيرهم ، {إذاً لذهب كل إله بما خلق} أي : لو كان معه آلهة ، كما يزعمون ، لذهب كل واحد منهم بما خلقه واستبد به ؛ ليتميز ملكه من ملك الآخر ، ووقع بينهم التغالب والتحارب ، كما هو الجاري بين الملوك ، {ولعلا بعضُهم على بعضٍ} : ولغلب بعضهم على بعض ، وارتفع عليه ، كما ترون حال ملوك الدنيا ؛ ممالكهم متمايزة وهم متغالبون ، وحين لم تروا أثراً لتمايز الممالك والتغالب ؛ فاعلموا أنما هو إله واحد.
(5/56)
قال ابن جُزَيّ : وليس هذا البرهان بدليل التمانع ، كما فهم ابن عطية وغيره ، بل بدليل آخر. وقال في قوله : {لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا} : قال كثير من الناس : إنه دليل التمانع الذي أورده المتكلمون ، والظاهر من اللفظ أنه استدلال آخر أصح منه. هـ قال النسفي : ولا يقال : " إذاً " لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب ، وهو هنا وقع لذهب ؛ جزاءً وجواباً ، ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل ؛ لأن الشرط هنا محذوف ، تقديره : لو
35
كان معه آلهة كما يزعمون لذهب...إلخ ، دل عليه : (وما كان معه من إله) ، وهو جواب لمن حاجّه من المشركين. هـ.
{سبحان الله عما يصفون} من الأنداد والأولاد ، {عالِمِ الغيبِ والشهادةِ} أي : السر والعلانية ، أو ما ظهر من حس الأكوان ، وما غاب فيها وعنها ، فمن جرّ " عالم " ؛ فبدل من الجلالة ، او صفة له ، ومن رفعه ؛ فخبر عن مضمر ، أي : هو عالم. {فتعالى عمّا يُشركون} من الأصنام وغيرها ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ فإنَّ تفرده تعالى بالألوهية والعلم المحيط ، موجب لتعاليه عن أن يكون له شريك. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ثلاثة إذا تعددت فسد النظام : الإله ، والسلطان ، والطبيب ؛ فلو تعدد الإله لفسد نظام العالم ، ولو تعدد الْملك لفسدت الرعية بالهرج والفتن ، ولو تعدد الطبيب لفسد العلاج. والطبيب على قسمين : طبيب الأبدان ، وطبيب القلوب ، وهو شيخ التربية ، فإذا تعدد على مريد واحد فسدت تربيته ؛ لانقسام محبته واختلاف علاجه ، فالمريد ، إذا علق قلبه بغير شيخه ، لا ينهض نهوض من جمع همته على شيخه ، بل لا يجيء منه شيء. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 35
(5/57)
قال القشيري : كل أمر نِيطَ بين اثنين انتفى عنه النظام وصحةُ التربية. هـ. وقال الورتجبي : نزه الحق - سبحانه - ذاته عن مخايل الزنادقة ، وكان منزهاً عن أباطيل إشارة المشبهة ، وذاته ممتنعة بكمال أحديته ، عن زعم الثنوية ، كيف يجوز أن يكون القِدم محل الحوادث ؛ إذ القديم المنزه ، إذا تجلى بنعت القدم للحدثان ، صار معدوماً كالعدم ، تعالى الله عن كل وهْم وإشارة. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 35
يقول الحق جل جلاله : {قل ربّ إِما تُرِيَنَّي} أي : إذا كان لا بد أن تريني ما يوعدون من العذاب المستأصل في الدنيا أو عذاب الآخرة ، {ربِّ فلا تجعلني في القوم الظالمين} أي : قريباً لهم فيما هم فيه من العذاب ، وفيه إيذان بفظاعة ما وُعدوه من العذاب ، وأنه يجب أن يستعيذ منه مَن لا يكاد أن يحيق به ، وردٍّ لإنكارهم إياه
36
واستعجالهم على طريقة الاستهزاء ، وقيل : أمر به صلى الله عليه وسلم هضماً لنفسه ، وقيل : إن شؤم الكفرة قد يحيق بمن وراءهم ؛ كقوله تعالى : {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً...} [الأنفال : 25] إلخ ، ورُوي عن الحسن (أنه - تعالى - أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن في أمته نقمة ، ولم يطلعه على وقتها ، فأمر بهذا الدعاء) ويجوز أن يسأل النبيُّ المعصوم ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله ؛ إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه. والفاء : جواب " إما " الشرطية ، أي : إن نزلت بهم النقمة فاجعلني خارجاً عنهم ، وتكرير النداء ، وتصدير كل من الشرط والجزاء به - أي : بالدعاء - ؛ لإبراز كمال الضراعة والابتهال.
(5/58)
قال تعالى : {وإِنا على أن نُّرِيَكَ ما نَعِدُهم} من العذاب {لقادرون} ، ولكنا نؤخره ؛ لعلمنا بأن بعضهم ، أو بعض أعقابهم ، سيؤمنون ، أو : لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم ، وقيل : قد أراهم ذلك ، وهو ما أصابهم يومَ بدر وفتح ومكة ، وهو بعيد ؛ لأن المبادر أن يكون ما استحقوه من العذاب الموعود عذاباً هائلاً مستأصلاً لا يظهر على يديه صلى الله عليه وسلم ؛ للحكمة الداعية إليه ، وكانوا يضحكون ، استهزاءً بهذا الوعد ، وإنكاراً له ، فقال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : {ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ} أي : ادفع الخصلة السيئة بالخصلة التي هي أحسن ، وهو الصفح عنها والإحسان في مقابلتها ، لكن بحيث لا يؤدي إلى وَهَنٍ في الدين وإهانةٍ له. وقيل : السيئة : الشرك ، والتي هي أحسن : كلمة التوحيد ، وقيل : السيئة : المنكر ، والتي هي أحسن : النهي عنه ، وقيل : هي منسوخة بآية السيف ، وقيل : محكمة ؛ إذ المداراة مأمور بها. قال ابن عطية : أمر بمكارم الأخلاق ، وما كان منها بهذا المعنى ، فهو محكم باق في الأمة أبداً ، وما كان بمعنى المواعدة فمنسوخ بآية القتال. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
وهذا التركيب أبلغ من " ادفع بالحسنة السيئة " ؛ لما فيه من التنصيص على التفضيل ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول ؛ للاهتمام. {نحن أعلم بما يصفون} من الشرك والولد ، أو بما يصفك به ، مما أنت على خلافه ، من السحر وغيره ، فسنجازيهم عليه ، وفيه وعيد لهم ، وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإرشاد له إلى تفويض أمره إليه تعالى والاكتفاء بعلمه.
(5/59)
{وقل ربِّ أعوذُ بك من هَمَزاتِ الشياطين} أي : وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت من المحاسن ، التي من جملتها دفع السيئة بالحسنة ، وأصل الهمز : النخس ، ومنه : مهماز الرائض ، شبه حثهم للناس على المعاصي بهمز الرائض الدوابَّ على الإسراع والوثب. وجَمَعَ همزات ؛ لتنوُّع الوساوس وتعدد المضاف إليه ، {وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون} ، أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه ، والتعوذ من أن يحضروه أصلاً في حال من الأحوال ؛ مبالغة في التحذير من ملابستهم ، أو أن يحضروه عند التلاوة أو الصلاة ، أو عند النزع ؛ تشريعاً. وإعادة الفعل ، مع تكرير النداء ؛ لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به.
37
ولا تزال الكفرة تصف الحق بما لا يليق به من الشرك ، {حتى إذا جاء أحدَهم الموتُ} أي : لا يزالون مشركين حتى يموتوا ، فحتى ، هنا ، ابتدائية ، دخلت على جملة الشرط ، وهي متعلقة بيصفون ، وما بينهما اعتراض مؤكد للإغضاء ، لكن لا بمعنى أنه العامل فيه ؛ لفساد المعنى ، بل بمعنى أنه معمول لمحذوف دل عليه ذلك ، أي : تنزيهاً له تعالى عما يصفون ، ويستمرون على الوصف المذكور ، حتى إذا جاء أحداً منهم الموت الذي لا مرد له ، وظهرت له أحوال الآخرة ، {قال} ؛ تحسراً على ما فَرَّطَ فيه من الإيمان والطاعة : {ربِّ ارجعون} أي : ردني إلى الدنيا ، والواو ؛ لتعظيم المخاطب ، كخطاب الملوك ، {لعلي أعملُ صالحاً فيما تركت} أي : في الإيمان الذي تركته ، أو في الموضع الذي تركت فيه الإيمان والطاعة ؛ وهو الدنيا ؛ لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى.
قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا عشيرة ، ولكن ليتدارك ما فرط.
(5/60)
وعنه ، صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِذَا عَايَنَ المؤمن المَلائِكَةَ قَالُوا له : نُرجِعُكَ إلى الدُّنْيا ؟ فَيَقُولُ : إِلَى دارِ الهُمومِ والأحْزانِ ؟ بَلْ قُدُوماً إلى اللهِ تبارك ، وتعالى ، وأمَّا الكافر فَيقُولُ : ارجعون لعلي أعملَ صالحاً... " وقال القرطبي : ليس سؤالُ الرجعة مختصاً بالكافر ، فقد يسألها المؤمن ، كما في آخر سورة المنافقين ، ودلت الآية على أن أحداً لا يموت حتى يعرف : أهو من أولياء الله أم من أعداء الله ، ولولا ذلك لما سأل الرجعة ، فيعلم ذلك قبل نزول الموت وذواقه. هـ. قال المحشي الفاسي : ولعل محمل الحديث في المؤمن الكامل غير المقصِّر ، والآية في غيره. والله أعلم. هـ.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
كَلاَّ} أي : لا رجوع له أصلاً ، وهو ردع عن طلب الرجعة ، واستبعاد لها ، {إِنها} أي : قوله : (رب ارجعون) ، {كلمةٌ} ، والمراد : طائفة من الكلام ، وهو (ربِّ ارجعون...) إلخ ، {هو قائلها} ، ولا فائدة له فيها ، ولا حقيقة لها ؛ لعدم حصول مضمونها ، أو هو قائلها لا محالة ؛ لتسليط الحسرة والندم عليه ، فلا يقدر على السكوت عليها ، (ومن ورائهم) أي : أمامهم ، والضمير للجماعة ؛ لأن أحدهم بمعنى كلهم ، {برزخٌ} : حائل بينهم وبين الرجعة ، {إلى يوم يُبعثون} : يوم القيامة ، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا ، لما علِم أنه لا رجعة يوم القيامة إلى الدنيا ، وإنما الرجوع فيه إلى الحياة الأخرية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما قاله صلى الله عليه وسلم في تضرعه إلى الله تعالى - كما أمره الحق تعالى - يقوله كل عارف ومتيقظ ، فيقول : ربِّ إما تُريني ما يُوعدهُ أهل الغَفلة والبطالة من التحسر والندم ، عند انقراض الدنيا وإقبال الآخرة ، فلا تجعلني في القوم الظالمين ، أي : لا تسلك بي
38
(5/61)
مسلكهم حتى أتحسر معهم فإذا أوذي في الله - كما هو شأن أهل الخصوصية - يقال له : ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ ، وقابل الإساءة بالإحسان ، وإياك والانتصار لنفسك ، وتعوذ بالله من همزات الشياطين ، إن قامت عليك نفسك وأرادت الانتصار ، كما هو شأن أهل الغفلة ، في كونهم منهمكين في الغفلة ، مملوكين في أيدي أنفسهم ، مستمرين على ذلك ، حتى إذا حضر أجلهم طلبوا من الله الرجعة ، هيهات هيهات ، {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىا يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون : 100] ، وفي الأثر : " ما منكم من أحد إلا وسيندم عند الموت ، إن كان محسناً أن لو زاد ، وإن كان مسيئاً أن لو تاب " أو كما قال.
ولأجل هذا المعنى شد أهل اليقظة الحُزُم ، وشمروا عن ذراعهم في طاعة مولاهم ، وعمروا أوقاتهم بما يقربهم إلى محبوبهم ، وتنافسوا في ذلك أيَّ تنافس ، وفي ذلك يقول القائل :
السِّباقَ ، السِّباقَ ، قولاً وفِعْلاً
حَذِّرِ النَّفْس حَسْرَة المسْبُوقِ
وكان بعض العباد حفر قبراً في بيته ، فإذا صلى العشاء دخل فيه ، وقرأ : {قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً...} الآية ، فيقول لنفسه : ستطلبين الرجعة ولا تُمكنين منها ، وأنت اليوم متمكنة من الرجوع ، قومي إلى خدمة مولاك ، قبل أن يحال بينك وبينها ، فيبيت قائماً يُصلي. وهكذا شأن اهل اليقظة ؛ يُقدمون الندم والجد قبل فوات إبَّانِهِ. أعاننا الله على اغتنام طاعته ، وما يقربنا إلى حضرته. آمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
(5/62)
يقول الحق جل جلاله : {فإذا نُفخ في الصور} لقيام الساعة ، وهي نفخة البعث والنشور ، وقيل : فإذا نفخ في الأجسادِ أرواحها ، على أن الصور جمع صورة ، ويؤيده القراءة بفتح الواو مع الضم ، وبه مع كسر الصاد. {فلا أنساب بينهم يومئذٍ} تنفعهم ، لزوال التراحم والتعاطف بينهم ؛ من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة ، بحيث يفر المرءُ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. قال ابن عباس : (لا يفتخرون بالأنساب والأحساب في الآخرة ، كما كانوا يفتخرون في الدنيا) {ولا يتساءلون} لا يسأل بعضهم بعضاً ؛ لاشتغال كل منهم بنفسه ، ولا يناقضه قوله تعالى : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات : 27] ؛ لأن هذا - أي : سكوتهم - عند ابتداء النفخة الثانية ، وذلك بعدها ؛ لأن يوم القيامة ألوان ، تارة يبهتون ولا يتساءلون ، وتارة يفيقون ، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
39
وقال ابن عباس : إنما عنى النفخة الأولى ، حين يصعق الناس ، (فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون) ، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىا فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر : 68] ، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}. نقله الثعلبي.
(5/63)
{فمن ثَقُلَتْ موازينهُ} أي : موزونات حسناته من العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة ، {فأولئك هم المفلحون} ؛ الفائزون بكل مرغوب ، الناجون من كل مرهوب ، {ومن خفت موازينهُ} أي : ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ما يوزن - وهم الكفار - لقوله : {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف : 105] ، وتقدم ما فيه. {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} : ضيعوها بتضييع زمان استكمالها ، وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها ، {في جهنم خالدون} ، وهو خبر ثان لأولئك ، أو بدل من الصلة ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (يؤخذ بيد العبدِ أو الأمة يوم القيامة ، فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ، ثم ينادي مناد : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه ، فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على ابنها ، أو على زوجها ، أو على أبيها ، أو على أخيها ، ثم قرأ ابن مسعود : {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} ، ثم يقول الرب تعالى : آت هؤلاء حقوقهم ، فيقول ربِّ ، فنيت الدنيا ؛ فمن أين آتيهم ؟ فيقول للملائكة : خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلْبته...) إلخ الحديث ، انظر النسفي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 39
قال تعالى : {تلفح وجوهَهُم النار} ؛ تحرقها ، واللفح كالنفخ ، إلاَّ أنه أشد تأثيراً منه ، وتخصيص الوجوه بذلك ؛ لأنها أشرف الأعضاء. {وهم فيها كالحون} : عابسون من شدة الإحراق ، والكلوح : تقلص الشفتين من الإنسان ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في كالحون : " تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَقلَّص شَفَتَهُ العُلْيَا ، حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأَسِهِ ، وَتَسْتَرخِي السُّفْلَى حَتَّى تَبْلُغَ سُرَّته " فيقال لهم - تعنيفاً وتذكيراً لما به استحقوا ما ابتلوا به : {ألم تكن آياتي} أي : القرآن {تُتْلَى عليكم} في الدنيا {فكنتم بها تُكذِّبون} حينئذٍ ، فذوقوا وبال ما كنتم به تكذبون. نسأل الله التوفيق والهداية.
(5/64)
الإشارة : قال الترمذي الحكيم : الأنساب كلها منقطعة إلا من كانت نسبته صحيحة في عبودية ربه ، فإن تلك نسبة لا تنقطع أبداً ، وتلك النسبة المفتخر بها ، لا نسبة الأجناس من الآباء والأمهات والأولاد. هـ. وقال الورتجبي : عند المعاينة والمشاهدة بوجوده ونشر جوده ، نسبهم هناك نسب المعرفة والمحبة الأزلية ، واصطفائيته القدسية ، لا يفتخرون بشيء دونه ، من العرش إلى الثرى ، ولا يتساءلون ؛ شغلاً بما هم فيه. هـ.
ومعنى كلام الشيخين : أن العبد ، إذا صحت نسبته إلى مولاه ، وانقطع بكليته إليه ، ورفض كل ما سواه ، اتصلت نسبته ، ودامت محبته وأنسه ، ومن تعلق بغيره ، وتودد إلى
40
سواه ، انقطع ذلك وانفصل ، ومن النسب التي تتصل وتدوم ، النسبة إلى أولياء الله ، والتحبب إليهم وخدمتهم ، وهي في الحقيقة من نسبة الله تعالى ؛ لأنها سبب معرفته والتحقق بعبوديته ، فهي عينها ، فمن انتسب إليهم فقد انتسب إلى الله ، ومن أحبهم فإنما أحب الله ، فمحبتهم ، والاجتماع معهم يؤدي إلى محبة الله ورضوانه ، وهم الذين يكونون عن يمين الرحمن ، يغشى نورُهُم الناس يوم القيامة ، يغبطهم النبيون والشهداء ؛ لمنزلتهم عند الله. قال عليه الصلاة والسلام : لما سئل عنهم : " هم رجال من قبائل شتى ، يجتمعون على ذكر الله ومحبته " أو كما قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 39
(5/65)
يقول الحق جل جلاله : {قالوا} أي : أهل النار {ربنا غلبت علينا} أي : ملكتنا {شِقْوَتُنا} : شقاوتنا التي اقترفناها بسوء اختيارنا ، كما يُنبئ عنه إضافتها إلى أنفسهم ، أي : شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها ، ولا يصح حمله على الشقاوة الأزلية ؛ لأنهم غير مكلفين بصرفها عنهم ؛ إذ ليس في اختيارهم. {وكنا قوماً ضالِّين} عن الحق ، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب ، وهذا ، كما ترى ، اعتراف منهم بأن ما أصابهم إنما أصابهم بسوء صنعهم ، وأمَّا ما قيل : من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية ، فلا يصح ؛ لأن الله تعالى ما كتب عليهم الشقاء حتى علم أنهم يفعلونه باختيارهم ، لا بما كتب عليهم.
ثم قالوا : {ربنا أَخْرِجْنَا منها فَإِن عُدْنا فإِنا ظالمون} أي : أخرجنا من النار ، وردنا إلى الدنيا ، فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي ، فإنا متجاوزون الحد في الظلم ، ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم لما سألوا الرجعة إلى الدنيا ، ولما وَعَدوا بالطاعة والإيمان. قال القرطبي : طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت.
ثم يجيبهم الحق تعالى ، بعد ألف سنة ، بقوله : {قال اخسؤوا فيها} أي : اسكتوا
41
في النار سكوت ذل وهوان ، وانزجروا انزجار الكلاب ، يقال : خسأت الكلب ، إذا زجرته ، فخسأ ، أي : انزجر. {ولا تُكَلِّمونِ} باستدعاء الإخراج من النار والرجوع إلى الدنيا ، أو في رفع العذاب عنكم ؛ فإنه لا يرفع ولا يخفف ، روي أنه آخر كلام يتكلمون به ، ثم لا كلام بعد ذلك إلاَّ الشهيق والزفير ، ويصير لهم عُواء كعُواء الكلاب لا يفهمون ولا يُفهمون. قيل : ويرده الخطابات الآتية ، وقد يجاب : بأن قبل هذه الكلمة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 41
(5/66)
ثم علل استحقاقهم لذلك العذاب بقوله : {إنه} أي : الأمر والشأن {كان فريق من عبادي} وهم المؤمنون ، او الصحابة ، أو أهل الصفة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - {يقولون} في الدنيا : {ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا} أي : هزواً ، وهو مصدر سخر ، زيدت فيه ياء النسب ؛ للمبالغة ، وفيه الضم والكسر. وقال الكوفيون : المكسور بمعنى الهزء ، والمضموم من السخرة ، بمعنى الانقياد للخدمة ، ولذلك اتفق عليه في الزخرف ، أي : اتخذتموهم ؛ مهزواً بهم ، وتشاغلتم بهم {حتى أَنْسَوْكم ذكري} ، من فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم ، ولم تخافوني في أوليائي ، {وكنتم منهم تضحكون} ، وذلك غاية الاستهزاء.
قال تعالى : {إني جَزَيْتُهُم اليوم} جزاء على صبرهم على أذاكم ، {أنهم همُ الفائزون} بكل مطلوب دونكم ، فأنهم : مفعول " جزيتهم " ؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين ، وقرأ حمزة بالكسر ؛ على الإستئناف ؛ تعليلاً للجزاء ، وبياناً أنه في غاية الحسن ، {قال كم لبثتم} ، القائل هو الله تعالى ، أو الملك ، وقرأ المكي وحمزة : " قل " ؛ التي بلفظ الأمر للملك ، يسألهم : كم لبثوا ، {في الأرض} التي دعوا الله أن يردهم إليها ، {عدد سنين} ، وهو تمييز ، أي : كم لبثتم في الأرض عدد السنين ، {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} ، استقصار لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم ، ولِمَا هم فيه من عذابها ؛ لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة ، {فاسْئَل العادِين} أي : المتمكنين من العد ؛ فإنا بما دُهمنا من العذاب بمعزل من العد ، أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم. {قال} الله تعالى ، أو الملك ، تصديقاً لهم في مقالهم : {إن لبثتم إلاَّ قليلاً} : ما لبثتم إلا زماناً قليلاً ، أو لبثاً قليلاً بالنسبة لما بعده ، {لو أنكم كنتم تعلمون} شيئاً ، أو : لو كنتم من أهل العلم لعلمتم قلة لبثكم فيها ، فالجواب محذوف. والله تعالى أعلم.
(5/67)
الإشارة : إذا تميز المتحابون في الله ، المجتمعون على ذكر الله ومحبته وطلب معرفته ، وعُرفوا بأنوارهم وأسرارهم ، وانحازوا إلى ظل العرش ، يوم لا ظل إلا ظله ، ورآهم البطالون المنكرون عليهم ، وهم في حسرة الحساب ، يقولون بلسان الحال
42
أو المقال : (ربنا غلبت علينا شقوتنا) ؛ حيث لم نصحب هؤلاء الأولياء ، وكنا قوماً ضالين ، ربنا أخرجنا من هذه الحسرة ، وردنا إلى الدنيا ، فإن عدنا إلى البطالة والإنكار عليهم فإنا ظالمون ، فيقال لهم : اخسؤوا فيها ؛ فقد فات الإبان ، إنه كان فريق من عبادي ، وهم المنتسبون من أهل التجريد ، المتزيون بزي الصوفية أهل التفريد ، يقولون : ربنا آمنا بطريق الخصوصية ودخلنا فيها ، فاغفر لنا ، أي : غط مساوئنا ، وارحمنا رحمة تضمنا إلى حضرتك ، وأنت خير الراحمين ، فاتخذتموهم سخرياً ، وانشغلتم بالوقوع فيهم ، حتى أنسوكم ذكري ، وكنتم منهم تضحكون ، إني جزيتهم اليوم ، بما صبروا ، أنهم هم الفائزون بشهود ذاتي ، والقرب من أحبابي ، المتنزهون في كمال جمالي ، في درجات المقربين من النبيين والصديقين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 41
قال القشيري : الحق ينتقم من أعدائه بما يُطَيَّبُ به قلوبَ أوليائه ، وتلك خَصْمَةُ الحق ، فيقول لهم : كان فريقٌ من أوليائي يُفْصِحون بمدحي وإطرائي ، فاتخذتموهم سخرياً ، فأنا اليوم أُجازيهم ، وأنتقم ممن كان يناويهم. هـ.
(5/68)
قوله تعالى : {قال كم لبثتم...} إلخ ، اعلم أن أيام الدنيا كلها تقصر عند انقضاء عمر العبد ، فتعود كيوم واحد ، أو بعض يوم ، فإن أفضى إلى الراحة بعد الموت نسي أيام التعب ، وغاب عنها ، فتصير كأضغاث أحلام ، وإن أفضى إلى التعب ، نسي أيام الراحة ، كأنها طيف منام. قال في الحاشية : الأشياء ، وإن كانت كثيرة ، فقد تنقص وتقل بالإضافة إلى ما يرجّى عليها ، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض ، إن كانوا في الراحة فقد تقل ، بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها في القيامة ، وإن كانت شديدة فقد تتلاشى في جنب رؤية ذلك اليوم ؛ لما فيه من أليم تلك العقوبات المتوالية. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 41
قلت : (أفحسبتم) : المعطوف محذوف ، أي : ألم تعلموا شيئاً فحسبتم ، و (عبثاً) : حال ، أو مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله : {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} أي : عابثين ، أو للبعث من غير حكمة في خلقكم وإظهاركم حتى أنكرتم البعث ، {وأنكم إلينا لا ترجعون} للحساب والجزاء ، بل خلقناكم للتكليف ، ثم للرجوع إلينا ، فنُثيب المحسن ، ونعاقب المسيء.
{فتعالى الله} أن يخلق شيئاً عبثاً ، وهو استعظام له نعالى ولشؤونه التي يُصَرِّف عليها
43
عباده ؛ من البدء والإعادة ، والإثابة والعقاب ، بموجب الحكمة ، أي : ارتفع بذاته ، وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله ، وعن خلو أفعاله عن الحِكَم والمصالح والغايات الحميدة.
{الملك الحق} ؛ الذي يحق له الملك على الإطلاق ، إيجاداً وإعداماً ، وإحياء وإماته ، عذاباً وإثابة ، وكل ما سواه مملوك له ، مقهور تحت ملكوته ، {لا إله إلا هو} ، فإنَّ كل ما عداه عبيده ، {ربُّ العرش الكريم} ، فكيف بما تحته من الموجودات ، كائناً ما كان ، ووصفه بالكرم : إمّا لأنه منه ينزل الوحي الذي منه القرآن الكريم ، والخير والبركة ، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.
(5/69)
{ومن يدعُ مع الله إلهاً آخر} ، يعبده فرداً أو اشتراكاً ، من صفته {لا برهان له به} على صحة عبادته. وفيه تنبيه على أن التدين بما لا دليل عليه باطل ، فكيف بما شهدت بديهة العقول بخلافه ؟ {فإنما حسابُه عند ربه} ، . فهو مُجازٍ له على قدر ما يستحقه ، {إنه} أي : الأمر والشأن {لا يُفلح الكافرون} ؛ لا فوز لهم ولا نجاة.
بدئت السورة الكريمة بتقرير فلاح المؤمنين ، وختمت بنفي فلاح الكافرين ؛ تحريضاً على الإيمان ، وعلى ما يوجب بقاءه وتنميته ، من التمسك بما جاء به التنزيل ، وبما جاء به النبي الجليل ، ليقع الفوز بالفلاح الجميل.
ثم علَّمنا سؤال المغفرة والرحمة ؛ لأن شؤم المعاصي يؤدي إلى سوء الختام ، فقال : {وقل ربِّ اغفرْ وارحمْ وأنت خير الراحمين} ، وفيه إيذان بأنهما من أهم الأمور الدينية ، حيث أمر به من قد غفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكيف بمن عداه ؟ نسأل الله - تعالى - المغفرة الشاملة ، والرحمة الكاملة ، لنا ولإخواننا ولجميع المسلمين.. آمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 43
(5/70)
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه مرَّ بمصابٍ مبتلى ، فقرأ في أذنه : (أفحسبتم أنما...) إلخ السورة ، فبرئ من حينه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ماذا قرأت في أذنه ؟ " فأخبره ، فقال : " والذي نفسي بيده لو أن رجلاً مؤمناً قرأها على جبل لزال ". الإشارة : ما أظهر الله الكائنات إلا ليُعرف بها ، ويُظْهِرَ فيها أسرار ذاته وأنوار صفاته ، وفي الأثر القدسي : " كنت كنزاً لم أُعرف ، فأحببتُ أن أعرف ، فخلقت الخلق ، فتعرفت لهم ، فبي عرفوني ". وفي إيجاد المخلوقات حِكَم بليغه وأسرار عجيبة ، لا يحصيها إلا من خلقها ودبّرها. فمن المخلوقات من خلقهم ليظهر فيهم أثر رحمته وكرمه وإحسانه ، وهم أهل الإيمان والطاعة ، ومنهم من خلقهم ليظهر فيهم حلمه وعفوه ، وهم أهل العصيان ، ومنهم من خلقهم ليظهر فيهم عدله وقهره ونقمته ، وهم أهل الكفر والطغيان. وقال الحكيم الترمذي رضي الله عنه : إن الله خلق الخلق عبيداً ليعبدوه ، فيثيبهم على العبادة ،
44
ويعاقبهم على تركها ، فإنْ عبدوه فهم اليوم له عبيد ، أحرار كرام من رق الدنيا ، ملوك في دار السلام ، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُباق ، سُقاط ، لئام ، أعداء في السجون بين أطباق النيران. هـ.
وقال بعضهم : إنما أظهر الله الكون لأجل نبينا صلى الله عليه وسلم تشريفاً له ، فهو من نوره. قال ابن عباس رضي الله عنه : أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام : يا عيسى ابن مريم ؛ آمن بمحمد ، ومُر أمتك أن يؤمنوا به ، فلولا محمد ما خلقت آدم ، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار... الحديث.
قال القشيري : حسابُه على الله في آجله ، وعذابُه من الله له في عاجله ، وهو ما أودعَ قلبَه حتى رَضِيَ أنْ يَعْبُدَ معه غيره ، لقوله : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَىا} [الزمر : 3] ، كلامٌ حاصلٌ عن غير دليل عقل ، ولا شهادة خبرٍ ونقل ، فما هو إلا إفك وبهتان ، وقولٌ ليس يساعده برهان. هـ وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق - وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وآله وصحبه وسلم تسليماً ، والحمد لله رب العالمين.
45
جزء : 5 رقم الصفحة : 43(5/71)
سورة النور
جزء : 5 رقم الصفحة : 45
قلت : " سورة " : خبر ، أي : هذه سورة ، وأشير لها ، مع عدم تقدم ذكره ؛ لأنها في حكم الحاضر المشاهدَ. وقرئ بالنصب على الاشتغال ، وجملة : (أنزلناها) ، وما عطف عليه : صفة لسورة ، مؤكد لما أفاده التنكير من الفخامة. و(الزانية) : مبتدأ ، والخبر (فاجلدوا) ، ودخلت الفاء ؛ لتضمن المبتدأ معنى الشرط ؛ إذ اللام موصولة ، أي : والتي زنت والذي زنى فاجلدوا ، هذا مذهب المبرد وغيره ، والاختيار عند سيبويه : الرفع على الابتداء ، والخبر : محذوف ، أي : فيما فرض عليكم ، أو : مما يُتلى عليكم : حكم الزانية والزاني ، وقدَّم الزانية ؛ لأنها الأصل في الفعل ، والداعية فيها أوفر ، ولوال تمكينها منه لم يقع. وقيل : لمّا كان وجود الزنى في النساء أكثر ، بخلاف السرقة ، ففي الرجال أكثر ، قَدَّم الحق تعالى الأكثر فيهما.
يقول الحق جل جلاله : هذه {سورةٌ} ، وهي الجامعة لآيات ، بفاتحة لها وخاتمة ، مشتقة من سور البلد. من نعت تلك السورة : {أنزلناها} عليك ، {وفرضْنَاها} أي : فرضنا الأحكام التي فيها. وأصل الفرض : القطع ، أي : جعلناها مقطوعاً بها قطعَ إيجاب.
وقرأ المكي وأبو عمرو : بالتشديد ؛ للمبالغة في الإيجاب وتوكيده ، أو : لأن فيها فرائض شتى ، أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم.(5/72)
{وأنزلنا فيها} أي : في تضاعيفها {آيات بينات} أي : دلائل واضحات ؛ لوضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها ؛ فإنها كسائر السور. وتكرير (أنزلنا) ، مع أن جميع الآيات عين السورة ؛ لاستقلالها بعنوان رائق دَاع إلى تخصيص إنزالها بالذكر ؛ إبانة لخطرها ، ورفعاً لقدرها ، كقوله تعالى : {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود : 58] ، بعد قوله : {نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ}. {لعلكم تذكَّرون} أي : لكي تتعظوا فتعملوا بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء أحكامها. وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على بالٍ منهم ، بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها.
ثم شرع في تفصيل أحكامها ، فقال : {الزانيةُ والزاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائةَ جلدةٍ} ؛ إذا كانا حُرَّيْن ، بالغين ، غَيْر مُحْصَنَيْنِ ، وألا تكون المرأة مكرَهة. وظاهر الآية : عموم المحصن وغيره ، ثم نسخ بالسُنة المشهورة. وقد رجم - عليه الصلاة والسلام -
47
مَاعزاً وغيره. وعن علي رضي الله عنه : جلدتهما بكتاب الله ، ورجمتهما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل نسخ بآية منسوخة التلاوة ، وهي : (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما أَلْبَتَّةَ ؛ نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ، ويأباه ما رُوي عن علي رضي الله عنه. هـ. قاله أبو السعود.
جزء : 5 رقم الصفحة : 47
وشرط الإحصان : العقل ، والحرية ، والإسلام ، والبلوغ ، والتزوج بنكاح صحيح ، ودخول معتبر. وفي التعبير بالجلد ، دون الضرب ؛ إشارة إلى أنه لا يبالغ إلى أن يصلَ أثرُ الضرب إلى اللحم ، ولكن يخفف حتى يكون حد ألمه الجِلد الظاهر. والخطاب للأئمة ؛ لأن إقامة الحدود من الدِّين ، وهو على الكل ، إلا أنه لا يمكن الاجتماع ، فيقوم الإمام مقامهم ، وزاد مالك والشافعي مع الجلد : تغريب عام ، أخذاً بالحديث الصحيح. وقال أبو حنيفة : إنه منسوخ بالآية.
(5/73)
{ولا تأخذكم بهما رأفةٌ} أي : رحمة ورقة. وفيها لغات : السكونُ ، والفتح مع القصر والمد ، كالنشأة والنشاءة ، وقيل : الرأفة في دفع المكروه ، والرحمة في إيصال المحبوب. {في دين الله} أي : طاعته وإقامة حدوده ، والمعنى : أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ، ولا يأخذهم اللين حتى يتركوا حدود الله. {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} ، هو من باب التهييج ، وإلهاب الغضب لله ، ولدينه ، فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعته ، والاجتهاد في إجراء أحكامه. وذكر اليوم الآخر ؛ لتذكير ما فيه العقاب في مقابلة المسامحة. وجواب الشرط : مضمر ، أي : إن كنتم تؤمنون بالله فاجلدوا ولا تعطلوا الحد.
قيل لأبي مجلز في هذه الآية : والله إنا لنرحمهم أن يُجلَدَ الرجل أو تُقطع يده ، فقال : إنما ذلك في السلطان ، ليس له أن يدعهم رحمة لهم. وجَلَدَ ابن عمر جارية ، فقال للجلاد : ظهرَها ورجليها وأسفلها ، وخفّف ، فقيل له : أين قوله : {ولا تأخذكم بهما رأفة}... ؟ فقال : أأقتلها ؟ ، إنَّ الله أمرني أن أضربها وأأدبها ، ولم يأمرني أن أقتلها. هـ. ويجرد للجلد إلا ما يستر العورة.
{وليشهدْ عذابَهما} أي : وليحضر موضع حدِّهما {طائفةٌ من المؤمنين} ؛ زيادة في التنكيل ، فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب. قال بعض العلماء : ينبغي أن يقام بين يدي الحكام ، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم ؛ لأنه قيام بقاعدة شرعية ، وقُربة تعبدية ، يجب المحافظة على فعلها ، وقدرها ، ومحلها ، وحالها ، بحيث لا يتعذر شيء من شروطها وحرمتها ، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة ، فيجب مراعاته بكل ما أمكن ، فلا
48
يقصر عن الحد ، ولا يزاد عليه. ويطلب الاعتدال في السوط ، فلا يكون ليناً جداً ، ولا يابساً جداً ، وكذلك في الضرب ، فلا يرفع يده حتى يرى إبطه ، ولا يخفف فيه جداً ، بل يتوسط بحيث يؤلمه ولا يضره.
(5/74)
وتسمية الحدّ عذاباً دليل على أنه عقوبة وكفارة. و " الطائفة " : فرقة ، يمكن أن تكون حافة حول الشيء ، من الطوْف ، وهو الإدارة ، وأقلها : ثلاثة ، وقيل : أربعة إلى أربعين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 47
وعن الحسن : عشرة ، والمراد : جمع يحصل به التشهير. والله تعالى أعلم.
الإشارة : التقوى أساس الطريق ، وبها يقع السير إلى عين التحقيق. فمن لا تقوى له لا طريق له ، ومن لا طريق له لا سير له ، ومن لا سيرله لا وصول له. وأعظم ما يتَقي العبدُ شهوةَ الفروج ، فهي أعظم الفتن وأقبح المحن ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " ما تَرَكْتُ بَعْدِي أضَرّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ " أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الناس اتقوا الزنا ، فإن فيه ستَّ خصال : ثلاثاً في الدنيا ، وثلاثاً في الآخرة : فأما اللاتي في الدنيا ؛ فيُذهب البهاء ، ويورثُ الفقرَ ، وينْقُصُ العمرَ ، وأما اللاتي في الآخرة ؛ فيوجب السخطَة وسوءَ الحسابِ والخلودَ إلى النار " والمراد بنقص العمر : قلة بركته ، وبالخلود : طول المكث. وفي حديث آخر : " إن أهل النار ليتأذون من نتن فروج الزناة والزواني " ، وعن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أعمال أمتي تُعرض عليَّ في كل جمعة مرتين ، فاشتد غضب الله على الزناة " وقال وهب بن منبه : (مكتوب في التوراة : الزاني لا يموت حتى يفتقر ، والقواد لا يموت حتى يعمى).
(5/75)
وفي بعض الأخبار القدسية : " يقول الله عز وجل : أنا الله لا إله إلا أنا ، خلقت مكة بيدي ، أُغني الحاج ولو بعد حين ، وأُفقر الزاني ولو بعد حين ، هذا وباله في الدنيا والآخرة ، وأما في عالم البرزخ ؛ فتُجعل أرواحهم في تنوير من نار ، فإذا اشتعلت عَلَوْا مع النار ، وإذا خمدت سقطوا إلى أسفلها ، هكذا حتى تقوم الساعة ، كما في حديث البخاري. وقال ابن رشد : ليس بعد الشرك أقبح من الزنا ؛ لِما فيه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب ، ومن تاب فإن الله يتوب على من تاب. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى : {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} : قال في الإحياء : في الحديث : " خيار أمتي أَحِدَّاؤُهَا " يعني : في الدين ؛ قال تعالى : {ولا تأخذكم بهما
49
رأفة} ، فالغيرة على الحُرَمِ ، والغضب لله وعلى النفس ، بكفها عن شهوتها وهواها ، محمود ، وفَقْدُ ذلك مذمومٌ. هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 47
يقول الحق جل جلاله : من شأن {الزاني} الخبيث : أنه لا يرغب إلا في زانية خبيثة من شكله ، أو في مشركة ، والخبيثة المسافحة لا يرغب فيها إلا من هو من شكلها ، من الفسقة أو المشركين ، وهذا حُكْمٌ جار على الغالب المعتاد ، جيء به ؛ لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني ، بعد زجرهم عن الزنا بهن ؛ إذ الزنا عديل الشرك في القبح ، كما أن الإيمان قرين العفاف والتحصن ، وهو نظير قوله : {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور : 26].
روي أن المهاجرين لَمَّا قدموا المدينة ، وكان فيهم من ليس له مال ولا أهل ، وبالمدينة نساء بغايا مُسافِحَات ، يُكرين أنفسهن وهُنَّ أخْصَبُ أهل المدينة ، رغب بعضُ الفقراء في نكاحهن ؛ لحسنهن ، ولينفقوا عليهم من كَسْبِهِنّ ، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ، فنفرهم الله تعالى عنه ، وبيَّن أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين ، فلا تحوموا حوله ؛ لئلا تنتظموا في سلكهم وتَتَّسِمُوا بسمتهم.
(5/76)
قيل : كان نكاح الزانية محرماً في أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله : {وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَىا مِنْكُمْ وَا} [النور : 32]. وقيل : المراد بالنكاح : الوطء ، أي : الزاني لا يزني إلا بزانية مثله ، وهو بعيد ، أو باطل.
وسُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمن زنا بامرأة ثم تزوجها. فقال : " أَوَّلُهُ سِفَاحٌ ، وآخره نكاح " و " الحرام لا يُحرم الحلال ". ومعنى الجملة الأولى : وصفُ الزاني بكونه غير راغب في العفائف ، ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية : وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ، ولكن الزناة ، وهما معنيان مختلفان. وقدّم الزاني هنا ، بخلاف ما تقدم في الجلد ؛ لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا ، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية ، كما تقدم ، وأما هنا فمسوقة لذكر النكاح ، والرجل اصل فيه.
ثم ذكر الحُكْم فقال : وحُرِّم ذلك على المؤمنين} أي : نكاح الزواني بقصد
50
التكسب ، أو : للجمال ؛ لما في ذلك من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة ، والتعرض لسوء المقالة والغيبة والطعن في النسب ، وغير ذلك من المفاسد التي لا تكاد تليق بأحد من الأداني والأراذل ، فكيف بالمؤمنين والأفاضل ؟ ، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم ، مبالغة في الزجر ، وقيل : النفي بمعنى النهي ، وقرئ به. والتحريم : إما على حقيقته ، ثم نسخ بقوله : {وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَىا مِنْكُمْ وَا} [النور : 32] إلخ ، أو : مخصوص بسبب النزول. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
الإشارة : الصحبة لها تأثير في الأصل والفرع ، فيحصل الشرف أو السقوط بصحبة أهل الشرف أو الأراذل ، وفي ذلك يقول القائل :
عَلَيْكَ بأَرْبَابِ الصُّدُورِ ، فَمَنْ غَدَا
مُضَافاً لأَرْبَابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرَا
وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى بِصُحْبَةِ سَاقِطٍ
فَتَنحط قَدْراً مِنْ عُلاَكَ وَتَحْقُرَا
(5/77)
فالمرء على دين خليله ، ومن تحقق بحالة لا يخلوا حاضروه منها ، والحكم للغالب ، فإن كان النورُ قوياً غلب الظلمةَ ، وإن كانت الظلمة قوية غلبت النور ، وصيرته ظلمة ، ولذلك نهى الله تعالى عن نكاح الزواني ، فإنه وإن كان نور الزوج غالباً - إذا كان ذا نور - فإن العِرْقَ نَزَّاعٌ ، فيسرى ذلك في الفروع ، فلا تكاد تجد أولاد أهل الزنا إلا زناة ، ولا أولاد أهل العفة إلا أعِفَّاء ، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} [الأعراف : 58].
وفي الحديث : " إياكم وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ ، قيل : وما خضراء الدمن يا رسول الله ؟ قال : المرأة الحسناء في المنبت السوء " قال ابن السكيت : شبهها بالبقلة الخضراء في دِمْنَةِ أرض خبيثة ؛ لأن الأصل الخبيث يحن إلى أصله ، فتجيء أولادها لأصلها في الغالب. فيجيب على اللبيب - إن ساعفته الأقدار - أن يختار لزراعته الأرض الطيبة ، وهي الأصل الطيب ، لتكون الفروع طيبة. وفي الحديث : " تخيَّرُوا لنطفكم ولا تضعوها إلاّ في الأَكْفَاءِ " هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
51
قلت : " ثمانين " : مفعول مطلق ، و " جلَدة " : تمييز. " إلا الذين تابوا " : إما استثناء من ضمير " لهم " ، فمحله : الجر ، او : من قوله : " الفاسقون " ، فمحله : النصب ؛ لأنه بعد مُوجَبٍ تام.
يقول الحق جل جلاله ، في بيان شأن العفائف ، بعد بيان شأن الزواني : {والذين يرمُون} أي : يقذفون بالزنا {المحصناتِ} ؛ الحرائر العفائف المسلمات المكلفات ، بأن يقول : يا زانية ، أو : يا مُحبة ، ولا فرق بين التصريح والتعريض ، ولا بين النساء والرجال ، قاذفاً أو مقذوفاً. والتعبير بالرمي ، المنبئ عن صلابة الآلة ، وإيلام المرمى ، وبعده عن الرامي ؛ إيذان بشدة تأثيره فيهن ، وكونه رجماً بالغيب. والتعبير بالإحصان يدل على أن رميهن إنما كان بالزنا ، لا غير.
(5/78)
{ثم لم يأتوا بأربعةِ شهداء} يشهدون عليهن بما رموهن به ، وفي كلمة " ثم " ؛ إشارة إلى جواز تأخير الإتيان بالشهود ، كما أن في كلمة " لم " : تحقق الإتيان بهم. وشروط إحصان القذف : الحرية ، والعقل ، والبلوغ ، والإسلام ، والعفة عن الزنا ، فإن توفرت الشروط {فاجلدوهم} أي : القاذفين {ثمانينَ جلدة} ؛ لظهور كذبهم وافترائهم ؛ لقوله تعالى : {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور : 13] ، وتخصيص رميهن بهذا الحكم ، مع أن رمي المحصنين أيضاً كذلك ؛ لخصوص الواقعة ، وشيوع الرمي فيهن. والحدود كلها تشطر بالرق ، فعلى العبد في الزنا خمسون ، وفي القذف أربعون.
{ولا تقبلوا لهم} بعد ذلك {شهادةً أبداً} ؛ زجراً لهم ؛ لأن رد شهادتهم مؤلم لقلبهم ، كما أن الجلد مؤلم لبدنهم. وقد آذى المقذوف بلسانه ، فعوقب بإهدار شهادته ، جزاء وفاقاً. والمعنى : ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات ، حال كونها حاصلة لهم عند الرمي ، أبداً ، مدة حياتهم ، فالرد من تتمه الحدّ ، كأنه قيل : فاجلدوهم وردوا شهادتهم ، أي : فاجمعوا لهم بين الجلد والبرد. {وأولئك هم الفاسقون} ، كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط ؛ لأنه حكاية حال الرامي عند الله تعالى بعد انقضاء الجزاء ، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد ؛ للإيذان ببُعد منزلتهم في الشر والفساد ، أي : أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق ، والخروج عن الطاعة ، والتجاوز عن الحد ، فإنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم ، دون غيرهم.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 51
(5/79)
إلا الذين تابوا من بعد ذلك} القذف ، {وأَصلحوا} أحوالهم ، فهو استثناء من الفاسقين ، بدليل قوله : {فإن الله غفور رحيم} أي : يغفر ذنوبهم ويرحمهم ، ولا ينظمهم في سلك الفاسقين. فعلى هذا لا تُقبل شهادته مطلقاً فيما حدّ فيه وفي غيره ؛ لأن رد شهادته وُصلت بالأبد ، وأما توبته فإنما تنفعه فيما بينه وبين الله ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، وهو قول ابن عباس وشريح والنخعي. وقيل : الاستثناء راجع لقوله : {ولا تقبلوا لهم شهادة} ، فإذا تاب وأصلح قبلت شهادته مطلقاً ؛ لأنه زال عنه اسم الفسق ،
52
والأبد عبارة عن مدة كونه فاسقاً ، فينتهي بالتوبة ، وبه قال الشافعي وأصحابه ، وهو قول الشعبي ومسروق وابن جبير وعطاء وسليمان بن يسار. وفصل مالك ، فقال : لا تجوز فيما حدّ فيه ، ولو تاب ، وتجوز فيما سواه ، وكأنه جمع بين القولين. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الغض عن مساوئ الناس من أفضل القرب ، وهو من شيم ذوي الألباب ، وبه السلامة من الهلاك والعطَب ، والتعرض لمساوئهم من أعظم الذنوب ، وأقبح العيوب ، ولله در القائل :
إذَا شئْتَ أَن تَحْيَا ودينك سالم
وحظك موفُورٌ وعِرْضُكَ صَيّنُ
لِسَانَكَ ، لا تذكُرْ به عَوْرَةَ امِرىءٍ
فعندك عَوْرَاتٌ ولِلنَّاس أَلسُنُ
وإنْ أبصرت عَيْنَاكَ عيباً فقل لها :
أيا عَيْنُ لا تنظري ؛ فللناس أعيُنُ
وعَاشِرْ بمَعْرُوفٍ وجَانِبْ مَنِ اعتَدى
وفارقْ ولكنْ بالتي هي أحْسَنُ
فالمتوجه إلى الله لا يشتغل بغير مولاه ، ولا يرى في المملكة سواه ، يذكر الله على الأشياء ، فتنقلب نوراً ؛ لحسن ظنه بالله ، ويلتمس المعاذر لعباد الله ؛ لكمال حسن ظنه بهم. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 51
(5/80)
قلت : (إلا أنفسهم) : بدل من (شهداء) ، أو صفة له ، على أن (إلا) بمعنى غير. و (فشهادة) : مبتدأ ، والخب محذوف ، أي : واجبة ، أو : تدرأ عنه العذاب ، أو : خبر عن محذوف ، أي : فالواجب شهادة أحدهم ، و(أنَّ) ، في الموضعين : مخففة ، وَمَنْ شَدَّدَ ؛ فعلى الأصل. و(الخامسة) : مبتدأ و (أنَّ غَضَبَ) : خبر ، وقرأ حفص بالنصب ، أي : ويشهد الشهادة الخامسة.
يقول الحق جل جلاله : {والذين يرمون أزواجهم} أي : يقذفون زوجاتهم بالزنا ، {ولم يكن لهم شهداءُ} أي : لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به {إلا أنفسهُمُ} ، جُعِلوا من جملة الشهداء ؛ إيذاناً بعدم قبول قولهم بالمرة ، {فشهادةُ أحدهم} أي : فالواجب شهادة أحدهم {أربعُ شهادات بالله} يقول أشهد بالله {إنه لمن الصادقين} فيما رماها به من الزنا. {والخامسةُ أنَّ لعنت الله عليه} أي : إنه لعنة الله عليه ، أي : يقول فيها : لعنة الله عليه {إن كان من الكاذبين} فيما رماها به. فإذا حلف دُرِىءَ عنه العذاب ،
53
أي : دفع عنه الحد ، وَإِنْ نَكَلَ : حُدَّ ؛ لقذفها.
{ويدرأُ عنها العذابَ} أي : يدفع عنها الحدَّ {أن تشهدَ أربعَ شهاداتٍ بالله إِنه} أي : الزوج {لمن الكاذبين} فيما رماها به من الزنا ، {والخامسة أنَّ غضب الله عليها إن كان} الزوج {من الصادقين} فيما رماها به من الزنا. وذكر الغضب في حق النساء ؛ تغليظاً ؛ لأن النساء ؛ يستعملن اللعن كثيراً ، كما ورد به الحديث : " يُكْثِرْنَ اللعْنَ " ، فربما يجترئن على الإقدام ، لكثرة جري اللعن على ألسنتهن ، وسقوط وقعه عن قلوبهن ، فذكر الغضب في جانبهن ؛ ليكون ردعاً لهن.
فإذا حلفا معاً فُرق بينهما بمجرد التلاعن ، عند مالك والشافعي ، على سبيل التأبيد ، وقال أبو حنيفة : حتى يحكم القاضي بطلقة بائنة ؛ فتحل له بنكاح جديد إذا أكذب نفسه وتاب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 53
(5/81)
رُوي أن آية القذف المتقدمة لَمَّا نزلت ؛ قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فقام عاصم بن عدي الأنصاري ، فقال : جعلني الله فداءك ، إن وجد رجل مع امرأته رجلاً ، فأخبر بما رأى ، جُلِدَ ثمانين ، وسماه المسلمون فاسقاً ، ولا تقبل شهادته أيضاً ، فكيف لنا بالشهداء ، ونحن إذا التمسنا الشهداء فرغ الرجلُ من حاجته ، وإن ضربه بالسيف قُتل ؟ اللهم افتح ، وخرج فاستقبله هلالُ بن أمية - وقيل : عُوَيْمِر - فقال : ما وراءك ؟ فقال : الشر ، وجدت على امراتي خولة - وهي بنت عاصم - شريكَ بن سحماء - فقال عاصم : والله هذا سؤال ما أسرع ما ابتليت به ، فرجعا ، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلم خولة : فأنكرت ، فنزلت هذه الآية ، فتلاعنا في المسجد ، وفرَّق بينهما ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ارقبوا الولد ، إن جاءت به على نعت كذا وكذا ، فما أراه إلا كذب عليها ، وإن جاءت به على نعت كذا ، فما أراه إلا صدق " فجاءت به على النعت المكروه.
قال تعالى : {ولولا فضلُ الله عليكم} أي : تفضله عليكم {ورحمتُه} ؛ ونعمته {وأنَّ الله تواب حكيم} ، وجواب " لولا " : محذوف ؛ لتهويله ، والإشعار بضيق العبارة عن حصره ، كأنه قيل : لولا تفضله تعالى عليكم ورحمته وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة ، حكيم في جميع افعاله وأحكامه ، التي من جملتها : ما شرع لكم من حكم اللعان ، لكان ما كان ، مما لا يحيط به نطاق العبارة ، من حد الزوج مع الفضيحة ، أو قتل المرأة ، أو غير ذلك من العقوبة. قال القشيري : لبقيتم في هذه المعضلة ولم تهتدوا إلى الخروج من هذه الحالة المشكلة. هـ.
الإشارة : النفس إذا تحقق فناؤها ، وكمل تهذيبها ، رجعت سراً من أسرار الله ، فلا يحل رميها بنقص ؛ لأن سر الله تعالى منزه عن النقائص ، فإن رماها بشيء فليبادر بالرجوع
54
عنه. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 53
قلت : (عُصْبة) : خبر " إن " ، و(لا تحسبوه) : استئناف.
(5/82)
يقول الحق جل جلاله : {إن الذين جاؤوا بالإِفْكِ} ؛ وهو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفاجئك. والمراد : مَا أُفِك على الصديقة عائشة - رضي الله عنه - ، وفي لفظ المجيء إشارة إلا أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل.
(5/83)
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقْرَعَ بين نسائِه ، فأيَّتهُنَّ خرجت قُرعتها استصحبها ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : فأقرعَ بيننا في غزوةٍ غزاها - قيل : هي غزوة بني المصطلق ، وتُسمى أيضاً : غزوة المريسيع ، وفيها أيضاً نزل التيمم - فَخَرّج سهمي ، فخرجتُ معه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب ، فحُملت في هودج ، فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة ؛ نزلنا منزلاً ، ثم نُودي بالرحيل ، فقمتُ ومشيتُ حتى جاوزتُ الجيش ، فلما قضيتُ شأني أقبلتُ إلى رَحْلي ، فلمسْتُ صدري فإذا عِقْدٌ لي مِنْ جَزْعِ أظفارٍ قد انقطعَ ، فرجعتُ فالتمسته ، فحبسني التماسه. وأقبل الرَّهطُ الذين كانوا يرحلوني ، فاحتملوا هَوْدَجِي فرحلوه على بعيري ، وهم يحسبون أنِّي فيه ؛ لخفتي ، فلم يستنكروا خفة الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس فيه داعٍ ولا مجيب ، فتيممت منزلي ، وظننت أن سيفقدونني ويعودُون في طَلَبي ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني ، فنمت ، وكان صَفْوَانُ بن المعطِّل قد عرّس من وراء الجيش ، فأدْلَجَ فأصبح عند منزلي ، فلما رآني عرفني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاسترجع ، فاستيقظت باسترجاعه ، فخَمَّرْتُ وجهي بجلبابي ، والله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعتُ منه كلمة ، غير استرجاعه ، فأناخ راحلته ، فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش مُوغرين في نَحْرِ الظهيرة ، وهم نزول ، وافْتَقَدني الناسُ حين نَزَلُوا ، وماج الناس في ذِكْرِي ، فبينما الناس كذلك إذ هَجَمْتُ عليهم ، فخَاضَ الناس في حديثي ، فهلك مَنْ هلك. والحديث بطوله مذكور في الصحيحين والسّيَر.
55
(5/84)
وقوله تعالى : {عُصْبَةٌ منكم} أي : جماعة من جلدتكم ، والعصبة : من العشرة إلى الأربعين ، وكذا العصابة ، يقال : اعصوصبَوا : اجتمعوا. وهم عبد الله بن أُبّي رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، ومن ساعدهم. واختلف في حساب بن ثابت ، فمن قال : كان منهم ، أنشد البيت المروي في شأنهم ممن جلدوا الحد :
جزء : 5 رقم الصفحة : 55
لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الذي هُو أَهْلُهُ
وَحِمْنَةُ ؛ إذ قالا هجَيْراً ، وِمسْطَحُ
ومن برَّأ حَسان من الإفك قال : إنما الرواية في البيت : (لقد ذاق عبد الله ما كان أهله) ، والمشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد عبد الله بن أُبّي ، حين حدّ الرامين لعائشة ، تأليفاً له ؛ قال البرماوي في حاشيته علىالبخاري في فوائد حديث الإفك : وفيه ترك الحد لما يخشى من تفريق الكلمة ، كما ترك عليه الصلاة والسلام حدّ ابن سلول. هـ. وقد رَوى ابن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية ، وقد أنكر حسانُ أن يكون قال فيها شيئاً في أبياته ، التي من جملتها :
حَصَانُ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
وتُصْبحُ غَرْثَى من لُحُوم الْغَوافِلِ
إلى أن قال :
فَإنْ كان ما بُلِّغْتَ عَنِّي قُلْتُه
فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أَنامِلي
ويجمع بين قوله هنا ذلك ، وبين قولها له عند قوله : وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُوم الْغَوافِلِ : " لكنك لست كذلك " ؛ بأنه لم يقل نصاً وتصريحاً ، ولكن عرّض وأومأ ، فنُسب ذلك إليه. والله أعلم أيُّ ذلك كان.
(5/85)
ثم قال تعالى : {لا تحسَبُوه شَرَّا لكم} ، والخطاب للرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وأبي بكر ، وعائشة ، وصفوان ؛ تسلية لهم من أول الأمر ، {بل هو خيرٌ لكم} ؛ لاكتسابكم به الثواب العظيم ، وظهور كرامتكم على الله عز وجل ؛ بإنزال القرآن الذي يُتلى إلى يوم الدين في نزاهة ساحتكم وتعظيم شأنكم ، وتشديد الوعيد فيمن تكلم فيكم ، والثناء على من ظن خيراً بكم ، مع ما فيه من صدق الرُّجْعَى إلى الله ، والافتقار إليه ، والإياس مما سواه.
ثم ذكر وبال من وقع فيها بقوله : {لكل امرىءٍ منهم} أي : من أولئك العصبة {ما اكتسبَ من الإثم} أي : له من الجزاء بقدر ما خاض فيه ، وكان بعضهم ضحك ، وبعضهم تكلم ، وبعضهم سكت. {والذي تولى كِبْرَهُ} أي : معظمه وجُله {منهم} أي : من
56
العصبة ، وهو عبد الله بن أُبَيّ {له عذابٌ عظيم} في الآخرة ، إن كان كافراً ، كابن أُبّي ، وفي الدنيا إن كان مؤمناً ، وهو الحد وإبطال شهادتهم وتكذيبهم. وقد رُوي أن مسطح كُف بصره ، وكذلك حسان ، إن ثبت عنه الخوض فيه ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : كلام الناس في أهل الخصوصية مَقَاذِفُ لسير سفينتهم ، ورياح لها ، فكلما قوي كلام الناس في الولي قَوِيَ سَيْرُهُ إلى حضرة ربه ، حتى تمنى بعضهم أن يكون غابة والناس فيه حَطاَّبَة. وفي الحِكَم : " إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكناً إليهم ، أراد أن يُزْعِجَكَ عن كل شيء حتى لا يَشْغَلَكَ عنه شيء ".
جزء : 5 رقم الصفحة : 55
(5/86)
والحق تعالى غيور على قلوب أصفيائه ، لا يحب أن تركن إلى غيره ، فمهما ركنت إلى شيء شوش ذلك عليه ، كقضية سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام مع ابنه حين أمر بذبحه ، وكقضية سيدنا يعقوب عليه السلام مع ابنه حين غيّبه عنه. وكانت عائشة رضي الله عنها - قد استولى عليها حبه - عليه الصلاة والسلام - ، فكادت تحجب بالواسطة عن الموسوط ، فردها إليه تعالى بما أنزل بها ، تمحيصاً وتخليصاً وتخصيصاً ، حتى أفردت الحق تعالى بالشهود ، فقالت : بحمد الله ، لا بحمد أحد. وكذا شأنه تعالى مع أحبائه ؛ يردهم إليه بما يوقع بهم من المحن والبلايا حتى لا يكونوا لغيره. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 55
قلت : قال ابن هشام : وقد يلي حرف التخصيص اسم معلق بفعل ، إما بمضمر ، نحو : " فهَلاَّ بكْراً تُلاعِبُها وتُلاعِبُك " أي : فهلا تزوجت ، أو مؤخراً نحو : (لولا إذ سمعتموه قلتم..) أي : فهلا قلتم إذ سمعتموه. هـ. وإليه أشار في الخلاصة بقوله :
وَقَدْ يَلِيهَا اسْمٌ بِفِعْلِ مُضْمَرِ
عُلِّقَ أَوْ بِظاَهِرٍ مُؤَخَّرِ
يقول الحق جل جلاله : {لولا إذْ سمعتموه} أي : الإفك {ظنَّ المؤمنون والمؤمناتُ بأنفسهم خيراً} بالذين هم منهم ؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة ، كقوله : {وَلاَ تَلْمِزُوااْ أَنفُسَكُمْ} [الحجرات : 11] أي : هلا ظنوا بإخوانهم خيراً : عَفَافاً وصلاحاً ، وذلك نحو ما يُروى عن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (أنا قاطع بكذب المنافقين ؛ لأن الله تعالى عصمك عن وقوع الذباب على جلدك ، لئلا يقع على النجاسات فَتُلَطَّخَ بها ، فإذا
57
عصمك من ذلك فكيف لا يعصمك من صحبة من تكون ملطخة بهذه الفاحشة)!. وقال عثمان رضي الله عنه : (ما أوقع ظلك على الأرض ؛ لئلا يضع إنسان قدمه عليه ؛ فلَمَّا لم يُمكِّن أحداً من وضع القدم على ظلك ، فكيف يُمكِّن أحداً من تلويث عرض زوجتك!).
(5/87)
وكذا قال عليّ رضي الله عنه : (إن جبريل أخبرك أنَّ على نَعْلِك قذراً ، وأمرك بإخراج النعل عن رجلك ، بسبب ما التصق به من القذر ، فكيف لا يأمرك بإخراجها ، على تقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش) ؟ قال النسفي.
وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته : ألا ترين ما يقال في عائشة ؟ فقالت : لو كُنْتَ بدل صفوان أَكُنْتَ تخُون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لا ، قالت : ولو كنتُ أنا بدل عائشة مَا خُنْتُ رسول الله ، فعائشة خير مني ، وصفوان خير منك. وفي رواية ابن إسحاق : قالت زوجة أبي أيوب لأبي أيوب : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى ، وذلك الكذب. أَكُنْتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ قالت : لا والله ، فقال : عائشة خير منك ، سبحان الله ، هذا بهتان عظيم ، فنزل : {لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}... الآية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 57
وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير الظاهر ، ولم يقل : ظننتم بأنفسكم خيراً ، وقلتم ؛ ليبالغ في التوبيخ بطرق الالتفات ، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن المؤمن لا يسيء الظن بأحد من المؤمنين.
{وقالوا} عند سماع هذه الفرية : {هذا إفكٌ مبين} ؛ كذب ظاهر لا يليق بمنصب الصدّيقة بنت الصدّيق. {لولا جاؤوا عليه بأربعةِ شهداءَ} ؛ هلاَّ جاء الخائضون بأربعة شهداء على ما قالوا {فإِذْ لم يأتوا بالشهداءَ} ، ولم يقل : " بهم " ؛ لزيادة التقرير ، {فأولئك} الخائضون {عند الله} أي : في حُكمه وشرعه {هم الكاذبون} ؛ الكاملون في الكذب ، المستحقون لإطلاق هذا الاسم عليهم دون غيرهم. والله تعالى أعلم.
(5/88)
الإشارة : حُسن الظن بعباد الله من أفضل الخصال عند الله ، ولا سيما ما فيه حرمة من حُرَم الله. قال القشيري على الآية : عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وتَرْكِ الإعراضِ عن حُرمة بيت نبيهم. ثم قال : وسبيلُ المؤمن ألا يستصغر في الوفاق طاعة ، ولا في الخلاف زَلَّةً ، فإِنَّ تعظيمَ الأمْرِ بتعظيم الآمرِ ، وإن الله لينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه ، ولا سيما ما تعلق به حق الرسول - عليه الصلاة والسلام - فذلك أعظم عند الله ، ولذلك بالغ في التوبيخ على ما أقدموا عليه ، مما تأذى به الرسول ، وقلوب آل الصدِّيق ، وقلوب المخلصين من المؤمنين. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 57
قلت : (لولا) هنا : امتناعية بخلاف المتقدمة ؛ فإنها تحضيضية ، و(إذ سمعتموه) : معمول لقُلتم ، و(إذْ تلقونه) : ظرف لمسَّكم.
يقول الحق جل جلاله : {ولولا فضلُ الله عليكم} أيها السامعون {ورحمتُهُ في الدنيا} ؛ من فنون النِعَم ، التي من جملتها : الإمهال والتوبة ، {و} في {الآخرةِ} ؛ من ضروب الآلاء ، التي من جملتها : العفو والمغفرة ، {لمسَّكم} عاجلاً {فيما أفَضْتُم} أي : بسبب ما خضتم {فيه} من حديث الإفك {عذابٌ عظيمٌ} يُستحقر دونه التوبيخ والجَلْدُ ، يقال أفاض في الحديث ، وفاض ، واندفع : إذا خاض فيه.
(5/89)
{إذْ تلقَّوْنه} أي : لمسكم العذاب العظيم وقت تلقيه إياكم من المخترعين له ، يقال : تلقى القول ، وتلقنه ، وتلقفه ، بمعنى واحد ، غير أن التلفق : فيه معنى الخطف والأخذ بسرعة ، أي : إذ تأخذونه {بألسنتكم} ؛ بأن يقول بعضُكم لبعض : هل بلغك حديث عائشة ، حتى شاع فيما بينكم وانتشر ، فلم يبق بيت ولا نادٍ إلا طارفيه. {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علمٌ} أي : قولاً لا حقيقة له ، وقيّده بالأفواه ، مع أن الكلام لا يكون إلا بالفم ؛ لأن الشيء المعلوم يكون في القلب ، ثم يترجم عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يدور فيه الأفواه ، من غير ترجمة عن علم به في القلب. {وتحسبونه هيِّناً} أي : وتظنون أن خوضكم في عائشة سَهْلٌ لا تبعة فيه ، {وهو عند الله عظيم} أي : والحال أنه عند الله كبير ، لا يُقادر قدره في استجلاب العذاب. جزع بعض الصالحين عند الموت ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف ذنباً لم يكن مني على بال ، وهو عند الله عظيم.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 58
(5/90)
ولولا إذْ سَمِعْتُموه} من المخترعين والشائعين له {قُلتم ما يكونُ لنا} ؛ ما يمكننا {أن نتكلَّمَ بهذا} ، وما ينبغي أن يصدر عنا ، وتوسيط الظروف بين " لولا " و " قلتم " إشارة إلى أنه كان الواجب أن يُبادروا بإنكار هذا الكلام في أول وقت سمعوه ، فلما تأخر الإنكار وبَّخهم عليه ، فكان ذكرُ الوقت أَهَمَّ ، فقدّم ، والمعنى : هلاَّ قُلتم إذ سمعتم الإفك : ما يصح لنا أن نتكلم بهذا ، {سبحانك} ؛ تنزيهاً لك ، وهو تعجبٌ مِنْ عِظَمِ ما فاهوا به. ومعنى التعجب في كلمة التسبيح : أن الأصل أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه تعالى ، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه. أو : تنزيهاً لك أن يكون في حرم نبيك فاجرة ، {هذا بهتانٌ عظيم} ؛ لعظمة المبهوت عليه ، واستحالة صدقه ، فإنَّ حقارة الذنوب وعظمتها باعتبار متعلقاتها. وقال فيما تقدم : {هَـاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور : 12]. ويجوز أن يكونوا أُمروا بهما معاً ، مبالغة في التبري.
59
{يَعِظُكُمُ الله} أي : ينصحكم {أن تعودوا لمثله} أي : كراهة أن تعودوا ، أو يزجركم أن تعودوا لمثل هذا الحديث أو القذف أو الاستماع ، {أبداً} ؛ مدة حياتكم ، {إن كنتم مؤمنين} ؛ فإن الإيمان وازع عنه لا محالة. وفيه تهييج وتقريع وتذكير بما يوجب ترك العود ، وهو الإيمان الصادُّ عن كل قبيح.
{ويُبيِّن الله لكم الآياتِ} الدالة على الشرائع ومحاسن الأدب ، دلالة واضحة ؛ لتتعظوا وتتأدبوا ، أي : ينزلها كذلك ظاهرة مبينة ، {والله عليمٌ حكيمٌ} ؛ عليم بأحوال مخلوقاته ، حكيم في جميع تدابيره وأفعاله ، فَأَنَّى يصحُّ ما قيل في حرمة من اصطفاه لرسالته ، وبعثه إلى كافة الخلق ، ليرشدهم إلى الحق ، ويزكيهم ويطهرهم تطهيراً ؟ والله تعالى أعلم.
(5/91)
الإشارة : الكلام في الأولياء سم قاتل ؛ لأن الله ينتصر لأوليائه لا محالة ، فمنهم من ينتصر لهم في الدنيا بإنزال البلايا والمحن في بدنه أو ولده أو ماله ، ومنهم من يؤخر عقوبته إلى الآخرة ، وهو أقبح. ومنهم من تكون عقوبته دينية قلبية ؛ كقساوة القلب وجمود العين ، وتعويق عن الطاعة ، ووقوع في ذنب ، أو فترة في همة ، أو سلب لذاذة خدمة أو معرفة ، وهذه أقبح العقوبة ، والعياذ بالله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 58
يقول الحق جل جلاله : {إن الذين يُحبون} ؛ يريدون {أن تشيعَ الفاحشةُ} أي : تنتشر الخصلة المفرطة في القبح ، وهو الرمي بالزنا ، أو نفس الزنا ، والمراد بشيوعها : شيوع خبرها ، أي : يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها. وإنما لم يصرح به ؛ اكتفاء بذكر المحبة ؛ فإنها مستلزمة له لا محالة ، وهم : عبد الله بن أبيّ وأصحابه ومن تبعهم. {لهم عذابٌ أليم في الدنيا} ؛ بالحدّ والفضيحة والتكذيب. ولقد ضرب صلى الله عليه وسلم الحدّ كل من رمى عائشة. وتقدم الخلاف في ابن أُبي ، فقيل : حدَّه ، وقيل : تركه ؛ استئلافاً له.
{و} لهم العذاب في {الآخرة} بالنار وغيرها ، إن لم يتوبوا. {والله يعلم} جميع الأمور ، التي من جملتها : المحبة المذكورة ، {وأنتم لا تعلمون} ما يعلمه تعالى ، بل إنما يعلمون ما ظهر من الأقوال والأفعال المحسوسة ، فابنوا أمركم على ما تعلمونه ، وعاقبوا في الدنيا على ما تشاهدونه من الأحوال الظاهرة ، والله يتولى السرائر ، فيعاقب في الآخرة على ما تُكنه الصدور.
{ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه} ؛ التكرير ؛ لتعظيم المِنَّةِ بترك المعاجلة ؛ للتنبيه
60
(5/92)
على كَمَالِ عِظَمِ الجريمة ، {وأنَّ الله رؤوف رحيم} عطف على (فضل الله) ، أي : لولا فضله ورأفته لعاَجلكم بالعقوبة ، وإظهار إسم الجليل ؛ لتربية المهابة ، والإشعار باستتباع صفة الأولوهية للرأفة والرحمة ، وتصديره بحرف التأكيد ؛ لأن المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بالرأفة ، التي هي كمال الرحمة ، وبالرحيمية التي هي المبالغة فيها على الدوام والاستمرار. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من شأن أهل الُبعد والإنكار : أنهم إذا سمعوا بحدوث نقص أو عيب في أهل النِّسْبَةِ وأهل الخصوصية فرحوا ، وأحبوا أن تشيع الفاحشة فيهم ؛ قصداً لغض مرتبتهم ؛ حسداً وعناداً ، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، ولولا فضل الله ورحمته لعاجلهم بالعقوبة. والله تعالى أعلم وأحلم.
ولما نزلت براءة عائشة - رضي الله عنها - حلف أبوها لا ينفق على مسطح شيئاً ؛ غضباً لعائشة ، وكان يُنفق عليه ؛ لقرابته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 60
يقول الحق جل جلاله : {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطواتِ الشيطان} أي : لا تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وتذرون من الأفاعيل ، والتي من جملتها : منع الإحسان إلى من أساء إليكم ؛ غضباً وحَمِيَّةً ، {ومن يتبع خُطُوات الشيطان} ، وضع الظاهر موضع المضمر ، حيث لم يقل : ومن يتبعها ، أو : ومن يتبع خطواته ؛ لزيادة التقرير والمبالغة في التنفير ، {فإنه} أي : الشيطان {يأمرُ بالفحشاء} ؛ كالبخل والشح ، وكل ما عَظُمَ قُبْحُهُ ، {والمنكر} ؛ كالغضب ، والحمية ، وكل ما ينكره الشرع ؛ لأن شأن الشيطان أن يأمر بهما. فمن اتبع خطواته فقد امتثل أمره.
(5/93)
{ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه} بالهداية والتوفيق لأسباب التطهير والعصمة والحفظ ، {ما زَكَى منكم} أي : ما طَهُرَ من أَدْناسِ العيوب ولوث الفواحش {من أحدٍ أبداً} ؛ إلى ما لا نهاية له ، وإذا كان التطهير والعصمة بيد الله فلا تروا لأنفسكم فضلاً عمن لم يعصمه الله ؛ فإنه مقهور تحت مجاري الأقدار ، {ولَكِنَّ الله يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} ؛ يطهر من يشاء من عباده ؛ بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه ؛ بالحفظ والرعاية ، أو بالتوبة بعد الجناية ، {والله سميعٌ عليم} ؛ سميع لأقوالكم وإن خفيت ، ومن جملتها : الحلف على ترك فعل الخير ، عليم بنياتكم وإخلاصكم.
61
وهذا الكلام مقدمة لقوله : {ولا يأْتَل} ، من قولك : أليت : إذا حلفت ، أي : لاَ يَحْلِفْ {أولو الفضل منكم} أي : في الدين ، وكفى به دليلاً على فضل الصِّدِيقِ رضي الله عنه ، {والسَّعَةِ}. أي : والسعة في المال {أن يُؤتوا} أي : لا يحلف على ألا يُعطوا {أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيلِ الله} ؛ كمسطح ، فإنه كان ابن خالته ، وكان من فقراء المهاجرين. وهذه الأوصاف هي لموصوف واحد ، جيء بها ، بطريق العطف ؛ تنبيهاً على أن كلاًّ منها علة مستقلة لا ستحقاقه الإيتاء. وحذف المفعول الثاني ؛ لظهوره ، أي : على ألاّ يؤتوهم شيئاً ، {وليعفُوا} عما فرط منهم {وليصفحُوا} بالإغضاء عنه ، فالعفو : التستر ، والصفح : الإعراض ، أي : وليتجاوزوا عن الجفاء ، وليُعرضوا عن العقوبة.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 61
ألا تُحبُّون أن يغفر الله لكم} ؟ فلتفعلوا ما تحبون أن يُفْعَلَ بكم وبهم ، مع كثرة خطاياهم ، {والله غفور رحيم} ؛ مبالغ في المغفرة والرحمة ، مع كثرة ذنوب العباد ، فتأدبوا بآداب الله ، واعفوا ، وارحموا. ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه قال : بل أُحب أن يغفر الله لي. ورد إلى مسطح نفقته ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً.
وبالله التوفيق.
(5/94)
الإشارة : كل ما يصد عن مكارم الأخلاق ؛ كالحلم ، والصبر ، والعفو ، والكرم ، والإغضاء ، وغير ذلك من الكمالات ، فهو من خطوات الشيطان ، تجب مجانبته ، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر ؛ كالغضب ، والانتصار ، والحمية ، والحقد ، والشح ، والبخل ، وغير ذلك من المساوئ ، ولا طريق إلى الدواء من تلك المساوئ إلا بالرجوع إلى الله والاضطرار له ، والتعلق بأذيال فضله وكرمه. ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ، فإذا تعلق بالله ، واضطر إليه اضطرار الظمآن إلى الماء طهَّره الله وزكاه ، إما بلا سبب ، أو بأن يلقيه إلى شيخ كامل ، يُربيه ويهذبه بإذن الله ، وهذا هو الكثير ، والكل منه وإليه.
قال الورتيجبي قوله تعالى : {ولولا فضل الله عليكم رحمته...} إلخ : بيّن أن تطهير العباد من الذنوب لا يكون إلا بفضله السابق وعنايته الأزلية ، كيف يزكي العِلَلَ ما يكون عللاً ، فالمعلول لا يُطَهِّرُ ، والمعلول أفعال الحدثان على كل صنف ، ولطف القديم له استحقاق ذهاب العلل بوصوله. قال السياري : قال الله : {ولولا فضل الله عليكم} ، ولم يقل : لولا عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله ما نجا منكم أحد ؛ ليعلم أن العبادات ، وإن كثرت ، فإنها من نتائج الفضل. هـ.
قال في الحاشية : وظهر لي أن الآية مقدمة لما ندب إليه الصدِّيق بقوله : {ولا يأتل
62
أولو الفضل منكم} ، ففيه إشارة إلى أن فضله وزكاته فضل من الله عليه ، وعنايةٌ سابقةٌ ، وهي سبب حِفْظِهِ وتحليه بِخِلَعِ كوامل الأوصاف ، فليشهدْ ذلك ، ولا يأتل على من لم يجد ذلك ، حتى وقع فيما وقع من القذف ، بل يعذره ، ويرى مِنَّةَ الله عليه في كونه نَزَّهَهُ بعنايته من الوقوع في مثل ذلك ، مع كون المحل قابلاً ، ولكن الله خَصَّصَهُ. هـ.
(5/95)
قال الورتجيبي على قوله : {ولا يأتل...} إلخ : في الآية بيانُ وتأديبُ الله للشيوخ والأكابر ألاَّ يهجروا صاحب العثرات والزلات ، من المريدين ، ويتخلقوا بخلق الله ، حيث يغفر الذنوب العظامَ ولا يبالي ، وأَعْلَمَهُمْ الاّ يَكُفُّوا أعطافهم عنهم. ثم قال : فَإنَّ مَنْ لَهُ اسْتِعْدَادٌ لا يَحْتَجِبُ بِعَوَارِضِ البَشَرِيَّةِ عَنْ أَحْكَامِ الطَّرِيقَةِ أبَداً. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 61
ألا تُحبُّون أن يغفر الله لكم} ؟ فلتفعلوا ما تحبون أن يُفْعَلَ بكم وبهم ، مع كثرة خطاياهم ، {والله غفور رحيم} ؛ مبالغ في المغفرة والرحمة ، مع كثرة ذنوب العباد ، فتأدبوا بآداب الله ، واعفوا ، وارحموا. ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه قال : بل أُحب أن يغفر الله لي. ورد إلى مسطح نفقته ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً.
وبالله التوفيق.
الإشارة : كل ما يصد عن مكارم الأخلاق ؛ كالحلم ، والصبر ، والعفو ، والكرم ، والإغضاء ، وغير ذلك من الكمالات ، فهو من خطوات الشيطان ، تجب مجانبته ، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر ؛ كالغضب ، والانتصار ، والحمية ، والحقد ، والشح ، والبخل ، وغير ذلك من المساوئ ، ولا طريق إلى الدواء من تلك المساوئ إلا بالرجوع إلى الله والاضطرار له ، والتعلق بأذيال فضله وكرمه. ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ، فإذا تعلق بالله ، واضطر إليه اضطرار الظمآن إلى الماء طهَّره الله وزكاه ، إما بلا سبب ، أو بأن يلقيه إلى شيخ كامل ، يُربيه ويهذبه بإذن الله ، وهذا هو الكثير ، والكل منه وإليه.
(5/96)
قال الورتيجبي قوله تعالى : {ولولا فضل الله عليكم رحمته...} إلخ : بيّن أن تطهير العباد من الذنوب لا يكون إلا بفضله السابق وعنايته الأزلية ، كيف يزكي العِلَلَ ما يكون عللاً ، فالمعلول لا يُطَهِّرُ ، والمعلول أفعال الحدثان على كل صنف ، ولطف القديم له استحقاق ذهاب العلل بوصوله. قال السياري : قال الله : {ولولا فضل الله عليكم} ، ولم يقل : لولا عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله ما نجا منكم أحد ؛ ليعلم أن العبادات ، وإن كثرت ، فإنها من نتائج الفضل. هـ.
قال في الحاشية : وظهر لي أن الآية مقدمة لما ندب إليه الصدِّيق بقوله : {ولا يأتل
62
أولو الفضل منكم} ، ففيه إشارة إلى أن فضله وزكاته فضل من الله عليه ، وعنايةٌ سابقةٌ ، وهي سبب حِفْظِهِ وتحليه بِخِلَعِ كوامل الأوصاف ، فليشهدْ ذلك ، ولا يأتل على من لم يجد ذلك ، حتى وقع فيما وقع من القذف ، بل يعذره ، ويرى مِنَّةَ الله عليه في كونه نَزَّهَهُ بعنايته من الوقوع في مثل ذلك ، مع كون المحل قابلاً ، ولكن الله خَصَّصَهُ. هـ.
قال الورتجيبي على قوله : {ولا يأتل...} إلخ : في الآية بيانُ وتأديبُ الله للشيوخ والأكابر ألاَّ يهجروا صاحب العثرات والزلات ، من المريدين ، ويتخلقوا بخلق الله ، حيث يغفر الذنوب العظامَ ولا يبالي ، وأَعْلَمَهُمْ الاّ يَكُفُّوا أعطافهم عنهم. ثم قال : فَإنَّ مَنْ لَهُ اسْتِعْدَادٌ لا يَحْتَجِبُ بِعَوَارِضِ البَشَرِيَّةِ عَنْ أَحْكَامِ الطَّرِيقَةِ أبَداً. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 61
قلت : " يوم تشهد " : ظرف للاستقرار ، في " لهم " ، أو : معمول لا ذكر.
(5/97)
يقول الحق جل جلاله : {إن الذين يرمون} ؛ يقذفون {المحصَنَاتِ} ؛ العفائف مِمَا رُمين به من الفاحشة ، {الغافلاتِ} عنها على الإطلاق ، بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من مقدماتها ، أو السليمات الصدور ، النقيات القلوب ، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر ؛ لأنهن لم يُجربن الأمور ، {المؤمنات} ؛ المتصفات بالإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، إيماناً حقيقياً لا يُخالجه شيء مما يكدره. عن ابن عباس : هنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : جميع المؤمنات ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل : أريدت عائشة وحدها ، وإنما جمع ؛ لأن من قذف واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قذفهنّ.
ثم ذكر الوعيد ، فقال : {لُعِنُوا في الدنيا والآخرة} ، حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبداً ، {ولهم} مع ذلك {عذابٌ عظيم} ، هائل لا يُقادَرُ قَدْرُهُ ؛ لعظم ما اقترفوه من الجناية ، إن لم يتوبوا ، فيعذبون.
{يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم بما كانوا يعملون} أي : بما أَفكوا وبَهَتُوا {يومئذٍ يُوفّيهم الله دينَهُم} أي : يوم تشهد جوارحُهم بأعمالهم القبيحة يُوفيهم الله جزاءهم {الحقَّ} أي : الثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة ، أو الذي هم أهله ، والحق : صفة لدينهم ، أو لله ، ونصب على المدح. {ويَعْلَمُونَ} عند ذلك {أن الله هو الحقُّ} الثابت الواجب الوجود {المبين} ؛ الظاهر البين ؛ لارتفاع الشكوك ، وحصول العلم الضروري ؛ لارتفاع الغطاء بظهور ما كان وعداً غيباً.
63
ولم يُغَلِظِ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تَغْلِيظَهُ في إفك عائشة - رضي الله عنها - فأوجز في ذلك وأَشْبَعَ ، وفَصَّل ، وأَجَمَلَ ، وأَكَّدَ ، وكَرَّرَ ، وما ذلك إلا لأمر عظيم.
(5/98)
وعن ابن عباس رضي الله عنه : (من أذنب ذنباً وتاب قُبلت توبته ، إلا مَن خاض في أمر عائشة - رضي الله عنها) ، وهذا منه مبالغةً وتعظيم لأمر الإفك ، وقد برّأ الله تعالى أربعة ؛ برّأ يوسف بشاهدٍ من أهلها ، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه : أنه آدر ، بالحجر الذي ذهب بثوبه ، ومريم بنطق ولدها ، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز ، المتلوّ على وجود الدهر ، بهذه المبالغات. فانظر : كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ ! وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله ، والتنبيه على إنَافَةِ محله صلى الله عليه وسلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 63
وقد رام بعضُ النصارى الطَّعْنَ على المسلمين بقضية الإفك ، فقال : كيف تبقى زوجة نبيكم ، مع رجل أجنبي ؟ فقال له ، من كان يناظره من العلماء : قد برأها من برأ أُمَّ نبيكم ، فبُهت الذي كفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد مدح الله تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أوصاف ، هي من أكمل الأوصاف : العفة ، والتغافل ، وتحقيق الإيمان ؛ أما العفة : فهي حفظ القلب من دخول الهوى ، والجوارح من معاصي المولى ، وأما التغافل : فهو الغيبة عما سوى الله ، والتغافل عن مساوئِ الناس. وفي الحديث : " المؤمن ثلثاه تغافل " ، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " المومنُ غِرٌّ كَرِيمٌ ، والمنافقُ خَبٌّ لَئِيمٌ " وأما تحقيق الإيمان فيكون بالتفكر والاعتبار ، وبصحبة الصالحين الأبرار ، ثم يصير الإيمان ضرورياً بصحبة العارفين الكبار.
قال القشيري : قوله تعالى : {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} : تصير المعارف ضروريةً ، فيجدون المعافاة في النظر والتذكر ، ويستريح القلبُ من وَصْفَيْ تَرَدُّدِه وتَغيُّرِه ، باستغنائه ببَصرِه عن تبصره. ويقال : لا يشهدون هذا إلا بالحق ، فهم قائمون بالحق للحق مع الحق ، يُبدي لهم أسرارَ التوحيد وحقائقه ، فيكون القائمَ فيهم والآخذَ لهم عنهم ، من غير أن يردهم عليهم. هـ. وبالله التوفيق.
(5/99)
جزء : 5 رقم الصفحة : 63
يقول الحق جل جلاله : {الخبيثاتُ} من النساء {للخبيثين} من الرجال ، {والخبيثون} من الرجال {للخبيثات} من النساء. وهذه قاعدة السنة الإلهية ، أن الله
64
تعالى يسوق الأهل للأهل ، فمن كان خبيثاً فاسقاً يُزوجه الله للخبيثة الفاسقة مثله ، ومن كان طيباً عفيفاً رزقه الله طيبة مثله. وهو معنى قوله تعالى : {والطيباتُ} من النساء {للطيبين} من الرجال {والطيبون} من الرجال ، {للطيباتِ} من النساء ، فهذا هو الغالب.
وحيث كان - عليه الصلاة والسلام - أطيب الأطيبين ، وخيرة الأولين والآخرين ، تبين كون الصديقة - رضي الله عنها - من أطيب الطيبات ، واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات ، حسبما نطق به قوله تعالى : {أولئك مبرؤون مما يقولون} ، على أن الإشارة إلى أهل البيت ، المنتظمين في سلك الصِّدِّيقِيَّةِ انتظاماً أولياً ، وقيل : إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدِّيقة وصفوان ، وما في أسم الإشارة معنى البُعد ، للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم ، وبُعْدِ منزلتهم في الفضل ، أي : أولئك الموصوفون بعلو الشأن : مبرؤون مما يقوله أهله الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة.
وقيل : (الخبيثات) من القول تقال (للخبيثين) من الرجال والنساء ، أي : لائقة بهم ، لا ينبغي أن تقال إلا لهم. (والخبيثون) من الفريقين أَحِقَّاءُ بأن يُقَالَ في حقهم خبائث القول. (والطيبات) من الكلم (للطيبين) من الفريقين ، مختصة بهم ، وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم. {أولئك} الطيبون {مبرؤون} مما يقول الخبيثون في حقهم.
فمآله تنزيه الصديقة أيضاً. وقيل : الخبيثات من القول لا تصدر إلا من الخبيثين ، والطيبات من الكلمات لا تصدر إلا من الطيبين ، وهم مبرؤون مما يقوله أهل الخبث ، لا يقع ذلك منهم أَلْبَتَّةَ ، {لهم مغفرة} لما لا يخلو عنه البشر من الذنب ، {ورزق كريم} ؛ هو نعيم الجنان.
(5/100)
دخل ابن عباس رضي الله عنه على عائشة - رضي الله عنها - في مرضها ، وهي خائفة من القدوم على الله عز وجل ، فقال : لا تخافي ، فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم ، وتلى الآية ، فغشي عليها : فرحاً بما تلا. وقالت رضي الله عنها - : (قد أُعْطِيت تسعاً ما أُعْطِيَتْهُنَّ امرأة : نزل جبريل بصورتي في راحته ، حين أمر- عليه الصلاة والسلام - أن يتزوجني ، وتزوجني بكراً ، وما تزوج بكراً غيري ، وتوفي - عليه الصلاة والسلام - ورأسه في حِجْري ، وقبره في بيتي ، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه ، وأنا ابنة خليفته وصديقه ، ونزل عذري من السماء ، وخُلقت طيبة عند طيب ، ووُعدت مغفرةً ورزقاً كريماً).
جزء : 5 رقم الصفحة : 64
الإشارة : الأخلاق الخبيثة ؛ مثل الكبر ، والعجب ، والرياء ، والسمعة ، والحقد ، والحسد ، وحب الجاه والمال ، للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، فهم متصفون بها ، وهي لازمة لهم ، إلا أن يَصْحُبوا أهل الصفاء والتطهير ، فيتطهرون بإذن الله ، والأخلاق الطيبات ؛ كالتواضع ، والإخلاص ، وسلامة الصدور ، والزهد ، والورع ، والسخاء ،
65
والكرم ، وغير ذلك من الأخلاق الطيبة ، للطيبين ، والرجال الطيبون للأخلاق الطيبات. أولئك مبرؤون مما يقول أهل الإنكار فيهم ، لهم مغفرة ؛ ستر لعيوبهم ، ورزق كريم لأرواحهم ؛ من قوت اليقين ، وشهود رب العالمين. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 64
يقول الحق جل جلاله : {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} أي : بيوتاً لستم تملكونها ولا تسكنونها ، {حتى تستَأْنسوا} ؛ تسأذنوا ، وقُرىءَ به ، والاستئناس : الاستعلام ، والاستكشاف ، استفعال ، من أنَس الشيء : أبصره ، فإن المستأذن مستعلم للحال ، مستكشف له ، هل يؤذن له أم لا ، ويحصل بذكر الله جهراً ، كتسبيحة أو تكبيرة.
(5/101)
أو تَنَحْنُحٍ ، {وتُسلِّموا على أهلها} ، بأن يقول : السلام عليكم ، أَأَدْخُلُ ؟ ثلالث مرات ، فإذا أُذن له ، وإلا رجع ، فإن تلاقيا ، قدّم التسليم ، وإلا ، فالاستئذان. {ذلكم} أي : التسليم {خيرٌ لكم} من أن تدخلوا بغتة ، أو من تحية الجاهلية.
كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول : حُييتم صباحاً ، حييتم مساءاً ، فربما أصاب الرجلَ مع امرأته في لحاف. رُوي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أَأَسْتأذنُ على أمي ؟ قال : " نَعَم " قال : ليس لها خادم غيري ، أأستأذن عليها كلما دَخَلْتُ ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " أتحُبُّ أن تراها عريانة... ؟ " {لعلكم تذكَّرون} أي : أمرتكم به ، أو : قيل لكم هذا ؛ لكي تتعظوا وتعملوا بموجبه.
{فإن لم تجدوا فيها} ؛ في البيوت {أحداً} ممن يستحق الإذن ، من الرجال البالغين ، وأما النساء والولدان فوجودهم وعدمهم سواء ، {فلا تدخلوها} ، على أن مدلول الآية هو النهي عن دخول البيوت الخالية ؛ لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه ، وأما حرمة دخول ما فيه النساء والولدان فمن باب الأولى ؛ لما فيه الاطلاع على الحريم وعورات النساء. فإن لم يُؤذن لكم فلا تدخلوا ، واصبروا {حتى يُؤْذَنَ لكم} من جهة من يملك الإذن ، أو : فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ، ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها ؛ لأن التصرف في ملك الغير لا بد أن يكون برضاه.
66
(5/102)
{وإن قيل لكم ارجِعُوا} أي : إذا كان فيها قوم ، وقالوا : ارجعوا {فارجعوا} ولا تُلحُّوا في طلب الإذن ، ولا تقِفُوا بالأبواب ، ولا تخرقوا الحجاب ؛ لأن هذا مما يُوجب الكراهية والعداوة ، وإذا نهى عن ذلك ؛ لأدائه إلى الكراهية ؛ وجب الانتهاء عن كل ما أدى إليها ؛ من قرع الباب بعنف ، والتصييح بصاحب الدار ، وغير ذلك. وعن أبي عبيد : " ما قرعت باباً على عالم قط ". فالرجوع {وهو أزْكَى لكمْ} أي : أطيب لكم وأطهر ؛ لِمَا فيه من سلامة الصدور والبُعد عن الريبة ، والوقوفُ على الأبواب من دنس الدناءة والرذالة. {والله بما تعملون عليم} ؛ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه ، فيجازيكم عليه. وهو وعيد للمخاطبين.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 66
ليس عليكم جُنَاحٌ} في {أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونةٍ} أي : غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة ، بل يتمتع بها مَنْ يُضطر إليها ، من غير أن يتخذها مسكناً ؛ كالرُّبَطِ ، والخانات ، والحمامات ، وحوانيت التجار. {فيها متاعٌ لكم} أي : منفعة ؛ كاستكنانٍ من الحر والبرد ، وإيواء الرجال والسلع ، والشراء والبيع ، والاغتسال ، وغير ذلك ، فلا بأس بدخولها بغير استئذان. روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان ، وإنا لنختلِفُ في تجارتنا إلى هذه الخانات ، فلا ندخلها إلا بإذن ؟ فنزلت. وقيل : هي الخرابات ، يُتَبَرَّزُ فيها ، ويقضون فيها حاجتهم من البول وغيره ، والظاهر : أنها من جملة ما ينتظم في البيوت ، لا أنها المرادة فقط. {والله يعلم ما تُبدون وما تكتمون} ، وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل ؛ لفسادٍ أو اطلاعٍ على عورات. والله تعالى أعلم.
الإشارة : التصوف كله آداب ، حتى قال بعضهم : اجعل عملك مِلْحاً وأدبك دقيقاً.
(5/103)
فيتأدبون بالسُنَّة في حركاتهم وسكناتهم ، ودخولهم وخروجهم ، فهم أَولى بالأدب ، فيستأذنون كما أمر الله عند دخول منزلهم ؛ برفع صوتهم بذكر الله ، أو بالتسبيح ، أو بالسلام قبل الدخول. وكذا عند دخول منزل غيرهم ، أو منزل بعضهم بعضاً. وأما مع الشيخ : فالأدب هو الصبر حتى يخرج ، تأدباً بقوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىا تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} [الحجرات : 5] ، فلا يقرعون بابه ، ولا يطلبون خروجه إلا لضرورة فادحة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 66
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَىا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىا جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِىا إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِىا أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىا عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ...}.
67
(5/104)
يقول الحق جل جلاله : {قل للمؤمنين} ، ويندرج فيهم المستأذنون بعد دخولهم البيوت اندراجاً أوَّلِيّاً ، أي : قل لهم : {يغضُّوا مِنْ أبصارهم} ، و " مِن " : للتبعيض ، والمراد : غض البصر عما يحرم ، والاقتصار على ما يحل. ووجه المرأة وكفاها ليس بعورة ، إلا خوف الفتنة ، فيحل للرجل الصالح أن يرى وجه الأجنبية بغير شهوة. وفي الموطأ : هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم ، أو مع غلامها ؟ قال مالك : لا بأس بذلك ، على وجه ما يُعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال ، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله. هـ. وقال ابن القطان : فيه إباحة إبداء المرأة وجهها ويديها للأجنبي ، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا ، وقد أبقاه الباجِي على ظاهره ، وقال عياض : ليس بواجب أت تستر المرأة وجهها ، وإنما ذلك استحباب أو سنَّة لها ، وعلى الرجل غض بصره. ثم قال في الإكمال : ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. هـ.
{و} قل لهم أيضاً : {يحفظوا فُرُوجَهُم} ، إلا على أزواجهم ، أو ما ملكت إيمانهم ، وتقييد الغض بمن التبعيضية ، دون حفظ الفروج ؛ لِما في النظر من السَّعَة ، فيجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها وقدميها ، وإلى رأس المحارم والصدور والساقين والعضدين. قاله النسفي. قلت : ومذهب مالك : حرمة نظر الساقين والعضدين من المحرَم ، فإن تعذر التحرر مِنْهُ ، كشغل البنات في الدار ، باديات الأرجلِ ، فليتمسك بقول الحنفي ، إن لم يقدر على غض بصره. قاله شيخنا الجنوي.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 67
ذلك أَزْكَى لهم} أي : أطهر لهم من دَنَسِ الإثم أو الريبة ، {إن الله خبير بما يصنعون} ، وفيه ترغيب وترهيب ، يعني : أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم ، فكيف يجيلون أبصارهم ، وهو يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور ؟ ! فعليهم ، إذا عرفوا ذلك ، أن يكونوا منه على حَذر.
(5/105)
{وقُلْ للمؤمنات يَغْضُضْنَ من أبصارهن} ؛ بالتستر والتصون عن الزنا ، فلا تنظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء ، وهي من الرجل : ما عدا الوجه والأطراف ، ومن النساء : ما بين السرة والركبة ، فلا يحل للمرأة أن تنظر إلى الرجل ما سوى الوجه والأطراف ، أو بشهوة. وقيل : إن حصل الأمن من الشهوة جاز ، وعليه يحمل نظر عائشة إلى الحبشة.
{وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ} من الزنا والمساحقة. وإنما قدّم غض البصر على حفظ الفروج ؛ لأن النظر بريد الزنا ، ورائد الفجور ، فَبَذْرُ الهوى طُمُوحُ العَيْنِ. {ولا يُبدينَ زينتَهُن} ؛ كالحُلي ، والكحل ، والخِصاب ، والمراد بالزينة : مَوَاضِعُها ، فلا يحل للمرأة أن
68
تظهر مواضع الزينة ، كانت مُتَحَلِّيَةً بها أم لا ، وهي : الرأس ، والأُذن ، والعنق ، والصدر ، والعضدان ، والذراع ، والساق. والزينة هي : الإكليل ، والقرط ، والقلادة ، والوِشاح ، والدملج ، والسوار والخلخال. {إلا ما ظهرَ منها} ؛ إلا ما جرت العادة بإظهارها ، وهو الوجه والكفان ، إلا لخوف الفتنة ، زاد أبو حنيفة : والقدمين ، ففي ستر هذه حرج ؛ فإن المرأة لا تجد بُدّاً من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات ، وظهور قدميها ، ولا سيما الفقيرات منهن. قاله النسفي.
{وليَضْرِبْنَ بخُمُرِهنَّ على جُيُوبهنَّ} أي : وَلْيَضَعْنَ خُمُرَهنَّ ، جمع خمار ، وهو ما يستر الرأس ، {على جيوبهن} ، وهو شَقُّ القميص من ناحية الصدر ، وكانت النساء على عادة الجاهلية يَسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ ، فتبدو نحورُهن وقلائدهُن من جيوبهن ، وكانت واسعةً ، يبدو منها صدورهن وما حواليها ، فأُمِرْنَ بإسدال خُمُرِهن على جيوبهن ؛ ستراً لما يبدو منها. وقد ضمَّنَ الضَّرْبَ معنى الإلقاء والوضع ، فَعُدِّيَ بعلى.
(5/106)
{ولا يُبدين زينتهنَّ} أي : مواضع الزينة الباطنة ؛ كالصدر ، والرأس ، ونحوهما ، كرره : ليستثني منه ما رخص فيه ، وهو قوله : {إلا لِبُعُولَتِهِنَّ} ؛ لأزواجهن ، فإنهم المقصودون بالزينة. ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج ، {أو آبائِهنَّ} ، ويدخل فيهم الأجداد ، {أو آباء بُعُولَتِهنَّ} ؛ فقد صاروا محارم ، {أو أبنائهن} ، ويدخل فيهم الأحفاد ، {أو أبناء بُعولتِهِنَّ} ؛ لأنهم صاروا محارم أيضاً ، {أو إِخوانهن} الشقائق ، أو لأب ، أو لأم ، {أو بني إخوانهن أو بني أخَوَاتِهِنَّ} وإن سفلوا ، ويدخل سائر المحارم ، كالأعمام ، والأخوال ، وغيرهم ؛ لكثرة المخالطة وقلة توقع الفتنة من قِبلَهِم ، فإن تحققت ؛ حيل بينهم ، وعدم ذكر الأعمام والأخوال ، لأن الأحوط أن يُسْتَرْنَ عنهم ؛ حذراً من أن يَصِفُوهُنَّ لأبنائهم ، {أو نسائهنّ} ؛ يعني جميع المؤمنات ؛ فكأنه قال : أو صنفهن ؛ ويخرج من ذلك نساء الكفار ؛ لئلا يَصفْنَهُنَّ إلى الرجال ، {أو ما ملكت أيمانُهنّ} ، يعني : الإماء المؤمنات أو الكتابيات ، وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال : منع رؤيتهم لسيدتهم ، وهو قول الشافعي ، والجواز ، وهو قول ابن عباس وعائشة ، والجواز بشرط أن يكون العبد وَغْداً ، وهو قول مالك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 67
قال البيضاوي : رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - أتى فَاطِمَةَ بعبد ، وَهَبَهُ لها ، وعليها ثوب إذا قَنَّعَتْ به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطّت رجليها لم يبلغ رأسها ، فقال - عليه الصلاة والسلام : " إنه ليس عليك بأسٌ ، إنما هو أبوكِ وغلامُك " ، فانظر من أخرجه. واختلف : هل يجوز أن يراها عبد زوجها ، وعبد الأجنبي ، أم لا ؟ على قولين.
69
(5/107)
{أو التابعين غير أُولِي الإرْبة من الرجالِ} أي : الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ، أو لخدمة ، أو لشيء يُعْطَاهُ ، كالوكيل والمتصرف. وقال بعضهم : هو الذي يتبعك وَهَمُّهُ بَطْنُهُ ، ويشترط ألا تكون له إِربةٌ ، أي : حاجة وشهوة إلى النساء ؛ كالخَصِيِّ ، والمُخَنَّثِ ، والشيخ الهَرِم ، والأحمق ، فلا تجوز رؤيتهم إلا باجتماع الشرطين : أن يكونوا تابعين ، ولا إربة لهم في النساء. {أو الطفل الذين لم يَظْهَرُوا على عَوْرَاتِ النساء} ، أراد بالطفل : الجنس ، ولذلك وصفه بالجمع ، ويقال فيه : " طفل " ما لم يراهق الحلُمُ. و(يظهروا) معناه : يطلعون بالوطء على عورات النساء ، مِنْ : ظهر على كذا : إذا قوي عليه ، فمعناه : الذين لم يطيقوا وطء النساء ، أو : لا يدرون ما عورات النساء ؟ .
{ولاَ يضْربنَ بأرجُلهنَّ ليُعْلَم ما يُخفين من زِينَتِهِنَّ} ، كانت المرأة تضرب برجلها الأرض ليسمع قعقعة خلخالها ، فيعلم أنها ذات خُلْخال ، فنُهين عن ذلك ؛ إذ سَمَاعُ صَوْتِ الزينة كإظهارها ، فيورث ميل الرجال إليهن. ويوهم أن لهن ميلاً إليهم. قال الزجاج : سماع صوت الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها. هـ.
الإشارة : غض البصر عما تُكره رؤيته : من أسباب جمع القلب على الله وتربية الإيمان. وفي الحديث : " من غض بصره عن محارم الله ، عوضه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه " وفي إرسال البصر : مِنْ تشتيت القلب ، وتفريق الهم ، ما لا يخفى ، وفي ذلك يقول الشاعر :
وإِنَّكَ ، إِنْ أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً
لِقَلْبِكَ ، يَوْماً ، أَتْعَبَتْكَ المُناظِرُ
تَرَى ، ما لاَ كٌلهُ أَنْتَ قَادِرٌ
عَلَيْهِ ، وَلاَ عَنْ بَعْضِه أَنْتَ صَابِرُ
فالعباد والزهاد يغضون بصرهم عن بهجة الدنيا ، والعارفون يغضون بصرهم عن رؤية السِّوَى ، فلا يرون إلا تجليات المولى. قال الشبلي : {قٌل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي : أبصار الرؤوس عن المحارم ، وأبصار القلوب عما سِوَى الله. هـ.
(5/108)
جزء : 5 رقم الصفحة : 67
وقوله تعالى : {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} ، قال بعضهم : لا يجوز كل ما يستدعي فِتْنَةً للغير ؛ من إظهار حال مع الله ، مما هو زينة السريرة ، فلا يظهر شيئاً من ذلك إلا لأهله ، إلا إذا ظهر عليه شيئ من غير إظهار منه ، ولا قصدَ غير صالح. هـ. فلا يجوز إظهار العلوم التي يفتتن بها الناس ؛ من حقائق أسرار التوحيد ، ولا من الأحوال التي تُنكرها الشريعة ، فَيُوقِعُ النَّاسَ في غيبته. وأما قَضِيَّةُ لِصَّ الحَمَّامِ ؛ فحال غالبة لا يقتدى بها.
70
والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالتوبة ؛ لأن النظر لا يسلم منه أحد في الغالب. فقال :
{...وَتُوبُوااْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
يقول الحق جل جلاله : {وتوبوا إلى الله جميعاً أَيُّه المؤمنون} ؛ إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط ، وَلاَ سيما في الكف عن الشهوات ، وقيل : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية ، فإنه ، وإن جُبّ بالإسلام ، لكن يجب الندم عليه ، والعزم على الكف عنه ، كلما يُتَذَكَّرُ ، ويَخْطِرُ بالبال. وفي تكرير الخطاب بقوله : {أية المؤمنون} : تأكيد للإيجاب ، وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال ، حَتْماً. قيل : أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة. وظاهر الآية : أن العصيان لا ينافي الإيمان ، فبادروا بالتوبة {لعلكم تفلحون} ؛ تفوزون بسعادة الدارين. وبالله التوفيق.
الإشارة : التوبة أساس الطريق ، ومنها السير إلى عين التحقيق ، فَمَنْ لاَ تَوْبَةَ لَهُ لا سَيْرَ لَهُ ، كمن يبني على غير أساس. والتوبة يَحْتَاجُ إليها المبتدىء والمتوسط والمنتهي ، فتوبة المبتدىء من المعاصي والذنوب ، وتوبة السائر : من الغفلة ولوث العيوب ، وتوبة المنتهي : من النظر إلى سوى علام الغيوب.
قال ابن جزي : التوبة واجبة على كل مكلف ، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
(5/109)
وفرائضها ثلاثة : الندم على الذنب ؛ من حيث عُصِيَ به ذو الجلال ، لا من حيث أضر ببدن أو مال. والإقلاع على الذنب في أول أوقات الإمكان ، من غير تأخير ولا توان ، والعزم ألا يعود إليها أبداً. ومهما قضى الله عليه بالعود ، أضحْدَثَ عَزْماً مُجَدَّداً. وآدابها ثلاث : الاعتراف بالذنب ، مقروناً بالانكسار ، والإكثار من التضرع والاستغفار ، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من الأوزار. ومراتبها سبع : فتوبة الكفار من الكفر ، وتوبة المُخَلِّطِينَ من الذنوب الكبائر ، وتوبة العدول من الصغائر ، وتوبة العابدين من الفترات ، وتوبة السالكين من عِلَلِ القلوب والآفات ، وتوبة أهل الورع من الشبهات ، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات. والبواعث على التوبة سبعة : خوف العقاب ، ورجاء الثواب ، والخجل من الحساب ، ومحبة الحبيب ، ومراقبة الرقيب ، وتعظيم المقام ، وشكر الإنعام. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 67
{وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَىا مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىا يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...}.
71
قلت : الأيامى : جَمْعُ أَيِّمٍ ، وأصله : أيايم ، فقلبت الياء ؛ لآخِر الكلمة ، ثم قلبت ألفاً ، فصارت أيامى. والأيم : من لاَ زوج له من الرجال والنساء.
يقول الحق جل جلاله : {وَأَنْكِحُوا} أي : زَوِّجُوا {الأيامى منكم} أي : مَنْ لا زوج له من الرجال والنساء ، بِكراً كان أو ثيباً. والمعنى : زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر. والخطاب للأولياء والحكام ، أمرهم بتزويج الأيامى ، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن. وفي الآية دليل عدم استقلال المرأة بالنكاح ، واشتراط الولي فيه ، وهو مذهب مالك والشافعي ، خلافاً لأبي حنيفة.
(5/110)
{والصالحين} أي : الخيّرين ، أو : مَنْ يصلح للتزوج ، {من عِبَادِكم وإمائِكم} أي : من غلمانكم وجواريكم ، والأمر : للندب ؛ إذ النكاح مندوب إليه ، والمخاطبون : ساداتهم. ومذهب الشافعي : أن السيد يُجبَر على تزويج عبيده ، لهذه الآية ، خلافاً لمالك ، ومذهب مالك : أن السيد يَجْبُر عبدَه على النكاح ، خلافاً للشافعي. واعتبار الصلاح في الأَرِقَّاءِ : لأن مَنْ لاَ صَلاَحَ له بمعزلٍ من أن يكون خليقاً بأن يَعْتَنِيَ مولاه بشأنه ، وأيضاً : فالتزويج يحفظ عليه صَلاَحَهُ الحاصل ، وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر ؛ لأن الغالب فيهم الصلاح ، على أنهم مستبدون بالتصرف في أنفسهم وأموالهم ، فإذا عزموا النكاح فلا بد من مساعدة الأولياء لهم.
وقيل : المراد بالصلاح : صلاحهم للتزوج ، والقيام بحقوقهم ، فإن ضَعُفُوا ؛ لم يُزَوَّجُوا. ونفقة العبد على سيده ؛ إن زَوَّجَه ، أو أَذن له ، وإلا خُيِّر فيه.
ثم قال تعالى : {إن يكونوا فقراءَ} من المال {يُغْنِهِمُ الله من فضله} بالكفاية والقناعة ، أو باجتماع الرزقين. وفي الحديث : " التمسوا الرزق بالنكاح " وقال ابن عجلان : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة ، فقال : " عليك بالباءة " ، أي : التزوج. وكذلك قال أبو بكر وعمر وعثمان لمن شكى إليهم العَيْلَةَ ، متمسكين بقوله تعالى : {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} ، فبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، حسبما تقتضيه المشيئة والحكمة والمصلحة. فالغِنَى ، للمتزوج ، مقيد بالمشيئة ، فلا يلزم الخلف بوجود من لم يستغن مع التزوج ، وقيل : مقيد بحسن القصد ، وهو مغيب. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 71
(5/111)
الترغيب في النكاح : قال صلى الله عليه وسلم : " تناكحوا تكثروا ، فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط " وقال صلى الله عليه وسلم : " من أحب فطرتي فليستن بسنتي ، وهي النكاح ، فإن الرجل يُرفعُ بدعاء ولده من بعده " ، وقال سمرة رضي الله عنه : (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل). وقال - عليه الصلاة والسلام - :
72
" من كان له ما يتزوج به ، فلم يتزوج ، فليس منا " وقال عليه الصلاة والسلام : " من أدرك له ولد ، وعنده ما يزوجه به ، فلم يزوجه ، فأحدث ، فالإثم بينهما " وقال أبو هريرة : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد للقيت الله بزوجة ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " شراركم عُزَّابُكُم ، إذا تزوج أحدكم عَجَّ شيطانه : يا ويله عَصَمَ ابنُ آدَمَ ثلثي دِينِهِ " وقال صلى الله عليه وسلم : " مسكين ، مسكين ، رجل ليست له امرأة ، ومسكينة ، مسكينة ؛ امرأة ليست لها زوج ، قالوا : يا رسول الله! وإن كانت غنية من المال ؟ قال : وإن ". وقال أبو أمامة : (أربعة لعنهم الله من فوق عرشه ، وأمَّنت عليهم ملائكته : الذي يحصر نفسه عن النساء ، فلا يتزوج ولا يتسرى ؛ لئلا يولد له ، والرجل يتشبه بالنساء ، والمرأة تتشبه بالرجال ، وقد خلقها الله أنثى ، ومُضلل المساكين). وقال سهل بن عبد الله : لا يصح الزهد في النساء ؛ لأنهن قد حُببن إلى سيد الزاهدين. ووافقه ابن عُيَيْنَةَ ، فقال : ليس في كثرة النساء دنيا ؛ لأن أزهد الصحابة كان عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكان له أربع نسوة وبِضعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً. هـ. من القوت.
(5/112)
وقال عطية بن بُسْر المازني : أتى عكافُ بن وَدَاعَة الهلالي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له : " يا عكاف ؛ ألك زوجة ؟ قال : لا ، يارسول الله ، ولا أمة ؟ قال : لا. قال : وأنت صحيح موسر ؟ قال : نعم ، والحمد لله. قال : فإنك ، إذاً ، من إخوان الشياطين ، إما أن تكون من رهبان النصارى ، وإما تكون مؤمناً ، فاصنع ما بدا لك. فإن سنتنا النكاح ، شراركم عزابكم ، وأرذال موتاكم عزابكم ، ما للشيطان ، في سلاح ، أبلغ من مُحْتَمِلِ العَزَبَةِ ، ألا إن المتزوجين هم المطهرون المبرؤون من الخنا " انظر الثعلبي.
قال تعالى : {ولْيَسْتَعْفِفِ الذين لا يجدون نكاحاً} أي : ليجتهد في العفة عن الزنا وقمع الشهوة من لم يجد الاستطاعة على النكاح ؛ من المهر والنفقة ، {حتى يُغْنِيَهُم الله من فضلِهِ} ؛ حتى يقدرهم الله على المهر والنفقة ، قال عليه الصلاة والسلام : " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ؛ فإنه أغضُّ للبصر ، وأحصنُ للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ؛ فإنه له وجَاءٌ " ، فانظر كيف رتَّب الحق تعالى هذه الأمور ؟ أَمَرَ ، أولاً ، بما يَعْصِمُ من الفتنة ، ويُبعد عن مواقعة المعصية ، وهو غض البصر ، ثم بالنكاح المُحَصَّنِ للدين ، المغني عن الحرام ، ثم بعزف النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة ، عند العجز عن النكاح ، إلى أن يقدر عليه. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 71
الإشارة : الأرواح والقلوب والنفوس لا يظهر نِتَاجُها حتى ينعقد النكاح بينها وبين
73
(5/113)
شيخ كامل ، فإذا انعقدت الصحبة بينها وبين الشيخ ، قذف نطفة المعرفة في الروح أو القلب أو النفس ، ثم يربيها في مشيمة الهِمَّة ، ثم في حَضَانة الحفظ والرعاية ، فَيَظْهَرُ منها نِتاجُ اليقين والعلوم والأسرار والمعارف ، وأما إن بقيت أيامَى ؛ لا زوج لها ، فلا مطمع في نِتَاجها ، قال تعالى : {وأَنْكِحوا الأيامى منكم} ، وهي الأرواح ، والصالحين من قلوبكم ، ونفوسكم ، إن يكونوا فقراء ؛ من اليقين ، والمعرفة بالله ، يغُنهم الله من فضله ؛ بمعرفته ، والله واسع عليم ، وليتعفف ، عن المناكر ، الذين لا يجدون من يأخذ بيدهم ، حتى يغنيهم الله من فضله ؛ بالسقوط على شيخ كامل ؛ فإنه من فضل الله ومنته ، لا يسقط عليه إلا من اضْطُرَّ إليه ، وصَدَقَ الطلبَ في الوصول إليه. وبالله التوفيق.
ولما أمر بتزوج العبيد ، أمر بمكاتبتهم ، فقال :
{... وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِىا آتَاكُمْ...}.
قلت : الكتاب هنا : مصدر ، بمعنى الكتابة. وهي : مقاطعة العبد على مال مُنَجَّمٍ ، فإذا أداه ؛ خرج حراً ، وإن عجز ، ولو عن نصف درهم ، بقي رقيقاً.
يقول الحق جل جلاله : {والذين يَبْتَغُون الكتابَ} أي : والمماليك الذين يطلبون الكتابة {مما ملكتْ أيمانُكم} ؛ من عبيدكم {فكاتِبُوهُم} ، والأمر للندب ، عند مالك والجمهور ، وقال الظاهرية وغيرهم : على الوجوب ، وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه لأنس بن مالك ، حين سأله مملوكه سيرين الكتابة ، فأبى عليه أنس ، فقال له عمر : لتكاتبنه ، أَوْ لأُوجِعَنَّكَ بالدِّرَّةِ. وإنما حمله مالك على الندب ؛ لأن الكتابة كالبيع ، فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها.
(5/114)
واختلف : هل يُجْبِرُ السيدُ عَبْدَهُ عليها ، أم لا ؟ قولان في المذهب. ونزلت الآية بسبب حُوَيْطب بن عبد العُزَّى ، سأل مولاه أن يكاتبه ، فأبى عليه. وحكمها عام ، فأمر الله سادات العبيد أن يُكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة. والكتابة : أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا ، فإن أدى ذلك عُتِقَ ، ومعناه : كتبت لك على نفسي أن تُعْتَقَ مني إذا وَفَّيْتَ المال ، وكتبتَ لي على نفسك أن تفي بذلك. وتجوز حَالَّةً ، وتسمى : القطاعة ، ومُنَجَّمَةً وَغَيْرَ مُنَجَّمَةٍ.
وقوله تعالى : {إنْ علمتمْ فيهم خيراً} ، أي : قدرة على الكسب ، وأمانة وديانة ، والنَّدْبِيَّةُ متعلقة بهذا الشرط ، فالخير هنا : القوة على الأداء بأي وجه كان ، وقيل : هو المال الذي يؤدي منه كتابته ، من غير أن يسأل أموال الناس ، وقيل : الصلاح في الدين.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 71
وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} ، هذا أمر بإعانَةِ المكاتب على كتابته ، واخْتُلِف : مَنِ المُخَاطَبُ بذلك ؟ فقيل : هو خطاب للناس أجمعين ، وقيل : للولاة ، والأمر على هذين القولين للندب ، وقيل : للسادات المُكَاتِبينَ ، وهو على هذا القول ، ندب عند مالك ، ووجوب عند الشافعي. فإن كان الأمر للناس ، فالمعنى : أن يعطوهم صدقة من أموالهم ، وإن كان للولاة : فيعطوهم من الزكوات أو من بيت المال ، وإن كان للسادات فَيَحُطُّوا عنهم من كتابتهم ، وقيل : يعطوهم من أموالهم ، من غير الكتابة ، وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يُحَطُّ ، فقيل : الربع ، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل الثلث ، وقال مالك : لا حد قي ذلك ، بل أقل ما يطلق عليه شيء ، إلا أن الشافعي يجبره على ذلك ، ولا يجبره مالك. وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك ، وقيل : في أول نَجْمٍ. قاله ابن جزي.
(5/115)
الإشارة : العبيد على أربعة أقسام : عَبْدٌ قِنُّ مقتنى للخدمة ، وعبد مأذون له في التجارة ، وعبد مُكَاتبٌ ، وعبد آبق. فمثال الأول ، وهو العبد القن : أهل الخدمة ، وهم العباد والزهاد ، أقامهم الحق تعالى لخدمته ، وقَوَّاهُمُ على دوام معاملته ، أهل الصيام والقيام ، وأهل السياحة والهيام. ومثال الثاني ، وهو المأذون له : العارفون بالله ، يتصرفون في ملك سيدهم بالله ، خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يُؤْخَذُ من نصيبهم شيء ، قد سخرّ لهم كل شيء ، ولم يُسَخَّرُوا لشيء ، سُلَِطُوا على كل شيء ، ولم يُسَلَّطْ عليهم شيء ، يخالطون الناس بجسمهم ، ويباينونهم بسرهم ، فالدنيا سوق تجارتهم ، والمعرفة رأس بضاعتهم ، والعدل في الغضب والرضا مِيزانُهم ، والقصد في الفقر والغنى عُنْوانهم ، والعلم بالله مفزعهم ومنجاهم ، والقرآن كتاب الإذن من مولاهم ، والفهم عن الله مرجعهم ومأواهم.
ومثال الثالث ، وهو المُكَاتَب : الصالحون من المؤمنين ؛ يعملون على فك رقبتهم من النار ، فإذا أدوا ما فرض عليهم ؛ حررهم بعد موتهم ، وأسكنهم فسيح جنانه. ومثال الآبق : هم العصاة والفجار ، استمروا على عصيانهم ، حتى قدموا على الملك الجبار ، فهم تحت حكم المشيئة ، إن شاء عفا عنهم ، وإن شاء عاقبهم. والله تعالى أعلم.
ولما أمر بتزويج الإماء نهى عن إكراههن على الزنا ، فقال :
{... وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}.
جزء : 5 رقم الصفحة : 71
يقول الحق جل جلاله : {ولا تُكْرهُوا فتياتكم} أي : إِمَاءَكُمْ ، يقال للعبد : فتى ،
75
(5/116)
وللأمة : فتاة. والجمع : فتيات ، {على البغاء} أي : الزنا ، وهو خاص بزنا النساء. كان لابن أُبيِّ ست جوار : مُعَاذَة ، ومُسَيْكَة ، وأميمة ، وعَمْرَة ، وأَرْوَى ، وقُتَيْلَة ، وكان يكرههن ، ويضرب عليهن الضرائب لذلك ، فشكتِ ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية.
وقوله تعالى : {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} أي : تعففاً ، ليس قيداً في النهي عن الإكراه ، بل جرى على سبب النزول ، فالإكراه : إنما يُتَصَوَّرُ مع إرادة التَّحَصُّنِ ؛ لأن المطيعة لا تسمى مكرهة ، ثم خصوص السبب لا يُوجب تخصيص الحُكم على صورة السبب ، فلا يختص النهي عن الإكراه بإرادة التعفف ، وكذلك الأمر بالزنا ، والإذن فيه لا يُبَاحُ ولا يجوز شيء من ذلك للسيد ، وما يقبض من تلك الناحية سُحْتٌ وربا. وفيه توبيخ للموالي ؛ لأن الإماء إذا رغبن في التحصن ؛ فأنتم أولى بذلك ، ثم علل الإكراه بقوله : {لتبتغوا عَرَض الحياةِ الدنيا} أي : لتبتغوا بإكراهن على الزنا أجورهن وأولادهن ، جيءَ به ؛ تشنيعاً لهم على ما هم عليه من أحمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير ، أي : لا تفعلوا ذلك لطلب المتاع السريع الزوال ، الوشيك الاضمحلال. {ومن يُكْرِههُنَّ} ؛ على ما ذُكِرَ من البغاء ، {فإن الله من بعد إكرَاهِهِنَّ غفورٌ} لهن {رحيمٌ} بهن ، وفي مصحف ابن مسعود كذلك. وكان الحسن يقول : لهن والله. وقيل : للسيد إذا تاب. واحتياجهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم : إما اعتبار أنهن - وإن كن مُكْرَهَاتٍ - لا يخلون في تضاعيف الزنا من شائبة مطاوعة ما ، بحكم الجِبِلَّةِ البشرية ، وإما لغاية تهويل أمر الزنا ، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه ، والتشديد في تحذير المكرِهِينَ ببيان أنهن حَيْثُ كُنَّ عُرْضَةً للعقوبة ، لولا أن تداركهن المغفرة ، الرحمة ، مع قيام العذر في حقهن ، فما بالك بحال من يكرههن في استحقاق العقاب ؟
(5/117)
{ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مُبَيِّنَاتٍ} ؛ مُو ضِّحَات ، أو : واضحات المعنى ، والمراد : الآيات التي بُينت في هذه السورة ، وأوضحت معاني الأحكام والحدود. وهو كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة ؛ لبيان جلالة شأنها ، المقتضي للإقبال الكلي على العمل بمضمونها. وصُدر بِالْقَسَمِ الذي تُعرب عنه اللام ؛ لإبراز كمال العناية بشأنها. أي : والله ، لقد أنزلنا إليكم ، في هذه السورة الكريمة ، آيات مبينات لكل ما لكم حاجة إلى بيانه ؛ من الحدود وسائر الأحكام ، وإسناد البيان إليها : مجازي ، أو : آيات واضحات تصدقها الكتب القدسية والعقول السليمة ، على أن " مُبَيِّنات " ، مِنْ بيَّن ، بمعنى تبين ، كقولهم في المثل : " قد بيَّن الصبح لذي عينين " ، أي : تبين. ومن قرأها بالبناء للمفعول ، فمعناه : قد بيَّن الله فيها الأحكام والحدود.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 71
ومثلاً من الذين خَلَوا مِن قبلكم} أي : وأنزلنا مثلاً من أمثال مَنْ قَبْلَكُم ، من القصص العجيبة ، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة ، والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء والحكماء ، فتنتظم قصة عائشة - رضي الله عنها - المحاكية لقصة يوسف عليه
76
السلام وقصة مَرْيَمَ ، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة ، انتظاماً واضحاً. وتخصيص الآيات البينات بالسوابق ، وحمل المثل على قصة عائشة المحاكية لقصة يوسف ومريم ، يأباه تعقيب الكلام بما سيأتي من التمثيلات.
{و} أنزلنا {موعظةً للمتقين} يتعظون بها ، وينزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخُل بمحاسن الآداب ، والمراد : ما وعظ به من الآيات والمثل ، مثل قوله : {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور : 2] ، و {لَّوْلاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ...} [النور : 12] إلخ ، {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ} [النور : 17].
(5/118)
وتخصيص المتقين ؛ لأنهم المنتفعون بها ، المغتنمون لآثارها ، المقتسبةن لأنوارها ، ومدار العطف هو التَّغَايُرُ العنواني المُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التغايُرِ الذاتي. وقد خصَّت الآيات بما بيّن الأحكامَ والحدودَ ، والموعظة بما وعظ به من قوله : {ولا تأخذكم...} إلى آخر ما تقدم. وقيل : المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة : جميع ما في القرآن المجيد من الأمثال والمواعظ والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من أمر بالمعصية ودلَّ عليها ، أو رضي فعلها ، فهو شريك الفاعل في الوزر ، أو أعظم. وكل من أمر بالطاعة ودلّ عليها فهو شريك الفاعل في الثواب ، أو أعظم. وفي الأثر : " الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِه ". قال القشيري : حامِلُ العاصي على زَلَّته ، والداعي له إلى عَثْرَته ، والمُعِينُ له على مخالفته ، تتضاعف عليه العقوبة ، وله من الوِزْرِ أكثرُ من غيره ، وعكسه لو كان الأمر في الطاعة والإعانة على العبادة. هـ. ومن هذا القبيل : تعليم العلم لمن تحقق أنه يطلب به رئاسةً أو جاهاً ، أو تَوَصُّلاً إلى الدنيا المذمومة ، أو عَلِمَ منه قصداً فاسداً ، فإن تحقق ذلك وعَلِمَه ، فهو مُعين له على المعصية ، كمن يعطي سيفاً لمن يقطع به الطريق على المسلمين. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 71
77
(5/119)
يقول الحق جل جلاله : {الله نورُ السموات والأرض} أي : منور أهلهما [بنور الإسلام والإيمان ؛ لأهل الإيمان] ، وبنور الإحسان ؛ لأهل الإحسان ، فحقيقة النور : هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هي عليه ، حسية أو معنوية ، والمراد هنا : المعنوية ؛ بدليل قوله {يهدي الله لنُوره من يشاء} ، فإن انكشف به أحكام العبودية ، باعتبار المعاملة الظاهرة ، يُسمّى : نُورُ الإسلام ، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها ، من طريق البرهان ، يُسمى : نُور الإيمان ، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها ، من طريق العيان ، يُسمى : نور الإحسان. فالأول : يشبه نور النجوم ، والثاني : نور القمر ، والثالث نور الشمس ، ولذلك تقول الصوفية : نجوم الإسلام ، وقمر الإيمان ، وشمس العرفان.
ثم ضرب المثل لذلك النور ، حين يقذفه في قلب المؤمن ، فقال {مَثَلُ نُورِهِ} أي : صفة نوره العجيبة في قلب المؤمن - كما هي قراءة ابن مسعود - {كمشكاةٍ} أي : كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ ، وهي الكُوَّةُ في الجدار غير النافذة ؛ لأن المصباح فيها يكون نوره مجموعاً ، فيكون أزهر وأنور ، {فيها مصباح} أي : سراج ضخم ثاقب ، {المصباحُ في زجاجة} أي : في قنديل من زجاج صافٍ أزهر ، {الزجاجةُ} من شدة صفائها {كأنها كوكب دُرِّيِّ} ؛ بضم الدال وتشديد الراء ، منسوب إلى الدر ؛ لفرط ضيائه وصفائه ، وبالكسر والهمز : " أبو عمرو " ؛ على أنه يدْرأ الظلام بضوئه. وبالضم والهمز : أبو بكر وحمزة ، شبهه بأحد الكواكب الدراري ، كالمشتري والزهرة ونحوهما. {تَوَقَدُ} بالتخفيف والتأنيث ، أي : الزجاجة ، أو {يُوقَدُ} بالتخفيف والغيب ، أو : {تَوَقَّدَ} بالتشديد ، أي : المصباح {من شجرةٍ} أي من زيت شجرة الزيتون ، أي : رويت فتيلته من زيت {شجرةٍ مباركةٍ} ؛ كثيرة المنافع ، أو : لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين ، وهي الشام ، وقيل : بارك فيها سبعون نبياً ، منهم إبراهيم عليه السلام.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 77
(5/120)
زيتونةٍ} : بدلٌ من {شجرة} ، من نعتها {لا شرقيةٍ ولا غريبةٍ} أي : ليست شرقية فقط ، لا تُصيبها الشمس إلا في حالة الشروق ، ولا غربية ، لا تصيبها إلا في حال الغروب ، بل هي شرقية غربية ، تصيبها الشمس بالغداة والعشي ، فهو أَنْضَرُ لها ، وأوجود لزيتونها. وقيل : ليست من المشرق ولا من المغرب ، بل في الوسط منه ، وهو الشام ، وأجودُ الزيتونِ زيتون الشام.
{يكادُ زيتُها يٌضيءُ ولو لم تمسسه نارٌ} ؛ هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مسَاسٍ نَارٍ أصلاً. {نورٌ على نورٍ} أي : نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي ، فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن ؛ فالمشكاة هو الصدر ، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان ، على ما تقدم ، والزجاجة هو القلب الصافي ، ولذلك شبهه بالكوكب الدُرّيّ ، والزيت هو العِلْمُ النافع الذي يقوي اليقين. ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة. يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق ، ولو لم يمسسه
78
علمها. {نورٌ على نورٍ} أي نور الإيمان مُضَافٌ إلى نور الإسلام ، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام.
{يهدي الله لنوره} أي : لهذا لنور الباهر {من يشاء} من عباده ؛ إما بإلهام أو بواسطة تعليم. وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هي بمشيئته تعالى ، وأن الأسباب لا تأثير لها. {ويضرب الله الأمثالَ للناس} ؛ تقريباً للفهم ، لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس {والله بكل شيءٍعليمٌ} ، معقولاً كان أو محسوساً ، فيبين الأشياء بما يمكن أن تُعْلَم به. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق ، وسر من أسرار ذاته ، مُلْكٌ ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت ، فالكائنات كلها : الله نُورُها وسرُّها ، وهو القائم بها. ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله ، وحسبُ من لم يبلغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه ، وتحققوه ذوقاً وكشفاً.
(5/121)
ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته ، فقال : {مثل نوره} الظاهر ، الذي تجلى به في عالم الشهادة ، {كمشكاة فيها مصباح} أي : كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ ، خرج منها نور كثيف كالمصباح ، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ ، انفجر من نور النور ، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات ، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف ، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله : {المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُري...} إلخ. فالآية كلها من تتمه التمثيل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 77
وقوله تعالى : {ولو لم تمسسه نار} قيل : الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة ، فيستغني عن الوسائط. وقوله تعالى : {نورٌ على نور} أي : نور ملكوته على نور جبروته ، {يهدي الله لنوره} أي : لشهود نوره ، أو لمعرفة نوره ، {من يشاء} من خواص أحبابه ، كأنبيائه وأوليائه ، فمن لم يشهد هذا النور ، ولم يعرفه ، لا خصوصية له ؛ يتميز بها عن العوام ، فهو من عامة أهل اليمين ، ولو كثر علمه وعمله ؛ إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب. وفي الحكَم : " الكائن في الكون ، ولم تفتح له ميادين الغيوب ، مسجون بمحيطاته ، محصور في هيكل ذاته " ، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان ، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله : (أو كظلمات...) إلخ.
وفي الحِكَم : " الكون كله ظلمة ، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه ، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه ، أو عنده ، أو قبله أو بعده ، فقد أعوزه وجود الأنوار ، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار ". فالكون عند أهل العيان كله نور ، وعند أهل الحجاب كله ظلمة ، وهو محيط بهم ، فالظلمة محيطة بهم ، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه : (مشكاة الأنوار) ، وكلامه فيه يدور على أن معنى اسمه تعالى " النور " : يرجع إلى ما ثبتت به
79
(5/122)
الأشياء وظهرت من العدم ، ولذلك قال قائلهم :
فَالنُّورُ يُظْهِرُ مَا تَرَى مِنْ صُورَةٍ
وبه ظهور الكَائِنَاتِ بِلاَ امْتِرَاءِ
وفي لطائف المنن : الله نور السموات والأرض ؛ نور سموات الأرواح بمشاهدته ، ونور أرض النفوس بمطالعته وخدمته ، وجعل قلوب أوليائه مَجْلاَةً لذاته ولظهور صفاته ، أظهرهم ليظهر فيهم خصوصاً ، وهو الظاهر في كل شيء عموماً ، ظهر فيهم بأنواره وأسراره ، كما ظهر فيهم ، وفيما عداهم بقدرته واقتداره. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 77
قلت : (في بيوت) : يتعلق بمشكاة ، أي : كائنة في بيوت ، أو توقد ، أو بيسبح ، أي : يسبح له رجال في بيوت ، وفيه تكرير ؛ لزيادة التأكيد ، نحو : زيد في الدار جالس فيها ، أو بمحذوف ، أي : سبّحوا في بيوت. و(أَذِنَ) : نَعْتٌ له.
يقول الحق جل جلاله : وذلك النور الذي في المشكاة يكون {في بيوتٍ أَذن الله أن ترفع} ، وهي المساجد والزوايا المُعدَّة لذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن. ورفعها : تعظيمها. أي : التي أمر الله بتعظيمها ؛ كتطهيرها من الخبث ، وتنقيتها من القذى ، وتعليق القناديل ونصب الشموع ، ويزاد التعظيم في شهر رمضان. ومن تعظيمها : غلقها في غير أوقات الصلاة ، وقيل المراد برفعها : بناؤها ، كقوله تعالى : {... بَنَـاهَا رَفَعَ...سَمْكَهَاَ} [النازعات : 27و28] {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة : 127] ، والأول أصح.
{و} أَذِنَ أيضاً أن {يُذْكَرَ فيها اسمُه} ، وهو عام في جميع الذِّكْر ، مفرداً أو جماعة ، ويدخل فيه تلاوة القرآن. {يُسَبِّحُ له فيها بالغُدوّ والآصال} أي : يصلي له فيها بالغداة : صلاة الفجر ، والآصال : صلاة الظهر والعصر والعِشَاءين. وإنما وَحَّد الغدو ؛ لأن صلاته صلاة واحدة ، وفي الآصال صلوات ، وهو جمع أصيل ، وفاعل " يُسَبِّحُ " : رجال.
(5/123)
ومن قرأ بفتح الباء ، فأسنده إلى أحد الظروف الثلاثة ، أعني : (له فيها بالغدو).و " رجال " : مرفوع بمحذوف ، دل عليه {يُسبح} أي : يسبحه {رجالٌ لا تُلهيهم} : لا تشغلهم {تجارةٌ} في السفر ، {ولا بيعٌ} في الحضر ، {عن ذكر الله} باللسان والقلب ، وقيل : التجارة : الشراء ، أي : لا يشغلهم شراء ولا بيع عن ذكر الله ، والجملة صفة لرجال ،
80
مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، مفيدة لكمال تَبَتُّلِهِمْ إلى الله تعالى ، واستغراقهم فيما حكى عنهم من التسبيح من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 80
وتخصيصُ التِّجَارَةِ بالذكر ؛ لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها ، أي : لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ، ولا فرد من أفراد البياعات ، وإن كان في غاية الربح.
وإفراده بالذكر ، مع اندراجه تحت التجارة ؛ لأنه ألهى ؛ لأن ربحه متيقن ناجز في الغالب ، وما عداه متوقع في ثاني الحال.
(5/124)
{و} لا يشغلهم ذلك أيضاً عن {إِقامِ الصلاةِ} أي : إقامتها لمواقيتها من غير تأخير ، وأصله : وإقامة ، فأسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال ، وعوض عنها الإضافة ، فأقيمت الإضافة مقام التاء ، {وإِيتاء الزكاة} أي : وعن إيتاء الزكاة ، وذكرها ، وإن لم يكن مما تفعل في البيوت ، لكونها قرينتها لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع ، مع ما فيه من التنبيه على أن مَحَاسِنَ أعمالهم غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فيما يقع في المساجد. والمعنى : لا تجارة لهم حتى تلهيهم ، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك ، لا يشغلهم عن ذكر الله شيء ، وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها مسرعين. {يخافون يوماً} أي : يوم القيامة {تتقلَّبُ فيه القلوبُ} أي : تضطرب وتتغير من الهول والفزع ، وتبلغ إلى الحناجر ، {و} تتقلب {الأبصارُ} بالشخوص أو الزرقة. أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران ، والأبصار إلى العيان بعد النكران ، كقوله : {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق : 22].
(5/125)
يفعلون ذلك الاستغراق في التسبيح والذكر ، مع الخوف ؛ {ليجزيهم الله أحسنَ ما عَمِلُوا} أي : أحسن جزاء أعمالهم ، حسبما وعدهم بمقابلة حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، {ويزيدَهُم من فَضْلِه} أي : يتفضل عليهم بأشياء وعدهم بها ، لم تخطر على بال ؛ كالنظر إلى وجهه ، وزيادة كشف ذاته ، فهو كقوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىا وَزِيَادَةٌ} [يونس : 26]. {والله يرزق من يشاء بغير حساب} أي : يثيب من يشاء ثواباً لا يدخل تحت حساب الخلق ، و " مَنْ " : واقعة على من ذُكِرَتْ أوصافهم الجميلة ، كأنه قيل : والله يرزقهم بغير حساب ، ووضعه موضع ضميرهم ؛ للتنبيه على أن مناط الرزق المذكور مَحْضُ مشيئتِه تعالى ، لا أعمالهم المحكية ، ويحتمل أن يريد بالرزق ما يرزقهم في الدنيا مما يقوم بأمرهم ، حين تَبتَّلُوا إلى العبادة ، يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون ، من غير حَصْرٍ ولا عد. والله تعالى أعلم.
الإشارة : البيوت التي أَذِنَ الله أن تُرفع هي القلوب ، التي هي معدن الأسرار ومحل مصابيح الأنوار ، ورفعها : صونها من الأغيار ، وتطهيرها من لوث الأكدار ، وبُعدها من جيفة الدنيا ، التي هي مجمع الخبائث والأشرار ، ليُذكَرَ فيها اسم الله ، كثيراً ، على نعت الحضور والاستهتار ، وإنما يمكن ذلك من أهل التجريد والانقطاع إلى الله ، الذين لا
81
تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب عن حضرة الله ، والأبصار عن شهود الله ، وذلك بشؤم الغفلة في الدنيا عن الله ، والقيام بحقوق الله ، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ، في جنة الزخارف ، ويزيدهم من فضله التَّنَزُّهَ في جنة المعارف. والله يرزق من العلوم والمعارف من يشاء بغير حساب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 80
(5/126)
قلت : " كسراب " : خبر الثاني ، وهو : ما يُرى في الفلوات من لمعان الشمس وقت الظهيرة ، يسرب على وجه الأرض ، فَيُظَنُّ أنه ماء يجري. و(بقيعة) : متعلق بمحذوف ، صفة لسراب ، أي : كائن بأرض قيعة ، أي : منبسطة ، و (سحاب ظلمات) : مَنْ جَرَّها : فبالإضافة ، ومن رفعها : فخبر ، أي : هي ظلمات.
يقول الحق جل جلاله : في بيان أعمال الكفرة وظلمة قلوبهم ، بعد بيان حَالِ المؤمنين وأنوار قلوبهم : {والذين كفروا أعمالُهم} التي هي من أبواب البر ، كصلة الرحم ، وفك العُنَاةِ ، وسقاية الحاج ، وعمارة البيت ، وإغاثة الملهوف ، وَقِرَى الأضياف ، ونحوها ، مما لَوْ قارنه الإيمان لاستوجب الثواب ، مثاله : {كسراب} ؛ كفضاء (بقيعَةٍ) ؛ بأرض منبسطة ، {يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجِدْه شيئاً} أي : لم يجده كما ظنه ورجاه ، بل خاب مطمعه ومسعاه ، {ووجدَ الله عنده} أي : وجد جزاء الله ، أو حُكمه ، عند عمله ، أو عند جزائه ، {فوفَّاه حسابَه} أي : أعطاه جزاءه كله وافياً ، وإنما وحّد ، بعد تقديم الجمع ، حملاً على كل واحد من الكفار.
{والله سريعُ الحساب} ؛ يحاسب العباد في ساعة ؛ لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد ، ولا يشغله حساب عن حساب ، أو قَرِيبٌ حسابُه ؛ لأنَّ كل آتٍ قريبٌ. شبه ما يعمله الكفرة من البر ، الذي يعتقد أنه ينفعه يوم القيامة وينجيه من عذاب الله ، ثم يخيب في العاقبة أَملُهُ ، ويلقى خلاف ما قدّر ، بسراب يراه الكافر بالساهرة ، وقد غلبه عطش يوم القيامة ، فيحسبه ماء ، فيأتيه ، فلا يجد ما رجاه ، ويجد زبانية الله ، فيأخذونه إلى جهنم ، فيسقونه الحميم والغساق. قيل : هم الذين قال الله فيهم : {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} [الغاشية : 3] ، {ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف : 104]. قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية ، كان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، والتمس الدين ، فلما جاء الإسلام كفر. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 82
(5/127)
ثم ضرب مثلاً لأعمالهم في الدنيا ، فقال : {أوْ كظلماتٍ} ، " أو " : للتنويع ، {في
82
بحرٍ لجيِّ} ؛ عميق كثير الماء ، منسوب إلى اللج ، وهو معظم ماء البحر ، {يغشاه} أي : يغشى البحر ، أو مَن فيه ، أي : يعلوه ويغطيه بالكلية ، {موجٌ} هو ما ارتفع من الماء ، {من فوقه موجٌ} أي : من فوق الموج موج آخر ، {من فوقه سَحَابٌ} ؛ من فوق الموج الأعلى سحاب ، {ظلماتٌ} أي : هذه ظلمات ؛ ظلمة السحاب ، وظلمة الأمواج وظلمة البحر ، {بعضُها فوق بعض} ؛ ظلمة الموج على ظلمة البحر ، وظلمة الموج على ظلمة الموج الأسفل ، وظلمة السحاب على الموج ، وهذا أعظمُ للخوف وأقربُ للعطب ، لأنه يغطي النجوم التي يهتدي بها ويشتد معه الريح والمطر ، وذلك يؤكد التلف ، {إذا أخرج يده} أي : الواقع فيه ، أو مَن ابْتُلِيَ بها ، {لم يكد يراها} ؛ مبالغة في " لم يرها " ، أي : لم يقرب أن يراها ، فضلاً عن أن يراها. شبّه أعمالهم ، في ظلمتها وسوادها ؛ لكونها باطلة ، وخلوها عن نور الحق ، بظلماتٍ متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب.
قال ابن جُزَيّ : لما ذكر حال المؤمنين عَقَّبَ ذلك بمثالين لأعمال الكفار ؛ الأول : يقتضي حال أعمالهم في الآخرة ، وأنها لا تنفعهم ، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب. والثاني : يقتضي حال أعمالهم في الدنيا ، وأنها في غاية الفساد والضلال ، كالظلمة التي بعضها فوق بعض. ثم قال : وفي وصف هذه الظلمات مبالغة ، كما أن في وصف النور المذكور قبلها مبالغة. هـ. وقوله : لما ذكر حال المؤمنين ، يعني بقوله : {رجال لا تلهيهم..} إلخ ، الله بقوله : {يهدي الله لنوره من يشاء} ، وقيل : كلا المثالين في الآخرة ، يخيبون من نفعها ، ويخوضون في بحر ظلمتها.
(5/128)
{ومن يجعل الله له نوراً} في قلبه ، من نور توحيده ومعرفته ، {فما له من نورٍ} أي : من لم يشأ الله أن يهديه لنوره : لم يهتد ، وفي الحديث : " خلق الله الخلق في ظلمة ، ثم رش عليها من نوره ، فمن أصابه ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل " ، وينبغي للقارئ عند هذه الآية أن يقول : (اللهمَّ اجعلْ في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن شمالي نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، واجعلني نوراً ، وأعظم لي نوراً) ، كما في الحديث في غير هذا المحل.
الإشارة : كل من لم يتحقق بمقام الإخلاص كانت أعماله كسرابٍ بقيعة ، يحسبه الظمآنُ ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، ووجد الله عنده ، فوفاه حسابه ، أي : يناقشه فيما أراد بعمله ، وأهل التوحيد الخاص : الوجود كله ، عندهم ، كالسراب ، يحسبه الناظر إليه شيئاً ، حتى إذا جاءه بفكرته لم يجده شيئاً ، ووجد الله عنده وحده ، وفيه يقول الشاعر :
جزء : 5 رقم الصفحة : 82
مَنْ أبْصَرَ الخَلْقَ كالسَّرابِ
فَقَدْ تَرَقَّى عَن الحِجَابِ
83
إِلَى وجُودٍ تَرَاهُ رَتْقَاً
بِلاَ ابتعَادٍ ولا اقْتِرَابِ
ولم تُشاهد به سواه
هناك يُهْدَى إلى الصَّوَابِ
فلا خِطَاب بِهِ إِلَيْهِ
ولا مُشير إلى الخِطَابِ
ومثال من عكف على دنياه ، واتخذ إلهه هواه ، كذي ظلمات في بحر لجي ، وهو بحر الهوى ، يغشاه موج الجهل والمخالفات ، من فوقه موج الحظوظ والشهوات ، من فوقه سحاب أثر الكائنات ، أو : يغشاه موج الغفلات ، من فوقه موج العادات ، من فوقه سحاب الكائنات ، ظلمات بعضها فوق بعض ؛ من حب الدنيا ، وحب الجاه ، وحب الرئاسة ، إذا أخرج يد فكرته لم يكد يراها.
(5/129)
وقال بعضهم : الدنيا كلها بحر لُجَي ، والناس مغروقون فيه ، إلا مَنْ عَصَمَ الله ، وساحله الموت ، فمن لعبت به أمواج الهوى والحظوظ ، فليأوي إلى سفينة الزهد والورع ، وليتمسك برئيس عارف بأهوال البحر ، وهم العارفون بالله ، فإنه ينجو من أهوالها ، ومن أخطأ هذا غرق في تيارها ، ولعبت به أمواج حظوظها وشهواتها ، فكان من الهالكين ، نسأل الله الحفظ بمنِّه وكرمه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 82
يقول الحق جل جلاله : {ألم تَرَ} يا محمد ، وخصَّه بالخطاب ؛ إيذاناً بأنه صلى الله عليه وسلم قد أفاض عليه أعلى مَرَاتِبَ النور وأجلاها ، وبيَّن له من أسرار الملكوت أجلهَا وأخفاها ، أي : ألم تنظر بعين بصيرتك ، فتعلم علم اليقين ، {أن الله يُسبِّح له} أي : ينزهه على الدَّوَامِ {من في السموات والأرض} ؛ من العقلاء وغيرهم ، تنزيهاً معنوياً ، فإن كلا من الموجودات يدل على وجود صانع واجب الوجود ، متصف بصفات الكمال ، مقدس عن كل ما لا يليق بعلو شأنه. أو تنزيهاً حسياً بلسان المقال ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. وتخصيص التنزيه بالذكر ، مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضأً ؛ لأن مساق الكلام تَقْبيحُ حَالِ الكفرة في إخلالهم بالتنزيه ؛ بجعلهم الجمادات شركاء له ودعوى اتخاذه الولد.
{و} يسبحه {الطيرُ} حال كونها {صافَّاتٍ} أي : يصففن أجنحتهن في الهواء ، وتخصيصها بالذكر ، مع اندراجها في جملة ما في الأرض ؛ لعدم استمرار قرارها فيها ، ولاختصاصها بصنع بارع ، وهو اصطفاف أجنحتها في الجو ، وتمكينها من الحركة كيف تشاء ، وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط ، ففي ذلك دلالة واضحة على كمال
84
قدرة الصانع المجيد ، وغاية حكمة المبدئ المعيد.
(5/130)
{كُلٌّ قد عَلِمَ صلاتَه وتسبيحه} أي : كل واحد من الأشياء المذكورة قد عَلِمَ الله تعالى صَلاتَهُ ، أي : دعاءه وخضوعه وتسبيحه. أو : كلٌّ قد علم في نفسه ما يصدر عنه من صَلاَةٍ وتسبيح ، فالضمير : ما إليه أو لكلٌ. ولا يبعد أن يلهم الله الطيرَ دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة ، التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. {والله عليم بما يفعلون} ؛ لا يعزب عن علمه شيء.
{ولله ملكُ السموات والأرض} لا لغيره ؛ لأنه الخالق لهما ، ولما فيهما من الذوات ، وهو المتصرف فيهما فيهما إيجاداً وَإعْداماً ، {وإلى الله المصير} أي : إليه ، خَاصَّةً ، رجوع الكل بالفناء والبعث لا إلى غيره ، وإظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار ، لتربية المهابة ، والإشعار بِعِلِّيّةِ الحُكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما استقر في السموات السبع والأرضين السبع كله من قَبْضَةِ النُّور الأوَّلِيَّةِ بين حس ومعنى ، حسه خاضع لأحكام الربوبية ، ومعناه قاهر بسطوات الألوهية ، حسه حِكْمةٌ ، ومعناه قدرة ، حسه مُلْكٌ ، ومعناه ملكوت ، وهذا معنى قوله : {الله نورُ السموات والأرض} ، فافهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 84
يقول الحق جل جلاله : {ألم ترَ أن الله يُزْجِي} أي : يسوق ، برفق وسهولة ، {سَحَاباً} : جمع سحابة ، {ثم يُؤلِّف بينه} أي : يضم بعضه إلى بعض ، {ثم يجعله رُكاماً} ؛ متراكماً بعضه فوق بعض ، {فَتَرى الوَدْقَ} : المطر ، {يخرجُ من خِلالِه} ؛ من فُتُوقِهِ ووسطه ، جمع خَلل ، كجبال وجبل ، وقيل : مفرد ، كحجاب وحجاز.
(5/131)
قال القشيري : ترتفع بقدرته بُخَارَاتُ البحر ، فيتصعد ، بتسييره وتقديره ، إلى الهواء ، وهو السحاب ، ثم يديره إلى سَمْتِ يريد أن ينزل به المطر ، ثم ينزل ما في السحاب من ماء البحر ، قطرة قطرة ، ويكون الماء ، حين حصوله في بخارات البحر ، غير عذب ، فيقلبه عذباً ، ويَسُحُّهُ السحابُ سَكْباً ، فيوصل إلى كلِّ موضع قَدْراً يكون له مُراداً معلوماً ، لا بالجهدِ مِنَ المخلوقين يُمْسَكُ عن المواضع الذي عليه ينزله ، ولا بالحيلة يُسْتَنْزلُ على المكانِ الذي لا يُمْطِره. هـ. قلت : وهذا أحد الأقوال في الحقيقة المطر ، والمشهور عند
85
أهل السنة : أن الله تعالى يُنْشِىءُ السحاب بقدرته ، ويخلق فيه الماء بحكمته ، وينزله حيث شاء.
ثم قال تعالى : {ويُنزِّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَدٍ} ، " مِنْ " الأولى : لابتداء الغاية ، والثانية : بدل من الأولى ، والثالثة : لبيان الجنس ، أي : يُنَزِّل البَرَد ، وهو الثلج المكور ، من السماء ، أي : الغمام العلوي ، فكل ما علاك سماء ، من جبال فيها كائنة من البَرَد ، ولا غرابة في أن الله يخلق في السماء جِبَالَ بَرَدٍ كما خلق في الأرض جبال حجر.
قال ابن جزي : قيل : إن الجبال هنا حقيقة ، وإن الله جعل في السماء جبالاً من بَرَد ، وقيل : إنه مجاز ، كقولك : عند فلان جبال من مال أو عِلم ، أي : هن في الكثرة مثل الجبال. هـ. وأصله لابن عطيه. وقال الشيخ أبو زيد الثعالبي : حَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى ، إن لم يمنع من ذلك مانع. هـ. يعني : ولا مانع هنا ، فيحمل على ظاهره ، وإن الله خلق جبال بَرد في السماء. وقال الهروي عن ابن عرفة - يعنى اللغوي - : سمعت أحمد بن يحيى يقول : فيه قولان : أحدهما : وينزل من السماء بَرَدَاً من جباللافي السماء من برد ، والآخر : وينزل من السماء أمثال الجبال من البَرَد. ويقال : إنما سمي برَدَاً ؛ لأنه يَبْرُدُ وجه الأرض أي : يُقشره. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 85
(5/132)
قال البيضاوي : إن الأبخرة إذا تصاعدت ولم يتخللها حرارة ، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء ، وقوي البرد هناك ، اجتمع وصار سحاباً ، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً ، وإن اشتد ، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها ، نزل ثلجاً ، وإلاّ نزل بَرَداً ، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض ، وينعقد سحاباً ، وينزل منه المطر أو الثلج. وكل ذلك لا بد وأن يُسْنَدَ إلى إرادة الواجب الحكيم ؛ لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالِّها وأوقاتها ، وإليه أشار بقوله : {فيُصيبُ به من يشاء ويصْرِفُهُ عمن يشاء} والضمير للبرَد. هـ. أي : فيصيب بذلك البَرَد من يشاء أن يصيبه به ، فيناله ما ناله من ضرره في بدنه وماله ؛ من زرع أو غيره. {ويَصْرِفُه عمن يشاء} أن يصرفه عنه ، فينجو من غائلته.
{يكاد سَنَا بَرْقِهِ} أي : ضوء برق السحاب ، الموصوف بما مر من الإزجاء والتآلف.
وإضافة البرق إليه ، قبل الإخبار بوجوده ، فيه إيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به. وقيل : الضمير للسماء ، وهو أقرب ، أي : يكاد ضوء برق السماء ، ويحتمل أن يعود على " الله " تعالى ؛ لتقدم ذكره ، أي : يكاد ضوء برقه تعالى {يذهب بالأبصار} ، أي : يخطفها من فرط الإضاءة ، وسرعة ورودها ، ولو عند إغماضها. {يُقلِّبُ الله الليلَ والنهارَ} أي : يصرفهما بالتعاقب ، فيأتي هذا بعد هذا ، أو بنقصِ أحدهما وزيادة الآخر ، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما.
{إن في ذلك} ، الإشارة إلى ما فصل آنفاً ، أي : إن في إزجاء السحاب ، وإنزال الودق ، وتقليب الليل والنهار ، {لعبرةً} ؛ لَدَلاَلَةً واضحة على وجود الصانع القديم ، القائم
86
(5/133)
بالأشياء ، والمدبر لها بقدرته وحكمته ، {لأُولي الأبصار} ؛ لذوي العقول الصافية. وهذا من تعدد الدلائل على ظهور نوره تعالى في الكائنات ، حيث ذكر تسبيح مَنْ في السموات والأرض ما يطير بينهما وخضوعهم له ، وتسخير السحاب وإنزال الأمطار ، وتقليب الليل والنهار ، إلى غير ذلك من لوامح الأنوار. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة : ألم تر أن الله يُزجي سحابَ الواردات الإلهية ، تحمل العلوم اللدنية ، ثم يُؤلف بينه حتى يكون قوياً ، يُقتطع به صاحبه عن حسه ، ويغيبه عن أمسه ورسمه ، فترى أمطار العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، والفتوحات العرفانية ، تخرج من خلاله ، أي : من قلب العارف ، وهي نتائج الواردات وثمراتها. وفي الحِكَم : " لا تزكين وارداً لم تعلم ثمرته ، فليس المراد من السحابة الأمطار ، وإنما المراد منها وجود الأثمار ".
جزء : 5 رقم الصفحة : 85
وينزل من سماء الأرواح من جبالِ عقولٍ ، فيها علم الرسوم الظاهرة ، فيصيب به من يشاء ، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها ، ويصرفه عمن يشاء ، ممن أريد أن يكون من عامة الناس ، أو من خاصتهم. إن هبت عليه رياح الحقائق ، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية ، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه ، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، فإنها تكون أولاً كالبرق ، تلمع وتخفي ، ثم يتصل ورودها وشروقها ، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق ، نهار بلا ليل ، واتصال بلا انفصال ، ووصال بلا انقطاع. وفي ذلك يقول القائل :
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِلَيْلٍ
وَاسْتَنَارَتْ ، فَمَا تَلاَهَا غُرُوبُ
إنَّ شَمْسَ النهار تَغْربُ بالليل
وشَمْسَ القُلُوبِ ليْس لَهَا مَغِيبُ
يقلب الله ليل القبض على نهار البسط ، ونهار البسط على ليل القبض ، حتى يتصل النهار بالخروج عنهما ، ليكون لله ، لاشيء دونه. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 85
(5/134)
يقول الحق جل جلاله : {والله خلقَ كلَّ دابةٍ} أي : خلق كل حيوان يدب على وجه الأرض {من ماء} ؛ من نوع من الماء مختص بتلك الدابة ، وهو جزء مادته عند الأطباء ، أو : من ماء مخصوص ، وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من تلك النطفة ، فمنها أناسي ، ومنها بهائم ، ومنها هوام وسباع ، وهو كقوله : {يُسْقَىا بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىا بَعْضٍ} [الرعد : 4] وهذا دليل على أن لها خالقاً مدبراً ، وإلاَّ لم تختلف لاتفاق الأصل ، وإنما عَرَّفَ الماء في قوله : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء : 30] ونكّرره هنا ؛ لأن المقصود ثمَّة أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء ، وأنه هو الأصل ، وإن تخللت
87
بينه وبينها وسائط ، وأما هنا فالمراد نوع منه.
قالوا : إن أول ما خلق الله الماء ، فخلق منه النار والريح والطين ، فخلق من النار الجن ، ومن الريح الملائكة ، ومن الطين آدم ودواب الأرض. قاله النسفي. وعلى الثاني : تكون الآية أغلبية ؛ لأن مِن الحيواناتِ من يتولد من غير نطفة ، كالدود والبَعُوضِ وغيرهما.
ثم فصّل أحوالهم بقوله : {فمنهم من يمشي على بطنه} ؛ كالحية والحوت ، وتسمية حركتها مشياً ، مع كونها زحفاً ، استعارة ، كما يقال في الشيء المستمر : قد مشى هذا الأمر على هذا النمط ، او على طريق المشاكلة ؛ لذكر الزاحف مع الماشين. {ومنهم من يمشي على رِجْلين} كالإنسان والطير ، {ومنهم من يمشي على أربع} كالبهائم والوحش. وعدم التعرض لما يمشي على أكثر من أربع ؛ كالعناكب ونحوها من الحشرات ؛ لعدم الاعتداد بها ، لقلتها. وتذكير الضمير في (منهم) ؛ لتغليب العقلاء ، وكذلك التعبير بكلمة (مَن). وقدَّم ما هو أغرق في القدرة ، وهو الماشي بغير آلة ، ثم الماشي على رجلين ، ثم الماشي على أربع.
(5/135)
{يَخْلُقُ الله ما يشاء} مما ذكر ومما لم يذكر ، بَسيطاً أو مركباً ، على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والطبائع والقوى والأفاعيل ، مع اتحاد العنصر ؛ {إنَّ الله على كل شيء قدير} فيفعل ما يشاء كما يشاء. وإظهار الاسم الجليل في الموضعين في موضع الإضمار ؛ لتفخيم شأن الخلق المذكور ، والإيذان بأنه من أحكام الألوهية. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 87
الإشارة : أظهر الحق تعالى الأشياء من الماء ، وأظهر الماء من نور القبضة ، وأظهر القبضة من بحر سر الذات. أو تقول : أظهر الماء من نور الملكوت ، وأبرز نور الملكوت من بحر الجبروت ، وبحر الجبروت هو بحر أسرار الذات الأزلية ، فالكل منه وإليه ، ولا شيء معه ، فتنوعت أنوار التجليات ، وتعددت أسماؤها بتعدد فروعها ، والمتجلي واحد ، كما قال صاحب العينية :
تَجلَّى حَبِيبي في مَرَائِي جَمَالِهِ
فَفِي كُلِّ مَرْئِيّ لِلْحَبِيبِ طَلاَئِعُ
فَلَمَّا تَبَدَّى حُسْنُه مُتَنَوِّعاً
تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فَهُنَ مَطَالِعُ
ولا يفهم هذا إلا من هداه الله لمعرفته.
88
جزء : 5 رقم الصفحة : 87
يقول الحق جل جلاله : {لقد أنزلنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ} لكل ما يليق بيانه ؛ من الأحكام الدينية ، والأسرار التكوينية. أو : موضحات ، أوضحنا بها ما يحتاجون إليه من علم الشرائع والأحكام ، {والله يهدي من يشاء} توفيقه {إلى صراط مستقيم} أي : دين قيِّم يُوصل إلى رضوان الله ومعرفته.
(5/136)
الإشارة : لقد أنزلنا من بحر الجبروت أنواراً ساطعة لعالم الملكوت ، والله يهدي من يشاء إلى طريق شهود هذه الأنوار. فالطريق المستقيم هي التي تُوصل إلى حضرة العيان ، على نعت الكشف والوجدان ، وهي ثلاثة مدارج : المدرج الأول : إتقان الشريعة الظاهرة ، وهي تهذيب الظواهر وتأديبها بالسُنَّة والمتابعة. والمدرج الثاني : إتقان الطريقة ، وهي تهذيب البواطن وتصفيتها من الرذائل ، فإذا تطهر الباطن ، وكمل تهذيبه ، أشرف على المدرج الثالث ، وهو كشف الحقائق العرفانية والأسرار الربانية فتغطي وجودَ الأكوان. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 88
يقول الحق جل جلاله في شأن من لم يشأ هدايته إلى صراط مستقيم : {ويقولون} أي : المنافقون {آمنا بالله وبالرسول} ؛ بألسنتهم ، {وأطعنا} الله والرسول في الأمر والنهي ، {ثم يتولى} عن قبول حُكْمِهِ {فريقٌ منهم مِن بعدِ ذلك} أي : من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان بالله والرسول والطاعة لهما.
قال الحسن : نزلت في المنافقين ، الذين كانوا يُظهرون الإيمان ويًسرون الكفر.
وقيل : نزلت في " بِشْر " المنافق ، خاصم يهودياً ، فدعاه إلى كعب بن الأشْرَف ، ودعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بشر : لا ، إن محمداً يحيفُ علينا - قبح الله سعيه. وقيل : في المغيرة بن وائل ، خاصم عليّاً رضي الله عنه في أرض وماء ، فأبى أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيا ما كان فصيغة الجمع تدل على أن للقائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقال.
ثم حكم عليهم بالكفر ، فقال : {وما أولئك بالمؤمنين} أي : المخلصين ، والإشارة إلى القائلين : آمنا بالله وبالرسول ، لا إلى الفريق المتولي منهم فقط ، لئلا يلزم نفي الإيمان عنهم فقط ، دون مَنْ قبلهم ، بخلاف العكس ، فإن نفى الإيمان عن القائلين يقتضي نفيه عنهم ، على أبلغ وجه وآكده ، وما فيه من معنى البعد ؛ للإشعار ببُعد منزلتهم في الكفر والفساد.
89
(5/137)
{وإذا دُعُوا إلى الله ورسولِه} أي : إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن حُكمَه حكمُ الله ، {ليَحْكُمَ بينهم} أي : ليحكم الرسول بينهم ؛ لأنه المباشر للحُكم حقيقة ، وإن كان ذلك حكم الله في الحقيقة ؛ لأنه خليفته. وذكر الله تعالى لتفخيم شأنه عليه ، والإيذان بجلالة قدره عنده. فإذا دُعُوا إلى التحاكم بينهم {إذا فريقٌ منهم مُعْرِضون} أي : فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم ؛ لكون الحق عليهم ، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم يحكم بالحق على من كان.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 89
وإن يكن لهم الحقُّ} على غيرهم {يأتوا إليه} ؛ إلى الرسول {مُذْعنين} ؛ مسرعين في الطاعة ، طلباً لحقهم ، لا رضاً بحُكم رسولهم. قال الزجاج : والإذعان : الإسراع مع الطاعة. والمعنى : أنهم ؛ لمعرفتهم أنك لا تحكم إلا بالحق المُر والعدل المحض ، يمتنعون من المحاكمة إليك ، إذا ركبهم الحق ، لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصُومهم ، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ، ولم يرضوا إلا بحكومتك ، لتأخذ لهم ما وجب لهم على خصمهم.
(5/138)
{أفي قلوبهم مرضٌ} ؛ كفر ونفاق ، {أم ارْتابُوا} في نبوته صلى الله عليه وسلم ، {أم يخافون أن يَحِيفَ} ؛ أن يجور {الله عليهم ورسولهُ} فيحكم بينهم بغير الحق. قسَّم الحق تعالى الأمر في صدود المنافقين عن حكومته - عليه الصلاة والسلام - إذا كان الحق عليهم ثلاث : بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته ، أو خائفين الحيف في قضائه ، ثم أبطل الكل بقوله : {بل أولئك هم الظالمون} ، أما الأولان ؛ فلأنه لو كان شيء منهما لأعرضوا عنه ، عند كون الحق لهم ؛ لتحقيق نفاقهم وارتيابهم ، وأما الثالث ؛ فلمعرفتهم بأحواله صلى الله عليه وسلم في الأمان والثبات على الحق ، فهم لا يشكون أنه لا يحيف ؛ بل لأنهم هم الظالمون ، يريدون أن يظلِمُوا من له الحق عليهم ، ويتم لهم جحودهم ، فيأبَوْن المحاكمة إليه - عليه الصلاة والسلام - لأنه صلى الله عليه وسلم يقضي عليهم بالحق الصريح ، المؤيد بالوحي الصحيح. الإشارة : ترى فريقاً من الناس يدّعون الإيمان والطاعة والمحبة ، ونفوسهم غالبة عليهم ، فإذا دُعُوا إلى من يحكم بينهم وبينها ، بأن يأمرهم بمجاهدتها أو قتلها ؛ إذا فريق منهم معرضون ، وإن يكن لهم الحق ، بأن وجدوا من يدلهم على البقاء مع عوائدها وشهواتها ، يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم شك ووَهْم ، أم ارتابوا في وجود الطبيب ، أم يخافون أن يحيف الله عليهم ؟ بأن يدلهم على من يتبعهم ولا يبرئهم ، حتى حسَّنوا الظن به والتجأوا إليه ، فلا يدلهم إلا على من يوصلهم إليه ، بل أولئك هم الظالمون لنفوسهم ، حيث حرموها الوصول ، وتركوها في أودية الشكوك والخواطر تجول. قال الورتجبي : {وإذا دُعُوا إلى الله ورسوله} أي : دُعوا إلى مشاهدة الله بنعت المحبة والمعرفة ، وعبوديته بنعت الإخلاص ، ودُعُوا إلى رسوله بالمتابعة والموافقة في الشريعة والطريقة. هـ.
90
جزء : 5 رقم الصفحة : 89
(5/139)
قلت : (قول) : خَبَرُ " كَانَ " ؛ مُقَدَّمٌ ، و(أن يقولوا) : اسمها ؛ مؤخر ، وقرأ الحسن : بالرفع ؛ على الاسمية ، والأول : أرجح ؛ صنَاعةً ، والثاني : أظهر ؛ دلالة ، وأكثر إفادة. انظر أبا السعود.
يقول الحق جل جلاله : {إِنما كان قَوْلَ المؤمنين} الصادر عنهم {إذا دُعُوا إلى الله ورسولِه ليحكم} الرسولُ صلى الله عليه وسلم {بينهم} وبين خصومهم ، سواء كانوا منهم أو من غيرهم ، {أن يقولوا سمعنا} قوله ، {وأطعنا} أمره ، {وأولئك هم المفلحون} ؛ الفائزون بكل مطلب ، الناجون من كل مهرب. والإشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم ، وما فيه من البُعد ، للإشعار بعلو رتبتهم ، وبُعد منزلتهم في الفضل ، أي : أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجميلة هم الفائزون بكل مطلوب.
{ومن يُطع الله ورسولَه} ، هذا استئناف جيء به لتقرير ما قبله من حسن حال المؤمنين ، وترغيب مَن عَدَاهم في الانتظام في سلكهم ، أي : ومن يُطع الله ورسوله ، كائناً من كان ، فيما أمَرَا به من الأحكام الشرعية اللازمة والمتعدية ، وقيل : من يطع الله في فرائضه ، ورسولَهُ في سننه. {ويَخْشَ الله} على ما مضى من ذنوبه ، {ويتَّقه} فيما يستقبل من عمره ، {فأولئك} الموصوفون بما ذكر ؛ من الطاعة والخشية ، والاتقاء ، {هم الفائزون} بالنعيم المقيم ، لاَ مَنْ عَدَاهُم.
(5/140)
وعن بعض الملوك : أنه سأل عن آية كافية ، فتُليت عليه هذه الآية. وهي جامعة لأسباب الفوز. قال القرطبي : ذكر أسلم : أن عمر بينما هو قائم في مسجده صلى الله عليه وسلم فإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه ، وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، فقال له عمر : ما شأنك ؟ قال : أسلمت ، قال : ألهذا سبب ؟ قال : نعم ؛ إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل ، وكثيراً من كتب الأنبياء ، فسمعت أسيراً يقرأ آية من القرآن ، جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة ، فعلمت أنه من عند الله ، فأسلمت. قال : ما هذه الآية ؟ قال قوله تعالى : {ومن يُطع الله} في الفرائض ، {ورسولَه} في السنن ، {ويَخْشَ الله} فيما مضى من عمره ، {ويتَّقه} فيما بقي ، {فاولئك هم الفائزون} ؛ والفائز : من نجا من النار واُدْخِل الجنة ، فقال عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أُعطيتُ جوامع الكلم " هـ. والله تعالى أعلم.
91
الإشارة : إنما كان قول المؤمنين الكاملين ، الطالبين الوصول إلى حضرة رب العالمين ، إذا دُعوا إلى حضرة الله ورسوله ؛ ليحكم بينهم وبين نفوسهم التي حجبتهم حتى يغيبوا عنها ، أن يقولوا : سمعنا وأطعنا ، ويدخلوا تحت تربية المشايخ ، فإذا أمروهم أو نهوهم ، قالوا : سمعنا وأطعنا ، وأولئك هم المفلحون الفائزون بالوصول إلى الله تعالى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 91
ومن يطع الله في أمره ونهيه ، ورسوله في سنَّته ، وما رغَّب فيه ، ويخش الله أن يعاتبه ، أو يؤدبه ، ويتقه ، أي : يجعل وقاية بينه وبيْن ما يحجبه أو يبعده عنه ، فأولئك هم الفائزون الظافرون بمعرفة الله على نعت الشهود والعيان. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 91
(5/141)
قلت : (جهد) : مصدر مؤكد لفعله ، الذي هو حيز النصب على الحال ، من فاعل " أقسموا " ، ومعنى جَهْدِ اليمين : بلوغ غايتها بطريق الإستعارة ، من قولهم : جهد نفسه : إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها. وأصل أقسم جهد اليمين : أقسم بجهدِ اليمين جَهداً ، فحذف الفعل وقدم المصدر ، فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول ، كقوله : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد : 5] وحكم هذا المنصوب حكم حال ، كأنه قال : أقسموا جاهدين أيمانهم. و(طاعة) : مبتدأ حذف خبره ، أي : طاعة معروفة أولى من تسويفكم ، أو : خبر عن محذوف ، أي : الذي يطلب منكم طاعة معروفة.
يقول الحق جل جلاله : {وأَقْسَموا} أي : المنافقون {بالله جَهْدَ أَيمانهم} أي : بلغوا فيها غاية وسعهم ، بأن حلفوا بالله. وعن ابن عباس رضي الله عنه : (من حلف بالله فقد جهد يمينه) ، {لئن أمرتهم ليخرجُنَّ} أي : قالوا : لئن أمرنا محمد بالخروج للغزو ، أو من ديارنا وأموالنا ، لخرجنا. وحيث كانت مقالتهم هذه كاذبة ويمينهم فاجرة أمر عليه الصلاة والسلام - بردها حيث قيل : {قل لا تُقسموا} أي : قل ؛ رداً عليهم ، وزجراً عن التفوه بها : لا تحلفوا وأنتم كاذبون ، {طاعةٌ معروفة} ، تعليل للنهي ، أي : لا تُقسموا على ما تدعون من الطاعة ؛ لأن طاعتكم طاعة نفاقية ، معروفة بالنفاق ، واقعة باللسان فقط من غير مواطأة للقلب. وإنما عبّر عنها بمعروفة ؛ للإيذان بأن كونها نفاقية مشهور معروف لكل أحد. وحملها على الطاعة الحقيقية ، على حذف المبتدأ أو الخبر ، مما لا يساعده المقام. انظر أبا السعود.
قال القشيري : طاعة في الوقت أولى من تسويفٍ في الوعد ، ولا تعِدُوا بما هو معلوم أنكم لا تفوا به. هـ. وقال النسفي : طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان
92
الفاجرة. أو : الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يُشك فيها ولا يُرتاب ، كطاعة الخُلص من المؤمنين ، لا أيمان تقسمونها بأفواهكم ، وقلوبُكُم على خلافها. هـ.
(5/142)
{إن الله خبير بما تعملون} من الأعمال الظاهرة والباطنة ، التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة ، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق ، والعزيمة على مخادعة المؤمنين ، وغيرها من فنون الفساد.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 92
قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسولَ} ، أُمِر - عليه الصلاة والسلام - بتبليغ ما خاطبهم الله به ، وصرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب ، وهو أبلغ في تبكيتهم ، {فإِن تولَّوا} - بحذف إحدى التاءين ؛ بدليل قوله : {وعليكم} أي : فإن تُعرضوا عن الطاعة إثر ما أمرتكم بها {فإِنما عليه ما حُمِّلَ} من التبليغ وقد بلَّغَ ، {وعليكم ما حُمِّلتم} من التلقي بالقبول والإذعان. والمعنى : فإن تعرضوا عن الإيمان فما ضررتم إلا أنفسكم ، فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله تعالى من أداء الرسالة ، فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه. وأما أنتم فعليكم ما كلفتم ، أي : ما أمرتم به من الطاعة والإذعان ، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرَّضتم نفوسكم لسخط الله وعقوبته. قال القشيري : قل يا محمد : أطيعوا الله ، فإن أجابوا ، سعدوا في الدارين ، وإنما أحسنوا لأنفسهم. وإن تولوا ؛ فما أضروا إلا بأنفسهم ، ويكون اللوم في المستقبل عليهم ، وسوف يلقون سوء عواقبهم. هـ.
{وإن تُطيعوه} فيما أمركم به من الهدى {تهتدوا} إلى الحق ، الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير ، والمنجي من كل شر ، {وما على الرسول إلا البلاغُ المبين} ؛ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح ، أو : البيِّن الوضوح ؛ لكونه مقروناً بالآيات والمعجزات المتواترة. والجملة مقررة لما قبلها من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان عليهم. واللام : إما للجنس المنتظم فيه - عليه الصلاة والسلام - انتظاماً أولياً ، أو للعهد ، أي : ما على جنس الرسول كائناً من كان ، أو ما عليه - عليه الصلاة والسلام - إلا التبليغ الواضح. وبالله التوفيق.
(5/143)
الإشارة : ترى بعض الناس يُقسمون بالله جهد أَيْمَانهم : لئن ظهر شيخ التربية وأمرهم بالخروج عن أموالهم وأنفسهم ليخرجن ، فلما ظهر تولوا وأعرضوا ، فيقال لهم : فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِّل من الدلالة على الله ، والتعريف به ، وعليكم ما حُملتم من الدخول تحت تربيته ، وإن تُطيعوه تهتدوا إلى معرفة الله بالعيان ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 92
93
قلت : (ليستخلفنهم) : جواب لقسم مضمر ، أو تنزيل وعْده تعالى منزلة القسم ، و (كما) : الكاف : محلها النصب على المصدر التشبيهي ، أي : استخلافاً كائناً كاستخلافه مَنْ قَبْلَهُمْ. و (ما) : مصدرية. و (ويعبدونني) : حال من الموصول الأول ، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد ، أو استئنافٌ ببيان مقتضى الاستخلاف ، و (لا يشركون) : حال من واو (يعبدونني).
يقول الحق جل جلاله : {وعد الله الذين آمنوا منكم} أي : كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان ، وفي أي وقت وجد ، لا من آمن من المنافقين فقط ، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة ، بحسب ظهور الوعد الكريم. و (من) : للبيان. وقيل : للتبعيض ، ويراد المهاجرون فقط. {وعملوا} مع الإيمان الأعمال {الصالحات} ، وتوسيط المجرور بين المَعْطُوفَيْنِ ؛ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام ، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم ، وأهم ما يجب عليهم.
وأما تأخيره في قوله : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً} [الفتح : 29] ؛ فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى الله عليه وسلم ؛ فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة ، مثابون عليها ، فلا بد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها.
(5/144)
ثم ذكر الموعود به ، فقال : {لَيستخلفنَّهم في الأرض} أي : لَيجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم ، والمراد بالأرض : أرض الكفار كلها ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار " ، {كما استخلف الذين مِن قبلهم} ؛ كبني إسرائيل ، استخلفهم الله في مصر والشام ، بعد إهلاك فرعون والجبابرة ، ومَنْ قَبْلَهم مِن الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله في أرض من أهلكه الله بكفره. كما قال تعالى : {فَأَوْحَىا إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ} [إبراهيم : 13].
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 93
وليُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم} : عطف على {ليستخلفنهم} ، داخل معه في سلك الجواب ، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها ؛ لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل ، فَتصْدير المواعد بها فب الاستمالة أدخل ، والمعنى : ليجعل دينهم ثابتاً متمكناً مقرراً لا يتبدل ولا يتغير ، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة. ثم وصف بقوله : {الذي ارتضى لهم} ، وهو دين الإسلام ، وصفه بالارتضاء ؛ تأليفاً ومزيدَ ترغيب فيه وفضْلَ تثبيت عليه. {وليُبدِّلنهُمْ} بالتشديد والتخفيف من الإبدال ، {من بعد خوفهم} من الأعداء {أمناً}.
94
(5/145)
نزلتْ حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عشر سنين ، أو أكثر ، خائفين ، ولَمَّا هاجروا كانوا بلمدينة يُصْبِحُون في السلاح ويُمْسُون فيه ، حتى قال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح ، فلما نزلت ، قال عليه الصلاة والسلام : " لا تصبرون إلا يسيراً حتى يَجْلِسَ الرجل منكم في الملأِ العظيم ، مُحْتبياً ، ليس معه حديدة " ، فأنجز الله وعده ، فأمِنُوا ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب ، ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا بحذافيرها. وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى. وقيل : الخوف والأمن في الآخرة.
ثم مدحهم بالإخلاص فقال : {يعبدونني} وحدي ، {لا يُشركون بي شيئاً} أي : حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئاً من الأشياء ، شركاً جلياً ولا خفياً ؛ لرسوخ محبتهم ، فلا يُحبون معه غيره ، {ومن كَفَر بعد ذلك} أي : بعد الوعد الكريم ، كفرانَ النعمة ، أو الرجوع عن الإيمان ، كما فعل أهلُ الردة ، {فأولئك هم الفاسقون} ؛ الكاملون في الفسق ، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها ، قيل : أول من كفر هذه النعمة قتلةُ عثمان رضي الله عنه ؛ فاقتتلوا بعد ما كانوا إخواناً.
والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين ؛ لأن المستخلَفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغي هم الخلفاء - رضي الله عنهم -.
(5/146)
ولمّا كان كفر من كفر بعد الوعد إنما كان بمعنى بمنع الزكاة ، قرَنَه مع الصلاة في الأمر به فقال : {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاةَ} ؛ فمن فرّق بينهما فقد كفر ، وكان من الفاسقين. {وأطيعوا الرسولَ} فيما دعاكم إليه وأمركم به ، ومن جملة ما أمر به : طاعة أمرائه وخلفائه ؛ لقوله : " عليكم بسنتي ، وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عَضُّوا عليها بالنواجذ " ، فمن امتنع من دفع الزكاة لخليفته - كما فعل أهل الردة - فقد كفر ، ومن أداها إليه كما أمره الله فقد استوجب الرحمة ، لقوله : {لعلكم تُرحمون} أي : لكي تُرحموا ، فإنها من مُسْتَجلبَاتِ الرحمة. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 93
الإشارة : سنة الله تعالى في خواصه : أن يُسلط عليهم في بدايتهم الخَلْقَ ، فينُزل بهم الذلَ والفقرَ والخوفَ من الرجوع عن الطريق ، ثم يُعزهم ، ويُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً ، كما قال الشاذلي رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا... إلخ كلامه.
قال القشيري : وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين ، الذين هم أركان السُنَّة ودعائم
95
(5/147)
الإسلام ، الناصحون لعباد الله ، الهادون من يسترشد في الله. ثم قال : فأما حُفاظ الدين ؛ فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله ، وهم أصناف : قومٌ هم حفَّاظُ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحُفّاظُ القرآن ، وهم بمنزلة الخزنة ، وقوم هم علماء الأصول ، الرادُّون على أهلِ العناد ، وأصحاب الابتداع ، بواضح الأدلة ، وهم بطارِقَةُ الإسلام وشجعانُه ، وقوم وهم الفقهاء المرجوعُ إليهم في علوم الشريعة وفي العبادات وكيفية المعاملات ، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في المُلْك ، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق ، وهم في الدِّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار ، الذين لا يبرحون في عالي مجلس السلطان ، فالدين معمورٌ بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة. هـ. تقدم ومثله في قوله : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة : 122]. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 93
يقول الحق جل جلاله : {لا تحسَبنَّ الذين كفروا مُعْجِزِينَ} أي : فائتين الله عن إدراكهم وإهلاكهم ، في قُطْرٍ من أقطار الأرض ، بل لا بد من أخذهم ، عاجلاً أو آجلاً ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع. و {الذين} : مفعول أول ، و (معجزين) : مفعول ثان. وقرأ حمزة والشامي بالغيب ، و (الذين) : فاعل ، والأول ، محذوف ، أي : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين {في الأرض}. و {مأواهم النار} : معطوف على محذوف ، أي : بل هم مُدْرَكُونَ ، {ومأواهم النار} أي : مسكنهم ومرجعهم ، {ولبئس المصيرُ} أي : والله لبئس المرجع هي. وفي إيراد النار ، بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم ، إثر نفي قوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب ، من الجزالة ما لا غاية وراءه. والله تعلى أعلم.
(5/148)
الإشارة : لا تحسبن أهل الانتقاد على أولياء الله أنهم فائتون ، بل لا بد من غيرة الله عليهم ، عاجلاً أو آجلاً ، في الظاهر أو الباطن ، ومأواهم نار القطيعة ولبئس المصير. وقال القشيري على هذه الآية : الباطل قد تكون له صَوْلَةٌ لكنه يختل ، وما لذلك بقاء ، ولعل لبثه من عارض الشتاء في القيظ ، أي : الحر. هـ. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 95
يقول الحق جل جلاله : {يا أيها الذين آمنوا} ، ويدخل فيه النساء ، {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين ملكت أيمانُكُم} من العبيد والإماء ، {والذين لم يبلغوا الحُلُمَ منكم} أي : والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ، {ثلاثَ مراتٍ} في اليوم والليلة ، وهي {من قبلِ صلاة الفجر} ؛ لأنه وقت القيام من المضاجع ، وطرح ما ينام فيه من الثياب ، ولبس ثياب اليقظة ، وربما يجدهم في هذا الوقت نائمين متجردين ، {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} ؛ وهي نصف النهار في القيظ ؛ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة ، {ومن بعد صلاةِ العشاء} ؛ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة ، والالتحاف بثياب النوم. هي {ثلاثُ عوراتٍ لكم} ، ومن نصبه ؛ فَبَدلٌ من {ثلاث مرات} أي : أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ ، وسمى كل واحد من هذه الأوقات عورة ؛ لأن الإنسان يختل تستره فيها ، والعورة : الخلل ، ومنه سمي الأعور ؛ لاختلاف عينه.
رُوي أن غلاماً لأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كَرِهَتْهُ ، فنزلت. وقيل : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدْلِجَ بنَ عَمرو الأنصاري ، وكان غلاماً ، وقت الظهيرة ، ليدعو عُمر رضي الله عنه ، فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه ، فقال عمر رضي الله عنه : لوددت أن الله تعالى نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن ، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجده وقد نزلت عليه هذه الآية. والأمر ، قيل : للوجوب ، وقيل : للندب.
(5/149)
ثم عذرهم في ترك الاستئذان في غير هذه الأوقات ، فقال : {ليس عليكم ولا عليهم جُناح بعدهنّ} أي : لا إثم عليكم ولا على المذكورين من المماليك والغلمان في الدخول بغير استئذان بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث ، أي : في الأزمنة التي بين هذه العورات الثلاث.
جزء : 5 رقم الصفحة : 96
ثم بيّن العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله : {طوَّافون} أي : هم {طوَّافون عليكم} لحاجة البيت والخدمة ، {بعضُكم على بعضٍ} أي : بعضكم طائف على بعض ، أو يطوف على بعض ، والجملة : إما بدل مما قبلها ، أوبيان ، يعني : أنكم محتاجون إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام ، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج ، وهو مدفوع بالنص ، {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي : كما بيّن الاستئذان ، يبين لكم غيره من الآيات التي تحتاجون إلى بيانها ، {والله عليمٌ} بمصالح عبادة ، {حكيم} فيما دَبَّرَ وحكم به.
{وإذا بلغ الأطفالُ منكم} أي : الأحرار دون المماليك {الحُلُمَ} أي : الاحتلام ،
97
(5/150)
وهو البلوغ ، وأرادوا الدخول عليكم {فَلْيَستأذِنوا} في جميع الأوقات. قال القرطبي : لم يقل : {فليستأذنوكم} ، وقال في الأولى : {ليستأذنكم} ؛ لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبَدين. هـ. قلت : فالمخاطبون في الأولى هم الأولياء بتعليمهم الاستئذان وإيصائهم به ، وهنا صاروا بالغين ، فأمرهم بالاستئذان {كما استأذن الذين من قبلهم} أي : الذين بلغوا الحُلُم مِن قبلهم ، وهم الرجال المذكورون في قوله : {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور : 27] الآية. والمعنى : أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن ، إلا في العورات الثلاث ، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا الحُلُمَ وَجَبَ أن يُفطَمُوا عن تلك العادة ، ويُحملوا على أن يَسْتَأْذِنوا في جميع الأوقات ، كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.
والناس عن هذه غافلون. عن ابن عباس رضي الله عنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله ، وقوله : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13] ، وقوله : {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء : 8]. وعن سعيد بن جبير : (يقولون : إنها منسوخة ، والله ما هي بمنسوخة). وعن ابن عباس أيضاً قال : إنما أُمروا بها حين لم يكن للبيوت الستر ، فلما وجدوا ذلك استغنوا عن الاستئذان. وعن أبي محمد مكي : هذا الأمر إنما كان من الله للمؤمنين ؛ إذ كانت البيوت بغير أبواب. قلت : أما باعتبار الأجانب فالأبواب تكفي ، وأما باعتبار المماليك والأطفال الذين يلجون الدار من غير حَجْرٍ ؛ فلا تكفي الأبواب في حقهم ، فلا بن من الاستئذان كما في الآية.
(5/151)
{كذلك} أي : مثل ذلك البيان العجيب {يُبين الله لكم آياته}. قال ابْنُ عرفة : قال قبل هذه وبعدها : الآيات ، وفي هذه : آياته ؛ لوجهين ، الأول : هذه خاصة بالأطفال ، وما قبلَها عامة في العبيد والأطفال ، فأطلقت الآية ، ولم تقيد بالإضافة ، وهذه خاصة ، فعبّر عنها بلفظ خاص. الثاني : أن الخطاب بما هنا للبالغين ، فأسند فيه الحكم إلى الله تعالى ، تخويفاً لهم وتشديداً عليهم. هـ. والمتبادر أنه تفنن. قاله المحشي الفاسي. {والله عليمٌ حكيم} فيما أمر ودبر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 96
الإشارة : إنما أمر الله بالاستئذان لئلا يُكشف السر إلى غير أهله ؛ غَيْرَةً منه تعالى على كشف أسرار عباده ، وإذا كان غار على كشف سر عبد ، فَغَيْرَتُهُ على كشف أسرار ذاته أولى وأحرى ، فيجب كتم أسرار الذات عن غير أهله ، وكل من خصه الله بسر وجب كتمه إلا على من هو أهل له ، وهو من أَعْطَى نفسه وماله ، وباعهما لله تعالى. وكل من أُطْلِعَ على سر من أسرار الله أو قضاء من قضائه ، ثم استشرف أن يُعْلِم الناس بذلك فهو كذاب. وفي الحِكَم : " استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصِيَّتِكَ دليل على عدم صدقك في عبوديتك ". وبالله التوفيق.
98
جزء : 5 رقم الصفحة : 96
قلت : " القواعد " : جمع قاعد ، بغير تاء ؛ لأنهما من الصفات المختصة بالنساء ، كالطالق والحائض ، فلا تحتاج إلى تمييز ، وهو مبتدأ ، و (اللاتي...) إلخ : صفة له ، (فليس) : خبر ، وأدخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط من العموم الذي في الألف واللام. و (يرْجُون) : مبني لاتصاله بنون النسوة.
(5/152)
يقول الحق جل جلاله : {والقواعدُ} أي : العجائز {من النساء اللاتي} قعدن عن الحيض والولادة ؛ لِكِبَرِهِنَّ. قال ابن قتيبة : سمين بذلك لأنهن بعد الكِبَرِ يُكثرن القعود. ويقرب منه من فسره بالقعود عن التصرف للكبر ، والظاهر أن قوله : {لا يرْجُون نِكاحاً} : نعت مُخَصِّصٌ ، إن فُسِّرَ القعود فيها بالقعود عن الحيض والولد ؛ لأنه قد يكون فيها مع ذلك رَغْبَةٌ للرجال. وقد يُجْعَلُ كاشفاً ؛ إذا فسر القعود باستقذار الرجال لهن من عزوف النفس عنهن ، فقوله : {لا يرجون نكاحاً} أي : لا يطمعن في رغبة الرجال فيهن ، {فليس عليهن جناحٌ} في {أن يَضَعْنَ ثيابَهنّ} أي : الثياب الظاهرة ، كَالجِلْبَابِ الذي فوق الخمار ونحوه.
قال ابن عطية : قرأ ابن مسعود وأُبَيّ : " أن يَضَعْنَ مِنْ ثيابهن ". والعرب تقول : امرأة واضع ، للتي كبرت فوضعت خِمَارها ، قال في الحاشية : والآية صادقة بما إذا دخل أجنبي بعد الاستئذان ، وبخروجهن أيضاً ، ومن التبرج : لبس ما يَصف ؛ لكونه رقيقاً ، أو : شفافاً. هـ.
ثم قيَّد الرخصة بقوله : {غير مُتَبرِّجَاتٍ بزينة} أي : مظهرات زينة ، يريد الزينة الخفية ، كالشعر والنحر والساق ونحوه ، أي : لا يقصدن بوضعهن التبرجَ وإظهارَ مَحَاسنها ، ولكن التخفيف. وحقيقة التبرج : تَكَلُّفُ إِظْهَارِ ما يجب إخفاؤه ، من قولهم : سفينة بارجة : لاَ غِطَاءَ عليها ، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها أو محل حسنها للرجال. {وأن يستعففنَ} أي : يطلبن العفة عن وضع الثياب ، فيتسترن {خيرٌ لهن} من الانكشاف ، {والله سميعٌ عليم} أي : سميع ما يجري بيهن وبين الرجال من المقاولة ، عليم ، فيعلم مقاصدهن وسرائرهن في قصد التخفيف أو التبرج ، وفيه من الترهيب ما لا يخفى.
الإشارة : إذا كمل تهذيب الإنسان وإخلاصه ، وكمل استغناؤه بربه ، فلا بأس أن يظهر من أحواله وعلومه ما يقتدى به ويُهتدى ، ليعلم الانتفاع به. فإن خيف منه تهمة فالاستعفاف والاكتفاء بعلم الله خير له. والله سميع عليم.
99
(5/153)
جزء : 5 رقم الصفحة : 99
{لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَىا حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىا أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً...}
يقول الحق جل جلاله : {ليس على الأعمى حَرَجٌ} في الدخول من غير استئذان ؛ لأنه لا يتوقع منه نظر لما يكره. وكذلك لا حرج عليه فيما لا قدرة له عليه من الجهاد وغيره ، ثم استطرد من شاركه في مطلق العذر فقال : {ولا على الأعْرج حَرَجٌ} فيما لا يقدر عليه من الجهاد وغيره ، {ولا على المريض حرج} في ذلك. وقال سعيد بن المُسَيِّب : كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم ، ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم ، فكانوا يتحرجون من ذلك ، ويقولون : نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك ، فنزلت الآية ، رُخْصَةً لهم. وقيل : كانوا يتحرجون من ذلك ، ويقولون : نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك ، فنزلت الآية ، رُخْصَةً لهم ، وقيل : كانوا يتحرجون من الأكل معهم ؛ لأن الأعمى لا يبصر الطيب من الطعام ، والأعرج لا يستطيع المزاحمة عليه ، والمريض لا يستطيع استيفاءه. هـ.
(5/154)
{ولا على أنفسكم} أي : لا حرج عليكم {أن تأكلوا من بيوتكم} أي : البيت الذي فيه أهل بيتكم ؛ أزواجكم وعيالكم ، فإذا كان للزوجة أو للولد هناك شيء منسوب إليهما فلا بأس للرجل بأكله ؛ لأن الزوجين صارا كنفس واحدة ، فصار بيت المرأة بيت الزوج. وقيل : المراد ببيوتكم : بيوت أولادكم ، فجعل بيوت أولادهم بيوتهم ؛ لأن ولد الرجل من كسبه ، وماله كمالِه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " أنت ومالك لأبيك " ، ولذلك لم يذكر الأولاد في الآية ؛ لاندراجهم في بيوتكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 100
ولا حرج عليكم أيضاً أن تأكلوا من {بيوت آبائكم أو بيوتِ أمهاتكم أو بيوتِ إخوانكم} الذكور {أو بيوت أَخَواتكم} النساء ، {أو بيوت أعمامكم أو بيوت عمَّاتكم أو بيوتِ أخوالكم أو بيوت خالاتكم} ؛ لأن الإذن من هؤلاء ثابت ؛ دلالة. واختلف العلماء في إباحة الأكل من هذه البيوت المذكورة ، فقيل : إنه منسوخ وإنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه ، والناسخ : {وَلاَ تَأْكُلُوااْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة : 188] ، وقوله عليه الصلاة والسلام- : " لاَيَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مسلم إلا عن طِيبِ نَفْسٍ " وقيل : محكمة ومعناها : إذا أذنوا في ذلك ، وقيل : ولو بغير إذن ، والتحقيق : هو التفصيل : فمن عُلم منه طيب نفسه وفرحُه بذلك ؛ بقرينةٍ : حَلَّ أَكْلُ مَالِهِ ، ومَنْ لاَ ؛ فلا.
100
{أو ما ملكتم مَّفَاتحه} قال ابن عباس : وهو وكيل الرجل وقيّمه في ضَيْعَتِهِ وماشيته ، له أن يأكل من ثمرة ضيعته ، ويشرب مِنْ لبن ماشيته. والمراد بملك المفاتيح : كَوْنُها في يده وتحت حَوْزِهِ. وقيّده ابن العربي بما إذا لم تكن له أجرة ، وإن كانت له أجرة على فعله حَرُمَ ، يعني : إلا إذا علم طيب نَفْسٍ صاحبه ؛ فيدخل في الصديق. وقيل : أريد به بيت عَبْدهِ ؛ لأن العبد وما في يده لمولاه.
(5/155)
{أو صَدِيقِكُمْ} أي : أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون واحداً وجمعاً ، وهو من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك ، يُؤلمه ما يؤلمك ما يؤلمه ، ويسرك ما يسره كذلك. وكان الرجل من السلف يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسَهُ فيأخذ ما شاء ، فإذا حضر مولاها أعتقها سروراً بذلك ، فأما الآن فقد غلب الشحّ فلا يأكل إلا بإذن. قاله النسفي.
{ليس عليكم جناحٌ أن تأكلوا جميعاً} : مجتمعين {أو أشتاتاً} : متفرقين ، جمع شَتّ ، نزلت في بني ليث بن عمرو ، كانوا يتحرّجُون أن يأكل الرجل وحده ، فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل ، فإذا لم يجد من يؤاكله من الضيفان أكَل أكْل ضرورة. وقيل : في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا. وقيل : في قوم تحرجوا من الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض ، فخيّرهم. وقيل : كان الغنى منهم إذا دخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته ، ودعاه إلى الطعام ، فيقول : إني أتحرج أن آكل معك ، وأنا غني وأنت فقير ، فأباح لهم ذلك. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 100
الإشارة : ليس على من عَمِيَتْ بصيرتُه ، فلم ير إلا الكون حَرج في أن يقف مع رُخَصِ الشريعة ، ويتناول كل ما يشتهيه نفسه ، مما أباحته الشريعة ، من غير تورع ولا توقف ولا تبصر. وكذلك المريضَ القلب بالخواطر والأوهام ، ومن عَرجت فكرته عن شهود الملكوت ، فلا بأس لهؤلاء الضعفاء أن يقفوا مع العوائد والأسباب ، ويتناولوا كل ما أباحته ظواهر الشريعة ، وأما الأقوياء فلا يأخذون إلا ما تحققوا حِلِّيَّتَهُ ، وفهموا عن الله في أخذه وتركه ، لفتح بصيرتهم وشدة تبصُّرهم.
(5/156)
وقال الورتجبي في قوله : {ليس على الأعمى حرج} : عماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطونَ الأزل والغيبَ وغيبَ الغيب. وهذا من قوله - عليه الصلاة والسلام - في وصف جمال الحق سبحانه : " حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُهُ مِنْ خلْقِهِ " فجعله معذوراً ألا يدرك حق الحقيقة وحقيقة الحق ؛ إذ يستحيل الحَدَثُ أن يحيط بالقدم إن كان واجباً معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد. هـ ومراده ببطون الأزل : تجلياته تعالى ، البارزة من وسط بحر جبروته الغيبي ، وهي المراد بالغيب وغيب الغيب ، فالأكوان كلها برزت من بحر الذات الأزلية والكنز الغيبي ، لكنها ، لما
101
تجلت ، كستها رداء الكبرياء ، فمن فتحت بصيرته رأى الحق تعالى فيها ، أو قبلها ، أو معها ، ومن عميت بصيرته لم ير إلا حس الأكوان الظُّلْمَانِيَّةِ. والله تعالى أعلم.
ومذهب الصوفية في تناول متاع بعضهم بعضاً هو ما قال القائل : " نَحْنُ : لاَ مَالٌ مَقْسُومٌ ، وَلاَ سِرٌّ مَكْتُومٌ ، فَتَرِكَتُهُمْ لاَ تُقْسَمُ أبداً ". دخل الجنيد بَيْتَ بَعْضِ إخوانه ، فوجد زوجته ، فقال : هل عندك شيء نطعم به الفقراء ؟ فأشارت إلى وعاء فيه تمر ، لا يملك غيره ، فأفرغه على رأسه ، فأكلوا ، وأخذوا ما بقي ، فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك ، فقال : الآن علمت أنه يُحبني.
ثم أمر بالسلام بعد الاستئذان ، فقال :
{...فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىا أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
(5/157)
يقول الحق جل جلاله : {فَإِذَا دخلتم بيوتاً} من البيوت المذكورة أو غيرها بعد الإذن ، {فسَلّمُوا على أنفسكم} أي : فابدأوا بالسلام على أهلها ، الذين هم منكم ، الذين هم بمنزلة أنفسكم ؛ لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية أو النَّسَبِيَّةِ. أو بيوتاً فارغة ، أو مسجداً ، بأن تقولوا : السلام عليكم ، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، إن كانت خاوية. {تحيةً} ، مَنْ نَصَبَ فعلى المصدر لِسلِّمُوا ؛ لأنها في معنى تسليماً ، {من عند الله} أي : بأمره مشروعه من لدنه ، أو لأنها طلب للسلامة ، وهي بيد الله ، {مباركةً} : مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامهما ، {طيبةً} : تطيب بها نفس المستمع.
جزء : 5 رقم الصفحة : 100
وعن أنس رضي الله عنه أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " من لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه ، يَطُلْ عُمْرُكَ. وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكْثُرُ خَيْرُ بَيْتِك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين ". {كذلك يُبين الله لكم الآيات} ، تكرير ؛ لتأكيد الأحكام المختتمة وتفخيمها ، {لعلكم تعقلون} : لكي تعقلوا ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام ، وتعملوا بموجبها ، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.
الإشارة : السلام على النفس : هو طلب الأمان لها ومنها ، فإذا سَلِمَت النفس من موجات الغضب من الله ، سَلِمَ صاحبها منها ، قال القشيري : السلامُ : الأمانُ ، فسبيل المؤمن إذا دخل بيتاً أن يُسلِّمَ مِنَ الله على نَفْسه ، يعني : بأن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وأن يطلب السلامة والأمان من الله تعالى ، لِتسْلَمَ نَفْسُه من الإقدام على ما لا يرضي الله ، إذ لا يحل لمُسلم أن يفْتُرَ لحظة عن الاستجارة بالله ، بأن لا يرفع
102
عنه ظل عصمته بإدامة حِفظهِ من الاتصاف بمكروه الشرع. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 100
(5/158)
يقول الحق جل جلاله : {إِنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} ، إنما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيز الصلة للموصول الواقع خبراً للمبتدأ ، مع تضمنه له ؛ تقريراً لِمَا قبله ، وتمهيداً لما بعده ، وإيذاناً بأن ما بعده حقيق بأن يُجْعَلَ قريناً للإيمان بهما ومنتظماً في سلكه.
{وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ} : عَطْفٌ على (آمنوا) ، دَاخِلٌ في حيز الصلة ، أي : إنما الكاملون في الإيمان : الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم ، وأطاعوه في جميع الأحكام والأحوال المطردة الوقوع ، والأحوال الواقعة بحسب الاتفاق ، كما إذا كانوا معه - عليه الصلاة والسلام - على أمر مُهم يجب الاجتماع في شأنه ؛ كالجمعة والأعياد ، والجهاد ، وتدريب الحروب ، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع ، {لم يذهبوا حتى يستأذنوه} ، ويأذن لهم ، ولو كان الأمر يقوم بدونهم ، ليتميز المخلص من المنافق ، فإن دَيْدنه التسلل للفرار ، ولتعظيم الجرم ؛ لما في الذهاب بغير إذنه صلى الله عليه وسلم من الخيانة.
وَلَمَّا أراد الحقُّ تعالى أَنْ يُرِيَهُمْ عِظَمَ الجنايةِ في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه ، إذا كانوا معه على أمر جامع ، جعل ترك ذهابهم والصبر معه ، حتى يأذن لهم : ثالث الإيمان ، وجعل الإيمان برسوله كالسبب له ، والبساط لذكره ، وذلك مع تصدير الجملة بـ " إنما ، ثم عقبة بما يزيده توكيداً وتشديداً ؛ حيث أعاده عاى أسلوب آخر فقال : {إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله} ، فقضَى بأن المستأذنين هم المؤمنون خاصة. وفي " أولئك " : من تفخيم المستأذنين ، ما لا يخفى ، {فإذا استأذنوك} في الانصراف {لبعض شأنهم} أي : أمرهم المهم وخطْبهم الملم.
{فَأَذَنْ لِمَنِ شئْتَ منهم} لما علمت في ذلك من مصلحة وحكمة.
(5/159)
وهذا بيان لما هو وظيفة صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين ، وأن الإذن منه - عليه الصلاة والسلام - ليس بأمر محتوم ، بل هو مفوّض إلى رأيه عليه الصلاة والسلام ، وفيه مِنْ رَفْع شأنه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : بعدما تحقق أن الكاملين في الإيمان هو المستأذِنُون.
103
{فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فَأْذَنْ لمن شئتَ منهم واستغفر لهم الله} ، فإن الاستئذان ، وإن كان لعذر ، فقد لا يخلو من شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة ، ففيه دليل على أن الصبر وترك الاستئذان أفضل. {إن الله غفور رحيم} ؛ مبالغ في غفران فَرَطَاتِ العِبَاد ، وفيه إفاضة آثار الرحمة عليهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 103
وما ذكره الحق تعالى في شأن الصحابة مع الرسول - عليه الصلاة والسلام - في شأن الاستئذان ينبغي أن يكون كذلك مع أئمتهم ومقدّميهم في العلم والدين ، لا يتفرقون عنهم إلا بإذن. والآية نزلت في الخندق ، كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان ، فنزلت. وبقي حكمها عاماً إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
(5/160)
الإشارة : من آداب الفقراء مع شيخهم ألا يتحركوا لأمر إلا بإذنه ، أما أهل البدايات فيستأذنون في الجليل والحقير ، كقضية الفقير الذي وجد بَعْضَ البَاقِلاَّءِ - أي : الفول - في الطريق ، فأتى بها إلى الشيخ ، فقال : يا سيدي ما نفعل به ؟ فقال : اتركه ، حتى تفطر عليه ، فقال بعض الحاضرين : يستأذنك في الباقلاء ؟ فقال : لو خالفني في أمر ؛ لم يفلح أبداً. وأما أهل النهايات الذين عرفوا الطريق ، واستشرفوا على عين التحقيق ، وحصلوا على مقام الفهم عن الله ، فلا يستأذنون إلا في الأمر المهم ؛ كالتزوج ، والحج ، ونحوهما. وَصَبْرُهُ حتى يأمره الشيخ بذلك أولى ، فالمريد بقدر ما يترك تدبيره مع الشيخ ، ويتحقق بالتفويض معه قبل الوصول ، كذلك يتركه ويتحقق تفويضه مع الله بعد الوصول.
فالأدب مع الشيخ هو الأدب مع الله ، لكن لما كان من شأن العبد الجهل بالله وسوء الأدب معه أمره بالتحكيم لغيره من جنسه ، فإذا حكم جنسه على نفسه قبل المعرفة حكم الله على نفسه بعد المعرفة. والتحكيم في غاية الصعوبة على النفس ، لا يرضاها إلا من سبقت له الهداية ، وجذبته جواذب العناية ، أعني الدخول تحت الشيخ وتحكيمَه على نفسه ، حتى لا يتحرك إلا بإذنه ، فهذا سبب الوصول إلى مقام الشهود والعيان ، فإذا فعل المريد شيئاً من غير استئذان فليتب وليطلب من الشيخ الاستغفار له. وينبغي للشيخ أن يقبل العذر ويسامح ويستغفر له ، لقوله تعالى : {واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم} ، فالخليفة لرسول الله قائم مقامه ، ونائب عنه في رتبة التربية. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 103
104
(5/161)
يقول الحق جل جلاله : {لا تجعلوا دُعاءَ الرسولِ بينكم كدُعَاءِ بعضِكم بعضاً} أي : إذا احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم لأمر جامع ، فدعَاكم ، فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً ، ورجوعكم عن المجمع بغر إذن الراعي ؛ لأن أمره - عليه الصلاة والسلام - وشأنه ليس كشأنكم : أو : لا تجعلوا دعاء الرسول على أحد ، كدعاء بعضكم على بعضاً ، فإنَّ غضبه عليه ليس كغضبكم ؛ لأن غضبه غضب الله ، ودعاءه مستجاب. وهذا يناسب ما قبله من جهة التحذير عن ترك الاستئذان ، فإنَّ من رجع بغير استئذان معرض لغضبه - عليه الصلاة والسلام - ودعائه عليه. أو : لا تجعلوا نداءه صلى الله عليه وسلم كنداء بعضكم بعضاً ؛ كندائه باسمه ، ورفع الصوت عليه ، وندائه من وراء الحُجرات ، ولكن بلَقَبه المعظم ؛ يا رسول الله ، يا نبي الله ، مع غاية التوقير والتفخيم والتواضع وخفض الصوت.
قال القشيري : أي : عَظِّموه في الخطاب ، واحفظوا حرمته وخدمته في الأدب ، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير. هـ. فالإضافة ، على الأوليْن : للفاعل ، وعلى الثالث ؛ للمفعول ، لكنه بعيد من المناسبة لما قبله ولما بعده في قوله : {قد يعلم الله الذين يتسللون} أي : يخرجون قليلاً قليلاً على خِفْيَةٍ منكم ، {لِوَاذاً} أي : ملاوذين ، بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج ، أو يلوذ بمن يخرج بالإذن ؛ إراءة أنه من أتباعه. أو مصدر ، أي : يلوذون لواذاً. واللواذ : الملاوذة ، وهي التعلق بالغير ، وهو أن يلوذ هذا بهذا في أمر ، أي : يتسللون عن الجماعة ؛ خفية ، على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض.
(5/162)
ثم هددهم على المخالفة بقوله : {فليحذرِ الذين يُخالفون عن أمره} أي : الذين يصدون عن أمره ، يقال : خالفه إلى الأمر : إذا ذهب إلى دونه ، ومنه : {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىا مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود : 88] ، وخالفه عن الأمر : إذا صد عنه. والضمير : إما لله سبحانه ، أو للرسول عليه الصلاة والسلام - ، وهو أنسب ؛ لأنه المقصود بالذكر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 104
والمعنى : فليحذر الذين يخالفون عن طاعته ودينه وسنَّته ، {أن تُصيبَهم فتنةٌ} ؛ محنة في الدنيا ؛ كقتل أو زلازل وأهوال ، أو تسليط جائر ، أو عدو ، أو قسوة قلب. أو كثرة دنيا ؛ استدراجاً وفتنة.
قال القشيري : سعادة الدارين في متابعة السُّنَّة ، وشقاوتهما في مخالفتها ، ومما يصيب من خالفها : سقوط حشمة الدين عن القلب. هـ.
{أو يُصيبهم عذابٌ أليم} في الآخرة. والآية تدل على أن الأمر للإيجاب ، وكلمة " أو " : لمنع الخلو ، دون منع الجمع. وإعادة الفعل صريحاً ؛ للاعتناء بالتهديد والتحذير.
{أَلاَ إنَّ لله ما في السمواتِ والأرضِ} من الموجودات ، خلقاً وملكاً وتصرفاً ،
105
وإيجاداً وإعداماً ، بَدْءاً وإعادةً ، و " ألاَ " : تنبيه على أن يخالفوا من له ما في السموات والأرض. {قد يعلمُ ما أنتم عليه} أيها المُكَلَّفُون ، من الأحوال والأوضاع ، التي من جملتها الموافقةُ والمخالفةُ ، والإخلاصُ والنفاقُ. وأدخل " قد " ؛ ليؤكد علمه بما هم عليه ، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد. والمعنى : أن جميع ما استقر في السموات تحت ملكه وسلطانه وإحاطة علمه ، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين ، وإن اجتهدوا في سترها ؟ ! {ويوم يُرجعون إليه} أي : ويعلم يوم يُردون إلى جزائه ، وهو يوم القيامة.
(5/163)
والخطاب والغيبة في قوله : {قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه} يجوز أن يكون للمنافقين ، على طريق الالتفات ، ويجوز أن يكون {ما أنتم عليه} عاماً ، و {يُرجعون} للمنافقين. {فينبئهم} حينئذٍ {بما عملوا} من الأعمال السيئة ، التي من جملتها : مخالفة الأمر ، ليرتب على ذلك الإنباء ما يليق به من التوبيخ والجزاء.
{والله بكل شيءٍ عليم} ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه قرأ سورة النور على المنبر في الموسم ، وفسرها على وجه لو سمعته الروم لأسلمت. هـ. وأما ما ورد في فضل السور فموضوع ، وقد غلط من ذكره من المفسرين. وبالله التوفيق.
الإشارة : شيوخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في القيام بالتربية النبوية ، فيجب امتثال كل ما أمروا به ، واجتناب كل ما نهوا عنه ، فُهِمَ معناه أو لم يُفهم. فإذا كانوا مجموعين في أمر جامع لم يذهب أحد حتى يستأذن شيخه ، ولا يكفي إِذْنُ بَعْضِ الفقراء ، إلا إنْ وَجّهَهُ الشيخ لذلك ، فلا يكون دعاء الشيخ كدعاء بعضكم بعضاً في التساهل في مخالفة أمره ، أو امتثال أمره. قد يعلم الله الذين يتسللون ، فيفرون عنه ؛ لِواذاً ، فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ؛ كتسليط الدنيا عليه فتفتنه وتنسخ حلاوة الشهود من قلبه ، أو يصيبهم عذاب أليم ، وهو السلب بعد العطاء ، والعياذ بالله من الزلل ومواقع الضلال. نسأل الله تعالى أن يثبت قدمنا على منهاج الحق ، وأن يميتنا على المحبة والتعظيم ، ورسوخ القدم في معرفة الرحمن الرحيم. آمين. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد ، النبي الكريم ، وعلى آله وصحبه ، وسلم.
106
جزء : 5 رقم الصفحة : 104(5/164)
سورة الفرقان
جزء : 5 رقم الصفحة : 106
يقول الحق جل جلاله : {تبارك} أي : تكاثر خيره وتزايد ، أو : دام واتصل. وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله ، والمستعمل منها الماضي فقط ، والتفاعل فيها للمبالغة. ومعناها راجع إلى ما يفيض سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات ، التي من جملتها : تنزيل القرآن ، المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية ، أي : تعاظم {الذي نَزَّلَ الفرقانَ} أي : القرآن ، مصدر فرق بين اثنين ، إذا فصل بينهما. سمي به القرآن ؛ لفصله بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، أو : لأنه لم ينزل جملة ، ولكن مفروقاً مفصولاً بين أجزائه شيئاً فشيئاً ، ألا ترى إلى قوله : {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىا مُكْثٍ} [الإسراء : 106].
أنزله {على عبده} محمد صلى الله عليه وسلم ، وإيراده - عليه الصلاة والسلام - بذلك العنوان ؛ لتشريفه ، والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية ، والتنبيه على أن الرسل لا يكون إلا عبداً للمُرسل ؛ رداً على النصارى. أنزله {ليكون} العبد المنزل عليه ، أو الفرقان {للعالمين} من الثقلين ، زاد بعضهم : والملائكة ، أرسل إليهم ليتأدبوا بأدبه ، حيث لم يقف مع مقام ولا حال ، ويقتبسوا من أنواره ، وهو حكمة الإسرار ، وقيل : حتى إلى الحيوانات والجمادات ، أُمرت بطاعته فيما يأمرها به ، وبتعظيمه - عليه الصلاة والسلام - وهذا كله داخل في العالمين ؛ لأن ما سوى الله كله عالم ؛ كما تقدم في الفاتحة. وعموم
107
الرسالة من خصائصه - عليه الصلاة والسلام -. {نذيراً} أي : مخوِّفاً ، وعدم التعرض للتبشير ؛ لأن الكلام مسوق لأحوال الكفرة ، ولا بشارة لهم.(5/165)
{الذي له مُلكُ السموات والأرضِ} أي : له ، خاصةً ، دون غيره ، لا استقلالاً ولا اشتراكاً. فالقهرية لازمة لهما ، المستلزمة للقدرة التامة والتصرف الكلي ، إيجاداً وإعداماً ، وإحياءً وإماتةً ، وأمراً ونهياً ، {ولم يتخذ ولداً} كما زعم اليهود والنصارى في عزير والمسيح - عليهما السلام - ، {ولم يكن له شريك في المُلْك} كما زعمت الثنوية القائلون بتعدد الآلهة ، والرد في نحورهم.
{وخَلَقَ كلَّ شيء} أي : أحدث كل شيء وحده ، لا كما تقول المجوس والثنوية من النور والظلمة. أي : أظهر كل شيء {فقدَّره} أي : فهيأه لِمَا أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به ، {تقديراً} بديعاً ، لا يقادر قدره ، ولا يُبلغ كنهه ؛ كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك ، والنظر والتدبير في أمور المعاش والمعاد ، واستنباط الصنائع المتنوعة ، والدلائل المختلفة ، على وجود الصانع. أو : فقدَّره للبقاء إلى أبد معلوم. وأيّاً ما كان ، فالجملة تعليل لما قبلها ، فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على ذلك الشكل البديع والنظام الرائق ، وكل ما سواه تحت قهره وسلطانه ، كيف يتوهم أنه ولد الله سبحانه ، أو شريكٌ له في ملكه. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 107
(5/166)
الإشارة : عبّر بالعبودية في التنزيل والإسراء ؛ إشارة إلى أن كل من تحقق بالعبودية الكاملة له حفظ من تنزيل الفرقان على قلبه ، حتى يفرق بين الحق والباطل ، وحظ من الإسراء بروحه إلى عالم الملكوت والجبروت ، حتى يعاين عجائب أسرار ربه. وما منع الناس من تنزل العلوم اللدنية على قلوبهم ، ومن العروج بروحهم ، إلا عدم التحقق بالعبودية الكاملة لربهم ، حتى يكون مع مراده ، لا مع مرادهم ، لا يريدون إلا ما أراد ، ولا يشتهون إلا ما يقضي ، قد تحرروا من رقِّ الأشياء ، واتحدت عبوديتهم للواحد الأعلى. فإذا كانوا كذلك صاروا خلفاء الأنبياء ، يُعرج بأرواحهم ، ويُوحى إلى قلوبهم ما يفرقون به من الحق والباطل ، ليكونوا نُذراً لعالمي زمانه ؛ قال تعالى : {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر : 24]. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 107
يقول الحق جل جلاله : {واتخذوا} أي : الكفار المدرجون تحت العالمين المنذَرين ، اتخذوا لأنفسهم {من دونه} تعالى {آلهة} ؛ أصناماً ، يعبدونها ويستعينون بها ، وهم {لا يَخْلُقُون شيئاً} أي : لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء ، {وهم يخْلَقُون}
108
كسائر المخلوقات. والمعنى أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والخلق ، والملك والتقدير ، عباداً عجزة ، لا يقدرون على خلق شيء ، وهم مخلوقون ومصورون. {ولا يملكون لأنفسهم ضَراً ولا نفعاً} أي : لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها ، ولا جلب نفع لها. وهذا بيان لغاية عجزهم وضعفهم ؛ فإن بعض المخلوقين ربما يملك دفع ضر وجلب نفع في الجملة ، وهؤلاء لا يقدرون على شيء البتة ، فكيف يملكون نفع مَنْ عبدَهم ، أو ضرر من لم يعبدهم ؟ !
(5/167)
{ولا يملكون موتاً} أي : إماتة {ولا حياةً} أي : إحياء {ولا نشوراً} ؛ بعثاً بعد الموت ، أي : لا يقدرون على إماتة حي ، ولا نفخ الروح في ميت ، ولا بعث للحساب والعقاب. والإله يجب أن يكون قادراً على جميع ذلك. وفي إيذان بغاية جهلهم ، وسخافة عقولهم ، كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نُفي عن آلهتهم مما ذكر ، مفتقرون إلى التصريح لهم بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من ركن إلى غير الله ، أو مال بمحبته إلى شيء سواه ، فقد اتخذ من دونه إلهاً يعبده من دون الله. وكل من رفع حاجته إلى غير مولاه ، فقد خاب مطلبه ومسعاه ؛ لأنه تعلق بعاجز ضعيف ، لا يقدر على نفع نفسه ، فكيف ينفع غيره ؟ وفي الحِكَمِ : " لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف ترفع إلى غيره ما كان هو له واضعاً ؟ ! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه ، فكيف يكون لها عن غيره رافعاً ؟ ".
قال بعض الحكماء : من اعتمد على غير الله فهو في غرور ؛ لأن الغرور ما لا يدوم ، ولا يدوم شيء سواه ، وهو الدائم القديم ، لم يزل ولا يزال ، وعطاؤه وفضله دائمان ، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء ، في كل نفس وحين وأوان وزمان. هـ. وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى داود : يا داود ؛ أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دُون خلقي ، أعلم ذلك من نيته ، فتكيده السموات السبع ومن فيهن ، والأرضون السبع ومن فيهن ، وإلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً. أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني ، أعلم ذلك من نيته ، إلا قطعت أسباب السموات من يده ، وأسخت الأرض من تحته ، ولا أبالي في وادٍ هلك. هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 108
يقول الحق جل جلاله : {وقال الذين كفروا} أي : تمردوا في الكفر والطغيان. قيل : هم النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أمية ، ونوفل بن خويلد ، ومن ضاهاهم.
(5/168)
وقيل : النضر فقط ، والجمع ؛ لمشايعة الباقين له في ذلك. قالوا : {إنْ هذا} ؛ ما هذا القرآن {إلا إفكٌ} ؛ كذب مصروف عن وجهه {افتراه} ؛ اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه ، {وأعانة عليه} أي : على اختلاقه {قومٌ آخرون} ، يعنون : اليهود ، بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارسة ، وهو يعبر عنها بعبارته. وقيل : هم عدَّاس ، ويسار ، وأبو فكيهة الرومي ، كان لهم علم التوراة والإنجيل. ويحتمل : وأعانه على إظهاره وإشاعته قوم آخرون ، ممن أسلم معه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى : {فقد جاؤوا} ، وأتوا {ظُلماً} أو : بظلم ، فقد تستعمل (جاء) بمعنى فعل ، فتتعدى تعديته ، أو بحرف الجر ، والتنوين للتفخيم ، أي : جاؤوا ظلماً هائلاً عظيماً ؛ حيث جعلوا الحق البيِّن ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إفكاً مفترى من قول البشر ، وجعلوا العربي الفصيح يتلقى من العجمي الرومي ، وهو من جهة نظمه الفائق وطرازه الرائق ؛ لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن مثل آية من آياته. ومن جهة اشتماله على الحكم العجيبة ، المستتْبعة للسعادات الدينية والدنيوية ، والأمور الغيبية ، بحيث لا يناله عقول البشر ، ولا تفي بفهمه الفهوم ، ولو استعملوا غاية القوى والقدر. {و} أتوا أيضاً {زُوراً} أي : كذباً كثيراً ، لا يُبْلَغُ غايتُه ؛ حيث نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم ما هو بريء منه.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 109
وقالوا أساطيرُ الأولين} أي : هو أحاديث المتقدمين ، وما سطروه من خرافاتهم ؛ كرُستم وغيره. جمع أسطار ، أو أسطورة ، {اكتتبها} ؛ كتبها لنفسه ، أو : استكتبتها فكُتبت له ، {فهي تُملى عليه} أي : تُلقى عليه من كتابه {بكرةً} : أول النهار {وأصيلاً} ؛ آخره ، فيحفظ ما يتلى ثم يتلوه علينا. انظر هذه الجرأة العظيمة ، قاتلهم الله ، أنى يؤفكون ؟ .
(5/169)
{قل} يا محمد : {أنزله الذي يعلم السرَّ في السمواتِ والأرضِ} أي : يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض ، يعني : أن القرآن ، لما اشتمل على علم الغيوب ، التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم من غير تعلم إلهي ، دلَّ على أنه من عند علام الغيوب ، أي : ليس ذلك مما يُفْتَرَى ويختلق ، بإعانة قوم ، وكتابة آخرين ؛ من الاحاديث والأساطير المتقدمة ، بل هو أمر سماوي ، أنزله الذي لا يعزب عن علمه شيء ، أودع فيه فنون الحِكَم والأحكام ، على وجه بديع ، لا تحوم حوله الأفهام ، حيث أعجزكم قاطبة
110
بفصاحته وبلاغته ، وأخبركم بأمور مغيبات ، وأسرار مكنونات ، لا يهتدي إليها ولا يوقف عليها إلا بتوقيف العليم الخبير ، ثم جعلتموه إفكاً مفترى ، واستوجبتم بذلك أن يصبَّ عليكم العذاب صباً ، لولا حِلمه ورحمته ، {إنه كان غفوراً رحيماً} ؛ فأمهلكم ، ولم يعاجلكم بالعقوبة. وهو تعليل لما هو المشاهد من تأخير العقوبة عنهم ، أي : كان أزلاً وأبداً مستمراً على المغفرة والرحمة ، فلذلك لم يعاجلكم بالعقوبة على ما تقولون في حقه وفي حق رسوله ، مع كمال اقتداره.
ثم ذكر طعنهم فيمن نُزل عليه ، فقال : {وقالوا مَالِ هذا الرسولِ} وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء ، وخط المصحف سُنّة لا يغير. وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم ، كأنهم قالوا : أي شيء لهذا الزاعم أنه رسول ؛ يأكل الطعام كما تأكلون ، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما تمشون ، أي : إن صح ما يدعيه فما له لم يخالف حالنا ؟ ! {لولا أُنزل إليه ملَكَ} على صورته {فيكون معه نذيراً} ، وهذا منهم تنزل عن اقتراح كونه صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن المادة الحسية ، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يُصدقه ، ويكون ردءاً له في الإنذار ، ويُعبر عنه ، ويفسر ما يقوله للعامة.
(5/170)
{أو يُلْقَى إليه كنزٌ} من السماء ، يستغني به عن طلب المعاش معنا ، {أو تكونُ له جنةٌ} ؛ بستان {يأكل منها} كالأغنياء المياسير. والحاصل : أنهم أول مرة ادعوا أن الرسول لا يكون إلا كالملائكة ، مستغنياً عن الطعام والشراب ، وتعجبوا من كون الرسول بشراً ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك يُصدقه ويعينه على الإنذار ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون معه كنز ، يستظهر به على نوائبه ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون رجلاً له بستان يأكل منه ، كالمياسير ، أو نأكل نحن منه ، على قراءة حمزة والكسائي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 109
قال تعالى : {وقال الظالمون} وهم الكفرة القائلون ما تقدم ، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر ، تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه. وهم كفار قريش ، أي : قالوا للمؤمنين : {إن تتبعون} ؛ ما تتبعون {إلا رجلاً مسحوراً} ؛ قد سُحر فغلب على عقله ، {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} أي : انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة ، الخارجة عن العقول ، الجارية ؛ لغرابتها ، مجرى الأمثال ، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة ، البعيدة عن الوقوع ؟ ! {فضلّوا} عن طريق الجادة {فلا يستطيعون سبيلاً} ؛ فلا يجدون طريقاً إليه ، أو : فلا يجدون سبيلاً إلى القدح في نبوتك ، بأن يجدوا قولاً يستقرون عليه ، أو : فضلّوا عن الحق ضلالاً مبيناً ، فلا يجدون طريقاً موصلاً إليه ، فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الموصلة إلى الرشد والصواب. وبالله التوفيق.
الإشارة : تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية ، فإن سمع أهل الإنكار منهم علوماً وأسراراً قالوا : ليست من فيضه ، إنما نقلها عن غيره ، وأعانه على إظهارها قومٌ آخرون ، قل : أنزلها
111
(5/171)
على قلوبهم الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، أنه كان غفوراً رحيماً ، حيث ستر وصفهم بوصفه ونعتهم بنعته ، فوصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه. وقوله تعالى : {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} ، أنكروا وجود الخصوصية مع وصف البشرية ، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية ، كما تقدم مراراً. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 109
قلت : (جنات) : بدل من خيراً ، و (يجعل) ، من جزمه عطفه على محل جواب الشرط ، ومن رفعه فعلى الاستئناف ، أي : وهو يجعل لك قصوراً ، ويجوز عطفه على الجواب ؛ لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في الجواب الرفع والجزم ، كما هو مقرر في محله.
يقول الحق جل جلاله : {تبارك} أي : تكاثر وتزايد خيره {الذي إن شاء جَعَلَ لك} في الدنيا {خيراً} لك {من ذلك} الذي اقترحوه ؛ من أن يكون لك جنة تأكل منها ؛ بأن يجعل لك مثل ما وعدك في الجنة ، {جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ} ، فإنه خير من جنة واحدة من غير أنهار ، كما اقترحوا ، {ويجعل لك قصوراً} ؛ وغرفاً في الدنيا ، كقصور الآخرة ، لكن لم يشأ ذلك ؛ لأن الدنيا لا تسع ما يعطيه لخواص أحبابه في الآخرة ؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان.
وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين ، وهو إنزال الملك وإلقاء الكنز ؛ لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية ، وإنما الذي له وجه في الجملة وهو الاقتراح الأخير ؛ فإنه غير مناف للحكمة بالكلية ، فإن بعض الأنبياء - عليهم السلام - قد أُتوا مع النبوة مُلكاً عظيماً ، لكنه نادر.
ثم أضرب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة ، وانتقل إلى توبيخهم بحكاية جناية أخرى ، فقال : {بل كذَّبوا بالساعة} أي : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة. ويحتمل أن يكون متصلاً بما قبله ، كأنه قال : بل كذبوا بالساعة ، وكيف يلتفتون
112
(5/172)
إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة ، وهم لا يؤمنون بها ؟ ثم تخلص إلى وبال من كذَّب بها فقال : {وأعتدنا لمن كَذَّبَ بالساعة سعيراً} أي : وهيأنا للمكذبين بها ناراً شديدة الإسعار ، أي : الاشتعال. ووضع الموصول موضع ضمير " هم " ، أو لكل من كذب بها كائناً من كان ، ويدخلون هم في زمرتهم دخولاً أولياً. ووضع الساعة موضع ضميرها ؛ للمبالغة في التشنيع.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 112
إذا رَأَتْهُم} أي : النار ، أي : قابلتهم {من مكان بعيد} ؛ بأن كانت منهم بمرأى للناظرين في البُعد ، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن المؤمن والكافر : " لا تترآءى نَاراهُما " ، أي : لا يتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى. {سمعوا لها تغيُّظاً وزفيراً} أي : سمعوا صوت غليانها. شُبه ذلك بصوت المتغيظ والزفير ، وهو صوت من جوفه. ولا يبعد أن يخلق الله فيها الإدراك فتتغيظ وتزفر. وقيل : إن ذلك من زبانيتها ، نُسب إليها ، وهو بعيد.
(5/173)
{وإذا أُلْقُوا منها} ؛ من النار {مكاناً ضَيِّقاً} أي : في مكان ضيق ؛ لأن الكرب يعظم مع الضيق ، كما أن الروح يعظم مع السعة ، وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض. وعن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهما - : (تضيق جهنم عليهم ، كما يضيق الزجُّ على الرمح). وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " والذي نفسي بيده إنهم ليُستكرهون في النار كما يُستكره الوتد في الحائط " حال كونهم {مُقرّنين} أي : مسلسلين ، أي : مقرونين في السلاسل ، قُرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. أو : يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسة ، وفي أرجلهم الأصفاد. فإذا أُلقوا في الضيق ، على هذا الوصف ، {دَعَوا هنالك} أي : في ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة ، {ثُبُوراً} أي : هلاكاً ، بأن يقولوا : واثبوراه ؛ هذا حينُك فتعال ، فيتمنون الهلاك ليستريحوا ، فيقال لهم : {لا تدعوا اليوم ثُبوراً واحداً وادعوا ثُبوراً كثيراً} أي : لا تدعوا بالهلاك على أنفسكم مرة واحدة ، ودعاءً واحداً ، بل ادعوا دعاء متعدداً بأدعية كثيرة ، فإن ما أنتم عليه من العذاب لغاية شدته وطول مدته ، مستوجب لتكرر الدعاء في كل أوان. وهو يدل على فظاعة العذاب وهوله.
وأما ما قيل من أن المعنى : إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً ، وإنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان ، كل نوع منها ثبور ؛ لشدته وفظاعته ، أو : لأنهم كلما نضجت جلودهم بُدلوا غيرها ، فلا غاية لها ، فلا يلائم المقام. انظر أبا السعود. وعن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أولُ من يُكْسَى حُلَّةً من النار إبليسُ ، فيضعُها على
113
(5/174)
حاجبيه ، ويسحبُها من خلفه ، وذُريتُهُ من بعده ، وهو يقول : يا ثُبُوراه ، وهم يجاوبونه : يا ثُبُورهم ، حتى يَقِفُوا على النار ، فيقال لهم : لا تدعوا ثبوراً واحداً... ". {قل} لهم يا محمد ؛ تقريعاً لهم وتهكماً بهم ، وتحسراً على ما فاتهم : {أذلك خيرٌ} ، والإشارة إلى السعير ، باعتبار اتصافها بما فُصِّل من الأحوال الهائلة ، وما فيه من معنى البُعد ؛ لكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة. أي : قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير ، التي أعدت لمن كذب بالساعة ، وشأنها كيت وكيت ؛ خير {أم جنةُ الخُلد التي وُعِدَ المتقون} أي : وعدها الله المتقين ؟ وإنما قال : " أذلك خير " ، ولا خير في النار ؛ تهكماً بهم. كما تقدم ، وإضافة الجنة إلى الخلد ؛ للمدح ، وقيل : للتميز عن جنات الدنيا. والمراد بالمتقين : المتصفون بمطلق التقوى ، لا بغايتها. {كانت} تلك الجنة {لهم} في علم الله تعالى ، أو في اللوح ، {جزاءً} على أعمالهم ، {ومصيراً} يصيرون إليه بعد الموت.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 112
(5/175)
لهم فيها ما يشاؤون} من فنون الملاذ والمشتهيات ، وأنواع النعيم والخيرات ، كقوله تعالى : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف : 71] ، ولعل كل فريق منهم يقنع بما أتيح له من درجات النعيم ، ولا تمتد أعناق همهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية. فلا يلزم الحرمان ، ولا تساوى أهل الجنان. حال كونهم {خالدين} لا يفنون ، ولا يفنى ما هم فيه ، {كان على ربك وعداً مسؤولاً} أي : موعوداً حقيقياً بأن يُسْأَلَ ويُطلب ؛ لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون ، أو : مسؤولاً لا يسأله الناس في دعائهم ، بقولهم : {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىا رُسُلِكَ} [آل عمرآن : 194] أو : تسأله الملائكة بقولهم : {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر : 8] وما في " على " من معنى الوجوب ، لامتناع الخُلْفِ في عده تعالى ، فكأنه أوجبه على نفسه ؛ تفضيلاً وإحساناً. وفي التعرض لعنوان الربوبية ؛ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ؛ من تشريفه والإشعار بأنه صلى الله عليه وسلم هو أول الفائزين بمغانم هذا الوعد الكريم ما لا يخفى. قاله أبو السعود.
الإشارة : تبارك الذي إن شاء جعل ذلك خيراً من ذلك ، وهي جنة المعارف المعجلة ، تجري من تحتها أنهار العلوم وفيض المواهب ، ويجعل لك قصوراً تنزل فيها ، ثم ترحل عنها ، وهي منازل السائرين ومقامات المقربين ، إلى أن تسكن في محل الشهود والعيان ، وهو العكوف في حضرة الإحسان. بل كذَّبوا بالساعة ، أي : من تنكب عن هذا الخير الجسيم ، إنما سببه أنه فعل فِعْل من يُكذب بالساعة ؛ من الانهماك في الدنيا ، والاشتغال بها عن زاد الآخرة. وأَعتدنا لمن فعل ذلك سعيراً ، أي : إحراقاً للقلب بالتعب ، والحرص ، والجزع والهلع ، والإقبال على الدنيا ، إذا قابلتهم من مكان بعيد سمعوا لها
114
(5/176)
تَغَيُّظاً وزفيراً ؛ غيظاً على طلابها ، حيث آثروها على ما فيه رضا مولاها ، وإذا ألقوا في أشغالها ، وضاق عليهم الزمان في إداركها ، دعَوا بالويل والثبور ، وذلك عند معاينة أعلام الموت ، والرحيل إلى القبور ، ولا ينفعهم ذلك. قل : أذلك خير أم جنة الخلد ؟ ، وهي جنة المعارف ، التي وُعد المتقون لكل ما سوى الله ، كانت لهم جزاء على مجاهدتهم وصَبْرهم ، ومصيراً يصيرون إليها بأرواحهم وأسرارهم. لهم فيها ما يشاؤون ؛ لكونهم حينئذٍ أمرهم بأمر الله ، كان على ربك وعداً مسؤولاً ، أي : مطلوباً للعارفين والسائرين. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 112
قلت : " اتخذ " قد يتعدى إلى مفعول واحد ، كقوله : {أَمِ اْتَّخَذُوا ءَالِهَةً} [الأنبياء : 8] ، وقد يتعدى إلى مفعولين ، كقوله : {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء : 125] ، فقرأ الجمهور : (أن نَتَّخِذَ) ؛ بالبناء لفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر بالبناء للمفعول. فالقراءة الأولى على تعديته لواحد ، والثانية على تعديته لاثنين. فالأول : الضمير في (نتخذ) ، والثاني : (من أولياء). و (مِن) : للتبعيض ، أي : ما ينبغي لنا أن نتخذ بعضَ أولياءٍ من دونك ؛ لأن " من " لا تزاد في المفعول الثاني ، بل في الأول ، تقول : ما اتخذت من أحد وليّاً ، ولا تقول : ما اتخذت أحداً من ولي. وأنكر القراءة أبو عمرُو بن العلاء وغيره ، وهو محجوج ؛ لأن قراءة أبي جعفر من المتواتر.
(5/177)
يقول الحق جل جلاله : {و} اذكر {يوم نحشرهم} ، أو : يوم يحشرهم الله جميعاً للبعث والحساب ، يكون ما لا تفي به العبارة من الأهوال الفظيعة والأحوال الغريبة ، فيحشرهم {وما يعبدون من دون الله} ؛ من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي : الأصنام ؛ يُنطقها الله ، وقيل : عام في الجميع. و(ما) : يتناول العقلاء وغيرهم ؛ لأنه أريد به الوصف ، كأنه قيل : ومعبودهم. {فيقول} الحق جل جلاله للمعبودين ، إثر حشر الكل ؛ تقريعاً للعَبَدة وتبكيتاً : {أأنتم أَضْلَلْتُمْ عبادِي هؤلاء} ، بأن دعوتموهم إلى عبادتكم ، {أم هم ضلُّوا السبيل} أي : عن السبيل بأنفسهم ؛ بإخلالهم بالنظر الصحيح ، وإعراضهم عن الرشد.
وتقديم الضميريْن على الفعلين بحيث لم يقل : أضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا
115
السبيل ؛ لأن السؤال ليس عن نفس الفعل ، وإنما هو عن متوليه والمتصدي له ، فلا بد من ذكره ، وإيلائه حرف الاستفهام ؛ ليعلم أنه المسؤول عنه. وفائدة سؤالهم ، مع علمه تعالى بالمسؤول عنه ؛ لأن يجيبوا بما أجابوا به ؛ حتى يُبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم ، فتزيد حسرتهم.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 115
(5/178)
قالوا} في الجواب : {سبحانك} ؛ تعجيباً مما قيل ، لأنهم إما ملائكة معصومون ، أو جمادات لا تنطق ولا قدرة لها على شيء ، أو : قصدوا به تنزيهه عن الأنداد ، ثم قالوا : {ما كان ينبغي لنا} أي : ما صح وما استقام لنا {أن نتخذ من دونك} أي : متجاوزين إياك ، {من أولياء} نعبدهم ؛ لِمَا قام بنا من الحالة المنافية له ، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ أن نحمل غيرنا على أن يتخذوا غيرك ، فضلاً أن يتخذونا أولياء ، أو : ما كان يصح لنا أن نتولى أحداً دونك ، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا أن يتولونا دونك حتى يتخذونا أرباباً من دونك ، {ولكن متَّعتهم وآباءهم} بالأموال والأولاد وطول العمر ، فاستغرقوا في الشهوات ، وانهمكوا فيها {حتى نَسُوا الذّكر} أي : غفلوا عن ذكرك ، وعن الإيمان بك ، واتباع شرائعك ، فجعلوا أسباب الهداية ؛ من النعم والعوافي ، ذريعة إلى الغواية. {وكانوا} ، في قضائك وعلمك الأزلي ، {قوماً بوراً} ؛ هالكين ، جمع : بائر ، كعائذ وعوذ. ثم يقال للكافر بطريق الالتفات : {فقد كَذَّبوكم بما تقولون} ، وهو احتجاج من الله تعالى على العبدة ؛ مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم ؛ على تقدير قول مرتب على الجواب ، أي : فقال الله جل جلاله عند ذلك للعبدة : فقد كذبكم المعبودون أيها الكفرة ، {بما تقولون} أي : في قولكم : هؤلاء أضلونا. والباء بمعنى " في " ، وعن قنبل : بالياء ، والمعنى : فقد كذبوكم بقولهم : {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} ، والباء حينئذٍ كقولك : كتبت بالقلم.
{فما يستطيعون} ؛ فما يملكون {صَرْفاً} ؛ دفعاً للعذاب عنكم {ولا نصراً} أي : فرداً من أفراد النصر. والمعنى : فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصروكم. وعن حفص بالتاء ، أي : فما تستطيعون أنتم أيها الكفرة صرفاً للعذاب عنكم ، ولا نصر أنفسكم.
(5/179)
ثم خاطب المكلَّفين على العموم فقال : {ومن يَظْلِمْ منكم} ؛ يشرك ؛ بدليل قوله : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان : 13] لأن الظلم : وضع الشيء في غير محله ، ومن جعل المخلوق شريكاً لخالقه فقد ظلم ظلماً عظيماً. أي : ومن يظلم منكم أيها المكلفون ، كدأب هؤلاء الكفرة ، حيث ركبوا متن المكابرة والعناد ، واستمروا على الملاججة والفساد ، {نُذقْهُ} في الآخرة {عذاباً كبيراً} لا يقادر قدره ، وهو الخلود في النار ، والعياذ بالله.
الإشارة : كل من عشق شيئاً وأحبه من دون الله فهو عابد له ، فرداً أو متعدداً ،
116
فيُحشر معه يوم القيامة ، فيقال لهم : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء ، أم هم ضلوا السبيل ؟ فيتبرؤون منهم ، ويقولون : بل متعتهم بالدنيا ، وألهيتهم عن الذكر والتفكر والاعتبار ، أو عن الشهود والاستبصار ، حتى نسوا ذكر الله وكانوا قوماً بوراً. وقد ورد : (أن الدنيا تُبعث يوم القيامة على هيئة عجوز شمطاء زرقاء ، فتنادي : أين أولادي ؟ فيجمعون لها كرهاً ، فتقدمهم ، فتوردهم النار). وقوله تعالى : {ومن يظلم منكم} أي : يخرج عن حد الاستقامة في العبودية ، وشهود عظمة الربوبية ، نُذقه عذاباً كبيراً ، وهو ضرب الحجاب على سبيل الدوام ، إلا وقتاً مخصوصاً مع العوام. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 115
قلت : كُسرت (إنَّ) ؛ لأجل اللام في الخبر. والجملة بعد (إلا) : صفة لمحذوف ، أي : وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين ، وإنما حذف ؛ اكتفاء بالجار والمجرور ، يعني من المرسلين ، وهو كقوله تعالى : {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات : 164] ، أي : وما منا أحد. وقيل : هي حال ، والتقدير : إلا وأنهم ليأكلون.
(5/180)
يقول الحق جل جلاله : في الجواب المشركين عن قولهم : {مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الأَسْوَاقِ} [الفرقان : 7] ؛ تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم : {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا} وَصِفَتُهُمْ {إِنهم لَيأْكُلون} ؛ بشر يأكلون {الطعامَ} ، مفتقرون إليه في قيام بنيتهم ، {ويمشون في الاسواق} في طلب حوائجهم ، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك ، {وجعلنا بعضهم لبعض فتنةً} أي : محنة ، وهو التعليل لما قبله ، أي : إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة ، وفقراء من المال ، يمشون في الاسواق لطلب المعاش ؛ ابتلاء ، وفتنة ، واختباراً لمن تبعهم ، من غير طمع ، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم ، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة. قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاءً لبعض ؛ لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا ، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي ، فلا يخالَفون ، لفعلت ، ولكن قدرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم. هـ.
فالحكمة في فقر الرسل من المال : تحقيق الإخلاص لمن تبعهم ، وإظهار المزية لهم ؛ حيث تبعوهم بلا حرف. قال النسفي : أو جعلناك فتنة لهم ؛ لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا ، أو ممزوجة بالدنيا ، فإنما بعثناك فقيراً ؛ لتكون طاعة من يطعيك خالصة لنا. هـ.
117
(5/181)
قال في الحاشية : وقد قيل : إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض ، على العموم في جميع الناس : مؤمن وكافر ، بمعنى : أن كل واحد مُخْتَبَرٌ بصاحبه ، فالغنى ممتحن بالفقير ، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى ، عليه ألا يحسده ، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه ، وتوجه إليه من ذلك ؛ لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر ، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم ؛ فتنة للمؤمنين ، واختباراً لهم. ولمّا صبروا نزل فيهم : {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوااْ} [المؤمنون : 111]. والحاصل : أن الله تعالى دبَّر خلقه ، وخص كلاَّ بما شاء ، من غِنى أو فقر ، أو علم أو جهل ، أو نبوة أو غيرها. وكذا سائر الخصوصيات ؛ ليظهر من يسلّم له حُكمه وقسمته ، ومن ينازعه في ذلك ، ومن يؤدي حق ما توجه عليه من ذلك ؛ فيكون شاكراً صابراً ، ومن لا ، وهو أعلم بحكمته في ذلك ، ولذلك قال : {وكان ربك بصيراً}. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 117
وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، والوليد بن عتبة ، والعاص ، حين رأوا أبا ذر وعماراً وصهيباً ، وغيرهم من الفقراء المسلمين ، قالوا : أنسلم ؛ فنكون مِثل هؤلاء ؟ فنزلت الآية ، تخاطب هؤلاء المؤمنين : أتصبرون على هذه الحالة من الشدة والفقر ؟ هـ.
قال النسفي : أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا ، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم ؟ حكي أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه ، فخرج ضجِراً ، فرأى خصياً في مواكب ومراكب ، فخطر بباله شيء ، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية ، فقال : بل نصبر ، ربّنا. هـ.
(5/182)
قال القشيري : هو استفهام بمعنى الأمر ، فمن قارنه التوفيقُ صبر وشكر ، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر. هـ. وقيل : هو الأمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة ، كما قال : {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه : 131] ، فينبغي ألا ينظر بعض إلى بعض ، إلا لمن دونه ، كما ورد في الخبر.هـ.
{وكان ربك بصيراً} ؛ عالماً بالحكمة فيما يَبْتلِي به ، أو : بمن يصبر ويجزع. وقال أبو السعود : هو وعد كريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل ؛ لصبره الجميل ، مع مزيد تشريف له - عليه الصلاة والسلام - ؛ بالالتفات إلى إسم الرب مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. هـ.
الإشارة : الطريق الجادة التي درج عليها الأنبياء والأولياء هي سلوك طريق الفقر والتخفيف من الدنيا ، إلا قدر الحاجة ، بعد التوقف والاضطرار ، ابتداءً وانتهاء ، حتى تحققوا بالله. ومنهم من أتته الدنيا بعد التمكين فلم تضره. والحالة الشريفة : ما سلكها نبينا صلى الله عليه وسلم وهو التخفيف منها وإخراجها من اليد ، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي ،
118
في وسق من شعير. وعادته تعالى ، فيمن سلك هذا المسلك ، أن يُديل الغنى في عقبه ، فيكونون أغنياء في الغالب. والله تعالى أعلم.
وما وَصَف به الحق تعالى رسله ؛ من كونهم يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، هو وصف للأولياء أيضاً - رضي الله عنهم - ؛ فيمشون في الأسواق ؛ للعبرة والاستبصار في تجليات الواحد القهار ، فحيث يحصل الزحام يعظم الشهود للملك العلام ، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه : عين الزحام هو الوصول لِحَيِّنا.
(5/183)
وكان شيخ أشياخنا - سيدي علي العمراني - يقول لأصحابه : من أراد أن يذوق فليمش إلى السوق. هـ. فينبغي للمريد أن يربي فكرته في العزلة والخلطة والخلوة والجلوة ، ولا يقتصر على تربيتها في العزلة فقط ؛ لئلا يتغير حاله في حال الخلطة ؛ فيبقى ضعيفاً. فالعزلة تكون ؛ ابتداء ، قبل دخول بلاد المعاني ، فإذا دخل بلاد المعاني فليختر الخلطة على العزلة ، حتى يستوي قلبه في الخلوة والجلوة ، فالعزلة عن الناس عزلة الضعفاء ؛ والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء. فالمشي في الأسواق والأكل فيها سنة الفقراء ، أهل الأحوال ؛ مجاهدةً لنفوسهم ، وترييضاً لها على إسقاط مراقبة الخلق ، والخوف منهم. وقد ورد أن الله تعالى أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ تشريفاً لأهل الأحوال ، كما ذكره صاحب اللباب عند قوله : {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق...}.
جزء : 5 رقم الصفحة : 117
ومن آداب الداخل في السوق : أن يكون ماشياً على رجليه ، لا راكباً ، كما وصف الله تعالى الرسل - عليهم السلام. وفي قوله تعالى : {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} : تسلية لمن يُبْتَلَى من الأولياء ، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان ، وإذاية الإخوان ، وجفوة الناس. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 117
قلت : (وقال) : عطف على : (وقالوا مال هذا الرسول...) إلخ ، ووضع الموصول موضع الضمير ؛ للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما حكي عنهم مِنَ الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى الله - عز وجل -.
يقول الحق جل جلاله : {وقال الذين لا يرجون لقاءنا} أي : لا يتوقعون الرجوع
119
إلينا بالبعث ، أو حسابنا المؤدي إلى سوء العذاب ، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة.
(5/184)
والحاصل : أنهم يُنكرون البعث بالكلية ، فأطلق الرجاء على التوقع. وقيل : لا يخافون لقاءنا ؛ لأن الرجاء في لغة تهامة : الخوف ، قالوا : {لولا} ؛ هلا {أنزل علينا الملائكةُ} رسلاً دون البشر ، أو : يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته ، {أو نرى ربَّنا} جهرة ، فيخبرنا برسالته ، ويأمرنا باتباعه ، وإنما قالوا ذلك ؛ عناداً وعتواً.
قال تعالى : {لقد استكبروا في أنفسهم} أي : أضمروا الاستكبار ، وهو الكفر والعناد في قلوبهم ، أو : عظموا في أنفسهم حتى اجترؤوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء ، {وعَتَواْ} أي تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان {عُتواً كبيراً} ؛ بالغاً أقصى غاياته ، أي : إنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم ؛ إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار ، وأقصى العتو ، حتى أمَّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء ، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح. وهذا كقولهم : {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ...} [الإسراء : 90] إلى قوله : {أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء : 92]. ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة ؛ فذهبوا في الاقتراح كل مذهب ، حتى منَّتهم أنفسهم الخبيثة أمالي سُدت دونها مطامع النفوس القدسية. واللام : جواب قسم محذوف ، أي : والله لقد استكبروا.. الآية. وفيه من الدلالة على قُبح ما هم عليه ، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم ، ما لا يخفى.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 119
(5/185)
يوم يَرَون الملائكةَ} عند الموت أو البعث. و {يوم} : منصوب باذكر ، أو بما دل عليه : {لا بُشرى يومئذٍ للمجرمين} ؛ فإنه بمعنى : يُمنعون البشرى ، أو : لا يبشر المجرمون. انظر البيضاوي. والجملة : استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة ، بعد استعظامه وبيان كونه في غاية ما يكون من الشناعة. وإنما قيل : يوم يرون ، دون أن يقال : يوم تنزل ؛ إيذاناً ، من أول الأمر ، بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه ، بل على وجه آخر غير معهود. وتكرير (يومئذٍ) ؛ لتأكيد التهويل ، مع ما فيه من الإيذان بأن تقديم الظرف للاهتمام ، لا لِقَصْرِ نَفْي البُشرى على ذلك الوقت فقط ؛ فإن ذلك مُخل بتفظيع حالهم. وللمجرمين) : تعيين على أنه مظهر ، وُضِعَ موضع الضمير ؛ تسجيلاً عليهم بالإجرام ، مع ما هم عليه من الكفر والطغيان.
{ويقولون حِجْراً محجوراً} على ما ذكر من الفعل المنفي ، أي : لا يبشرون ، ويقولون. وهو ينبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر ، وغاية هول مطلعه ، أي : يقولون ، عند مشاهدة ملائكة العذاب : حِجْراً محجوراً ، أي : منعاً ممنوعاً منكم ، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو هائل ، أو هجوم نازلة هائلة ، يضعونها موضع الاستعاذة ، فكأن المعنى : نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك عَنَّا منعاً ، ويحجره عنا حجراً. والمعنى : أنهم
120
يطلبون نزول الملائكة - عليهم السلام - ويقترحونه ، وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة ، وفزعوا منهم فزعاً شديداً. وقالوا ، عند رؤيتهم ، ما كانوا يقولون عند نزول خطب شنيع وبأس فظيع.
(5/186)
وقيل : هو قول الملائكة ، أي : تقول الملائكة للمجرمين ، حين يرونهم : حِجْراً محجوراً ، أي : حراماً محرماً عليكم البشرى ، أي : جعل الله ذلك حراماً عليكم ، إنما البشرى للمؤمنين. و (الحجر) : مصدر ، يُفتح ويكسر ، وقرئ بهما. من حَجَرَهُ ؛ إذا منعه. وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها. ومحجوراً : لتأكيد معنى الحجر ، كما قالوا : موت مائت. وانظر ما وُجِّه بِهِ وقْفُ الهبطى على " حِجْراً " ؛ فلعله الأوجه له.
ثم ذكر مآل أعمالهم ، فقال : {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} الهباء : شِبْهُ غُبَارٍ يُرى في شعاع الشمس ، يطلع من كُوَّة. والقدوم هنا : مجاز. مُثلتْ حال هؤلاء الكفرة وأعمالهم التي عملوها في كفرهم ؛ من صلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، وقِرى ضيف ، وعِتقٍ ، ونحو ذلك ، بحال من خالف سلطانه ، فقدم إلى أشيائه ، وقصد إلى ما تحت يديه ، فأفسدها ، ومزقها كل ممزق ، ولم يترك لها عيناً ولا أثراً ، أي : عمدنا إليها وأبطلناها ، أي : أظهرنا بطلانها بالكلية ، من غير أن يكون هناك قدوم. والمنثور : المفرّق ، وهو استعارة عن جَعْلِهِ لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع.
جزء : 5 رقم الصفحة : 119
ثم ذكر ضدهم ، فقال : {أصحابُ الجنة يومئذٍ خيرٌ مُستقراً} أي : مكاناً يستقرون فيه ، والمستقر : المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات ، للتجالس والتحادث ، {وأحسن مَقِيلاً} : مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم. ولا نوم في الجنة ، ولكنه سمي مكان استرواحهم إلى أزواجهم الحور مقبلاً ؛ على طريق التشبيه. ورُوي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار.
وقال سعيد الصواف : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين ، حتى يكون ما بين العصر إلى غروب الشمس ، إنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من حساب الناس.
(5/187)
وقرأ هذه الآية. هـ. وأما الكافر فيطول عليه ، كما قال تعالى : {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج : 4].
قال أبو السعود : وفي وصفه بزيادة الحسن ، مع حصول الخيرية ، رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف. والتفضيل المعتبر فيهما : إما لإرادة الزيادة على الإطلاق ، أي : هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل ، وأما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا ، أو إلى ما لهم في الآخرة ، بطريق التهكم بهم ، كما مرّ في قوله : {أذلك خير... } الآية.هـ.
الإشارة : هؤلاء طلبوا الرؤية قبل إِبَّانِهَا وتحصيل شروطها ، وهي الإيمان بالله ،
121
والإخلاص ، والخضوع لمن يدل على الله ، وذل النفس وتصغيرها في طلب الله. ولذلك قال تعالى في وصفهم - الذي منعهم من شهوده تعالى : {لقد استكبروا في أنفسهم وعَتَوْا عتواً كبيراً} أي : ولو صغروا في أنفسهم ، وخضعوا خضوعاً كبيراً ؛ لحصل لهم ما طلبوا ، ولبُشروا بما أملوا ، وفي ذلك يقول الشاعر :
تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى ؛ فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ
إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ
تذلَّلْ لَهُ ؛ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ
فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ
وقيل لأبي يزيد رضي الله عنه ، حين قام يصلي بالليل : يا أبا يزيد ، خزائننا معمورة بالخدمة ، ائتنا من كُوّة الذل والافتقار. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه : أتيت الأبواب كلها فوجدت عليها الزحام ، فأتيت باب الذل والفقر فوجدته خالياً ، فدخلت وقلت : هلموا إلى ربكم. أو كما قال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 119
(5/188)
وفي قوله تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ...} الخ ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال ، والترهيب من الرياء والعجب ، الموجبان لإحباط الأعمال. وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السموات ، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء ، فتصعد الحَفَظَةُ بعمل العبد إلى السماء الأولى فيقول المَلَكُ : ردوه ، واضربوا به وجهه ؛ إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس ، تم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثانية ، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم ، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة ، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم ، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة ، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم ، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة ، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان لا يرحم إنساناً قط ، بل كان يشمت بمن وقع في بلاء ، أنا ملك الرحمة ، أمرني ألا يجاوزني عمله. ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة ، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس ، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد ؛ من صلاة ، وذكر ، وتفكر ، وحسن خلق ، فيقفون بين يدي الله ، ويشهدون له بالصلاح ، فيقول الرب جل جلاله : أنتم الحفظة على عمل عبدي ، وأنا الرقيب على قلبه ، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل ، أراد به غيري ، فعليه لعنتي ، ثم تلعنه الملائكة والسموات. وانتهى باختصار ، وخرجه المنذري. وتكلم في وضعه. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 119
قلت : (المُلْكُ) : مبتدأ ، و(الحق) : صفته. و(للرحمن) : خبر ، و(يومئذٍ) : ظرف للاستقرار.
(5/189)
يقول الحق جل جلاله : {و} اذكر {يوم تشَقَّقُ} أي : تنفتح ، فمن قرأ بالتخفيف : حذف إحدى التاءين ، وأصله : تتشقق. ومن شد : أدغم التاء في الشين ، أي : تنشق {السماءُ بالغمام} أي : عن الغمام ، فتنزل ملائكة السموات في تلك الغمام ؛ ليقع الفصل بين الخلائق ، وهو المراد بقوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْملاَئِكَةُ} [البقرة : 65]. قيل : هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم.
{ونُزِّلَ الملائكةُ تنزيلاً} عجيباً غير معهود. رُوي أن السموات تنشق سماءً سماءً ، وتنزل ملائكة كل سماء في ذلك الغمام ، وفي أيديها صحائف أعمال العباد ، فيفصل الله بين خلقه ، ولذلك قال : {الملكُ يومئذٍ الحقُّ للرحمن} أي : السلطنة القاهرة ، والاستيلاء العام ، الثابت ؛ الذي لا زوال له أصلاً ، هو للرحمن وحده ؛ لأن كل ملْك يزول يومئذٍ ، ولا يبقى إلا ملكه.
(5/190)
وفائدة التقييد ، مع أن الملك لله في الدنيا والآخرة ؛ لأن في الدنيا قد تظهر صورة الملك للمخلوق ؛ مجازاً ، ويكون له تصرف صوري ، بخلاف يوم القيامة ، ينقطع فيه الدعاوي ، ويظهر الملك لله الواحد القهار ، {وكان يوماً على الكافرين عسيراً} أي : وكان ذلك اليوم ، مع كون الملك للمبالغ في الرحمة ، {عسيراً} أي : صعباً ، شديداً على النفوس بالنسبة للكافرين ، وأما على المؤمنين فيكون يسيراً ، بفضل الله تعالى. وقد جاء في الحديث : أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة ، صلَّوْهَا في الدنيا. ففي حديث أبي سعد الخِدري حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} ، قلت : يا رسول الله ، ما أطول هذا اليوم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إِنَّهُ ليُخَفَّفُ على المؤمِنِ حتى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبة ، يصليها في الدنيا ". {و} اذكر أيضاً {يوم يَعَضُّ الظالمُ على يديه} ؛ ندماً وتحسراً ، فعض اليد والأنامل : كناية عن شدة الغيظ والحسرة ؛ لأنها من روادفها ، فتذكر المرادفة ويراد بها
123
المردوف ، فيرتفع الكلام بذلك في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع في نفسه من الروعة ما لا يجده عند اللفظ المكنى عنه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 122
(5/191)
والمراد بالظالم : إما عُقبةَ بْن أَبِي مُعيط ، وكان خليلاً لأُبَيّ بن خلف وكان عقبة يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقدم من سفر وصنع طعاماً ، فدعا إليه أشرف قومه ، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قُرِّب الطعام ، قال النبي صلى لله عليه وسلم : " ما أنا بآكل من طعام ، حتى تشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله " فقال عقُبة : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله. فأكل النبي صلى الله عليه وسلم طَعَامه ، وكان أُبي بن خلف غائباً فلما أُخبر ، قال له : صَبأتَ يا عُقبة ؟ فقال : لاَ ، والله ما صبأتُ ، ولكن دخل عليّ رجل فأَبَى أن يأكُلَ من طَعَامِي إلا أن أشهد له ، فاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يخرج من بيتي ولم يطعم ، فَشَهِدْتُ لَهُ ، فطعم ، فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً ، حتى تأتيه فَتبْزُق في وَجْهِهِ ، وتَطَأَ عُنقه ، فَوَجَدَهُ صلى الله عليه وسلم سَاجِداً ، فَفعَل ذَلِكَ ، وأخذ رَحِم دابته فألقاها بين كتفيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ألْقَاكَ خَارجاً من مَكَّةَ إلا عَلَوْتُ رأسَكَ بالسيفِ " فقُتِلَ عُقبةُ يَوْمَ بَدْرٍ ؛ صبراً. وأما أُبيُّ فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، يوم أُحُد ، في المبارزة ، طعنه في عنقه ، فمات بمكة.
وعن الضحاك : لما بَصَقَ عقبة - بأمر أبي - في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، رجع بُصَاقُهُ في وجهه ، وشوى وجهه وشفتيه ، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه ، فلم يزل في وجهه حتى قتل ، وقتله علي ببدر بأمره صلى الله عليه وسلم بقتله. هـ. وقال الشعبي : كان عُقْبَةُ بن أبي معيط خليلاً لأُبَي بن خلف ، فأسلم عقبة ، فقال أُبيّ : وجهي من وجهك حرام ، أنْ تابعت محمداً ، فارتدَّ ؛ لرضا صاحبه ، فنزلت الآية. هـ.
وإمَّا جنس الظالم ، ويدخل عقبة فيه دخولاً أولياً.
(5/192)
{يقول يا ليتني} ، الياء لمجرد التنبيه ، من غير تعيين المنبّه ، أو : المنبه محذوف ، أي : يا هؤلاء {ليتني اتخذت} في الدنيا {مع الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم {سبيلاً} أي : طريقاً مُنجياً من هذه الورطات ، وهي طريق الإسلام ، ولم أكن ضالاً ، أو : طريقاً إلى الجنة ، {يا وَيْلَتَي} ، بقلب ياء المتكلم ألفاً ، كما في صَحَارَى وعذارَى. وقرئ بالياء على الأصل ، أي : يا هَلَكَتِي ، تَعَاليّ ؛ هذا أَوَانَكِ ، {ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً} ، فلان : كناية عن الإعلام ، فإن أريد بالظالم عقبة ، فالمعنى : لم أتخذ أبيّاً خليلاً ، فكنى عن اسمه ، وإن أريد به الجنس ، فهو كناية عن علم كل من يضله ، كائناً من كان ، من شياطين الإنس والجن. وقيل : هو كناية عن الشيطان.
جزء : 5 رقم الصفحة : 122
ثم قال : {لقد أضلني عن الذِّكْرِ} ؛ عن ذكر الله ، أو : القرآن ، أو : الإيمان ، أو موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كلمة الشهادة. وتصديره بلام القسم ؛ للمبالغة في بيان خطئه ،
124
وإظهار ندمه وحسرته ، أي : والله لقد أضلني عن الذكر {بعد إِذا جاءني} من الله ، وتمكنت منه. {وكان الشيطانُ للإِنسان خذولاً} أي : مبالغاً في الخذلان ، حيث يواليه من يؤديه إلى الهلاك ، ثم يتركه ولا ينفعه ، وهو الحامل له على مخاللة المضِل ومخالفة الرسل. وقيل : المراد به خليله أُبيّ ، وسماه شيطاناً ؛ لأنه أضله كما يضله الشيطان. والله تعالى أعلم.
الإشارة : في الآية تحريض على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وشد اليد علىالتمسك بسنته ، والاهتداء بهديه ، واتباع ما جاء به ، قبل أن تقول : يا ليتني أتخذت مع الرسول سبيلاً. وفيها أيضاً : الترغيب في صحبة الأبرار ، والترهيب من صحبة الفجار ، وأنشد بعض الحكماء :
تَجَنَّبْ قَرِينَ السوء وَاصْرمْ حِبَالَهُ
فَإِن لَّمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحيصاً فَدَارِهِ
وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاْحذَرْ مِرَاءَهُ
(5/193)
تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لمْ تُمارهِ
وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنهى الحَلِيمَ عَن الصِّبَا
إِذا اشْتَعَلَتْ نِيَرانُه فِي عَذَارِهِ
وقال آخر :
اصْحَبْ خِيَارَ الناسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ
خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا
وَالنَّاسُ دَرَاهِمٍ مَيَّزْتُها
فَوَجَدْتُ فيهَا فِضَّةً وُزُيُوفا
وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال : " مثل الجليس الصَّالح مَثَلُ العَطَّارِ ، إنْ لَمْ يُحْذِكَ مِنْ عِطْره يَعْلق بك مِنْ رِيحِه. ومَثَل الجَلِيس السُّوء مَثَلُ الكِيِر ، إن لم يَحْرِق ثِيابَكَ يَعْلق بك مِن رِيحِه " وقال في الحِكَم : " لا تصحب من لا يُنْهِضُكَ حاله ، ولا يَدُلُّكَ على الله مَقَالُهُ ". فإنهاض الحال هو ذكر الله عند رؤيته ، والانحياش إليه بالقلب عند صحبته. ودلالة المقال على الله هو زجه في الحضرة بلا تعب ، بان يرفع بينه وبين ربه الحُجُبَ ، ويقول له : ها أنت وربك. وهذه حال الصوفية العارفين بالله ، وقد وصفهم بعض العلماء ، فقال : الصوفي من لا يعرف في الدارين أحداً غير الله ، ولا يشهد مع الله سوى الله ، قد سخر له كل شيء ، ولم يُسخر هو لشيء ، يسلط على كل شيء ، ولم يسلط عليه شيء ، يأخذ النصيب من كل شيء ، ولم يأخذ النصيب منه شيء ، يصفو به كدر كُلِّ شيء ، ولا يكدر صَفْوَه شيء ، قد أشغله واحد على كل شيء ، وكفاه واحد من كل شيء.هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 122
قال في التنبيه : وبصحبة أمثال هؤلاء يحصل للمريد من المزيد مالا يحصل له بغيرها ؛ من فنون المجاهدات وأنواع المكابدات ، حتى يبلغ بذلك إلى أمر لا يسعه عقل
125
عاقل ، ولا يحيط به عالم ناقل.هـ. وفي شانهم أيضاً قال صاحب العينية رضي الله عنه :
فَشَمِّرْ وَلُذْ بالأوْلياءِ ؛ فإِنهُمْ
لهُمْ مِنْ كِتَابِ الحَقِّ تِلْكَ الوَقَائِعُ
هُمُ الذُّخْرُ لِلْمَلهُوفِ ، والكَنْزُ للرَّجَا ،
(5/194)
وَمِنهُمْ يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طَامِعُ
بِهِم يَهْتَدِي لِلْعَينْ مَنْ ضَلَّ فِي الْعَمَى
بِهمْ يُجْذَبُ العُشَّاقُ ، والرَّبْعُ شَاسِعُ
هُمُ القَصْدُ ، والمطْلُوبُ ، والسُؤْلُ ، والمُنَى
واسْمُهُمُ للصَّبِّ ، فِي الحُبِّ شَافِعُ
هُمُ النَّاسُ ، فَالْزَمْ إِنْ عَرَفْتَ جَنابَهُمْ
فَفيهمْ لِضُرِّ العَالَمِينَ مَنَافِعُ
وقال الجنيد رضي الله عنه : إذا أراد الله بالمريد خيراً ألقاه إلى الصوفية ، ومنعه صحبة القراء. وقال سهل رضي الله عنه : احذر صحبة ثلاثة من أصناف الناس : الجبابرة الغافلين ، والقراء المداهنين ، والمتصوفة الجاهلين. هـ. وقال حمدون القصار رضي الله عنه : (اصحب الصوفية ؛ فإن للقبح عندهم وجوهاً من المعاذير ، وليس للحُسْنِ عندهم كبير موقع يعظمونك به) ؛ إشارة إلى أن العجب بالعمل منفي في صحبتهم. وقال سيدنا علي رضي الله عنه : شر الأصدقاء : من أحوجك إلى المداراة ، وألجأك إلى الاعتذار.
وقال أيضاً : شر الأصدقاء من تُكُلِّف له. هـ. وليوسف بن الحسين الداراني رضي الله عنه :
أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كلَّ مُواتي
فِيًّا غَضِيض الطَّرف عَن عَثراتِي
يوافقني في كل أمر أحبه
ويحفظُني حَياً وبَعد مماتي
فمن لِي بهذا ، ليتني قد وَجَدْتُه
فَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ
والحاصل من هذا ؛ أن صحبة الصوفية هي التي يحصل بها كمال الانتفاع للصاحب ، دون من عداهم من المنسوبين إلى الدين والعلم ؛ لأنهم خُصوا من حقائق التوحيد والمعرفة بخصائص ، لم يساهمهم فيها أحد سواهم. وسريان ذلك من الصاحب إلى المصحوب هو غاية الأمل والمطلوب ، فقد قيل : مَنْ تَحَقَّقَ بِحَالَةٍ لَمْ يَخْلُ حَاضِرُوهُ مِنْهَا. انتهى من التنبيه. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 122
(5/195)
قلت : (وقال الرسول) : عطف على : (وقال الذين لا يرجون..) ، وما بينهما : اعتراض ؛ لبيان قبح ما قالوا ، وما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال والخطوب.
يقول الحق جل جلاله : {وقال الرسولُ} ؛ محمد صلى الله عليه وسلم ، وإيراده بعنوان الرسالة ؛ للرد في نحورهم ، حيث كان ما حكي عنهم قدحاً في رسالته صلى الله عليه وسلم ، أي : قال ، إثر ما شاهد
126
منهم من غاية العتو ونهاية الطغيان ، شاكياً إلى ربه - عز وجل : - {يا ربِّ إِن قومي} ، يعني : قريشاً الذي حكى عنهم ما تقدم من الشنائع ، {اتخذوا هذا القرآنَ} ، الذي من جملته الآيات الناطقة بما يحيق بهم في الآخرة من فنون العقاب ، {مهجوراً} أي : متروكاً بالكلية ، فلم يؤمنوا به ويرفعوا إليه رأساً ، ولم يتأثروا بوعظه ووعيده ، وهو من الهجران ، وفيه تلويح بأن حق المؤمن أن يكون كثيرَ التعاهد للقرآن ؛ لئلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَعَلَّم القُرْآن ؛ فعلَّقَ مُصحفاً لَمْ يتعَاهَدْهُ ، وَلَمْ يَنْظُرْ فيه ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتعَلِّقاً بِهِ ، يَقُولُ : يَا رَبَّ العَالمينَ عَبْدُكَ هذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُوراً ، اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَهُ ". وقيل : هو من هجر ؛ إذا هذى ، أي : قالوا فيه أقاويل باطلة ، كالسحر ، ونحوه ، أو : بأن هجروا فيه إذا سمعوه ، كقولهم : {لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ} [فصلت : 26] ؛ أي : مهجوراً فيه.
وفيه من التحذير والتخويف ما لا يخفى ، فإن الأنبياء - عليهم السلام - إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجَّل لهم العذاب ، ولم يُنظروا.
(5/196)
ثم أقبل عليه ؛ مسلياً ، وواعداً لنصره عليهم ، فقال : {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} ؛ فتسلّ بهم ، واقْتَدِ بمن قبلك من الأنبياء ، فَمِنْ هنا سَاروا. أي : كما جعلنا لك أعداء من المشركين ، يقولون ما يقولون ، ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل ، جعلنا لكل نبي من الأنبياء ، الذين هم أصحاب الشرائع والدعوة إليها ، عدواً من مجرمي قومِهم ، فاصبر كما صبروا ؛ فإن الله ناصرك كما نصرهم. {وكفى بربك هادياً ونصيراً} ، وهو وعد كريم بالهداية له إلى مطالبه ، والنصر على أعدائه ، أي : كفاك مالِكُ أمرِك ومُبَلغك إلى غاية الكمال ، هادياً إلى ما يوصلك إلى غاية الغايات ، التي من جملتها : تبليغ الكتاب ، وإجراء أحكامه إلي يوم القيامة. أو : وكفى بربك هادياً لك إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ، وناصراً لك عليهم. والعدو : يجوز أن يكون واحداً وجمعاً ، والباء زائدة ، و {هادياً ونصيراً} : تمييزان. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 126
الإشارة : من السنة التي أجراها الله تعالى في خواصه : أن يكون جيرانهم وأقاربهم أزهد الناس فيهم ، وأقواهم عليهم ، وأعدى الناس إليهم. وفي الأثر : " أزْهَدُ النَّاس في العَالِم جِيرانُهُ " فلا ينتفع بالولي ، في الغالب ، إلا أبعدُ الناس منه ، وقلَّ أن تجد ولياً عُمِّرَ سُوقُهُ في بلده ، فالهجرة سنة ماضية ، ولن تسجد لسنة الله تبديلاً. وكما جعل لكل نبي عدواً جعل لكل ولي عدواً ، فلا بد للولي أن يبقى له من يحركه إلى ربه بالإذاية والتحريش ، إما من جيرانه ، أو من نسائه وأولاده ؛ ليكون سيره بين جلاله وجماله ، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
127
جزء : 5 رقم الصفحة : 126
(5/197)
يقول الحق جل جلاله : {وقال الذين كفروا} يعني : قريشاً ، وهم القائلون : {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىا رَبَّنَا} [الفرقان : 21] ، والتعبير عنهم بعنوان الكفر ؛ لذمهم ، والإشعار بِعِلِّيَّةِ الحكم ، قالوا : {لولا نُزِّل عليه القرآنُ} ، نُزِّل هنا بمعنى أُنْزِلَ ، وإلا كان متدافعاً ؛ لأن التنزيل يقتضي التدرج بصيغته ، وهم إنما اقترحوا الإنزال جملة ، أي : هلاَّ أنزل القرآن ، حال كونه {جملةً واحدةً} أي : دفعة واحدة في وقت واحد ، كما أنزلت الكتب الثلاثة ، وماله أنزل مفرقاً في سنين ؟ وبطلان هذه المقالة الحمقاء مما لا يكاد يخفى على أحد ؛ فإن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ، ودليل كونها من عند الله ، إعجازُها ، وأما القرآن الكريم ، فبينة صحته ، ودليل كونه من عند الله ، نظمُه المعجز الباقي على مر الدهور ، ولا ريب في أن ما يدور عليه فلك الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال ، ومن ضرورية تغيرها وتجددها تغيرُ ما يطابقها حتماً ، على أن له فوائد أخرى ، قد أشير إلى بعض منها بقوله : {كذلك لنُثبّتَ به فؤادَك} ؛ فإنه استئناف وارد من جهته تعالى ؛ لرد مقالتهم الباطلة ، وبيان الحكمة في التنزيل التدريجي. قاله أبو السعود.
أي : أنزلناه كذلك مفرقاً في عشرين سنة ، أو ثلاث وعشرين ؛ لنثبت به فؤادك ، ونقوي به يقينك ، فَكُلَّمَا نزل شيء من الوحي قوي القلب ، وازداد اليقين ، حتى يصير إلى عين اليقين وحق اليقين. قال القشيري : لأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل - عليه السلام - بالرسالة في كل وقت وحين. وكثرة نزوله كان أوجبَ ؛ لسكون قلبه ، وكمال رَوْحه ، ودوام أُنْسه ، ولأنه كان جبريل يأتيه في كل وقت بما يقتضيه ذلك الوقتُ من الكوائن والأمور الحادثة ، فكان ذلك أبلغ في كونه معجزة ، وكان أبعدَ من التهم من أن يكون من جهة غيره ، وبالاستعانة بمن سواه حاصلاً. هـ.
(5/198)
وقال القرطبي بعد كلام : أيضاً : لو أنزل جملة ، بما فيه من الفرائض ؛ لثقل عليهم ، وأيضاً : في تفريقه تنبيه لهم ، مرة بعد مرة ، وهو أنفع لهم ، وأيضاً فيه ناسخ ومنسوخ ، ولو نزل ذلك جملة لنزل فيه الأمر بالشيء وبتركه ، وهو لا يصح. هـ. وقال النسفي : لنقوي ، بتفريقه ، فؤادك ؛ حتى تعيه وتحفظه ؛ لأن المتلقي إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء ، وجزءاً عقب جزء ، ولو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه. أو : لنُثبت به فؤادك عن الضجر ؛ وذلك بتواتر الوصول وتتابع الرسول ؛ لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب. هـ.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 128
ورتلناه ترتيلا} أي : كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلاً بديعاً عجيباً ، أي : قدرناه آية بعد
128
آية ووقفة عقب وقفة ، وأمرنا بترتيل قراءته ، بقولنا : {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل : 4] أو : فصلناه تفصيلاً ، أو : بيّناه تبييناً فيه ترتيل وتثبيت. {ولا يأتونك بمَثَلٍ} ؛ بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة ، واقتراحاتهم الفاسدة الخارجة عن دائرة العقول ، الجارية لذلك مجرى الأمثال ، {إلا جئناك بالحقِّ} ؛ إلا أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد عنه ، الذي ينحى عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال ، كما مر من الأجوبة الحقية ، القالعة لعروق أسئلتهم الشنيعة ، الدامغة لها بالكلية. وجئناك بأحسن {تفسيراً} أي : بيانأ وتفصيلاً ، بمعنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته ، لا أن ما يأتون به حَسَنٌ ، وهذا أحسن منه ، وإنما المعنى : لا يسألونك عن شيء غريب إلا جئناك بما يبطله وما يكشف معناه ، ويفسره غاية التفسير.
(5/199)
ثم ذكر مآل الكفرة المقترحين لهذه الشُّبَهِ ، فقال : {الذين يُحشرون على وجوههم إلى جهنم} أي : يُحشرون كائنين على وجوههم ، يُسبحون عليها ، ويجرون إلى جهنم. وقيل : مقلوبين ؛ وجوههم إلى قفاهم ، وأرجلُهم فوق ، {أؤلئك شرٌّ مكاناً} أي : مكانة ومنزلة ، أو : مسكناً ومنزلاً ، {وأضلُّ سبيلا} ؛ وأخطأ طريقاً.
ونزلت الآية لَمَّا قالوا : إن أصحاب محمد شر خلق الله وأضل الناس طريقاً. وقيل : المعنى : إن حاملكم على هذه السؤالات اعتقادُكُمَ أن محمداً ضال ، ومكانه حقير ، ولو نظرتم إلى ما يؤول إليه أمركم ، لعلمتم أنكم شر منه مكاناً ، وأضل سبيلاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة : تثبيت القلوب على الإيمان ، وتربية اليقين ، يكون بصحبة الأبرار ورؤية العارفين الكبار ، والترقي في معاريج التوحيد ، إلى أن يفضي إلى مقام العيان ، يكون بعقد الصحبة مع أهل التربية ، وخدمتهم وتعظيمهم ، حتى يوصلوه إلى ربه. ومن شأنهم أن الله يدافع عنهم ، ويجيب من سألهم تشغيباً ، فيلهمهم الجواب ، فضلاً منه ، فلا يُسألون عن شيء إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً ، ثم هدد من صغَّرهم وحقَّر شأنهم بقوله : {الذين يُحشرون...} الآية. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 128
يقول الحق جل جلاله : {ولقد آتينا موسى الكتاب} ؛ أُنزل عليه جملة ، ومع ذلك كفروا وكذبوا به ، كما قال تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِىَ مُوسَىا مِن قَبْلُ} [القصص : 48] ، فكذلك هؤلاء ، لو نزل جملة ، كما اقترحوا ، لكفروا وكذبوا كما كذَّب أولئك. {وجعلنا
129
معه أخاه هارونَ وزيراً} ، فأخاه : مفعول أول لجعل ، و (وزيراً) : مفعول ثان ، أي : جعلنا معه أخاه مقوياً ومعيناً. والوزير : من يُرجع إليه ويُتَحَصَّنُ برأيه ، من الوزَر ، وهو الملجأ.
والوزارة لا تنافي النبوة ؛ فقد كان يُبعث في الزمن الواحد أنبياء ، ويُؤمرون أن يوازر بعضهم بعضاً. أو : يكون وزيراً أول مرة ورسولاً ثانياً.
(5/200)
{فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذّبوا بآياتنا} أي : فرعون وقومه. والمراد بالآيات : التسع الظاهرة على يد موسى عليه السلام ، ولم يتصف القوم بالتكذيب عند إرسالها إليهم ضرورة ؛ لتأخير تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن إرسالها ، بل إنما وُصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بياناً لعلة استحقاقهم ، لما حكي بعده من التدمير. أي : فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها ، فكذبوهما تكذيباً مستمراً ، {فدمَّرناهم} إثر ذلك {تدميراً} عجيباً هائلاً ، لا يقادر قدره ، ولا يدرك كنهه. فاقتصر على حاشيتي القصة ؛ اكتفاء بما هو المقصود. انظر أبا السعود.
الإشارة : أعباء الرسالة والولاية لا تحمل ولا تظهر إلا بمُعين. قال تعالى : {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىا} [المائدة : 2] ، ولا بد لصاحب الخصوصية من إخوان يستعين بهم على ذكر الله ، ويستظهر بهم على إظهار طريقة الله. فإن وُجد وَليّ لا إخوان له ، ولا أولاد ، فلا يكون إلا غالباً عليه القبض ، مائلاً لجهة الجذب ، فيقل الانتفاع به ، ولا تحصل التوسعة للوَلي إلا بكثرة الأصحاب والإخوان ، يعالجهم ويصبر على جفاهم ، حتى يتسع صدره وتتسع معرفته. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 129
قلت : (وقوم) : منصوب بمضمر يدل عليه (دمرناهم) ، أي : ودمرنا قوم نوح ، و (عاداً وثموداً) : عطف على (قوم نوح).
يقول الحق جل جلاله : {و} دمرنا أيضاً {قومَ نوحٍ} ، وذلك أنهم {لمَّا كذَّبوا الرسلَ} ؛ نوحاً ، ومن قبله شَيْثاً وإدريس ، أو : لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع ؛ لاتِّفَاقِهمْ على التوحيد والإسلام ، {أغرقناهم} بالطوفان ، {وجعلناهم} أي : وجعلنا إغراقهم أو قصتهم {للناس آية} : عبرة يعتبر بها كل من يشاهدها أو يسمعها.
{وأَعْتَدنا} ؛ هيأنا {للظالمين} أي : لهم. وأظهر في موضع الإضمار ؛ للإيذان بتجاوزهم الحد في الظلم ، أو لكل ظالم ظلم شرك ، فيدخل كل من شاركهم ، كقريش وغيرهم ،
(5/201)
130
أي : هيأنا {عذاباً أليماً} ، أي : النار المؤبدة عليهم.
{و} دمرنا أيضاً {عاداً وثموداً} ، وقد تقدم في الأعراف ، وهو كيفية تدميرهم. {وأصحابَ الرَّسّ} ، هم قوم شعيب ؛ قال ابن عباس : أصحاب الرسّ : أصحاب البئر. قال وهب : كانوا أهل بئر ، قعوداً عليها ، وأصحابَ مواشي ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم شعيباً ، فآذوه ، وتمادوا في طغيانهم فبينما هم حول البئر - والبئر في وسط منازلهم - انهارت بهم وبديارهم ، فهلكوا جميعاً. وقال قتادة : الرسُّ : قرية بفَلْح اليمامة ، قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله. وقيل : هم بقية قوم هود وقوم صالح ، وهو أصحاب البئر ، التي قال : {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج : 45].
وقال سعيد بن جبير وغيره : قوم كان لهم نبي ، يقال له : حنظلة بن صفوان ، وكان بأرضهم جبل ، يقال له : فتخ ، مَصْعَدُه في السماء ميل ، وكانت العنقاء تنتابه ، وهي كأعظم ما يكون من الطير ، وفيها من كل لون - وسموها العنقاء ؛ لطول عنقها - وكانت تنقض على الطير فتأكلها ، فجاعت ذات يوم ، فانقضت على صبي فذهبت به ، - وسميت عنقاء مغرب ؛ لأنها تُغّرِّبُ ما تأكله عن أهله فتأكله - ثم انقضت على جارية قد ترعرعت ، فأخذتها فطارت بها ، فشكوا إلى نبيهم ، فقال : اللهم خذها واقطع نسلها ، فأصابتها صاعقة ، فاحترقت ، فلم يُر لها أثر ، فصارت مثلاً عند العرب. ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكم الله. وقال مقاتل والسدي : هم أصحاب بئر إنطاكية ، وتسمى الرس ، قتلوا فيها حبيباً النجار ، فنُسبوا إليها ، وهم الذين ذُكروا في (يس). وقيل هم أصحاب الأخدود الذين حفروه ، والرسُّ في كلام العرب : كل محفور ؛ مثل البئر ، والقبر ، والمعدن ، وغير ذلك ، وجمعها : رساس. وقال عكرمة : هم قوم رسّوا نبيهم في بئر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 130
(5/202)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أول الناس مِمَّنْ يدخل الجنة عبد أسود ، وذلك أن الله تعالى بَعَثَ نَبِياً إلى قَرْيَةٍ ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إلا ذلِكَ الأَسْوَد ، فحَفَرَ أَهْلُ القَرْيَةِ بِئْراً وأَلْقوا فِيها نبيهم ، وأطْبقُوا عَلَيْهَا بحَجر ضخْم ، فكَانَ العَبْدُ يَحْتَطِب على ظهره ، ويبيعه ، ويأتيه بطعامه ، فيعينه الله تعالى على رفع تلك الصخرة حتى يُدليه إليْهِ. فبينما هو يحْتَطِبُ ذَات يَوْمٍ إذا نام فَضَرَبَ على أذنهِ سَبْعَ سِنينَ ، ثم جاء بطَعَامه إلى البئر فلم يَجِده. وكان قومُه قد بدا لهم فاسْتَخْرجُوه وآمَنُوا بِهِ ، ومات ذلك النبي ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " إنَّ ذَلِكَ الأسْوَدَ لأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّة " ، يعني من قومه. هـ. وهؤلاء آمنوا فلا يصح حمل الآية عليها ، إلا أن يكون أحدثوا شيئاً بعد نبيهم ، فدمرهم الله.
وقال جعفر بن محمد عن أبيه : أن أصحاب الرسّ : السحّاقات ، قال أنس : قال
131
النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أن يستكفي الرجالُ بالرجالِ ، والنساءُ بالنساءِ " ، وذلك السحاق ، ويقال له أيضاً : المساحقة ، وهو حرام بالإجماع. وسبب ظهوره : أن قوماً أحدثوا فاحشة اللواط ، حتى استغنوا عن النساء ، فبقيت النساء معطلة ، فجاءتهن شيطانة في صورة إمرأة ، وهي الوَلِهات بنت إبليس ، فشهَّت إلى النساء ركوب بعضهن بعضاً ، وعلمتهن كيف يصنعن ذلك ، فسلط عليهم صاعقة من أول الليل ، وخسفاً من آخر الليل ، وصيحة مع الشمس ، فلم يبق منهم بقية. هـ.
(5/203)
{وقُُروناً} أي : دمرنا أهل قرون. والقرن سبعون سنة ، وقيل : أقل ، وقيل : أكثر ، {بين ذلك} أي : بين ذلك المذكور من الأمم والطوائف ، {كثيراً} ، لا يعلم عددها إلا العليمُ الخبير ، {وكلاً} من الأمم المذكورين قد {ضربنا له الأمثالَ} أي : بيَّنا له القصص العجيبة ، الزاجرة عما هم عليه من الكفر والمعاصي ، بواسطة الرسل. وقيل : المراد : تبيين ما وقع لهم ، ووصف ما أدى إليه تكذيبهم لأنبيائِهِمْ ، من عذاب الله وتدميرهم إياهم ، ليكون عبرة لمن بعدهم ، {وكلاً} أي : وكل واحد منهم {تَبَّرنا تتبيراً} أي : أهلكنا إهلاكاً عجيباً. والتتبير : التفتيت. قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته.
ثم بيّن بعض آثار الأمم المُتَبَّرَةِ ، فقال : {ولقد أَتَوْا} يعني : أهل مكة {على القرية} ، وهي سدوم ، وهي أعظم قرى قوم لوط ، وكانت خمساً ، أهلك الله أربعاً ، وبقيت واحدة ، كان أهلها لا يعملون الخبيث ، وأما البواقي فأهلكها بالحجارة ، وإليه أشار بقوله : {التي أُمطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} أي : أمطر الله عليها الحجارة. والمعنى : والله لقد أتى قريش في متاجرهم إلى الشام على القرية التي أهلكها الله ، وبقي آثارها خاربة ، {أَفَلَمْ يكونوا يرونها} في مرورهم ورجوعهم فيتفكرون ويؤمنون ، {بل كانوا لا يرجون نُشُوراً} أي : بل كانوا قوماً كفرة بالبعث ، لا يخافون ولا يأملون بعثاً ، كما يأمله المؤمنون ؛ لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو : بل كانوا قوماً كفرة بالبعث ، منهمكين في الغفلة ، يرون ما نزل بالأمم أمر اتفاقياً ، لا بقدرة الباقي ، فطابع الكفر منعهم من التفكر والاعتبار. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 130
(5/204)
الإشارة : ينبغي للمؤمن العاقل ، المشفق على نفسه ، أن ينظر فيمن هلك من الأمم السالفة ، ويتأمل في سبب هلاكهم ، فيشد يده على الاحتراز مما استوجبوا به الهلاك ، وهو مخالفة الرسل وترك الإيمان ؛ فيشد يده على متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي ، ويرغب فيما رَغَّب فيه ، ويهتدي بهديه ، ويقتدي بسنته ، ويربي إيمانه ، ويجعل البعث والنشر والحشر بين عينيه ، فهذه طريق النجاة. وينبغي للمريد ، إذا رأى فقيراً سقط من درجة الإرادة ويبست أشجاره ، أن يحترز من تلك الزلاقة التي زلق فيها ، فيبحث عن
132
سبب رجوعه ، ويجتنبه جهد استطاعته. ومرجعها إلى ثلاث : خروجه من يد شيخه إلى غيره ، وسقوط تعظيم شيخه من قلبه ؛ بسبب اعتراض أو غيره ، واستعمال كثرة الأحوال ، حتى يلحقه الملل. نسأل الله الحفظ من الجميع بمنِّه وكرمه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 130
يقول الحق جل جلاله : {وإِذا رَأَوْكَ} أي : مشركو مكة {إِن} ؛ ما {يتخذونَك إلا هُزُواً} أي : مهزوءاً بك ، أو محل هزء ، حال كونهم قائلين : {أهذا الذي بعثَ الله رسولاً} ، ورسولاً ، حال من العائد المحذوف ، أي : هذا الذي بعثه الله رسولاً ، والإشارة ؛ للاستحقار في اعتقادهم وتسليمهم البعث والرسالة ، مع كونهم في غاية الإنكار لهما ؛ على طريق الاستهزاء ، وإلا لقالوا : أبعث الله هذا رسولاً.
(5/205)
{إن كاد لَيُضلُّنا عن آلهتنا} أي ليصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً ، والعدول إلى الإضلال ؛ لغاية ضلالتهم بادعاء أن عبادتها طريق سَوي. {لولا أن صبرنا عليها} لصرفنا عنها ، وهو دليل على مجاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوتهم ، وإظهار المعجزات لهم ، حتى شارفوا أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لولا فرط لجاجهم وتقليدهم. قال تعالى : {وسوف يعلمون حين يَرَوْن العذابَ} الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم ، {من أضلُّ سبيلاً} ، وأخطأ طريقاً. وفيه ما لا يخفى من الوعيد والتنبيه على أنه تعالى يُمهل ولا يهمل.
{أرأيتَ من اتخذ إلهَهُ هَواهُ} أي : أطاع هواه فيما يذر ويفعل ، فصار معبوده هواه ، يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا الذي لا يرى معبوده إلا هواه ، كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى وتهديه إليها ؟ يُروى أن الواحد من أهل الجاهلية كان يعبد الحجر ، فإذا مر بحجر أحسن منه تركه وَعَبَد الثاني. وقال الحسن : هو في كل متبع هواه. {أفأنت تكون عليه وكيلاً} ؛ حفيظاً تحفظه عن متابعة هواه وعبادة ما يهواه. والفاء ؛ لترتيب الإنكار على ما قبله ، كأنه قيل : أَبَعْدَمَا شاهدت من غلوه في طاعة الهوى ، وعتوه عن اتباع الهدى ، تقهره على الإيمان ، شاء أو أبى ، وإنما عليك التبليغ فقط.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 133
أم تَحْسَبُ أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون} ، " أم " : منقطعة ، بمعنى بل ، أي : بل أتظن أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات حق السماع ، أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ والأنكال ؟ {إنْ هم كالأنعام} أي : ما هم ، في عدم الانتفاع بما
133
(5/206)
يقرع آذانهم من قوارع الآيات ، وانتفاء التأثير بما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات ، إلاّ كالبهائم ، التي هي غاية في الغفلة ، ومَثل في الضلالة ، {بل هم أضلُّ سبيلاً} ؛ لأن البهائم تنقاد لصاحبها الذي يعلفها ويتعاهدها ، وتعرف من يُحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وتهتدي لمراعيها ومشاربها ، وتأوي إلى معاطنها ، وهؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم ، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، الذي هو أعدى عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أقبح المضار والمعاطب ، ولا يهتدون الحق ، الذي هو الشرع الهني ، والمورد العذب الروي ، ولأنها ، إن تعتقد حقاً مستتبعاً لاكتساب الخير ، لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقتراب الشر ، بخلاف هؤلاء ؛ حيث مهَّدوا قواعد الباطل ، وفرعوا أحكام الشرور ، ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة عليها ، لا تتعدى إلى أحد ، وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفساد ، وصد الناس عن سنَن السداد ، وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال ، لعدم القوى العقلية ، فلا تقصير من قبلها ، ولا ذم ، وهؤلاء متمكنون من القوى العقلية مضيعون الفطرة الأصلية ، مستحقون بذلك أعظم العقاب ، وأشد النكال. هـ. وأصله للبيضاوي.
(5/207)
الإشارة : تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره من أعظم ما يُقرب إلى الله ، ويوصل إلى رضوان الله ، ويدخل العبد على مولاه ؛ لأنه باب الله الأعظم ، والواسطة الكبرى بين الله وبين عباده فمن عظَّمه صلى الله عليه وسلم وبجّله وخدمه أتم الخدمة ، أدخله الحضرة ، على التوقير والتعظيم والهيبة والإجلال. ومن حاد عن متابعتة فقد أتى البيت من غير بابه ؛ كمن دخل حضرة الملك بالتسور ، فيستحق القتل والطرد والبُعد. وإدخاله على الله : دلالته على من يعرفه بالله ، وقد يوصله بلا واسطة ، لكنه نادر. ومن أهمل هذا الجانب واستصغره طرده الله وأبعده ، وانسحب عليه قوله : {وإِذا رأوك إِن يتخذونك إلا هزوا} وكا ممن اتخذ إلهه هواه ، وكان كالبهائم ، أو أضل ؛ لأن من اتبع الواسطة كان هواه تابعاً لما جاء من عند الله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكُون هَواه تَبِعاً لما جئتُ به " وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 133
يقول الحق جل جلاله : {ألم تَر} يامحمد {إلى رَبّكَ} أي : ألم تنظر إلى بديع
134
صنع ربك ودلائل قدرته وتوحيده. والتعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ، لتشريفه وتبجيله ، وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار قدرته ورحمته ، {كيف مَدَّ الظِّلَّ} أي : بسطه حتى عمَّ الأرض ، وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس ، في قول الجمهور ؛ لأنه ظل ممدود ، لا شمس معه ولا ظلمة ، فهو شبيه بظل الجنة. وقيل : مد ظل الأشياء الشاخصة أول النهار ؛ من شجر ، أو مدر ، أو إنسان ، ثم قبضها وردها إلى المشرق. {ولو شاء لجعله ساكناً} أي : دائماً لا يزول ولا تُذهبه الشمس ، أو : لا ينتقص بسيرها. {ثم جعلنا الشمسَ عليه} أي : على الظل {دليلاً} ، لأنه بالشمس يُعرف الظل ، فلولا طلوعها وظهورها ما عرف الظل ، ولا ظهر له أثر ، فالأشياء تُعرف بأضدادها.
(5/208)
{ثم قبضناه} أي : أخذنا ذلك الظل الممدود {إلينا} ؛ إلى حيث إرادتنا {قَبْضاً يسيراً} أي : على مهل قليلاً قليلاً ، حسب ارتفاع دليله ، على حسب مصالح المخلوقات ومرافقها.
{وهو الذي جعلَ لكم الليلَ لباساً} أي : جعل الظلام الساتر كاللباس {والنوم سباتاً} أي : راحة لأبدانكم ، وقطعاً لأعمالكم. والسبت : القطع ، والنائم مسبوت ؛ لأنه انقطع عمله وحركته ، وقيل السبات : الموت ، والميت مسبوت ؛ لأنه مقطوع الحياة ، كقوله : {وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ} [الأنعام : 60]. ويعضده ذكر النشور في مقابلته بقوله : {وجعل النهار نُشُوراً} أي : ذا نشور ، أي : انبعاث من النوم ، كنشور الميت ، أو : ينشر فيه الخلق للمعاش.
وهذه الآية ، مع دلالتها على قدرته تعالى ، فيها إظهار لنعمته تعالى ؛ لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية ، وفي النوم واليقظة - المشبهين بالموت والبعث - عبرة للمعتبرين. قال لقمان لابنه : كما تنام فتوقظ ، كذلك تموت فتنشر.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
(5/209)
وهو الذي أرسل الرياحَ} ، وعن المكي بالإفراد ، {نشراً} : جمع نشور ، أي : أرسلها للسحاب حتى تسوقها إلى حيث أراد تعالى أن تمطر ، {بين يدي رحمته} أي : أرسلها قدام المطر ، لأنه ريح ، ثم سحاب ، ثم مطر. وقرأ عاصم الباء ، أي : مبشرات بالمطر. {وأنزلنا من السماء ماءً طَهُوراً} أي : مطهراً بالغاً في التطهير ، كقوله : {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [الأنفال : 11] وهو اسم لما يتطهر به ، كالوضوء والوقود ، لِمَا يتوضأ به ويوقد به. وقيل : طهور في نفسه ، مبالغة في الطاهرية ، فالطهور في العربية يكون صفة ، كما تقول : ماء طهور ، واسماً ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " التراب طهور ، والمؤمن طهور " وقد يكون مَصْدَراً بمعنى الطهارة ، كقولك : تطهرت طهوراً حسناً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة إلا بطهور " ووصْفُهُ تعالى الماءَ بذلك ؛ ليكون أبلغ في النعمة ، فإن الماء الطهور أنفع
135
وأهنأ مما خالطه ما يزيل طهوريته ، أي : أنزلناه كذلك. {لنُحيي به} أي : بالمطر الطهور {بلدةً ميتاً} بالجدب والقحط ، فحييت بالنبات والعشب. والتذكير ؛ لأن البلدة بمعنى البلد ، والمراد به : القطعة من الأرض عامرة أو غامرة. {ونُسْقِيَهُ} أي : ذلك الماء الطهور ، عند جريانه في الأودية ، أو اجتماعه في الآبار والحياض ، {مما خلقنا أنعاماً وأَنَاسِيَّ كثيراً} أي : نسقي ذلك بهائم وناساً كثيراً. والأناسي : جمع أُنْسِيّ ، ككرسي وكراسي. وقيل : جمع إنسان ، وأصله : أناسين ، وأبدلت النون ياءً ، وأدغمت التي قبلها فيها. وقدَّم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي ؛ لأن حياتها سبب لحياتهما. وتخصيص الأنعام من بين سائر الحيوان ؛ لأن عامة منافع الإنسان متعلقة بها.
(5/210)
{ولقد صرَّفناه} أي : هذا القول ، الذي هو إنشاء السحاب وإنزال المطر ، على الوجه الذي مرّ من الغايات الجميلة ، في القرآن وغيره من الكتب السماوية ، أو : صرفنا المطر عاماً بعد عام وفي بلدة دون أخرى. أو صرفناه بينهم وابلاً ، وطَلاًّ ، ورذاذاً وديمة. وقيل : التصريف راجع إلى الريح. وقيل : إلى القرآن المتقدم في قوله : {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآن} [الفرقان : 32] ويعضده : {وَجَاهِدْهُم بِهِ} [الفرقان : 52]. وقوله : {بينهم} أي : بين الناس جميعاً متقدمين ومتأخرين ، {ليذَّكَّرُوا} ؛ ليتفكروا ويعرفوا قدر النعمة فيه ، أو : ليعرفوا بذلك كمال قدرته وسعة رحمته ، {فأبَى أكثرُ الناس} ممن سلف وخلف {إلا كفوراً} أي : جُحُداً لهذه النعمة وقلة اكْتِرَاثٍ بها ، وربما نسبوها إلى غير خالقها ، فيقولون : مُطرنا بنَوْء كذا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
وفي البخاري عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ ، فَأَما مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْل الله ورَحْمَتهِ ؛ فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي ، كَافِرٌ بالكَواكِب. وأما مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا ، فهو كافِرُ بِي ، مُؤْمِنٌ بالكَواكِبِ " فمن نسب الأمطار إلى الأنواء ، وجَحَد أن تكون هي والأنواء من خلق الله ، فقد كفر ، ومن اعتقد أن الله خالقها ، وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها ، لم يكفر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس سَنَةٌ بأمطر من الأخرى ، ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق ، فجعلها في سماء الدنيا ، في هذا القطر ، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم. ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوَّل الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار " والله تعالى أعلم.
الإشارة : الكون كله ، من جهة حسه الظاهر ، ظل آفل ، وضباب حائل ، لا وجود له
136
(5/211)
من ذاته ، وإنما الوجود للمعاني القديمة الأزلية. فنسبة الكائنات ، من بحر المعاني الأزلية ، كنسبة ظلال الأشجار في البحار. فظلال الأشجار في البحار لا تمنع السفن من التسيار ، فكذلك ظلال الكائنات لا تمنع سفن الأفكار من الخوض في بحار المعاني الأزلية الجبروتية ، بل تخرقها ، وتخوض في بحار الأحدية الجبروتية ، الأولية والآخرية ، والظاهرية والباطنية ، والعلوية والسفلية ، ولا يحجبها عن الله ظل شيء من الكائنات ، وإليه الإشارة قوله : ألم تر ، أيها العارف ، إلى ربك كيف مد الظل ، أي : مد ظل الكائنات ؛ ليعرف بها كنز ربوبيته وبطون غيبه ، ثم يرفع ذلك الظل عن عين البصيرة ، التي أراد فتحها ، فتشاهد بطون الأزل وغيب الغيب ، وتصير عارفة بالله. ولو شاء لجعله ساكناً ، فيقع به الحجاب ، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر ، دليلاً ، فيستدل بالله على غيره ، فلا يرى غيره ، ثم قبضناه ، أي : ذلك الظل ، عن قلب السائر أو العارف ، قبضاً يسيراً ، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً ، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات ، فلا يشهد إلا المكوِّن ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب ، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله ؛ قياماً برسم الحكمة ، وأداءاً لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً ، أي : ستراً ورداء من الهفوات ؛ لأن القبض يغلب فيه السكون ، وجانبه مأمون ، والنوم - أي : الزوال - سُباتاً ، أي : راحة من كد التدبير والاختيار ، وجعل نهار البسط نشوراً ، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف ، إن قام صاحبه بآدابه ، ولا يقوم به إلا القليل ؛ لأنه مزلة أقدام ، ولذلك قال في الحكم : " ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط ، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً ".
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
(5/212)
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته ، أي : معرفته ؛ إذ لا رحمة أعظم منها ، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً ، وهو العلم بالله ، الذي تحيا به الأرواح والأسرار ، وتطهر به قلوب الأحرار ، لنحيي به بلدة ميتاً ، أي : روحاً ميتة بالجهل والغفلة ، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني ؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها ، جَهلَ هذا مَنْ جهله ، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا. ولذلك قال تعالى : {ولقد صرفناه بينهم} ؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء ، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له ، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
ثم إن هذا الماء إنما يسقى على أيدي الوسائط. وكان القياس تعددهم كتعدد سحابات الأمطار بتعدد الأقطار ، لكن خُولف ذلك في حق نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ تشريفاً لقدره ، وتعظيماً لأمره.
137
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
يقول الحق جل جلاله : {ولو شئنا لبَعَثْنَا في كل قريةٍ نذيراً} أي : رسولاً يُنذر أهلها ، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر ، فيخف عليك أعباء النبوة ، ولكنا لم نشأ ذلك ؛ فحملناك ثقل نذارة جميع القرى ، حسبما نطق به قوله تعالى : {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان : 1] ؛ لتستوجب بذلك الدرجة القصوى ، وتفضل على سائر الرسل والأنبياء ، {فلا تُطع الكافرين} فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم. وكما آثرْتُك على جميع الأنبياء فآثر رضاي على جميع الأهواء ، وكأنه نهى للرسول صلى الله عليه وسلم عن المداراة معهم ، والتقصير في الدعوة ؛ لئلا تغلبه الشفقة عن مقابلتهم بصريح الحق.
قال القشيري : {فلا تُطع الكافرين} أي : كُنْ قائماً بحقِّنا ، من غير أن يكون منك جنوحٌ إلى غيرنا ، أو مبالاةٌ بسوانا ، فإنا نَعْصِمُكَ بكل وجهٍ ، ولا نرفع عنكَ ظِلَّ عنايتنا بحالٍ. هـ.
(5/213)
{وجاهِدْهُمْ به} أي : بالقرآن ؛ بأن تقرأ عليهم ما فيه من الزواجر والقوارع والمواعظ ، وذكر أحوال الأمم الهالكة ، {جهاداً كبيراً} ؛ عظيماً موقعه عند الله ؛ لما يتحمل فيه من المشاق ، فإن دعوة كُلِّ العالمين ، على الوجه المذكور ، جهاد كبير ، أو : (جاهدهم به) ؛ بالشدة والعنف ؛ من غير مداراة ولا ملاينة ، فَكِبَرُ الجهادِ هو ملابسته بالشدة والعنف ، كقوله : {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة : 73]. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الإنذار والوعظ بالمقال مع الهمة والحال عزيز الوجود ، فقلَّ أن يجتمع منهم ، في العصر الواحد ، ثلاثة أو أربعة في الإقليم الكبير ؛ لأن الله تعالى لم يشأ ذلك بحكمته ، قال تعالى : {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً} ، وكلما قَلَّ عددهم ، وعظُم الانتفاع بهم ، عظُم قدرهم ، فينبغي للمذكِّر أن يُذكِّر كلاًّ بما يليق به ، فأهل العصيان ينبغي له أن يشدد في الإنذار ، ولا يداريهم ولا يداهنهم. وأهل الطاعة ينبغي له أن يُبشِّرهم ويسهل الأمر عليهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " يَسِّروا ولا تُعَسِّروا ، وبَشِّروا ولا تُنَفِّرُوا " ، فيحتاج المذكِّر إلى فطنة وفراسة ، حتى يعطي كل واحد ما يليق به ، ويخاطب كل واحد بما يطيقه. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 137
قلت : أصل المرج : الخلط والإرسال ، ومنه قوله تعالى : {فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ق : 5] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " كيف بك يا عبدَ اللهِ إذا كنت في حُثَالةٍ من الناس ، قد مرجتْ عهودهُمْ وأماناتهمْ ، وصاروا هكذا ، وشَبَّكَ بين أصابعه ". يقال : مرج دابته وأمرجتها : إذا أرسلتها في المرعى. ومنه قيل للروضة : مرج.
(5/214)
يقول الحق جل جلاله : {وهو الذي مَرَجَ البحرين} أي : أرسلهما ، وخَلاَّهُمَا متجاورَيْن متلاصقَيْن غير متمازجَيْن. {هذا عذبٌ فُرَاتٌ} أي شديد العذوبة ، قامع للعطش ؛ لعذوبته ، أي : برودته ، {وهذا مِلْحٌ أُجاجٌ} : بليغ الملوحة ، أو هذا عذب لا ملوحة فيه ، وهذا ملح لا عذوبة فيه ، مع اتحاد جنسهما ، {وجعل بينهما برزخاً} ؛ حائلاً بقدرته ، يفصل بينهما ويمنعهما التمازج ؛ لئلا يختلطا ، {وحِجْراً محجوراً} أي : وستراً ممنوعاً عن الأعين ، كقوله : {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء : 45] ، أي : جعل بينهما حاجزاً خفياً ؛ لئلا يغلب أحدهما الآخر ، أو : سداً ممنوعاً يمنعهما فلا يبغيان ، ولا يفسد الملحُ العذبَ ، ولو خَلاَّ الله تعالى البحر الملح ، ولم يلجمه بقدرته ، لفاض على الدنيا ، واختلط مع العذب وأفسده.
ثم ذكر دليلاً آخر ، فقال : {وهو الذي خلقَ من الماءِ} أي : النطفة {بَشَراً} ؛ إنساناً {فجعله نسباً وصِهْراً}. قسم البشر قسمين : ذوي نسب ، أي ذكوراً ، ينسب إليهم ، فيقال : فلان ابن فلان. وذوات صهر ، أي : إناثاً يصاهر بهن ، فهو كقوله : {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا} [القيامة : 39]. قال ابن جزي : والنسب : أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أمّ ، قَرُبَ ذلك أو بَعُدَ. والصهر : هو الاختلاط بالتناكح. هـ. وعن علي رضي الله عنه : النسب ما لا يحل نكاحه ، والصهر : ما يحل نكاحه. وعن الضحاك ومقاتل : النسب سبعة ، والصهر خمسة ، ثم قرأ هذه الآية : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء : 23]. فالسبعة الأولى : نسب ، والباقي : صهر. هـ. والأصح أن التسعة نسب ، والباقي صهر.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 138
وكان ربك قديراً} ؛ حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً ذا نوعين ، ذكراً وأنثى ، أو : حيث خلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفةٍ وطباعٍ متباعدة ، وجعله قسمين متقابلين ؛ ذكراً وأنثى.
(5/215)
{ويعبدون من دون الله} ؛ بعد هذا البرهان الواضح على توحيده ، {ما لا ينفعُهم} إن عبدوه ، {ولا يضرُّهم} إن تركوه ، وهم الأصنام ، أو كل من عبد من دون الله ؛ إذ
139
المخلوق كله عاجز ، {وكان الكافر على ربه} ، الذي ذكر آثار قدرته ودلائل ربوبيته ، {ظَهِيراً} ؛ مُعِيناً ، يظاهر الشيطان ويعينه على الكفر والعصيان. والمعنى : أن الكافر ؛ بعبادة الصنم ، يتابع الشيطان ويُعاونه على معصية الرحمن. وقال ابن عرفة : أي : مظاهراً لأعداء الله على أولياء الله ، فتلك إعانته. هـ.
الإشارة : مَرج البحرين ؛ بحر الشريعة وبحر الحقيقة ، فبحر الشريعة عذب فرات ؛ لأنه سهل المدارك ، يناله الخاص والعام ، وبحر الحقيقة ملح أجاج ؛ لأنه لا يناله إلا من ذاق مرارة فطام النفس من هواها ، ومجاهدتها في ترك مُنَاها ، حتى تموت ثم تحيا ، فحينئذٍ تتلذذ بمشاهدة مولاها ، وتطيب حياتها في أخراها ودنياها. فبحر الحقيقة صعب المرام ، لا يركبه إلا الشجعان ، وفي ذلك يقول صاحب العينية رضي الله عنه :
وَإِيَّاك جَزْعاً لا يَهُولُكَ أَمْرُهَا
فَمَا نَالَهَا إلاَّ الشُّجَاعُ المُقَارعُ
والبرزخ الذي جعل بينهما : نور العقل ، يميز بين محل الشرائع ومحل الحقائق ، فيعطي كل ذي حق حقه ، ويوفي كل ذي قسط قسطه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 138
يقول الحق جل جلاله : {وما أرسلناك} يامحمد {إلا مبشراً} للمؤمنين {ونذيراً} للكافرين ، {قل ما أسألكم عليه} ؛ على تبليغ الرسالة {من أجْرٍ} من جهتكم ، فتقولون : أن يتخذ إلى ربه طريقاً تُوصله إليه ، بإنفاقِهِ مَالَهُ في سبيل الله ، فليفعل وليعطه لغيره.
(5/216)
وقيل : الاستثناء متصل ، أي : لا أسألكم عليه أجراً ، إلا فعل من يريد أن يتقرب إليه تعالى ، ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة ، حسبما أدعوكم إليهما. فَصوّر ذلك بصورة الأجر ؛ من حيث أنه مقصود الإتيان به ، واستثناه منه ؛ قطعاً لشائبة الطمع ، وإظهاراً لغاية الشفقة عليهم ، حيث جعل ذلك ، مع كون نفعه عائداً إليهم ، عائداً إليه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : العلماء بالله خلفاء الرسل ، فما أظهرهم الله في كل زمان إلا ليذكروا الناس ويعظوهم ويبشروهم ويُنذروهم ، من غير عوض ولا طمع ، فإن تعلقت همتهم بشيء من عرض الدنيا ؛ من أيدي الناس ، كسَف ذلك نورهم ، ونقص نفعهم ، وقَلَّ الاهتداء على أيديهم ، وقدم تقدم هذا مراراً. وبالله التوفيق.
140
جزء : 5 رقم الصفحة : 140
يقول الحق جل جلاله : {وتوكَّلْ على الحيّ الذي لا يموتُ} في الاستكفاء عن شرورهم ، والاغتناء عن أجورهم ، أي : ثق به ؛ فإنه يكفيك عن الطمع فيمن يموت ، فلا تطلب على تبليغك من مخلوق أجراً ، فإن الله كافيك. قرأها بعض الصالحين فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق. {وسَبَّحْ} أي : ونزهه أن يكل إلى غيره مَنْ تَوَكَّلَ عليه ، {بحمده} أي : بتوفيقه الذي يوجب الحمد ، أو : قل سبحان الله وبحمده ، أو : نزهه عن صفات النقصان ، مثنياً عليه بنعوت الكمال ، طالباً لمزيد الإنعام ، {وكفى به بذنوب عباده خبيراً} أي : كفى الله خبيراً بذنوب عباده ، ما ظهر منها وما بطن ، يعني : أنه خبير بأحوالهم ، كافٍ في جزاء أعمالهم.
(5/217)
{الذي خلق السموات والأرضَ وما بينهما في ستة أيام} أي : في مدة مقدارها ستة أيام ؛ إذْ لم يكن ليل ولا نهار. وعن مجاهد : أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، وإنما خلقها في هذه المدة ، وهو قادر على خلقها في لحظة ، تعليماً لخلقه الرفق والتثبت. {ثم استوى على العرش} استواء يليق به ، {الرحمنُ} أي : هو الرحمن ، أو : فاعل استوى ، أي : استوى الرحمن ، برحمانيته على العرش وما احتوى عليه. وراجع ما تقدم في الأعراف {فاسألْ به خبيراً} أي : سل عنه رجلاً عارفاً خبيراً به ، يُخبرك برحمانيته. وكانوا ينكرون اسم الرحمن ، ويقولون : لا نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة ، يعنون : مسيلمة الكذاب ، وكان يقال له : رحمن اليمامة ؛ غُلُوًّا فيه ، فأمر نبيه أن يسأل من له خبرة وعلم بالكتب المتقدمة عن اسم الرحمن ، فإنه مذكور في الكتب المتقدمة.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف : والظاهر : أن الخبير هو الله ، أي : أسأل الله الخبير بالأشياء ، الأعلم بخفاياها ، والتقدير : فسل بسؤالك إياه خبيراً. وإنما استظهرنا هذا القول ؛ لأن المأمور بالسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وَتَجِلُّ رتبته عن سؤال غير ربه. والمراد : فسل الله الخبير بالرحمن ووصفه. انظر تمام كلامه.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 141
وإِذا قيل لهم} أي : إذا قال محمد للمشركين : {اسجدوا للرحمن} ؛ صَلّوا له ، أو : اخضعوا ، {قالوا وما الرحمنُ} أي : لا نعرف الرحمن فنسجد له ، قالوا ذلك : إما لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى ، أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره تعالى. {أنسجُدُ
141
لما تأمرنا} أي : للذي تأمرنا بالسجود له ، أو لأمرك بالسجود له من غير علم منا به. وهو منهم عناد ؛ لأن معناه في اللغة : ذو الرحمة التي لا غاية لها ؛ لأن فَعْلاَنَ يدل على المبالغة ، وهم من أهل اللغة. {وزادهم نُفُوراً} أي : زادهم الأمر بالسجود للرحمن تباعداً عن الإيمان ونفوراً عنه. وبالله التوفيق.
(5/218)
الإشارة : قد تقدم الكلام على التوكل في مواضع. وللقشيري هنا كلام ، وملخصه باختصار : أن التوكل : تفويضُ الأمر إلى الله سبحانه ، وأصله : عِلْمُ العبدِ بأنَّ الحادثاتِ كلّها حاصِلةٌ من الله ، ولا يقدر أحدٌ على إيجاد شيء أو دفعه ، فإذا عَرَفَ العبدُ هذا ، وعلم أن مراد الله لا يرتفع ولا يدفع ، حصل له التوكل. وهذا القدر فرض ، وهو من شرائط الإيمان ، قال الله تعالى : {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوااْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة : 23] ، وما زاد على هذا القَدْرِ ؛ من سكون القلب ، وطمأنينته ، وزوال الانزعاج والاضطراب ، فهو من أحوال التوكل ومقاماته ،
فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام ودرجات ، فأول رتبة فيه : أن يكتفي بما في يده ، ولا يطلب الزيادة عليه ، ويستريح قلبه من طلب الزيادة. وتسمى هذه الحالة : القناعة ، فيقنع بالحاصل ، ولا يستزيد ما ليس بحاصل - يعني : مع وجود الأسباب - ثم بعد هذا سكون القلب في حال عَدَمِ الأسباب ، وهو مقام التجريد ، وهم متباينون في الرتبة : واحد يكتفي بوعده ، لأنه صَدَّقَهَ في ضمانه ، فسكن قلبه عند فقد الأسباب ؛ ثقةً منه بوعد ربه ، وقد قيل : إن التوكل : سكون القلب بضمان الربِّ ، ويقال : سكون الجأش في طلب المعاش ، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه.
وألطف من هذا أن يكتفي بِعلْمِ الله ، فيشتغل بمولاه ، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان ، فيكِلُ أمره إلى الله ، وهذه حالة التسليم. وفوق هذه : التفويض ، وهو أن يَكِلَ أمرَه إليه ، ولا يختار حالاً على حال ، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه ، يعلم أنه مملوكٌ لسيِّده ، والسيَّدُ أولى من العبد بنفسه. فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ الراحة في المنْع ، ويستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ ، فهي رتبة الرضا ، ويحصل له في هذه الحالة ، من فوائد الرضا ومطالعته ، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة في وجود المقصود.
جزء : 5 رقم الصفحة : 141
(5/219)
وبعد هذا : الموافقة ؛ وهو ألا يجد الراحة في المنع ولا في العطاء ، وإنما يجد حلاوة نسيم القُرب ، وزوائد الأنس بنسيان كل أرَبٍ. فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند بَرْدٍ الرضا - ويعدُّون ذلك حجاباً - كذلك أهل الأُنْسِ بالله يَعدُّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصاناً وحجاباً. ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة ، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية ، فيُعبر عن هذه الحالة بالخمود ، والاستهلاك ، والوجود ، والاصطلام ، والفناء - وهذا هو عين التوحيد الخاص - فعند ذلك لا أنس ، ولا هيبة ، ولا
142
لذة ، ولا راحة ، ولا وحشة ، ولا آفة. يعني : غيب المقامات بلذاتها وراحتها ، عند تحقق الفناء ، ثم قال : هذا بيان ترتيبهم ، فأمّا ما دون ذلك ؛ فالإخبار عن أحوال المتوكلين ، على تباين شرفهم ، يختلف على حسب اختلاف حالهم. انتهى بالمعنى.
وقال أيضاً : ويقال : التوكل في الأسباب الدنيوية ينتهي إلى حدّ ، وأما التوكل على الله في إصلاح آخرته : فهو أشدُّ غموضاً وأكثرُ خفاء ، فالواجب ، في الأسباب الدنيوية ، أن يكون السكونُ عند طلبها غالباً ، والحركةُ تكون ضرورةً ، وأما في أمر الآخرةِ وما يتعلق بالطاعةِ ، فالواجبُ البِدار والجدُّ والانكماشُ ، والخروجُ عن أوطان الكسل ، وترك الجنوح إلى الفشل. والذي يوصف بالتواني في العبادات والتباطؤِ في تلافي ما ضيَّعَه من إرضاء الخصوم ، والقيام بحقِّ الواجبات ، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله ، فهو متمن معلول الحال ، ممكورٌ مُسْتَدْرَج ، بل يجب أن يبذل جهدَه ، ويستفرغ وسعَه ، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته ، ولا يستند إلى سكونه وحركته ، ويتبرأ من حَوْلِه وقوَّتِه ، ثم يُحسن الظنّ بربِّه. ومع حُسْنِ ظنه بِرَبِّه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته ، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال ؛ من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب ؛ فإن ذلك - إذا حَصَلَ - فالوقت غالبٌ ، وهو أحد ما قيل في قولهم : الوقت سيف. هـ.
(5/220)
جزء : 5 رقم الصفحة : 141
يقول الحق جل جلاله : {تبارك} أي : تعاظم {الذي جعل في السماء بُروجاً} وهي البروج الاثنا عشر : الحَمَل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت. وهي منازل الكواكب السبعة السيارة ، لكل كوكب بيتان ، يقوي حاله فيهما ، وللشمس بيت ، وللقمر بيت ، فالحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والسرطان بيت القمر ، والأسد بيت الشمس ، والقوس والحوت بيتا المشتري ، والجدي والدلو بيتا زُحل. وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع ليصيب كل واحدة منها ثلاثة بروج ، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. سميت بالبروج التي هي القصور العالية ؛ لأنها ، لهذه الكواكب ، كالمنازل الرفيعة لسكانها. واعتبر بزيادة ابحر عند زيادة القمر ونقصه عند نقصه ، فإن بيت القمر - وهو السرطان - مائي ،
143
وذلك من إمداد الأسماء لا بالطبع. وتذكر : " وبالاسم الذي وضعته على الليل فَأَظْلَمَ... " إلخ. قاله في الحاشية.
واشتقاق البروج من التبرج ، الذي هو الظهور ؛ لظهورها ، ولذلك قال الحسن وقتادة ومجاهد : البروج : النجوم الكبار ؛ لظُهورها.
{وجعل فيها سِرَاجاً} أي : الشمس ، لقوله تعالى : {وَجَعَلَ اْلشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح : 16]. وقرأ الأَخَوَان : " سُرُجاً ". ويراد : النجوم الكبار والشمس ، {وقمراً منيراً} أي : مضيئاً بالليل.
(5/221)
{وهو الذي جعل اليللَ والنهارَ خِلْفةً} أي : ذو خلفة ؛ يخلف كل واحد منهما الآخر ، بأن يقوم مقامه ، فيما ينبغي أن يعمل فيه ، فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال قتادة : فأروا الله تعالى من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار ، فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم ، تقربان كل بعيد ، وتبليان كل جديد ، وتجيئان بكل موعود.
وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : فاتتني الصلاةُ الليلةَ ، فقال : أدرِكْ ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإن الله تعالى جعل الليل والنهار خلفة {لمن أراد أن يذَّكَّر}. هـ. أي : يتذكر آلاء الله - عز وجل - ، ويتفكر في بدائع صنعه فيعلم أنه لا بد له من صانع حكيم. وقرأ حمزة وخلف : " يَذْكُرَ " أي : يذكر الله في قضاء ما فاته في أحدهما ، {أو أراد شكوراً} أي : شكر نعمة ربه عليه فيهما ، فيجتهد في عمارتهما بالطاعة ؛ شكراً. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 143
الإشارة : تبارك الذي جعل في سماء القلوب أو الأرواح بروجاً ؛ منازل ينزلها السائر ، ثم يرحل عنها ، وهي مقامات اليقين ؛ كالخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضا ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة ، والمعاينة. وجعل فيها سراجاً ، أي : شمس العرفان لأهل الإحسان ، وقمراً منيراً ، وهو توحيد البرهان لأهل الإيمان. وهو الذي جعل ليل القبض ونهار البسط خِلْفةً ، يخلف أحدهما الآخر ، لمن أراد أن يذكر في ليل القبض ، ويشكر في نهار البسط. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 143
(5/222)
وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىا الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ...}.
144
قلت : و(عباد) : مبتدأ ، و(الذين) وما بعده : خبر. وقيل : (أولئك يُجزون).
و(هوناً) : حال ، أو : صفة ، أي : يمشون هينين ، أو مشياً هونا.
(5/223)
يقول الحق جل جلاله : {وعبادُ الرحمن} أي : خواصه الذين يسجدون ويخضعون للرحمن ، {الذين يمشون على الأرض هوناً} أي : بسكينة وتواضع ووقار ، قال الحسن : يمشون حُلَمَاء علماء مثل الأنبياء ، لا يؤذون الذر ، في سكون وتواضع وخشوع ، وهو ضد المختال الفخور المَرِح ، الذي يختال في مشيه. وقال ابن الحنفية : أصحاب وقار وعفة ، لا يسفهون ، وإن سفهم عليهم حلَموا. و " الهَوْن " في اللغة : الرفق واللين. ومن قوله صلى الله عليه وسلم : " أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا. وأبْغِض بَغِيضَكَ هَوْناً مَا ، عسى أنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا ". {وإذا خاطبهم الجاهلون} أي : السفهاء بما يكرهون ، {قالوا سلاماً} ؛ سداداً من القول ، يَسلمون فيه من الإيذاء والإثم والخَنا. أو : سلمنا منكم سلاماً ، أو : سلموا عليهم سلاماً ، دليله قوله تعالى : {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص : 55] ، ثم قالوا : {سلام عليكم}. قيل : نسختها آية القتال ، وفيه نظر ؛ فإن الإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعاً ومروءة ، فلا ينسخ. وكان الحسن إذا تلا الآيتين قال : هذا وصف نهارهم ، ثم قال تعالى : {والذين يبيتون لربهم سُجّداً وقياماً} : هذا وصف ليلهم. قال ابن عباس : من صلى لله تعالى ركعتين ، أو أكثر ، بعد العشاء ، فقد بات لله تعالى ساجداً وقائماً. وقيل : ما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء ، والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 144
والذين يقولون ربنا اصرفْ عنا عذابَ جهنم إن عذابها كان غَرَاماً} ؛ هلاكاً لازماً.
(5/224)
ومنه : الغريم ؛ لملازمته غريمه ، وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين ، وعقّبه بذكر دعوتهم هُنا ؛ إيذاناً بأنهم ، مع اجتهادهم ، خائفين مبتهلين إلى الله في صرف العذاب عنهم {إنها ساءت مستقراً ومُقاماً} ، أي : إن جهنم قَبُحَت مستقراً ومقاماً لهم. و " ساءت " : في حكم " بئست " ، وفيها ضمير مبهم يفسره {مستقراً}. والمخصوص بالذم : محذوف ، أي : ساءت مستقراً ومقاماً هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم " إن ".
{والذين إذا أنفقوا لم يُسْرفُوا} ؛ لم يجاوزوا الحد في النفقة. وعن ابن عباس : لم ينفقوا في المعاصي. فالإسراف : مجاوزة حد الأمر ، لا مجاوزة القدر. وسمع رجلٌ رجلاً يقول : لا خير في الإسراف ، فقال : لا إسراف في الخير. وقال صلى الله عليه وسلم : " من منع حقاً فقد قتر ، ومن أعطى في غير حق فقد أسرف " {ولم يَقْتُرُوا} ، القتر والإقتار والتقتير : التضييق. وقرئ بالجميع ، {وكان بين ذلك قواماً} أي : وكان إنفاقهم بين الإسراف
145
والإقتار قواماً ؛ عدلاً بينهما. فالقوام : العدل بين الشيئين. قال أبو عبيدة : لم يزيدوا على المعروف ، ولم يخلو به ، لقوله : {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىا عُنُقِكَ} [الإسراء : 29] الآية. وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا لا يأكلون الطعاماً للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة. ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدُّ عنهم الجوع ، ويقويهم على عبادة ربهم ، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ، ويُكِنُّهم من الحرّ والبرد.
(5/225)
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كفى بالمرء سَرَفاً إلا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله. ومثله في سنن ابن ماجه ؛ مرفوعاً. قال القشيري : الإسراف : أن ينفق في الهوى ونصيب النفْس ، ولو فلساً ، وأما ما كان لله فليس فيه إسراف ، ولو ألفاً. والإقتارُ : ما كان ادخاراً عن الله ، فأمَّا التضييقُ على النَّفْس ؛ منعاً لها عن اتباع الشهوات ، ولتتعود الاجتزاء باليسير ، فليس بالإقتار المذموم. هـ.
{والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} أي : لا يشركون بالله شيئاً ، {ولا يقتلون النفسَ التي حرَّم الله} قتلها {إلا بالحق} بقَوَدٍ ، أو رَجْمٍ ، أو شِرْكٍ ، أو سعي في الأرض بالفساد ، {ولا يزنون} أي : لا يفعلون من هذه العظائم القبيحة التي جمعهن الكفرة شيئاً ، حيث كانوا مع إشراكهم به - سبحانه - مداومين على قتل النفوس المحرمة ، التي من جملتها المؤودة ، مُنْكَبِّينَ على الزنا ، لا يرعوون عنه أصلاً ، فنفَى هذه الكبائر عن عباده الصالحين ؛ تعريضاً بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيره ، كأنه قيل : والذين طهرهم الله مما أنتم عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : " قُلْتُ : يا رَسُولَ الله ، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ ؟ قال : أنْ تَجْعَلَ لله نداً وَهُوَ خَلَقَكَ ، قلت : ثُمَّ أيُّ ؟ قال : أنْ تَقْتلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يُطْعَمَ مَعَكَ ، قُلْتُ : ثمَّ أيُّ ؟ قال : أنْ تُزَانِي بحَلِيلَة جَارِكَ " فنزلت الآية تصديقاً لذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 144
(5/226)
الإشارة : قد تضمنت الآية أربعة أصناف من الناس على سبيل التدلي ؛ الأول : الأولياء العارفون بالله ، أهل التربية النبوية ، ومن تعلق بهم من أهل التهذيب والتأديب ، وإليهم أشار بقوله : {وعباد الرحمن..} إلخ ، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رأيت أقواماً من أمتي ، ما خُلقوا بعد ، وسيكونون فيما بعد اليوم ، أُحبهم ويحبونني ، ويتناصحون ويتباذلون ، ويمشون بنور الله في الناس رويداً ، في خفية وتقى ، يَسلمون من الناس ، ويسلم الناسُ منهم بصبرهم وحلمهم ، قلوبهم بذلك إليه يَرْجِعُون ، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون ، يرحمون ضعيفهم ، ويجلون كبيرهم ، ويتواسَوْن بينهم ، يعود غنيهُم على فقيرهم ، وقويُهم على ضعيفهم ، يعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم " فقال رجل من
146
القوم : يرفقون برقيقهم ؟ فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " كلا ؛ لا رقيق لهم ، وهم خدام أنفسهم ، هم أكرم على الله تعالى من أن يوسع عليهم ؛ لهوان الدنيا عند ربهم. " ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم : {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً...} الآية. رواه أبو برزة الأسلمي ، عنه صلى الله عليه وسلم.
الثاني : العباد والزهاد أهل الجد والاجتهاد ، أهل الصيام والقيام ، الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ، أقامهم الحق تعالى لخدمته ، كما أقام الأولين لمحبته ومعرفته. الثالث : الصالحون والأبرار ، الذين يعبدون الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار ، ومن كان منهم له مال أنفقه في سبيل الله ، من غير سرف ولا إقتار. الرابع : عامة الموحدّين من أهل اليمين ، المجتنبون لكبائر الذنوب ، المسارعون بالتوبة إلى علام الغيوب. والله تعالى أعلم.
ثم أشار إلى وبال من فعل شيئاً من ذلك ولم يتب ، فقال :
(5/227)
{... وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً}.
قلت : (يُضاعفْ) و(يخلُدْ) : بدل من (يَلْقَ) ؛ بدل كل من كل ، عند الأزهري ؛ لأن لُقِيّ الآثام هي مضاعفة العذاب ، وبدل اشتمال ، عند المرادي. ومن رفعهما : فعلى الاستئناف.
يقول الحق جل جلاله : {ومن يَفْعَلْ ذلك} أي : ما ذكر ، كما هو دأب الكفرة المذكورين ، {يَلْقَ} في الآخرة {أثاماً} ؛ وهو جزاء الآثام ، كالوبال والنكال ؛ وزْناً ومعنى ، {يُضاعَفْ له العذابُ يومَ القيامة} أضعافاً كثيرة ، كما يضاعف للمؤمنين جزاء أعمالهم كذلك ، {ويخْلُدْ فيه} أي : في ذلك العذاب المضاعف ، {مهاناً} ؛ ذليلاً حقيراً ، جامعاً للعذاب الجسماني والروحاني.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 144
إلا من تابَ} من الشرك ، {وآمن} بمحمد صلى الله عليه وسلم ، {وعَمِلَ عملاً صالحاً} بعد توبته {فأولئك يُبَدِّلُ الله سيئاتهم حسناتٍ} أي : يوفقهم للمحاسن بعد القبائح ، فيوفقهم للإيمان بعد الشرك ، ولقتل الكافر بعد قتل المؤمن ، وللعفة بعد الزنا ، أو : يمحوها بالتوبة ، ويثبت مكانها الحسنات. ولم يُرد أن السيئة بعينها تصير حسنة ، ولكن يمحوها ويعوض منها حسنة.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَيَتَمَنَّيَنَّ أقوامٌ أنهم أكثروا من السيئات ، قيل : من ؟ قال : الذين يُبدل الله سيئاتهم حسنات " {وكان الله غفوراً} للسيئات ، {رحمياً} يُبَدِّلُها حسنات.
147
(5/228)
{ومن تاب وعمل صالحاً فإِنه يتوب إلى الله مَتَابَا} أي : ومن تاب ، وحقق التوبة بالعمل الصالح ، فإنه بذلك تائب إلى الله متاباً مُرْضِياً مكفراً للخطايا. وسبب نزول الآية : أن ناساً من المشركين قَتَلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تدعو إليه لَحَسنٌ لو تخبرنا أنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً. فنزلت : {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر...} إلى قوله : {إلا من تاب...} إلخ. والظاهر أن توبة قاتل النفس بغير حق مقبولة ؛ لعموم قوله : {إلا من تاب} ، وهو قول الجمهور. وقيل : إن هذه منسوخة بآية النساء ، وهو ضعيف والله تعالى أعلم.
الإشارة : من قنع من نفسه بمجرد الإسلام والإيمان ، ولم تنهضه نفسه إلى التشوف لمقام الإحسان ، لا بد أن يلحقه الندم وضرب من الهوان ، ولو دخل فسيح الجنان ؛ لتخلفه عن أهل القرب والوصال ، وفي ذلك يقول الشاعر :
مَنْ فَاتَهُ مِنْكَ وَصْلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ
ومَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ
جزء : 5 رقم الصفحة : 144
يقول الحق جل جلاله : {والذين لا يشهدون الزورَ} أي : لا يقيمون شهادة الكذب ، أو لا يحضرون محاضر الكذب ؛ فإنَّ مشاهدة الباطل مشاركة فيه ، أي : يبعدون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطَّائين ، فلا يقربونها ، تَنَزُّها عن مخالطة الشر وأهله. وفي مواعظ عيسى - عليه السلام - : إياكم ومجالسَ الخطَّائين. {وإِذا مَرُّوا باللغو} أي : بالفحش وكل ما ينبغي أن يلغى ويُطرح ، والمعنى : وإذا مروا بأهل اللغو المشتغلين به {مَرُّوا كراماً} معرضين عنه ، مكرمين أنفسهم عن التلوث به ، كقوله : {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص : 55] ، وعن الباقر : إذا ذَكروا الفروج كفوا عنها ، وقال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا عنه وصفحوا.
(5/229)
{والذين إذا ذُكِّروا بآياتِ ربهم} أي : قرئ عليهم القرآن ، أو : وعظوا بالقرآن ، {لم يَخرُّوا عليها صُمّاً وعُمْياناً} ، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مجلتين لها بعيون راعية. وإنما عبّر بنفي الضد ؛ تعريضاً بما يفعله الكفرة والمنافقون.
148
{والذين يقولون ربنا هَبْ لنا من أزواجنا} ، " من " : للبيان ، كأنه قيل : هب لنا قرة أعين ، ثم بُينت القرة وفُسرت بقوله : {من أزواجنا وذرياتنا} والمعنى : أن يجعلهم الله لهم قرة أعين ؛ بأن يروا منهم من الطاعة والإحسان وما تقر به العين. أو للابتداء ، أي : هب لنا من جهتهم ما تقر به العين ، من طاعة أو صلاح. {و} هب لنا أيضاً من {ذرياتنا قُرةَ أعيُن} ؛ بتوفيقهم للطاعة ، ومبادرتهم للفضائل والكمالات ، فإن المؤمن إذا ساعده أهله في طاعة الله تعالى وشاركوه فيها ؛ يسر قلبه ، وتقر عينه ؛ بما شاهده من مقاربتهم له في الدين ، ويكون ذلك سبباً في لحوقهم به في الجنة ، حسبما وعد به قوله تعالى : {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور : 21].
جزء : 5 رقم الصفحة : 148
وإنما قال : " أعين " ؛ بلفظ القلة ، دون عيون ؛ لأن المراد أعين المتقين ، وهي قليلة بالإضافة إلى أعين غيرهم. والمعنى : أنهم سألوا ربهم يرزقهم أزواجاً وأعقاباً ، عُمَّالاً لله ، يسرون بمكانهم ، وتقر بهم عيونهم ، قيل : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس : (هو الولد إذا رآه يكتب الفقه).
(5/230)
{واجعلنا للمتقين إماماً} أي : أئمة يقتدى بنا في الدين ، فاكتفى بالواحد ؛ لدلالته على الجنس ، أو : واجعل كل واحد منا إماماً ؛ أي : من أولادنا إماماً. والظاهر : أن صدور هذا الدعاء منهم كان بطريق الانفراد ؛ إذ يتعذر اجتماعهم في دعاء واحد. وإنما كانت عبارة كل واحد منهم عند الدعاء : واجعلني للمتقين إماماً ، غير أنه حكيت عبارة الكل بصيغة المتكلم مع الغير ؛ قصداً إلى الإيجاز ، كقوله تعالى : {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون : 51]. وأبقى إماماً على حاله من الانفراد. قيل : وفي الآية دليل على أن الرئاسة في الدين ينبغي أن تُطلب ويُرغب فيها ، إذا كان القصد نفع عباد الله دون حظ نفساني. {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} ، جنس ، أي : الغرفات ، وهي العلالي في الجنة. ووحده بقصد الجنس. {بما صبروا} ؛ بصبرهم على مشاق الطاعات ، وترك الشهوات ، وتحمل المجاهدات ، وعلى إذاية أهل الإنكار ، وارتكاب الذل والافتقار. {ويُلَقَّون فيها تحيةً وسلاماً} أي : تحييهم الملائكة ، ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات. أو : يُحيي بعضُهم بعضاً ، ويسلمون عليهم ، {خالدين فيها} ؛ لا يموتون ولا يخرجون ، {حَسُنتْ} أي : الغرفة {مستقراً ومُقاماً} ؛ موضعَ قرارٍ وإقامة ، وهي مقابلة : {ساءت مستقراً ومقاماً}.
{قل} يا محمد : {ما يعبأُ بكم ربي لولا دعاؤكم} أي : ما يصنع بكم ربِّي ، وأي فائدة في خلقكم ، لولا دعاؤكم إلى الإسلام والتوحيد ، أو : لولا عبادتكم له ، أي : إنما خلقكم لعبادته ؛ كقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56] ؛ فإنما خلق الإنسان لمعرفته وطاعته ، وإلا فهو وسائر البهائم سواء. قال المحشي : والظاهر : أنه خطاب لقريش القائلين : {أنسجد لما تأمرنا} أي : لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم
149
واستغاثتكم إياه في الشدائد.هـ.
(5/231)
وقيل : ما يعبأ : بمغفرة ذنوبكم ، ولا هو عنده عظيم ، لولا دعاؤكم معه الآلهة والشركاء ، كقوله : {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء : 147] ، قاله الضحاك. ثم قال : فظاهره : أن " ما " : استفهامية ، ويحتمل كَوْنُهَا نَافِيَةً. انظر بقية كلامه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 148
وفسّر البخاري الدعاء هنا بالإيمان ، أي : ما يبالي بكم ربي لولا إيمانكم المتوقع من بعضكم ، {فقد كذبتم} بما جاء به الرسول فتستحقون العقاب ، {فسوفَ يكونُ} العذاب الذي أنْتَجَهُ تكذيبكم {لِزاماً} ؛ لازماً لكم ؛ لا تنفكون عنه ، حتى يكبكُم في النار. فالفاء في قوله : {فقد كذَّبتم} استئناف وتعليل لكونهم لا يُعبأ بهم ، وإنما أضمر العذاب من غير تقدم ذكرٍ ؛ للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره ، وأنه مما لا تفي العبارة به.
وعن مجاهد : هو القتل يوم بدر ، وأنه لُوزِمَ بين القتلى. وفي المشارق : اللزام : الفيصل ، وقد كان يوم بدر. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : {وإذا مروا بأهل اللغو} ، وهم المتكلمون في حس الأكوان ، مروا كراماً ؛ مكرمين أنفسهم عن الالتفات إلى خوضهم. والذين إذا سمعوا الوعظ والتذكير أنصتوا بقلوبهم وأرواحهم ، خلاف ما عليه العامة من التصامم والعمى عنه. {والذين يقولون ربنا..} إلخ ، قال القشيري : قرة الروح : حياتها ، وإنما تكون كذلك إذا كان بحق الله قائماً. ويقال : قرة العين من كان لطاعة الله معانقاً ، ولمخالفة الأمر مفارقاً. هـ. قلت : قرة العين تكون في الولد الروحاني ، كما تكون في الولد البشري ؛ فإن الشيخ إذا رأى تلميذه مُجِدّاً صادقاً في الطلب ، حصل له بذلك غاية السرور والطرب ، كما هو معلوم عند أرباب الفن. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وَصلَّى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وسَلَّمَ تسليماً.
150
جزء : 5 رقم الصفحة : 148(5/232)
سورة الشعراء
جزء : 5 رقم الصفحة : 150
يقول الحق جل جلاله : {طسم} أي : يا طاهر ، يا سيد ، يا محمد ، أو : أيها الطاهر السيد المجيد. وقال الواحدي : أقسم تعالى بطَوله وسنائه وملكه ، والمقسم عليه : {إن نشأ نُنزل...} إلخ. {تلك آيات الكتاب المبين} أي : ما نسرده عليك في هذه السورة وغيرها من الآيات ، هي آيات الكتاب ، أي : القرآن المبين ، أي : الظاهر إعجازه ، وأنه من عند الله ، على أنه من أبان ، بمعنى بان ، أو : المبين للأحكام الشرعية والحِكَم الربانية ، أو : الفاصل بين الحق والباطل. وما في الإشارة من معنى البُعد ؛ للتنبيه على بُعد منزلة المشار إليه في الفخامة ورفعة القدر.
ثم شرع في تسليته بقوله : {لعلك باخعٌ نفسَكَ} أي : قاتل نفسك. قال سَهْلٌ : تهلك نفسك باتباع المراد في هدايتهم وإيمانهم ، وقد سَبق مني الحُكم بإيمان المؤمنين
151(5/233)
وكفر الكافرين ، فلا تبديل ولا تغيير. و " لعل " : للإشفاق ، أي : أشفق على نفسك أن تقتلها ؛ حسرة على مافاتك من إسلام قومك {أَلاَّ يكونوا مؤمنين} أي : لعدم إيمانهم بذلك الكتاب المبين ، {إن نشأ نُنزِّل عليهم من السماء آيةً} ، هو تعليل لما قبله من النهي عن التحسر ؛ ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به المشيئة ، فلا وجه للطمع فيه والتألم من فواته ، والمفعول محذوف ، أي : إن نشأ إيمانهم ننزل عليهم من السماء آية ملجئة لهم إلى الإيمان ، قاهرة لهم عليه ، {فظلَّتْ أعناقُهم لها خاضعين} ؛ منقادين. والأصل : فظلوا لها خاضعين ، فأقمحت الأعناق ؛ لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع ، وترك الخبر على حاله من جمع العقلاء. وقيل : لمَّا وصفت الأعناق بصفة العقلاء أجريت مجراهم ، كقوله تعالى : {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف : 4]. وقيل المراد بالأعناق : الرؤساء ومقدمو الجماعة ، وقيل : الجماعة ، من قولهم : جاءنا عنق من الناس ، أي : فوج. وقرئ : خاضعة ، على الأصل.
{وما يأتيهم من ذِكْرٍ من الرحمنِ مُحْدَثٍ إلا كانوا عنه معرضين} ، هذا بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب ؛ لصرف رسوله صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم ، وقطع رجائه فيهم على الجملة ، قال القشيري : أي : ما نُجَدِّد لهم شَرْعاً ، أو نرسل رسولاً إلا أعرضوا عما دلّ برهانه عليه ، وقابلوه بالتكذيب ، فلو أنهم أنعموا النظرَ في آياتهم ، لا تضح لهم صدقهم ، ولكن المقسوم من الخذلان في سابق الحُكْمِ يمنعهم من الإيمان والتصديق. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 151
(5/234)
والتعرض لعنوان الرحمة ؛ لتغليظ شناعتهم ، وتهويل جنايتهم ؛ فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه عز وجل على الإطلاق شنيع قبيح ، وعما يأتيهم بموجب الرحمة ، لمحض منفعتهم ، أشنع وأقبح ، أي : ما يأتيهم من موعظة من المواعظ القرآنية ، أو من طائفة نازلة من القرآن تُذكّرهم أكمل تذكير ، وتنبهُهم من الغفلة أتم تنبيه ، بمقتضى رحمته الواسعة ، إلا جددوا إعراضاً عنه ؛ على وجه التكذيب والاستهزاء ؛ إصراراً على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. {فقد كذَّبوا} بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً مقارناً للاستهزاء ، {فسيأتيهم} أي : فسيعلمون {أنباءُ} أي : أخبار {وما كانوا به يستهزئون} ، وأنباؤه : ما يحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة ، عبّر عنها بالأنباء ؛ إما لكونها مما أنبأ بها القرآن الكريم ، وإما لأنهم ، بمشاهدتها ، يقفون على حقيقة القرآن الكريم ، كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم ، باستماع الأنباء. وفيه تهويل ؛ لأن الأنباء لا تُطلق إلا على خبر خطير له وقع كبير ، أي : فسيأتيهم لا محالة مِصداق ما كانوا يستهزئون به ، إما في الدنيا ، كيوم بدر وغيره من مواطن الحتُوف ، أو يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : طسم ، الطاء تشير إلى طهارة سره - عليه الصلاة والسلام - ، والسين تُشير
152
إلى سيادة قدره ، والميم إلى مَجَادة أمره ، وهذا بداية الشرف ونهايته. أو : الطاء تشير إلى التنزيه للقلب ، من حيث هو ، والتطهير ، والسين تشير إلى تحليته بالسر الكبير ، والميم تشير إلى تصرفه في الملك والملكوت بإذن العلي الكبير. وهذه بداية السير ونهايته ، فيكون حينئذٍ عارفاً بالله ، خليفة رسول الله في العودة إلى الله ، فإنْ حرص على هداية الخلق فيقال له : {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} ، فلو شاء ربك لهدى الناس جميعاً ، ولا يزالون مختلفين ، {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 151
(5/235)
والتعرض لعنوان الرحمة ؛ لتغليظ شناعتهم ، وتهويل جنايتهم ؛ فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه عز وجل على الإطلاق شنيع قبيح ، وعما يأتيهم بموجب الرحمة ، لمحض منفعتهم ، أشنع وأقبح ، أي : ما يأتيهم من موعظة من المواعظ القرآنية ، أو من طائفة نازلة من القرآن تُذكّرهم أكمل تذكير ، وتنبهُهم من الغفلة أتم تنبيه ، بمقتضى رحمته الواسعة ، إلا جددوا إعراضاً عنه ؛ على وجه التكذيب والاستهزاء ؛ إصراراً على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. {فقد كذَّبوا} بالذكر الذي يأتيهم تكذيباً مقارناً للاستهزاء ، {فسيأتيهم} أي : فسيعلمون {أنباءُ} أي : أخبار {وما كانوا به يستهزئون} ، وأنباؤه : ما يحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة ، عبّر عنها بالأنباء ؛ إما لكونها مما أنبأ بها القرآن الكريم ، وإما لأنهم ، بمشاهدتها ، يقفون على حقيقة القرآن الكريم ، كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم ، باستماع الأنباء. وفيه تهويل ؛ لأن الأنباء لا تُطلق إلا على خبر خطير له وقع كبير ، أي : فسيأتيهم لا محالة مِصداق ما كانوا يستهزئون به ، إما في الدنيا ، كيوم بدر وغيره من مواطن الحتُوف ، أو يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : طسم ، الطاء تشير إلى طهارة سره - عليه الصلاة والسلام - ، والسين تُشير
152
إلى سيادة قدره ، والميم إلى مَجَادة أمره ، وهذا بداية الشرف ونهايته. أو : الطاء تشير إلى التنزيه للقلب ، من حيث هو ، والتطهير ، والسين تشير إلى تحليته بالسر الكبير ، والميم تشير إلى تصرفه في الملك والملكوت بإذن العلي الكبير. وهذه بداية السير ونهايته ، فيكون حينئذٍ عارفاً بالله ، خليفة رسول الله في العودة إلى الله ، فإنْ حرص على هداية الخلق فيقال له : {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} ، فلو شاء ربك لهدى الناس جميعاً ، ولا يزالون مختلفين ، {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 151
(5/236)
قلت : الهمزة : للإنكار التوبيخي ، والواو : للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : أَفعلوا ما فعلوا من الإعراض والتكذيب ، ولم ينظروا إلى عجائب الأرض.. إلخ. و(كم) : خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية.
يقول الحق جل جلاله : {أوَ لَم يروا} أي : ينظروا {إلى} عجائب {الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} ؛ أي : من كل صنف محمود كثير المنفعة ، يأكل منه الناس والأنعام. وتخصيص النبات بالذكر ، دون ما عداه من الأصناف ؛ لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معاً. ويحتمل أن يراد به جميع أصناف النبات ؛ نافعها وضارها ، ويكون وصف الكل بالكرم ؛ للتنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئاً إلا وفيه فائدة ، إما وحده ، أو بانضمامه إلى غيره ، كما نطق به قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة : 29] فإن الحكيم لا يكاد يفعل فعلاً إلا وفيه حكمة بالغة ، وإن غفل عنه الغافلون ، ولم يتوصل إلى معرفة كنهه العاقلون. وفائدة الجمع بين كلمتي الكثرة والإحاطة ، وهما " كم " و " كلّ " ؛ أنّ كلمة " كلّ " تدل على الإحاطة بأزواج النبات ؛ على سبيل التفصيل ، و " كم " تدل على أنَّ هذا المحاط متكاثر ، مفرط الكثرة ، وبه نبّه على كمال قدرته.
{إنَّ في ذلك} الإنبات ، أو : كل صنف من تلك الأصناف {لآيةً} عظيمة دالة على كمال قدرته ، وسعة علمه وحكمته ، ونهاية رحمته الموجبة للإيمان ، الوازعة عن الكفر والطغيان. {وما كان أكثرُهُم} أي : أكثر قومه - عليه الصلاة والسلام - {مؤمنين} في علم الله تعالى وقضائه ، حيث عَلِمَ أنهم سيصرفون عنه ، ولا يتدبرون في هذه الآيات العظام. وقال سيبويه : " كان " : صلة ، والمعنى : وما أكثرهم مؤمنين ، وهو الأنسب بمقام عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد ، مع تعاضد موجبات الإيمان من جهته تعالى. وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى وقضائه فربما يتوهم أنهم معذورون فيه بحسب الظاهر ؛ لأن
153
(5/237)
التفريق بين القدرة والحكمة ، اللتين هما محل التحقيق والتشريع ، قد خفي على مهرة العلماء ، فضلاً عن غيرهم. فالحكم بزيادة " كان " أقرب ؛ كأنه قيل : إن في ذلك لآية باهرة موجبة للإيمان ، وما أكثرهم مؤمنين مع ذلك ؛ لغاية عتوهم وعنادهم. ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم ؛ لأن منهم من سبق له أنه يؤمن.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 153
وإِنَّ ربك لهو العزيزُ} ؛ الغالب على كل ما يريد من الأمور ، التي من جملتها : الانتقام من هؤلاء ، {الرحيمُ} ؛ المبالغ في الرحمة ، ولذلك يمهلهم ، ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترأوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات. وفي التعرض لوصف الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ، من تشريفه والعِدَة الحقيّة بالانتقام من الكفرة مالا يخفى. قاله أبو السعود.
الإشارة : أوَ لم يروا إلى أرض النفوس الطيبة ، كم أنبتنا فيها من كل صنف من أصناف العلوم الغريبة ، والحِكَم العجيبة ، بعد أن كانت ميتة بالجهل والغفلة ، إنَّ في ذلك لآية ظاهرة على وجود الخصوصية فيها ، وعلى كمال من عالجها حتى ظهرت عليها. أو : أوَ لم يروا إلى أرض العبودية ، كم أنبتنا فيها من أصناف الآداب المرضية ، والمقامات اليقينية ، والمكاشفات الوهبية ، إن في ذلك لآية ، وما كان أكثرهم مؤمنين بهذه الخصوصية عند أربابها ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ، يُعز من يشاء ، ويرحم بها من يشاء. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 153
(5/238)
يقول الحق جل جلاله : {و} اذكر يا محمد {إذ نادى ربُّك موسى} أي : وقت ندائه إياه ، وذَكِّر قومك بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم ؛ زجراً لهم ، وتحذيراً من أن يحيق بهم مثل ما حاق بإخوانهم المكذبين. أو : واذكر حاله لتتسلى به وبما عالج مع قومه ، حيث أرسله وقال له : {أن ائْتِ القوم الظالمين} ، أو : بأن ائْتِ القومَ الظالمين بالكفر والمعاصي ، أو : باستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم. {قومَ فرعون} : عطف بيان ، تسجل عليهم بالظلم ، ثم فسرهم ، وقل لهم : {ألاَ يتقون} الله ، ويتركون ما هم عليه من العتو والطغيان. وقرئ بتاء الخطاب ؛ على طريقة الالتفات ، المنبئ عن زيادة الغضب عليهم ، كأنَّ ظلمهم أدى إلى مشافهتهم بذلك. وليس هذا نفس ما ناداه به ، بل ما في سورة طه من قوله : {إِنّىِ أَنَاْ رَبُّكَ...} [طه : 12] إلخ ، واختصره هنا لمقتضى المقام.
154
{قال} موسى عليه السلام ؛ متضرعاً إلى الله عز وجل : {ربِّ إني أخافُ أن يكذِّبون} من أول الأمر ، {ويضيق صدري} بتكذيبهم إياي ، {ولا ينطلقُ لساني} ؛ بأن تغلبني الحمية على ما أرى من المحال ، وأسمع من الجدال ، أو : تغلبني عقدة لساني ، {فأرسلْ إلى هارون} أخي ، أي : أرسل جبرلَ إليه ، ليكون نبياً معي ، أَتَقَوَّى به على تبليغ الرسالة. وكان هارون بمصر حين بُعث موسى بجبل الطور. وليس هذا من التعلل والتوقف في الأمر ، وإنما هو استدعاء لما يُعينه على الامتثال ، وتمهيد عذره.
ثم قال : {ولهم عليّ ذنبٌ} أي : تبعة ذنب بقتل القبطيّ ، فحذف المضاف ، أو : سمّي تبعة الذنب ذنباً ، كما يُسَمَّى جزاء السيئة سيئة. وتسميته ذنباً بحسب زعمهم. {فأخافُ أن يقتلونِ} به ؛ قصاصاً. وليس هذا تعللا أيضاً ، بل استدفاع للبلية المتوقعة ، وخوف من أن يقتل قبل أداء الرسالة ، ولذلك وعده بالكلاءة ، والدفع عنه بكلمة الردع ، وجمع له الاستجابتين معاً بقوله :
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 154
(5/239)
قال كلا فاذهبا} ؛ لأنه استدفعه بلاءهم ، فوعده بالدفع بردعه عن الخوف ، والتمس منه رسالة أخيه ، فأجابه بقوله : {اذهبا} ، أي : جعلتُه رسولاً معك {فاذهبا بآياتنا} أي : مع آياتنا ، وهو اليد والعصا وغير ذلك ، فقوله : {فاذهبا} : عطف على مضمر ، يُنبئ عنه الردع ، كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن ، فاذهب أنت ومن استدعيته مصحوباً بآياتنا ، فإنها تدفع ما تخافه.
{إنّما معكم مستمعون} أي : سامعون ما يقال لك ، وما يجري بينكما وبينه ، فنظهركما عليه. شبَّه حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة ، فسمع ما يجري بينهم ، فيمد أولياءه وينصرهم على أعدائهم ؛ مبالغة في الوعد بالإعانة ، فاستعير الاستماع ، الذي هو الإصغاء للسمع ، الذي هو العلم بالحروف والأصوات ، وهو تعليل ؛ للردع عن الخوف ، ومزيد تسلية لهما ، بضمان كمال الحفظ والنصر ، كقوله تعالى : {إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىا} [طه : 46].
{فَأْتِيَا فرعونَ فقولا إِنا رسولُ ربِّ العالمين} ، ليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب ؛ لأن معنى هذا : الوصولُ إلى المرسل إليه ، والذهاب : مطلق التوجه ، ولم يُثَنَّ الرسول هنا كما ثناه في سورة طه ؛ لأن الرسول يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة ، فيكون مصدراً ، فَجُعِلَ ثَمَّةَ بمعنى المُرْسَل فثنى ، وجعل هنا بمعنى الرسالة ، فسوّى في الوصف به الواحد والتثنية والجمع ، كما تقول : رجل عدل ، ورجلان عدل ، ورجال عدل ؛ لاتحادهما في شريعة واحدة ، كأنهما رسول واحد. قلت : والنكتة في إفراد هذا وتثنية الآخر ؛ أن الخطاب في سورة طه توجه أول القصة إليهما معاً بقوله {اذهب أنت وأخوك} فجرى في آخر القصة على ما افتتحت به ، وهنا توجه الخطاب في أولها إلى
155
موسى وحده ، بقوله : {وإِذا نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين} ، فجرى على ما افتتح به القصة من الإفراد. والله تعالى أعلم.
(5/240)
{أنْ أرسل معنا بني إسرائيل} ، " أن " : مفسرة ؛ لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول ، أي : خَلِّ بني إسرائيل تذهب معنا إلى الشام ، وكان مسكنهم بفلسطين منه ، قبل انتقالهم مع يعقوب عليه السلام إلى مصر ، في زمن يوسف عليه السلام. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من كان أهلاً للوعظ والتذكير لا ينبغي أن يتأخر عنه خوف التكذيب ولا خوف الإذاية ، فإن الله معه بالحفظ والرعاية. نعم ؛ إن طلب المُعِينَ فلا بأس ، فإن أُبهة الجماعة ، في حال الإقبال على من يُعظمهم ، أقوى في الإدخال الهيبة والروع في قلوبهم ، ونور الجماعة أقوى من نور الواحد. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 154
يقول الحق جل جلاله : لما أتى موسى وهارونُ فرعونَ وبلَّغا الرسالة ، {قال} له : {ألم نُربِّك...} إلخ ، رُوي أنهما أتيا بابه فلم يُؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال : ائذن له ، لعلنا نضحك منه ، فأَذِن ، فدخل ، فأدى الرسالة ، فعرفه فرعونُ ، فقال له : {ألم نُربِّك فينا} ؛ في حِجْرنا ومنازلنا ، {وليداً} أي طفلاً. عبّر عنه بذلك ؛ لقُرب عهده بالولادة. وهذه من فرعون معارضة لقول موسى عليه السلام : {إنا رسول رب العالمين} ، بنسبته تربيته إليه وليداً. ولذلك تجاهل بقوله : {وما ربُّ العالمين} ، وصرح بالجهل بعد ذلك بقوله : {لئن اتخذت إلهاً غيري...} إلخ ، {ولبثتَ فينا من عُمُرِكَ سنين} قيل : لبث فيهم ثلاثين سنة ، ثم خرج إلى مدين ، وأقام به عشر سنين ، ثم عاد يدعوهم إلى الله - عز وجل - ثلاثين سنة ، ثم بقي بعد الغرق خمسين ، وقيل : قتل القبطي وهو ابن ثنتي عشرة سنة ، وفرّ منهم على إثر ذلك. والله أعلم.
156
(5/241)
ثم قال له : {وفعلتَ فَعْلَتك التي فعلتَ} يعني : قتل القبطي ، بعدما عدد عليه نعمته ؛ من تربيته ، وتبليغه مبلغ الرجال ، وبّخه بما جرى عليه مع خبازه ، أي : قتلت صاحبي ، {وأنت من الكافرين} بنعمتي ، حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي ، أو : أنت حينئذٍ ممن تفكر بهم الآن ، أي : كنت على ديننا الذي تسميه كفراً ، وهذا افتراء منه عليه ؛ لأنه معصوم ، وكان يعاشرهم بالتقية ، وإلا فأين هو عليه السلام من مشاركتهم في الدين.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 156
قال فعلتُها إذاً} أي : إذ ذاك {وأنا من الضالين} أي : من المخطئين ؛ لأنه لم يتعمد قتله ، بل أراد تأديبه ، أو : الذاهلين عما يؤدي إليه الوكز. أو : من الضالين عن النبوة ، ولم يأت عن الله في ذلك شيء ، فليس عليَّ توبيخ في تلك الحالة. والفرض أن المقتول كافر ، فالقتل للكافر لم يكن فيه شرع ، وهذا كله لا ينافي النبوة. وكذلك التربية لا تنافي النبوة.
{ففررتُ منكم} إلى ربي ، متوجهاً إلى مدين {لمّا خِفْتُكم} أن تصيبني بمضرة ، أو تؤاخذني بما لا أستحقه. {فوهب لي ربي حُكماً} أي : حكمة ، أو : نبوة وعلماً ، فزال عني الجهل والضلالة ، {وجعلني من المرسلين} ؛ من جملة رسله ، {وتلك نعمة تمُنُّها عليَّ أن عَبدتَّ بني إسرائيل} أي : تلك التربية نعمة تمُن بها عليّ ظاهراً ، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل ، وقهرك إياهم ، بذبح أبنائهم ، فإنه السبب في وقوعي عندك وحصولي في تربيتك ، ولو تركتهم لرباني أبواي. فكأن فرعون في الحقيقة امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه. فقال له موسى عليه السلام : أَوَ تلك نعمةٌ تَمُنٌُّها عَلَيَّ ؛ استعبادك لهم ، ليس ذلك بنعمة ، ولا لك فيها عليَّ منة ، وتعبيده : تذليلهم واستخدامهم على الدوام. ووحد الضمير في " تمنّها " و " وعبّدتَّ " ، وجمعها في " منكم " و " خفتكم " ؛ لأن الفرار والخوف كان منه ومن ملئه المؤتمرين به ، وأما الامتنان فمنه وحده.
(5/242)
وحين انقطعت حجة فرعون وروغانه عن ذكر رب العالمين ، أخذ يستفهم موسى عن الذي ذكر أنه رسول من عنده ؛ مكابرة وتجاهلاً وتعامياً ، طلباً للرئاسة ، كما قال تعالى : {قال فرعونُ وما ربُّ العالمين} ، أي : أيُّ شيء رب العالمين ، الذي ادعيت أنك رسوله منكراً لأن يكون للعالمين رب غيره ، حسبما يعْربُ عنه قوله : {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعْلَى} [النازعات : 24] ، وقوله : {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي} [القصص : 38]. أو : فما صفته ، أو حقيقته ؟ {قال} موسى : هو {ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما} أي : ما بين الجنسين ، {إن كنتم موقنين} أي : إن كنتم موقنين بالأشياء ، محققين لها ، علمتم ذلك ، أو : إن كنتم موقنين شيئاً من الأشياء ، فهذا أولى بالإيقان ؛ لظهور دليله وإنارة برهانه.
{قال} فرعونُ ، عند سماع جوابه عليه السلام ، خوفاً من تأثيره في قلوبهم ، {لِمن حولَه} من أشراف قومه ، وكانوا خمسمائة مسورة بالأسورة : {أَلا تستمعون} ، أنا أسأله
157
عن الماهية ، وهو يجيبني بالخاصية. ولما كانت ما هي الربوبية لا تُدرك ولا تنال حقيقتها ، أجابه بما يمكن إدراكه من خواص الماهية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 156
ثم {قال} عليه السلام : {ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين} أي : هو خالقكم وخالق آبائكم الأولين ، أي : وفرعون من جملة المخلوقين فلا يصلح للربوبية ، وإنما قال : {ورب آبائكم} ؛ لأن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم.
(5/243)
{قال} فرعونُ : {إنّ رَسُولَكُمْ الذي أُرْسِلَ إِليكُمْ لمجنون} ؛ حيث يزعم أن في الوجود ألهاً غيري ، أو : حيث لا يطابق جوابه سؤالي ؛ لأني أسأله عن الحقيقة وهو يجيبني بالخاصية ، {قال} موسى عليه السلام : {ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} فتستدلون بما أقول حتى تعرفوا ربكم. وهذا غاية الإرشاد ، حيث عمم أولاً بخلق السموات والأرض وما بينهما ، ثم خصص من العام أنفسهم وآباءهم ؛ لأنّ أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ، ومن ولد منه ، وما شاهد من أحواله ، من وقت ميلاده إلى وفاته ، ثم خصّص المشرق والمغرب ؛ لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبهما في الآخر ، على تقدير مستقيم وحساب مستوٍ ، من أقوى الدلائل على وحدانية الربوبية ، ووجوب وجودها. أو : تقول : لما سأله عن ماهية الربوبية ؛ جهلاً ؛ فأجابه ، بالخاصية ، {قال ألا تستمعون} ؟ فعاد موسى إلى مثل قوله ، فجنّنه فرعون ، زاعماً أنه حائد عن الجواب ، فعاد ثالثاً مبيناً أن الواجب الوجود ، الفردَ الصمد ، لا يدرك بالكُنْهِ ، إنما يعرف بالصفات ، وما عرفه بالذات إلا خواص الخواص ، فالسؤال عن الذات من أمثاله جهل وحمق. ولذلك قال : {إن كنتم تعقلون} ، أي : إن كان لكم عقل علمتم أنه لا يمكن أن تعرفوه إلا بهذا الطريق.
قال ابن جزيّ : إن قيل : كيف قال أولاُ : {إن كنتم موقنين} ، ثم قال آخراً : {إن كنتم تعقلون} ؟ فالجواب : أنه لاَيَنَ أولاً ؛ طمعاً في إيمانهم ، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله " إن كنتم تعقلون " ، وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون : {إن رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون}. هـ.
(5/244)
ولما تجبر فرعون وبهت {قال لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلهاً غيري لأَجعلنَك من المسجونين} ، أي : لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني ، وكان من عادته أن يأخذ من يرى سجنه ، فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض ، بعيدة العمق ، فرداً ، لا ينظر فيها ولا يسمع ، وكان ذلك أشدّ من القتل. ولو قال : لأسجننك ، لم يؤد هذا المعنى ، وإن كان أخصر. قاله النسفي.
الإشارة : التربية لها حق يراعي ويجب شكرها ، ولا فرق بين تربية البشرية والروحانية. قال القشيري : لم يجحد موسى حقَّ التربية والإحسانَ إليه في الظاهر ، ولكن بَيَّنَ أنه إذا أمر الله بشيءٍ وَجَبَ اتباعُ أمره ، وإذا كانت تربية المخلوقين تُوجب حقاً ،
158
فتربية الله أولى بأن يعَظِّمَ العبدُ قَدْرَها. هـ. فكل من أحسن إلى بشريتك بشيء وجب عليه شكره ؛ بالإحسان إليه ، ولو بالدعاء ، وكل من أحسن إلى روحانيتك بالعلم أو بالمعرفة ، وجب عليك خدمته وتعظيمه ، وإنكار ذلك بسبب المقت والطرد ، والعياذ بالله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 156
وقول فرعون : {وما رب العالمين} : سؤال عن حقيقة الذات ، ومعرفة الكنه متعذرة ؛ إذ ليس كمثله شيء ، وأقرب ما يجاب به قوله تعالى : {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد : 3] فهذه الأسماء الأربعة أحاطت بالذات في الجملة ، ولم تترك منها شيئاً ، والإحاطة بالكنه متعذرة ، ولو وقعت الإحاطة لم يبق للعارفين تَرَق ، مع أن ترقيهم في كشوفات الذات لا ينقطع أبداً ، في هذه الدار الفانية ، وفي تلك الدار الباقية. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 156
قلت : (لو) : هنا ، ليست امتناعية ، بل إغيائية ، فلا جواب لها ، أي : تفعل بي هذا على كل حال ولو جئتك بشيءٍ مبين.
(5/245)
يقول الحق جل جلاله : {قال} موسى عليه السلام لفرعون ، لَمَّا هدده بالسجن : {أوَلَوْ} ؛ أتفعل ما ذكرت من سجني ولو {جِئتُك بِشَيءٍ مُبين} ؛ واضح الدلالة على صدقي ، وتوحيد رب العالمين. يريد به المعجزة ؛ فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته ، وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده. والتعبير عنه بالشيء ؛ للتهويل. {قال} فرعون : {فَأتِ به إن كُنتَ من الصادقين} فيما قلتَ من الإتيان بالشيء الواضح على صدق دعواك ، أو : من الصادقين في دعوى الرسالة.
{فألقى عصاهُ فإذا هي ثعبان مبين} أي : ظاهرثعبانيته ، لا أنه تخيل بما يشبهه كشأن الشعوذة والسحر. رُوي أنها ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة على فرعون ، تقول : يا موسى ؛ مرني بما شئت ، فيقول فرعون : أسألك بالذي أرسلك إلا اخذتها ، فأخذها ، فعادت عصا. {ونزع يده} أي : أخرجها من تحت إبطه ، {فإذا هي بيضاءُ للناظرين} أي : بياضاً خارجاً عن العادة ، بحيث يجتمع النظارة على النظر إليه ؛ لخروجه عن العادة.
رُوي أن فرعون لما أبصر الآية الأولى قال : هل لك غيرها ؟ فأخرج يده ، وقال لفرعون : ما هذا ؟ قال : يدك ، فأدخلها تحت إبطه ، ثم نزعها ، ولها شعاعٌ يكاد يُغشي الأبصار ويسدّ الأفق. فسبحان القادر على كل شيء.
الإشارة : النفوس الفرعونية هي التي تتوقف في الصدق والإيمان على ظهور المعجزة أو الكرامة ، وأما النفوس الزكية فلا تحتاج إلى معجزة ولا كرامة ، بل يخلق الله فيها
159
الهداية والتصديق بطريقة الخصوصية ، من غير توقف على شيء. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 159
قلت : (حوله) : ظرف وقع موقع الحال ، أي : مستقرين حوله.
(5/246)
يقول الحق جل جلاله : {قال} فرعونُ ، لَمَّا رأى ما بهته وحيّره ، {للملإِ حولَه} ، وهم أشراف قومه : {إنَّ هذا لساحِرٌ عليم} ؛ فائق في فن السحر. ثم أعدى قومه على موسى بقوله : {يريد أن يُخرجكم} بما صنع {من أرضكم بسحره فماذا تأمرون} ؛ تُشيرون في أمره ؛ من حبس أو قتل ، وهو من المؤامرة ، أي : المشاورة ، أو : ماذا تأمرون به ، من الأمر ، لما بهره سلطان المعجزة وحيّره ، حط نفسه عن ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده - في زعمه - والامتثال لأمرهم ، وجعل نفسه مأمورة ، أو : إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم ، بعد ما كان مستقلاً في الرأي والتدبير.
{قالوا} له : {أرْجِهْ وأخاه} أي : أَخِّرْ أمرهما ، ولا تعجل بقتلهما ؛ خوفاً من الفتنة أو : احبسهما ، {وابعث في المدائن حاشرين} أي : شُرَطاً يحشرون السحرة ، {يأتوك} أي : الحاشرون {بكل سحَّارٍ عليم} ؛ فائق في فن السحر. وأتوا بصيغة المبالغة ؛ ليُسَكِّنُوا بعض رَوعته. والله تعالى أعلم.
الإشارة : المشاورة في الأمور المهمة من شأن أهل السياسة والرأي ، وفي الحديث : " ما خَابَ مَن اسْتَخَار ، ولا نَدِمَ من اسْتَشَار " ، فالمشاورة من الأمر القديم ، وما زالت الأكابر من الأولياء والأمراء يتشاورون في أمورهم ؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 159
يقول الحق جل جلاله : {فجُمِعَ السحرةُ لميقات يوم معلومٍ} ، وهو ما عيّنه موسى عليه السلام بقوله : {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه : 59]. والميقات : ما وُقت به ، أي : حُدّ من زمان ومكان. ومنه : مواقيت الحج. {وقيلَ للناسِ هل أنتم مُجْتَمِعُون}
160
(5/247)
أي : اجتمعوا. وعبّر بالاستفهام ؛ حثّاً على الاجتماع. واستبطاء لهم ، والمراد : استعجالهم إليه ، {لعلنا نتبعُ السحرةَ} في دينهم {إن كانوا هم الغالبين} أي : إن غلبوا موسى ، ولا نتبعُ موسى في دينه ، وليس غرضهم اتباع السحرة ، وإنما الغرض الكلي ألا يتبعوا موسى ، فساقوا كلامهم مساق الكناية ؛ حملاً لهم على الاهتمام والجد في المغالبة ؛ لأنهم إذا اتبعوا السحرة لم يكونوا متبعين لموسى ، وهو مرادهم ، ولأن السحرة إذا سمعوا ذلك حملهم التروس على الجد في المغالبة.
{فلمَّا جاءَ السَّحَرةُ قالوا لفرعون أئِنَّ لنا لأجراً} أي : جزاء وافراً {إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ} لموسى ؟ {قال نعم} لكم ذلك ، {وإنكم} مع ذلك ، {إذاً لمن المقربين} عندي في المرتبة والحال ، فتكونون أول من يدخل عليّ ، وآخر من يخرج عني. ولما كان قوله : {أئِنَّ لنا لأجراً} ، في معنى جزاء الشرط ؛ لدلالته عليه ، وكان قوله : {وإنكم إذاً} : معطوفاً عليه ، دخلت " إذاً " ؛ قارة في مكانها ، الذي تقتضيه من الجواب والجزاء.
{قال لهم موسى} بعد أن قالوا له : {إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىا} [طه : 65] : {أَلْقُوا ما أنتم مُلْقُونَ} من السحر ، فسوف ترون عاقبته. لم يُرد به الأمر بالسحر والتمويه ، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه البتة ؛ توسلاً به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل ، {فَأَلْقَواْ حِبَالَهم وعِصِيَّهُم} ، وكانوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصاً. وقيل : كانت الحبال اثنين وسبعين ، وكذا العصِيِّ. {وقالوا} بعد الإلقاء ، لما رأوها تتحرك وتقبل وتُدبر : {بعزَّةِ فرعونَ إنا لنحن الغالبون} ، قالوا ذلك ؛ لفرط اعتقادهم في أنفسهم ، وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر ، أقسموا بعزته وقوته ، وهو من أيمان الجاهلية. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 160
(5/248)
الإشارة : السحر على قسمين : سحر القلوب إلى حضرة الحق ، وسحر النفوس إلى عالم الخلق ، أو : إلى عالم الخيال. فالأول : من شأن العارفين بالله ، الداعين إلى الله ، فهم يسحرون قلوب من أتى إليهم إلى حضرة القدس ، ومحل الأنس ، فيقال في شأنهم : فجمع السحرة بقلوبهم ، إلى مقات يوم معلوم ، وهو يوم الفتح والتمكين ، أو يوم النفحات ، عند اتفاق جمعهم في مكان معلوم. وقيل للناس ، وهم عوام الناس : هل أنتم مجتمعون لتفيقوا من سكرتكم ، وتتيقظوا من نوم غفلتكم ، لعنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ، ولا شك في غلبتهم ونصرهم ؛ لقوله تعالى : {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج : 40].
جزء : 5 رقم الصفحة : 160
يقول الحق جل جلاله : {فألقى موسى عصاه} من يده ، {فإِذا هي تلقفُ} أي : تبتلع بسرعة {ما يأفكون} : ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم ، ويزورونه ، فيُخيِّلون في حبالهم وعصيّهم أنها حيات تسعى ، {فأُلقي السحرةُ ساجدين} لما شاهدوا ذلك من غير تلعْثم ولا تردد ، غير متمالكين لأنفسهم ؛ لعلمهم بأن ذلك خارج عن حدود السحر ، وأنه أمر إلهي ، يدل على تصديق موسى عليه السلام. وعَبَّر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة ؛ لقوله : {ألقو ما أنتم ملقون} ، فألقى ، فلما خروا سجوداً ، {قالوا آمنا بربِّ العالمين} ، قال عكرمة : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. هـ. {ربِّ موسى وهارون} : عطف بيان ، أو : بدل من {رب العالمين}. فدفع توهم إرادة فرعون ؛ لأنه كان يدعي الربوبية ، فأرادوا أن يعزلوه منها. وقيل : إن فرعون لما سمع منهم : {آمنا برب العالمين} ، قال : إياي عنيتم ؟ قالوا : {ربِّ موسى وهارون}.
(5/249)
{قال آمنتم له قبل أنْ آذنَ لكم} أي : بغير إذن لكم ، كما في قوله تعالى : {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف : 109] ، لا أن الإذن منه ممكن أو متوقع ، {إنه لكبيرُكم الذي علّمكم السحرَ} فتواطأتم على ما فعلتم ؛ مكراً وحيلة. أراد بذلك التلبيس على قومه ؛ لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق. ثم هَدَّدَهُم بقوله : {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ} ، يداً من جهة ورجلاً من أخرى ، أو : من أجل خلافٍ ظهر منكم ، {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} قيل : إنه فعل ذلك ، ورُوي عن ابن عباس وغيره ، وقيل : إنه لم يقدر على ذلك ، لقوله تعالى : {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص : 35].
{قالوا} أي : السحرة : {لا ضَيْرَ} أي : لا ضرر علينا في ذلك ، فحذف خبر " لا " ، {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا} الذي عرفناه وواليناه {منقلبون} لا إليك ، فيُكرم مثوانا ويُكفر خطايانا ، أو : لا ضرر علينا توعدتنا به ؛ إذ لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بالموت ، فلأن يكون في ذاته وسبب دينه أولى ، قال الورتجبي : لَمَّا عاينوا مشاهدة الحق سَهُلَ عليهم البلاء ، لا سيما أنهم يطمعون أن يصلوا إليه ، بنعت الرضا والغفران. هـ. ولذلك قالوا : {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا} أي : لأن كنا {أَوَّلَ المؤمنين} من أهل المشهد ، أو : من أَتْبَاعِ فرعون.
جزء : 5 رقم الصفحة : 161
الإشارة : من شأن خواص الملك ألا يفعلوا شيئاً إلا بإذنٍ من ملكهم ، ولذلك أنكر فرعونُ على السحرة المبادرة إلى الإيمان قبل إذنه ، وبه أخذت الصوفية الكبار والفقراء مع أشياخهم ، فلا يفعلون فعلاً حتى يستأذنوا فيه الحق تعالى والمشايخ ، وللإذن سر كبير ، لا يفهمه إلا من ذاق سره. وتقدم بقية الإشارة في سورة الأعراف. والله تعالى أعلم.
162
جزء : 5 رقم الصفحة : 161
(5/250)
قلت : أسرى وسرى : لغتان ، وقرئ بهما.
يقول الحق جل جلاله : {وأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ} بقطع الهمزة ووصلها ، أي : سر {بعبادي} ليلاً. وسماهم عباده ؛ لإيمانهم بنبيهم ، وذلك بعد إيمان السحرة بسنين ، أقام بين أظهرهم ، يدعوهم إلى الحق ويُظهر لهم الآيات ، ثم أمره بالخروج ، وقال : {إِنَّكُم مُّتَّبعُونَ} أي : يتبعكم فرعونُ وجنوده مصبحين ، فأسر بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر ، فيدخلوا مداخلكم ، فأُطبقه عليهم فأُغرقهم. رُوي أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوت القبط ولد ، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. ورُوي أن الله أوحى إلى موسى : أن أجمع بين إسرائيل ، كلّ أربعة ابيات في بيت ، ثم اذبحوا أولاد الضأن ، فاضربوا بدمائها على أبوابكم ، فإني سآمر الملائكة فلا تدخل بيتاً فيه دم ، وسآمرها فتقتل أبكار القبط ، وأخبزوا فطيراً ؛ فإنه أسرع لكم ، ثم أَسْرِ بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري. هـ. وحكمة لطخ الدم ليتميز بيوت بني إسرائيل ، فلا تقتل الملائكة فيها أحداً. عاملهم على قدر عقولهم ، وإلا فالملك لا يخفى عليه ما أُمر به.
(5/251)
{فأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ} حين أخبر بمسيرهم {في المدائن حاشرين} ؛ جامعين للعساكر ليتبعهم ، فلما اجتمعوا قال : {إنّ هؤلاء} ، يريد بني إسرائيل {لَشِرْذِمَةٌ} ؛ طائفة قليلة {قليلون} ، ذكرهم بالاسم الدالّ على القلة ، ثم جعلهم قليلاً بالوصف ، ثم جمع القليل ، فيدل على ان كل حزب منهم قليل. أو : أراد بالقلة : الذلة ، لا قلة العدد ، أي : إنهم ؛ لذلتهم ، لا يُبالي بهم ، ولا يتوقع غلبتهم. قال ابن عرفة : شرذمة : تقليل لهم باعتبار الكيفية ، وقليلون : باعتبار الكمية ، وإنما استقلّ قوم موسى - وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً - ؛ لكثرة مَن معه ، فعن الضحاك : كانوا سبعة آلاف ألف ، ورُوي أنه أرسل في أثرهم ألفَ ألف وخمسمائة ألف ملِك مُسوّر ، مع كل ملِك ألفٌ ، وخرج فرعون في جمع عظيم ، وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان ، وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنه خرج فرعون في ألف ألف حصان ، من سوى الإناث. هـ.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 163
وإنهم لنا لغائظون} أي : فاعلون ما يغيظنا ، وتضيق به صدورنا ، وهو خروجهم من مصر ، وحملهم حُلينا ، وقتلهم أبكارنا ، {وإنا لجميع حاذِرُون} أي : ونحن قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور ، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إطفاء ثائرته وحسم فساده ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن ؛ لئلا يظن العجز. وقرئ
163
(حذرون) ؛ بالمد والقصر ، فالأول دال على تجدد الحذر ، والثاني على ثبوته.
قال تعالى : {فأخرجناهم} أي : خلقنا فيهم داعية الخروج وحملناهم عليه ، {من جناتٍ} ؛ بساتين {وعيونٍ} ، وأنهار جارية ، {وكنوز} ؛ أموال وافرة من ذهب وفضة ، وسماها كنوزاً ؛ لأنهم لم يُنفقوا منها في طاعة الله تعالى شيئاً. {ومَقَامٍ كريم} أي : منزل رفيع بَهيّ ، وعن ابن عباس : المنابر.
(5/252)
{كذلك} أي : الأمر كذلك ، أو : أخرجناهم مثل ذلك الإخراج العجيب ، فهو خبر ، أو : مصدر تشبيهي لأخرجنا. {وأورثنا بني إسرائيل} أي : ملكناها إياهم ، على طريقة تمليك مال الموروث للوارث ؛ لأنهم ملكوها من حين خروج أربابها عنها قبل أن يقبضوها. وعن الحسن : لما عبروا النهر رجعوا ، وأخذوا ديارهم وأموالهم. هـ. قال ابن جزي : لم يذكر في التواريخ مُلك بني إسرائيل لمصر ، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام ، فتأويله على هذا : أورثناهم مثل ذلك بالشام. هـ. قلت : بل التحقيق أنهم ملكوا التصرف في مصر ، ووصلت حكومتهم إليها ، ولم يرجعوا إليها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا ينتصر نبيّ ولا وليّ إلا بعد أن يهاجر من وطنه ؛ سُنّة الله التي قد خلت من قبل ، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً ، والنصرة مقرونة مع الذلة والقلة ؛ {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة}. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 163
يقول الحق جل جلاله : {فأَتْبَعُوهم} أي : فأتبع فرعونُ وقومُه بني إسرائيل ، أي : لحقوا بهم ، وقرئ بشد التاء ، على الأصل ، {مُشْرِقين} ؛ داخلين في وقت شروق الشمس ، أي : طلوعها ، {فلما تراءى الجمعان} أي : تقابلا ، بحيث يرى كلُّ فريقٍ صاحبَه ، أي : بنو إسرائيل والقبط ، {قال أصحابُ موسى إنا لمدْرَكون} أي : قرب أن يلحقنا عدونا ، وأمامنا البحر ، {قال} موسى عليه السلام ؛ ثقة بوعد ربه : {كلاَّ} ارتدعوا عن سوء الظن بالله ، فلن يُدرككم أبداً ، {إنَّ معي ربي سيهدين} أي : سيهديني طريق النجاة منهم.
رُوي أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر هاجت الريح ، والبحر يرمي بموج
164
(5/253)
مثل الجبال ، فقال يُوشع عليه السلام : يا كليم الله ، أين أُمرتَ ، فقد غَشِيَنَا فرعونُ ، والبحرُ أمامنا ؟ قال عليه السلام : ها هنا ، فخاض يُوشع الماء ، وضرب موسى بعصاه البحر ، فكان ما كان ، وقال الذي كان يكتم إيمانه ؛ يا مكلم الله أين أُمرتَ ؟ قال : ها هنا. فكبح فرسَه بلجامه ، ثم أقحمه البحر ، فرسب في الماء ، وذهب القومُ يصنعون مثل ذلك ، فلم يقدروا ، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع ؟ فأوحى الله إليه : {أن اضرب بعصاك البحر} ، فضربه ، فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه ، لم يبتلَّ لِبْدُه ولا سَرْجه.
وقال محمد بن حمزة : لما انتهى موسى إلى البحر ، دعا ، فقال : يا من كان قبل كل شيء ، والمكوّن لكلّ شيء ، والكائن بعد كلِّ شيء ، اجعل لنا مخرجاً ، فأوحى الله إليه : أن اضرب بعصاك البحر ، وذلك قوله تعالى : {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحرَ} أي : القلزم ، أو النيل ، {فانفلق} أي : فضرب فانفلق وانشقَّ ، فصار اثني عشر فرقاً ، على عدد الأسباط. {فكان كلُّ فِرْقٍ} أي : جزء من الماء {كالطَّوْدِ} : كالجبل المنطاد في السماء {العظيم} ، وبين تلك الجبال من الماء مسالك ، بأن صار الماء مكفوفاً كالجامد ، وما بينها يَبَس ، فدخل كل سبط في شعْبٍ منها.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 164
وأَزْلَفْنَا} أي : قَرَّبْنَا {ثَمَّ الآخرين} أي : فرعون وقومه ، حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم ، {وأنجينا موسى ومَن معه أجمعين} من الغرق ؛ بحفظ البحر على تلك الهيئة ، حتى عبروه ، {ثُمَّ أغرقنا الآخرين} ؛ بإطباقه عليهم. قال النسفي : وفيه إبطالُ القول بتأثير الكواكب في الآجال وغيرها من الحوادث ، فإنهم اجتمعوا في الهلاك ، على اختلاف طوالعهم. رُوي أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون ، فكان يقول لبني إسرائيل : ليلحق آخركم بأولكم ، ويستقبل القبط فيقول : رويدكم ، ليلحَق آخركم. هـ.
(5/254)
{إنَّ في ذلك لآيةً} أي : في جميع ما فصّل ؛ مما صدر عن موسى عليه السلام ، وما ظهر على يديه من المعجزات القاهرة ، وفيما فعل فرعونُ وقومه ؛ من الأفعال والأقوال ، وما فُعل بهم من العذاب والنكال ، لعبرة عظيمة ، لا تكاد تُوصف ، موجبة لأن يعتبر المعتبرون ، ويقيسوا شأن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن موسى عليه السلام ، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ، ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ، فيؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله ، كي لا يحل بهم ما حلّ بأولئك ، أو : إن فيما فُصل من القصة ؛ من حيث حكايته عليه السلام إياها على ما هي عليه ، من غير أن يسمعها من أحد ، لآية عظيمة دالة على ان ذلك بطريق الوحي الصادق ، موجبة للإيمان بالله تعالى ،
165
وتصديق من جاء بها وطاعته. {وما كان أكثرُهُم مؤمنين} أي : وما كان اكثر هؤلاء المكذبين الذين سمعوا قِصَصهم منه - عليه الصلاة والسلام - مؤمنين ، فلم يقيسوا حاله صلى الله عليه وسلم بحال موسى ، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلَكين ، ولم يتدبروا في حكايته صلى الله عليه وسلم لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد ، مع كونه أمياً لا يقرأ ، وكل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان ، قطعاً لانهماكهم في الغفلة ، فكان ؛ على هذا ، زائدة ، كما هو رأي سيبوبه ، فيكون قوله تعالى : {وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف : 103] وهو إخبار منه تعالى بعدم إيمانهم في المستقبل ، أو : وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين بموسى عليه السلام ، قال مقاتل : لم يؤمن من أهل مصر غير رجل وامرأتين ؛ حزيقل المؤمن من آل فرعون ، وآسية امرأة فرعون ، ومريم بنت ياموشى ، التي دَلَّتْ على عظام يوسف. هـ.
(5/255)
{وإن ربك لهو العزيز} ؛ الغالب على كل ما يريد من الأمور ، التي من جملتها : الانتقام من المكذبين ، {الرحيم} ؛ البالغ في الرحمة ، ولذلك أمهلهم ولم يعاجل عقوبتهم ، أو : العزيز بالانتقام من أعدائه ، الرحيم بالانتصار لأوليائه. جعلنا الله من خاصتهم بمنِّه وكرمه ، آمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 164
الإشارة : قوله تعالى : {إن معي ربي سيهدين} : اعلم أن المعية تختلف باختلاف المقام ، فالمعية ، باعتبار عامة الخلق ، تكون بالإحاطة والقهرية والعلم والإقتدار ، وباعتبار الخاصة تكون بالحفظ والرعاية والنصر والمعونة. فمن تحقق أن الله معه بعلمه وحفظه ورعايته اكتفى بعلمه ، وفوض الأمر إلى سيده ، وكلما قوي التفويض والتسليم دلّ على رفع المقام ، ولذلك فضَّل ما حكاه الحق تعالى عن حبيبه بقوله : {إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة : 40] ، على ما حكى عن كليمه بزيادة قوله : {سيهدين} فتأمل. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 164
يقول الحق جل جلاله : {واتلُ عليهم} أي : على المشركين {نبأَ إبراهيمَ} أي :
166
(5/256)
خبره العظيم الشأن ، ولم يأمر في قصص هذه السورة بتلاوة قِصَّةٍ إلا في هذه ؛ تفخيماً لشأنه ، وتعظيماً لأمر التوحيد ، الذي دلت عليه. {إذْ قال} أي : وقت قوله {لأبيه وقومه ما تعبدون} أي : أيُّ شيء تعبدون ؟ وإبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عَبَدة الأصنام ، لكنه سألهم ؛ ليُعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة ، {قالوا نعبد أصناماً} ، وجواب {ما تعبدون} : هو قولهم : {أصناماً} ؛ لأن السؤال وقع عن المعبود لا عن العبادة ، فكان حق الجواب أن يقولوا : أصناماً ، كقوله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة : 219] ، وكقوله تعالى : {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ} [سبأ : 23]. لكنهم أطنبوا فيه بإظهار العامل ؛ قصداً إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بعبادتها ، {فنظلُّ لها عاكفين} أي : فنقيم على عبادتها طول النهار. وإنما قالوا : {فنظل} ؛ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل : أو يراد به الدوام.
{قال} إبراهيمُ عليه السلام : {هل يسمعونكم إذ تَدْعون} أي : هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم ، على حذف مضاف ، {أو ينفعونكم} إن عبدتموها ، {أو يَضُرُّونَ} ؛ أو يضرونكم إن تركتم عبادتها ؛ إذ لا بد للعبادة من جلب نفع أو دفع ضر ؟ {قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون} فاقتدينا بهم. اعترفوا بأن أصنامهم بمعزل عما ذكر ؛ من السمع ، والمنفعة ، والمضرة بالمرة. واضطروا إلى إظهار أنهم لا سند لهم سوى التقليد الرديء.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 166
(5/257)
قال} إبراهيم : {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} أي : أنظرتم وأبصرتم وتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون {أنتم وآباؤكم الأقدمون} حق الإبصار ، أو حق العلم ، {فإنهم عدو لي} أي : فاعلموا أنهم أعداء لي ، لا أحبهم ولا يحبونني ، أو : لو عبدتموهم لكانوا أعداء لي يوم القيامة ، كقوله : {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم : 82] ، وقال الفراء : هو من المقلوب ، أي : فإني عدو لهم ، والعدو يجيء بمعنى الواحد والجماعة ؛ لأنه فَعُولٌ ، كصبور. وفي قوله : {عدو لي} ، دون " لكم " ؛ زيادةُ نصحٍ ، لكونه أدعى لهم إلى القبول ، ولو قال : فإنهم عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ، ولم يقبلوه ، {إلا ربِّ العالمين} : استثناء منقطع ، أي : لكن رب العالمين ليس كذلك ، بل هو حبيب لي. وأجاز الزَّجَّاجُ أن يكون متصلاً ، على أن الضمير لكل معبود ، وكان من آبائهم من عَبَد الله تعالى ، وهم أيضاً كانوا يعبدون الله مع أصنامهم.
ثم وصف الربّ تعالى قوله : {الذي خلقني} بالتكوين في القرار المكين ، {فهو يَهدين} وحده إلى كل ما يُهمني ويُصلحني من أمور الدين والدنيا ، هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح ، متجددة على الاستمرار ، كما ينبئ عنه صيغة المضارع. وعبَّر بالاستقبال ، مع سبق الهداية في الأزل ؛ لأن المراد ما ينشأ عنها ، وهو الاهتداء لما هو الأهم والأفضل والأتم والأكمل ، أو : والذي خلقني لأسباب خدمته فهو يهدين إلى آداب خُلَّتِهِ.
167
ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو ، بخلاف الهداية والإطعام والسقي ، فإنه يكون على سبيل المجاز من المخلوقين ، ولذلك أكده بهو ؛ ليخصه به تعالى.
(5/258)
{والذي هو يُطعمني} لا غيره ، أصناف الإطعام إلى مُولي الإنعام ؛ لأن الركون إلى الأسباب عادة الأَنْعام. {و} هو أيضاً الذي {يسقين} أي : يرويني بمائه. وتكرير الموصول في المواضع الثلاثة ؛ للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى ، مستقل في استيجاب الحكم. {وإِذا مرضت فهو يَشْفين} : عطف على {يُطعمني ويسقين} ، ونظم معهما في سلك الصلة بموصول واحد ؛ لأن الصحة والمرض من متبوعات الأكل والشرب في العادة ، غالباً.
وقال في الحاشية : ثم ذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة وتستمر ، وهو الغذاء والشراب ، ولمَّا كان ذلك مبنياُ على غلبة إحدى الكيفيات على الآخر ، بزيادة الغذاء أو نقصانه ، فيحدث بعد ذلك مرض ، ذكر نعمته بإزالة ما حدث من السقم. هـ. ونسبة المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى ، مع أنهما منه تعالى ؛ لمراعاة حسن الأدب ، كما قال الخضر عليه السلام : {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف : 79] ، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف : 82].
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 166
والذي يُميتني ثم يُحيينِ} ، ولم يقل : وإذا مت ؛ لأن الإماتة والإحياء من خصائصه تعالى. وأيضاً : الموت والإحياء من كمال الكمال ؛ لأنه الخروج من سجن الدنيا إلى السرور والهناء ، أو : الخروج من دار البلاء والفناء إلى دار الهناء والبقاء. {والذي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفَر لي} أي : في مغفرته لي {خطيئتي يومَ الدين} ، ذكره عليه السلام ؛ هضماً لنفسه ، وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي ، ويكونوا على حذر منها ، وطلب مغفرته لما يفرط منهم. وقال أبو عثمان : أخرج سؤاله على حد الأدب ، لم يحكم على ربه بالمغفرة ، ولكنه طَمِعَ طَمَعَ العبيد في مواليهم ، وإن لم يكونوا يستحقون عليهم شيئاً ؛ إذ العبد لا يستحق على مولاه شيئاً ، وما يأتيه يأتيه من فضل مولاه. هـ.
(5/259)
وقيل : أشار إلى قوله : {إِنّيِ سَقِيم} [الصافات : 89] {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء : 63] وقوله في سارّة : " هي أختي " ؛ حذراً من الجبار. وفيه نظر ؛ لأنها مع كونها معاريض ، لا من قبيل الخطايا المفتقرة إلى الاستغفار ، إنما صدرت عنه عليه السلام بعد هذه المقالة الجارية بينه وبين قومه في أول أمره. وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين ، مع كونها إنما تُغفر في الدنيا ؛ لأن أثرها إنما يظهر يومئذٍ ، ولأن في ذلك تهويلاً له ، وإشارة إلى قوع الجزاء فيه ، إن لم يغفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي لك أيها العبد أن تكون إبراهيمياً حنيفياً ، فتنبذ جميعَ الأرباب ، وتعادي كل من يشغلك عن محبة الحبيب ، من العشائر والأصحاب ، وتقول لمن عكف
168
على متابعة هواه ، ولزم الحرص على جمع دنياه ، هو ومن تقدمه : أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمون ، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ، الذي خلقني لعبوديته ، فهو يهدين إلى معرفته ، والذي هو يطعمني طعم الإيمان واليقين والإحسان ، ويسقيني من شراب خمرة العيان ، وإذا مرضتُ بالذنوب فهو يشفين بالتوبة ، أو : مرضت بشيء من العيوب فهو يشفين بالتطهير منها. أو : إذا مرضت برؤية السِّوى ، فهو يشفين بالغيبة عنه ، والذي أطمع أن يطهرني من البقايا ، ويجعلني من المقربين يوم الدين. وقال ذو النون رضي الله عنه : يطعمني طعام المعرفة ، ويسقيني شرا ب المحبة ، ثم قال :
شَرَابُ المَحَبَّةِ خَيْرُ الشَّرابْ
وكُلُّ شرابٍ سواه سَرَابْ
وقال الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه : إن لله شراباً ، يقال له : شراب المحبة ، ادخره لأفاضل عباده ، فإذا شربوا سكروا ، وإذا سكروا طاشوا ، وإذا طاشوا طاروا وصلوا ، وإذا وصلوا اتصلوا ، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. هـ. قلت : شراب المحبة هو خمرة الفناء والغيبة في الله ، بديل قول ابن الفارض رضي الله عنه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 166
(5/260)
فَلَمْ تهْوَني ما لم تكنْ فِيَّ فانِياً
ولمَ تَفْنَ ما لم تجتل فيكَ صورتي
وقال الجنيد رضي الله عنه : يُحشر الناس يوم القيامة عراة ، إلا من لبس ثياب التقوى ، وجياعاً إلا من أكل طعام المعرفة ، وعطاشاً إلا من شرب شراب المحبة. هـ. وقد يستغني صاحب طعام المعرفة وشراب المحبة عن الطعام والشراب الحسيين ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، حين كان يواصل : " إني أبَيتُ عند ربي يُطعمني ويسقين ". قال أبو الوراق في قوله تعالى : {الذي هو يُطعمني ويسقين} أي : يُطعمني بلا طعام ، ويسقيني بلا شراب. قال : ويدل عليه حديث السَّقَّاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ثلاثة أيام : {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} ، فرمى بِقِرْبَتِهِ ، فأتاه آتٍ في منامه بقدح من شراب الجنة ، فسقاه ، قال أنس : فعاش بعد ذلك نيفاً وعشرين سنة ، ولم يأكل ولم يشرب على شهوة. هـ.
وكان عبد الرحمن بن أبي نعيم لا يأكل في الشهر إلا مرة ، فأدخله الحجاج بيتاً ، وأغلق عليه بابه ، ثم فتحه بعد خمسة عشر يوماً ، ولم يشك أنهم مات ، فوجده قائماً يُصلي ، فقال : يا فاسق ، تصلي بغير وضوء ؟ فقال : إنما يحتاج الوضوء من يأكل ويشرب ، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها. هـ. ومكث سفيان الثوري بمكة دهراً ، وكان يَسفُّ من السبت إلى السبت كفاً من الرمل. هـ. وهذا من باب الكرامة ، فلا يجب طردها ، وقد تكون بالرياضة ، وطريق المعرفة لا تتوقف على هذا. والله تعالى أعلم.
169
جزء : 5 رقم الصفحة : 166
(5/261)
يقول الحق جل جلاله : حاكياً عن خليله إبراهيم عليه السلام : {ربِّ هبْ لي حُكماً} أي : حكمة ، أو حُكماً بين الناس ، أو نبوة ؛ لأن النبي ذو حُكم بين عباد الله. {وألحِقْني بالصالحين} أي : الأنبياء ، الذين صلحوا لحمل أعباء النبوة والرسالة ، وصلحت سرائرهم للحضرة ، ولقد أجابه بقوله : {وإنه في الآخرة لمن الصالحين}. {واجعل لي لسانَ صدقٍ في الآخرين} أي : ثناءً حسناً ، وذكراً جميلاً في الأمم التي تجيء بعدي ، فأُعطي ذلك ، فكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه ، ووضَعَ اللسانَ موضعَ القول ؛ لأن القول يكون به. أو : واجعلني على طريق قويم ، وحال مُرضي ، يُقتدى بي فيهما ، ويُحمد أثري بعد موتي ، كما قيل :
مَوْتُ التقِيِّ حَيَاةٌ لا فناء لها
قد مات قومٌ وهم في الناس أَحْيَاءُ
وقد تحقق له جميع ذلك ، وخصوصاً في هذه الأمة ، حتى أنه مذكور ومقرون في كل صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : سأل أن يجعله صالحاً ، بحيث إذا أثنى عليه من بعده لم يكن كاذباً. وقيل : سأل الإمامة في التوحيد والدين ، وقد أجيب بقوله : {إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة : 124].
(5/262)
{وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أي : اجعلني وارثاً من ورثة جنة النعيم ، أي : الباقين فيها ، {واغفرْ لأبي} ، أي : اجعله أهلاً للمغفرة ، بإعطاء الإسلام ؛ {إنه كان من الضالين} : الكافرين ، أو : اغفر له على حاله. وكان قبل النهي. {ولا تُخزني يوم يُبعثون} أي : لا تُهنِّي يوم يبعثون. الضمير للعباد ؛ لأنه معلوم ، أو : للضالين ، أي : لا تخزني في أبي يوم البعث ، وهذا من جملة الاستغفار لأبيه ، وكان قبل النهي عنه ، أي : لا تُهِنِّي ، {يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ} ، أي : لا ينفع فيه مال ، وإن كان مصروفاً في وجوه البر ، ولا بنون ، وإن كانوا صُلحاء متأهلين للشفاعة ، {إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ} من الكفر والنفاق ؛ فإنه ينفعه ماله المصروف في طاعة الله ، ويشفع فيه بنوه ، إن تأهلوا للشفاعة ، بأن أَدَّبَهُمْ ودرَّجهم إلى اكتساب الكمالات والفضائل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 170
وقال ابنُ المسيَبِ : القلب السليم هو قلب المؤمن ؛ فإن قلب الكافر والمنافق مريض ؛ قال الله تعالى : {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [البقرة : 10]. وقال أبو عثمان : هو القلب الخالي من البدعة ، المطمئن على السنة. وقال الحسن بن الفضل : سليم من آفات المال ، والبنين والله تعالى أعلم.
170
الإشارة : قد استعمل إبراهيم عليه السلام الأدب ، الذي هو عمدة الصوفية ، حيث قدّم الثناء قبل الطلب ، وهو مأخوذ من ترتيب فاتحة الكتاب. وقوله تعالى : {ربِّ هبْ لي حُكماً} : قال القشيري : أي : على نفسي أولاً ، فإن من لا حُكْم له على نَفْسِه لا حُكْمَ له على غيره ، {وألحقني بالصالحين} ؛ بالقيام بحقك ، دون الرجوع إلى طلب الاستقلال لنفسي دون حقك. هـ.
(5/263)
ومما اصطلحت عليه الصوفية أن الصالحين : من صلحت ظواهرهم ، وتطهرت قلوبهم من الأمراض. وفوقهم الأولياء ، وهم من كُشف عنهم الحجاب ، وأفضوا إلى الشهود والعيان ، وفوقهم درجة النبوة والرسالة ، فقول الخليل {وألحقني بالصالحين} ، وكذلك قال الصدِّيق ، هو تنزل وتواضع ؛ ليعرف جلالة قدر الصالحين ، فما بالك بمن فوقهم! فهو كقول نبينا صلى الله عليه وسلم : " اللهُمَّ أحينِي مِسْكيناً ، وأمِتْنِي مِسْكيناً ، واحْشُرني في زُمْرة المسَاكين " أي : اجعل المساكين هم قرابتي ، المحدقون بي في المحشر ، فقد عَرَّف صلى الله عليه وسلم بفضيلة المساكين ، وعظَّم جاههم ، بطلبه أن يكونوا في كفالته ، لا أنه في كفالتهم ، وكذلك الخليل والصدِّيق ، عَرَّفا بفضيلة الصالحين من أهل الإسلام ، أو أنهما طلبا اللحوق بهم.
وقوله تعالى : {واجعل لي لسانَ صدْقٍ في الآخرين} ؛ كل من اخلص وجهه لله ، وتخلصت سريرته مما سوى الله ، وكان إبراهيمياً حنيفياً ، جعل الله له لسان صدق فيمن يأتي بعده ، وحسن الثناء عليه في حياته وبعد مماته ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أحب الله عبداً نادى جبريل : إن الله يُحب فلاناً فَأَحِبَّهُ ، فَيُحِبُّهُ جبريل ، ثم ينادي جبريل في أهل السموات : إن الله يحب فلاناً فأحِبُّوه ، فيحبُّه أهل السماء ، ثم يُوضَع له القَبُول في الأرض " أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى : {واغفر لأبي...} إلخ. قال القشيري : هذا عند العلماء : إنما قاله قبل يأسه من إيمانه ، وعن أهل الإشارة : ذكره في وقت غَلَبَةِ البَسْط ، وتجاوز ذلك عنه ، وليس إجابةُ العبد واجبةً عليه في كل شيء ، وأكثر ما فيه : أنه لا يجيبه في ذلك ، ثم لهم أسوة في ذكر أمثال هذا الخطاب ، وهذا لا يهتدي إليه كلُّ أحدٍ. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 170
(5/264)
قال المحشي : وينظر لما قاله العلماء ، وبه الفتوى ، قوله : {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة : 114] ، وينظر للسان الإشارة شفاعته له يوم القيامة ، وتكلمه فيه بقوله : (وأيُّ خِزْيٍ أعظم من كون أبي في النار...) الحديث ، وكذا قوله : {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم : 36] ، وجاء ذلك من استغراقه في بحر الرحمة ، على سعة
171
العلم ، ومثله استغفار نبينا صلى الله عليه وسلم لابن أُبَيّ ، وصلاته عليه ، وانظر الطيبي في آية : {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر : 7]. هـ.
وقوله تعالى : {إلا من أتى الله بقلب سليم} ، أظهر ما قيل في القلب السليم : أنه السالم من الشكوك والأوهام ، والخواطر الردية ، ومن الأمراض القلبية ، ولا يتحقق له هذا إلا بصحبة شيخ كامل ، يُخرجه من الأوصاف البشرية ، إلى الأوصاف الروحانية ، ويحققه بالحضرة القدسية ، وإلا بقي مريضاً ، حتى يلقى الله بقلب سقيم. وفي الإحياء : السعادة منوطة بسلامة القلب من عوارض الدنيا ، والجودُ بالمال من عوارض الدنيا ، فشرط القلب أن يكون سليماً بينهما ، أي : لا يكون ملتفتاً إلى المال ، ولا يكون حريصاً على إمساكه ، ولا حريصاً على إنفاقه ؛ فإن الحريصَ على الإنفاق مصروفُ القلب إلى الإنفاق ، كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك. وكان كمال القلب أن يصفو من الوصفين جميعاً. وقال الداراني : القلب السليم هو الذي ليس فيه غير الله تعالى. هـ. وقال الجنيد رضي الله عنه : السليم في اللغة : اللديغ ، فمعناه : كاللديغ من خوف الله تعالى. هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 170
قلت : (وأُزلفت) : عطف على (ينفع) ، وصيغة الماضي فيها وفيما بعدها ؛ لتحقق الوقوع.
(5/265)
يقول الحق جل جلاله ، في شأن اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون : {وأُزلفتِ} أي : قُّربت {الجنةُ للمتقين} ، أي : تزلف من موقف السعداء ، فينظرون إليها ، {وبُرِّزتِ الجحيمُ} : أُظهرت ، حتى يكاد يأخذهم لهبها ، {للغاوين} : للكافرين ، {وقيلَ لهم أينَ ما كنتم تعبدون من دون الله هل يَنْصُرونكم} بدفع العذاب عنكم ، {أو ينتصرون} بدفعه عن أنفسهم ، يوبّخون على إشراكهم ، فيقال لهم : أين آلهتكم التي عبدتموها ، هل ينفعونكم اليوم بنصرتهم لكم ؟ أو : هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لها ؟ كلا ، بل هم وآلهتهم وَقُودُ النار ، كما قوله تعالى :
172
{فكُبْكِبُوا فيها} أي : أُلقوا في الجحيم على وجوههم ، مرة بعد أخرى ، إلى أن يستقروا في قعرها. وفي القاموس : كبّه : قَلَبَهُ وصرعه ، كأكبه وكبكبه. هـ. أي : صُرِعُوا ؛ منكبين في الجحيم على وجوههم ، {هم} أي : آلهتهم {والغاوون} أي : الذين كانوا يعبدونهم.
وفي تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم مُؤَخِّرُونَ عنها في الكبكبة ؛ ليشاهدوا سوء حالها ، فيزدادوا غماً على غم ، {وجنودُ إبليسَ} أي : يكبكبون معهم {أجمعون} ، وهو شياطينه الذين كانوا يقوونهم ويوسوسونهم ، ويُسَوِّلُونَ لهم ما هم عليه من عبادة الأصنام ، وسائر فنون الكفر والمعاصي ، أو : متبعوه من عصاة الجن والإنس ؛ ليجتمعوا في العذاب ، حسبما كانوا مجتمعين فيما يوجبه.
{قالوا} أي : العبدة {وهم فيها يختصمون} أي : قالوا معترفين بخطئهم في انهماكهم في الضلالة ؛ متحسرين ، والحال : أنهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم من المذكورين ، فيجوز أن يُنطق الله الأصنامَ ، حتى يصح منها التخاصم والتقاول ، ويجوز أن يجري ذلك بين العصاة والشياطين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 172
(5/266)
قالوا : {تالله إنْ كُنَّا لفي ضَلاَل مُبِين} أي : إن الشأن كنا في ضلال واضح ، لا خفاء فيه ، {إذ نسويكم} ؛ نَعْدِلُكُم {بربِّ العالمين} فنعبدُكم معه ، أي : تالله لقد كنا في ضلال فاحش وقت تسْويتنا إياكم أيها الأصنام ، في استحقاق العبادة ، برب العالمين ، الذي أنتم أدنى مخلوقاته ، وأذلهم وأعجزهم ، {وما أضَلَّنا إلا المجرمون} أي : رؤساؤهم ، الذين أضلوهم ، وإبليس وجنوده ، ومن سنَّ الشرك. وليس المراد قصر الإضلال على المجرمين دون من عداهم ، بل قصر ضلالهم على كونه بسبب إضلالهم ، من غير أن يستقلوا به ، وهذا كقولهم : {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} [الأحزاب : 67]. وعن السُّدِّي : هم الأولون الذين اقتدوا بهم. وأيّا ما كان ففيه التعريض للذين قالوا : {بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}.
ثم قالوا : {فما لنا من شافعين} كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - وغيرهم ممن أُهِّلَ للشفاعة. {ولا صديقٍ حميم} كما لهم أصدقاء ؛ إذ لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون ، وأما الكفار فبينهم التعادي كما يأتي في الآية. أو : ما لنا من شافعين ، ولا صديق من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء ؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن أصنامهم تشفع لهم عند الله ، وكان له أصدقاء من شياطين الإنس ، فلم ينفعهم شيء من ذلك. وجمع الشفعاء ووحّد الصديق ؛ لكثرة الشفعاء. وأما الصديق ، وهو الصادق في ودادك ، الذي يهمه ما أهمك ، ويسره ما أسرك ، فقليل ، وسئل حكيم عن الصديق ، فقال : (اسم لا معنى له) ، أي : لا وجود له ، والبركة لا تنقطع.
قال القشيري : في الخبر : يجيء يوم القيامة عَبْدٌ فيُحاسَبُ ، فتستوي حسناتُه
173
وسيئاته ، ويحتاج إلى حسنة واحدة يرْضى عنه خصومه ، فيقول الله سبحانه له : عبدي يقيت لك حسنةٌ ، إن كانت أَدْخَلْتُك الجنةََ ، انْظُرْ ، وتَطَلَّبْ من الناس لعلَّ أحداً يهبها لَكَ.
(5/267)
فيأتي الصفين ، فيطلب من أبيه ، ثم من أمه ، ثم من أصحابه ، فلا يجيبه أحدٌ إلا بقوله : أنا اليومَ فقيرٌ إلى حسنةٍ واحدة ، فيرجع إلى مكانه ، فيسأله الحقُّ - سبحانه : ما جئتَ به ؟ فيقول : يا ربِّ لم يُعْطِني أحد حسنةً ، فيقول الله تعالى : عبدي... ألم يكن لك صديق ؟ فيتذكر العبدُ ، ويقول فلان كان صديقاً لي فيك ، فيأتيه ويدل الحق عليه ، فيكلِّمه ، فيقول : بل لي عباداتٌ كثيرة ، فإن قَبِلَها الله مني فقد وهبتُها لك ، فيُسَرُّ ويجيء إلى موضعه ، فيخبر بذلك ربَّه تعالى ، فيقول قد قَبِلتُها منه ، ولم أنقص من حقِّه شيئاً ، وقد غفرت لك وله - فهذا معناه. هـ. ونقل القرطبي عن الحسن قال : ما اجتمع ملأ على ذكر الله ، فيهم عبد من أهل الجنة ، إلا شفَّعه الله فيهم ، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض ، وهم عند الله شافعون مشفعون. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 172
ثم قالوا : {فلو أن لنا كرةً} أي : رجعة إلى الدنيا {فنكون من المؤمنين} ، وجواب {لو} التَّمْنِيَةِ : محذوف ، أي : لفعلنا كيت وكيت ؛ إذ " لو " ، في مثل هذا ، للتمني ، أي : فليت لنا كرة فنكون من المؤمنين.
{إن في ذلك} أي : فيما ذكر من الأنباء العجيبة ؛ كقصة إبراهيم مع قومه ، وما ترتب على ذلك من الوعد والوعيد ، {لآيةً} عظيمة ، موجبة للزجر عن عبادة الأصنام ، لا سيما لأهل مكة ، الذين يدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام ، أو : إن في ذكر نبأه ، وتلاوته عليهم ، على ما هو عليه ، من غير أن تسمعه من أحد ، لآية عظيمة دالة على أن ما نتلوه عليهم وحْيٌ صادق ، نازل من جهته تعالى ، موجبة للإيمان به ، {وَمَا كَانَ أَكْثَرهُمُ مُّؤْمِنِينَ} أي : وما أكثر هؤلاء ، الذين تتلو عليهم هذه الأنباء ، مؤمنين ، بل هم مُصِرُّون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. ولا يحسن رجوعه لقوم إبراهيم ، على أن {كان} أصلية ؛ لأنه لم يؤمن من قومه إلا لوط فقط.
(5/268)
{وإِن ربك لهو العزيزُ الرحيمُ} أي : هو القادر على تعجيل العقوبة لقومك ، ولكنه يمهلهم بحلمه ورحمته ؛ ليؤمن بعض منهم أو من ذريتهم. وبالله التوفيق.
الإشارة : وأُزلفت جنة المعارف للمتقين السِّوى ، وبرزت جحيم القطيعة للغاوين ، المتبعين الهوى. وفي الحِكَم : " لا يُخَافُ أن تلتبس الطرقُ عليك ، إنما يُخَافُ من غلبة الهوى عليك " وقيل لأهل الهوى : أين ما كنتم تعبدون من دون الله ، من الحاملين لكم على البقاء مع الحظوظ والشهوات ، هل ينصروكم أو ينتصرون ؟ فكُبكبوا في الحضيض الأسفل ، هم والغاوون لهم ، الذين منعوهم من الدخول في حضرة الأولياء ، وجنود إبليس أجمعون. قالوا - وهم في غم الحجاب ونار القطيهة يختصمون - : تالله إن كنا لفي ضلال مبين ، إذ نسويكم برب العالمين في المحبة والميل ، وما أضلنا إلا المجرمون ، الذين
174
حكموا بقطع التربية على الدوام ، وسدوا الباب في وجوه الرجال ، فما لنا من شافعين ، ولا صديق حميم ، يشفع لنا حتى نلتحق بالمقربين. هيات لا يكون اللحوق بهم إلا بالدخول معهم ، في مقام المجاهدة في دار الدنيا ، ثم يتمنون الرجوع ؛ ليُصدِّقوا بهم ، وينخرطوا في سلكهم ، فلا يجدون له سبيلاً. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 172
قلت : اسم الجمع واسم الجنس يُذكر ويُؤنث ، كقوم ، ورهط ، وشجر.
يقول الحق جل جلاله : {كذبَتْ قومُ نوحٍ} ، وهو نوح بن لامَك. قيل : وُلد في زمن آدم عليه السلام ، قاله النسفي ، وإنما قال : {المرسلين} ، والمراد : نوح فقط ؛ لأن من كذَّب واحداً من الرسل فقد كذب الجميع ، لاتفاقهم في الدعوة إلى الإيمان ، لأن كل رسول يدعو الناس إلى الإيمان بجميع الرسل. وقد يُراد بالجمع : الواحد ؛ كقولك : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرود ، وماله إلا فرس واحد وبُرد واحد.
(5/269)
{إذ قال لهم} : ظرف للتكذيب ، أي : كذبوه وقت قوله لهم {أخوهم نوحٌ} ؛ نسباً ، لا ديناً ، وقيل : أخوة المجانسة ، كما في آية : {بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم : 4] : {ألاَ تتقون} خالق الأنام ، فتتركوا عبادة الأصنام ، {إني لكم رسول أمين} ، كان مشهوراً بالأمانة عندهم ، كحال نبينا صلى الله عليه وسلم في قريش ، ما كانوا يُسمونه إلا محمداً الأمين. {فاتقوا الله وأطيعونِ} فيما آمركم به وأدعوكم إليه من الإيمان.
{وما أسألكم عليه} أي : على ما أنا مُتصدٍ له من الدعاء والنصح ، {من أجرٍ} أصلاً {إنْ أجريَ} فيما أتولاه {إلا على ربِّ العالمين} ؛ لا أطمع في غيره ، {فاتقوا الله وأطيعون} ، الفاء ؛ لترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ من تنزيهه عليه السلام عن الطمع ، كما أن نظيرتها السابقة ؛ لترتيب ما بعدها على أمانته. والتكرير ؛ للتأكيد ، والتنبيه على أن كلا منهما مستقل في إيجاب التقوى والطاعة ، فكيف إذا اجتمعا ؟ كأنه قال : إذا عرفتم رسالتي
175
وأمانتي فاتقوا الله وأطيعون.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 175
(5/270)
قالوا أَنُؤْمِنُ لك واتبعك} والحالة أنه قد تبعك {الأرْذَلونَ} أي : الأرذلون جاهاً ومالاً ، والرذالة : الدناءة والخسة ، وإنما استرذلوهم ؛ لاتضاع نسبهم ، وقلة نصيبهم من الدنيا ، وقيل : كانوا من أهل الصناعة الدنيئة ، قيل : كانوا حاكة وأساكفة - جمع إسكاف - وهو الخَفَّافُ - أي : الخراز ، وقيل : النجار. والصناعة لا تزري بالديانة ، فالغنى غنى القلوب ، والنسب نسب التقوى ، والعز عز العلم بالله لا غير ، ومرادهم بذلك : أنه لا مزية لك في اتباعهم ؛ إذ ليس لهم رزانة عقل ، ولا إصابة رأي ، وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي. وهذا من كمال سخافة عقولهم ، وقصر نظرهم على حطام الدنيا حتى اعتقدوا أن الأشرف مَنْ جَمَعَهَا ، والأرذل مَنْ حُرمَها. وقد جهلوا بأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وأن النعيم هو نعيم الآخرة ، والأشرف مَنْ فازَ بِه ، وسكن في جوار الله ، والأرذل من حُرم ذلك.
قال القشيري : ذكر ما لَقِيَ من قومه ، وقوله : {واتبعك الأرذلون} ، وكذلك أتباع الرسل ، إنما هم الأضعفون ، لكنهم - في حُكم الله - هم المقدّمون الأكرمون ، قال صلى الله عليه وسلم : " نُصِرْتُ بضعفائكم " ، إلخ كلامه.
{قال وما عِلْمِي} أي : وأيّ شيء علمي {بما كانوا يعملون} من الصناعات ، إنما أطلب منهم الإيمان. وقيل : إنهم طعنوا في إيمانهم ، وقالوا : لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة ، وإنما اتبعوك ؛ طمعاً في العدة والمال ، أي : وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر ، دون التنقير على بواطنهم ، والشق عن قلوبهم ، {إنْ حسابهم إلا على ربي} أي : ما محاسبة أعمالهم والتنقير عن كيفياتها إلا على ربي ؛ فإنه المطلع على السرائر ، {لو تشعرون} بشيء من الأشياء ، أو : لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك ، ولكنكم كالبهائم أو أضل.
(5/271)
{وما أنا بِطَاردِ المؤمنين} أي : ليس من شأني أن أتبع شهواتكم ، فأطرد المؤمنين ؛ طمعاً في إيمانكم ، وهو جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك ، حيث جعلوا اتباعهم له مانعاً عنه ، {إنْ أنا إلا نذير مبين} وما علي إلا أن أُنذركم إنذاراً بيّناً ؛ بالبرهان القاطع ، وأنتم أعلم بشأنكم ، أي : وما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين ، سواء كانوا أعزاء أو أراذل ، فكيف يمكنني طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء ؟ . {قالوا لئن لم تَنْته يا نوحُ} عما تقول {لتكوننَّ من المرجومين} ؛ من المقتولين بالحجارة. قالوه في آخر أمره.
{قال ربِّ إنَّ قومي كذَّبونِ} ؛ تمادوا على تكذيبي ، وأصروا عليه ، بعد ما دعوتهم
176
هذه الأزمنة المتطاولة ، فلم يزدهم دعائي إلا فِراراً ، وليس هذا من قبيل الإخبار ؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء ، وإنما هو تضرع وابتهال ، بدليل قوله : {فافتحْ بيني وبينهم فتحاً} ؛ أي : احكم بيني وبينهم بما يستحقه كل واحد منا ، وهذه حكاية إجمالية ، قد فصلت في سورة نوح {وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} من شرهم ، أو من شؤم عملهم.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 175
فأنجيناه ومن معه} حسب دعائه {في الفلك المشحون} ؛ المملوء بهم وبما لا بد لهم منه. {ثم أغرقنا بَعْدُ} أي : بعد إنجائهم {الباقين} من قومه ، {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} الممتنع القاهر بإهانة من جحد وأصر. والله تعالى أعلم.
(5/272)
الإشارة : قال القشيري : أخبر عن كل واحد من الأنبياء بقوله : {وما أسألكم عليه من أجر} ؛ ليَعْلَمَ الكافةُ أنه من عَمِلَ له فلا ينبغي أن يطلب الأجر من غيره ، ففي هذا تنبيهٌ للعلماء - الذين هم ورثة الأنبياء - أن يتأدبوا بآدابهم ، وألاّ يطلبوا من الناس شيئاً في بَثِّ علومهم ، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم ، والتذكير لهم ، ومن ارتفق من المستمعين في بث فائدة يذكرها من الدين ، يَعِظُ بها المسلمين ، فلا بارك الله للمسلمين فيما يَسْمعون منه ، ولا للعلماءِ أيضاً بركةٌ فيما منهم يأخذون ، فيبيعون دينَهم بَعَرَضٍ يسيرٍ ، ثم لا بَركضةَ لهم فيه ، إذ لا يتقربون به إلى الله ، ولا ينتفعون به ، ويَحْصُلون على سخط من الله. هـ.
قلت : أما ما يأخذه العالم من الأحباس فلا يدخل في هذا ؛ إذ ليس فيه تكلف من أحد ، وكذلك ما يأخذه الواعظ على وجه الزيارة والهدية ، من غير استشراف نفسٍ ولا طمعٍ ولا تكلفٍ. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 175
يقول الحق جل جلاله : {كذبتْ عادٌ المرسلين} ، وهي قبيلة ، ولذلك أنَّث الفعل ، وفي الأصل : اسم رجل ، هو أبو القبيلة. {إذ قال لهم أخوهم} ؛ نسباً ، {هودٌ أَلاَ تتقون
177
إني لكم رسول أمين} ، وقد مر تفسيره ، {فاتقوا الله} في تكذيب الرسول الأمين ، {وأطيعونِ} فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، {وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أَجْرِيَ إلا على رَبِّ العاَمينَ} ، وتصدير القصص بتكذيب الرسل والأمر بالطاعة ؛ للدلالة على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق ، والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب ، ويُبعده من العقاب ، وأنَّ الأنبياء - عليهم السلام - مُجْمِعون على ذلك ، وإن اختلفوا في فروع الشرائع ، المختلفة باختلاف الأزمنة والأعصار ، وأنهم منزهون عن المطامع الدنيئة ، والأغراض الدنيوية بالكلية.
(5/273)
ثم وبَّخهم بقوله : {أتَبْنونَ بكل رِيعٍ} : مكان مرتفع ، ومنه : ريع الأرض ؛ لارتفاعها ، وفيه لغتان : كسر الراء وفتحها. {آيةً} ؛ علَماً للمارة ، كانوا يصعدونه ويسخرون بمن يمر بهم. وقيل : كانوا يسافرون ولا يهتدون إلا بالنجوم ، فبنوا على الطريق أعلاماً ليهتدوا بها ؛ عبثاً ، وقيل : برج حمام ، دليله : {تَعْبَثُون} أي : تلعبون ببنائها ، أو : بمن يمر بهم على الأول ، {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} ، مآخذ الماء ، أو قصوراً مشيدة ، أو حصوناً ، وهو جمع مصنع ، والمصنع : كل ماصنع وأتقن في بنيانه ، {لعلكم تَخْلُدُونَ} أي : راجين الخلود في الدنيا ، عاملين عمل من يرجو ذلك ، أو كأنكم تخلدون.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 177
وإذا بطشتم} بسوط او سيف ، أو أخذتم أحداً لعقوبة {بطشتم جبارين} ؛ مسلطين ، قاسية قلوبكم ، بلا رأفة ولا رقة ، ولا قصد تأديب ، ولا نظراً للعواقب. والجبار الذي يضرب أو يقتل على الغضب. {فاتقوا الله} في البطش ، {وأطيعونِ} فيما أدعوكم إليه ؛ فإنه أنفع لكم ، {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ} من ألوان النعماء وأصناف الآلاء. ثم فصّلها بقوله : {أمدَّكم بأنعامٍ وبنين} ؛ فإن التفصيل بعد الإجمال أدخل في القلب. وقرن البنين بالأنعام ؛ لأنهم يعينونهم على حفظها والقيام بها.
{وجناتٍ} ؛ بساتين {وعيونٍ} : أنهار خلال الجنات ، {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إن عصيتموني ، أو : إن لم تقوموا بشكرها ؛ فإن كفران النعم مستتبع للعذاب ، كما أن شكرها مستلزم لزيادتها ، قال تعالى : {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم : 7].
(5/274)
{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ} ؛ فإنّا لن نرعوي عما نحن عليه ، ولا نقبل كلامك ودعوتك ، وعظت أو سكت. ولم يقل : أم لم تعظ ؛ لرؤوس الآي. {إنْ هَذَا إِلا خُلق الأولين} بضم اللام ، أي : ما هذا الذي نحن عليه ؛ من ألاَّ بعث ولا حساب ، إلا عادة الأولين وطبيعتهم واعتقادهم ، أو : ما هذا الذي نحن عليه ؛ من الموت والحياة إلا عادة قديمة ، لم يزل الناس عليها ، ولا شيء بعدها ، أو : ما هذا الذي أنكرت علينا ؛ من البنيان والبطش ، إلا عادة مَنْ قَبْلَنَا ، فنحن نقتدي بهم ، وما نُعَذَّبُ على ذلك. وبسكون اللام ، أي : ما هذا الذي خوفتنا به {إلا خَلْق الأولين} أي : اختلاقهم
178
وكذبهم ، أو : ما خَلْقُنا هذا إلا كخلْقهم ، نحيا كما حيوا ، ونموت كما ماتوا ، ولا بعث ولا حساب ، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نحن عليه من الأعمال.
{فَكَذَّبُوهُ} أي : أصروا على تكذيبه ، {فأهلكناهم} بسبب ذلك بربح صَرْصَرٍ ، تقدم في الأعراف كيفيته ، {إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكْثَرُهُمْ} أي : قوم هود {مؤمنين} ؛ ما أسلم معه ثلاثمائة ألف... وأهلك باقيهم. قاله المحشي الفاسي. وقيل : وما أَكْثَرُ قَوْمِكَ بمؤمنين بهذا ، على أن {كان} : صلة. {وإن ربك لهو العزيزُ الرَّحِيمُ} ؛ العزيز بالانتقام من أعدائه ، الرحيم بالانتصار لأوليائه.
(5/275)
الإشارة : أنكر هود عليه السلام على قومه أمرين مذمومين ، وهما من صفة أهل البُعد عن الله ؛ الأول ؛ التطاول في البنيان ، والزيادة على الحاجة ، وهي ما يُكن من البرد ، ويقي من الحر ، من غير تمويه ولا تزويق ، والزيادةُ على الحاجة في البنيان من علامة الرغبة في الدنيا ، وهو من شأن الجهال رعاء الشاه ، كما في الحديث ، وفي خبر أخر : " إذاعلا العبد البناء فوق ستة أذْرُعٍ ناداه ملك : إلى أين يا أفْسَقَ الفاسِقينَ ؟ ". والثاني : التجبر على عباد الله ، والعنف معهم ، من غير رحمة ولا رقة ، وهو من قساوة القلب ، والقلب القاسي بعيد من الله ، وفي الخبر عن عيسى عليه السلام : (لا تُكثِرُوا الكلام بغير ذكر الله ، فتقسو قلوبكم ؛ فإن القلبَ القاسِيَ بعيدٌ من الله ، ولكن لا تشعرون). وفي الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم : " لا تنظُرُوا إلى عيوب الناس كأنكم أربابٌ ، وانظروا إلى عيوبكم كأنكم عَبِيدٌ ، فإنما الناس مُبْتَلى ومُعَافىً ، فارحموا أهل البلاء وسلو الله العافية " وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 177
يقول الحق جل جلاله : {كَذَّبَتْ ثمودُ المرسَلين إذ قال لهم أخوهم} ؛ نسباً ، {صالحٌ ألا تتقون} الله تعالى ، فتوحدونه ، {إني لكم رسولٌ أمين} : مشهور فيكم بالأمانة ، {فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على ربِّ العالمين أَتُتْركون فيما ها هنا آمنين} أي : أتطمعون أن تتركوا فيما ها هنا من النعمة والتَّرَفُّهِ ، آمنين من عقاب الله وعذابه ، وأنتم على كفركم وشرككم ، كلا ، والله لنختبرنكم ببعث الرسول ، فإن كفرتم عاجلتكم بالعقوبة.
(5/276)
ثم فسّر ما هم فيه من النعمة بقوله : {في جناتٍ وعيونٍ وزروعٍ ونخلٍ} هو دخل فيما قبله ، وخصه بالذكر ؛ شرفاً له. أو : في جنات بلا نخل ، {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} ، والطلع : عنقود التمر في أول نباته ، باقياً في غلافه. والهضيم : اللطيف اللين ؛ للطف الثمر ، أو : لأن النخل أنثى وطلع الأنثى ألطف ، أو : لنضجه ، كأنه : قيل : ونخل قد أرطب ثمره. قال ابن عباس : إذا أينع فهو هضيم. وقال أيضاً : هضيم : طيب ، وقال الزجاج : هو الذي رطبه بغير نوى ، أو : دَانٍ من الأرض ، قريب التناول.
{وتَنْحِتُون} أي : تنقبون {من الجبال بيوتاً فارِهين} ؛ حال من الواو ، أي : حاذقين ، أو : ناشطين ، أو : أقوياء ، وقيل : أَشِرينَ بَطِرِينَ. قيل : كانوا في زمن الشتاء يسكنون الجبال ، وفي زمن الربيع والصيف ينزلون بمواشيهم إلى الريف ومكان الخصب. {فاتقوا الله وأطيعون ولا تُطيعوا أمرَ المسرفين} ؛ الكافرين المجاوزين الحد في الكفر والطغيان ، أي : لا تنقادوا لأمرهم ، ولا تتبعوا رأيهم ، وهم {الذين يُفسدون في الأرض} بالإسراف بالكفر والمعاصي ، {ولا يُصلحُونَ} بالإيمان والطاعة. والمعنى : أن فسادهم خالص ، لا يشوبه شيء من الصلاح ، كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 179
(5/277)
قََاُلوا إِنَّما أَنتَ مِنَ الْمُسَحِّرِينَ} ؛ الذين سُحِرُووا ، حتى غَلَبَ على عقلهم السحرُ {وما أنت إلا بشرٌ مثلنا فأتِ بآيةٍ إن كنت من الصادقين} في دعوى الرسالة ، {قال هذه ناقةٌ} ، قالها بعدما أخرجها الله تعالى من الصخرة بدعائه عليه السلام ، {لها شِرْبٌ} ؛ نصيب من الماء ، فلا تُزاحموها فيه ، {ولكم شِرْبُ يومٍ مَعْلومٍ} لا تزاحمكم فيه. رُوي أنهم قالوا : نُريد ناقة عُشَرَاءَ ، تخرج من هذه الصخرة ، فتلد سَقْباً - والسقب : ولد الناقة - فقعد صالح يتفكر ، فقال له جبريل عليه السلام : صَلِّ ركعتين ، وسَلْ رَبَّك الناقة ، ففعل ، فخرجت الناقة ، ونتجت سقباً مثلها في العِظم ، وصدرها ستون ذراعاً - أي : طولها - وإذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ، وإذا كان يوم شربهم لا تشرب فيه.
180
{ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ} ؛ بضرب ، أو عقر ، أو غير ذلك ، {فيأخذَكم عذابُ يومٍ عظيم} ، وصف اليوم بالعظم ؛ لعظم ما يحل فيه ، وهو أبلغ من تعظيم العذاب ، {فعقروها} عَقَرَها " قَدَّار " ، وأسند العقر إلى جميعهم ؛ لأنهم راضون به. رُوي أن عاقرها قال : لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين. وكانوا يدخلون على المرأة في خدرها ، فيقولون : أترضين بعقر الناقة ؟ فتقول : نعم ، وكذلك صبيانهم ، {فأصبحوا نادمين} على عقرها ؛ خوفاً من نزول العذاب بهم ، لا ندم توبة ؛ لأنهم طلبوا صالحاً ليقتلوه لَمَّا أيقنوا بالعذاب ، وندموا حين لا ينفع الندم ، وذلك حين مُعَايَنَةِ العذاب.
(5/278)
{فأخذهم العذابُ} أي : صيحة جبريل ، فتقطعت قلوبهم ، {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} : ميتين ، صغيرهم وكبيرهم ، {إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين}. رُوي أنه أسلم منهم ألفان وثلاثمائة رجل وامرأة. وقيل : كانوا أربعة آلاف ، وقال كعب : كان قوم صالح اثني عشر ألفاً ، من سوى النساء والذرية. ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات. قاله القرطبي : قيل : في نفي الإيمان عن أكثرهم إيماءٌ إلى أنه لو آمن أكثرهم أو : شطرهم لما أُخذوا بالعذاب ، وأن قريشاً إنما عُصموا من تعجيل العذاب ببركة من آمن منهم. وعلى أن (كان) زائدةٌ يكون الضمير لقريش ، كما تقدم. {وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.
الإشارة : قوله : {أَتُتركون فيما ها هنا آمنين} ؛ أنكر عليهم ركونهم إلى الدنيا وزخارفها الغرارة ، واطمئنانهم إليها ، وهو غرور وحمق ؛ إذ الدنيا كسحابة الصيف ، تظل ساعة ثم ترتحل ، فالدنيا عرض حائل ، وظل آفل ، فالكيِّس من أعرض عنها ، وتوجه بكليته إلى مولاه ، صبر قليلاً وربح كثيراً ، والأحمق من وقع في شبكتها ، حتى اختطفته منيته ، وفي الحديث : " الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لا دَارَ لَهُ ، ومالُ من لا مَالَ له ، لَهَا يجمعُ من لا عقل له ، وعليها يُعادي من لا علم عنده ".
جزء : 5 رقم الصفحة : 179
181
(5/279)
يقول الحق جل جلاله : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ...} إلخ ، وهو ظاهر ، ثم قال {أتأتون الذُّكْرَان من العالمين} ، أراد بالعالمين : الناس ، أي : أتطؤون الناس مع كثرة الإناث ، أو : أتطؤون أنتم من بين سائر العالمين الذكران ، وتختصون بهذه الفاحشة {وتذرُون ما خلقَ لكم ربكم} من الإناث : أو : ما خلق لكم ؛ لأجل استمتاعكم من الفروج ، {مِن أزواجكم} ، فَمِنْ للبيان ، إن أريد بـ " ما " : جنس الإناث ، وهو الظاهر ، وللتبعيض ، إن أريد بها العضو المباح منهن ، تعريضاً بأنهم يفعلون ذلك بنسائهم أيضاً ، وفيه دليل تحريم أدبار الزوجات والمملوكات ، ومن أجاز ذلك قد أخطأ خطأ عظيماً. {بل أنتم قومٌ عَادُون} أي : متعدون. والعادي : المتعدي في ظُلْمِهِ ، المتجاوز فيه الحد ، أي : أنتم قوم أحقَّاء بأن توصفوا بالعدوان ؛ حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة ، التي لم يرتكبها أحد قبلكم ، ولو من الحيوانات البهيمية.
{قالوا لئن لم تنتهِ يا لوطُ} عن إنكارك علينا وتقبيح أمرنا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} من بلدنا ، أي : من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا ، وطردناه من بلدنا. ولعلهم كانوا يُخرجون من أخرجوه على أسوأ حال. {قال إني لِعَمَلِكُم من القَالين} ؛ من المبغضين غاية البغض ، كأنه يقلي الفؤاد والكبد من شدته. والقِلَى : أَشَدُّ البغض ، وهو أبلغ من أن يقول : لعملكم قالٍ ، فقولك : فلان من العلماء ، أبلغ من قولك : فلان عالم ؛ لأنك تشهد بأنه مساهم لهم في العلم. وفي الآية دليل على قبح معصية اللواط ؛ ولذلك أفتى مالك بقتل فاعلها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 181
(5/280)
ثم قال : {رَبِّ نَجّنِي وأهلي مما يعملون} ؛ من عقوبة عملهم ، {فنجَّيناه وأهله أجمعين} يعني : بناته ، ومن آمن معه ، {إلا عجوزاً} هي امرأته ، وكانت راضية بذلك ، والراضي بالمعصية في حكم العاصي ، ولو لم يحضر. واستثناؤها من الأهل ؛ لأنها داخلة فيه - ولو لم تكن مؤمنة - ؛ لاشتراكها في الأهلية بحق الزواج. بقيت {في الغابرين} ؛ في الباقين في العذاب ، وهي صفة لها. والغابر في اللغة : الباقي ، كأنه قيل : إلا عجوزاً غابرة ، أي : مُقَدَّراً غبورها ؛ إذ الغبور لم يكن صفتها وقت نجاتهم.
{ثم دمَّرنا الآخَرِين} أي : أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه ، {وأمطرنا عليهم مطراً} أي : مطراً غير معهود. وعن قتادة : أمطر الله على شُذّاذ القوم ، أي : الخارجين عن البلد - حجارة من السماء فأهلكهم ، وقلب المدينة بمن فيها. وقيل : لم يرض بالقلب فقط حتى أتبعهم مطراً من حجارة ، {فساءَ مطرُ المنذَرين} أي : قَبُحَ مَطَرُ المنذرين مطرهم ، فالمخصوص محذوف. {إن في ذلك لآيةً وما كان أكثرُهم مؤمنين} ، بل لم يؤمن به إلا بناته وناس قليلون. أو : ما كان أكثر قريش بمؤمنين بهذا ، {وإِن ربَّك لهو العزيز} الغالب ، {الرحيم} ؛ حيث لم يُعاجل بالعقوبة لمن استحقها.
182
الإشارة : من شناعة هذه المعصية حذر الصوفية من مخالطة الشبان ، وكذلك النساء.
وما أُولِعَ فقيرٌ بمخالطتهما فأفلح أبداً ، إن سلم من الفاحشة اتُّهِمَ بها ، ولا يحل لامرئ يُؤمن بالله واليوم الآخر أن يقف مواقف التهم. والنظر إلى محاسن النساء والشبان فتنة ، وهي كالعقارب ، الصغيرة تلدغ ، والكبيرة تلدغ ، فالسلامة البُعد عن ساحتهن ، إلا على وجهٍ أباحته الشريعة ، كالتعليم أو التذكير ، مع غَضِّ البصر ، أو حجابٍ بينه وبينهن ، وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 181
(5/281)
يقول الحق جل جلاله : {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} وهي : الغيضة التي تنبت الشجر ، والمراد بها : غيضة بقرب مدين ، يسكنها طائفة منهم ، وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام ، وكان أجنبياً منهم ، ولذلك قيل : {إذ قال لهم شُعيبٌ} ولم يقل : أخوهم ، بخلاف مدين ، فإنه منهم ، ولذلك قال : {أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف : 85 وهود : 84 والعنكبوت : 36] وقيل : الأيكة : الشجر الملتف ، وكان شجرهم المقل ، وهو الدوم. قال قتادة : بعث الله شعيباً إلى أمتين ؛ أصحاب الأيكة وأصحاب مدين. فأهلك الله أصحابَ الأيكة بالظُلة ، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا. وقرئ : " لَيْكَةِ " ؛ بحذف الهمزة ، وإلقاء حركتها على اللام ، وإنما كتبت هنا وفي " ص " باللام ؛ اتباعاً للفظ.
{إِذْ قَالَ لهم شُعيبٌ أَلا تَتَّقُون} الله ، فتوحدوه ولا تُطففوا ، {إني لكم رسول امين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه} أي : التبليغ ؛ {من أجرٍ إنْ أجريَ إلا على رب العالمين ، أوْفُوا الكَيْلَ} أي : أتموه {ولا تكونوا من المخْسِرين} أي : حقوق الناس بالتطفيف ، {وزِنُوا} أشياءكم التي تبيعونها {بالقِسْطَاسِ المستقيم} السوي. والقسطاس -
183
بضم القاف وكسرها : الميزان ، فإن كان من القسط - وهو العدل ، وجعلت العين مكررة - فوزنه : فُعْلاَس ، وإلا فهو رباعي ، ووزنه : فُعْلاَلٌ. وقيل : عجمي.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 183
(5/282)
ولا تبخسوا الناس أشياءَهم} أي : لا تنقصوا شيئاً من حقوقهم ، أيّ حق كان ، يقال : بخسه حقه : إذا انتقصه. وقيل : نهاهم عن نقص الدراهم والدنانير بقطع أطرافها. فالكيل على ثلاثة أقسام : واف ، وزائد وناقص. فأمر الحق تعالى بالوافي ، ونهى عن الناقص ، وسكت عن الزائد ، فَتَرْكُهُ دَليلٌ على أنه إن فعله كان أحسن ، وإن تركه فلا عليه. {ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين} ؛ ولا تبالغوا فيها بالإفساد ، وذلك نحو قطع الطريق ، والغارة ، وإهلاك الزروع. وكانوا يفعلون ذلك فنهُوا عنه ، يقال : عَثِيَ كفرح ، وعثا يعثو ، كنصر.
{واتقوا الذي خلقكم و} خلق {الجِبلّة الأولين} أي : الخلق الماضين ، وهم من تقدمهم من الأمم ، {قالوا إنما أنتَ من المسحَّرِين وما انت إلا بشرٌ مثلنا} ، أدخل الواو بين الجملتين هنا ؛ لدلالةٍ على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة ؛ مبالغة في التكذيب ، فتكذيبهم أقبح من ثمود ، حيث تركه فدل على معنى واحد ، وهو كونه مسحوراً ، وقرره بكونه بشراً. ثم قالوا : {وإنْ نظنك} " إن " : مخففة ، أي : وإنه ، أي : الأمر والشأن لنظنك {لمن الكاذبين} فيما تدعيه من النبوة.
(5/283)
ثم استعجلوا العذاب بقولهم : {فَأَسْقِطْ علينا كِسفاً من السماء} أي : قطعاً ، جمع كِسْفة ، وقرئ بالسكون. أي : جُزءاً منه ، والمراد بالسماء : إما السحاب ، أو : السماء المظلة ، {إن كنت من الصادقين} في دعواك الرسالة ، ولم يكن طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب ، وإلا لما أخطروه ببالهم فضلاً عن أن يطلبوه. {قال} شعيب عليه السلام : {ربي أعلمُ بما تعملون} من الكفر والمعاصي ، وبما تستحقونه من العذاب ، فينزله عليكم في وقته المقدر له لا محالة ، {فكذّبوه} أي : فتمادوا على تكذيبه ، وأَصروا عليه {فأخذهم عذابُ يومِ الظُّلَّة} حسبما اقترحوه. وذلك بأن سلط عليهم الحر سبعة أيام بلياليها ، فأخذ بأنفاسهم ، فلم ينفعهم ظل ولا ماء ولا شرب ، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية ، فأظلتهم سحابة ، وجدوا فيها برداً ونسيماً ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً. وقيل : رفع لهم جبل ، فاجتمعوا تحته ، فوقع عليهم ، وهو الظلة. وقيل : لما ساروا إلى السحابة صيح بهم فهلكوا. {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يومٍ عظيمٍ} أي : في الشدة والهول ، وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة.
{إن في ذلك لآيةً وما كان أَكْثرُهُمْ مؤمنين} قيل : آمن بشعيب من القِسْمَيْنِ - مدين والأيكة - تسعمائة إنسان ، أو : وما أكثر قريش بمؤمنين بهذا ، {وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.
184
هذا آخر القصص السبع التي أُوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لصرفه - عليه الصلاة والسلام - عن الحرص على إسلام قومه ودفع تحسر فواته ، تحقيقاً لمضمون ما مر في مطلع السورة الكريمة من قوله : {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ...} [الشعراء : 3]. إلخ ، {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَـانِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ} [الشعراء : 5 ، 6] الآية ، فإن كل واحدة من هذه القصص ذكر متجدد النزول ، قد أتاهم من جهته تعالى ، بموجب رحمته الواسعة.
{
(5/284)
جزء : 5 رقم الصفحة : 183
وما كان أكثرهم مؤمنين} بعد ما سمعوها على التفصيل ، قِصَّةً بعد قصةٍ ، ليتدبروا فيها ، ويعتبروا بما في كل واحدة من الدواعي إلى الإيمان ، والزجر عن الكفر والطغيان ، وبأن يتأملوا في شأن الآيات الكريمة ، الناطقة بتلك القصص ، على ما هي عليه ، مع علمهم بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يسمع شيئاً من ذلك من أحدٍ أصلاً ، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك واستمروا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. وبالله التوفيق.
الإشارة : كما أمر الله تعالى بوفاء المكيال ، أمر بالوفاء في الأعمال ، ووفاؤها : إتقانها وإخلاصها ، وتخليصها من شوائب النقص ، في الظاهر والباطن. وكما أمر بالعدل في الميزان الحسي بقوله : {وزنوا بالقسطاس المستقيم} ، أمر بالعدل في الميزان المعنوي ، وهو وزن الخواطر بالقسطاس الشرعي ، فكل خاطر يخطر بالقلب يريد أن يفعله أو يتكلم به ، لا يُخرجه ، حتى يزنه بميزان الشرع ، فإن كان فيه نفع أخرجه كما كان ، أو غيَّره ، وإن كان فيه ضررٌ بادَرَ إلى محوه من قلبه ، قبل أن يصير هماً أو عزماً ، فيعسر رده. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 183
قلت : " آية " خبر " كان " ، و " أَنْ يعلمه " : اسمها ، ومن قرأ " آية " ؛ بالرفع ؛ فآية اسمها ، و {أن...} إلخ : خبر أو " كان " : تامة ، و " آية " : فاعل ، و " أن يعلمه " : بدل منه.
يقول الحق جل جلاله : {وإنه} أي : القرآن المشتمل على القصص المتقدمة ، وكأنه تعالى عاد إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر ، ليتناسب المفتتح والمختتم ، أي : وإن القرآن الكريم {لتنزيلُ ربِّ العالمين} أي : منزل من جهته. ووصفه تعالى بربوبية العالمين ؛ للإيذان بأن تنزيله من أحكام ربوبيته للعالمين ورأفته للكل.
185
(5/285)
{نَزَلَ به} أي : أنزله {الروحُ الأمين} أي : جبريل عليه السلام ، لأنه أمين على الوحي الذي فيه روح القلوب ، ومن قرأ بالتشديد : فالفاعل هو الله ، والروح : مفعول به ، أي : جعل الله تعالى الروح الأمين نازلاً به. والباء ؛ للتعدية ، نزل به {على قلبك} ، أي : حفظك وفهمك إياه ، وأثبته في قلبك إثبات ما لا يُنْسَى ، كقوله : {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} [الأعلى : 6].
{لتكونَ من المُنْذرِين} بما فيه من العقوبات الهائلة والمواعظ الزاجرة ، {بلسان عربي} ؛ بلغة قريش وجُرْهُم ، فصيح بليغ ، والباء : إما متعلق بمنذرين ، أي : لتكون من الذين أَنْذَرُوا بهذا اللسان ؛ وهم هود وصالح وشعيب وإسماعيل ـ عليهم السلام ـ أو : بنزل ، أي : نزله بلسان عربي ؛ لتُنذر به ، لأنه لو نزل بلسان أعجمي لتجافوا عنه ، ولقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه ؟ فيتعذر الإنذار به. وهذا أحسن لعمومه ؛ أي : لتكون من جملة من أنذر قبلك ، كنوح وإبراهيم وموسى ، وغيرهم من الرسل ، عربيين أو عجمين ، وأشد الزواجر تأثيراً في قلوب المشركين : ما أنذره إبراهيم ؛ لانتمائهم إليه ، وادعائهم أنهم على ملته.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 185
وإنه} أي : القرآن {لفي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} يعني : أنه مذكور في سائر الكتب السماوية. وقيل : ثبت فيها معناه ، فإن أحكامه التي لا تحتمل النسخ والتبديل ، بحسب تبدل الأعصار ، من التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات مسطورة فيها ، وكذا ما في تضاعيفه من المواعظ والقصص. قال النسفي : وفيه دليل على أن القرآن إذا ترجم عنه بغير العربية بقي قرآناً ، ففيه دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة. هـ. وهو حنفي المذهب ، وأما مذهب مالك : فلا.
(5/286)
{أوَ لمْ يكن لهم آيةً} أي : أغفلوا ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين حقاً ، {أن يعلمه علماءُ بني إسرائيل} ، كعبد الله بن سلام ، وغيره ، لوجود ذكره في التوراة. قال تعالى : {وَإِذَا يُتْلَىا عَلَيْهِمْ قَالُوااْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص : 53]. والمعنى : أَوَ لَمْ يكفهم دليلاً على كون القرآن من عند الله عَلِم أَحْبَارِ بني إسرائيل به. ومعرفتهم له ، كما يعرفون أبناءهم ؛ لموافقته لما عندهم في كثير من القصص والأخبار ، حتى إن سورة يوسف مذكورة في التوراة بمعنى واحد ، وترتيب واحد ، وما اختلف مع القرآن فيها إلا في كلمة واحدة : " وجاؤوا على قميصه بدم كذب " ، عندهم في التوراة : وجاؤوا على قميصه بدم جدي. وكذا سورة طه : جُلهَا في التوراة. وقد تقدم الحديث : " أوتيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى " وقد فسر بعض علماء هذه الأمة القرآن العظيم كله بالكتب المتقدمة ، ينقل في كل آية ما يوافقها
186
من الكتب السماوية.
ثم قال تعالى : {ولو نزَّلناه على بعض الأَعْجَمِينَ} أي : ولو نزلناه كما هو بنظمه الرائق على بعض من لا يفهم العربية ، ولا يقدر على التكلم بها ، {فقرأه عليهم} قراءة صحيحة ، خارقة للعادة ، {ما كانوا به مؤمنين} مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء ؛ لفرط عنادهم ، وشدة شكيمتهم ، قال النسفي : والمعنى : إنّا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربيٍّ مبين ،
187
(5/287)
ففهموه ، وعرفوا فصاحته وأنّه معجز ، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتاب قبله على البشارة بإنزاله ، وصفته في كتبهم ، وقد تضمّنت معانيه وقصصه ، وصح بذلك أنها من عند الله ، وليست بأساطير كما زعموا ، فلم يؤمنوا به ، وسمّوه شعراً تارة ، وسحراً أخرى. ولو نزلناه على بعض الأعاجم ، الذي لا يحسن العربية ، فضلاً أن يقدر على نظم مثله ، {فقرأه عليهم} هكذا معجزاً ، لكفروا به ، ولتمحّلوا لجحودهم عذراً ، ولسموه : سحراً. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 185
والأعجمين : جمع الأعجمي ، فإن أفعل ، إذا كان للتفضيل ، يجمع جمع سلامة إذا لم يكن معناه للتفضيل كأحمر ، وأصل الأعجمين : الأعجمين ، فحذفت ياؤه ، وقيل : جمع أعجم ، فلا حذف.
{كذلك سَلَكْنَاه} أي : أدخلنا التكذيب والكفر ، وهو مدلول قوله : {ما كانوا به مؤمنين} ، {في قلوب المجرمين} : الكافرين الذين علمنا منهم اختيار الكفر والإصرار عليه. يعني : مثل هذا السَّلْكِ الغريب سلكناه في قلوبهم وقررناه فيها ، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه ، من التكذيب والإصرار عليه ، وهو حجتنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد ؛ خيرها وشرها.
(5/288)
وقوله : {لا يؤمنون} توضيح وتقرير لما قبله. ويجوز أن يكون حالاً ، أي : سلكناه فيها غير مؤمنين به ، أو : مثل ذلك السلك البديع سلكناه ، أي : أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين ، ففهموا معانيه ، وعرفوا فصاحته وبلاغته ، وأنه خارج عن القوة البشرية ، من حَيْثُ النَّظْم المعجز والأخبار الغيبية. وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتاب على اتفاقه لما في أيديهم من الكتب السماوية. ومع ذلك {لا يؤمنون به} ، ولا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان ، بل يستمرون على ما هم عليه ، {حتى يَرَوُا العذابَ الأليم} الملجئ إلى الإيمان ، حين لا ينفعهم الإيمان ، {فيأتيهم بَغْتَةً} ؛ فجأة في الدنيا والآخرة {وهم لا يشعرون} بإتيانه ، {فيقولون هل نحن مُنْظَرُون} ؛ مُؤَخَّرُون ساعة. قالوه تَحَسُّراً على ما فات من الإيمان ، وتمنياً للإمهال ؛ لتلافي ما فرضوه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا تطهر القلب من الأكدار والأغيار ، وملئ بالمعارف والأسرار ، كان مَهْبِطاً لوحي الإلهام ووحي الإعلام ، ومحلاً لتنزل الملائكة الكرام ، إذ كل ما أعطى للرسول كان لوارثه الحقيق منه شِرْبٌ ونصيب ؛ ليكون من الواعظين بلسان عربي مبين ، يُفصح عن جواهر الحقائق ، ويواقيت العلوم ، وما ينطق به من العلوم يكون موافقاً لما في زُبُر الأولين ، وإن كان أمياً ؛ لأن علوم الأذواق لا تختلف. أو لم يكن لهم آية على ولايته أن يعلمه علماء أهل فنه من المحققين.
(5/289)
وقال الورتجبي على هذه الآية : أخبر الله سبحانه أن قلب محمد صلى الله عليه وسلم محل نزول كلامه الأزلي ؛ لأنه مصفى من جميع الحدثان ، بتجلي مشاهدة الرحمن ، فكان قلبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ صَدَف لآلِئَ خطابِ الحق ، يسْبَح في بحار الكرم ، فيتلقف كلام الحق من الحق بلا واسطة ، وذلك سر عجيب وعلم غريب ؛ لأنه يجمع كلام الحق وما اتصل به ، وكلامه لم ينفصل عنه ، وكيف تفارق الصفات الذات ، لكن أبقى في قلبه ظاهره وعلمه وسره ، فجبريل ـ عليه السلام ـ في البين : واسطة لجهة الحرمة ، وذكر ذلك بقوله : {نزل به الروح الأمين على قلبك...} ؛ لأن القلب معدن الإلهام والوحي والكلام والرؤية والعرفان ، به يحفظ الكلام. وفائدة ذلك : الإعلام بسر وجود الإنسان ، وأنه ليس شيء يليق بالخطاب ونزول الأنباء إلا قلبه ، وكل قلب مسدود بعوارض البشرية لا يسمع خطاب الحق ، ولا يرى جمال الحق. قال أبو بكر بن طاهر : ما أنزله على جبريل جعله محلاً للإنذار ، لا التحقيق ، والحقيقة هو ما تلقفه من الحق ، فلم يخبر عنه ، ولم يشرف عليه خلق من الجن والإنس والملائكة ؛ لأنه ما أطاق ذلك أحد سواه. وما أنزل جبريل جعله للخلق ، فقال : {لتكون من المنذرين} بما نزل به جبريل على قلبك المتحقق ، فإنك متحقق بما كافحناك به ، وخاطبناك على مقامٍ لو شاهدك فيه جبريل لاحترق. هـ. على تصحيف في النسخة. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 185
يقول الحق جل جلاله : توبيخاً لمن اقترح نزول العذاب ، كقولهم : {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال : 32] {أفبعذابنا يستعجلون} مع كونهم لا يطيقونه إذا نزل بهم ؟ وتقديم الجار ؛ للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ هو كون المُسْتَعْجَلِ به عذابَه ، مع ما فيه من رعاية الفواصل.
(5/290)
{أفرأيتَ} أي : أخبرني. ولما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها شاع استعمال " أرأيت " في معنى أخبرني. والخطاب لكل من يسمع ، أي : أخبرني أيها السامع : {إن متعناهم} ؛ إن متعنا هؤلاء الكفرة {سنينَ} متطاولة بطول الأعمار وطيب المعاش ، ثم جاءهم ما كانوا يُوعدون} من العذاب ، {ما أغنى عنهم}
188
أي : أيُّ سيء ، أو أيُّ إغناء أغنى عنهم {ما كانوا يُمَتَّعُونَ} أي : كونهم متمتعين ذلك التمتع المديد ، أيُّ شيء أغنى في دفع العذاب ، و(ما) : مصدرية ، أو : ما كانوا يتمتعون به من متاع الحياة الدنيا ، على أنها موصولة ، حذف عائدها ، وأيا ما كان فالاستفهام للإنكار والنفي. وقيل : (ما) : نافية ، أي : لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب. والأول أرجح.
{وما أهلكنا من قريةٍ} من القرى المهلكةَ ، {إلا لها مُنْذِرُون} ؛ قد أنذروا أهلها لتقوم الحجة عليهم ، {ذِكْرَى} أي : تذكرة ، وهو مصد منذرون ؛ لأن أنذر وذكر متقاربان ، كأنه قيل : لها مُذكرون تذكرة. أو مفعول له ، أي : ينذرونهم لأجل التذكرة والموعظة ، أو خبر ، أي : هذه ذكرى ، أو يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا ؛ مفعولاً له ، والمعنى : وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة ، بإرسال المنذرين إليهم ؛ ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم ، فلا يعصون مثل عصيانهم ، {وما كنا ظالمين} فنهلك قوماً غير ظالمين ، أو قبل إنذارهم. والتعبير عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم ؛ إذ لا يجب عليه تعالى شيء - كما تقرر من قاعدة أهل السنة - ؛ لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك ، وتحقيقاً لكمال عدله. والله تعالى أعلم.
(5/291)
الإشارة : يقول الحق جل جلاله ، في جانب أهل البطالة والغفلة : أفرأيت إن متعناهم سنين بالأموال والنساء والبنين ، فاشتغلوا بجمع الأموال والدثور ، وبناء الغرف وتشييد القصور ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون من الموت ، والرحيل من الأوطان ، ومفارقة الأحباب والعشائر والإخوان ، أيُّ شيء أغنى عنهم ما كانوا يتمتعون به ، من لذيذ المآكل والمشارب ، ومفاخر الملابس والمراكب ، هيهات هيهات ، قد انقطعت اللذات ، وفنيت الشهوات ، وما بقي إلا الحسرات ، فتأمل أيها العبد فيما مضى من عمرك ، فما بقي في يدك منه إلا ما كان في طاعة مولاك ، من ذكرٍ ، ، أو تلاوةٍ ، أو صلاةٍ ، أو صيام ، أو علم نافع ، أو تعليم ، أو فكرة ، أو شهود ، وما سوى ذلك بطالة وخسران ، فالوقت الذي تصرفه في طاعة مولاك ذخائره موجودة ، وكنوزه مَذْخُورة ، والوقت الذي تصرفه في هوى نفسك ضائع ، تجيد حسرته يوم القيامة ، ففي الحديث : " ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مضت لهم ، لم يذكروا الله تعالى فيها " قال يحيى بن معاذ : أشد الناس عذاباً يوم القيامة من اغتر بحياته والْتَذَّ بمراداته ، وسكن إلى مألوفاته ، والله تعالى يقول : {أفرأيت إن متعناهم سنين...} الآية. وعن ميمون بن مهران : أنه لقي الحسن في الطواف ، وكان يتمنى لقاءه ، فقال له : عِظني ، فلم يزده على تلاوة هذه الآية ، فقال : لقد وَعظت فأبلغت. وعن عمر بن العزيز رضي الله عنه : أنه كان يقرؤها عند جلوسه ليحكم بين الناس. هـ. وبالله التوفيق.
189
جزء : 5 رقم الصفحة : 188(5/292)
يقول الحق جل جلاله : {وما تنزلت به} ؛ بالقرآن ، {الشياطينُ} ، رداً لما يزعمه الكفرة من أنه من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة ، بعد تحقيق الحق فيه ، ببيان أنه نزل به الروح الأمين. {ما ينبغي لهم} أي : وما يصح وما يستقيم لهم ذلك ، {وما يستطيعون} إنزاله أصلاً ، {إنهم عن السمع} أي : عن استراقة السمع من الملائكة {لمعْزولُونَ} ؛ لممنوعون بالشهب ، أو : لانتفاء المشاركة بينهم وبين الملائكة في قبول الاستعداد ؛ لفيضان أنوار الحق ، والانتعاش بأنوار العلوم الربانية والمعارف القدسية ؛ لأن نفوس الشياطين خبيثة ظلمانية شريرة ، ليست مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه ، من فنون الشرور ، فمن أين لهم أن يحوموا حول القرآن الكريم ، المنطوي على الحقائق الرائقة الغيبية ، التي لا يمكن تلقيتها إلا من الملائكة الكرام - عليهم السلام ؟ .
{فلا تدعُ مع الله إلهاً آخر} ؛ كما هو شأن الأنفس الخبيثة الشيطانية ، {فتكونَ من المعذِّبين} ، تهديد لغيره على سبيل التعريض ، وتحريك له على زيادة الإخلاص ، وتنبيه لسائر المكلفين على أن الإشراك بلغ من القبح والسوء ، بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه ، فكيف بمن عداه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : وحي الإلهام الذي يتنزل على القلوب الصافية من الأغيار ، كوحي الأحكام ، ما تتنزل به الشياطين ، وما ينبغي لهم وما يستطيعون ؛ لأنهم ممنوعون من قلوب العارفين ؛ لِمَا احتفت به من الأنوار ، وما صانها من الأسرار ، أعني أنوار التوحيد وأسرار التفريد. وقال في لطائف المنن : إذا كان الحق تعالى حرس السماء من الشياطين بالشُهب ، فقلوب أوليائه أولى بأن يحرسها من الأغيار. هـ. بالمعنى : فلا تدع مع الله إلهاً آخر ، وهو ما سوى الله ، فتكون من المعذبين بوساوس الشياطين والخواطر والشكوك ؛ لأن القلب إذا مال إلى غير الله سلط الله عليه الشيطان ، فيكون ذلك القلب جراباً للشيطان ، يحشو فيه ما يشاء. والعياذ بالله.
(5/293)
جزء : 5 رقم الصفحة : 189
يقول الحق جل جلاله : {وأنَذِرْ} يا محمد {عشيرتَك الأقربين} ، إنما خصهم
190
بالذكر ؛ لئلا يتكلوا على النسب ، فَيَدَعُوا ما يجب عليهم ، لأن من الواجبات ما لا يشفع فيها ، بقوله في تارك الزكاة وقد استغاث به : " لا أملك لكم من الله شيئاً ". وفي الغالِّ كذلك. وقيل : إنما خصهم لنفي التهمة ؛ إذ الإنسان يساهل قرابته ، وليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئاً ؛ إذ النجاة في اتباعه ، لا في قربه منهم.
ولما نزلت صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصَّفا ، ونادى الأقربَ فالأقرب ، وقال : " يا بَني عبد المطلب ، يا بني هاشم ، يابني عبد مناف ، يا عباسُ - عم النبي صلى الله عليه وسلم - يا صفيَّةُ - عمَّة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لا أمْلِكُ لكم من الله شيئاً " وقال ابن عباس رضي الله عنه : صَعدَ النبي صلى الله عليه وسلم الصَّفا ، ونادى : " يا صباحَاه " ؛ فاجتمع الناس ، فقال صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، إنْ أخبرتُكم أن خَيْلاً بسَفْح هذا الجَبَل ، تريد أن تُغير عليكم ، صدقتُموني ؟ قالوا : نَعَمْ. قال : فإني نذير لكم بين يَدَيْ عَذَاب شديدٍ. فقال أبو لهب : نبأ لك سائر اليوم ، ما جمعتنا إلا لهذا " ؟ فنزلت : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد : 1].
ثم قال : {واخفضْ جناحك} أي : وألن جانبك وتواضعْ ، وأصله : أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه ، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه ، فجعل خفض الجناح مثلاً في التواضع ولين الجانب. ويكن ذلك التواضع {لِمَنِ اتبعك من المؤمنين} من قرابتك وغيرهم. {فإن عَصَوْكَ فقل إني بريءٌ مما تعملون} أي : أنذر قومك ؛ فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك ، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم ؛ من الشرك وغيره.
(5/294)
{وتوكل على العزيز الرحيم} أي : على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته ، فإنه يكفيك شر من يعاديك. {الذي يراك حين تقومُ} للتهجد ، {و} يرى {تقلُّبَكَ في الساجدين} ؛ في المصلين. أتبع كونه رحيماً برسوله ما هو من أسباب الرحمة ، وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل ، من قيامه للتهجد ، وتقلبه في تصفح أحوال المُتَهَجِّدِينَ ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون. وقيل : معناه : ويراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة ، وتقلبك في الساجدين : تصرفه فيما بينهم ، بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم. وعن مقاتل : أنه سأل أبا حنيفة : هل تجد الصلاة بالجماعة في القرآن ؟ فقال : لا يحضرني ، فتلا له هذه الآية. وقيل : تقلبه في أصلاب الرجال. ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم في الآية أنه قال : " من نبي إلى نبي حتى أخرجتك نبياً ". {إنه هو السميعُ} لما تقول ، {العليمُ} بما تنويه وتعمله. هَوَّنَ عليه مشاقّ العبادة ، حيث أخبره برؤيته له ، إذ لا مشقّة على من يعْلَم أنه يعمل بمرأى من مولاه ، وهو كقوله
191
في الحديث القدسي : " بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي " والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 190
(5/295)
الإشارة : ينبغي لمن أُهِّلَ للوعظ والتذكير أن يبدأ بالأقرب فالأقرب ، ولو علم أنه لا ينتفع به إلا النزر القليل. فمن تبعه على مذهبه فَلْيُلِنْ له جانبه وليتواضع له ، ومن أعرض عنه واشتغل بهواه فليتبرأ من فعله ، ولا ينساه من نصحه ، ولذلك قال تعالى : {فإن عصوك فقل إني بريءٌ مما تعملون} ، ولم يقل : " منكم " ، وهذا مذهب الجمهور وأن الأخ إذا زلّ إنما يُبغض عمله فقط. وعن بعض الصحابة - وقد قيل له في أخيه ، فقال : إنما أبغض عمله ، وإلا فهو أخي ، وذُكر مثل ذلك عن أبي الدرداء. وأن الأخ في الله لا يُبغض لزلته ، ولا يترك لشيء من الأشياء ، وإنما يبغض عمله ، ووافقه على ذلك سلمان ، وتابعهما عمر ، وخالف في ذلك أبو ذر ، فقال : إذا وقعت المخالفة ، وانقلب عما كان عليه ، فَأَبْغِضْهُ مِنْ حَيْثُ أحببتَهُ.
قال صاحب القوت : وأبو ذر صاحب شدائد ، وعزائم ، وهذا من عزائمه وشدائده. هـ. وهذا في المؤمن بدليل قول أبي الدرداء : الأخ في الله لا يبغض لزلة. وأما الكافر فصريح آياته : {إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة : 4] ، ونحوها. وحديث ابن عمر وتبرئه من نفاة القدر - كما في مسلم - موجب للبراءة ، وليس لكون حكم الأصول أشد من الفروع. وذكر في الإحياء تأكيد الإعراض عمن يتعدى أذاه لغيره ؛ بظلم ، أو غصب ، أو غيبة ، أو نميمة ، أو شهادة زور ؛ لأن المعصية شديدة فيما يرجع لأذى الخلق. هـ. من الحاشية.
قوله تعالى : {فتوكل على العزيز الرحيم} ، قيل : التوكل : تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ، ويقدر على نفعه وضره ، وهو الله وحده ، والمتوكل من إذا دهمه أمرٌ لم يحاولْ دفعه عن نفسه بما هو معصية. وقال الجنيد رضي الله عنه : التوكل أن تقبل بالكلية على ربك ، وتُعرض بالكلية عمن دونه ؛ فإنَّ حاجتك إنما هي إليه في الدارين. هـ.
(5/296)
قال القشيري : {وتقلبك في الساجدين} من أصحابك ، ويقال : تقلبك في أصلاب آبائك من المسلمين ، الذين عرفوا الله ، فسجدوا له ، دون من لم يعرفه. هـ. وفي القوت : قيل : وتقلبك في أصلاب الأنبياء - عليهم السلام ، يقلبك في صلب نبي بعد نبي ، حتى أخرجك من ذرية أسماعيل ، وروينا معنى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحاصل : أنه من ذرية الأنبياء والمؤمنين الساجدين في الجملة ، ولا يقتضي كل فرد من الأفراد. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 190
192
قلت : " أيَّ منقلب " : مفعول مطلق لينقلبون ، والأصل : ينقلبون أيّ انقلاب ، وليست " أيا " : مفعول " يعلم " لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وجملة : " ينقلبون " : مُعَلَّقٌ عنها العامِلُ ، فهي محل نصب ؛ على قاعدة التعليق ، فإنه في اللفظ دون المحل.
يقول الحق جل جلاله : {هل أُنَبِّئُكم} أي : أخبركم أيها المشركون {على من تَنزَّلُ الشياطينُ} ، ودخل حرف الجار على " من " الاستفهامية ؛ لأنها ليست للاستفهام بالأصالة. ثم أخبرهم ، فقال : {تنزّل على كل أفاكٍ} : كثير الإفك ، وهو الكذب ، {أثيم} ؛ كثير الإثم ، وهم الكهنة والمتنبئة ، كشق وسطيح ومسيلمة. وحيث كانت حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزهة أن يحرم حولها شيء من ذلك ، اتضح استحالة تنزلهم عليه صلى الله عليه وسلم.
(5/297)
{يُلْقُون السمعَ} وهم الشياطين ، كانوا ، قبل أن يُحجبوا بالرجم ، يلقون أسْماعهم إلى الملأ الأعلى ، فيختطفون بعض ما يتكلمون به ، مما اطلعوا عليه من الغيوب ، ثم يُوحون به إلى أوليائهم. {وأكثرهم كاذبون} فيما يوحون به إليهم ؛ لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وفي الحديث : " إنهم يخلطون مع ما سمعوا مائة كذبةٍ " ، فلذلك يُخطئون ويصيبون ، وقيل : يلقون إلى أوليائهم السمع ، أي : المسموع من الملائكة. وقيل : الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين ، ثم يبلغون ما يسمعون منهم إلى الناس ، {وأكثرهُم} أي : الأفاكون {كاذبون} : مفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم. والأفَّاك : الذي يذكر يكثر الإفك ، ولا يدلّ على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك ، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلَّ من يصْدُق منهم فيما يحكيه عن الجِنَّةِ.
ولما ذكر الكهنة ذكر الشعراء وحالهم ؛ لينبه على بُعد كلامهم من كلام القرآن ، فينتفي كونه كهانة وشعراً ، كما قيل فيه ، فقال : {والشعراءُ يتَّبِعُهم الغاوون} : مبتدأ وخبر ، أي : لا يتبعهم على باطلهم إلا الغاوون ، فإنهم يصغون إلى باطلهم وكذبهم ، وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب ، ومدح من لا يستحق المدح ، وهجاء من لا يستحق الهجو ، ولا يستحسن ذلك منهم {إلا الغاوون} ، أي : السفهاء ، أو الضالون عن طريق الرشد ، الحائرون فيما يفعلون ويذرون ، لا يستمرون على وتيرة واحدة فيما يقولون ويفعلون ، بخلاف غيرهم من أهل الرشد ، المهتدون إلى طريق الحق ، الثابتين عليه.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 192
ألم تَرَ أنهم} أي الشعراء {في كل وادٍ} من الكلام {يَهِيمُون} ، أو في كل فن من الإفك يتحدثون ، أو : في كل لغو وباطل يخوضون. والهائم : الذاهب على وجهه لا مقصد له ، وهو تمثيل لذهابهم في كل شِعْبٍ من القول ، وهو استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له ، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية ، للقصد إلى أن حالهم
193
(5/298)
من الجلاء والظهور بحيث لا تختص به رؤية راء دون الآخر ، أي : ألم تر أن الشعراء في كل وادٍ من أودية القيل والقال ، وفي كل شِعْبٍ من الوهم والخيال ؛ وفي كل مسلك من مسالك الغي والضلال ، يهيمون. {وأنهم يقولون ما لا يفعلون} من الأفاعيل ، غير مبالين بما يستتبعه من اللوم ، فكيف يتوهم أن ينتظم في سلكهم من تنزهت ساحته عن أن تحوم حوله شائبةُ الاتصافِ بشيء من الأمور المذكورة ، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة ، والأخلاق الحميدة ، مستقراً على المنهاج القويم ، مستمراً على الصراط المستقيم ، ناطقاً بكل أمر رشيد ، داعياً إلى صراط العزيز الحميد ، مؤيداً بمعجزة قاهرة ، وآيات ظاهرة ، مشحونة بفنون من الحِكَم الباهرة ، وصنوف المعارف الزاخرة ، مستقل بنظم رائق ، أعجز كل مِنْطِيقٍ ماهر ، وبكت كل مُفْلِقٍ ساحر.
هذا وقد قيل في تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون من الشعراء : أن أتباع الشعراء الغاوون ، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك ، ولا ريب في أن تعليل عدم كونه صلى الله عليه وسلم منهم بكون أتباعه صلى الله عليه وسلم غير غاوين مما لا يليق بشأنه العلي. هـ. قاله أبو السعود.
ثم استثنى الشعراء المؤمنين ، فقال : {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ} ؛ كعبد الله بن رواحة ، وحسّان ، وكعب بن زهير ، وكعب بن مالك. {وذكروا الله كثيراً} أي : كان ذكر الله وتلاوة القرآن أغلب عليهم من الشعر ، وإذا قالوا الشعر قالوا في توحيد الله والثناء عليه ، والحكمة والموعظة ، والزهد والأدب ، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء.
(5/299)
وأحق الخلق بالهجاء من كَذَّبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهجاه. وعن كعب بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أهْجُهُمْ ، فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُو أشدُّ عَلَيْهِمْ مِن رَشْقِ النَّبْلِ " ، وكان يقول لحسّان : " قل ، وروح القدس معك ". {وانتصروا من بعد ما ظُلِمُوا} أي : ردوا على المشركين ، الذين هجوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وروي أنه لما نزلت الآية : جاء حسان ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، يبكون ، فقالوا يا رسول الله : أنزل الله تعالى هذه الآية ، وهو يعلم أنا شعراء ؟ فقال : " اقرؤوا ما بعدها : {إلا الذين آمنوا...} هم أنتم وانتصروا ، هم أنتم ". ومرَّ عمر رضي الله عنه وحسان رضي الله عنه ينشد الشعر في المسجد ، فَلَحَظَ إليه ، فقال : كنتُ أُنْشِدُ فيه ، وفيه من هو خير منك ، ثم التفت إلى أبي هريرة ، فقال : أَنْشُدُكَ
194
بالله ، أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أجبْ عني ، اللهم أيِّدْه بروح القدس " قال : اللهم نعم.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 192
وَسَيَعْلَمُ الَّذِين ظَلَمُوا أيَّ مُنَقلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ؛ أيَّ مرجع يرجعون إليه ، وهو تهديد شديد ، ووعيد أكيد ؛ لما في {سيعلم} من تهويل متعلقة ، وفي {الذين ظلموا} من الإطلاق والتعميم. وفي {أي منقلب ينقلبون} من الإبهام والتهويل. وتلاها أبو بكر لعمر رضي الله عنه حين عهد إليه ، وكان السلف يتواعظون بها. و المعنى : سيعلم أهل الظلم ما تكون عاقبتهم ، حين يقدمون عليَّ ، وأيَّ منقلب ينقلبون ، حين يفدون إليّ. اللهم ثبت أقدامنا على المنهاج القويم ، حين نلقاك يا أرحم الراحمين.
(5/300)
الإشارة : هل أنبئكم على قَلْبِ مَنْ تَنَزَّلَتْ الشياطينُ ، وسكنت فيه ، تنزل على قلب كل أفاك أثيم ، خارب من النور ، محشو بالوسواس والخواطر ، يلقون السمع إلى هرج الدنيا وأخبارها ، وهو سبب فتنتها ؛ فإن القلب إذا غاب عن أخبار الدنيا وأهلها ، سكن فيه النور وتأنس بالله ، وإذا سكن إلى أخبار الدنيا وأهلها سكنت في الظلمة ، وتأنس بالخلق ، وغاب عن الحق. ولذلك قيل : ينبغي للمؤمن أن يكون كالفكرون ؛ إذا كان وحده انبسط ، وإذا رأى أحداً أدخل رأسه معه ، وأكثر ما يسمع من هرج الدنيا كذب وإليه الإشارة بقوله : {وأكثرهم كاذبون} ، ومن جملة ما يفسد القلب : تولهه بالشعر ، وفي الحديث : " لأنْ يمتلىءَ جوفُ أحدِكُم قَيْحَاً خيرٌ له من أن يَمْتَلِىءَ شِعْراً " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، إلا من كان شعره في توحيد الله ، أو في الطريق ، كالزهد في الدنيا ، والترهيب من الركون إليها ، والزجر عن الاغترار بزخارفها الغرارة ، والافتتان بملاذها الفانية ، وغير ذلك ، أو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، والمشايخ الموصلين إليه تعالى ، بشرط أن يكون الغالب عليه ذكر الله.
وقوله تعالى : {وانتصروا من بعدها ظلموا} ، أي : جاروا على نفوسهم بعدما جارت عليهم ، وقهروها بعد ما قَهَرَتْهُمْ. {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} قال ابن عطاء : سيعلم المعرض عنا ما فاته منا. هـ. وفي الحكم : " ماذا فقد مَنْ وَجَدَكَ ، وما الذي وجد مَنْ فَقَدَكَ ؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً ، ولقد خسر من بغى عنك مُتَحَولاً ، كيف يُرْجَى سِوَاك وأنت ما قَطَعْتَ الإحسانَ ، أم كيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان ؟ " وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
195
جزء : 5 رقم الصفحة : 192(5/301)
سورة النمل
جزء : 5 رقم الصفحة : 195
يقول الحق جل جلاله : {طس} أي : يا طاهر يا سيد. قال ابن عباس : " هو اسم من أسماء الله تعالى " ، أقسم به أن هذه السورة آياتها القرآن وكتاب مبين. قلت : ولعلها مختصرة من اسمه " اللطيف والسميع ". وقيل إشارة إلى طهارة سر حبيبه. {تلك آياتُ القرآن} ، الإشارة إلى نفس السورة ، وما في معنى الإشارة من معنى البُعد ، مع قرب العهد بالمشار إليه ، للإيذان ببُعد منزلته في الفضل والشرف ، أي : تلك السورة الكريمة التي نتلوها عليك هي آيات القرآن ، المعروف بعلو الشأن. {و} آيات {كتابٍ} عظيم الشأن {مُبين} ؛ مظهر بما في تضاعيفه من الحِكَم ، والأحكام ، وأحوال الآخرة ، أو : مبين : مُفرق بين الرشد والغي ، والحلال والحرام ، أو : ظاهر الإعجاز ، على أنه من : أبان ، بمعنى بان ، وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى ، نحو : هذا فعل السخي والجواد.
ونكّر الكتاب ليكون أفخم له. وقيل : إنما نكّر الكتاب وعرّفه في الحِجْر ، وعرّف
196
القرآن ونكره في الحِجْر ؛ لأن القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ووصفان له ؛ لأنه يُقرأ ويكتب ، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم ، وحيث جاء بلفظ التنكير فهو الوصف. قاله النسفي.
وما قيل من أهل الكتاب هو اللوح المحفوظ ، وإبانته أنه خُطَّ فيه ما هو كائن ، لا يساعده إضافة الآيات إليه. والوصف بالهداية والبشارة في قوله : {هدىً وبُشرى للمؤمنين} أي : حال كون تلك الآيات هادية ومبشرة للمؤمنين ، فهما منصوبان على الحال ، من الآيات ، على أنهما مصدران بمعنى الفاعل ؛ للمبالغة ، كأنهما نفس الهداية والبشارة ، والعامل فيها ما في " تلك " من معنى الإشارة ، أو خبر ، أي : هي هدى وبشرى للمؤمنين خاصة ؛ إذ لا هداية لغيرهم بها.(5/302)
{الذين يقيمون الصلاة} ؛ يُديمون على إقامة فرائضها وسننها ، ويحافظون على خشوعها وإتقانها ، {ويُؤتون الزكاة} أي : يؤدون زكاة أموالهم ، {وهم بالآخرة هم يُوقنون} حق الإيقان. إما من جملة الموصول ، وإما استئناف ، كأنه قيل : هؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان ، لا من عداهم ؛ لأن من تحمل مشاق العبادات ، إنما يكون لخوف العقاب ، ورجاء الثواب ، أولاً ، ثم عبودية آخراً ، لمن كمل إخلاصه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 196
ثم ذكر ضدهم ، فقال : {إنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي : لا يُصدّقون بها ، وبما فيها من الثواب والعقاب ، {زيَّنَّا لهم أعمالهم} الخبيثة ، حيث جعلناها مشتهية للطبع ، محبوبة للنفس ، حتى رأوها حسنة ، كقوله : {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُواءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر : 8] ، {فهم يَعْمَهُونَ} ؛ يترددون في ضلالتهم. كما يكون حال الضال عن الطريق. {أولئك الذين لهم سوءُ العذابِ} في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر ، {وهم في الآخرة هم الأخسرون} ؛ أشدّ الناس خسراناً ؛ لأنهم لو آمنوا لكانوا من أكرم الناس ، شهداء على جميع الأمم يوم القيامة ، فخسروا ذلك مع خسران ثواب الله والنظر إليه. عائذاً بالله من جميع ذلك.
(5/303)
الإشارة : طس : طهر سرك أيها الإنسان ، لتكون من أهل العيان ، طهر سرك من الأغيار لتشاهد سر الأسرار ، وحينئذٍ تذوق أسرار القرآن والكتاب المبين ، وتصير هداية وبشارة للمؤمنين : فإنَّ من قرأ القرآن وعمل به فقد أدرج النبوة بين كتفيه ، كما في الخبر. ثم ذكر من امتلأ قلبه بالأكدار فقال : {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة...} إلخ ، قال القشيري : أغشيناهم فهم لا يُبصِرون ، وعَمَّيْنَا عليهم المسالك ، فهم عن الطريقة المُثْلَى يَصدون. أولئك الذين في ضلالتهم يعمهون ، وفي حيرتهم يترددون. {أؤلئك الذين لهم سوء العذاب} هو أن يجد الألم ولا يجد شهود المُبْتَلِي ، ولو وجدوه تحمل عنهم ثِقَله بخلاف المؤمنين. هـ.
197
جزء : 5 رقم الصفحة : 196
قلت : (تُلَقَّى) : مبني للمفعول. والفاعل هو الله ؛ لدلالة ما تقدم عليه ، من قوله : {وإنه لتنزيل رب العالمين}. و(لقى) : يتعدى إلى واحد ، وبالتضعيف إلى اثنين. وكأنه كان غائباً فلقيه ، فالمفعول الأول صار نائباً. و " القرآن " : مفعول ثان ، أي : وإنك ليلقيك الله القرآن.
يقول الحق جل جلاله : {وإِنك} يا محمد {لَتُلَقَّى القرآنَ} أي : لتؤتاه بطريق التلقية والتلقين {من لَدُنْ حكيمٍ عليم} أي : من عند أيّ حكيم وأيّ عليم ، فالتنكير للتفخيم. وفي تفخيمه تفخيم لشأن القرآن. وتنصيص على علو طبقته - عليه الصلاة والسلام - في معرفته ، والإحاطة بما فيه من العلوم والحِكَم والأسرار ، فإن من تلقى العلوم والحِكَم من الحكيم العليم يكون عَلَماً في إتقان العلوم والحِكَم. والجمع بينهما مع دخول العلم في الحكمة ؛ لعموم العلم ، ودلالة الحكمة على إتقان الفعل ، والإشعار بأن ما في القرآن من العلوم ، منها ما هو حكمة ، كالعقائد والشرائع ، ومنها ما ليس كذلك ، كالقصص والأخبار الغيبية. قاله أبو السعود.
(5/304)
قال ابن عطية : في الآية رد على كفار قريش في قولهم : القرآن من تلقاء محمد. وقال القرطبي : الآية تمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص ، وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه ، ومن آثار ذلك : قصة موسى {إذ قال لأهله...} إلخ. هـ.
الإشارة : قال أبو بكر بن طاهر : وإنك لَتُلَقَّى القرآن من الحق حقيقية ، وإن كنت تأخذه في الظاهر عن واسطة جبريل عليه السلام. قال تعالى : {الرَّحْمَـانُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} [الرحمن : 1 ، 2]هـ. قلت : العارفون بالله لا يسمعون القرآن إلا من لَدُنْ حكيم عليم ، بلا واسطة ، الواسطة محذوفة في نظرهم ، فهم يسمعون من الله إلى الله ، ويقرؤون بالله على الله ، كما قال القائل : أنا بالله أنطق ، ومن الله أسمع. ومما يحقق لك حذف الواسطة : قوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة : 28] وسمعت شيخي البوزيدي رضي الله عنه ، يقول : لا يكون الإنسان من الراسخين في العلم حتى يقرأ كله وهو مجموع فيه ، أي : يقرأ بالله ويسمعه من الله. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 197
198
(5/305)
يقول الحق جل جلاله : واذكر {إِذْ قال موسى لأهله} ؛ زوجته ومن معه ، عند مسيره من مدْين إلى مصر : {إِني آنستُ} أي : أبصرتُ {ناراً سآتيكم منها بخَبَرٍ} عن حال طريق التي ضل عنها. والسين للدلالة على نوع بُعد في المسافة ، وتأكيد الوعد. {آو آتيكم بشهابٍ قبَسٍ} أي : شعلة نار مقبوسة ، أي مأخوذة. ومن نوّن فبدل ، أو صفة ، وعلى القراءتين فالمراد : تعيين المقصود الذي هو القبس ، الجامع لمنفعتي الضياء والاصطلاء ؛ لأن من النار ما ليس بقبس ، كالجمرة. وكلتا العِدتين منه عليه السلام بطريق الظن ، كما يُفصح عن ذلك ما في سورة طه ، من صيغتي الترجي والترديد ؛ لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول : سأفعل كذا ، وسيكون كذا ، مع تجويزه التخلف. وأتى بأو ؛ لأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معاً لم يعدم واحدة منهما ، إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، ولم يدر أنه ظافر بحاجته الكبرى ، وهي عزّ الدنيا والآخرة.
واختلاف الألفاظ في هاتين السورتين ، والقصة واحدة ، دليل على نقل الحديث بالمعنى ، وجواز النكاح بغير لفظ النكاح والتزويج. قاله النسفي.
{لعلكم تَصْطَلُون} ؛ تستدفئون بالنار من البرد إذا أصابكم.
{فلما جاءها} أي : النار التي أبصرها {نُودِيَ} من جانب الطور {أن بُورِكَ} ، على أنّ " أنْ " مفسرة ؛ لما في النداء من معنى القول. أو : بأن بورك ، على أنها مصدرية ، وقيل : مخففة ، ولا ضرر في فُقدان الفصل بـ " لا " ، أو قد ، أو السين ، أو سوف ؛ لأن الدعاء يخالف غيره في كثير من الأحكام ، أي : أنه ، أي : الأمر والشأن {بُورِكَ} أي : قدّس ، أو : جعل فيه البركة والخير ، {مَن في النار ومَنْ حولها} أي : من في مكان النار ، وهم الملائكة ، {ومَنْ حولها} أي : موسى عليه السلام ، بإنزال الوحي عليه ، الذي فيه خير الدنيا والآخرة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 198
(5/306)
وقال ابن عباس والحسن : (بورك من في النار أي : قُدِّس من في النار ، وهو الله تعالى) أي : نوره وسره ، الذي قامت به الأشياء ، من باب قيام المعاني بالأواني ، أو : من قيام أسرار الذات بالأشياء ، بمعنى أنه نادى موسى منها وسمع كلامه من جهتها ، ثم نزّه - سبحانه - ذاته المقدسة عن الحلول والاتحاد ، فقال : {وسبحان اللهِ} أي : تنزيهاً له عن الحلول في شيء ، وهو {ربّ العالمين}.
ثم فسر نداءه ، فقال : {يا موسى إنه} أي : الأمر والشأن {أنا الله العزيزُ الحكيم} أو : إنه ، أي : مكلمك ، الله العزيز الحكيم ، وهو تمهيد لِما أراد أن يظهر على يديه من المعجزات. {وألقِ عصاك} لتعلم معجزتها ، فتأنس بها ، وهو عطف على (بُورك) أي : نودي أن بورك وأنْ ألق عصاك. والمعنى : قيل له : بورك من في النار ، وقيل له : أَلقِ
199
عصاك ، {فلما رآها تهتزُّ} ؛ تتحرك يميناً وشمالاً ، {كأنها جانٌّ} ؛ حية صغيرة {وَلَّى} موسى {مُدْبِراً} أي : أدبر عنها ، وجعلها تلي ظهره ، خوفاً من وثوب الحية عليه ، {ولم يُعقِّبْ} ؛ لم يرجع على عقبيه ، من : عقّب المقاتل : إذا كرّ بعد الفر. والخوف من الشيء المكروه أمر طبيعي ، لا يتخلف ، وليس في طوق البشر.
(5/307)
قال له تعالى : {يا موسى لا تخفْ} من غيري ، ثقة بي ، أو : لا تخف مطلقاً {إني لايخاف لَدَيَّ المرسلون} أي : لا يخاف المرسلون عند خطابي إياهم ، فإنهم مستغرقون في شهود الحق ، لا يخطر ببالهم خوف ولا غيره. وأما في غير أحوال الوحي ؛ فهم أشد الناس خوفاً منه سبحانه ، أو : لا يخافون من غيري ، لأنهم لديَّ في حفظي ورعايتي. {إلا من ظَلَمَ} أي : لكن من ظلَم مِن غيرهم ؛ لأن الأنبياء لا يَظلمون قط ، فهو استثناء منقطع ، استدرك به ما عسى يختلج في العقل ، من نفي الخوف عن كلهم ، مع أن منهم من فرطت منه صغيرة مما يجوز صدوره عن الأنبياء - عليهم السلام - كما فرط من آدم ، وموسى ، وداود ، وسليمان - عليهم السلام - فحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى - عليه السلام - ومن وكزه القبطيّ. وسماها ظلماً ، كقوله عليه السلام في سورة القصص : {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص : 16].
قال في الحاشية الفاسية : والظاهر في الاستثناء كونه متصلاً ، وأطلق الظلم باعتبار منصب النبوة ، وإشفاقهم مما لا يشفق منه غيرهم ، كما اتفق لموسى في مدافعة القبطي عن الإسرائيلي ، مع أن إغاثة المظلوم مشروعة عموماً ، ولكن لَمَّا لم يُؤذَن له خصوصاً عُد ذلك ظلماً وذنباً. وأما ما سرى من القتل فلم يقصده ، وإنما اتفق من غير قصد. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 198
قوله : {ثم بدّلَ حُسْناً بعد سُوءٍ} أي : أتبع زلته حسنة محلها ، كالتوبة وشبهها ، {فإني غفور رحيمٌ} أقبل توبته ، وأغفر حوبته ، وأرحمه ، فأحقق أمنيَّته. والله تعالى أعلم.
(5/308)
الإشارة : تقدم بعض إشارة الآية في سورة طه. وقوله تعالى : {أن بورك من في النار...} تقدم قول ابن عباس وغيره : أن المراد بمن في النار : نور الحق تعالى. قال بعض العلماء : كانت النار نوره تعالى ، وإنما ذكره بلفظ النار ؛ لأن موسى حسبه ناراً ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. هـ. ومنه حديث : " حجُابه النار ، لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه كلَّ شيء ادركه بصره " ، أي : حجابه النور الذي تجلى به في مظاهر خلقه ، فالأواني حجب للمعاني ، والمعاني هي أنوارالملكوت ، الساترة لأسرار الجبروت ، السارية في الأشياء.
وقال سعيد بن جبير : (هي النار بعينها) ، وهي إحدى حجب الله تعالى. ثم استدل
200
بالحديث : " حجابة النار " ومعنى كلامه : أن الله تعالى احتجت في مظاهر تجلياته ، وهي كثيرة ، ومن جملتها النار ، فهي إحدى الحجب التي احتجب الحق تعالى بها ، وإليه أشار ابن وفا بقوله :
هو النورُ المحيط بكل كَون
ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء في الذات ، العارفون بالله ، وحسب من لم يبلغ مقامهم التسليم لِما رمزوا إليه ، وإلا وقع الإنكار على أولياء الله بالجهل ، والعياذ بالله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 198
يقول الحق جل جلاله : {وأَدْخِلْ يدَكَ} يا موسى {في جَيْبكَ} ؛ في جيب قميصك. والجيب : الفتح في الثوب لرأس الإنسان. قال الثعلبي : إنما أمره بذلك ؛ لأنه كان عليه مدرعة صوف ، لا كُم لها. {تخرجْ بيضاءَ من غير سُوءٍ} ؛ من غير آفة ، كَبَرَصٍ ونحوه ، {في تسع آياتٍ} أي : هاتان الآيتان في جملة تسع آيات ، وهي الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقُمل ، والضفادع ، والدم ، والطمس ، والجدب في بواديهم ، والنقصان في مزارعهم. ومن عدّ اليد والعصا من التسع عدّ الاخيرين واحداً ، ولم يعد الفلق ؛ لأنه لم يبعث به إلى فرعون. وقوله : {إلى فرعون} متعلق بمحذوف ، أي : مرسلاً ، أو : ذاهباً إلى فرعون {وقومِه إنهم كانوا قوماً فاسقينَ} ؛ خارجين عن أمر الله ، كافرين به.
(5/309)
{فلما جاءتهم آياتُنا} ؛ معجزاتنا ، وظهرت على يد موسى ، حال كونها {مُبصرةً} ؛ بيّنة واضحة ، وهي اسم فاعل ، أطلق على المفعول ، إشعاراً بأنها لفرط ظهورها كأنها تبصر نفسها ؛ مبالغة في وضوحها ، وإلا فهي مبصرة لمن ينظر ويتفكر فيها. أو : ذات تبصر ؛ لأنها تهدي من يتبصر بها. فلما جاءتهم {قالوا هذا سحرٌ مبين} واضح سحريته.
{وجَحَدوا بها} أي : كذبوا بها {و} قد {اسْتَيقنتها أنفُسُهم} أي : علمتها علماً يقيناً ، فالاستيقان : أبلغ من الإيقان. يعني : أنهم جحدوا بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم. {ظلماً} : حال من ضمير (جحدوا) أي : ظالمين في ذلك ، ولا ظلم أفحش ممن تيقن أنها آيات من عند الله ، وسماها سحراً بيّناً ، {وعُلُوّاً} ؛ تكبراً وترفعاً عن الإيمان بموسى عليه السلام ، وهو أيضاً حال ، أو : علة ، {فانظر كيف كان عاقبةُ المفسدين} وهو الإغراق في الدنيا ، والإحراق في الآخرة. نسأل الله العافية.
الإشارة : وأدْخِل يد فكرتك في جيب قلبك ، تخرج بيضاء شعشعانية ، يستولي
201
شعاعها على وجود بشريتك ، فتنخنس البشرية تحت أنوار المعاني ، ثم يستولي على الوجود بأسره ، فيصير كله نوراً ملكوتياً ، جبروتياً ، متصلاً بالنور الأعظم ، والبحر الطام ، بعد قطع مقامات التوبة ، والتقوى ، والإستقامة ، والإخلاص ، والصدق ، والطمأنينة ، والمراقبة والمحبة ، والمشاهدة ، فيكون حينئذٍ آية مبصرة واضحة ، من آيات الله ، يدلّ على الله ، ويدعو إليه على بصيرة منه. فمن جحدها انخرط في سلك من قال تعالى في حقه : {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلُواً...} الآية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 201
(5/310)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد آتينا داودَ وسليمانَ عِلماً} أي : أعطينا كل واحد منهما طائفة خاصة به من علم الشرائع والأحكام ، وغير ذلك مما يختص به كل واحد منهما ، كصنعة الدروع ، ومنطق الطير. أو : علماً لدُنِيا. {وقالا} أي : كل واحد منهما ، شكراً لما أُوتيه من العلم : {الحمدُ لله الذي فضَّلنا} بما آتانا من العلم {على كثيرٍ من عباده المؤمنين}. قال النسفي : وهنا محذوف ، ليصلح عطف الواو عليه ، ولولا تقدير المحذوف لكان الوجه : الفاء ، كقولك : أعطيته فشكر ، وتقديره : آتيناهما علماً ، فعملا به ، وعرفا حق النعمة فيه ، وقالا : {الحمد لله الذي فضَّلنا على كثير}. والكثير المفضّل عليه : من لم يؤت علماً ، أو : من لم يؤت مثل علمهما. وفيه : أنهما فُضّلا على كثير ، وفضل عليهما كثير.
وفي الآية دليلٌ على شرف العلم ، وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم ، وأن من أوتيه فقد أُوتي فضلاً على كثير من عباده ، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم في الشرف والمنزلة ؛ لأنهم القوّام بما بُعِثُوا من أجله. وفيها : أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله تعالى على ما أوتوه ، وأن يعتقدَ العالم أنه إذا فُضّل على كثير فقد فُضّل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر رضي الله عنه : (كلّ الناس أفقه من عمر). هـ.
والعلماء على قسمين : علماء بالله وعلماء بأحكام الله. فالعلماء بالله هم العارفون به ، أهل الشهود والعيان. وهم أهل علم الباطن ، أعني علم القلوب ، والعلماء بأحكام الله هم علماء الشرائع والنوازل. وحيث انتهت درجة العلماء بأحكام الله ابتدئت درجة العلماء بالله. فنهاية علماء الظاهر بداية علماء الباطن ؛ لأن علم أهل الظاهر جله ظني ، وعلم أهل الباطن عياني ، ذوقي ، وليس الخبر كالعيان ، مع ما فاقوهم به من
202
(5/311)
المجاهدة والمكابدة ، ومقاساة مخالفة النفوس ، وقطع المقامات ، حتى ماتوا موتات ، ثم حييت أرواحهم ، فشاهدوا من الأنوار والأسرار ما تعجز عنه العقول ، وتكلّ عنه النقول.
جزء : 5 رقم الصفحة : 202
ثم قال تعالى : {وورِثَ سليمانُ داودَ}. وَرِثَ منه النبوة والملك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر. ووراثته للنبوة : انتقالها إليه بعد أبيه ، وإلا فالنبوة لا تورث. {وقال يا أيها الناس عُلِّمنا منطلقَ الطير} تشهيراً لنعمة الله ، واعترافاً بمكانها ، ودعاء للناس إلى تصديقه بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير.
والمنطق : كل ما يصوَّت به من المفرد والمؤلّف ، والمفيد وغير المفيد. وكان سليمان عليه السلام يفهم عنها كما يفهم بعضها بعضاً. يُحكى أنه مرَّ على بلبل على شجرة ، يحرك رأسه ، ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : الله ونبيه أعلم ، قال يقول : إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العَفَاء. وصاحت فاختة ، فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يُخلقوا ، وصاح طاووس ، فقال : يقول : كما تدين تدان ، وصاح هُدهد ، فقال : يقول : من لا يرحم لا يُرحم ، وصاح صُّرَد - وهو طائر ضخم الرأس - فقال : يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، وصاح طيطوى ، فقال : يقول : كل حي ميت ، وكل جديد بال. وصاح خُطَّاف ، فقال : يقول : قَدِّموا خيراً تجدوه. وصاح قُمْرِيّ ، فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى. وصاحت رخمة ، فقال : إنها تقول سبحان ربي الأعلى ملء أرضه وسمائه.
(5/312)
وفي رواية : هدرت حمامة ، فقال : إنها تقول : سبحان ربي الأعلى - مثل الرخمة - وقال : الغراب يدعو على العشَّار. والحِدَأة تقول : كل شيء هالك إلا وجهه. والقطاة تقول : من سكت سَلِمَ ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والديك يقول : اذكروا الله يا غافلين ، والنسر يقول : يا ابن آدم ؛ عش ما شئت ، آخرك الموت. والعُقاب يقول : في البُعد من الناس أُنس. والضفدع تقول : سبحان ربي القدوس. والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، المذكور في كل مكان. والدراج يقول : الرحمن على العرش استوى.
203
والقنب يقول : إلهي ؛ العن مبغض آل محمد ، عليه الصلاة والسلام.
وقيل : إن سليمان كان يفهم صوت الحيوانات كلها ، وإنما خضّ الطير ؛ لأنه معظم جنده.
ثم قال : {وأُوتينا من كل شيء} أي : ما نحتاج إليه. والمراد به كثرة ما أُوتي ، كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، ويعلم كل شيء ، كناية عن كثرة علمه. {إنَّ هذا لهو الفضلُ} والإحسان من الله تعالى {المبين} أي : الواضح ، الذي لا يخفى على أحد ، أو : إن هذا الفضل الذي أوتيته هو الفضل المبين. على أنه عليه السلام قاله على سبيل الشكر والمحمدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ " أي : أقول هذا القول شكراً ، لا فخراً ، والنون في (عُلمنا) و(أُوتينا) نون الواحد المطاع ، وكان حينئذٍ ملكاً ، فكلم أهل طاعته على الحالة التي كان عليها ، وليس فيه تكبر ولا فخر ؛ لعصمة الأنبياء من ذلك. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 202
(5/313)
الإشارة : أشرف العلوم وأعظمها وأعزها العلم بالله ، على سبيل الذوق والكشف والوجدان ، ولا يكون إلا من طريق التربية على يد شيخ كامل ؛ لأنه إذا حصل هذا العلم أغنى عن العلوم كلها ، وصغرت في جانبه ، حتى إن صاحب العلم بالله يعد الاشتغال بطلب علم الرسوم بطالة وانحطاطاً ، ومَثَله كمن عنده قناطير من الفضة ، ثم وجد جبلاً من الإكسير ، فهل يلتفت صاحبُ الإكسير إلى الفضة أو الفلوس ؟ لأن من كانت أوقاته كلها مشاهدة ونظراً لوجه الملك ، كيف يلتفت إلى شيء سواه ، ولذلك قال الجنيد رضي الله عنه : لو نعلم تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم ، الذي نتكلم فيه مع أصحابنا ، لسعيت إليه. هـ. وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن العارف : كنت أعرف أربعة عشر علماً ، فما أدركت علم الحقيقة ، سرطت ذلك كله ، ولم يبق إلا التفسير والحديث ، نتكلم فيه مع أصحابنا. أو قريباً من هذا الكلام. وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه :
أقارئينَ عِلْمَ التْوحِيد
هُنا البُحُورُ إليَّ تنبي
هَذا مَقامُ أهْل التجريدِ
الواقِفِينَ مَع ربي
وهذا أمر بيِّن عند أهل هذا الفن ، وقال الورتجبي : العلم علمان : علم البيان وعلم العيان. علم البيان ما يكون بالوسائط الشرعية ، وعلم العيان مستفاد من الكشوفات الغيبية. ثم قال : فالعلم البياني معروف بين العموم ، والعلم العياني مشهور بين الخصوص ، لم يطلع عليه إلا نبي أو وَليّ ، لأنه صدر من الحق لأهل شهوده ، من المحبين العارفين والموحدين والصديقين ، والأنبياء والمرسلين ، انظر بقية كلامه.
204
(5/314)
وقال أيضاً في قوله : {عُلِّمنا منطقَ الطير} : أفْهَم أن أصوات الطيور والوحوش وحركات الأكوان جميعاً هي خطابات من الله عز وجل للأنبياء والمرسلين ، والعارفين والصديقين ، يفهمونها من حيث أحوالهم ومقاماتهم. فللأنبياء والمرسلين علم بمناطقها قطعياً. ويمكن أن يقع ذلك بوحي ، لكن أكثر فهوم الأنبياء أنهم يفهمون من أصواتها ما يتعلق بحالهم ، بما يقع في قلوبهم من إلهام الله ، لا بأنهم يعرفون لغاتهم بعينها. هـ. قلت : وكذلك الأولياء يفهمون عنها ما يليق بمقاماتهم ، من ألفاظ ، أو أنس ، أو إعلام ، أو غير ذلك. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 202
قلت : {قالت نملة} : التاء للوحدة ، لا للتأنيث. قال الرضي : تكون التاء للفرق بين المذكر والمؤنث ، وتكون لآحاد الجنس ، كنحلة ونحل ، وثمرة وثمر ، وبطة وبط ، ونملة ونمل ، فيجوز أن تكون النملة مذكراً ، والتاء للوحدة ، وأنث الفعل باعتبار تأنيث اللفظ. هـ. مختصراً. و(لا يحطمنكم) : يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، أو : نهياً بدلاً من الأمر ؛ لتقارب المعنى ؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده. والضد ينشأ عنه الحطْم ، فلا : ناهية ، ومثله الحديث : " فليُمسك بِنَصَالها ، لا يعقر مسلماً " هـ.
يقول الحق جل جلاله : {وحُشِرَ لسليمانَ} أي : جُمع له {جنودُهُ من الجنِ والإِنس والطيرِ} بمباشرة مخاطبيه ، فإنهم رؤساء مملكته ، وعظماء دولته ، من الثقلين وغيرهم. وتقديم الجن على الإنس للإيذان بكمال قوة ملكه وعزة سلطانه ؛ لأن الجن طائفة عاتية ، وقبيلة طاغية ، ماردة ، بعيدة من الحشر والتسخير ، {فهم يُوزَعون} أي : يحبس أوائلهم على أواخرهم ، أي : يوقف سلاف العسكر حتى يلحقهم الثواني ، فيكونوا مجتمعين ، لا يختلف منهم أحد ، وذلك لكثرة العظمة والقهرية.
(5/315)
قال قتادة : فكان لكل صنف منهم وزعة. أو : لترتيب الصفوف ، كما هو المعتاد في العساكر. والوزع : المنع ، ومنه قول الحسن البصري ، حين ولي القضاء : (لا بد للحاكم من وزعة) أي : شُرط يمنعون الناس من الظلم. وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر ، دون سوق أواخرهم ، مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضاً : لأن أواخرهم غير قادرين على ما
205
يقدر عليه أوائلهم من السير السريع ، وهذا إن لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو. قال محمد بن كعب : كان عسكر سليمان مائة فرسخ ، خمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة منكوحة ، وسبعمائة سرية. وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم ، فرسخاً في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه ، وهو من ذهب ، فيقعد عليه ، وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فتقعد الأنبياء - عليهم السلام - على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها ، حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط ، فتسير به مسيرة شهر ، من الصباح إلى الرواح.
جزء : 5 رقم الصفحة : 205
ورُوي أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ، ويأمر الرخاء تُسيِّره ، فأوحى الله تعالى إليه ، وهو يسير بين السماء والأرض : إني زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك. قال وهب : حدثني أبي : أن سليمان مرّ بحرّاثٍ ، فقال : لقد أُوتي آلَ داود مُلكاً عظيماً ، فالتفت ونزل إلى الحرّاث ، فقال : إني سمعت قولك ، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير لك مما أوتي آلُ داود. هـ.
(5/316)
{حتى إذا أتوا على وادِ النمل} أي : فساروا حتى بلغوا وداي النمل ، وهو واد بالشام ، كثير النمل ، قاله مقاتل. أو : بالطائف ، قاله كعب. وقيل : هو واد يسكنه الجن ، والنمل مراكبهم. وعدي الفعل بـ " على " ؛ لأن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء. ولعلهم أرادوا أن ينزلوا بأعلى الوادي ؛ إذ حينئذٍ يخافهم من في الأرض ، لا عند سيرهم في الهواء. وجواب (إذ) قوله : {قالت نملة} ، وكأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرّت منهم ، فصاحت صيحة ، فنبهت بها ما بحضرتها من النمل.
قال كعب : مرّ سليمان عليه السلام بوادي السدير ، من أودية الطائف ، فأتى على واد النمل ، فقالت نملة ، وهي تمشي ، وكانت عرجاء تتكاوس ، مثل الذئب في العِظَم. قال الضحاك : كان اسم تلك النملة طاحية ، وقيل : منذرة ، وقيل : جرمي. وقال نوف الحميري : كان نمل وادي سليمان أمثال الذباب. وعن قتادة : أنه دخل الكوفة ، فالتف عليه الناس ، فقال : سلوني عما شئتم ، فسأله أبو حنيفة ، وهو شاب ، عن نملة سليمان ، أكان ذكراً أو أنثى ؟ فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له : بم عرفت ؟ فقال : قوله تعالى : {قالت نملة} ولو كان ذكراً لقال : قال نملة. هـ. قلت : وهو غير صحيح لِمَا تقدم عن الرضي.
{قالت نملةٌ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} لم يقل : ادخلن ؛ لأنه لَمَّا جعلها قائلة ، والنمل مقولاً لهم ، كما يكون من العقلاء ، أجرى خطابهن مجرى ذوي العقل ،
206
{لا يَحْطِمَنَّكُمْ} ؛ لا يكسرنّكم. والحطم : الكسر ، وهو في الظاهر نهى لسليمان عن الحطم ، وفي الحقيقة نهى لهم عن البروز والوقوف على طريقه ، نحو : لا أرينك ها هنا ، أي : لا تتعرضوا فيكسرنكم {سليمانُ وجنودُه} ، وقيل : أراد : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ. {وهم لا يشعرون} لا يعلمون بمكانكم ، أي : لو شعروا ما فعلوا. قالت ذلك على وجه العذر ، واصفةً سليمان وجنوده بالعدل ، فحمل الريح قولها إلى سليمان على ثلاثة أميال.
(5/317)
جزء : 5 رقم الصفحة : 205
رُوي أن سليمان قال لها : لم حذرت النمل ، أَخفتِ ظلمي ؟ أما عَلِمتِ أني نبي عدل ، فلِمَ قُلتِ : {لا يحطمنكم سليمان وجنوده} ؟ فقالت : أما سمعتَ قولي : {وهم لا يشعرون} ، مع أني لم أُرد حَطْم النفوس ، وإنما أردت حطم القلوب ، خشيتُ أن يتمنينَّ ما أُعطيتَ ، ويشغلن بالنظر إليك عن التسبيح ، فقال لها سليمان : عظيني ، فقالت : هل علمتِ لِمَ سُمي أبوك داود ؟ قال : لا ، قالت : لأنه داوى جرحَه. هل تدري لِمَ سميت سليمان ؟ قال : لا ، قالت : لأنك سليم ، ما ركنت إلى ما أوتيت ، لسلامة صدرك ، وأنَى لك أن تلحق أباك. ثم قالت : اتدري لِمَ سخر الله لك الريح ؟ قال : لا ، قالت : أخبرك الله أن الدنيا كلها ريح. قال ابن عباس : ومن هنا " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الدواب : الهدهد ، والصُّرد ، والنحلة ، والنملة ". {فتبسم ضاحكاً} ، معجباً {من قولها} ومِن حَذَرِها ، واهتدائها لمصالحها ، ونُصحها للنمل ، وفرحاً بظهور عدله. والتبسم : ابتداء الضحك ، وأكثر الضحك الأنبياء التبسّم ، أي : فتبسم ابتداء ، ضاحكاً انتهاء. {وقال ربِّ أوزعني} ، الإيزاع في الأصل : الكف ، أي : كُفَّني عن كل شيء إلا عن شكر نعمتك ، ويطلق على الإلهام ، أي : ألهمني {أن أشكرَ نعمتك التي أنعمتَ عليَّ} من النبوة والمُلك والعلم ، {وعلى والديَّ} ؛ لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد ، {و} ألهمني {أن أعمل صالحاً ترضاه} في بقية عمري ، {وأدخِلْني برحمتك} أي : وأدخلني الجنة برحمتك ، لا بصالح عملي ؛ إذ لا يدخل الجنة إلا برحمتك كما في الحديث. {في عبادك الصالحين} أي : في جملة أنبيائك المرسلين ، الذين صلحوا لحضرتك. أو : مع عبادك الصالحين. رُوي أن النملة أحست بصوت الجنود ، ولم تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان عليه السلام الريح ، فوقفت ؛ لئلا يذعرن ، حتى دخلن مساكنهن ، ثم دعا بالدعوة. قاله النسفي.
(5/318)
الإشارة : من أقبل بكليته على مولاه ، وأطاعه في كل شيء ، سخرت له الأكوان ، وأطاعته في كل شيء. ومن أعرض عن مولاه أعرض عنه كلُّ شيء ، وصعب عليه كلُّ
207
شيء. " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوانُ معك ". فإذا سخرت له الأشياء ، وزهد فيها ، وأعرض عنها ، واختار مقام العبودية ، ارتفع قدره ، ولم ينقص منه شيئاً ، كحال نبينا - عليه السلام -. ومن سخرت له الأشياء ، ونظر إليها ، انتقص قدره ، وإن كان كريماً على الله ، ولذلك ورد في الخبر أن سليمان عليه السلام : هو آخر من يدخل الجنة من الأنبياء. ذكره في القوت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 205
وذكر فيه أيضاً : أن سليمان عليه السلام لَبِسَ ذات يوماً ثياباً رفيعة ، ثم ركب على سريره ، فحملته الريح ، وسارت به ، فنظر إلى عطفيه نظرة ، فأنزلته إلى الأرض ، فقال لها : لِمَ أنزلتني ولَمْ آمرك ؟ فقالت له : نطعيك إذا أطعت الله ، ونعصيك إذا عصيته. فاستغفر وتاب ، فحملته. وهذا مما يعتب علىالمقربين ؛ لِكِبر مقامهم ، فكل نعيم في الدنيا ينقص في الآخرة. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 205
يقول الحق جل جلاله : {وتفقَّدَ} سليمانُ {الطيرَ} أي : تعرف أحوال الطير تعرف َالمَلِك لمملكته ، حسبما تقتضيه عناية الملك بمملكته ، والاهتمام بكل جزء منها ، أو : تفقده لمعرفته بالماء ، أو لغير ذلك على ما يأتي. فلما تفقده لم ير الهدهد فيما بينها. والتفقد : طلب ما غاب عنك. {فقال ماليَ لا أرى الهدهد} أساتر ستره ؟ {أم كان من الغائبين} ، و " أم " : بمعنى " بل ". كأنه قال : ما لي لا أراه ؟ ثم بدا له أنه غائب ، فأضرب عنه ، وقال : بل هو من الغائبين.
(5/319)
{لأُعذِّبَنَّه عذاباً شديداً} ، قيل : كان عذابه للطير : نتفه ريشه وتشميسه ، أو : يجعله مع أضداده في قفص ، أو : بالتفريق بينه وبين إلفه. وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد ، ومفارقة الأحباب. أو : نتفه ، وطرحه بين يدي النحل تلدغه ، أو : النمل تأكله. وحلّ له تعذيب الهدهد لينزجر غيره ، ولِما سخرت له الحيوانات - ولا يتم التسخير إلا بالتأديب - حلّ له التأديب.
208
{أو لأذْبحنَّه} ؛ ليعتبر به أبناء جنسه ، {أو لَيَأْتِيَنِّي بسلطانٍ مبين} ؛ بحُجة تُبين عذره ، والحلف في الحقيقة على أحد الأمرين ، على تقدير عدم الثالث. قال بعضهم : وسبب طلبته للهدهد ، لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها. وقيل : كانت الطير تظله ، فأصابته لمعة من الشمس ، فنظر ، فرأى موضع الهدهد خالياً ، فتفقده ، وقيل : احتاج إلى الماء ، وكان عِلْمُ ذلك إلى الهدهد ، فتفقده ، فلم يجده ، فتوعده.
(5/320)
والسبب فيه : أن سليمان عليه السلام لَمَّا فرغ من بناء بيت المقدس ، عزم على الخروج إلى أرض الحرم ، للحج ، فتجهز للمسير ، وخرج بجنوده - كما تقدم - فبلغ الحرم ، وأقام به ، وكان ينحر كل يوم بمكة خمسة آلاف ناقة ، ويذبح خمسة آلاف ثور ، وعشرين ألف شاة ، قرباناً. وقال : إن هذا مكان يخرج منه نبي عزيزُ ، صفته كذا وكذا ، يُعطَى النصر على جميع من ناوأه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر ، القريب والبعيد في الحق عنده سواء ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، دينه دين الحنيفية ، فطوبى لمن أدركه وآمن به ، وبيننا وبين خروجه زهاء ألف عام. ثم قضى نسكه ، وخرج نحو اليمن صباحاً ، يؤم سهيلاً ، فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضاً حسناء ، تزهو خضرتها ، فأحب النزول بها ؛ ليصلي ، ويتغذى ، فطلبوا الماء فلم يجدوه ، وكان الهدهد دليله على الماء ، كان يرى الماء من تحت الأرض ، كما نرى الماء في الزجاجة ، فينقر الأرض فتجيء الشياطين يستخرجونه. وبحث فيه القشيري بأن الهدهد متعدد في عسكره ، إذا فقدوا واحداً بقي آخر ، قال : اللهم إلا أن يكون ذلك الواحد مخصوصاً بمعرفة ذلك ، والله أعلم. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 208
قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا الحديث : قال له نافع بن الأزرق : كيف ينظر الماء تحت الأرض ، ولا يبصر الفخ حتى يقع فيه ؟ قال ابن عباس : ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر. هـ. قلت : ونافع هذا هو رأس الخوارج والمعتزلة.
(5/321)
فلما نزل سليمانُ ، قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول ، فارتفع نحو السماء ، ونظر طول الدنيا وعرضها ، ونظر يميناً وشمالاً ، فرأى بستاناً لبلقيس فيه هدهد. وكان اسم هدهد سليمان " يعفور " واسم هدهد اليمن " عنفير ". فقال هدهد اليمن لهدهد سليمان : من أين أقبلتَ وأين تريد ؟ قال : أقبلتُ من الشام ، مع صاحبي سليمان بن داود ، قال : ومَن سليمان ؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح ، فمِن أين أنت ؟ قال من هذه البلد ، ملكها امرأة ، يقال لها " بلقيس " تحت يديها اثنا عشر ألف قائد ، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل. فانطلق معه ، ونظر إلى بلقيس ومُلكها ، ورجع إلى سليمان وقت العصر. وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة ، فلم يجده ، وكان على غير ماء.
قال ابن عباس : فدعا عريف الطير - وهو النسر - فسأله ؟ ، فقال : ما أدري أين هو ، فغضب سليمان وقال : (لأُعذبنه...) إلخ ، ثم دعا بالعقاب ، سيد الطير ، فقال : عليّ بالهدهد الساعة ، فرفع العقاب نفسه نحو السماء ، حتى التزق بالهواء ، فنظر إلى الدنيا
209
كالقصعة بين يدي أحدكم ، فإذا هو بالهدهد مُقبلاً من نحو اليمن ، فانقضّ نحوه ، فقال له الهدهد : بحق الحق الذي قوّاك إلا ما رحمتني ، فقال : ويلك ، إن نبي الله حلف أن يعذبك ويذبحك. ثم تلقته النسور والطير في العسكر ، وقالوا له : لقد توعدك نبيُّ الله. قال : أوَ ما استثنى ؟ قالت : بلى ، قال : {أوْ لَيأتيني بسلطان مبين}. ثم دخل على سليمان ، فرفع رأسه ، وأرخَى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض ، تواضعاً لله ولسليمان ، فقال سليمان : أين كنت ؟ لأعذبنَّك... فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه ، فمده إليه ، فقال له الهدهد : يا نبي الله ؛ اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى ، بمنزلة وقوفي بين يديك ، فارتعد سليمان وعفا عنه. وقال عكرمة : إنما صُرف سليمان عن ذبح الهدهد لبره بوالديه ، كان يلتقط الطعام ثم يزقه لهما.
(5/322)
قال تعالى : {فَمَكَثَ غيرَ بعيدٍ} أي : تفقد مكث سليمان حين تفقد الهدهد ، وأرسل من ورائه غير زمان بعيد ، وهو من الظهر إلى العصر - كما تقدم - أو : فمكث الهدهد في غيبته غير بعيد ، خوفاً من سليمان ، فالضمير إما لسليمان ، أو : للهدهد ، وهو الظاهر ، ويرجحه قراءة : (فتمكث). وفي " مكث " لغتان : الضم والفتح.
جزء : 5 رقم الصفحة : 208
ولما قدِمَ من غيبته ، أحضر بين يديه ، على الهيئة المتقدمة ، ثم سأله عن غيبته ، {فقال أَحطتُ بما لم تُحِطْ به} أي : أدركت علماً لم تُحط به أنت ، أَلهم الله الهدهدَ فكافح سليمانَ بهذا الكلام ، مع ما أوتي من فضل النبوة والعلوم الجمة ، ابتلاء له عليه السلام في علمه ، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه ، اضعفهم من أحاطه الله علماً بما لم يُحط به ؛ لتتصاغر إليه نفسه ، ويصغر في عينه وعلمه ، في جانب علم الله ، رحمة به ولُطفاً في ترك الإعجاب ، الذي هو فتنة العلماء. ثم قال : {وجئتك من سبأ} - بالصرف - اسماً للحيّ ، أو : للأب الأكبر ، وبعدمه اسماً للقبيلة. {بنبأٍ يقين} ، والنبأ : الخبر الذي له شأن. وقوله : {من سبأ بنبإٍ} من محاسن الكلام ويسمى البديع. وقد حسن وبرع لفظاً ومعنىً ، حيث فسر إبهامه بأبدع تفسير ، وأراه أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة. وعبّر عما جاء به بالنبأ ، الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ، ووصفه بما وصفه به. {وإني وجدتُ امرأةَ تملكهم} ؛ هو استئناف لبيان ما جاء به من النبأ ، وتفسير له إثر الإجمال. وهي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان. وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ، ورث الملك من أربعين أباً. وقيل : كان أبوها - اسمه الهدهاد - ملكاً عظيم الشأن ، ملك أرض اليمن كلها ، وأبى أن يتزوج منهم ، فزوجوه امرأة من الجن ، يقال لها " ريحانة " فولدت له بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها.
قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كان أحد أبوي بلقيس جنياً " فمات أبوها ،
210
(5/323)
فاختلف قومه فرقتين ، وملّكوا أمرهم رجلاً قائماً بسيرته ، حتى فجَر بحرم رعيته ، فأدركت بلقيس الغيرة ، فعرضت عليه نفسها ، فتزوجته ، فسقته الخمر ، فسكر ، فجزت رأسه ، ونصبته على باب دارها فملكوها.
{وأُوتِيَتْ من كل شيءٍ} تحتاج إليه الملوك ، من العدة والآلة ، {ولها عرشٌ عظيم} : كبير ، قيل : كان ثلاثين ذراعاً في ثلاثين عرضاً ، وقيل : كان ثمانين ذراعاً في ثمانين ، وطوله في الهواء : ثمانون. وكان من ذهب وفضة ، مرصعاً بأنواع الجواهر ، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ، ودرّ ، وزبرجد ، وعليه سبعة أبيات ، في كل بيت باب مغلق. واستصغر الهدهد حالها إلى حال سليمان ، فلذلك عظّم عرشها. وقد أخفى الله تعالى ذلك على سليمان ؛ لحكمة ، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب ، ليتحقق ضعف العبودية في جانب علم الربوبية.
وكانت بلقيس مجوسية ، فلذلك قال : {وجدتُها وقومَها يسجدون للشمس من دون الله} أي : يعبدونها متجاوزين عبادة الله. {وزيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم} التي هي عبادة الشمس ، ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي ، {فصدَّهم عن السبيل} ؛ عن سبيل الرشد والصواب ، وهو التوحيد {فهم لا يهتدون} إليه. ولا يَبْعد من الهدهد التهدّي إلى معرفة الله ، ووجوب السجود له ، وحرمة السجود للشمس ، إلهاماً من الله له ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات والمعارف اللطيفة ، التي لا يكاد العقلاء ، الراجحة العقول ، يهتدون إليها. وهذا من أسرارالربوبية ، التي سرت في الأشياء ، فوحّدَت الله تعالى ، ولهجت بحمده.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 208
(5/324)
ألاَّ يسجدوا} بالتشديد ، أي : فصدّهم عن السبيل لئلا ، فحذف الجار ، أي : لأجل ألا يسجدوا لله. ويجوز أن تكون " لا " مزيدة ، أي : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. وقرئ : هلا يسجدون. ومن قرأ بالتخفيف. فالتقدير عنده : ألا يا هؤلاء ؛ اسجدوا ، فألاَ للتنبيه ، والمنادي محذوف ، فمن شدّد لم يقف على {يهتدون} ، ومن خفف وقف ثم استأنف : ألا يا هؤلاء اسجدوا {لله الذي يُخرجُ الخَبْءَ} ؛ الشيء المخبوء المستور {في السماوات والأرض} ، قال قتادة : خبء السموات : المطر ، وخبء الأرض : النبات. واللفظ أعم من ذلك ، {ويعلم ما يُخفون وما يُعلنون} عطف على " يخرج " ، إشارة إلى أنه تعالى يُخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا ، كما يُخرج ما في العالم الكبير من الخبايا.
{الله لا إله إلا هو ربُّ العرش العظيم} الذي هو أول الأجرام وأعظمهما. ووصفُ الهدهد عرشَ الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. وفي الخبر : " إن السموات والأرض في جانب العرش كحلقة في فلاة " ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك. هذا آخر كلام الهدهد. ثم دلهم على الماء فحفروا وشربوا ، وملؤوا الركايا ، والله تعالى أعلم.
211
(5/325)
الإشارة : هُدهد كل إنسان نفسه ، فإذا تفقدها فوجدها غائبة عن الله ، في أودية الغفلة ، هددها بالعذاب الشديد ، وبذبحها بأنواع المخالفة ، حتى تأتيه بحجة واضحة ، تعذر بها ، فإن لم تأت بحجة عذَّبها وذبحها ، بإدخالها في كل ما تكره ويثقل عليها ، فتمكث غير بعيد ، فتأتيه بالعلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، التي لم يحط بها علماً قبل ذلك ، وتجيئه بالخبر اليقين ، في العلم بالله ، من عين اليقين ، أو حق اليقين ، فتخبره عن أحوال عامة أهل الحجاب ، فتقول : إني وجدت إمرأة تملكهم ، وهي نفسهم الأمارة ، وأوتيت من كل شيء تشتهيه وتهواه ، من غير وازع ولا قامع ، ولها عرش عظيم ، وهو سرير الغفلة والانهماك في حب الدنيا والشهوات. أو : لها تسلط كبير على من ملكته ، وجدتها وقومها يسجدون للسّوى ، ويخضعون للهوى من دون الله ، وزيّن لهم الشيطانُ ذلك ، فصدهم عن طريق الوصول ، فهم لا يهتدون إلى الوصول إلى الحضرة أبداً ما داموا كذلك ؛ لأن حضرة ملك الملوك محرمة على من هو لنفسه مملوك. ألا يسجدوا بقلوبهم لله وحده ، فإنه مطلع على خبايا القلوب والأسرار ، وعلى ما يُسرون من الإخلاص ، وما يُعلنون من الأعمال ، التي توجب الاختصاص. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 208
(5/326)
يقول الحق جل جلاله : {قال} سليمانُ للهدهد : {سننظرُ} أي : نتأمل فيما أخبرتَ ، فتعلمُ {أَصَدَقْتَ أم كنتَ من الكاذبين} ، وهو أبلغُ من : أَكَذَبْتَ ؛ لأنه إذا كان معروفاُ بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً ، لا محالة ، وإذا كان كاذباً اتّهم فيما أخبر به ، فلا يُوثق به ، ثم كتب : من عبد الله ، سليمان بن داود ، إلى بلقيس ملكة سبأ ؛ بسم الله الرحمن الرحيم ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين. قال منصور : كان سليمان أبلغ الناس في كتابه ، وأقلهم كلاماً فيه. ثم قرأ : {إنه من سليمان...} إلخ ، والأنبياء كلهم كذلك ، كانت تكتب جُملاً ، لا يُطيلون ولا يُكثرون. وقال ابن جريج : لم يزد سليمان على ما قال الله تعالى : {إِنه من سليمان...} إلخ. ثم طَيَّبه بالمسك ، وختمه بخاتمه ، وقال للهدهد : {اذهب بكتابي هذا فَأَلْقِه إِليهم} أي : إلى بلقيس وقومها ؛ لأنه ذكرهم معها في قوله : {وجدتها وقومها} ، وبنى الخطاب
212
على لفظ الجمع لذلك. {ثم تولّ عنهم} أي : تنح عنهم إلى مكان قريب ، بحيث تراهم ولا يرونك ، ليكون ما يقولون بمسمع منك ، {فانظرْ ماذا يرجعون} أي : ما الذي يردُّون من الجواب ، أو : ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول.
فأخذ الهدهدُ الكتابَ بمنقاره ، ودخل عليها من كوّة ، فطرح الكتاب على نحرها ، وهي راقدةٌ ، وتوارى في الكوة. وقيل : نقرها ، فانتبهت فزعة ، أو : أتاها الجنود حولها ، فوقف ساعة يرفرف فوق رؤوسهم ، ثم طرح الكتاب في حجرها ، وكانت قارئة ، فلما رأت الخاتم {قالت} لأشرف قومها وهي خائفة : {يا أيها الملأ إني أُلقي إليَّ كتابٌ كريمٌ} ، وصفتْه بالكرم لكرم مضمونه ؛ إذ هو حق ، أو : لأنه من ملك كريم ، أو : لكونه مختوماً. قال - عليه الصلاة والسلام - : " كَرَمُ الكتابِ خَتْمُهُ " أو : لكونه مصدراً بالتسمية ، أو : لغرابة شأنه ، ووصوله إليها على وجه خرق العادة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 212
(5/327)
ومضمونه والمكتوب فيه : {إنه من سليمانَ وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} ، وهذا تبيين لما أُلقي إليها ، كأنها لما قالت : {أُلقي إليّ كتاب كريم} قيل لها : ممن هو وما هو ؟ فقالت : {إنه من سليمانَ وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلُوا عليَّ} ، " إن " : مفسرة ، أي : لا تترفعوا عليّ ولا تتكبروا ، كما يفعل جبابرة الملوك ، {وأْتُوني مسلمين} : مؤمنين ، أو : منقادين ، وليس فيه الأمر بالإسلام. وقيل : إقامة الحجة على رسالته ؛ لأن إلقاء الكتاب على تلك الصفة معجزة باهرة.
{قالت يا أيها الملاُ} ، كررت حكاية قولها إيذاناً بغاية اعتنائها بما في حيزه : {أفتُوني في أمري} أي : أجيبوني في أمري ، الذي حزبني وذكرتُه لكم ، وعبّرت عن الجواب بالفتوى ، الذي هو الجواب عن الحوادث المشكلة غالباً ؛ تهويلاً للأمر ، ورفعاً لمحلهم ، بالإشعار بأنهم قادرون على حل المشكلات الملمة. ثم قالت : {ما كنتُ قاطعةً أمراً} من الأمور المتعلقة بالمملكة {حتى تََشهدُونِ} بكسر النون ، ولا يصح الفتح ؛ لأنه يُحذف للناصب. وأصله : تشهدونني ، فحذفت الأولى للناصب وبقي نون الوقاية ، أي : تحضروني ، وتشهدوا أنه على صواب ، أي : لا أقطع أمراً إلا بمحضركم. وقيل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، كل واحد على عشرة آلاف.
{قالوا} في جوابها : {نحنُ أولو قوةٍ وأولو بأس شديد} أي : نجدة وشجاعة ، فأرادوا بالقوة : قوة الأجساد والآلات ، وبالبأس : النجدة والبلاء في الحرب. {والأمرُ إليك} أي : هو موكل إليك {فانظري ماذا تأمرين} ، فنحن مطيعون إليك ، فمُرينا بأمرك ، نمتثل أمرك ، ولا نخالفك. كأنهم أشاروا عليها بالقتال ، أو أرادوا : من أبناء الحرب ، لا من أبناء الرأي والمشهورة ، وأنت ذات الرأي والتدبير ، فانظري ماذا تأمرين نتبع رأيك.
213
(5/328)
فلما أحسنت منهم الميلَ إلى المحاربة مالتْ إلى المصالحة ، فزيفت رأيهم ، حيث {قالت إنَّ الملوك إِذا دخلوا قريةً} على منهاج المقاتلة والحرب ، أو عنوة وقهراً {أفسدوها} بتخريب عمارتها ، وإتلاف ما فيها من الأموال ، {وجعلوا أَعِزَّةَ أهلها أذلةً} بالقتل والاسر والإجلاء ، وغير ذلك من فنون الإهانة ؛ ليستقيم لهم مُلْكُهم وحدهم. ثم قالت : {وكذلك يفعلون} أي : وهذه عادتهم المستمرة التي لاتتغير ، لأنها كانت في بيت المملكة قديماً ، أباً عن أب ، فجربت الأمور ، أو : يكون من قول الله تعالى ، تصديقاً لقولها ، أي : قال الله تعالى : وكذلك شأن الملوك إذا غلبوا وقهروا أفسدوا. وأنشدوا في هذا المعنى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 212
إِنَّ الْمُلُوكَ بَلاَءٌ حَيثُمَا حَلُّوا
فَلاَ يَكُن بكَ فِي أَكْنَافِهِمْ ظلُّ
مَاذَا يُؤمَّل مِن قَوْمٍ إِذَا غَضِبُوا
جَارُوا عَلَيْكَ وَإِن أَرْضَيْتهمُ مَلوا
وَإِن صدقتهم خالوك تخدعهم
واستثقلُوكَ كَمَا يُسْتَثْقَلُ الكُلّ
فَاسْتَغْنِ بالله عن أبْوابِهِمْ أبداً
إِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَبْوَابِهِم ذُلُّ
ففي صحبة الملوك خطير كبير ، وتعب عظيم ، فمن قوي نوره ، حتى يغلب على ظلمتهم ، بحيث يتصرف فيهم ، ولا يتصرفون فيه ، فلا بأس بمعرفتهم ، إن كان فيه نفع للناس بالشفاعة والنصيحة ، وقد أقيم في هذا المقام الشيخ أبو حسن الشاذلي ، وشيخ شيخنا مولاي العربي الدرقاوي - رضي الله عنهما - وكان تلميذاهما الشيخ أبو العباس المرسي ، وشيخنا سيدي محمد البوزيدي الحسني - رضي الله عنهما - يفران من صحبتهم ، أشد الفرار وهو أسلم. والله تعالى أعلم.
(5/329)
الإشارة : قال صاحب الخصوصية لنفسه : سننظر أَصدقتِ في الخصوصية أم أنتِ من الكاذبين ، اذهب بما معك من العلم ، وذكّر به عباد الله ، وألقه إليهم ، ثم تولّ عنهم ، وانظر ماذا يرجعون ، فإن تأثروا بوعظك ، وانتقش فيهم قولك ، فأنتِ صادقة في ثبوت الخصوصية لديك ؛ لأن أهل العلم بالله إذا تكلموا وقع كلامهم في قلوب العباد ، فحييت به قلوبهم وأرواحهم. ومن لا خصوصية له صدت كلامه الآذان. قالت حين أرادت التذكير : يا أيها الملاُ إني أُلقي إليّ في قلبي كتابٌ كريمٌ ، وعلمٌ عظيم ، فلا تعل عليّ وأتوني مسلمين ، منقادين لما آمركم به ، وقالت - لَمَّا تطهرت من الأكدار ، وتحررت من الأغيار ، وأحدقت بها جنود الأنوار : يا أيها الملأ - تعني جنود الأنوار - أفتوني في أمري الذي أريد ان أفعله ، ما كنت قاطعة أمراً من الأمور ، التي تتجلى في القلب ، حتى تشهدون ، وتشهدوا أنه رشد وحق ، قالو : نحن أولو قوة وأولو بأس شديد ، والأمر إليك ، حيث تطهرت ، فانظري ماذا تأمرين ؛ لأن النفس إذا تزكت وتخلصت وجب تصديقها فيما تهتم به ، قالت : إن الملوك - أي : الواردات الإلهية التي تأتي من حضرة القهار ، إذا دخلوا
214
قرية ، أي : قلب نفس ، أفسدوا ظاهرها بالتخريب والتعذيب ، وجعلوا أعزةَ أهلها أذلة ، أي : أبدلوا عزها ذُلاً ، وجاهها خمولاً ، وغناها من الدنيا فقراً ، وكذلك يفعلون.
وفي الحِكَم العطائية : " متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك ، إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ". فكل وارد نزل بالإنسان ولم يغير عليه عوائده فهو كاذب ، قال في الحِكَمِ : " لا تزكين وارداً لم تعلم ثمرته ، فليس المراد من السحابة الأمطار ، وإنما المراد منها وجود الأثمار ". وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 212
(5/330)
يقول الحق جل جلاله : في حكاية بلقيس - وكانت سيسة ، قد سيست وساست ، فقالت لقومها : {وإني مُرْسِلَةً إِليهم} ؛ سليمان وقومه ، {بهديةٍ} أُصانعه بذلك عن ملكي ، وأختبره ، أملك هو أم نبي ؟ {فناظرة} ؛ فمنتظرة {بمَ يرجعُ المرسلون} ؛ بأي شيء يرجعون ، بقبولها أم بردها ؛ لأنها عرفت عادة الملوك ، وحسن موقع الهدايا عندهم ، فإن كان مَلِكاً قَبِلَها وانصرف. وإن كان نبياً ردها ولم يَقبل منا إلا أن نتبعه على دينه ، فبعثت خمسمائة غلام ، عليهم ثياب الجواري وحُليهنِ ، راكبين خيلاً ، مغشاة بالديباج ، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجوهر ، وخمسمائة جارية على رِمَاك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة ، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت ، وحُقاً فيه دُرة عذراء ، وخرزة جزعية مثقوبة ، معوجّة الثقب ، وأرسلت رسلاً ، وأمّرت عليهم المنذر بن عمرو ، وكتبت كتاباً فيه نسخة الهدية. وقالت فيه : إذ كنتَ نبياً فميّز بين الوصفاء و الوصائف ، وأخْبِر بما في الحُقّ ، واثقب الدرّة ثقباً مستوياً ، واسلك في الخرزة خيطاً. ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضب فهو ملك ، فلا يهولنك منظره ، وإن رأيته ليناً لطيفاً فهو نبيّ.
فأقبل الهدهد ، فأخبر سليمان الخبر كله ، فأمر سليمانُ الجن فضربوا لبِنَات الذهب والفضة ، وفرشوها في الميدان بين يديه ، طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطاً ، شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر ، فربطوها عن يمين الميدان و يساره ، على اللبنات. وأمر بأولاد الجن - وهم خلقٌ كثير - فأُقيموا عن اليمين واليسار ، ثم قعد على سريره ، والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفاً
215
فراسخ ، والإنس صفوفاً فراسخ ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك ، فلما دنا القوم ، ونظروا ، بُهتوا ، ورأوا الدواب تروث على اللبن ، فتقاصرت إليهم أنفسهم ، ورموا بما معهم من الهدايا.
(5/331)
ولما وقفوا بين يديه ، نظر إليهم سليمان بوجهٍ طَلْقٍ ، فأعطوه كتاب الملكة ، فنظر فيه ، فقال : أين الحُق ؟ فأتى به ، فحرّكه ، وأخبره جبريل عليه السلام بما فيه. فقال لهم : إن كان فيه كذا وكذا. ثم أمر بالأرضَة فأخذت شعرة ، ونفذت في الدرّة ، فجعل رزقها في الشجر. وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ، ونفذت في ثقب الجزعة ، فجعل رزقها في الفواكه. ودعا بالماء ، وأمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ، ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه فيميزهم بذلك. ثم ردّ الهدية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 215
ذلك قوله تعالى : {فلما جاء سليمانَ} أي : جاء رسولها المنذرُ بن عمرو إليه {قال أتمدُّونَنِ بمالٍ} ، توبيخ وإنكار لإمدادهم إياه بالمال ، مع علو شأنه وسعة سلطانه. والتنكير للتحقير ، والخطاب للرسول ومن معه ، أو للرسول والمرسل تغليب للحاضر. {فما آتانيَ الله} من النبوة والمُلك الذي لا غاية وراءه {خير مما آتاكم} أي : من المال الذي من جملته ما جئتم به ، فلا حاجة لي إلى هديتكم ، ولا وقْعَ لها عندي ، ولعله عليه السلام إنما قال لهم هذه المقالة... إلخ بعد ما جرى بينه وبينهم ما حكي من قصة الحُقّ وغيرها ، لا أنه عليه السلام خاطبهم بها أول ما جاؤوه.
(5/332)
ثم قال لهم : {بل أنتم بهديتِكم تفرحون}. الهدية : اسم للمُهدَى ، كما أن العطية اسم للمُعطَى ، فتضاف إلى المُهْدِي والمهدَى له. والمعنى : أن ما عندي خير مما عندكم ، وذلك أن الله تعالى آتاني الدين والمعرفة به ، التي هي الغنى الأكبر ، والحظ الأوفر ، وأتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه ، فكيف يرضى مثلي بأن يُمد بمال من قِبلكم ؟ بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ، فلذلك تفرحون بما تزدادون ويُهدى إليكم ؛ لأنَّ ذلك مبلغ همتكم ، وحالي خلاف ذلكم ، فلا أرضى منكم بشيء ، ولا أفرح إلا بالإيمان منكم ، وترك ما أنتم عليه من المجوسية. والإضراب راجع إلى معنى ما تقدم ، كأنه قيل : أنا لا أفرح بما تمدونني به بل أنتم.
ثم قال للرسول : {ارجعْ إليهم} ؛ إلى بلقيس وقومها ، وقل لهم : {فلَنَأْتينَّهم بجنودٍ لا قِبَلَ} : لا طاقة {لهم بها}. وحقيقة القِبَل : المقابلة والمقاومة ، أي : لا يقدرون أن يقابلوهم ، {ولنُخْرجنّهم منها} أي : من سبأ {أذلةً وهم صاغرون} : أسارى مهانون. فالذل : أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك ، والصغار : أن يبقوا في أسر واستعباد. فلما رجع إليها رسولها بالهدايا ، وقصّ عليها القصة ، قالت : هو نبي ، وما لنا به طاقة. ثم تجهزت للقائه ، على ما يأتي إن شاء الله.
216
الإشارة : إذا توجه المريد إلى مولاه ، توجهت إليه نفسه بأجنادها ، وهي الدنيا ، والجاه ، والرئاسة ، والحظوظ ، والشهوات ، فتُمده أولاً بمالٍ وجاه ، تختبره ، فإن علت همته ، وقويت عزيمته ، أعرض عن ذلك وأنكره ، وقال : أتمدونني بمال حقير ، وجاهٍ صغير ، فلما آتاني الله من معرفته والغنى به خير مما آتاكم. ثم يقول للوارد بذلك : ارجع إليهم - أي : للنفس وجنودها - فلنأتينهم بجنود من الأنوار لا قِبَل لهم بها ، ولنخرجنهم منها - أي : قرية القلب - أذلة وهم صاغرون. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 215
(5/333)
ولما أرادت بلقيس الخروج إلى سليمان ، جعلت عرشها آخر سبعة أبيات ، وغلّقت الأبواب ، وجعلت عليه حُراساً يحفظونه ، وبعثت إلى سليمان : إني قادمة إليك ؛ لأنظر ما الذي تدعو إليه ، وشَخَصَتْ إليه في اثني عشر ألف قَيْل ، تحت كل قيل ألوفٌ ، فلما بلغت على رأس فرسخ من سليمان ، {قال يا أيها الملأُ أيُّكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} ، أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى به ، من إجراء العجائب على يده ، مع إطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى ، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان. أو : أراد أن يأخذه قبل أن تتحصن بالإسلام ، فلا يحل له ، والأول أليق بمنصب النبوة ، أو : أراد أن يختبرها في عقلها ، بتغييره ، هل تعرفه أو تُنكره.
{فال عِفْريتٌ من الجن} ، وهو المارد الخبيث ، واسمه " ذكوان " ، أو : " صَخْر " : {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} أي : من مجلسك إلى الحكومة ، وكان يجلس إلى تُسع النهار ، وقيل : إلى نصفه. {وإني عليه} ؛ على حمله {لقويُّ أمين} ، آتي به على ما
217
هو عليه ، لا أغير منه شيئاً ولا أُبدله ، فقال سليمان عليه السلام ، أريد أعجل من هذا ، {قال الذي عنده علم من الكتاب}. قيل هو : آصف بن برخيا - وزير سليمان عليه السلام ، كان عنده اسمُ الله الأعظم ، الذي إذا سئل به أجاب. قيل هو : يا حيّ يا قيوم ، أو : يا ذا الجلال والإكرام ، أو : يا إلهنا وإله كل شيء ، إلهاً واحداً ، لا إله إلا أنت. وليس الشأن معرفة الاسم ، إنما الشأن أن يكون عين الاسم ، أي : عين مسمى الاسم ، حتى يكون أمره بأمر الله. وقيل : هو الخضر ، أو : جبريل ، أو : ملك بيده كتاب المقادير ، أرسل تعالى عند قول العفريت. والأول أشهر. قال : {أنا آتيك به قبل أن يرتذَّ إليك طَرْفُك} أي : ترسل طرفك إلى شيء ، فقبل أن ترده تُبصر العرش بين يديك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 217
(5/334)
رُوي : أن آصف قال لسليمان : مُدّ عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمدّ عينيه ، فنظر نحو اليمن ، فدعا آصف ، فغار العرش في مكانه ، ثم نبع عند مجلس سليمان ، بقدرة الله تعالى ، قبل أن يرجع إليه طرفه. {فما رآه} أي : العرش {مستقراً عنده} ؛ ثابتاً لديه غير مضطرب ، {قال هذا} أي : حصول مرادي ، وهو حضور العرش في مدة قليلة ، {من فضل ربي} عليّ ، وإحسانه إليّ ، بلا استحقاق مني ، بل هو فضل خالٍ من العوض ، {ليبلُوني} : ليختبرني {أأشكرُ} نعمَه {أم أكفرُ ومن شكَر فإنما يشكر لنفسه} ؛ لأنه يقيد به محصولها ، ويستجلب به مفقودها ، ويحط عن ذمته عناء الواجب ، ويتخلص من وصمة الكفران. {ومن كَفَرَ فإِن ربي غنيٌّ كريم} أي : ومن كفر بترك الشكر ، فإن ربي غني عن شكره ، كريم بترك تعجيل العقوبة إليه. وفي الخبر : " من شكر النعم فقد قيّدها بعقالها ، ومن لم يشكر فقد تعرض لزوالها ". وقال الواسطي : ما كان مِنَّا من الشكر فهو لنا ، وما كان منه من النعمة فهو إلينا ، وله المنة والفضل علينا. هـ.
{قال} سليمانُ عليه السلام لأصحابه : {نكِّروا لها عرشها} أي : غيّروا هيئته بوجه من الوجوه ، {ننظر أتَهْتَدِي} لمعرفته ، أو : للجواب الصواب إذا سُئلت عنه ، {أم تكون من الذين لا يهتدون} إلى معرفة عرشها. أو إلى الجواب الصواب.
(5/335)
{فلما جاءتْ} بلقيسُ سليمانَ عليه السلام ، وقد كان العرش بين يديه ، {قيل} من جهة سليمان ، أو بواسطة : {أهكذا عرشُكِ} ؟ ولم يقل : أهذا عرشك ؛ لئلا يكون تلقيناً ، فيفوت ما هو المقصود من اختبار عقلها ، وقد قيل لسليمان - لما أراد تزوجها - : إن في عقلها شيئاً ، فاختبرها بذلك. {قالت} - لما رأته - : {كأنه هو} فأجابت أحسن جواب ، فلم تقل : هو هو ، ولا : ليس به ، وذلك من رجاحة عقلها ، حيث لم تقل : هو هو مع علمها بحقيقة الحال ، ولِمَا شبّهوا عليها بقولهم : أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها : {كأنه هو} مع أنها علمت بعرشها حقيقة ، تلويحاً بما اعتراه بالتنكير من نوع مغايرة في الصفات مع اتحاد الذات ، ومراعاة لحسن الأدب في محاورته عليه السلام. ولو قالوا :
218
أهذا عرشك ؟ لقالت : هو.
ثم قالت : {وأُوتينا العلم} بقدرة الله تعالى ، وبصحبة نبوتك {مِن قَبْلِها} ؛ من قَبل هذا الأمر ، أي : من قبل المعجزة التي شاهدنا الآن ، من أمر الهدهد ، وبما سمعناه من المنذر من الآيات الدالة على ذلك ، {وكُنا مسلمين} ؛ منقادين لك من ذلك الوقت ، وكأنها ظنت أنه أراد عليه السلام اختبار عقلها ، وإظهار المعجزة ، لتؤمن به. فأظهرت أنها آمنت به قبل وصولها إليه. أو قال سليمان : {وأُوتينا العلم} بالله تعالى وبكمال قدرته من قبل هذه الآية ، {وكنا مسلمين} ؛ موحدين ، أو : {وأُوتينا العلم} بإسلامها ومجيئها طائعةً {من قبل} مجيئها ، {وكنا مسلمين} موحّدين.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 217
(5/336)
وصدّها ما كانت تعبدُ من دون الله} ، هو من كلام سليمان ، أي : وصدها عن العلم بما علمناه - أو : عن التقدم إلى الإسلام - عبادةُ الشمس وإقامتها بين ظهرانيِّ الكفرة ، أو : من كلام تعالى ، بياناً لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام الآن ، أي : صدَّها عن ذلك عبادتُها القديمة للشمس ، {إنها كانت من قوم كافرين} أي : كانت من قوم راسخين في الكفر ، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها ، وهو بين ظهرانيهم ، حتى دخلت تحت ملكة سليمان عليه السلام ، أو : وصدها الله تعالى ، أو : سليمان ، عما كانت تعبد من دون الله ، فحذف الجار وأوصل الفعل. {قيل لها ادْخلي الصَّرْحَ} أي : القصر ، أو : صحن الدار ، {فما رأته حسِبَتْهُ لُجَّةً} : ماء عظيماً ، {وكشفتْ عن ساقيها}. رُوي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها ، فبُني له على طريقها قصر من زجاج أبيض ، وأجرى من تحته الماء ، وألقى فيه السمك وغيره ، ووضع سريره في صدره ، فجلس عليه ، وعكف عليه الطير والجن والإنس. وإنما فعل ليزيدها استعظاماً لأمره ، وتحقيقاً لنبوته. وقيل : إن الجن كرهوا أن يتزوجها ، فنفضي إليه بأسرارهم ؛ لأنها كانت بنت جنّية. وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد ، فيجتمع له فطنة الجن والإنس ، فيخرجون من مُلْكِ سليمان إلى مُلْكِ أشدّ منه ، فقالوا له : إن في عقلها شيئاً ، وهي شَعْراء الساقين ، ورِجْلها كحافر الحمار ، فاحتبر عقلها بتنكير العرش ، واتخذ الصرح ليتعرف ساقيها ورِجلها فكشفت عنهما ، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً ، إلا أنه شعراء وصرف يصره. ثم {قال} لها {إنه صرح مُمَرد} ؛ مملس مستو. ومنه : الأمرد ، للذي لا شعر في وجهه ، {من قواريرَ} ؛ من الزجاج ، وأراد سليمان تزوجها ، فكره شعرها ، فعملت له الشياطين النورة ، فنكحها سليمان ، وأحبها ، وأقرها على ملكها ، وكان يزورُها في الشهر مرة ، فيقيم عندها ثلاثة ايام ، وولدت له ، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان عليه السلام ، فسبحان من لا انقضاء لملكه.
(5/337)
رُوي أنه مُلِك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. هـ.
ثم ذكر إسلامها ، فقال : {قالت ربي إني ظلمتُ نفسي} بعبادة الشمس ، {وأسلمتُ
219
مع سُليمانَ} تابعة له ، مقتدية به ، {لله ربِّ العالمين}. وفيه الالتفات إلى الاسم الجليل ، ووصفه بربوبيته للعالمين ؛ لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى ، وتفرده باستحاق العبادة ، وربوبيته لجميع الموجودين ، التي من جملتها : ما كانت تعبد قبل ذلك من الشمس. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 217
(5/338)
الإشارة : عرش النفس الذي تستقر عليه هو الدنيا ، فمن أحب الدنيا وركن إلى أهلها ، فقد أجلس نفسه على عرشها ، وصيَّرها مالكه له ، متصرفة فيه بما تُحب ، ومن أبغض الدنيا وزهد في أهلها ، فقد هدم لها عرشها ، وصارت خادمة مملوكة له ، يتصرف فيها كيف يشاء. فيقول الداعي إلى الله - وهو من أهَّله الله للتربية - للمريدين : أيكم يأتيني بعرشها ، ويَخرج عنها لله في أول بدايته ؟ فمنهم من يأتي بها بعد مدة ، ومنهم من يأتي بها أسرع من طرفة ، على قدر القوة والعزم والصدق في الطلب ، ومن أتى بعرش نفسه ، وخرج عنها لله ، فهو الذي آتاه الله علماً من الكتاب ، وعرف مدلوله ومقصوده ، لكن من السياسة أن يتدرج المريدُ في تركها شيئاً فشيئاً ، حتى يخرج عنها ، أو يغيب عن شغلها بالكلية ، وإن كانت بيده. فاما خرجوا عن عرش نفوسهم لله ، وتوجهوا إليه ، ورأى ذلك منهم ، قال : هذا من فضل ربي ، حيث وقعت الهداية على يدي ، ليبلوني ، أشكر أم أكفر.. الآية. قال نكروا لها عرشها ، أي : اعرضوا عليها الدنيا ، وأرُوها عرشها التي كانت عليه ، متغيراً عن حاله الأولى - لأنه كان معشوقاً لها ، والآن صار ممقوتاً ، لغناها بالله - ننظر أتهتدي إليه ، وترجع إلى محبته ، فيكون علامة على عدم وصولها ، أم تكون من الذين لا يهتدون إليه أبداً ، فتكون قد تمكنت من الأنس بالله ، فلما جاءت وأظهر لها عرشها اختباراً ، قيل : أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو ، وأوتينا العلم بالله من قبل هذه الساعة ، وكنا منقادين لمراده ، فلن نرجع إلى ما خرجنا عنه لله أبداً. وصدّها عن الحضرة ما كانت تبعد من الهوى ، من دون محبة الله ، إنها كانت من قوم كافرين ، منكرين للحضرة ، غير عارفين بها. قيل لها حين رحلت عن عرشها : ادخلي دار الحضرة ، فلما رأت بحر الوحدة ، يتموج بتيار الصفات ، دهشت ، وحسبته لُجةً ، يغرق صاحبه في بحر الزندقة ، قال لها رئيس البحرية - وهو شيخ التربية : إنه بحر منزه متصل ، لا أول له ، ولا آخر له. ليس مثله شيء ، ولا معه شيء ، (5/339)
محيط بكل شيء ، وماحٍ لكل شيء. ثم اعترفت أنها ظالمة لنفسها ، مشغولة بهواها ، قبل أن تعرف هواه ، فلما عرفته غابت عن غيره ، واستسلمت وانقادت له. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 217
قلت : (ولقد أرسلنا) : عطف على (ولقد آتينا داود...) إلخ.
يقول الحق جل جلاله : {و} الله {لقد أرسلنا إلى ثمودَ أخاهم} نسباً {صالحاً أن اعبدوا الله} أي : بأن اعبدوه وحده ، {فإذا هم فريقان يختصمون} أي : ففاجؤوا التفرق والاختصام ، ففريق مؤمن به ، وفريق كافر ، أو يختصمون فيه ، فكل فريق يقول : الحق معي. وقد فسر هذا الاختصام قوله تعالى في الأعراف : {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوااْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوااْ إِنَّا بِالَّذِيا آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف : 75- 76] {قال} عليه السلام للفريق الكافر ، بعد ما شاهد منهم ما شاهد ؛ من نهاية العتو والعناد ، حتى استعجلوا العذاب : {يا قوم لِمَ تستعجلون بالسيئة} ؛ بالعقوبة السيئة {قبلَ الحسنة} أي : التوبة الصالحة ، فتؤخرونها إلى حين نزولها ، حيث كانوا - من جهلهم وغوايتهم يقولون ، إن وقع العذاب تُبنا حينئذٍ ، وإلا فنحن على ما كنا عليه. أو : لِمَ تستعجلون بالعذاب قبل الرحمة ، أو : بالمعصية قبل الطاعة ، {لولا تستغفرون الله} : هلا تطلبون المغفرة من كفركم بالتوبة والإيمان قبل نزوله ، {لعلكم تُرْحَمون} بالإجابة قبل النزول ، إذ لا قبول بعده ، {قالوا اطَّيَّرنا بك} ؛ تشاءمنا بك {وبمن معك} من المؤمنين ؛ لأنهم قُحِطوا عند مبعثه ؛ لكفرهم ، فنسبوه إلى مجيئه. والأصل : تطيرنا. وقرئ به ، فأدغمت التاء في الطاء ، وزيدت ألف وصل ، للسكون.
(5/340)
{قال} صالح عليه السلام : {طائِرُكُم عند الله} أي : سببكم الذي به ينالكم ما ينالكم من الخير والشر عند الله ، وهو قدره وقضاؤه ، أو : عملكم مكتوب عند الله ، فمنه نزل بكم ما نزل ، عقوبة لكم وفتنة. ومنه : {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء : 13] أي : ألزمناه جزاء عمله ، أو : ما قدر له في عنقه ، وأصله : أن المسافر كان إذا مرّ بطائر يزجره ، فإن مر إلى جهة اليمين تيمن ، وإن مر إلى ناحية الشمال تشاءم ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته ، أو : من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة ، {بل أنتم قوم تُفتَنون} : تختبرون بتعاقب السراء والضراء ، أو : تعذبون ، أو : يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة. قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا عدوى ولا طِيَرة " وقال أيضاً : " إذا تطيرت فلا ترجع " والله تعالى أعلم.
221
الإشارة : سَير أهل التربية مع أهل زمانهم كسير الأنبياء مع أممهم ، إذا بعثهم الله إلى أهل زمانهم اختصموا فيهم ، ففريق يصدق وفريق يكذب ، فيطلبون الكرامة والبرهان ، ويتطيرون بهم وبمن تبعهم ، إن ظهرت بهم قهرية من عند الله ، كما رأينا ذلك كله. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
يقول الحق جل جلاله : {وكان في المدينة} ؛ مدينة ثمود وهي الحجر ، {تسعةُ رَهْطٍ} أي : أشخاص ، وهو جمع لا واحد له ، فلذا جاز تمييز التسعة به ، فكأنه قيل : تسعة أنفس ، وهو من الثلاثة إلى العشرة ، وكان رئيسهم " قدار بن سالف " وهم الذين سعوا في عقر الناقة ، وكانوا أبناءَ أشرافهم ومن عتاتهم ، {يُفسدون في الأرض} أي : في المدينة ، إفساداً لا يخالطه شيء من الصلاح أصلاً ، {ولا يُصلِحُون} يعني إن شأنهم الإفساد المحض ، الذي لا صلاح معه. وعن الحسن : يظلمون الناس ، ولا يمنعون الظالمين عن الظلم. وعن ابن عطاء : يتبعون معايب الناس ، ولا يسترون عوراتهم.
(5/341)
{قالوا تقاسموا بالله} : استئناف لبيان بعض فسادهم. و(تقاسموا) : إما أمر مقول لقالوا ، أي : تحالفوا أمر بعضهم بعضاً بالقسم على قتله. وإما خبر حال ، أي : قالوا متقاسمين. {لنُبَيِّتَنَّهُ} : لنقتلنه بياتاً ، أي : ليلاً ، {وأهلَه} : ولده ونساءه ، {ثم لنقولن لِوَلِيِّه} أي : لوليّ دمه : {ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أهله} أي : ما حضرنا هلاكهم ، أو : وقت هلاكهم. أو : مكانه فضلاً أن نتولى إهلاكهم ، {وإِنا لصادقون} فيما ذكرناه. وهو إما من تمام المقول ، أو : حال ، أي : نقول ما نقول والحال أنا صادقون في ذلك ؛ لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفاً. ولأنا ما شهدنا مهلك أهله وحده ، بل مهلكه ومهلككم جميعاً ، كقولك : ما رأيت ثمَّ رجلاً ، أي : بل رجلين. ولعل تحرجهم من الكذب في الأَيْمان مع كفرهم ؛ لِما تعودوا من تعجيل العقوبة للكاذب في القسامة ، كما كان أهل الشرك مع البيت الحرام في الجاهلية. وكان تقاسمهم بعد أن أنذرهم بالعذاب ، وبعد قوله : {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود : 65].
222
(5/342)
قال تعالى : {ومكروا مكراً} بهذه المواضع ، {ومكرنا مكراً} ؛ أهلكناهم إهلاكاً غير معهود ، {وهم لا يشعرون} أي : من حيث لا يحتسبون ، فمكرهم هو ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله. ومكر الله : إهلاكهم من حيث لا يشعرون. {فانظر كيف كان عاقبةُ مكرهم} أي : فتفكر في أنه كيف كان عاقبة مكرهم. فسره بقوله : {أنَّا دمرناهم} : أهلكناهم بالصيحة {وقومَهم} الذين لم يكونوا معهم في التبييت {أجمعين}. رُوي أنه كان لصالح مسجد في شِعْبٍ يُصلِّي فيه. فقالوا : زعم صالح يفرغ منا إلى ثلاث ، وقد رأى علامة ذلك ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فخرجوا إلى الشعب ، وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم ، فبعث الله تعالى صخرة من الهَضب التي حِيالهم ، فبادروا ، فأطبقت الصخرة عليهم فم الشعب ، فلم يدر قومهم أين هم ، ولم يدروا ما فُعِل بقومهم ، وعذَّب الله كلاً في مكانه ونجى صالحاً ومن معه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 222
وقال ابن عباس : أرسل الله الملائكة ليلاً ، فامتلأت بهم دار صالح ، فأتى التسعة إلى دار صالح ، شاهرين السيوف ، فقتلهم الملائكة بالحجارة يرون الحجارة ، ولا يرون رامياً. هـ. ويمكن الجمع بأن بعضهم مات تحت الصخرة ، وبعضهم أتى إلى دار صالح فقتل.
قال تعالى : {فتلك بُيوتُهمْ خاويةً} ؛ ساقطة متهدمة ، من : خوى النجم : إذا سقط.
أو : خالية من السكان ، {بما ظلموا} ؛ بسبب ظلمهم. {إن في ذلك} أي : فيما ذكر من التدمير العجيب {لآيةً لقوم يعلمون} قدرتنا ، فيتعظون.
(5/343)
{وأنجينا الذين آمنوا} أي : صالحاً ومن معه من المؤمنين ، {وكانوا يتقون} الكفر والمعاصي ، اتقاء مستمراً ، ولذلك نجوا مع صالح. قال مقاتل : لما وقت لهم صالح العذاب إلى ثلاث ، خرج أول يوم على أبدانهم مثل الحمّص أحمر ، ثم اصفر من الغد ، ثم اسود من اليوم الثالث. ثم تفقأت ، وصاح جبريل في خلال ذلك ، فخمدوا ، وكانت القرية المؤمنة الناجية أربعة آلاف ، خرج بهم صالح إلى حضرموت ، فلما دخلها مات صالح ، فسميت حضرموت. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة : وكان في مدينة القلب تسعُ علل ، يُفسدون فيها ولا يُصلحون ، وهي حب الدنيا ، وحب الرئاسة ، والحسد. والكبر ، والحقد ، والعجب ، والرياء ، والمداهنة ، والبخل ، هم أفسدوا قلوب الناس ، وتقاسموا على هلاكها ، ومكروا بهم حتى زيَّنوا لهم سوءَ عملهم ، ومكر الله بهم ، فدفعهم ودمَّرهم عن قلوب الصالحين ، فتلك بيوتهم خاوية منها ، أخرجهم منها ، بسبب ظلمهم لها.
وقال القشيري على قوله : {ومكروا مكراً...} الآية : مَكْرُ اللهِ : جزاؤهم على مَكْرِهم ، بإخفاء ما أراد منهم من العقوبة ، ثم إحلالها بهم بغتةً. هـ. وقال الورتجبي : حقيقة المكر : امتناع سر الأزلية عن مطالعة الخليقة ، فإذا كان كذلك من ينجو من مَكْره ،
223
(5/344)
والحديث لا يطلع على سوابق علمه في القِدم ، فمَكْره وقهره صفتان من صفاته ، لا تفارقان ذاته ، وذاته أبدية ، انظر تمامه. قلت : ومعنى كلامه : أن مكر الله في الجملة : هو إخفاء السر الأزلي - وهو القضاء والقدر - عن مطالعة الخلق ، فلا يدري أحد ما سبق له في العلم القديم ، وإذا كان كذلك فلا ينجو أحد من مكره ؛ إذ الحدث لا يطلع على سوابق العلم القديم ، إلا من اطلع عليه بوحي ، كالأنبياء ، أو بنص صريح منهم ، كالمبشرين بالجنة ، ومع ذلك : العارف لا يقف مع وعد ولا وعيد ؛ إذ قد يتوقف على شرط وأسباب خفية ، ولذلك قيل : العارف لا يسكن إلى الله. قاله في لطائف المنن ، أيّ : لا يسْكُن إلى وعد الله ولا وعيده ، فلا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره.
جزء : 5 رقم الصفحة : 222
وقال القشيري - على قوله : {فتلك بيوتهم خاوية...} ، في الخبر : " لو كان الظلم بيتاً في الجنة لسلط الله عليه الخراب " هـ. قلت : فكل من اشتغل بظلم العباد ، فعن قريب ترى دياره بلاقع ، كما هو مجرب. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 222
قلت : (ولوط) : عطف على (صالحا) داخل معه في القسم ، أي : ولقد أرسلنا صالحاً ولوطاً. و(إذ قال) : ظرف للإرسال ، أو : منصوب باذكر ، و(إذ قال) : بدل من (لوط).
(5/345)
يقول الحق جل جلاله : {و} لقد أرسلنا {لوطاً} ، أو : واذكر لوطاً {إِذْ قال لقومه} أي : وقت قوله لهم : {أتأتونَ الفاحشةَ} أي : الفعلة المتناهية في الفُحش والسماجة ، {وأنتم تبصرون} أي : الحالة أنكم تعلمون علماً يقينياً أنها فاحشة ، لم تُسبَقوا إليها. والجملة الحالية تفيد تأكيد الإنكار ، فإنَّ تعاطيَ القبيح من العالم بقُبحه أقبح وأشنع ، ولذلك ورد في الخبر : " أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامةِ عَالِمٌ لم ينْفَعْهُ الله بعلْمِه ". وقال الفخر : لا تصدر المعصية من العالم قط وهو عالم ، وحين صدورها منه هو جاهل ؛ لأنه رجح المرجوح وترجيح المرجوح جهل ، ولذلك قال : {بل أنتم قوم تجهلون}. هـ.
وفي الحديث : " لا يَزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " إذ لو صدّق بإطلاع الحق عليه
224
ما قدر على الزنى ، لكنه جهل ذلك. و {تُبصرون} ، من : بصر القلب. وقيل : يُبصر بعضُكم بعضاً ؛ لأنهم كانوا يرتكبونها في ناديهم ، معلنين بها ، لا يستتر بعضهم من بعض ، مَجانةً وانهماكاً في المعصية ، أو : تُبصرون آثار العصاة قبلكم ، وما نزل بهم.
(5/346)
{أئنكم لتَأْتون الرجالَ شهوةً} أي : للشهوة {من دون النساء} أي : إن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر ، ولم يخلق الذكر للذكر ، ولا الأنثى للأنثى ، فهي مضادة للهِ تعالى في حكمته ، فلذلك كانت أشنع المعاصي ، {بل أنتم قوم تجهلون} ؛ تفعلون فعل الجاهلين بقُبحها ، أو : تجهلون العاقبة. أو : بمعنى السفاهة والمجون ، أي : بل أنتم سُفهاء ماجنون. والتاء فيه - مع كونه صفة لقوم ؛ لكونهم في حيز الخطاب. وكذا قوله : {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل : 47] ، غلّب الخطاب على الغيبة. قال ابن عرفة : " بل " للانتقال ، والانتقال في باب الذم إنما يكون عن أمر خفيف إلى ما هو أشد منه ، وتقرير الأشدّية هنا : أن المضروب عنه راجع للقوة الحسية العملية ، وهي منقطعة تنقضي بانقضاء ذلك الفعل ، والثاني راجع للقوة العلمية ، وهي دائمة ؛ لأن العلم بالشيء دائم ، والعمل به منقطع غير دائم. هـ.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 224
فما كان جوابَ قومه} حين نهاهم عن تلك الفاحشة ودعاهم إلى الله ، {إلا أن قالوا أَخْرِجوا آلَ لوط} أي : لوطاً ومتبعيه {من قريتكم إنهم أُناس يتطهرون} ؛ يتنزهون عن أفعالنا ، أو : عن القاذورات ، ويعدون فعلنا قذراً. وعن ابن عباس : إنه استهزاء ، كقوله : {إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود : 87].
{فأنجيناه} : فخلّصناه من العذاب الواقع بالقوم ، {وأهلَه إلا امرأتَه قدرناها} بالتشديد والتخفيف ، أي : قدرنا أنها {من الغابرين} ؛ الباقين في العذاب. {وأمطرنا عليهم مطراً} غير معهود ؛ حجارة مكتوب عليها اسم صاحبها ، {فساءَ} : قَبُحَ {مطرُ المنذَرِينَ} الذين لم يقبلوا الإنذار. وقد مرّ كيفية ما جرى بهم غير مرة. والله تعالى أعلم.
(5/347)
الإشارة : ما أنكر لوط على قومه إلا غلبة الشهوة على قلوبهم ، والانهماك في غفلتهم ، فرجعت إلى معصية القلوب ، وهي أشد من معصية الجوارح ؛ لأن معصية الجوارح إذا صحبتها التوبة والانكسار ، عادت طاعة ، بخلاف معصية القلوب ؛ فإنها تنطمس بها أنوار الغيوب ، فلا يزيد صاحبها إلا البُعد والطرد. والعياذ بالله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 224
225
يقول الحق جل جلاله : لنبيه - عليه الصلاة والسلام- : {قل الحمدُ لله} على ما أنعم به عليك من فنون النعم ، ومن جملتها : اطلاعك على أسرار علم غيوبه ، {وسلامٌ على عباده الذين اصطفى} لرسالته. وقال ابن عباس وسفيان : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، اصطفاهم بصحبته - عليه الصلاة والسلام - وقال الكلبي : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته. ثم قل لهم إلزاماً للحجة : {الله خير أما تشركون} أي : آلله الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير ، أم ما تشركونه معه تعالى من الأصنام ؟ ومرجع الترديد إلى التعرض بتبكيت الكفرة ، وتسفيه آرائهم الركيكة ، والتهكم بهم ، إذ من البيِّن أن ليس فيما أشركوه به تعالى شائبة خير ، حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من لا خير إلا خيره ، ولا إله غيره.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال : " بلِ الله خيْرٌ ، وأَبْقَى ، وأجلُّ ، وأكْرَم ". ثم عدَّد سبحانه الخيرات والمنافع ، الدالة على انفراده بالخيرية ، فقال : {أمّن خَلَق السماواتِ والأرضَ} ، " أم " هنا : منقطعة ، بخلاف {أمَّا تشكرون} أي : بل أمّن خلق العالم العلوي والسفلي ، وأفاض من كل واحد ما يليق به من الخيرات ، خير ، أم جماد لا يقدر على شيء ؟ فمن : مبتدأ ، وخبرها : محذوف مع " أم " المعادلة للهمزة ، كما قررنا.
(5/348)
{وأنزل لكم من السماء ماءً}. مطراً {فأنبتنا} ، التفت من الغيبة إلى التكلم ؛ تأكيداً لمعنى اختصاص الفعل به تعالى ، وإيذاناً بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان ، والطعوم والأشكال ، مع بهجتها ، بماء واحد ، لا يقدر عليه غيره ، أي : فأخرجنا {به حدائقَ} : بساتين ، فالحديقة : بستان عليه حائط ، من : الإحداق ، وهو الإحاطة ، {ذاتَ بهجةٍ} أي : ذات حُسن ورونق ، تبتهج به النظار ، ولم يقل : ذوات : لأن المعنى : جماعة حدائق ، كما تقول : النساء ذهبت. {ما كان لكم} ؛ ما صح وما أمكن لكم {أن تُنبتوا شجرها} فضلاً عن ثِمارها وسائر صفاتها البديعة المبهجة ، {أَإِلهٌ مع الله} ؟ أي : أإله كائن مع الله ، الذي ذكرت أفعاله ، التي لا يقدر عليها غيره ، حتى يُتوهم جعله شريكاً له تعالى في العبادة ؟ أو : أإله مع الله يفعل ذلك ؟ {بل هم قوم يَعْدِلون} : بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية ، والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور ، فلذلك يفعلون ما يفعلون من الإشراك والجرائم ، أو : يعدلون به غيره فيُشركونه معه. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 225
الإشارة : قل الحمد لله ، الذي كشف الحجب عن قلوب أوليائه ، وسلام على عباده الذين اصطفاهم لحضرته ، آلله خير ، أي : أشهود الله وحده في الوجود خير ، أم شهود
226
الغير معه ؟ ، فتشركون في توحيدكم. أمن خلق سموات أرواحكم ، وهيأها لشهود الربوبية ، وخلق أرض نفوسكم ، وهيأها لآداب العبودية ، وأنزل لكم من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية ، فأنبتنا به في قلوب العارفين بساتين المعرفة ، ذات بهجة ونزهة ؟ ما كان لكم ، وفي طوقكم ، أن تُنبتوا في قلوبكم شجر المعرفة ، ولا ثمار المحبة ، أإله مع الله يمنّ عليكم بذلك ؟ . بل هم قوم يعدلون عن طريق الوصول إلى هذه البساتين البهية ؛ لأنها محفوفة بالمكاره النفسية ، لا يقدر على سلوكها إلا الشجعان ، أهل الهمم العلية. وبالله التوفيق.
(5/349)
جزء : 5 رقم الصفحة : 225
يقول الحق جل جلاله : {أمَّن جعلَ الأرضَ قراراً} أي : قارة ثابتة ، ليستقر عليها الإنسان والدواب ، بإظهار بعضها من الماء ، ودحوها وتسويتها ، حسبما يدور عليه منافعهم. {وجعل خلالها} ؛ أواسطها {أنهاراً} جارية ينتفعون بها ، {وجعل لها رواسيَ} أي : جبالاً ثوابت ، تمنعها أن تميد بأهلها ، ولتتكون فيها المعادن ، وينبع من حضيضها المنابع. {وجعل بين البحرين} أي : العذب والمالح ، أو : خليجي فارس والروم (حاجزاً) ؛ برزخاً مانعاً من المعارجة والمخالطة ، {أإله مع الله} في الوجود ، أو : في إبداع هذه البدائع ؟ {بل أكثرهم لا يعلمون} شيئاً من الأشياء ، ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره.
الإشارة : أم من جعل أرض النفوس قراراً ، لتستقر عليها أحكام العبودية ، وتتصرف فيها أقدار الربوبية ، وجعل خلالها أنهاراً من علوم الشرائع ، وما يتعلق بعالم الحكمة من الحِكَم والأحكام ، وجعل لها جبالاً من العقل لتعرف صانعها ومدبرها ، وجعل بين بحر الحقيقة والشريعة حاجزاً وبرزخاً ، وهو نور العقل ؟ فما دام العقل صاحياً ميّز بين الحقيقة والشريعة ، فيلزمه التكليف ، ويعطي كل ذي حق حقه. فإذا سكر وغاب نوره سقط التكليف. وقد تُشرق على نور قمر العقل شمسُ العرفان ، فتغطيه مع وجود صحوه ، فيميز بين الحقائق والشرائع ، وتكون عبادته أدباً وشكراً. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 226
قلت : الاضطرار : الافتعال من الضرورة ، وهي الحاجة المحوجة إلى اللجأ ، يقال : اضطره إلى كذا ، واسم الفاعل والمفعول : مضطر ، ويختلف التقدير.
227
(5/350)
يقول الحق جل جلاله : {أَمَّنْ يُجيبُ المُضْطَّر إِذا دعاه} ، وهو من نزلت به شدة من شدائد الزمان ، ألجأته إلى الدعاء والتضرع ، كمرض ، أو فقر ، أو نازلة من نوازل الدهر ونوائبه ، أو : المذنب إذا استغفر مبتهلاً ، أو : المظلوم إذا دعا ، أو : من رفع يديه ولم ير لنفسه حسنة يرجو بها القبول غير التوحيد ، وهو منه على خطر ، فهذه أنواع المضطر.
وإجابة دعوته مقيدة بالحديث : " الدّاعِي عَلَى ثَلاث مراتب ، إما أن يُعجل له ما طلب ، وإما أن يدخر له أفضل منه ، وإما يدفع عنه من السوء مثله " وأيضاً : إذا حصل الاضطرار الحقيقي حصلت الإجابة قطعاً ، إما بعين المطلوب ، أو بما هو أتم منه ، وهو الرضا والتأييد. {ويكشفُ السُوءَ} وهو الذي يعتري الإنسان مما يسؤوه ، كضرر أو جَور ، {ويجعَلُكم خُلفاءَ الأرض} أي : خلفاء فيها ، تتصرفون فيها كيف شئتم ، بالسكنى وغيره ، وراثة عمن كان قبلكم من الأمم ، قرناً بعد قرن : أو : أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. {أإله مع الله} الذي يفيض على الخلق هذه النعام الجسام ، يمكن أن يعطيكم مثلها ؟ {قليلاً ما تذكَّرون} أي : تذكراً قليلاً ، أو : زماناً قليلاً تتذكرون فيه. و " ما " : مزيدة ، لتأكيد معنى القلة ، التي أريد بها العدم ، أو : ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى. وتذييل الكلام بنفي عدم التذكر منهم إيذان بأن وجود التذكر مركوز في ذهن كل ذكي ، وأنه من الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه وتذكره. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الاضطرار الحقيقي الذي لا تتخلف الإجابة عنه في الغالب : وهو أن يكون العبد في حال شدته كالغريق في البحر وحده ، لا يرى لغياثه غير سيده. و قال ذو النون : هو الذي قطع العلائق عما دون الله. وقال سهل بن عبد الله : هو الذي رفع يديه إلى الله تعالى داعياً ، ولم تكن له وسيلة من طاعة قدّمها. هـ. بل يقدم إساءته بين يديه ، ليكون دعاؤه بلا شيء يستحق عليه الإجابة ، إلا من محض الكرم.
(5/351)
جزء : 5 رقم الصفحة : 227
قال القشيري : يقال للجناية : سراية ، فَمَن كان في الجناية مختاراً ، فليس يسلم له دعوى الاضطرار عند سراية جرمه الذي سلف ، وهو في ذلك مختار ، فأكثر الناس أنهم مضطرون ، وذلك الاضطرار سراية ما بَرَزَ منهم في حال اختيارهم ، وما دام العبد يتوهم من نفسه شيئاً من الحَوْلِ والحِيل ، ويرى لنفسه شيئاً من الأسباب يعتمد عليه ، ويستند إليه ، فليس بمضطر ، إلا أن يرى نفسه كالغريق في البحر ، والضَّالِّ في المتاهة. والمضطر يرى غِيَاثه بيد سَيِّدهِ ، وزِمَامَه في قبضته ، كالميت في يد غاسِله ، ولا يرى لنفسه استحقاقاً في أن يجاب ، بل اعتقاده في نفسه أنه من أهل السخط ، ولا يقرأ اسمه في ديوان السعادة ، ولا ينبغي للمضطر أن يستعين بأحدٍ في أن يدعو له ؛ لأن الله وَعَدَ الإجابة له ؛ لا من يدعو له. هـ. وبحث معه المحشي الفاسي في بعض ألفاظه ، فانظره.
228
قوله تعالى : {ويكشف السُوء} : أي : ما يسوء القلب وبحجبه عن مولاه ، من أكدار وأغيار ، وقوله : {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي : تتصرفون في الوجود بأسره ، بهمتكم ، إن زال غم الحجاب عنكم ، وشاهدتم ربكم بعين بصيرتكم وبصركم ؛ لأن نور البصيرة إذا استولى على البصر ، بعد فتح البصيرة ، غطى نوره ، فلا يرى البصر إلا ما تراه البصيرة ؛ من أسرار الذات الأزلية القديمة. فمن بلغ هذا المقام كان خليفة الله في أرضه ، يُملكه الوجود بأسره وما ذلك على الله بعزيز.
جزء : 5 رقم الصفحة : 227
(5/352)
يقول الحق جل جلاله : {أمَّن يهديكم في ظلمات البَرِّ والبحر} ليلاً ، وبعلامات في الأرض نهاراً ؟ أو : أمّن يهديكم إلى سلوك الطريق التي تُوصلكم إلى مقصدكم ، وأنتم في ظلمات الليل ، سواء كنتم في البر أو البحر ؟ فلا هادي إلى ذلك إلا الله تعالى. {ومن يُرسل الرياح} ، أو بالإفراد. {نُشراً} بالنون - أي : تنشر السحاب إلى الموضع الذي أمر الله بإنزال المطر فيه ، أو {بُشرا} - بالباء - أي مبشرة بالمطر ، {بين يدي رحمته} ؛ قدَّام المطر ، علامة عليه ، {أإله مع الله} يفعل ذلك ؟ {تعالى الله عما يُشركون}. وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإشعار بعلِّية الحُكم ، أي : تعالى الله وتنزّه بذاته المنفردة بالألوهية ، المقتضية لكون كل المخلوقات مقهوراً تحت قدرته ، عن وجود ما يشركونه به تعالى.
الإشارة : أمّن يهديكم إلى حل ما أشكل عليكم ، وأظلمت منه قلوبكم ، من علم بَر الشرائع. وبحر الحقائق ، فيهديكم في الأول إلى كشف الحق والصواب وفي الثاني إلى كشف الغطاء ورفع الحجاب ، أو : في الأول إلى علم البيان ، وفي الثاني إلى عين العيان بالذوق والوجدان. أو : في الأول إلى علم اليقين ، وفي الثاني إلى عين اليقين وحق اليقين. ومَن يُرسل رياح الواردات الإلهية ، بشارة بين يدي رحمته بالوصول إلى حضرته ، وهو التوحيد الخاص. ولذلك ختمه بقوله : {تعالى الله عما يُشركون} من رؤية وجود السِّوى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
229
قلت : " من " : إما فاعل بيعلم ، و " الغيب " : بدل منه ، و " الله " : مفعول ، و " إلا الله " : بدل على لغة تميم ، أي : إبدال المنقطع ، وإما مفعول بيعلم ، و " الغيب " بدل منه و(الله) : فاعل ، والاستثناء : مفرغ.
(5/353)
يقول الحق جل جلاله : {أمّن يبدأُ الخلقَ} أي : ينشىء الخلق {ثم يُعيده} بعد الموت بالبعث. وإنما قيل لهم : {ثم يُعيده} وهم منكرون للإعادة ؛ لأنهم أزيحتْ شبهتهم بالتمكن من المعرفة ، والإقرار ، فلم يبقَ لهم عذرٌ في الإنكار. {ومن يرزقكم من السماء} بالمطر {والأرض} أي : ومن الأرض بالنبات ، أي : يرزقكم بأسباب سماوية وأرضية ، قد رتبها على ترتيب بديع ، تقضيه الحكمة التي عليها بني أمر التكوين ، {أإله مع الله} يفعل ذلك ؟ {قل هاتُوا بُرهانَكم} أي : حجتكم ، عقلية أو نقلية ، على إشراككم ، {إن كنتم صادقين} في دعواكم أن مع الله إلهاً آخر.
{قل لا يعلم مَنْ في السماوات والأرضِ الغيبَ إلا الله} ، بعد ما حقق سبحانه انفراده بالألوهية ، ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة ، عقَّب بذكر ما هو من لوازمه ، وهو اختصاصه بعلم الغيب ، تكميلاً لما قبله ، وتمهيداً لما بعده من أمر البعث. قالت عائشة - رضي الله عنها - : (منْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ ، فَقَدْ أعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيةَ ، والله تعالى يقول : {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيبَ إلا الله} ).
دخل على الحجاج مُنجِّم ، فأخذ الحجاج حصياتٍ ، قد عدَّها ، فقال للمنجم : كم في يدي ؟ فحسب ، فأصاب ، ثم اغتفله الحجاجُ ، فأخذ حصيات لم يعدها ، فقال للمنجم : كم في يدي ؟ فحسب ، فأخطأ ، فقال : أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها في يدك ، فقال : ما الفرق بينهما ؟ فقال : إن ذلك أحصيتَه فخرج من حَد الغيب ، فحسبتُ فأصبتُ ، وإن هذا لم تعرف عدته ، فصار غيباً ، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى.
ومن جملة الغيب : قيام الساعة ، ولذلك قال : {وما يشعرون أيّان يُبعثون} أي : متى ينتشرون من القبور ، مع كونه مما لا بد لهم منه ، ومن أهل الأمور عندهم. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 229
(5/354)
الإشارة : الرزق ثلاثة : رزق الأشباح ، ورزق القلوب ، ورزق الأرواح ، فرزق الأشباح معلوم ، ورزق القلوب : اليقين والطمأنينة ، ورزق الأرواح : المشاهدة والمكالمة. قُل من يرزق قلوبكم وأرواحكم من سماء غيب القدرة وأرض الحكمة ؟ فلا رازق سواه ، ولا برهان على وجود ما سواه ، ولا يعلم الغيب إلا الله. أو : من كان وجوده بالله قد غاب في نور الله ، فَشَهِدَ الغيب بالله. والله تعالى أعلم.
230
جزء : 5 رقم الصفحة : 229
قلت : قرأ الجمهور : " ادّارَكَ " بالمد ، وأصله : تدارك ، فأدغمت التاء في الدال ، ودخلت همزة وصل. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : " ادّرك " ، وأصله : افتعل ، بمعنى تفاعل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : " أدرك " أفعل.
يقول الحق جل جلاله : {بل ادّارك} أي : تدارك وتناهى وتتابع أسباب {عِلْمُهم في الآخرة} أي : بالآخرة ، أو : في شأنها ، بما ذكرنا لهم من البراهين القطعية ، والحجج العقلية ، على كمال قدرتنا. ومع ذلك لم يحصل لهم بها يقين ، {بل هم في شكٍّ منها} ، والمعنى : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكّنوا من معرفته ، بما تتابع لهم من الدلائل. زمع ذلك لم يحصل لهم شيء من علمها ، بل شكّوا. أو : أدرك علمهم ، بمعنى : يدركهم في الآخرة حين يرون الأمر عياناً ، ولا ينفعهم ذلك. قاله ابن عباس وغيره. {بل هم} اليوم {في شكٍّ منها بل هم منها عَمُونَ} لا يُبصرون دلائلها ، ولا يلتفتون إلى العمل لها. والإضرابات الثلاثة تنزيل لأحوالهم ، وتأكيد لجهلهم. وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون بوقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة مع تتابع أسباب علمها ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية ، ثم بما هو اسوأ حالاً ، وهو العمى ، وجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه ، فلذا عداه بـ " من " دون " عن " ؛ لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التفكر والتدبر.
(5/355)
ووجه اتصال مضمون هذه الآية - وهو وصف المشركين - بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله ، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب ، وأن العباد لا علم لهم بشيء بذلك : هو أنه لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ، وكان هذا بياناً لعجزهم ، ووصفاً لقصور علمهم ، وصل به أن عندهم عجزاً أبلغ منه ، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه - وهو وقت بعثهم ، ومجازاتهم على أعمالهم : لا يكون ، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه ، لا محالة. هـ. قاله النسفي.
{وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرَجُونَ} أي : أنُخرج من القبور أحياء إذا صرنا تراباً وآباؤنا. وتكرير الاستفهام في " أئذا " و " أَئِنا " في قراءة عاصم ، وحمزة ؛ وخلف ، إنكار بعد إنكار ، وجحود بعد جحود ، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والعامل في (إذا) : مادلّ عليه {لمخرجون} وهو : نُخرج ، لا مخرجون ، لموانع كثيرة. والضمير في " أئنا " لهم ولآبائهم.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 231
لقد وُعِدْنَا هذا} البعث {نحن وآباؤنا من قبلُ} ؛ من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، قدّم هنا "
231
هذا " على " نحن " وفي المؤمنون قدّم " نحن " ؛ ليدل هنا أن المقصود بالذكر هو البعث وثمَّ المبعوث ؛ لأن هنا تكررت أدلة البعث قبل هذا القول كثيراً ، فاعتنى به بخلاف " ثم ". ثم قالوا : {إنْ هذا إلا أساطيرُ الأولينَ} : ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم. وقد كذبوا ، ورب الكعبة.
(5/356)
الإشارة : العلم بالآخرة يَقْوى بقوة العلم بالله ، فكلما قوي اليقين في جانب الله قوي اليقين في جانب ما وعد الله به ؛ من الأمور الغيبية ، فأهل العلم بالله الحقيقي أمور الآخرة عندهم نُصب أعينهم ، واقعة في نظرهم ؛ لقوة يقينهم. وانظر إلى قول حارثة رضي الله عنه حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما حقيقة إيمانك ؟ " فقال : يا رسول الله ؛ عزَفَتُ الدنيا من قلبي ، فاستوى عندي وذهبا ومدرها. ثم قال : وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وأهل النار يتعاوون فيها ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " قد عرفت فالزمْ ، عبدٌ نوّر الله قلبَه " اللهم نَوِّر قلوبنا بأنوار معرفتك الكاملة ، حتى نلقاك على عين اليقين وحق اليقين. آمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 231
يقول الحق جل جلاله : {قُلْ} لهم : {سيروا في الأرض فانظر كيف كانت عاقبةُ المجرمين} بسبب تكذيبهم للرسل - عليهم السلام - فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله - عز وجل - وحده ، واليوم الآخر ، الذي ينكرونه ، فإن في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولي البصائر. وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين ، لطف بالمسلمين ، بترك الجرائم ، وحث لهم على الفرار منها ، كقوله : {فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} [الشمس : 14] و {مِّمَّا خَطِيائَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ} [نوح : 25].
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {ولا تحزنْ عليهم} أي : لأجل أنهم لم يتبعوك ، ولم يُسْلِموا فَيَسْلَمُوا. {ولا تكن في ضَيْقٍ} ؛ في حرج صدر {مما يمكرون} ؛ من مكرهم وكيدهم ، أي : فإن الله يعصمك من الناس. يقال : ضاق ضيقاً - بالفتح والكسر.
{ويقولون متى هذا الوعدُ} أي : وعد العذاب التي تعدنا ، إن كنت من الصادقين في إخبارك بإتيانه على من كذّب. والجملة باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك. {قل عسى أن يكون رَدِفَ لكم بعضُ الذي تستعجلون} أي : تبعكم ولحقكم. استعجلوا
232
(5/357)
العذاب ، فقيل لهم : عسى أن يكون رَدِفَ ، أي : قرب لكم بعضه. وهو عذاب يوم بدر ، واللام زائدة للتأكيد. أو : ضمّن الفعل معنى يتعدّى باللام ، نحو : دنا لكم ، أو : أزف لكم. وعسى ولعل وسوف ، في وعد الملوك ووعيدهم ، يدل على صدق الأمر ، وجدّه ، وعلى ذلك جرى وعد الله ، ووعيده.
{وإن ربك لذُو فضلٍ على الناس} أي : إفضال وإنعام على كافة الناس. ومن جملة إنعامه : تأخير العقوبة عن هؤلاء ، بعد استعجالهم لها ، {ولكنَّ أكثرهم لا يشكرون} أي : أكثرهم لا يعرفون حق النعمة ، ولا يشكرونها ، فيستعجلون بجهلهم وقوع العذاب ، كدأب هؤلاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة : التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار ، ساعة منه أفضل من عبادة سبعين سنة. ومن أجلّ ما يتفكر فيه الإنسان : ما جرى على أهل الغفلة والبطالة والعصيان ، من تجرع كأس الحِمام ، قبل النزوع والإقلاع عن الإجرام ، فندموا حيث لم ينفع الندم ، وقد زلَّت بهم القدم ، فلا ما كانوا أمَّلوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم من الأعمال الصالحات رجعوا. فليعتبر الإنسان بحالتهم ، لئلا يجري عليه ما جرى عليهم ، وليبادر بالتوبة إلى ربه ، وليشهد يده على أوقات عمره ، قبل أن تنقضي في البطالة والتقصير ، فيمضي عمره سبهللاً. ولله در القائل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 232
السِّبَاق السِّبَاقَ قَوْلاً وَفِعْلاً
حَذِّرِ النَّفْسَ حَسْرةً المسْبُوقِ
قال أبو على الدقاق رضي الله عنه : رؤي بعضهم مجتهداً ، فقيل له في ذلك ، فقال : ومن أولى مني بالجهد ، وأنا أطمع أن ألحق الأبرار الكبار من السلف. هـ. ويقال للواعظ أو للعارف ، إذا رأى إدبار الناس عن الله ، وإقبالهم على الهوى : {ولا تحزن عليهم..} الآية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 232
(5/358)
يقول الحق جل جلاله : {وإن ربك لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ} أي : تخفي {صُدورُهُم وما يُعلنون} أي : يُظهرون من القول. وليس تأخير العذاب عنهم لخفاءَ حالِهم عليه ، ولكن له وقت مقدار ، فيمهلهم إليه. أو : إن ربك ليعلم ما يخفون وما يُعلنون من عداوتك ومكايدهم لك ، وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه. وقرئ بفتح التاء ، من : كننت الشيء : سترته.
{وما من غائبةٍ في السماء والأرض} أي : من خافية فيهما {إلا في كتاب مبين} في اللوح المحفوظ. يُسمى الشيء الذي يخفى ويعيب غائبه وخافية. والتاء فيهما كالتاء في
233
العاقبة والعافية. ونظائرهما ، وهي أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين ، وتاؤهما للمبالغة ، كالرواية. كأنه قال : وما من شيء شديد الغيوبة إلا وقد علمه الله ، وأحاط به ، وأثبته في اللوح المحفوظ. ومن جملة ذلك : تعجيل عقوبتهم ، ولكن لكل شيء أجل معلوم ، لا يتأخر عنه ولا يتقدم. ولولا ذلك لعَجَّل لهم ما استعجلوه. والمُبين : الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة : أو : مبين لما فيه من تفاصيل المقدورات. والله تعالى أعلم.
الإشارة : في الآية حث على مراقبة العبد لمولاه ، في سر وعلانيته ، فلا يفعل ما يخل بالأدب مع العليم الخبير ، ولا يجول بقلبه فيما يستحيي أن يظهره لغيره ، إلا أن يكون خاطراً ماراً ، لا ثبات له ، فلا قدرة للعبد على دفعه. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 233
(5/359)
يقول الحق جل جلاله : {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إسرائيل} ؛ يُبين لهم {أكثرَ الذي هم فيه يختلفون} من أمر الدين الذي اشتبه عليهم. ومن جملة ما اختلفوا فيه : المسيح ، وتحزّبوا فيه أحزاباً ، وركبوا متن العند والغلو في الإفراط والتفريط ، ووقع بينهم المناكرة في أشياء ، حتى لعن بعضُهم بعضاً. وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه ، لو أنصفوا وأخذوا به ، وأسلموا. يريد اليهود والنصارى ، وإن كانت الآية خاصة باليهود. {وإنه} - أي : القرآن {لهُدىً ورحمةٌ للمؤمنين} على الإطلاق ، فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولاً أولياً.
{إنَّ ربك يقضي بينهم} أي : بين بني إسرائيل ، أو : بين من آمن بالقرآن ومن كفر به ، {بحُكْمِه} أي : بعدله ؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل ، فسمى المحكوم به حكماً. أو : بحكمته ، ويدل على قراءة من قرأ " بِحِكَمه " : جمع : حِكمة ؛ لأن أحكامه تعالى كلها حِكَم بديعة. {وهو العزيزُ} ، فلا يُردّ حُكمه وقضاؤه ، {العَليمُ} بجميع الأشياء ، ومن جملتها : من يقضي له ومن يقضي عليه. أو : العزيز في انتقامه من المبطلين ، العليم بالفصل بين المختلفين.
{فتوكلْ على الله} ، الفاء لترتيب ما قبله من ذكر شؤونه - عز وجل - فإنها موجبة
234
للتوكل عليه ، داعية إلى الأمر به ، أي : فتوكل على الله الذي هذا شأنه. وهذه أوصافه ، فإنه موجب لكل أحد يتوكل عليه ، ويفوض جميع أموره إليه. أو : فتوكل على الله ولا تُبالي بأعدادء الدين. {إنك على الحق المبين} ، تعليل للأمر بالتوكل بأنه الحق الأبلج ، وهو الدين الواضح الذي لا يتطرقه شك ولا ريب.
وفيه تنبيه على أن أصحاب الحق حقيق بالوثوق بالله في نصرته. وقد تضمنت الآية من أولها ثناء على القرآن ، بنفي ما رموه من كون أساطير الأولين. ثم وصفه بكونه هدى ورحمة للمؤمنين. ثم توعد الرامين له بحُكمه عليهم بما يستحقونه ، ثم أمره بالتوكل عليه في كفايته أمرهم ومكرهم.
(5/360)
جزء : 5 رقم الصفحة : 234
ثم بيّن سبب طعنهم في القرآن ، بأنهم ليس فيهم قابلية الإدراك ؛ لكونهم موتى صماً ، لا حياة لهم ولا سمعَ استبصار ، قال تعالى : {إنك لا تُسمع الموتى} ، شُبِّهوا بالموتى لعدم تأثرهم بما يُتلى عليهم من القوارع والزواجر ، {ولا تُسمِع الصمَّ الدعاءَ} أي : الدعوة إلى أمر من الأمور {إذا وَلَّوا مدبرين} عنك. وتقييد النفي بالإدبار ؛ لتكميل التنبيه وتأكيد النفي ، فإنهم مع صمَمهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي ، مولون على أدبارهم. ولا ريب أن الأصم لا يسمع الدعاء ، مع كون الداعي بمقابلة صماخة ، قريباً منه ، فكيف إذا كان خلفه بعيداً منه ؟ .
{وما أنت بهادي العُمى عن ضلالتهم} هدايةً موصلةً إلى المطلوب ، كما في قوله تعالى : {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص : 56] ؛ فإن الاهتداء منوط بالصبر في الحس ، وبالبصيرة في المعنى. ومَن فقدهما لا يتصور منه اهتداء ، و " عن " متعلق بهادي ؛ باعتبار تضمنه معنى الصرف ، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية. {إن تُسْمِعُ} أي : ما تُسمع سماعاً يجدي السامع وينفعه {إلا من يؤمن بآياتنا} أي : من عَلِمَ الله أنهم يؤمنون بآياته. {فهم مسلمون} ؛ مخلصون ، من قوله : {بَلَىا مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} [البقرة : 112] أي : جعله سالماً لله خالصاً. جعلنا الله ممن أسلم بكليته إليه. آمين.
(5/361)
الإشارة : إذا وقع الاختلاف في الأحكام الظاهرة ، وهي ما يتعلق بالجوارح الظاهرة ، رُجع فيه إلى الكتاب العزيز ، أو السُنَّة المحمدية ، أو الإجماع ، أو القياس ، وإن وقع الاختلاف في الأمور القلبية ، وهي ما يتعلق بالعقائد التوحيدية ، من طريق الأذواق أو العلوم ، يُرجع فيه إلى أرباب القلوب الصافية ، فإنه لا يتجلى فيها إلا ما هو حق وصواب. فلا يمكن قلع عروق الشكوك والأوهام ، والوساوس من القلوب المُسوسة ، إلا بالرجوع إليهم وصحبتهم ، ومن جمع بين الظاهر والباطن ، رجع إليه في الأمرين معاً.
ذكر ابن الصباغ أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه كان يُناظر جماعة من المعتزلة ، ليردهم إلى الحق ، فدخل عليه رجل من القراء ، يُقال له : أبو مروان ، فسلَّم عليه ، فقال له الشيخ : اقرأ علينا آية من كتاب الله ، فأجرى الله على لسانه ، من غير قصد ،
235
قوله تعالى : {فتوكل على الله إنك على الحق المبين} إلى قوله : {ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون} فتهلل وجه الشيخ ، وقال : ما بعد بيان الله من بيان ، فتابوا واهتدوا إلى الحق ، ورجعوا عن مذهبهم ، وشفا الله قلوبهم من مرض الاعتزال. فهذا شأن العارفين بالله ، جعلهم الله شفاء من كل داء ، لكن الأعمى والأصم لا يُبصر الداعي ، ولا يَسمع المنادي. ولذلك قال تعالى : {فإنك لا تُسمع الموتى..} إلخ : قال الورتجبي : الميت : من ليس له استعداد لقبول المعرفة الحقيقية بغير الدلائل ، والأصم : من كان أذن قلبه مسدودة بغواشي القهر ، ومن كان بهذه الصفة لا يقبل إلا ما يليق بطبعه وشهواته. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 234
(5/362)
يقول الحق جل جلاله : {وإذا وقع القولُ عليهم} أي : وقع مصداق القول الناطق بمجيء الساعة ، بأن قَرُب إتيانها ، وظهرت أشراطها ، فأراد بالوقوع : دنوه واقترابه ، كقوله : {أَتَىَا أَمْرُ اللهِ...} [النحل : 1] رُوي أن ذلك حين ينقطع الخير ، ولا يُؤمر بمعروف ولا يُنهى عن منكر ، ولا يبقى منيب ولا تائب. و " وقع " : عبارة عن الثبوت واللزوم ، وهذا بمنزلة : {حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر : 19] أي : وإذا انتجز وعد عذابهم التي تضمنه القول الأزلي ، وأراد أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب ، أخرج لهم دابة من الأرض. وفي الحديث : " إن الدابة ، وطلوع الشمس من المغرب ، من أول الأشراط ". فلا ينبغي لهؤلاء الكفرة ترك الإيمان حيث ينفعهم ، ويتطلبون وقوع الساعة الموعود بها ، التي لا ينفع الإيمان لمن لم يكن آمن ، مع ظهور مقدماتها ، فضلاً عنها. فإذا وقع الوعد وَسَمَت الدابة مَن لم يؤمن بِسمة الكفر ، وكان ذلك طبعاً وختماً ، فلا يقبل منه إيمان ، ويقال له : أيها الكافر لم تؤمن بالآيات غيباً ، فلا يقبل منك بعد رؤيتها عيناً وهذا معنى قوله : {أخرجنا لهم دابةً من الأرض} ، وهي الجساسة ، طولها ستون ذراعاً ، لا يدركها طالبٌ ، ولا يفوتها هاربٌ ، لها أربع قوائم ، وزغب ، وريش ، وجناحان. وقيل : لها رأس ثور ، وعين خنزير ، وأذن فيل ، وقرن أيّل ، وعنق نعامة ، وصدر أسد ، ولون نمر ، وخاصرة هرّة ، وذنب كبش ، وخف بعير ، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً ، تخرج من الصفا فتكلّمهم بالعربية ، فتقول {أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} أي : بخروجي ؛ لأن خروجها من الآيات ، وتقول : ألا لعنة الله على الظالمين.
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه : " تأتي الدابة المؤمن ، فتُسلم عليه ، وتأتي الكافر
236
(5/363)
فتخطه - أي تسمه - في وجهه ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تَخْرُجُ الدَّابةُ مَعها خاتمُ سُليمانَ ، وعَصا مُوسى ، فتَجْلُو وَجْهَ المُؤمِن ، وَتَخْتُم أنْفَ الكافِر بالخاتَم ، ختَّى أَنَّ أَهْلَ الحِواء مجْتَمِعُون ، فيقول : هاها يا مُؤمْن ، ويقول : هاها يا كافِرُ " وهي بعد نزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 236
الإشارة : وإذا وقع القول على قوم بإسدال الحجاب ، وإدامة غلق الباب ، أخرج لهم جاهل بالله ، يكلمهم بادعاء التربية ، فيأخذون عنه ، ويقتدون به. قال في المباحث :
واعلم بأن عُصبة الجُهال
بهائم في صور الرجال
فالجاهد بالله دابة في الأرض : أنَّ الناس كانوا بآياتنا الدالة علينا - وهم العلماء بالله ، أهل الشهود والعيان - لا يُوقنون بوجودهم ، ولا يعرفون وجود الخصوصية عندهم. فإذا أراد الله تعب عبد ، وإبقاءه في غم الحجاب ، ألقاه إلى شيخ جاهل بالله ، أو : إلى ميت يتخذه شيخاً ، ويفنى محبته ، فلا يرجى فلاحه في طريق الخصوصية ، ما دام مقيداً به ، فإن تركه واقتدى بالعارف الحي ، فقد هيأه لرفع الحجاب. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 236
قلت : " ماذا " تأتي على أوجه ؛ أحَدُها : أن تكون " ما " : استفهاماً ، و " ذا " : إشارة نحو : ماذا التواني. الثاني : أن تكون " ما " : استفهاماً ، و " ذا " : موصولة ، كقول لبيد :
ألا تَسْأَلانِ المرْءَ ماذا يُحاوِلُ ؟
أَنَحْبٌ فَيُقْضَى ، أَمْ ضَلالٌ وباطِلُ ؟
الثالث : " ماذا " كله : استفهام على التركيب ، كقولك : لماذا جئت ؟ . الرابع : أن تكون " ماذا " كله : اسم جنس بمعنى شيء ، أو : بمعنى " الذي " كقوله : دعني ماذا علمت ؟ ، وتكون " ذا " زائدة. انظر القاموس.
237
(5/364)
يقول الحق جل جلاله : {و} اذكر {يوم نحشُرُ من كل إمةٍ فوجاً} ، الفوج ، الجماعة الكثيرة. و " مِنْ " : للتبعيض ، أي : واذكر يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة {ممن يُكَذِبُ بآياتنا} ، " مِن " : لبيان الفوج ، أي : فوجاً مكذبين بآياتنا ، المنزلة على أنبيائنا ، {فهم يُوزَعُون} : يُحبس أولهم على آخرهم ، حتى يجتمعوا ، حين يُساقون إلى موضع الحساب. وهذه عبارة عن كثرة العدد ، وتباعد أطرافهم ، والمراد بهذا الحشر : الحشر للعذاب ، والتوبيخ والمناقشة ، بعد الحشر الكلي ، الشامل لكافة الخلق.
وعن ابن عباس : (المراد بهذا الفوج : أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة ، يُساقون بين يدي أهل مكة) وهكذا يُحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار.
{حتى إِذا جاؤوا} إلى موقف السؤال والجواب ، والمناقشة والحساب ، {قال} أي : الله عز وجل ، موبخاً لهم على التكذيب : {أَكَذَّبتم بآياتي} المنزلة على رسلي ، الناطقة بلقاء يومكم ، {و} الحال أنكم {لم تُحيطوا بها علماً} أي : أكذبتم بها في بادئ الرأي ، من غير فكر ، ولا نظر ، يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق حتماً. وهذا نص في أن المراد بالآيات في الموضعين هي الآيات القرآنية. وقيل : هو عطف على " كذبتم " ، أي : أجمعتم بين التكذيب وعدم التدبر فيها. {أم ماذا كنتم تعملون} ؟ حيث لم تتفكروا فيها ، فإنكم لم تُخلقوا عبثاً. أو : أيُّ شيء كنتم تعملون ، استفهام ، على معنى استبعاد الحجج ، أي : إن كانت لكم حجة وعمل فهاتوا ذلك. وخطابهم بهذا تبكيت لهم. ثم يُكبون في النار ، وذلك قوله تعالى : {ووقع القولُ عليهم} أي : حلَّ بهم العذاب ، الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله ، {بما ظَلموا} : بسبب ظلمهم ، الذي هو تكذيبهم بآيات الله {فهم لا ينطقون} ؛ لانقطاعهم عن الجواب بالكلية ، وابتلائهم بشغل شاغل من العذاب الأليم ، يشغلهم العذاب عن النطق والاعتذار.
(5/365)
جزء : 5 رقم الصفحة : 237
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث ، وما ينشأ بعد ذلك ، بقوله : {ألم يروا أنَّا جعلنا الليلَ ليَسكُنوا فيه} ، الرؤية هنا قلبية ، أي : ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالنوم والقرار. {والنهارَ مبصراً} أي : يُبصروا ، بما فيه من الإضاءة ، طرق التقلب في أمور المعاش. وبولغ فيه ، حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس ، حالاً له ، ووصفاً من أوصافه ، بحيث لا ينفك عنها ، ولم يسلك في الليل هذا المسلك ؛ لأن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير النهار في الإبصار. قاله أبو السعود. قلت : وقد جعله كذلك في قوله : {وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً} [الأنعام : 96] فانظره.
{إنَّ في ذلك لآياتٍ} كثيرة {لقوم يؤمنون} ؛ يُصدِّقون ، فيعتبرون ، فإنَّ من تأمل في تعاقب الليل والنهار ، واختلافهما على وجوه بديعة ، مبنية على حِكَمٍ رائقة ، تحار في فهمها العقول ، وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل ، المحاكية للموت ، بضياء النهار ، المضاهي للحياة ، وعاين في نفسه غلبة النوم ، الذي هو يضاهي الموت ، وانتباهه منه ،
238
الذي هو يضاهي البعث ، قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور.
قال لقمان لابنه : يا بُني إن كنت تشك في الموت فلا تنم ، فكما أنك تنام قهراً ؛ كذلك تموت ، وإن كنت تشك في البعث فلا تنتبه ، فكما أنك تنتبه بعد نومك ؛ كذلك تُبعث بعد موتك هـ. وبالله التوفيق.
(5/366)
الإشارة : يوم نَحشر من كل أمة فوجاً يُنكر على أهل الخصوصية ، ممن يكذب بآياتنا ، وهم العارفون بنا ، الدالون علينا ، المعرِّفون بنا ، فهم يُوزعون : يُجمعون للعتاب ، حتى إذا جاؤوا إلينا بقلب سقيم ، قال : أكذَّبتم بأوليائي ، الدالين على حضرتي ، بعد التطهير والتهذيب ، ولم تُحيطوا بهم علماً ، منعكم من ذلك حب الرئاسة والجاه ، أم ماذا كنتم تعملون ؟ . ووقع القول عليهم بالبقاء مع عامة أهل الحجاب ، فهم لا ينطقون ، ولا يجدون اعتذاراً يُقبل منهم. ألم يعلموا أنهم يموتون على ما عاشوا عليه ، ويُبعثون على ما ماتوا عليه ، فهلاّ صحبوا أهل اليقين الكبير ، - وهو عين اليقين أو حق اليقين المستفاد من شهود الذات الأقدس - فيكتسبوا منهم اليقين ، حتى يموتوا على اليقين ويُبعثوا على اليقين. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 237
يقول الحق جل جلاله : {و} اذكر {يومَ يُنفَخُ فِي الصُّور} ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل - عليه السلام - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما فرغ الله تعالى من خلق السموات والأرض ، خلق الصور ، فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه ، شاخص بصره إلى العرش ، حتى يؤمر ، قال : قلت : كيف هو ؟ قال : عظيم ، والذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه كعرض السموات والأرض " وفي حديث آخر : " فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ، فيأمر بالنفخ فيه ، فينخ نفخة ، لا يبقى عندها في الحياة أحد ، غير من شاء الله تعالى ؛ وذلك قوله تعالى : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} [الزمر : 68] ، ثم يؤمر بأخرى ، فينخ نفخة لا يبقى معها ميت إلا بُعث " وفي رواية : " فينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح ، كأنها النحل ، فتملأ ما بين السماء والأرض ، وتأتي كل روح إلى جسدها ، كما تأتي النحل إلى وكرها. وذلك
239
(5/367)
قوله تعالى : {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىا فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر : 68] ". قال أبو السعود : والذي يستدعيه النظم الكريم أن المراد بالنفخ ها هنا : النفخة الثانية ، وفي الفزع في قوله تعالى : {ففزع من في السماوات ومن في الأرض} ما يعتري الكل عند البعث والنشور ، بمشاهدة الأمور الهائلة ، الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق ، من الرعب والتهيب ، الضروريين ، الجبلين في كل نفس. وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف عليه مضارعاً ؛ للدلالة على تحقيق وقوعه. هـ. وظاهره أن النفخ مرتان فقط ، واعتمده القرطبي وغيره ، وصحح ابن عطية أنها ثلاث ، ورُوي ذلك عن أبي هريرة : نفخة الفزع ؛ وهي فزع حياة الدنيا ، وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور.
جزء : 5 رقم الصفحة : 239
وقوله : {إلا من شاء الله} أي : ألاَّ يفزع ، وهو من ثبّت الله قلبه ، فإن قلنا : المراد بها النفخة الثانية ، فالمستثنى : هم من سبقت لهم الحسنى ، بدليل قوله : {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء : 103] وإن قلنا : هي نفخة الصعق ، فالمستثنى : قيل : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، لكن يموتون بعد صعق الخلق. وقيل : الحور وحَملةُ العرش ، وإن قلنا : المراد نفخة الفزع في الدنيا ، فالمستثنى : أرواح الأنبياء والأولياء والشهداء والملائكة.
ثم قال تعالى : {وكلٌّ أَتَوْهُ} بصيغة الماضي ، أي : وكل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروه في موقف الحساب ، بين يدي الله جل جلاله ، والسؤال والجواب : أو : وكل حاضروه ، على قراءة إسم الفاعل ، وأصله : آتيوه ، حال كونهم {داخرين} : صاغرين أذلاء.
(5/368)
{وترى الجبالَ} حال الدنيا {تحسبُها جامدةً} ؛ واقفة ممسّكة عن الحركة ، من : جمد في مكانه : إذا لم يبرح. {وهي تمرُّ مرَّ السحابِ} أي : مراً مثل مر السحاب ، التي تسيرها الرياح ، سيراً حثيثاً ، والمعنى : أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد ؛ لِعظمها ، وهي تسير سيراً سريعاً ، كالحساب إذا ضربته الرياح ، وهكذا الأجرام العظام ، إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها. ومثال ذلك : الشمس ؛ لعظم جرمها وبُعدها لا تتبين حركتها ، مع كونها أسرع من الريح.
والذي في حديث أبي هريرة : أنَّ تسيير الجبال يكون بعد نفخة الفزع وقبل الصعق.
ونص الحديث - بعد كلام تقدم : " فيأمر إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السموات والأرض ، إلا من شاء الله ، فيأمره فيمدها - أي : النفخة - ويطيلها ، فيُسير الله الجبالا ، فتمر مر السحاب ، فتكون سراباً ، وتَرْتج الأرض بأهلها رجاً ، فتكون كالسفينة تضربها الأمواج ، وتقلبها الرياح وهو في قوله : {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات : 6] الآية ، فتميد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ،
240
وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين ، هاربة من الفزع ، حتى تأتي الأقطار هاربة ، فتلقاها الملائكة تضرب وجهها وأدبارها ، فترجع ، ويولي الناس مدبرين ، ينادي بعضهم بعضاً ، وهو قوله : {يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ...} [غافر : 33] الآية فبينما هم كذلك ؛ إذ تصدعت الأرض ، من قطر إلى قطر ، فرأوا أمراً عظيماً ، لم يروا مثله " ثم قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " والأموات يومئذٍ لا يعلمون بشيء من ذلك " قال أبو هريرة : قلت : يا رسول الله فمن استثنى الله من الفزع ؟ قال : " أولئك الشهداء ".
جزء : 5 رقم الصفحة : 239
(5/369)
قلت : ومثلهم الأنبياء والأولياء ؛ إذ هم أعظم منهم ، وأحياء مثلهم. ثم قال عليه الصلاة والسلام : " وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، وهم أحياء عند ربهم يُرزقون ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم ، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه ". وهو قوله تعالى : {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج : 1] إلى قوله : {وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج : 2] فيمكثون طويلاً ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل ، فينفخ نفخة الصعق ، فيصعق من في السموات ، ومن في الأرض ، إلا من شاء الله ، فإذا اجتمعوا في البرزخ ، جاء ملك الموت إلى الجبار ، فيقول : قد مات أهلُ السموات والأرض ، إلا من شاء الله ، فإذا اجتمعوا في البرزخ ، جاء ملك الموت إلى الجبار ، فيقول : قد مات أهل السموات والأرض ، إلا من شئتَ ، فيقول الله تعالى ، وهو أعلم : مَن بقي ؟ فيقول : بقيتَ أنت الحي القيوم ، الذي لا تموت ، وبقيت حملة العرش ، وبقي جبريل وميكائيل ، وإسرافيل ، وبقيتُ أنا ، فيقول تعالى : فليمتْ جبريل وميكائيل ، فينطق الله العرش ، فيقول : أيّ رب يموت جبريل ، وميكائيل! فيقول : اسكت ، إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي ، فيموتان. ثم يأتي ملك الموتُ الجبارَ ، فيقول : أي رب قد مات جبريل وميكائيل ، فيقول - وهو أعلم : من بقي ؟ بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت حملة العرش ، وبقي إسرافيل ، وبقيتُ أنا. فيقول : ليمتْ حملة العرش ، فيموتون ، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ، ثم يقول : ليمت إسرافيل ، فيموت ، ثم يأتي ملك الموت فيقول : يا رب ؛ قد مات حملة عرشك ، فيقول ، وهو أعلم : من بقي ؟ فيقول : بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت أنا ، فيقول : أنت خلق من خلقي ، خلقتك لِما رأيتَ ، فمتْ ، فيموت. فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فكان آخراً ، كما كان أولاً ، طوى السماء طي السجل للكتاب ، فيقول : أنا الجبار ، {لِمن(5/370)
الملك اليوم} ؟ فلا يجيبه أحد ، ثم يقول تعالى : {لله الواحد القهار} ثم تُبدل الأرض غير الأرض ، والسموات يبسطها بسطاً ، ثم يمدها مدّ الأديم العكاظي ، لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمتاً.
ثم قال : ثم ينزل ماء من تحت العرش ، كمني الرجل ، ثم يأمر الله السحاب أن تمطر أربعين يوماً ، حتى يكون فوقهم اثني عشر ذراعاً ، ويأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل ، حتى إذا تكاملت أجسادهم ، كما كانت ، قال الله تعالى : ليحيَى حملة العرش ، فيحيون ، ثم
241
يقول الله تعالى : ليحيى جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فيحيون ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل ، فيأخذ الصور فيضعه على فيه ، ثم يدعو الله تعالى الأرواح ، فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نوراً ، والأخرى ظلمة ، فيقبضها ، ثم يلقيها في الصور ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح ، كأنها النحل ، وقد ملأت ما بين السماء والأرض ، فيقول تعالى : لترجعن كل روح إلى جسدها ، فتدخل الأرواح الخياشيم ، ثم تمشي في الأجساد ، مشي السم في اللديغ ، ثم تنشق الأرض عنهم سراعاً ، فأنا أول من تنشق عنه ، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون ، عراةً ، حفاةً ، غُرلاً ، مهطعين إلى الداعي ، فيقول الكافر : هذا يوم عسير. نقله الثعلبي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 239
(5/371)
ثم قال تعالى : {صُنعَ الله} ، هو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله ، أي : صَنَعَ الله ذلك صُنعاً ، على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور ، وما ترتب عليه جميعاً. قصد به التنبيه على عِظَم شأن تلك الأفاعيل ، وتهويل أمرها ، والإيذان بأنها ليست بطريق الإخلال بنظم العالم ، وإفساد أحوال الكائنات ، من غير أن تدعو إليه داعية ، بل هي من بدائع صنع الله تعالى ، المبنية على أساس الحكمة ، المستتبعة للغايات الجليلة ، التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع ، على الوجه المتين ، والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله : {الذي أتقنَ كلَّ شيء} أي : أحكم خلقه وسوّاه ، على ما تقتضيه الحكمة.
وقوله تعالى : {إنه خبير بما تفعلون} : تعليل لكون ما ذكر صنعاً محكماً له تعالى ؛ لبيان أن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها ، مما يدعو إلى إظهارها وبيان كيفياتها ، على ما هي عليه من الحسن والسوء ، وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرهم. وقوله تعالى : {من جاء بالحسنةِ فله خير منها} : بيان لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أجزيتها عليها ، أي : من جاء من أولئك الذين أتوه بالحسنة فله خير منها ، باعتبار أنه أضعفها بعشر ، أو : باعتبار دوامه وانقضائها ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : " الحسنة : كلمة الشهاة " {وهم} أي : الذين جاؤوا بالحسنات {من فزَعٍ يومئذ} أي : من فزع هائل ، وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب ، بعد تمام المحاسبة ، وظهور الحسنات والسيئات. وهو المراد في قوله تعالى : {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء : 103].
(5/372)
وقال ابن جريج : حين يُذبح الموت ويُنادى : يا أهل الجنة ؛ خلود لا موت ، ويا أهل النار ؛ خلود لا موت. فيكون هؤلاء {من فزع يومئذٍ} ، أي : يوم إذ ينفخ في الصور وما بعده {آمنون} لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل ، ولا يلحقهم ضرره أصلاً. وأما الفزع الذي يعتري كل من السموات ومن في الأرض ، غير ما استثناه اله تعالى ، فإنما هو التهيب والرعب الحاصل في ابتداء النفخة ، من معاينة فنون الدواهي والأهوال ، ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة ، وإن كان آمناً من لحوق الضرر. قال جميعه أبو السعود.
{ومن جاء بالسيئة} قيل : هو الشرك. {فكُبَّتْ وجُوهُهُم في النار} ، أي : كُبوا فيها
242
على وجوههم منكوسين. ويقال لهم : {هل تُجزَون إلا ما كنتم تعملون} في الدنيا من الشرك والمعاصي. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من أراد أن يكون ممن استثنى الله من الفزع والهول ، فليكن قلبه معموراً بالله ، ليس فيه غير مولاه ، ولا مقصود له في الدارين إلا الله ، وظاهره معموراً بطاعة الله ، متمسكاً بسنة رسول الله ، هواه تابع لِما جاء من عند الله ، لا شهوة له إلا ما يقضي عليه مولاه ، فبهذا ينخرط في سلك أولياء الله ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين سبقت لهم الحسنى ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. جعلنا الله من خواصهم ، بمنِّه وكرمه آمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 239
وقوله تعالى : {وترى الجبالَ تحسَبها جامدةً...} الآية. كذلك قلوب الراسخين في العلم بالله ، لا تؤثر فيهم هواجم الأحوال والواردات الإلهية ، بل تهزهم في الباطن ، وظواهرهم ساكنة ، كالجبال الراسية ، قيل للجنيد : قد كنت تتواجدُ عند السماع ، والآن لا يتحرك فيك شيء ؟ فتلى : {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب}.
(5/373)
وقوله تعالى : {من جاء بالحسنة} أي : بالخصلة الحسنة ، وهي المعرفة {فله خير منها} وهو دوام النظرة والحبرة ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، {ومن جاء بالسيئة} هي الجهل بالله ، فينكس وجهه عن مواجهة المقربين. والعياذ بالله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 239
يقول الحق جل جلاله : قل لكفار قريش ، بعد تبيين أحوال المبعث ، وشرح أحوال القيامة ، بما لا مزيد عليه : {إنما أُمرتُ أن أعبدَ ربَّ هذه البلدة} أي : مكة ، أي : إنما أمرني ربي أن أعبده ، وأستغرق أوقاتي في مراقبته ومشاهدته ، غير مبالٍ بكم ، ضللتم أم رشِدتم ، وما عليّ إلا البلاغ ، وقد بلغتكم وأنذرتكم. وتخصيص مكة بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها ، {الذي حَرَّمها} أي : جعلها حرماً آمناً ، يأمن الملتجأ إليها ، ولا يختلي خلاها ، ولا يعضد شوكها ، ولا ينفّر صيدها. والتعرض لبيان تحريمه إياها تشريف لها بعد تشريف ، وتعظيم إثر تعظيم ، مع مافيه من الإشعار بعلة الأمر بعبادة ربها ، وأنهم مُكلفون بذلك ، كما في قوله تعالى : {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ الَّذِيا أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش : 3 ، 4]. ومن الإشارة إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها ، ألا
243
يُرى أنهم مع كونها محرمة أن تنتهك حرمتها ، ويلحد فيها بإثم ، قد استمروا فيها على تعاطي أفجر الفجور ، وأشنع الإلحاد ، حيث تركوا عبادة ربها ، ونصبوا الأوثان ، وعكفوا على عبادتها ، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون. قاله أبو السعود.
ثم قال تعالى : {وله كلُّ شيء} خلقاً وملكاً وتصرفاً ، من غير ان يشاركه أحد في شيء من ذلك ، تحقيقاً للحق ، وتنبيهاً على إن إفراد مكة بالإضافة لما ذكر من التفخيم والتشريف ، مع عموم الربوبية لجميع الموجودات. {وأُمرتُ أن أكون من المسلمين} المنقادين له ، الثابتين على ما كنا عليه ، من ملة الإسلام والتوحيد. الذين أسلموا وجوهم له تعالى ، وانقادوا إليه بالكلية.
(5/374)
{وإن أتلوَ القرآن} أي : أُواظب على تلاوته ، لتنكشف حقائقه الرائقة ، المخزونة في تضاعيفه ، شيئاً فشيئاً. أو : على تلاوته على الناس ؛ بطريق تكرير الدعوة ، وتثنية الإرشاد ، فيكون ذلك تنبيهاً على كفايته في الهداية والإرشاد ، من غير حاجة إلى إظهار معجزة أخرى.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 243
فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} أي : فمن اهتدى بالإيمان به ، والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام ، فإنما منافع هدايته عائدة إليه ، لا إلى غيره. {ومن ضلّ} بالكفر به ، والإعراض عن العمل بما فيه {فقلْ} في حقه : {إنما أنا من المنذرينَ} وقد خرجتُ من عهدة الإنذار ، فليس عليَّ من وبال ضلالته شيء. قال الصفاقسي : جواب " من " : محذوف ، يدل عليه ما قبله ، أي : فوبال ضلاله عليه ، أو : يكون الجواب : " فقل " ، ويقدر ضمير عائد من الجواب إلى الشرط ؛ لأنه اسم غير ظرف ، أي : من المنذرين له. هـ.
(5/375)
{وقل الحمدُ لله} على ما أفاض عليّ من نعمائه ، التي أجلُها نعمة النبوة ، المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية ، ووفقني لتحمل أعبائها ، وتبليغ أحكامها إلى كافة الورى ، بالآيات البينة والبراهين النيرة ، {سيُريكُم آياته} قطعاً في الدنيا ، التي وعدكم بها ، كخروج الدابة وسائر الأشراط ، {فتعرفونها} أي : فتعرفون أنها آيات الله ، حين لا تنفعكم المعرفة ، أو : سيضطركم إلى معرفة آياته ، والإقرار بأنها آيات الله حين ظهورها ، {وما ربك بغافل عما تعملون} ، بل محيط بعمل المهتدي والضال ، غير غافل ، فيجازي كلاًّ بما يستحقه. وتخصيص الخطاب أولاً به - عليه الصلاة والسلام - وتعميمه ثانياً للكفرة تغليباً ، أي : وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم - أيها الكفرة - من السيئات ، فيجازي كلاً بعمله. ومن قرأ بالغيب فهو وعيد محض ، أي : وما ربك بغافل عن أعمالهم ، فسيعذبهم ألبتة ، فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم ، بل يمهل ولا يهمل. والله تعالى أعلم.
244
الإشارة : إذا فرغ الواعظ من وعظه وتذكيره ، أو : العالم من تدريسه وتعليمه ، أقبل على عبادة ربه ، إما عبادة الجوارح الظاهرة ، من صلاة وذكر وتلاوة ، أو عبادة القلوب ، كتفكر واعتبار ، أو استخراج علوم وحكم ودُرر. وإما عبادة الأرواح ، كنظرة وفكرة وشهود واستبصار. وهذه عبادة الفحول من الرجال ، فمن اهتدى إليها فلنفسه ، ومن ضل عنها فقل إنما أنا من المنذرين. والحمد لله رب العالمين - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.
245
جزء : 5 رقم الصفحة : 243(5/376)
سورة القصص
جزء : 5 رقم الصفحة : 245
يقول الحق جل جلاله : {طسم} ، إما مختصرة من أسماء الله تعالى ، أقسم على حقّية كتابه ، وما يتلى فيه ، كأنها مختصرة من طهارته - أي : تنزيهه - وسيادته ، ومجده ، أو : من أسماء رسوله - وهو الأظهر - أي : أيها الطاهر السيد المجيد {تلك آيات الكتابُ المبين} ، إما من بان ، أو : أبان ، أي : بيِّن خيره وبركتُه ، أو مُبين للحلال والحرام ، والوعد والوعيد ، والإخلاص والتوحيد ، {نتلو عليك من نبأ موسى وفرعونَ} أي : بعض خبرهما العجيب. قال القشيري : كرَّر الحقُّ قصةَ موسى ؛ تعجيباً بشأنه ، وتعظيماً لأمره ، ثم زيادة في البيان لبلاغة القرآن ، ثم أفاد زوائد من الذكر في كل موضعٍ يُكرره. هـ.
هذا مع الإشارة إلى نصر المستضعفين ، والامتنان عليهم بالظفر والتمكين ، ففيه تسلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ووعد جميل له ولأمته. وقوله : {بالحق} : حال من فاعل {نتلو} ، أو : من مفعوله ، أو : صفة لمصدر محذوف ، أي ملتبسين ، أو : ملتبساً بالحق ، أو : تلاوة ملتبسة بالحق. {لقومٍ يؤمنون} ؛ لمن سبق في علمنا أنه يُؤمن ؛ لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم ، فهو متعلق بنتلو. والله تعالى أعلم.
الإشارة : تقديم هذه الرموز ، قبل سرد القصص ، إشارة إلا أنه لا ينتفع بها كل الانتفاع حتى يتطهر سره ، وَيُلْقِيَ سَمْعَهُ ، وهو شهيد ، فحينئذٍ يكون طاهراً سيداً مجيداً ينتفع بكل شيء ، ويزيد إلى الله بكل شيء. ولذلك خص تلاوة قصص موسى بأهل الإيمان الحقيقي ؛ لأنهم هم أهل الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
246
جزء : 5 رقم الصفحة : 246(5/377)
يقول الحق جل جلاله : {إِنَّ فرعونَ علا في الأرض} ، وهو استئناف بياني ، وكأن قائلاً قال : وكيف كان نبأهما ؟ فقال : إنه علا في الأرض ، أي : تجبّر وطغى في أرض مصر ، وجاوز الحد في الظلم والعدوان. أو : علا عن عبادة ربه ، وافتخر بنفسه ، ونسي العبودية. وفي التعبير بالأرض تبكيت عليه ، أي : علا في محل التذلل والانخفاض ، {وجعل أهلَها شِيعاً} أي : فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير ، كلُّ قوم من بني إسرائيل في شغل مفرد. وقيل : مَلَكَ القبط واستعبد بني إسرائيل. أو : فرقاً مختلفة ، يُكرم طائفة ويهين أخرى ، فأكرم القبط ، وأهان بني إسرائيل. {ويستضعفُ طائفةً منهم} وهم بنو إسرائيل ، وهو يُرشد إلى كون المراد بقوله : {وجعل أهلها} لا يُخَصُّ ببني إسرائيل.
{يُذَّبِّحُ أبناءهم} الذكور ، {ويستحيي نساءَهم} أي : البنات ، يتركهم لخدمته.
وسبب ذبحه للأبناء أن كاهناً قال له : يولد مولود في بني إسرائيل ، يذهب ملكك على يده ، وفيه دليل على حمق فرعون ، فإنه إن صدق الكاهن لم ينفعه القتل ؛ إذ لا ينفع حذر من قدر ، وإن كذب فلا معنى للقتل. وجملة : {يستضعف} : حال من الضمير في {جعل} ، أو صفة لشِيع ، أو استئناف. {إنه كان من المفسدين} ، أي : الراسخين في الإفساد ، ولذلك اجترأ على تلك العزيمة العظيمة ، ومن قتل المعصومين من أولاد الأنبياء - عليهم السلام.
{ونريد أن نَمُنَّ} أي : نتفضل {على الذين استُضعفوا في الأرض} على الوجه المذكور بالقتل والتسخير. وهذه الجملة معطوفة على : {إن فرعون} ، أو : حال من {يستضعف} ، أي : يستضعفهم فرعون ونحن نُريد أن نمنّ عليهم ، وإرادة الله تعالى كائنة لا محالة ، فَجُعِلَتْ كالمقارنة لاستضعافهم ، {ونجعلهم أئمةً} أي : قادة يُقتدى بهم في الخير ، أو : دعاة إلى الخير ، أو : ولاةً وملوكاً ، {ونجعلهم الوارثين} أي : يرثون فرعون وقومه ، مُلكهم وكل ما كان لهم.
{ونُمكِّن لهم في الأرض} ؛ أرض مصر والشام ، يتصرفون فيها كيف شاؤوا ،
247
(5/378)
وتكون تحت مُلكهم وسلطانهم. وأصل التمكن : أن يجعل لهم مكاناً يقعد عليه ، ثم استعير للتسليط والتصرف في الأمر. {ونُرِيَ فرعونَ وهامان وجنودَهما منهم} ؛ من بني إسرائيل ، {ما كانوا يحذَرون} ؛ يخافون من ذهاب ملكهم ، وهلاكهم على يد مولود منهم. والحذر التوقي من الضرر. ومن قرأ (يري) ؛ بالياء ففرعون وما بعده فاعل. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 247
الإشارة : العلو في الأرض يُورث الذل والهوان. والتواضع والاستضعاف يورث العز والسلطان ، والعيش في العافية والأمان ؛ من تواضع رفعه الله ، ومن تكبر قصمه الله. وهذه عادة الله في خلقه ، بقدر ما يَذِلُّ في جانب الله يعزه الله ، وبقدر ما يفتقر يغنيه الله ، بقدر ما يفقد يجد الله. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا ، وحكمت عليه بالفقد حتى وجدوا. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 247
يقول الحق جل جلاله : {وأوحينا إلى أمِّ موسى} ؛ بالإلهام ، أو بالرؤيا ، أو بإخبار ملك كما كان لمريم ، وليس هذا وحي رسالة ، فلا يلزم أن تكون رسولاً ، واسمها : يوحانة ، وقيل : يوخابذ بنت يَصهرُ بن لاوي بن يعقوب. وقيل : يارخا. ذكره في الإتقان. وقلنا : {أن أرضعيه} ؛ " أن " : مفسرة ، أي : أرضعيه ، أو : مصدرية ، بأن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه ، {فإذا خِفْتِ عليه} من القتل {فألقيه في اليمِّ}. البحر ، وهو نيل مصر ، {ولا تخافي} عليه من الغرق والضياع ، {ولا تحزني} لفراقه ، {إنا رادوه إليك} بوجه لطيف ؛ لتُربيه ، {وجاعلوه من المرسلين}. وفي هذه الآية : أمران ، ونهيان ، وخبران ، وبشارتان.
(5/379)
والفرق بين الخوف والحزن ؛ أن الخوف : غم يلحق الإنسان لِتَوَقُّعِ مكروه ، والحزن : غم يلحق الإنسان لواقع أو ماضي ، وهو الآن فراقه والإخطار به. فنُهيت عنهما ، وبُشرت برده وجعله من المرسلين. رُوي أنه ذبح ، في طلب موسى ، تسعون ألف وليدٍ. ورُوي أنها حين ضربها الطلق - وكانت بعض القوابل من الموكلات بحَبَالى بني إسرائيل مَصافية لها ، فعالجتها ، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيّه ، ودخل حُبُه قلبها ، فقالت : ما جئتُ إلا لأقتل ولدك وأُخبر فرعون ، ولكن وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله ، فاحفظيه ، فلما خرجت القابلة ، جاءت عيون فرعون فلفَّتْه في خرقة ، ووضعته في
248
تنور مسجور ، ولم تعلم ما تصنع ؛ لِما طاش من عقلها ، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً ، فخرجوا ، وهي لا تدري مكانه ، فسمعت بكاءه من التنور ، فانطلقت إليه ، وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً. فلما ألح فرعون في طلب الولدان ، أوحى الله إليها بإلقائه في اليمِّ ، فألقته في اليم بعد أن أرضعته ثلاثة أشهر.
(5/380)
رُوي أنها لفته في ثيابه ، وجعلت له تابوتاً من خشب ، وقيل : من بردى ، وسدت عليه بقفل ، وأسلمته ؛ ثقة بالله وانتظاراً لوعده سبحانه. قال ابن مخلص : ألقته في البحر بالغداة ، فرده إليها قبل الظهر. حُكي أن فرعون كانت له بنتٌ برصاء ، أعيت الأطباء ، فقال الأطباء والسحرة : لا تبرأ إلا من قِبل البحر ، يؤخذ من شبه الإنسان ، فيؤخذ من ريقه وتلطخ به برصها ، فتبرأ ، فقعد فرعون على شفير النيل ، ومعه آسية امرأته ، فإذا بالتابوت يلعب به الموج ، فأخِذ له ، ففتحوه ، فلم يطيقوا ، فدنت آسية ، فرأت في وجه التابوت نوراً لم يره غيرُها ، لِلذي أراد الله أن يكرمها ، ففتحه ، فإذا الصبي بين عينيه نور ، وقد جعل الله رزقه في إبهامه ، يمصه لبناً ، فأحبته آسية وفرعون ، فلطخت بنت فرعون برصها فبرئت ، فقبَّلته وضمته إلى صدرها. فقال بعض القواد من قوم فرعون : نظن هذا المولود الذي نحذر منه ، فهمّ فرعون بقتله - والله غالب على أمره - فقالت : آسية : {قُرة عين لي ولك... } الآية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 248
وهذا معنى قوله : {فالتقطه آلُ فرعون} ؛ أخذه. قال الزجّاج : وكان فرعون من أهل فارس ، من إصْطَخْر. والالتقاط : وجدان الشيء من غير طلب ولا إرادة ، ومنه : اللُّقَطَةُ ، لما وُجد ضالاً. وقوله : {ليكونَ لهم عَدُواً وحَزَناً} أي : ليصير الأمر ذلك ، لا أنهم أخذوه لهذا ، فاللام للصيرورة ؛ كقولهم : لدوا للموت وابنوا للخراب. وقال صاحب الكشاف : هي لام " كي " التي معناها التعليل ، كقولك : جئت لتكرمني. ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز ؛ لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطم له ، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعلَ لأجله. هـ. وتسمى بالاستعارة التبعية.
وفي " الحَزَن " لغتان ؛ الفتح ، والضم ، كالعدم والعدم.
(5/381)
{إنَّ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما كانوا خاطئين} ، أي : مذنبين ، فعاقبهم الله تعالى بأن ربَّى عدوهم ، ومن هو سبب هلاكهم على يديهم. أو : كانوا خاطئين في كل شيء ، فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم.
{وقالت امرأةُ فرعون} ، لمّا هم فرعون بقتله - لقول القواد : هو الذي نحذر هو : {قرةُ عين لي ولك} ، فقال فرعون : لكِ ، لا لي. قال صلى الله عليه وسلم : " لو قال مثل ما قالت لهداه الله مثل ما هداها " ، وهذا على سبيل الفرض ، أي : لو كان غير مطبوع عليه الكفر لقال مثل قولها. ثم قالت : {لا تقتلوه} ، خاطبته خطاب الملوك ، أو خاطبت القُواد.
{عسى أن ينفعنا} ؛ فإن فيه مَخَايلَ اليُمنِ ودلائلَ النفع ، وذلك لِمَا عَايَنَتْ من النور وبرْءِ البرصاء. {أو نتخذه ولدا} ؛ أو : نتبناه ؛ فإنه أهل لأَن يكون ولد الملوك. قال تعالى :
249
{وهم لا يشعرون} ما يكون من أمره وأمرهم ، أو : لا يشعرون أن هلاكهم على يديه ، أو : لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يقال لمن يعالج تربية مريد : أرضعه من لبن علم الغيوب ، فإذا خفت عليه الوقوف مع الشرائع ، فألقه في اليم ؛ في بحر الحقائق ، ولا تخف ولا تحزن ، إنا رادوه إلا بر الشرائع ، ليكون من الكاملين ، لأن من غرق في بحر الحقيقة ، على يد شيخ كامل ، لا بد أن يخرجه إلى بر الشريعة ، ويسمى البقاء ، وهو القيام برسم الشرائع ، فالبقاء يطلب الفناء ، فمن تحقق بمقام الفناء ؛ فلا بد أن يخرج إلى البقاء ، كما يخرج من فصل الشتاء إلى الربيع. والله تعالى أعلم.
(5/382)
وقوله تعالى : {ليكون لهم عدواً وحزناً} ، ما كان التقاط فرعون لموسى إلا للمحبة والفرح ، فخرج له عكسه. ومن هذا كان العارفون لا يسكنون إلى الشيء ولا يعتمدون على شيء ؛ لأن العبد قد يخرج له الضرر من حيث النفع ، وقد يخرج له النفع من حيث يعتقد الضرر ، وقد ينتفع على أيدي الأعداء ، وَيُضَرُّ على أيدي الأَحِبَّاءِ ، فليكن العبد سلْماً بين يدي سيده ، ينظر ما يفعل به. {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
جزء : 5 رقم الصفحة : 248
يقول الحق جل جلاله : {وأصبح} أي : صار : {فؤادُ أُمّ موسى فارِغاً} من كل شيء إلا مِن ذكر موسى وهمه ، أو : فارغاً : خالياً من العقل ؛ لِمَا دهمها من الجَزَع والحيرة ، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون ، ويؤيده قراءة ابن محيصن : " فزعاً " ؛ بالزاي بلا ألف ، أو : فارغاً من الوحي الذي أوحي إليها أن تلقيه في اليم ، ناسياً للعهد أن يرده إليها ، لما دَهَمَهما من الوجد ، وقال لها الشيطان : يا أم موسى كرهتِ أن يقتل فرعون موسى وأغرقته أنتِ. وبلغها أنه وقع في يد فرعون ، فعظم البلاء ، {إن كادتْ لتُبدِي به} : لتبوح به وتظهر شأنه وأنه وَلدها.
قيل : لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت ؛ كادت تصيح وتقول : يا ابناه ، وقيل : لما سمعت أن فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه يقتله ، فكادت تقول : يا ابناه ؛ شفقة عليه. و " أن " مخففة ، أي : إنها كادت لتظهره {لولا أن ربطنا على قلبها}. والربط : تقويته ؛ بإلهام الصبر والتثبيت ، {لتكون من المؤمنين} : من المصدقين بوعدنا ، وهو : {إنا رادوه إليك}. وجواب " لولا " : محذوف ، أي : لأبْدته ، أو : فارغاً من الهم ، حين سمعت أن فرعون تبناه ، إن كادت لتُبدي بأنه ولدها ؛ لأنها لم تملك نفسها ؛ فرحاً وسروراً مما
250
(5/383)
سمعت ، لولا أن ربطنا على قلبها وثبتناه ؛ لتكون من المؤمنين الواثقين بعهد الله ، لا بتبني فرعون. قال يوسف بن الحسن : أمرتُ أُم موسى بشيئين ، وبُشرت ببشارتين ، فلم ينفعها الكل ، حتى تولى الله حياطتها ، فربط على قلبها.
{وقال لأخته} مريم : {قُصّيهِ} : اتبعي أثره ؛ لتعلمي خبره ، {فَبَصُرَت به} أي : أبصرته {عن جُنُبٍ} ؛ عن بُعدٍ. قال قتادة : جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده ، {وهم لا يشعرون} أنها أخته ، وأنها تقصه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي للعبد ، الطالب لمولاه ، أن يصبح فارغاً من كل ما سواه ، ليس في قلبه سوى حَبيبه ، فحينئذٍ يرفع عنه الحجاب ، ويُدخله مع الأحباب ، فعلامة المحبة : جمع الهموم في هَم واحد ، وهو حب الحبيب ، ومشاهدة القريب المجيب ، كما قال الشاعر :
كَانَتْ لقَلْبيَ أَهْوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ
فَاسْتَجْمَعَتْ ، مُذَ رَأَتْكَ الْعَيْنُ ، أَهْوَائِي
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
فَصَارَ يَحْسُدُنِي مَنْ كُنْتُ أَحْسُدُهُ
وَصِرْتُ مَوْلى الورى مُذْ صِرْتَ مَوْلائِي
تَرَكْت لِلنَّاسِ دنياهم ودينَهُمُ
شُغْلاً بِذِكْرِكَ يا دِينِي ودُنْيائِي
فَرِّغْ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار. والأغيار : جمع غَيْرٍ ، وهو ما سوى الله ، فإن تلاشى الغير عن عين العبد ؛ شهد مولاه في غيب ملكوته ، وأسرار جبروته ، وفي ذلك يقول القائل :
إِنْ تَلاَشَى الكَوْنَ عَنْ عَيْنِ قَلْبي
شَاهَدَ السِّرُّ غَيْبَهُ في بيَانِ
فَاطْرَح الكَوْنَ عَنْ عِيَانِكَ ، وَامْحُ
نُقْطَةَ الْغَيْنِ إِنْ أَرَدْت تَرَانِي
فمن شاهد حبيبه كاد أن يبدي به ، ويبوح بسره ؛ فرحاً واغتباطاً به ، لولا أن الله يربط على قلبه ، ليكون من الثابتين الراسخين في العلم به ، وإن أبدى سر الحبيب سلط عليه سيف الشريعة ، وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
(5/384)
قلت : المراضع : جمع مُرضِع ، ، وهي المرأة التي ترضع ، أو : مَرْضَع - بالفتح - : موضع الرضاع ، وهو الثدي. و(لا تحزن) : معطوف على (تَقَرَ).
يقول الحق جل جلاله : {وحرّمنا عليه المراضِعَ} أي : تحريم منع ، لا تحريم شرع ، أي : منعناه أن يرضع ثَدْياً غَيْرَ ثدي أمه. وكان لايقبل ثدي مرضع حتى أهمهم ذلك. {من قبلُ} أي : من قبل قَصَصِها أثره ، أو : من قبل أن نرده إلى أمه. {فقالت}
251
أخته. وقد دخلت داره بين المراضع ، ورأته لا يقبل ثدياً : {هل أدُلكم} ؛ أرشدكم {على أهل بيتٍ يكفلونه} ؛ يحفظون موسى {لكم وهم له ناصحون} ؛ لا يقصرون في إرضاعه وتربيته. والنصح : إخلاص العمل من شائبة الفساد. رُوي أنها لما قالت : {وهم له ناصحون} ؛ قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله ، فخذوها حتى تخبر بقصة هذا الغلام ، فهو الذي نحدر ، فقالت : إنما أردتُ : وهُمْ للملك ناصحون.
فانطلقت إلى أمها بأمرهم ، فجاءت بها ، والصبي على يد فرعون يُعلله ؛ شفقة عليه ، وهو يبكي يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها ، فقال لها فرعون : ومن أنتِ منه ، فقد أبى كل ثدي إلا ثديك ؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح ، لا أُوتَى بصبي إلا قَبِلَني. فدفعه إليها ، وأجرى عليها مؤنة الرضاع. قيل : ديناراً في اليوم ، وذهبت به إلى بيتها ، وأنجز الله لها وعده في الرد ، فعندها ثبت واستقر في علمها أنه سيكون نبياً. وذلك قوله تعالى : {فرددناه إلى أمه كي تقرَّ عينُها} بولدها ، {ولا تحزن} لفراقه ، {ولِتَعْلَمَ أن وعْدَ الله حقٌ} ، أي : وليثبت علمها ؛ مشاهدة ، كما ثبت ؛ علماً.
وأما جزعها وحيرتها ؛ فذلك من الطبع البشري الجِبِلِّيِّ ، اللازم لضعف البشرية ، لا ينجو منه إلا خواص الخواص ، وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار في اليوم ، كما قال السدي : لأنه مال حربي ، لا أنه أجرة إرضاع ولدها.
(5/385)
{ولكن أكثرهم} أي : القبط ، أو الناس جملة ، {لا يعلمون} أن ما وعد الله لا بد من إنجازه ، ولو بعد حين ، وهو داخل تحت علمها ، أي : لتعلم أن وعد الله حق ، ولتعلم أن أكثر الناس لا يعلمون فيرتابون فيه. وفيه التعريض بما فرط منها ؛ حين سمعت بوقوع موسى في يد فرعون ، فجزعت ، وهذا من الطبع البشري كما تقدم. وأيضاً يجوز أن يكون الوعد منوطاً بشروط وأسباب ، قد لا تعرفها ، فلذلك لم ينفك خوفها. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 251
الإشارة : وحرمنا على الإنسان المراضع ، من لبان الخمرة الأزلية ، من قبل أن نلقيه بأهلها ، فقالت له العناية السابقة : هل أدلك على أهل بيت الحضرة يكفلونك من رعونات البشرية ، والهفوات القلبية ، وهي الإصرار على المساوئ والذنوب ، ويرضعونك من لبن الخمرة الأزلية. وهم لك ناصحون. يدلونك على الله ولا يدلونك على غيره ؛ فإن من دلك على الله فقد نصحك ، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك ، ومن دلك على الدنيا فقد غشك. فرددناه إلى أمه ، وهي الحضرة القدسية ، التي خرج منها ، بمتابعة شهوته وغفلته ، كي تقر عين روحه بمشاهدة حبيبها ، ولا تحزن على فوات شيء ، إذ لَم تفقد شيئاً ، حيث وجدت الله تعالى ؛ " مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ ؟ وما الذي وَجَدَ من فَقَدَكَ ؟ ". ولتعلم أن وعد الله بالفتح على من توجه إليه بالواسطة حق ، ولكن أكثر أهل الغفلة لا يعلمون
252
جزء : 5 رقم الصفحة : 251
قلت : {على حين غَفْلَةٍ} : حال ، أي : دخل مخفياً.
(5/386)
يقول الحق جل جلاله : {ولما بَلَغَ} موسى {أَشُدَّهُ} أي : نهاية القوم وتمام العقل ، جمع شِدَّةٍ ؛ كنعمة وأنعم. وأول ما قيل في الأشد : بلوغ النكاح ، وذلك أولُه ، وأقصاه : أربع وثلاثون سنة. {واستوى} أي : اعتدل عقله وقوته ، وهو أربعون سنة ، ويُروى أنه لم يبعث نبي إلى على رأس أربعين سنة. {آتيناهُ حُكْماً} : نبوة ، أو حكمة {وعلماً} : فقهاً في الدين ، أو : علماً بمصالح الدارين. والحاصل : لما تكامل عقله وبصيرته آتيناهُ حُكْماً على عبادنا وعلماً بنا. {وكذلك نجزي المحسنين} أي : كما فعلنا بموسى وأمه ؛ لمّا استسلمت لأمر الله ، وألقت ولدها في البحر ، وصدقت بوعد الله ، فرددنا لها ولدها ، ووهبنا له الحكمة والنبوة ، فكذلك نجزي المحسنين في كل أوان وحين.
قال الزجاج : جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان ؛ لأنهما يؤديان إلى الجنة ، التي هي جزاء المحسنين ، والعالم الحكيم من يعمل بعلمه ؛ لأنه تعالى قال : {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة : 102] ، فجعلهم جهالاً ، إذ لم يعملوا بالعلم. هـ.
{ودخل المدينةَ} أي : مصر ، آتياً من قصر ، فرعون ، وكان خارجاً ، وقال السُّدِّي : مدينة منف من أرض مصر ، وقال مقاتل : قرية " حابين " ، على فرسخين من مصر. {على حين غفلةٍ من أهلها} ، وهو مابين العشاءين ، أو : وقت القائلة ، يعني : انتصاف النهار.
قال السدي : لما كبر موسى ؛ ركب مراكب فرعون ، ولبس ملابسَهُ ، فكان يدعى موسى بن فرعون ، فركب فرعونُ يوماً وركب موسى خلفه ، فأدركه المقيل بقرب مدينة منف ، فدخلها نصف النهار ، وقد غلقت أسواقها ، وليس في طرقها أحد ، فوجد موسى رجلين.. إلخ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 253
(5/387)
قال ابن إسحاق : كان يجتمع إلى موسى طائفة من بني إسرائيل ويقتدون به ، فرأى مفارقة فرعون ، وتكلم في ذلك حتى ظهر أمره ، فأخافوه ، فكان لايدخل قرية إلا مستخفياً ، فدخلها على حين غفلة. وقيل : إن موسى لما شبّ علا فرعون بالعصى ، فقال : هذا عدو لي ، فأخرجه من مصر ، ولم يدخل عليهم إلى أن كبر وبلغ أشده ، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها بخبر موسى ، أي : من بعد نسيانهم خبره ، {فوجد فيها رجلين يقتتلان} ؛
253
يتضاربان ، {هذا من شيعته} ؛ ممن على دينه من بني إسرائيل ، وقيل : هو السامري. وشيعة الرجل : أتباعه وأنصاره ، {وهذا من عدوه} ؛ من مخالفيه من القبط ، وهو طباخ فرعون. واسمه : " فليثور " ، وقيل فيهما : " هذا وهذا " ، وإن كانا غائبين ، على جهة الحكاية ، أي : إذا نظر إليهما الناظر قال : هذا وهذا.
(5/388)
وقال ابن عباس : لما بلغ موسى أشده كان يحمي بني إسرائيل من الظلم والسخرة ، فبينما هو يمشي نظر رجلين يقتتلان ، أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل. {فاستغاثه} ؛ فاستنصره {الذي من شيعته على الذي من عدوه} أي : فسأله أن يغيثه الإعانة. ضمَّن استغاث أعان ، فعداه بـ " على ". رُوي أنه لما استغاث به ، غضب موسى ، وقال للفرعوني : خله عنك ؟ فقال : إنما آخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك ، ثم قال الفرعوني لموسى : لقد هممت أن أحمله عليك ، {فوكزه موسى} ؛ ضربه بِجُمْع كفه ، أو : بأطراف أصابعه. قال الفراء الوَكز : الدفع بأطراف الأصابع. {فقَضَى عليه} أي : قتله ، ولم يتعمد قتله ، وكام موسى عليه السلام ذا قوة وبطش ، وإنما فعل ذلك الوكز ؛ لأن إغاثة المظلوم والدفع عن دِين في الملل كلها ، وفرض في جميع الشرائع. وإنما عدَّه ذنباً ؛ لأن الأنبياء لا يكفي في حقهم الإذن العام ، فلذلك {قال هذا من عمل الشيطان} أي : القتل الحاصل ، بغير قصد ، من عمل الشيطان ، واستغفر ، وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان ، وسماه ظلماً لنفسه ، واستغفر منه ؛ لأنه كان مستأمناً فيهم ، أو : لأنه قتله قبل أن يُؤذن له في القتل. وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يُؤمر ، ولأن الخصوص يٌعظمون محقرات ما فرط منهم. {إنه} أي : الشيطان {عدو مُضل مبين} ؛ ظاهر العداوة.
{قال ربِّ} أي : يا رب {إني ظلمتُ نفسي} بفعل صار قتلاً {فاغفرْ لي} زلتي ، {فَغَفَرَ له} زلته ، {إنه هو الغفور} بإقالة الزلل ، {الرحيم} بإزالة الخجل ، {قال ربِّ بما أنعمت عليَّ} أي : بحق إنعامك عليّ بالمغفرة ولم تعاقبني {فلن أكون ظهيراً للمجرمين} أي : لا تجعلني أُعين على خطيئةَ ، تَوَسل للعصمة بإنعامه عليه. وقيل : إنه قسم حُذف جوابه ، أي : أُقْسِمُ بإنعامك عليَّ بالمغفرة ، إن عصمتني ، فلن أكون ظهيراً للمجرمين ، وأراد بمظاهرة المجرمين صُحْبَةَ فرعون ، وانتظامَهُ في جملته ، وتكثير سواده ، حيث كان يركب معه كالولد مع الوالد.
(5/389)
جزء : 5 رقم الصفحة : 253
قال ابن عطية : احتج أهل الفضل والعلم بهذه الآية في منع خدمة أهل الجور ، ومَعُونتهم في شيء من أمورهم ، ورأوا أنها تتناول ذلك. هـ. قال الْوُصَافِي لعطاء بن أبي رباح : إن لي أخاً يأخذ بقلمه ، وإنما يكتب ما يدخل ويخرج ، وله عيال ، ولو ترك لاحتاج وَادّانَ. فقال : من الرأس ؟ فقال : خالد بن عبد الله ، قال : أما تقرأ قول العبد الصالح : {ربّ بما أنعمتَ عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين} ، فإن الله عز وجل سيعينه. هـ.
254
الإشارة : خصوصية الولاية كخصوصية النبوة ، لا تُعطى ، غَالِباً ، إلا بعد بلوغ الأشد وكمال قوة العقل ، وحصول الاستواء ، وهو أن يستوي عنده المدح والذم ، والعز والذل ، والمنع والعطاء ، والفقر والغنى ، وتستوي حاله في القبض والبسط ، والغضب والرضا ، فإذا استوى في هذه الأمور آتاه الله حكماً وعلماً ، وجزاه جزاء المحسنين وكتب شيخ شيخنا إلى بعض تلامذته : أمَّا بعد ، فإن تورعت في أقوالك وأفعالك ، وتوسعت في أخلاقك ، حتى يستوي عندك من من يمدحك ويذمك ، ويعطيك ويمنعك ، ومن يؤذيك وينفعك ، ومن يشدد عليك ويوسع ، فلا أشك في كمالك. هـ.
فإن قلت : لِمَ ذكر الحق ، جَلَّ جلاله ، الاستواء في حق سيدنا موسى ، ولم يذكره في حق نبيه يوسف - عليهما السلام ؟ فالجواب : أن سيدنا يوسف عليه السلام تربى في السجن وفي نار الجلال ، وكل محنة تزيد تهذيباً وتدريباً ، فما بلغ الأشد حتى وقع له كمال الاستواء ، بخلاف سيدنا موسى عليه السلام فإنه تربى في العز والجمال ، فاحتاج إلى تربية وتهذيب ، بعد كمال الأشد ، فلم يحصل له كمال الأدب إلا بعد الاستواء الذي يليق به ، فلذلك ذكره حقه. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 253
قلت : جملة (يسعى) : حال من (رجل) ؛ لأنه وصف بالجار.
(5/390)
يقول الحق جل جلاله : {فأصبح} موسى {في المدينةِ} أي : مصر {خائفاً} على نفسه من قتله ؛ قَوَداً بالقبطي ، وهذا الخوف أمر طبيعي لا ينافي الخصوصية ، {يترقبُ} : ينتظر الأخبار عنه ، أو ما يقال فيه ، أو يترصد الاستفادة منه. وقال ابن عطاء : خائفاً على نفسه ، يترقب نصرة ربه ، {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه} : يستغيثه ، مشتق من الصراخ ؛ لأنه يقع في الغالب عند الاستغاثة. والمعنى : أن الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانياً من قبطي آخر ، {قال له موسى} أي : للإسرائيلي : {إنك لغويٌّ مبين} أي : خال عن الرشد ، ظاهر الغي ، فقد قاتلتَ بالأمس رجُلاً فقتلتُه بسببك. قال ابن عباس : أُتِي فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قد قتلوا منا رجلاً ، فالقصاص ، فقال :
255
ابغُوني القاتل والشهود ، فبينما هم يطلبون إذ مر موسى من الغد ، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً آخر ، يريد أن يسخره ، فاستغاث به الإسرائيلي على الفرعوني ، فوافق موسى نادماً على القتل ، فقال للإسرائيلي : إنك لغوي مبين.
{فلما أن أرادَ} موسى {أن يبطش بالذي} ؛ بالقبطي الذي {هو عدو لهما} ؛ لموسى وللإسرائيلي ؛ لأنه ليس على دينهما ، أو : لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل ، أي : فلما مدّ موسى يده ؛ ليبطش بالفرعوني ، خشي الإسرائيلي أن يريده ، حين قال : {إنك لغوي مبين} ، فقال : {يا موسى أتريدُ أن تقتلني كما قتلتَ نفساً بالأمس} ، يعني القبطي ، {إنْ} ما {تريدُ إلا أن تكون جباراً} ؛ قتالاً بالغضب ، {في الأرض} ؛ أرض مصر ، {وما تريدُ أن تكون من المصلحين} في كظم الغيظ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 255
(5/391)
وقيل : القائل : {يا موسى أتريد...} إلخ ، هو القبطي ، ولم يعلم أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس ، ولكن لما قصد أن يمنعه من الإسرائيلي استدل على أن الذي قتل صاحب هذا الرجل بالأمس هو موسى ، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس ، فأمسك موسى عنه ، ثم أخبر فرعون بذلك ؛ فأمر بقتل موسى.
{وجاء رجلٌ من أقصى المدينة} ؛ من آخرها ، واسمه : " حزقيل بن حبورا " ، مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون ، {يسعى} : يُسرع في مشيه ، أو : يمشي على رجله ، {قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك} ، أي : يتشاورون في قتلك ، ويأمر بعضهم بعضاً بذلك. والائتمار : التشاور ، {فاخْرجْ} من المدينة ، {إني لك من الناصحين} ، فاللام في (لك) : للبيان ، وليس بصلة ؛ لأن الصلة لا تتقدم على الموصول ، إلا أن يُتَسَامحَ في المجرور ، {فخرج منها} ؛ من مصر {خائفاً يترقّبُ} : ينتظر الطلب ويتوقعه ، {قال ربّ نجني من القوم الظالمين} ؛ قوم فرعون. والله تعالى أعلم.
(5/392)
الإشارة : في الآية دليل على أن الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافي الخصوصية ؛ لأنه أمر جِبِلِّي ، لكنه يخف ويهون أمره ، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك ، يفرّ من الله إلىالله ، ولا ينافي التوكل ، وقد اختفى صلى الله عليه وسلم من الكفار بغار ثور ، واختفى الحسن البصري من الحَجَّاج ، عند تلميذه حبيب العجمي. وفيها أيضاً دليل على أن المعصية قد تكون سبباً في نيل الخصوصية ، كأكل آدم من الشجرة ، كان سبباً في نيل الخلافة ، وعُمْرَةِ الأرض ، وما نشأ من صُلبه من الأنبياء والأولياء وجهابذة العلماء ، وكقتل موسى عليه السلام نفساً لم يُؤمر بقتلها ، كان سبباً في خروجه للتربية عند شعيب عليه السلام ، وتهيئته للنبوة والرسالة والاصطفائية ، فكل ما يُوجب التواضع والانكسار يورث التقريب عند الملك الغفار ، والحاصل : أن من سبقت له العناية ، ونال من الأزل مقام المحبوبية ؛ صارت مساوئه محاسن ، ومن سبق له العكس صارت محاسنه مساوئ. اللهم
256
اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت ، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت. وفي الحديث : " إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب ". قال في القوت : واعلم أن مسامحة ، الله عز وجل لأوليائه - يعني : في هفواتهم - في ثلاث مقامات : أن يقيمه مَقَامَ حَبيبٍ صَديقٍ ، لِمَا سبق من قدم صدق ، فلا تنقصه الذنوب ؛ لأنه حبيب. المقام الثاني : أن يقيمه مقام الحياء منه ، بإجلال وتعظيم ، فيسمح له ، وتصغر ذنوبه ؛ للإجلال والمنزلة ، ولا يمكن كشف هذا المقام ، إلا أنَّا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر طائفة فقال : " يدفع عنهم مساوئ أعمالهم بمحاسن أعمالهم " المقام الثالث : أن يقيمه مقام الحزن والانكسار ، والاعتراف بالذنب والإكثار ، فإذا نظر حزنه وهمه ، ورأى اعترافه وغمه ، غفر له ؛ حياء منه ورحمة. هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 255
(5/393)
يقول الحق جل جلاله : {ولما توجَّه} موسى {تلقاءَ مَدْينَ} ؛ نحوها وجهتها.
ومدين : قرية شعيب ، سُميت بمدين بن إبراهيم ، كما سميت المدائن باسم أخيه مدائن ، ويقال له أيضاً : " مدان بن إبراهيم " ، ولم تكن مدين في سلطان فرعون ، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام ، ولعله إنما لم يتسلط عليها ؛ لِمَا وصله من خبر إهلاك أهلها لما طغوا على أنبيائهم ، فخاف على نفسه. قال ابن عباس : خرج موسى ، ولم يكن له علم بالطريق إلا حسن الظن بربه.
{قال عسى ربي أن يهديني سواءَ السبيل} أي : وسطه ونهجه. فلما خرج ، عَرَض له ثَلاَثُ طرق ، فأخذ في أوسطها ، وجاء الطلاب عَقِبَهُ ، فأخذوا في الآخَرَيْنِ. رُوي أن مَلكاً جاءه على فرس بيده عَنَزَة ، فانطلق به إلى مدين. ورُوي أنه خرج بلا زاد ولا درهم ، ولا ظهر ، ولا حِذاء - أي : نعل - ، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ، فما بلغ مدين حتى وقع خُفُّ قَدَمِهِ ، وخضرة البقل ترى على بطنه.
{ولما وَرَدَ} ؛ وصل {ماء مدين} ؛ بئراً لهم ، {وجد عليه} ؛ على جانب البئر {أُمّةً} ؛ جماعة كثيرة {من الناس} ؛ من أناس مختلفين {يسقون} مواشيهم ، {ووجد من دونِهِمُ} ؛ في مكان أسفل من مكانهم {امرأتين تَذُودَان} : تطردان غَنَمَهُمَا عن الماء ، حتى
257
تَصْدُرَ مواشي الناس ثم تسقيان ؛ لأن علىالماء من هو أقوى منهما ، فلا يتمكنان من السقي. أو : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم. والذود : الطرد والدفع.
(5/394)
{قال} لهما موسى : {ما خطبُكما} : ما شأنكما لا تسقيان ؟ والأصل : ما مخطوبكما ، أي : مطلوبكما ، فسمي المطلوب خَطْباً ، {قالتا لا نسقي} غنمنا {حتى يُصْدِرَ الرّعَاءُ} ، أي : يصرفوا مواشيهم ، يقال : أصدر عن الماء وصدر ، والمضارع : يَصْدُر ويَصْدِر ، والرعاء : جمع راع ، كقائم وقيام ، والمعنى : لا نستطيع مزاحمة الرجال ، فإذا صدروا سقينا مواشينا ، {وأبُونا شيخ كبير} السن ، لا يمكنه سقي الأغنام وهو شعيب بن نويْب بن مدين بن إبراهيم - عليهما السلام - وقيل : هو " يثرون " ابن أخي شعيب ، وكان شعيب قد مات بعدما كفَّ بَصَرُهُ ، ودفن بين المقام وزمزم. والأول أصح وأشهر.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 257
فسقى لهما} أي : فسقى غنمهما لأجلهما ؛ رغبة في المعروف وإغاثة الملهوف ، رُوي أنه نحى القوم عن رأس البئر ، وسألهم دلواً ، فأعطوه دلوهم ، وقالوا : استق به ، وكانت لا ينزعها إلا أربعون ، فاستقى بها ، وصبَها في الحوض ، ودعا بالبركة. وقيل : كانت آبارهم مغطاة بحجار كبار ، فعمد إلى بئر ، وكان حجرها لا يرفع إلا جماعة ، فرفعه وسقى للمرأتين. ووجه مطابقة جوابهما سؤاله : أنه سألهما عن سبب الذود ، فقالتا : السبب في ذلك أن امرأتان مستورتان ضعيفتان ، لا نقدر على مزاحمة الرجال ، ونستحي من الاختلاط بهم ، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا. وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنيته بسقي الماشية ؛ لأن الأمر في نفسه مباح مع حصول الأمن ، وأما المروءة فعادات الناس فيها متباينة ، وأحوال العرب فيها خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر ، خصوصاً إذا كانت الضرورة. قاله النسفي. قلت : وقد كنت أعترض على أهل الجبل رَعْيَ النِّساءِ المواشي حتى تذكرت قضية ابنتي شعيب ، لكن السلامة في زماننا هذا حبس النساء في الديار ؛ لكثرة أهل الفساد.
(5/395)
{ثم} لما سقى لهما {تولى إلى الظل} ؛ ظل شجرة. عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله ؛ قال : أحييت ليلتين على جمل لي ، حتى صبّحْت مدين ، فسالت عن الشجرة التي أوى إليها موسى ، فإذا هي شجرة خضراء ، فأخذ جملي يأكل منها ثم لفظها. هـ. وفي الآية دليل على جواز الاستراحة والاستظلال في الدنيا ، بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة ، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
ثم بث شكواه لمولاه {فقال ربِّ إِني لِمَا أنزلتَ إليَّ من خيرٍ} قليل أو كثير {فقير} ؛ محتاج. قال ابن عباس : لقد قال ذلك وإن خضراء البقل لتتراءى في بطنه ، من الهزال. قيل : لم يذق طعاماً منذ سبعة أيام ، وقد لصق بظهره بَطْنُهُ ، وما سأل الله تعالى الأكلة. وفي هذا تنبيه على هوان الدنيا على الله تعالى. وقال ابن عطاء : نظر من العبودية
258
إلى الربوبية ، وتكلم بلسان الافتقار ، لما ورد على سره من الأنوار. هـ.
الإشارة : ولما توجه القلبُ تلقاء مَدْيَنِ المآرب ، ومنتهى الرغائب - وهي الحضرة القدسية - قال : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ، أي : وسط الطريق التي توصل إليها ، وهو شيخ التربية. ولَمَّا ورد مناهله ، ومحلَ شربه وجد عليه أمة من الناس يسقون قلوبهم من شراب تلكَ الخمرة ، ويطلبون مثل ما يطلب ، فإن كان قوياً في حاله ؛ وصل من كان ضعيفاً وسقى له ، ثم نزل إلى ظل المعرفة ، في نسيم برد الرضا والتسليم ، قائلاً ، بلسان التضرع ، سائلاً من الله المزيد : ربِّ إني لما أنزلت إليّ من خير الدارين ، وغنى الأبد ، فقير محتاج إلى مزيد الفضل والكرم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 257
(5/396)
وقال في لطائف المنن : {ثم تولى إلى الظل} ؛ قصداً لشكر الله تعالى على ما ناله من النعمة - يعني : نعمة الظل الحسي - وجعله أصلاً في استعمال الطيبات ، وتناولها بقصد الشكر ، ومثله في التنوير. وفي سنن أبي داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كان صلى الله عليه وسلم يُسْتعذب له الماء من بُيوت السُّقيا " ، قال ابن قتيبة : هي عَيْنٌ ، بينها وبين المدينة يومان. هـ. وكان الشيخ ابن مشيش يقول لأبي الحسن رضي الله عنه : (يا أبا الحسن ، بَرِّد الماءَ ؛ فإن النفس إذا شربت الماء البارد ؛ حمدت الله بجميع الجوارح ، وإذا شربت الماء السخن ؛ حمدت الله بكزازة).
جزء : 5 رقم الصفحة : 257
قلت : (تمشي) : حال من (إحداهما) ، و (على استحياء) : حال من ضمير (تمشي) ، أي : تمشي مستحيية. و(القصص) : مصدر ، سُمِّيَ به المقصوص.
يقول الحق جل جلاله : {فجاءته إحداهما} ؛ وهي التي تزوجها ، وذلك أنه لما سقى لهما رجعا إلى أبيهما بغنمها بِطاناً حُفَّلاً ، فقال لهما : ما أعجلكما ؟ فقالتا له : وجدنا
259
رجلاً صالحاً رحمنا ؛ فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما : أدعيه ، فجاءته {تمشي على استحياء} قد سترت وجهها بكفها ، واستترت بكُمِّ درعها. وهذا دليل على كمال إيمانها وشرف عنصرها ؛ لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ، ولم تعلم أيجيبها أم لا ؟ فقالت : {إن أبي يدعوك ليجزيك أجرَ ما سَقيت لنا} ، " ما " مصدرية ، أي : أجر سُقْيَاك لنا ، فتبعها موسى ، فألزقت الريح ثوبها بجسدها ، فوصفته ، فقال لها : امشي خلفي ، وانعتي الطريق ، فإننا بَني يعقوب ، لا ننظر إلى أعجاز النساء.
(5/397)
{فلما جاءه وقصَّ عليه القَصص} ، أي : قصته وأحواله مع فرعون ، وكيف أراد قَتْلَهُ ، {قال} له : {لا تخفْ نجوتَ من القوم الظالمين} ؛ فرعون وقومه ؛ إذ لا سلطان له على أرضنا - مدين - ، أو : قَبِلَ الله دعاءك في قولك : {رب نجني من القوم الظالمين}. وفيه دليل على العمل بخير الواحد ، ولو أنثى ، والمشي مع أجنبية على ذلك الاحتياط والتورع. قاله النسفي. وفيه نظر ؛ لعصمة الأنبياء - عليهم السلام - ، وما أخذ الأجر على البر والمعروف ؛ فقيل : لا بأس به عند الحاجة ، كما كان لموسى عليه السلام ، على أنه رُوي أنه لمّا قالت له : {ليجزيك} ؛ كره ذلك. وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها ؛ لأن للقاصد حرمة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 259
ولما وضع شعيب الطعام بين يديه ؛ امتنع ، فقال شعيب : ألست جائعاً ؟ فقال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون عوضاً مما سَقَيْتُ لهما ، وإنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا ، ولا نأخذ على المعروف شيئاً ، فقال شعيب : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا ، فأكل.
{قالت إحداهما يا أبَتِ استأجرْهُ} ، أي : اتخذه أجيراً لرعي الغنم. رُوي أن كبراهما كانت تسمى : " صفراء " ، والصغرى : " صفيراء " ، وقيل : " صابورة " و " ليا ". وصفراء هي التي ذهبت به ، وطلبت إلى أبيها أن يستأجره ، وهي التي تزوجها. قاله وهب بن منبه وغيره فانظره مع ما في حديث ، قال صلى الله عليه وسلم : " تزوج صغراهما ، وقضى أوفاهما " ويمكن الجمع بأن يكون زوّجه إحداهما ثم نقله إلى الأخرى.
(5/398)
ثم قالت التي طلبت استئجاره : {إن خيرَ من استأجرت القويُّ الأمين} ، فقال : ما أَعْلَمَكِ بقوته وأمانته ؟ فذكرت نزع الدلو ، أو رفع الحجر عن البئر ، وأمْرها بالمشي خلفه. وفي رواية عند الثعلبي. أما قوته : فإنه عمد إلى صخرة لا يرفعها إلا أربعون رجلاً ، فرفعها عن فم البئر. ثم ذكرتْ أمر الطريق. وقولها : {إنَّ خيرَ من استأجرت...} إلخ : كلام جامع ؛ لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان ؛ الكفاية والأمانة ، في القائم بأمرك ، فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقيل : القوي في دينه ، الأمين في جوارحه. وقد استغنت بهذا الكلام ، الجاري مجرى المثل ، عن أن تقول : استأجره لقوته وأمانته.
260
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب ، وصاحب يوسف في قوله : {عَسَىا أَن يَنفَعَنَآ} [يوسف : 21] ، وأبو بكر في استخلافه عمر.
{قال} شعيب لموسى - عليهما السلام- : {إني أُريد أن أُنكِحَك} : أُزوجك {إحدىَ ابنتي هاتينِ} ، وقوله : {هاتين} يدل على أن له غيرهما. وهذه مواعدة منه ، لا عقد ، وإلا لقال : أنكحتك. {على أن تأجُرَنِي} أي : تكون أجيراً لي ، من أجرته : إذا كنت له أجيراً {ثمانِيَ حِجَجٍ} ؛ سنين والحجة : السنة. والتزوج على رعي الغنم جائز في شرعنا ، على خلاف في مذهبنا. {فإِن أتممتَ عشراً} أي : عشر حجج {فمن عندك} أي : فلذلك تفضلٌ منك ، ليس بواجب عليك ، أو : فإتمامه من عندك ، ولا أحتمه عليك. {وما أريد أن أشق عليك} بإلزام أتم الأجلين. من المشقة ، {ستجدني إن شاء الله من الصالحين} في حسن المعاملة ، والوفاء بالعهد ، أو مطلقاً. وعلق بالمشيئة ، مراعاة لحسن الأدب مع الربوبية.
(5/399)
{قال} موسى عليه السلام : {ذلك} العهد وعقد الأجرة {بيني وبينك} أي : ذلك الذي قُلْتَهُ ، وشارطتني عليه ، قائم بيننا جميعاً ، لا يخرج واحد منا عنه. ثم قال : {أيَّما الأجلين قضيتُ} أي : أيُّ الأجلين ؛ قضيت من الأجلين : العشر أو الثماني ، {فلا عدوان عَلَيّ} أي : لا يتعدى عليّ في طلب الزيادة عليه ، قال المبرد : قد علم أنه لا عدوان عليه في إتمامهما ، ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء ، وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان فلذلك طلب الزيادة على الأقل. {والله على ما نقول وكيل} أي : رقيب وشهيد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 259
واختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح على قولين : أحدهما : أنه لا ينعقد إلا بشاهدين ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك : ينعقد بدون شهود ؛ لأنه عَقْدُ معاوضة ، فلا يشترط فيه الإشهاد ، وإنما يشترط فيه الإعلان ، والإظهار بالدف والدخان ليتميز من السفاح ، ويجب عند الدخول.
رُوي أن شعيباً كانت عنده عصِيّ الأنبياء - عليهم السلام - ، فقال لموسى بالليل : ادخل ذلك البيت فخذ عصاً من تلك العصي ، فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ، ولم يزل الأنبياء - عليهم السلام - يتوارثونها ، حتى وقعت إلى شعيب ، فلما أخذها ، قال له شعيب : ردها وخذ غيرها ، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات. - وفي رواية السدي : أمر ابنته أن تأتيه بعصا فجاءته بها ، فلما رآها الشيخ قال : آتيه بغيرها ، فألقتها لتأخذ غيرها ، فلا تصير في يده إلا هي ، مراراً ، فرفعتها إليه ، فعلم أن له شأناً. ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغتَ مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك ، فإن الكلأ ، وإن كان بها أكثر ، إلا أن فيها تنيناً ، أخشاه عليك وعلى الغنم ، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ، فمشى على أثرها ، فإذا عشب وريف لم ير مثله ، فنام ، فإذا التنين قد أقبل ، فحاربته العصا حتى قتلته ،
261
(5/400)
وعادت إلى جنب موسى دامي ، فلما أبصرها دامية ، والتنينَ مقتولاً ؛ ارتاح لذلك. ولما رجع إلى شعيب بالغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن ، وأخبره موسى ، فرح ، وعلم أن لموسى شأناً ، وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي ، هذا العام ، كُلَّ أَدْرَعَ وَدَرْعَاءَ - أي : كل جدي أبلق ، وأثنى بلقاء - فأوحى الله تعالى إلى موسى في المنام : أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقى منه الغنم ، فضرب ، ثم سقى الأغنام ، فوضعت كلها بلقاء ، فسلمها شعيب إليه.
وذكر الإمام اللجائي في كتابه (قطب العارفين) : أن موسى عليه السلام انتهى ، ذات يوم ، بأغنامه إلى واد كثير الذئاب ، وكان قد بلغ به التعب ، فبقي متحيراً ، إن اشتغل بحفْظ الغنم عجز عن ذلك ؛ لغلبة النوم عليه والتعب ، وإن هو طلب الراحة ، وثبَت الذئابُ على الغنم ، فرمى السماء بطرفه ، وقال : إلهي إنه أحاط علمك ، ونفذت إرادتك ، وسبق تقديرك ، ثم وضع رأسه ونام. فلما استيقظ ؛ وجد ذئباً واضعاً عصاه على عاتقه ، وهو يرعى الغنم ، فتعجب موسى من ذلك ، فأوحى الله إليه : يا موسى ؛ كن لي كما أريد ، أكن لك كما تريد. قال : فهذه إشارة تدل على أن : مَنْ هَرَبَ مِنَ الله إلى الله ؛ كفاه الله ، عز وجل ، مَنْ دُونَهُ. هـ. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 259
(5/401)
الإشارة : فجاءته - أي : القلب - إحدى الخصلتين ؛ الفناء والبقاء ، تمشي على مهل وقدر ؛ فإن الوصول إلى المقامات إنما يكون بتدريج ، على حسب القَدَر السابق. قالت إحدى الخصلتين : إن ربي يدعوك إلى حضرته ؛ ليجزيك أجر ما سقيت ، واستعملت في جانب الوصول إلينا. فلما جاءه ، أي : وصل إليه ، وتمكن منه ، وقص عليه القصص ، وهو ما جرى له مع نفسه وجنودها من المجاهدات والمكابدات ، قال : لا تخف اليوم ، حين وصلت إلينا ، نجوت من القوم الظالمين ، قالت إحداهما : يا رب استأجره في العبودية شكراً ، إن خير من استأجرت القوي الأمين ؛ لأن عمله بالله ، محفوفاً برعاية الله ، قال : إني أريد أن أعطيك إحدى الخصلتين ، إما الإقامة في الفناء المستغرِق ، أو الرجوع إلى البقاء المستفيق ، لتقوم بالأدب على ان تخدم ثماني حجج ، فإن أتممت عشراً ، لزيادة التمكين ، فمن عندك ، فأقل خدمة المريد للشيخ ثماني سنين ، ونهايتها نهاية التمكين. قال الورتجبي : لأن شعيباً ، عليه السلام رأى بنور النبوة أن موسى عليه السلام يبلغ درجة الكمال في ثماني حجج ، ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك ، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج ؛ لأنه رأى أن بعد العشرة لا يبقى مقام الإرادة ، ويكون بعد ذلك حراً ، ولذلك قال : وما أريد أن أشق عليك. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 259
يقول الحق جل جلاله : {فلما قضى موسى الأجلَ} ، قال صلى الله عليه وسلم : " قضى أبعدهما وأطيبهما " ، وفي رواية : " أبرهما وأوفاهما " {وسارَ بأهله} أي : امرأته ، نحو مصر ، قال مجاهد : ثم استأذن موسى أن يزور أهله بمصر ، فأذن له ، فسار بأهله إلى البَرِّيَّةِ ، فأوى إلى جانب الطور الغربي الأيمن ، في ليلة مظلمة شديدة البرد ، وكان أخذ على غير طريق ، يخاف ملوك الشام - قلت : ولعلهم كانوا من تحت يد قرعون - فأخذ امْرَأَتَهُ الطَّلقُ ، فقدح زنده ، فلم يور ، فآنس من جانب الطور ناراً. هـ.
(5/402)
وقال ابن عطاء : لما تم أجل المحنة ، ودنت أيام الزلفة ، وظهرت أنوار النبوة ، سار بأهله ؛ ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه. هـ. {آنس} أي : أبصر {من جانب الطُور} أي : من الجهة التي تِلْوَ الطورِ {ناراً قال لأهله امكثوا إني آنستُ ناراً لعلي آتيكم منها بخبر} عن الطريق ؛ لأنه كان ضل عنها ، {أو جذوة من النار} أي : قطعة وشُعلة منها ، والجُذوة - مثلثة الجيم : العُود الذي احترق بعضه ، وجمعه : " جِذّى ". {لعلكم تصطلون} ؛ تستدفئون بها. والاصطلاء على النار سُنَّة المتواضعين. وفي بعض الأخبار : " اصطلوا ؛ فإن الجبابرة لا يصطلون ".
{فلما أتاها نُودي من شاطىء الوادِ الأيمنِ} بالنسبة إلى موسى ، أي : عين يمين موسى ، {في البقعة المباركةِ} بتكليم الله تعالى فيها ، {من الشجرة} ؛ بدل من " شاطىء " : بَدَلَ اشتمالٍ أي : من ناحية الشجرة ، وهو العنَّاب ، او العوسج ، أو : سمرة. وقال وهب : عُليقاً. {أن يا موسى}. أي : يا موسى ، أو : إنه يا موسى {إني أنا الله ربُّ العالمين} ، قال البيضاوي : هذا ، وإن خالف ما في " طه " و " النمل " ؛ لفظاً ، فهو طبْقُهُ في المقصود. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 262
قال جعفر الصادق : أبصر ناراً ، دلته على الأنوار ؛ لأنه رأى النور على هيئة النار ، فلما دنا منها ؛ شملته أنوار القدس ، وأحاطت به جلابيب الأنس ، فخاطبه الله بألطف خطاب ، واستدعى منه أحسن جواب ، فصار بذلك مُكَلَّماً شريفاً ، أُعْطِيَ ما سأل ، وأمن
263
ممن خاف. هـ.
قال القشيري : فكان موسى عند الشجرة ، والنداء من الله لا منها ، وقد حصل الإجماع أن موسى ، تلك الليلة ، سمع كلام الله ، ولو كان النداء من الشجرة ؛ لكانت المتكلمة هي ، فلأجل الإجماع قلنا : لم يكن النداء منها ، وإلا فنحن نجوز أن يخلق الله نداء في الشجرة. هـ. قلت : وسيأتي في الإشارة ما لأهل التوحيد الخاص ، وما قاله - هو مذهب أهل الظاهر.
(5/403)
ثم قال تعالى : {وأن أَلْق عَصَاكَ} ، أي : نودي : أن ألق عصاك ، فألقاها ، فقلبها الله ثعباناً ، {فلما رآها تهتزُّ} ؛ تتحرك {كأنها جانٌّ} ؛ حية رقيقة. فإن قيل : كيف قال في موضع : (كأنها جان) ، وفي أخرى : {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الأعراف : 143] ؟ قلت : هي في أول أمرها جان ، وفي آخر أمرها ثعبان ؛ لأنها كانت تصير حية على قدر العصا ، ثم لا تزال تنتفخ حتى تصير كالثعبان ، أو : يُريد في سرعة الجان وخفته ، وفي قوة الثعبان. فلما رآها كذلك {ولّى مُدْبِراً ولم يُعقِّبْ} ؛ ولم يرجع عقبه. فقيل له : {يا موسى أقبلْ ولا تخفْ إنك من الآمنين} ، أي : أمنت من أن ينالك مكروه من الحية.
و {اسلكْ} : أَدْخِلْ {يدكَ في جَيْبِكَ} ؛ جيب قمصيك {تخرج بيضاءَ} لها شعاع كشعاع الشمس {من غير سُوءٍ} ؛ برص. {واضمم إليك جناحكَ من الرَّهْبِ} ، أي : الخوف ، فيه لغات : " الرُّهبُ " ، بفتحتين ، وبالفتح والسكون ، وبالضم معه ، وبضمتين. والمعنى : واضمم يدك إلى صدرك ؛ يذهب ما لحقك من الخوف لأجل الحية ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : (كل خائف ، إذا وضع يده على صدره ، ذهب خوفه). وقيل : المراد بضم يده إلى جناحه تجلده ، وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية ، حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر ؛ لأنه إذا خاف ؛ نشر جناحيه وأرخاهما.
{فذانِك} أي : اليد والعصا ، ومن شدد ؛ فإحدى النونين عِوَضٌ من المحذوف ، {بُرهانان} أي : حجتان نيرتان. وسميت الحجة برهاناً ؛ لإنارتها ، من قولهم : بَره الشيء : إذا ابيض ، والمرأة بَرهَاءُ وَبرَهْرَهَةٌ : أي : بيضاء. {من ربك إلى فرعون وملئه} أي : أرسلناك إلى فرعون وقومه بهاتين الحجتين ، {إنهم كانوا قوماً فاسقين} : خارجين عن الحق ، كافرين بالله ورسوله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 262
(5/404)
الإشارة : قد تقدم في سورة " طه " بعض إشارتها. ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد ، بعد كمال تربيته ، كمال ، وأما قبل كماله : فإن كان بإذن شيخه ؛ فلا يضره. وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره. وقوله تعالى : {وسار بأهله} ؛ قال الورتجبي : افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار. هـ. وقوله
264
تعالى : {آنست ناراً} ؛ قال الورتجبي : الحكمة في ذلك : أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة ، لذلك تجلى النور في النار ؛ لاستئناسه بلباس الاستئناس ، ولا تخلوا النار من الاستئناس ، خاصة في الشتاء ، وكان شتاءً ، فتجلى الحق بالنور في لباس النار ؛ لأنه كان في طلب النار ، فأخذ الحق مراده ، وتجلى مِنْ حَيْثُ إِرَادَاته ، وهو سنة الله تعالى. هـ.
وقوله تعالى : {من الشجرة} ؛ أي : نودي منها حقيقة ؛ إذ ليس في الوجود إلا تجليات الحق ومظاهره ، فيكلم عباده من حيث شاء منها. قال في العوارف : الصوفي ؛ لتجرده ، يشهد التالي كشجرة موسى ، حيث أسمعه الله خطابه منها ، بأني أنا الله لا إله إلا أنا. هـ. فأهل التوحيد الخاص لا يسمعون إلا من الله ، بلا واسطة ، قد سقطت الوسائط في حقهم ، حين غرقوا في بحر شهود الذات ، فافهم. وقال في القوت : كانت الشجرة وجهة موسى عليه السلام ، كلمة الله عز وجل منها ، كما قال بعضهم : إن قوله تعالى : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف : 107 ، والشعراء : 32] ، أي : بالجبل ، كان الجبل من جهة الحس حجاباً لموسى ، كشفه الله عنه ، فتجلى به ، كما قال : {من الشجرة} ؛ فكانت الشجرة وجهة له عليه السلام هـ ، بإيضاح. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 262
(5/405)
يقول الحق جل جلاله : {قال} موسى - لما كُلف بالرسالة إلى فرعون : {ربِّ إني قتلتُ منهم نفساً فأخاف أن يقتلونِ} بها ، {وأخي هارونُ هو أفصح من لساناً فأرسِلْه معي رِدْءاً} ؛ أي : عوناً. يقال : ردأته : أعنته. وقرأ نافع : بالتخفيف ، {يُصَدِّقني} : جواب الأمر ، ومن رفعه ؛ جعله صفة لردء ، أي : ردءاً مصدقاً لي. ومعنى تصديقه : إعانته بزيادة البيان ، في مظان الجدال ، إن احتاج إليه ؛ ليثبت دعواه ، لا أن يقول له : صدقت ، ففضل اللسان إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان ، وأما قوله : صدقت ؛ فسَحْبَانُ وبَاقِلٌ فيه مستويان. {إِني أخاف أن يُكذبون} في دعوى الرسالة.
{قال ستنشُدُّ عَضُدَك بأخيك} أي : سنقويك به ؛ إذ اليد تشد بشدة العضد ؛ لأنه قوام اليد ، فشد العضد كناية عن التقوية ؛ لأن العضد ، إذا اشتد ، قَوِيَ على محاولة الأمور ، أي : سنعينك بأخيك ، {ونجعلُ لكما سلطاناً} ؛ غلبة وتسلطاً وهيبة في قلوب الأعداء ، {فلا يَصِلُون إليكما بآياتنا} ؛ بسبب آياتنا ، القاهرة لهم عن التسلط عليكم ، فالباء تتعلق بيصلون ، أو : بنجعل لكما سلطاناً ، أي : تسلطاً بآياتنا ، أو : بمحذوف ، أي : اذهبا بآياتنا ،
265
أو : هو بيان لغالبون ، أي : {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} ، أي : المنصورون.
(5/406)
الإشارة : إذا اجتمع في زمانٍ نبيان ، أو : وليان ، لا تجدهما إلا متخالفين في القوة والليونة ، أو في السكر والصحو ، فكان مُوسَى في غاية القوة ، وأخوه في غاية الليونة ، وكان موسى عليه السلام في أول الرسالة غالباً عليه الجذب ، وأخوه غالباً عليه الصحو ، فلذلك استعان به. قال الورتجبي : افهَمْ أن مقام الفصاحة هو مقام الصحو والتمكين ، الذي يقدر صاحبه أن يخبر عن الحق وأسراره ، بعبارة لا تكون بشيعة في موازين العلم. وهذا حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : " أنا أفصح العرب " و " بُعثتُ بجوامع الكلم " وهذه قدرته قادرية اتصف بها العارف المتمكن ، الذي بلغ مشاهدة الخاص ، ومخاطبة الخاص ، وكان موسى عليه السلام في محل السكر في ذلك الوقت ، ولم يطق أن يعبر عن حاله كما كان ؛ لأن كلامه ، لو خرج على وزان حاله ، يكون على نعوت الشطح ، عظيماً في آذان الخلق ، وكلام السكران ربما يفتتن به الخلق ، لذلك سأل مقام الصحو والتمكين بقوله : {واحلل عقدة من لساني} ؛ لأن كلامه من بحر المكافحة والمواجهة الخاصة ، التي كان مخصوصاً بها عن أخيه. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
يقول الحق جل جلاله : {فلما جاء موسى بآياتنا} ؛ معجزاتنا التسع {بيناتٍ} ؛ واضحات {قالوا ما هذا إلاّ سِحْرٌ مُفْتَرى} ؛ سحر تعمله أنت ، ثم تفتريه على الله ، أو : سحر موصوف بالافتراء ، كسائر أنواع السحر ، وليس بمعجزة من عند الله ، {وما سمعنا بهذا} ، يعني : السحر ، أو : ادعاء النبوة ، {في آبائنا الأولين} ، الجار : حال منصوبة بهذا ، أي : ما سمعنا بهذا كائناً في آبائنا ، أي : ما حُدِّثْنَا بكونه فيهم ، ولا موجوداً في آبائهم.
266
(5/407)
{وقال موسى ربي أعلمُ بمن جاء بالهُدَى من عنده} ، فيعلم أني محق ، وأنتم مبطلون ، وقرأ ابن كثير : " قال " ؛ بغير واو ؛ جواباً لمقالتهم. {ومَن تكونُ له عاقبةُ الدار} أي : العاقبة المحمودة ، فإن المراد بالدار : الدنيا ، وعاقبتها الأصلية هي الجنة ؛ لأن الدنيا خلقت مَعْبراً ومجازاً إلى الآخرة ، والمقصود منها ، بالذات ، هو المجازاة على الأعمال فيها من الثواب الدائم ، أوالعقاب الأليم ، {إنه لا يُفلِحُ الظالمون} ؛ لا يفوزون بالهدى في الدنيا ، وحسن العاقبة في العقبى.
قال النسفي : قل ربي أعلم منكم بحال من أَهَّلَهُ الله للفلاح الأعظم ؛ حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى ، ووعده حُسْنَ العُقْبَى ، يعني نفسه ، ولو كان كما تزعمون ، ساحراً ، مفترياً ، لما أَهَّلَهُ لذلك ؛ لأنه غني حكيم ، لا يرسل الكاذبين ، ولا يُنَبِّىءُ الساحرين ، ولا يفلح عنده الظالمون ، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة ؛ لقوله تعالى : {أُوْلَـائِكَ لَهُمْ عُقْبَىا الدَّارِ جَنِّـاتِ عَدْنٍ} [الرعد : 22]. والمراد بالدار : الدنيا ، وعاقبتها : أن تختم للعبد بالرحمة والرضوان ، ويلقى الملائكة بالبشرى والغفران. هـ.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 266
وقال فرعونُ يا أيها الملأُ ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري} ، قصد بنفي علمه بإله غيره نَفِيَ وُجُودِهِ ، أي : مالكم إله غيري. قاله ؛ تجبراً ومكابرة ، وإلا فهو مقر بالربوبية ؛ لقوله تعالى ؛ حاكياً عن موسى عليه اسلام : {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـاؤُلااءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} [الإسراء : 102] ، ورُوي أنه كان إذا جن الليل ، لبس المسوح وتمرغ في الرماد ، وقال : يا رب إني كذاب فلا تفضحني.
(5/408)
ثم أَمَرَ ببنيان الصرح زيادة في الطغيان ، بقوله : {فأوقِدْ لي يا هامانُ على الطين} أي : اطبخ لي الآجر واتخذه. وإنما لم يقل مكان الطين : آجرّ ؛ لأنه أول من عمله ، فهو معلمه الصنعة بهذه العبارة ، {فاجعل لي صرحاً} أي : قصراً عالياً ، {لعَلِّي أَطَّلِعُ} أي : أصعد. فالطلوع والاطلاع : الصعود ، {إلى إِلهِ موسى} ، حسب الجاهل أنه في مكان مخصوص ، كما كان هو في مكان ، {وإِني لأظنه} أي : موسى {من الكاذبين} في دعواه أن له إلهاً ، وأنه أرسله إلينا رسولاً.
وهذا تناقض من المخذول ، فإنه قال أولاً : {ما علمتُ لكم من إله غيري} ، ثم أظهر حاجته إلى هامان ، وأثبت لموسى إلهاً ، وأخبر أنه غير متيقن بكذبه ، وهذا كله تهافت. وكأنه تحصن من عصى موسى فلبّس وقال : {لعلِّي أطلعُ إلى إله موسى}. رُوي أنه لما أمر وزيره هامان ببناء الصرح ، جمع هامانُ العمال ، خمسين ألف بنّاء ، سوى الأتباع والأُجراء - فبنوا ، ورفعوه بحيث لم يبلغه بنيان قط ، منذ خلق الله السموات والأرض. أراد الله أن يفتنهم فيه ، فصعده فرعون وقومه ، ورموا بُنُشّابة نحو السماء ، فرجعت مُلَطَّخَةَ بالدم ، فقال : قد قتلنا إله السماء ، فضرب جبريل الصرح بجناحه ، فقطعه ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون ، فقتلت ألفَ ألفِ رجل ، وقطعة على البحر ،
267
وقطعة في الغرب ، ولم يبق أحد من عماله إلا هلك. هـ.
{واستكبر هو وجنوده} ؛ تعاظم {في الأرض} ؛ أرض موسى {بغير الحق} ؛ بغير استحقاق ، بل بالباطل ، فالاستكبار بالحق هو لله تعالى ، وهو المتكبر المتعالي ، المبالغ في كبرياء الشأن ، كما في الحديث القدسي : " الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قصمته " ، أو : ألقيته في النار ، وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق. {وظنوا أنهم إلينا لا يُرجَعُون} بالبعث والنشور. وقرأ نافع وحمزة والكسائي : بالبناء للفاعل. والباقي : للمفعول. والله تعالى أعلم.
(5/409)
جزء : 5 رقم الصفحة : 266
الإشارة : الأرواح كلها برزت من عالم العز والكبرياء ، وهو عالم الجبروت ، فما هبطت إلى عالم الأشباح ، وكلفت بالعبودية ، وبالخضوع لقهرية الربوبية ، شق عليها ، ونفرت من التواضع والذل ، وبطشت إلى أصلها ؛ لأنها من عالم العز ، فبعث الله الرسل ومشايخ التربية يدلونها على ما فيه سعادتها. من الذل والتواضع والخضوع للحق ، حتى تصل إلى الحق ، فمن سبق له الشقاء ؛ أنف ، وقال : ما هذا إلا سحر مفترى ، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، واستكبر وطغى ، فغرق في بحر الردى. ومن سبقت له السعادة ؛ تواضع ، وذل لعظمة مولاه ، فوصله إلى العز الدائم ، في حضرة جماله وسناه. ولذلك قيل : للنفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون ، حيث قال : أنا ربكم الأعلى. وهذه الخاصية هي أصل نشأتها وبروزها ، حيث برزت من عالم الجبروت ؛ قال تعالى : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} ولكن لم يفتح لها الباب إلا من جهة العبودية والذل والافتقار ، كما قال الشاعر :
تَذَلَّلْ لِمَنْ تَهْوَى ؛ لِتَكْسِبَ عِزَّةً
فَكَمْ عِزَّةٍ قَدْ نالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً ، وَلَمْ تَكُنْ
ذَلِيلاً لَهُ ، فَاقْرَ السَّلامَ على الْوَصْلِ
ولا يرضى المحبوب من المحب إلا الأدب ، وهو التذلل والخضوع ، كما قائل القائل :
أدَبُ الْعَبْدِ تَذَلُّلٌ
وَالْعَبْدُ لاَ يَدَعُ الأدَبْ
فَإذَا تَكَامَلَ ذُلّهُ ؛
نَالَ الْمَوَدَّةَ ، وَاقْتَرَبْ
جزء : 5 رقم الصفحة : 266
268
(5/410)
يقول الحق جل جلاله : {فأخذناه} ؛ فأخذنا فرعون {وجنودَه فنبذناهم} ؛ طرحناهم {في اليمِّ} ؛ في بحر القلزم ، كما بيَّناه غير مرة. وفي الكلام فخامة تدل على عظمة شأن الأخذ ، شبههم ؛ استحقاراً لحالهم ، واستقلالاً لعددهم ، وإن كانوا الجم الغفير ؛ بحصيات أخذهن آخذ بكفه ، فطرحهن في البحر. {فانظر} يا محمد {كيف كان عاقبةُ الظالمين} ، وحذّر قومك أن يصيبهم مثل ما أصابهم ، فإنهم ظالمون ، حيث كفروا وأشركوا ، وتَحَقَّقُ أنك منصور عليهم ، كما نُصِرَ موسى على فرعون.
{وجعلناهم أئمة} ؛ قادة {يدعون إلى النارِ} ، أي : إلى عمل أهل النار ؛ من الكفر ، والمعاصي ، قال ابن عطاء : نزع عن أسرارهم التوفيق ، وأنوار التحقيق ، فهم في ظلمات أنفسهم ، لا يدلون على سبيل الرشاد. وفيه دلالة على خلق أفعال العباد.هـ. {ويومَ القيامة لا يُنصرون} بدفع العذاب عنهم ، كما يتناصرون اليوم ، في دفع الظلم عنهم ، {وأتْبعناهم في هذه الدنيا لعنةً} ؛ ألزمناهم طرداً وإبعاداً عن الرحمة. وقيل : هو ما يلحقهم من لعن الناس إياهم بَعْدَهُمْ. {وَيومَ القيامة هم من المقبُوحين} ؛ المطرودين المعذبين ، أو المهلَكِين المشوهين ؛ بسواد الوجوه وزرقة العيون. و {يوم} : ظرف للمقبوحين. والله تعالى أعلم.
الإشارة : عَاقِبَةُ منْ تكبر في دار العبودية : الذل والهوان ، وعاقبة من تواضع ، وذَل فيها : العز والأمان ، وعاقبة من كان إماماً في المساوئ والعيوب : البُعد والحجاب ، ومن كان إماماً في محاسن الخلال وكشف الغيوب : العزُّ والاقتراب. قال القشيري على قوله : {وجعلناهم أئمة} إلخ : كانوا في الدنيا مُبْعَدِين عن معرفته ، وفي الآخرة مبعدين عن مغفرته ، فانقلبوا من طَرْدٍ إلى طَرْدٍ ، ومن هجرٍ إلى بُعْدٍ ، ومن فراقٍ إلى احتراق. هـ.
ولما أغرقَ أهل الظلم والعناد ، أنزل الهداية على أهل العناية والوداد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 268
(5/411)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد آتينا موسى الكتاب} : التوراة {من بعدما أهلكنا القرونَ الأولى} ؛ قوم نوح وهود وصالح ولوط - عليهم السلام - ، حال كون الكتاب {بصائرَ للناس} ؛ أنواراً لقلوبهم ، يتبصرون الحقائق ، ويُميزون بين الحق والباطل. فالبصيرة : عين القلب ، الذي يبصر بها الحق ، ويهتدي إلى الرشد والسعادة. كما أن البصر عين الرأس التي يُبصر بها الحسيات ، أي : آتيناه التوراة ، أنواراً للقلوب التي كانت عمياً لا تستبصر ولا تعرف حقاً من باطل ، {وهدىً} ؛ وإرشاداً إلى الشرائع ؛ لأنهم كانوا يخبطون في الضلال. {ورحمةً} لمن اتبعها ؛ لأنهم ، إذا عملوا بها ، وصلوا إلى نيل
269
الرحمة ، {لعلهم يتذكرون} ، أي : ليكونوا على حال يُرجَى منهم التذكر والاتعاظ. وبالله التوفيق.
الإشارة : إنما تطيب المنازل ؛ إذا خلت من الأجانب والأراذل. وأطيب عيش الأحباب ؛ إذا غابت عنهم الرقباء وأهل العتاب ، فلما أهلك الله فرعونَ وجنوده وأورث بني إسرائيل ديارهم ، ومحى عن جميعها آثارهم ، طاب عيشهم ، وظهرت سعادتهم ، وتمكنوا من إقامة الدين. وكذلك أهل التوجه إلى يوم الدين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 269
(5/412)
يقول الحق جل جلاله : {وما كنتَ} يا محمد {بجانب} المكان {الغربي} من الطور ، وهو الذي كلم الله فيه موسى ، وهو الجانب الأيمن. قال السهيلي : إذا استقبلت القبلة ، وأنت بالشام ، كان الجبل يميناً منك ، غربياً ، غير أنه قال في قصة موسى : {جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} [مريم : 52 ، وطه : 80] ، وصفه بالصفة المشتقة من اليُمن والبركة ، لتكليمه إياه فيه ، وحين نفى عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون بذلك الجانب ، قال : {وما كنت بجانب الغربي} ، والغربي هو الأيمن. والعدول عنه ، في حالة النفي ؛ للاحتراس من توهم نفي اليمن عنه صلى الله عليه وسلم ، وكيف ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل بصفة اليُمن وآدام بين الماء والطين! فحسنُ اللفظِ أصل في البلاغة ، ومجانبة الاشتراك الموهم : من فصيحِ بديعِ الفصاحة. هـ.
أي : وما كانت حاضراً بذلك الموضع ، {إِذْ قَضَينا إلى موسى الأمرَ} ، أي : كلمناه ، وقربناه نجياً ، وأوحينا إليه بالرسالة إلى فرعون ، {وما كنتَ من الشاهدين} ، أي : من جملة الشاهدين فتخبر بذلك ، ولكن أعلمناك من طريق الوحي ، بعد أن لم يكن لك بذلك شعور ، والمراد : الدلالة على أن إخباره بذلك من قِبَلِ الإخبار بالمغيبات التي لا تُعرف إلا بالوحي ، ولذلك استدرك عنه بقوله :
{ولكنَّا أنشأنا} بعد موسى {قروناً فتطاولَ عليهم العُمُرُ} ، أي : طالت أعمارهم ، وفترت النبوة ، وانقطعت الأخبار ، واندرست العلوم ، ووقع التحريف في كثير منها ، فأرسلناك ؛ مُجَدِّداً لتلك الأخبار ، مبيناً ما وقع فيها من التحريف ، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء ، وأوقفناك على قصة موسى بتمامها ، فكأنه قال : وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ، ولكنا أوحيناه إليك ، فأخبرت به ، بعد اندراسه.
270
(5/413)
{ومَا كنتَ ثاوياً} ؛ مقيماً {في أهل مدين} ، وهم شعيب والمؤمنون به ، {تتلو عليهم آياتنا} ؛ تقرؤها عليهم ، تعلماً منهم ، أو : رسولاً إليهم تتلوها عليهم بوحينا ، كما تلوتها على هؤلاء ، يريد : الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه ، {ولكنّا كنّا مُرسِلينِ} لك ، فأخبرناك بها ، وعلَّمناك إياها ، فأخبرت هؤلاء بها ، {وما كنت بجانب الطور إِذ نادينا} موسى ، أن خذ الكتاب بقوة ، أو ناجيناه في أيام الميقات ، {ولكن} علمناك وأرسلناك {رحمةً} أي : للرحمة {من ربك لتُنذر قوماً} جاهلية {وما أتاهم من نذير من قبلك} في زمان الفترة التي بينك وبين عيسى ، وهي خمسمائة وخمسون سنة ، أو : بينك وبين إسماعيل ، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم ، {لعلهم يتذكرون} ؛ لعل من أُرْسِلْتَ إليه يتعظ ويتذكر ما هو فيه من الضلال ، فينزعُ ويرجع. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 270
الإشارة : المراد من هذه الآيات : تحقيق نبوته صلى الله عليه وسلم ومعرفته الخاصة ، وهي سُلَّم ، ومعراج إلى معرفة الله تعالى ؛ لأنه الواسطة العظمى ، فمهما عرفته المعرفة الخاصة عرفت الله تعالى ، فمنه صلى الله عليه وسلم استمدت العلوم كلها ؛ علم الربوبية ، من طريق البرهان ، وعلمها من طريق العيان ، وعلم المعاملة الموصلة إلى الرضا والرضوان ، ومعرفة نبوته صلى الله عليه وسلم ضرورية لا تحتاج إلى برهان ، ويرحم الله القائل :
لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آيات مُبيِّنَة
لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
(5/414)
وقد تقدم في الأعراف التنويه به ، وذكر شرفه ، وشرف أمته ، قبل ظهوره ، وإليه الإشارة هنا بقوله : {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} ، أي : إذ نادينا بأمرك ، وأخبرنا بنبوتك ، رُوي عن أبي هريرة ؛ أنه نُودي يومئذٍ من السماء : يَا أُمَةُ مُحَمّدٍ ، استجبتُ لَكُم قَبْلَ أَنْ تَدْعُوني ، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أنْ تَسألونِي ، فحينئذٍ قال موسى - عليه السلام : اللهم اجعلني من أمة محمد. هـ.
وقال القشيري : أي : لم تكن حاضراً تتعلم ذلك ؛ مشاهدةً ، فليس إلا تعريفنا إياك ، وإطلاعنا لَكَ على ذلك. ويقال : إذ نادينا موسى ، وخاطبناه ، وكلمناه في بابك وباب أُمَّتِكَ ، وما طلب موسى لأمته جعلناه لأمتك ، فكوْني لكم : خيرٌ لكم من كونِكم لكم فلم تقدح فيكم غَيْبَتَكُمْ في الحال ، كما أنشدوا :
كُنْ لِي ؛ كَمَا كُنْتَ
لي في حين لمْ أَكُنِ
ويقال : لما خاطب موسى وكلمه ، سأله موسى ، إنه رأى في التوراة أمة صفتهم كذا وكذا ، من هم ؟ فقال : هم أمة محمد. وذكر لموسى أوصافاً كثيرة ، فاشتاق إلى لقائهم ،
271
فقال له : ليس اليوم وقت حضورهم فإن شئت أسمعناك كلامهم ، فأراد ذلك ، فنادى : يا أُمة محمد ؛ فأجاب الكل من أصلاب آبائهم ، فسمع موسى كلامهم ، ثم لم يتركهم كذلك ، بل زادهم من الفضائل ؛ لأن الغني ؛ إذا دعا فقيراً فأجابه ؛ لم يرض أن يذكره من غير إحسانه. هـ. وقال الطبري : معنى قوله : {إذ نادينا} أي : بقوله : {سأكتبها للذين يتقون...} الآية. هـ. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 270
قلت : (لولا) الأولى : امتناعية ، وجوابها محذوف ، اي : ولولا أنهم قائلون ؛ إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك ، محتجين علينا : (هلا أرسلت إلينا رسولاً...) إلخ ؛ لَمَا أرسلناك.
(5/415)
يقول الحق جل جلاله : {ولولا أن تصيبهم مصيبة} ، أي : عقوبة في الدنيا والآخرة ، {بما} ؛ بسبب ما {قدمت أيديهم} من الكفر والظلم ، ولمّا كانت أكثر الأعمال إنما تناول بالأيدي ، نسب الأعمال إلى الأيدي ، وإن كانت من أعمال القلوب ؛ تغليباً للأكثر على الأقل ، {فيقولوا} عند نزول العذاب : {ربنا لولا} ؛ هلا {أرسلت إلينا رسولاً} يُنذرنا {فنتَّبع آياتك ونكونَ من المؤمنين} ، فلولا احتجاجهم بذلك علينا لَمَا أرسلناك ، فسبب الإرسال هو قولهم : هلا أرسلت... إلخ.
ولما كانت العقوبة سبباً للقول جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال ، فدخلت " لولا " الامتناعية عليها ، فرجع المعنى إلى قولك : ولولا قولهم هذا ، إذا أصابتهم مصيبة ، لما أرسلناك.
{فَلَمَّا جاءهم الحق من عندنا} ؛ القرآن المعجز ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم ، {قالوا} أي : كفار مكة ؛ اقتراحاً وتعنتاً : {لولا} : هلا {أُوتي} من المعجزات {مثل ما أُوتي} ؛ أُعطي {موسى} من اليد والعصا ، ومن الكتاب المنزل جملة. قال تعالى : {أوَ لَمْ يكفروا} أي : أبناء جنسهم ، ومَنْ مَذهبهم على مذهبهم ، وعنادهم مثل عنادهم ، وهم الكفرة في زمن موسى عليه السلام ، فقد كفروا {بما أُوتي موسى من قبلُ} ؛ من قبل القرآن ، {قالوا} في
272
موسى وهارون : {ساحران تظاهرا} : تعاونا ، أو : في موسى ومحمد - عليهما السلام - بإظهار تلك الخوارق ، أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون : " سِحْران " ؛ بتقدير مضاف ، أي : ذوَا سحر ، أو : جعلوهما سحريْن ؛ مبالغة في وصفهما بالسحر. {وقالوا} أي : كفرة موسى وكفرة محمد صلى الله عليه وسلم : {إِنا بكلِّ} ؛ بكل واحد منهما {كافرون}.
جزء : 5 رقم الصفحة : 272
(5/416)
وقيل أن أهل مكة ، لمّا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ؛ فقد كفروا بموسى وبالتوراة ، وقالوا في محمد صلى الله عليه وسلم وموسى : ساحران تظاهرا ، أو في التوراة والقرآن : سحران تظاهرا ، أو : ذلك حين بَعَثُوا الرهط إلى رؤساء اليهود يسألونهم عن محمد ، فأخبروهم أنه في كتابهم فرجع الرهط إلى قريش ، فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا عند ذلك : {ساحران تظاهرا إنا بكل كافرون}.
{قلْ} لهم : {فأتوا بكتابٍ من عند الله هو أهدى منهما} ؛ مما أنزل على موسى ، وما أنزل عليَّ ، {أتَّبِعُه} : جواب : فأتوا ، {إن كنتم صادقين} في أنهما ساحران ، {فإِن لم يستجيبوا لك} دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى ، {فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} الزائغة ، ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى ، {وَمَنْ أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هُدى من الله} أي : لا أحد أضل ممن اتبع في الدين هواه بغير هدى ، أي : بغير اتباع شريعة من عند الله. و {بغير هدى} : حال ، أي : مخذولاً ، مُخَلاً بينه وبين هواه ، {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} ؛ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى والتقليد. وبالله التوفيق.
الإشارة : لو احتجاج الناس على الله يوم القيامة ، حين تصيبهم نقائص عيوبهم ، ما بعث الله في كل زمان نذيراً طبيباً ، فإذا ظهر وتوجه لتربية الناس ، قالوا : لولا أُوتي مثل ما أُوتي فلان وفلان من كرامات المتقدمين ، فيقال لهم : قد كان مَنْ قبلكم من الأولياء لهم كرامات ، فكذَّبوهم ، وأنكروا عليهم ، ورموهم بالسحر والتبدع وغير ذلك ، وبقوا مع هوى أنفسهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، أي : بغير تمسك بمن يهديه إلى حضرة الله ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى معرفته الخاصة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 272
قلت : يقال : وصلت الشيء : جعلته موصولاً بعضه ببعض ، ويقال : وصلت إليه الكتاب : أبلغته.
(5/417)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد وصَّلْنا لهم} أي : لقريش ولغيرهم ، {القولَ} ؛ القرآن ، أي : تابعناه موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزواجر ، والدعاء إلى الإسلام. قال ابن عطية. وقال ابن عرفة اللُّغَوِي : أي : أنزلناه شيئاً بعد شيء ، ليصل بعضه ببعض ،
273
ليكونوا له أوعى. هـ. وتنزيله كذلك ؛ ليكون أبلغ في التذكير ؛ ولذلك قال : {لعلهم يتذكرون} يعني : أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً ؛ وعداً ، ووعيداً ، وقصصاً ، وعِبَراً ، ومواعظ ؛ ليتذكروا فيفلحوا. وقيل : معنى وصلنا : أبلغنا. وهو أقرب ؛ لتبادر الفهم ، وفي البخاري : أي : " بيّنا وأتممنا ". وهو عن ابن عباس. وقال مجاهد : فصّلنا. وقال ابن زيد : وَصَلْنَا خير الدنيا بخير الآخرة ، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا.
الإشارة : تفريق المواعظ في الأيام ، شيئاً فشيئاً ، أبلغ وأنفع من سردها كلها في يوم واحد. وفي الحديث : " كان صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بالموعِظَةِ ، مَخَافَة السآمة علينا " ، والتخول : التعاهد شيئاً فشيئاً. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 273
قلت : (الذين) : مبتدأ ، (وهم به) : خبر.
(5/418)
يقول الحق جل جلاله : {الذين آتيناهم الكتابَ مِن قبله} ؛ من قبل القرآن {هُم به} أي : القرآن {يؤمنون} ، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب ، أو : النجاشي وقومه ، أو : نصارى نجران ، الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وهم عشرون رجلاً ، فآمنوا به. قال ابن عطية : ذكر هؤلاء مُبَاهياً بهم قريشاً. هـ. أي : فهم الذين يُقدرون قدر هذا الكتاب المنزل لِمَا معهم من العلم الذي ميزوا به الحق ، ولذلك قال : {وإِذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا} ؛ لِمَا عرفوا في كتابهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكتابه ، {إِنَّا كنا من قبله} ؛ من قبل القرآن ، أو : من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، {مسلمين} ؛ كائنين على دين الإسلام ، مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقوله {إِنه} : تعليل للإيمان به ؛ لأن كَوْنَهُ حقاً من عند الله حقيق بأن يُؤْمَنَ به. وقوله : {إِنا} : بيان لقوله : {آمنا} ؛ لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد أو بعيده ، فأخبروه بأن إيمانهم به متقادم.
{أولئك يُوْتَون أجرَهم مرتين بما صبروا} ؛ بصبرهم على الإيمان بالتوراة ، والإيمان بالقرآن ، أو : بصبرهم على الإيمان بالقرآن ، قبل نزوله وبعده ، أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. وفي الحديث : " ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسللم ، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل
274
(5/419)
كانت عنده أمَةٌ فأعتقتها وتزوجها ". {ويدرؤون بالحسنةِ السيئةَ} ؛ يدفعون الخصلة القبيحة بالخصلة الحسنة ، يدفعون الأذى بالسِلم ، والمعصية بالطاعة. {ومما رزقناهم ينفقون} ؛ يتصدقون ، أو يزكون ، {وإذا سمعوا اللغْوَ} ؛ الباطل ، أو الشتم من المشركين ، {أعْرضوا عنه وقالوا} للاغين : {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم} ؛ أمان منا عليكم ، لا نقابل لغوكم بمثله ، {لا نبتغي الجاهلين} ؛ لا نريد مخالطتهم وصحبتهم ، أو : لا نبتغي دين الجاهلين ، أو محاورة الجاهلين وجدالهم ، أو : لا نريد أن نكون جهالاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 274
وفي السَير : أن أصحاب النجاشي لَمَّا كلمهم جعفر رضي الله عنه في مجمع النجاشي ، بَكَوْا ، ووقر الإسلام في قلوبهم ، فقدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فقرأ عليهم القرآن ، فأسلموا ، وقالوا : {آمنا به إنه الحق من ربنا..} الآية. فلما خرجوا من عنده صلى الله عليه وسلم ؛ استقبلتهم قريش فسبوهم ، وقالوا : ما رأينا قوماً أحمق منكم ، تركتم دينكم لمجلس ساعة مع هذا الرجل ، فقالوا لهم : {سلام عليكم...} إلخ.
الإشارة : مَنْ تَحَمَّلَ من العلماء مشقة تَحَمُّلِ العلمِ الظاهر ، ثم ركب أهواء النفس ومحاربتَها في تحصيل العلم الباطن ، فهو ممن يُوتى أجره مرتين ، وينال عز الدارين ضعفين ؛ بسبب صبره على العِلْمَيْن ، وارتكاب الذل مرتين ، إذا اتصف بما اتصف به أولئك ، بحيث يدرأ بالحسنة السيئة ، وينفق مما رزقه الله من الحس والمعنى ، كالعلوم والمواهب ، ويعرض عن اللغو - وهو كل ما يشغل عن شهود الله - ويحلم عن الجاهل ، ويرفق بالسائل. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 274
(5/420)
يقول الحق جل جلاله : {إنك} يا محمد {لا تهدي من أحببتَ} ، أي : لا تقدر أن تُدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل من قومك وغيرهم ، يعني : أن خاصية الهداية خاصة بالربوبية ، وخاصية الربوبية لا تكون لمخلوق ، ولو كان أكمل الخلق. {ولكنَّ الله يهدي من يشاء} ؛ يخلق الهداية في قلب من يشاء ، {وهو أعلم بالمهتدين} ؛ بمن يختار هدايته ويقبلها.
قال الزجاج : اجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب ، وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بني هاشم صدقوا محمداً تُفلحوا ، فقال صلى الله عليه وسلم : " يا عَمّ تأمُرُهُم بالنَّصِيحة لأنفسهم
275
وتَدعُها لنفسك! " فقال : ما تريد يا ابن أخي ؟ فقال : " أُريدُ منك أن تقُول : لا إله إلا الله ، أشْهَدُ لك بها عِنْدَ اللهِ " فقال : يا ابن أخي ؛ أنا قد علمت أنك صادق ، ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت. هـ. وفي رواية قال : (لولا أن تُعيرني نساء قريش ، ويقلن : إنه حملني على ذلك الجزع ، لأقررتُ بها عينك). وفي لفظ آخر عند البخاري : قال له : " يا عم ، قُل : لا إله إلا الله ، أُحاجُّ لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال : بل على ملّة عبد المطلب ، فنزلت الآية.
وفيها دليل على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : الهدى هو البيان ، وقد هدى الله الناس أجمع ، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم ، فدلت الآية على أن وراء البيان ما يسمى هداية ؛ وهو خلق الاهتداء ، وإعطاء التوفيق والقدرة على الاهتداء. وبالله التوفيق.
(5/421)
الإشارة : الآية ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، بل هي عامة لكل من يريد الهداية لأحد من خاصته ، كتب شيخ أشياخنا ، سيدي " أحمد بن عبد الله " ، إلى شيخه ، سيدي " أحمد بن سعيد الهبري " ؛ يشكو له ابنه ؛ حيث لم ير منه ما تقر به عينه ، فكتب إليه : أخبرني : ما الذي بَنَيْتَ فيه ؟ دع الدار لبانيها ، إن شاء هدمها وإن شاء بناها. هـ. وفي اللباب - بعد كلام - : قد رضي الله على أقوام في الأزل ، فاستعلمهم في أسباب الرضا من غير سبب ، وسَخِطَ على أقوام في الأزل ، فاستعملهم في أسباب السَّخَطِ بلا سبب. {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام : 125] الآية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 275
وهذه الآية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها : {إنك لا تَهْدي من أحببت} ، والحكم عام في كل أحد ، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأتم الفضائل وأعلى الوسائل ، حتى لم يُسْبَقْ لفضيلة ، ولم يَحْتَجْ لوسيلة ، وليس في ذلك نظر ، بل سابقة السعادة أيدته ، والخصوصية قرَّبته ، ولو كان له في التقدير نظر ما مُنع من الشفاعة في عمه أبي طالب ، ومن الاستغفار لأبيه. ولو كانت الهداية بيد آدم لهدى قابيل ، ولو كانت بيد نوح لهدى ولده كنعان ، أو بيد إبراهيم لهدى أباه آزر ، أو بيد محمد صلى الله عليه وسلم لأنقذ عمه أبا طالب ، جذبت العنايةُ سلمان من فارس ، وصاحت على بلال من الحبشة ، وأبو طالب على الباب ممنوع من الدخول. سبحان من أعطى ومنع ، وضر ونفع. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 275
276
قلت : (رزقاً) : حال من (الثمرات) ؛ لتخصيصه بالإضافة ، أو مصدر لتجبى ؛ لأن معناه : نرزق ، أو : مفعول له.
يقول الحق جل جلاله : {وقالوا} أي : كفار قريش {إن نتبع الهُدَى} وندخل {معك} في هذا الدين ؛ {نُتَخَطّفُ من أرضنا} أي : تخطفنا العرب وتُخرجنا من أرضنا.
(5/422)
نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخاف ، إن اتبعناك وخالفنا العرب ، وإنما نحن أكَلَةُ رأس ، أَنْ يتخطفونا من أرضنا ، فردّ الله عليهم بقوله : {أوَ لَمْ نُمكِّنْ لهم حَرَماً آمناً} ؛ أَوَ لَمْ نجعل مكانهم حرماً ذا آمن بحرمة البيت ، يأمن فيه قُطانه ، ومن التجأ إليه من غيرهم ؛ فَأَنَّى يستقيم أن نعرضهم للتخطف ، ونسلبهم الأمن ، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام ؟ .
{تُجْبَى إليه} ، أي : تُجمع وتُجلب إليه من كل أَوْب ، {ثمراتُ كل شيء} أي : كل صنف ونوع. ومعنى الكُلِّيَّةِ : الكثرة ؛ كقوله : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل : 23] ، {رزقاً من لدُنَّا} ، ونعمة من عندنا ، وإذا كان حالهم ، وهم عبدة الأصنام ، فكيف إذا أووا إلى كهف الإسلام ، وتدرعوا بلباس التوحيد ؟
{ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي : جهلة ، لا يتفطنون ولا يتفكرون حتى يعلموا أنه لا يهملهم من حفظه ورعايته ، إن أسلموا. وقيل : يتعلق بقوله : {من لدُنَّا} ، أي : قليل منهم يتدبرون ، فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله ؛ وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ، ولو علموا أنه من عند الله ؛ لعلموا أن الخوف والأمن من عند الله ، ولَمَا خافوا التخطف إذا آمنوا به. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ترى كثيراً من الناس ، ممن أراد الله حرمانه من الخصوصية ، يتعلل بهذه العلل الواهية ، يقول : إن دخلنا في طريق القوم ؛ رفضَنا الناس ، وأنكر علينا أقاربنا ، ونخاف الضيعة على أولادنا. يقول تعالى لهم : أو لم أُمَكِّن لأوليائي ، المتوجهين إلى حَضْرَةِ القدس ، حرماً آمناً تُجبى لأهلها الأرزاق من كل جانب ، بلا حرص ولا طمع ولا سبب ، ولكن أكثر الناس ؛ جهالاً بهذا ، وقفوا مع العوائد ، فحُرموا الفوائد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 276
277
(5/423)
قلت : " كم " : منصوب بأهلكنا. والبطر : الطغيان عند النعمة. قال في القاموس : البَطَر - محركة : النشاط ، والأشر ، وقلة احتمال النعمة ، والدهش ، والحيرة ، والطغيان بالنعمة ، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهية ، فعلى الكل : كفرح. هـ. و(معيشتها) نصب بحذف الجار واتصال الفعل ، أي : في معيشتها. وجملة (لم تسكن) : حال ، والعامل فيها : الإشارة.
يقول الحق جل جلاله : {وكم أهلكنا من قرية} ، أي : كثيراً أهلكنا من أهل قرية ، كانت حالهم كحالهم في الأمن والدعة ، وخصب العيش ، مِنْ وصفها {بَطِرَتْ} في {مَعِيشَتها} ، أي : طغت وتجبرت ولم تشكر ، بل قابلتها بالبطر والطغيان. قال القشيري : لم يعرفوا قدر نعمتهم ، ولم يشكروا سلامة أموالهم ، وانتظام أمورهم ، فهاموا في أودية الكفران على وجوهم ، وخَرُّوا في وَهدة الطغيان على أذقانهم ، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم.
{فتلك مساكنهم} خاوية ، أو : فتلك منازلهم باقية الآثار ، يشاهدونها في الأسفار ؛ كبلاد ثمود ، وقرى لوط ، وقوم شعيب ، وغيرهم ، {لم تُسكن من بعدهم إلا قليلاً} من السكنى ، أي : لم يسكنها إلا المسافر ، أو مار بالطريق ؛ يوماً أو ساعة ، {وكنا نحن الوارثين} لتك المساكن من سكانها ، أي : لا يملك التصرف فيها غيرنا. وفيه إشارة لوعد النصر لمتبع الهدى ، وأن الوراثة له ، لا أنه يتخطف كما قد قيل ، بل يقع الهلاك على من لم يشكر نعمة الله ، ويتبع هواه ، فكيف يخاف من تكون عاقبته الظفر ممن يكون عاقبته الدمار والتبار ؟ والحاصل : إنما يلحق الخوف من لم يتبع الهدى ، فإنه الذي جرت سنة الله في بالهلاك ، وأما متبع الهدى ؛ فهو آمن والعاقبة له.
(5/424)
{وما كان ربك} ؛ وما كانت عادته {مُهلك القرى} بذنب {حتى يبعث في أُمِّها} ، أي : القرية التي هي أصلها ومعظمها ؛ لأن أهلها يكونون أفطن وأقبل. {رسولاً} ؛ لإلزام الحجة وقطع المعذرة ، أو : ما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمها ، وهي مكة ؛ لأن الأرض دحيت من تحتها. {رسولاً} يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، {يتلوا عليهم آياتنا} ؛ القرآن ، {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلُها ظالمون} ، أي : وما أهلكناهم للانتقام ، إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم ، وهو إصرارهم على الكفر والمعاصي ، والعناد ، بعد الإعذار إليهم. والله تعالى أعلم.
278
الإشارة : وكم خَرَّبْنَا من قلوب وأخليناها من النور ، حيث طغت وتجبرت في معيشتها ، وانشغلت بحظوظها وشهواتها ، فتلك أماكنها خاوية من النور ، لم تُسكن بالنور إلا قليلاً ، وكنا نحن الوارثين لها ، فأعطينا ذلك النور غيرها ، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يُذكرها ويُنذرها ، وما كنا مهلكي قلوبٍ وَمُتْلِفيهَا إلا وأهلها ظالمون ، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 277
قلت : " ما " شرطية ، وجملة : (فمتاع...) إلخ : جوابه.
يقول الحق جل جلاله : {وما أُوتيتم من شيءٍ} من زهرة الدنيا {فمتاعُ الحياة الدنيا وزينتُها} أي : ايُّ شيء أحببتموه من أسباب الدنيا وملاذها فما هو إلا تمتع وزينة ، أياماً قلائل ، وهي مدة الحياة الفانية ، {وما عند الله} من النعيم الدائم في الدار الباقية ؛ ثواباً لأعمالكم {خير} من ذلك ؛ لأنه لذة خالصة في بهجة كاملة. {وأبقى} ؛ لأنه دائم لا يفنى {أفلا تعقلون} أن الباقي خير من الفاني ، فتستبدلون الذي هو أدنى يا الذي هو خير ؟ .
(5/425)
وعن ابن عباس رضي الله عنه : (إن الله خلق الدنيا ، وجعل أهلها ثلاثة أصناف ؛ المؤمن والمنافق والكافر ، فالمؤمن يتزود ، والمنافق يتربى ، والكافر يتمتع. ثم قرأ هذه الآية). وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " لو كانتِ الدنيا تَزِنُ عند الله جناحَ بعوضة لمى سَقَى الكافرَ منها شَرْبَةَ ماءٍ " رواه الترمذي.
ثم قرر ذلك بقوله : {أفمن وعدناه وعداً حسنا} ، وهو الجنة ؛ إذ لا شيء أحسن منها ، حيث اشتملت على النظر لوجه الله العظيم ، ولأنها دائمة ، ولذا سميت الحسنى ، {فهو} : أي : الوعد الحسن {لاقيه} ومدركه ، لا محالة ، لامتناع الخلف في وعده تعالى ، {كمن متعناه متاع الحياة الدنيا} الذي هو مشوب بالكدر والمتاعب ، ، مستعْقب بالفناء والانقطاع ، {ثم هو يوم القيامة من المحضَرين} للحساب والعقاب ، أو : من الذين أحضروا النار.
والآية نزلت في المؤمن والكافر ، أو : في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل - لعنه الله - ، ومعنى الفاء الأولى : أنه لَمَّا ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقّبه بقوله : {أفمن وعدناه} أي : أبعد هذا التفاوت الجلي نُسَوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة ؟ والفاء الثانية للتسبيب ، لأنه لقاء الموعود مسبب عن الوعد. و " ثم " : لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع. ومن قرأ : " ثم هْو " ؛ بالسكون ، شبه المنفصل بالمتصل ، كما قيل في عَضد - بسكون الضاد -.
279
{و} اذكر {يوم يُنادِيهم} ؛ يوم ينادي الله الكفارَ ، نداء توبيخ ، {فيقول أين شركائيَ} ؛ في زعمهم {الذين كنتم تزعمون} أنهم شركائي ، فحذف المفعول ؛ لدلالة على الكلام عليه. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 279(5/426)
الإشارة : في الآية تحقير لشأن الدنيا الفانية ، وتعظيم لشأن الآخرة الباقية. وقد اتفق على هذا جميع الأنبياء والرسل والحكماء ، قديماً وحديثاً ، وقد تقدم آنفاً أنها لا تَزِن عند الله جناحَ بعوضة وفي حديث آخر : " ما الدنيا في جانب الآخرة ، إلا كما يُدخل أَحَدُكُمْ يده في البحر ثم يُخرجه ، فانظر ماذا يعلق به " بالمعنى : فنعيم الدنيا كله ، بالنسبة إلى نعيم الجنان ، كبلل الأصبع ، الذي دخل في الماء ثم خرج. مع أن نعيمها مكدر ، ممزوج بالأهوال والأحزان والمتاعب. وقد كتب علي بي أبي طالب إلى سلمان - رضي الله عنهما - : " إن مثل الدنيا كمثل الحية ، لينٌ مسها ، قاتل سمها ، فأعرض عنها ، وعما يعجبك منها ، لقلة ما يصحبك منها ، ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها ، وكن أسرّ ما تكون منها ، احذر ما تكون منها ، فإن صاحبها ، كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخص منها إلى مكروه ".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن هذه الدار دار الثوى ، لا دار استواء ، ومنزل ترح ، لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخائها ، ولم يحزن لشقائها - أي : لأنهما لا يدومان - ألا وإن الله خلق الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي ، وأنها سريعة الثوى - أي : الهلاك - وشيكة الانقلاب ، فاحذروا حلاوة رضاعها ، لمرارة فطامها ، واهجروا لذيذ عاجلها ؛ لكريه آجلها ، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها ، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها ، فتكونوا لسخطه متعرضين ، ولعقوبته مستحقين " هـ. ذكره ابن وداعة الموصلي.
(5/427)
وذكر أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا إلتاط منها بثلاث : شغل لا ينفد عناؤه ، وفقر لا يدرك غناه ، وأمل لا ينال منتهاه ، إن الدنيا الآخرة طالبتان ومطلوبتان ، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا ، حتى يستكمل رزقه ، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه ، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها ، على فانية لا ينفك عذابها ، وقدّم لِمَا يُقْدِمُ عليه مما هو الآن في يده ، قبل أن يُخلفه لمن يسعد بإنفاقه ، وقد شقي هو بجمعه واحتكاره ".
جزء : 5 رقم الصفحة : 279
قلت : " هؤلاء " : مبتدأ. و " الذين " : صفته ، والعائد : محذوف ، و " أغويناهم " : خبر.
والكاف في " كما " : صفة لمصدر محذوف ، أي أغويناهم غياً مثل ما غوينا ، و " لو أنهم " : جوابه محذوف ، أي : لما رأوا العذاب.
يقول الحق جل جلاله : {قال الذين حقَّ عليهم القولُ} بالعذاب ، وثبت مقتضاه ، وهو قوله تعالى : {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود : 119] ، وهم الشياطين ، أو : أئمة الكفر : ورؤساء الكفرة : {ربنا هؤلاء} الكفرة {الذين أغوينا أغويناهم} أي : دعوناهم إلى الشرك وسوّلناه لهم ، قد غَووا غياً {كما} مثل ما {غَوَينا} يقولون : إنا لم نغو إلا باختيارنا ، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم ؛ لأن إغواءنا لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً ، فلا فرق إذن بين غينا وغيهم ، وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان ، بما وضع فيهم من أدلة العقل ، وما بعث إليهم من الرسل ، وأنزل إليهم من الكتب ، وهذا كقوله : {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ...} إلى قوله : {وَلُومُوااْ أَنفُسَكُمْ...} [إبراهيم : 22].
(5/428)
ثم قالوا : {تبرَّأنا إليك} منهم فيما اختاروه من الكفر ، {ما كانوا إيانا يعبدون} ، بل كانوا يعبدون أهواءهم ، ويطيعون شهواتهم. فَتَحَصَّلَ من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم غَرُّوا الضعفاء ، وتبرؤوا من أن يكون آلهتهم ، فلا تناقض. انظر ابن جزي. وإخلاء الجملتين من العاطف ؛ لكونهما مقررتين للجملة الأولى.
{وقيل} للمشركين : {ادعو شركاءَكم} أي : الأصنام ؛ لتُخلصكم من العذاب ، {فَدَعَوْهُمْ فلم يستجيبوا لهم} ، فلم يجيبوهم ؛ لعجزهم عن الإجابة والنصرة. {ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} لَمَّا رأوا ذلك العذاب ، وقيل : " لو " ؛ للتمني ، أي : تمنوا أنهم كانوا يهتدون.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
و} اذكر {يوم يُناديهم فيقولُ ماذا أجبتُمُ المرسلين} الذي أُرسلوا إليكم ؟ أي : بماذا أجبتموهم ؟ وهو أعلم بهم. حكي ، أولاً ، ما يوبخهم به ؛ من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما تقوله الشياطين ، أو : أئمة الكفر عند توبيخهم ؛ لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين ، أو الرؤساء ، استغووهم ، ثم ما يشبه الشماتة بهم ؛ لاستغائتهم بآلهتهم وعجزهم عن نصرتهم. ثم ما يُبَكَّتُونَ به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل. قال تعالى : {فعَمِيتْ عليهم الانبياء يومئذِ} ؛ خفيت عليهم الحجج أو الأخبار.
281
وقيل : خفي عليهم الجواب ، فلم يدروا بماذا يجيبون ؛ إذ لم يكن عندهم جواب.
قال البيضاوي : وأصله : فعموا عن الانباء ، لكنه عكس ؛ مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج ، فإن أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره ، والمراد بالأنباء : ما أجابوا به الرسل ، أو : ما يعمها وغيرَها ، فإذا كانت الرسل يتلعثمون في الجواب عن مثل ذلك من الهول ، ويفوضون إلى علم الله تعالى ؛ فما ظنك بالضلال من البُهم ؟ . هـ.
(5/429)
{فهم لا يتساءلون} ؛ لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب ؛ لفرط الدهشة ، أو : عن العذر والحجة ، عسى أن يكون عندهم عذر أو حجة. {فأما من تابَ} من الشرك {وآمَنَ} بربه وبمن جاء من عنده ، {وعَمِلَ صالحاً} أي : جمع بين الإيمان والعمل ، {فعسى أن يكون من المفلحين} ؛ من الفائزين عند الله بالنعيم المقيم. و " عسى " ، من الكِرام ، تحقيق. وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام ، وترغيب للكافرين في الإيمان. وبالله التوفيق.
الإشارة : قال الذين حق عليهم القول ؛ بالانحطاط عن درجة المقربين ، والبقاء مع عامة أهل اليمين ، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم : ربنا هؤلاء الذين أغوينا ؛ زيناً لهم البقاء مع الأسباب ، والوقوف مع العوائد ، أغويناهم كما غوينا ، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد ، قوينا سوادنا بهم ، تبرأنا إليك ؛ لأنا لم نقهرهم ، ولكن وسوسنا لهم ذلك ، ما كانوا إيانا يعبدون ، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم : ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها ، فدعوهم ؛ فلم يستجيبوا لهم ، ورأوا عذاب القطيعة ، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ؛ ما وقعوا في ذلك. ويوم يناديهم فيقول : ماذا أجبتم الداعين ، الذين أرسلتهم في كل زمان ، يدعون إلى الله ، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم ، فعميت عليهم الأنبياء يومئذٍ ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين ، لغيبتهم عنهم. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
يقول الحق جل جلاله : {وربك يخلقُ ما يشاءُ} ، لا موجب عليه ، ولا مانع له ، وفيه دلالة على خلق الأفعال. {ويختارُ} ما يشاء ، لا اختيار لأحد مع اختياره. قال البيضاوي : وظاهره : نفي الاختيار عنهم رأساً ، والأمر كذلك عند التحقيق ؛ فإنَّ اختبار العبد مخلوق لله ، منوط بدواعٍ لا اختيار لهم فيها ، وقيل : المراد أنه ليس لأحد أن يختار عليه ،
282
(5/430)
فلذلك خلا عن العاطف ، يعني قوله : {ما كان..} إلخ ، ويؤيده : ما روي أنه نزل في قولهم : {لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف : 31] هـ. {ما كان لهم الخِيَرةُ} أي : ليس لهم أن يختاروا مع الله شيئاً ما ، وله الخيرة عليهم. والخيرة : من التخير ، تستعمل مصدراً بمعنى التخير ، وبمعنى المتخيّر ، ومنه : محمد خيرة الله من خلقه ، ولم يدخل العاطف في {ما كان لهم الخيرة} ؛ لأنه مقرر لِمَا قبله ، وقيل : " ما " : موصولة ، مفعول بيختار ، والراجع إليه : محذوف ، أي : ويختار الذي كان لهم من الخيرة والصلاح. هـ. وبحث فيه النسفي بأن فيه ميلاً إلى الاعتزال ، ويجاب : بأن المعتزلة يقولون ذلك على سبيل الإيجاب ، ونحن نقوله على سبيل التفضل والإحسان.
{سبحان الله} ، أي : تنزيهاً له عن أن ينازعه أحد ، أو يزاحم اختيارَهُ اختيارٌ.
{وتعالى عما يشركون} ، أي : تعاظم عن إشراكهم ، أو : عن مشاركة ما يُشركون به.
{وربك يعلم ما تُكِنُّ} تُضمر {صدورُهم} من عداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وحسده ، {وما يُعلنون} من مطاعنهم فيه ، وقولهم : هلاً اختير عليه غَيْرُهُ في النبوة. {وهو الله} المستأثر بالألوهية المختص بها ، {لا إله إلا هو} ، تقرير له ، كقولك : الكعبة قبلة ، لا قبلةَ إلا هي. {له الحمد في الأولى} أي : في الدنيا ، {والآخرة} ؛ لأنه المُولي للنعم كلها ، عاجلها وآجلها ، يحمده المؤمنون في الدنيا ، ويحمدونه في الآخرة بقولهم : {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِيا أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر : 34] ، {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر : 74] ، {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر : 75] ، والتحميد تم على وجه التلذذ لا الكلفة. {وله الحُكم} ؛ القضاء بين عباده ، {وإليه تُرجعون} بالبعث والنشور. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 282
(5/431)
الإشارة : في الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار ، مع تدبير الواحد القهار ، وهو أصل كبير عند أهل التصوف ، أفرد بالتأليف ، وفي الحِكَم : " أراح نفسك من التدبير ، فما قام به غيرك عنك ؛ لا تقم به أنت عن نفسك ". وقال سهل رضي الله عنه : ذروا التدبير والاختيار ، فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ذروا التدبير ، وإن كان ولا بد من التدبير ، فدبروا ألا تدبروا. هـ.
والتدبير المذموم : هو ما فيه للنفس حظ ، كتدبير أسباب الدنيا ، وما تحصل بها من شهواتها ، إذا صحبه عزم أو تكرير ، وأمَّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة ، أو لم يصحب تصميم ؛ بأن كان عَزْمه محلولاً ، أو علقة بمشيئة الله ، أو كان خاطراً غير ساكن ، فلا بأس به. قال القشيري - بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى : لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ ؛ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً ، والاختيارُ للحق نعتُ عز ، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ ، ونعتُ ملام وقصور ، فاختيارُ العَبْدُ على غيرُ مُبَارَكٍ له ، لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها ، ومن اتصف بما لا
283
يليق به افتضح ، قال قائلهم :
ومعَانٍ إذا ادّعاها سواهم
لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ
والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها ، فما للمختار والاختيار ؟ ! وما للمملوكِ والمِلْك ؟ ! وما للعبيد في دَسْتِ الملوك ؟ ! قال تعالى : {ما كان لهم الخيرة}. هـ. وقال آخر في هذا المعنى :
العبدُ ذو ضَجَرٍ ، والربُّ ذو قُدَرٍ
والدهرُ ذو دُوَلٍ ، والرزقُ مقسومُ
والخيرُ أجمعُ : فيما اختار خالقنا
وفي اختيارِ سواه : اللومُ والشُّومُ
(5/432)
فإذا علمت ، أيها العبد ، أن الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ، لم يبق لك مع الله اختيار ، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك ، ولذلك قيل : العارف لا يعارض ما حلّ به ، فقراً كان أو غنى. قال اللجائي في كتاب قطب العارفين : الراضي شبه ميت ، لا نفس له ، يختار لها ، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد ، وهو أعلم سبحانه بعبيده ، وما يصلحون به ، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى ، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر ، ومنهم من يصلح بالمنع ولايصلح بالعطاء ، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع ، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة ، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء ، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعاً ، وهو أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن ، {وربك يخلق ما يشاء ويختار...} الآية ، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى ، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين. هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 282
قلت : (سرمداً) : مفعول ثان لجعل ، وهو من السرد ، أي : التتابع ، ومنه قولهم في الأشهر الحرم : ثلاثة سرد وواحد فرد ، والميم زائدة ، فوزنه : فعْمَل.
يقول الحق جل جلاله : {قل أرأيتم} ؛ أخبروني {إن جعل الله عليكم الليلَ
284
سرمداً} ؛ دائماً ؛ بإسكان الشمس تحت الأرض ، أو بتحريكها حول الأفق الخارج عن كورة الأرض ، أو بإخفاء نورها ، {مَنْ إلهٌ غيرُ اللهِ يأتيكم بضياءٍ} ، وحقه : هل إله غير الله ، وعبّر بـ " مَن " على زعمهم أن غيره آلهة ، أي : هل يقدر أحد على هذا ؟ {أفلا تسمعون} سماع تدبر واستبصار ؟ .
(5/433)
{قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهارَ سرمداً إلي يوم القيامة} بإسكانها في وسط السماء ، أو : بتحريكها فوق الأفق فقط ، {مَنْ إِلهٌ غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه} ؛ استراحة من متاعب الأشغال ؟ ولم يقل : بنهارتتصرفون فيه ، كما قال : {بليل تسكنون فيه} ، بل ذكر الضياء ، وهو ضوء الشمس ؛ لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ، وليس هو التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس هو بتلك المنزلة ، ومن ثم قرن بالضياء. {أفلا تسمعون} ؛ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر ، من ذكر منافعه ، ووصف فوائده ، وقرن بالليل {أفلا تُبصرون} ؛ لأن غيرك يُبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه.
{ومن رحمته} تعالى {جَعَلَ لكم الليلَ والنهارَ لتسْكُنُوا فيه} ؛ في الليل {ولِتَبْتَغوا من فضله} بالنهار بأنواع المكاسب. وهو من باب اللف والنشر. وقال الزجاج : يجوز أن يكون معناه : لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من الله فيهما ، ويكون المعنى : جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً ؛ لتسكنوا فيه ، ولتبتغوا من فضله ، {ولعلكم تشكرون} أي : ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 284
ثم قَرَّعهم على الإشراك ، بعد هذا البيان التام ، بقوله : {ويومَ يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} وكرر التوبيخ على الشرك ، ليؤذن ألاَّ شيء أجلبُ لغضب الله تعالى من الإشراك به ، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. وقال القرطبي : أعاد هذا ؛ لاختلاف الحالين ، ينادون مرة ، فيدعون الأصنام فلا تستجيب لهم ، فيظهر كذبهم. ثم ينادون مرة أخرى فيسكنون ، وهو توبيخ وزيادة خزي. ثم طرق كون المناداة من الله ، أو ممن يأمره بذلك ، لقوله : {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [البقرة : 174] ، ويحتمل : ولا يكلمهم بعد قوله : {اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ>} [المؤمنون : 108] أو : ولا يكلمهم كلام رضا. هـ.
(5/434)
{ونزعنا} ؛ وأخرجنا {من كل أُمةٍ شهيداً} ، وهو نبيهم ، يشهد عليهم بما كانوا عليه ؛ لأن الأنبياء شهداء على أممهم ، {فقلنا} للأمم : {هاتوا برهانكم} على صحة ما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول ، {فعلموا} حينئذٍ {إن الحق لله} في الألوهية ، لا يشاركه فيها غيره ، {وضل عنهم} ؛ غاب غيبة الشيء الضائع {ما كانوا يَفترون} من ألوهية غير الله وشفاعة أصنامهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : دوام ليل القبض يمحق البشرية ، ودوام نهار البسط يُطغي النفس ،
285
وتخالفهما على المريد رحمة ، وإخراجه عنهما عناية ، وفي الحكم : " بسطِك كي لا يتركك مع القبض ، وقبضك كي لا يتركك مع البسط ، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه ". وقال فارس رضي الله عنه : القبض أولاُ ، ثم البسط ، ثم لا قبض ولا بسط ، لأن القبض والبسط يقعان في الوجود وأما مع الفناء والبقاء فلا. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 284
قلت : " قارون " : غير مصروف ؛ للعجمة والتعريف ، ولو كان " فاعولاً " ؛ من قرنت الشيء ، لا نصرف لخروجه عن العجمة. {إذ قال} : ظرف لبَغَى أي : طغى حين وُعِظ ، ولم يقبل ما وُعظ به ، أو : يتعلق بمقدر ، أي : أظهر التفاخر بالمال حين قال له قومه : لا تفرح. و " ما " : موصولة ، و " إنَّ مفاتحه " : صلته ، ولذلك كسرت.
يقول الحق جل جلاله : {إنَّ قارون كان من قوم موسى} كان إسرائيلياً ، ابن عم لموسى وابن خالته ، فهو قارون بن يصهر بن قَاهَث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى بن عمران بن قاهَث. وكان يسمى " المنور " ؛ لحُسن صورته وكان آمن بموسى ، وكان أحفظ الناس للتوراة ، ولكنه نافق كما نافق السامري. {فَبَغَى عليهم} ، من البغي ، أي : الظلم : قيل : ملَّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. أو : من البغي ، أي : الكبر ، أي : تكبر عليهم بكثرة ماله وولده ، وزاد عليهم في الثياب شبراً ، فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده.
(5/435)
{وآتيناه من الكنوز ما} الذي {إنَّ مفاتِحَه} ؛ جمع مِفتح ، بمعنى المقَلد ، أي : إن مقاليده {لَتَنُوءُ} أي : تثقل {بالعُصْبَةِ} ، الباء للتعدية ، يقال : ناء به الحمل : أثقله حتى أماله. والعصبة : الجماعة الكثيرة ، وكانت مفاتح خزائنه وقرَ ستين بغلاً ، لكل خزانة مفتاح ، ولا يزيد المفتاح على إصبع. وكانت من جلود ، أي : مغاليقها. وقيل : معنى تنوء : تنهض بِتَكَلُّفِ ، ويكون حينئذٍ في الكلام قلب ؛ إذ العصبة هي التي تنوء بالمفاتح ، لا العكس ، قيل : وسميت أمواله كنوزاً ؛ لأنه كان لايؤدي زكاتها ، وبسبب ذلك عادى موسى أول عداوته.
{إذْ قال له قومُه لا تفرح} ؛ لا تبطر بكثرة المال ؛ فرَح إعجاب ؛ لأنه يقود إلى الطغيان. أو : لا تفرح بالدنيا ؛ إذ لا يفرح بها إلا من لا عقل له ، {إن الله لا يُحب
286
الفَرِحِين : } البطرين المفتخرين بالمال ، أو : الفرحين بزخارف الدنيا ، من حيث حصول حظوظهم وشهواتهم فيها. قال البيضاوي : الفرح بالدنيا مذموم مطلقاً ؛ لأنه نتيجة حبها والرضا بها ، والذهول عن ذهابها ، قإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارق لا محالة ، يوجب التوخي لا محالة ، كما قيل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 286
أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرورٍ
تَيَقّن عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
(5/436)
{وابتغِ فيما آتاك الله} من المال والثروة {الدارَ الآخرة} ؛ بأن تتصدق على الفقراء تصل الرحم ، وتصرفه في أنواع الخير ، {ولا تنس نصيبَكَ من الدنيا} ، وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك. وقيل : معناه : واطلب بدنياك آخرتك ؛ فإن ذلك حظ المؤمن منها لأنها مزرعة الآخرة ، فيها تكتسب الحسنات وترفع الدرجات ، أي : لا تنس نصيبك منها أن تقدمه للآخرة ، {وأحسنْ} إلى عباد الله {كما أحسن الله إليك} فيما أنعم به عليك : أو : أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام ، كما أحسن إليك بسوابغ الإنعام. {ولا تبغِ الفسادَ في الأرض} بالظلم والبغي وإنفاق المال في المعاصي ؛ {إن الله لا يحب المفسدين} ؛ لا يرضى فعلهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : في الآية زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها ، بل الفرح بكل ما يَفنِي : كُلُّهُ مذموم. قال في الإحياء : الفرح بالدنيا والتنعم بها سُمٌّ قاتل ، يسري في العروق ، فَيُخرجُ من القلب الخوفَ والحزنَ ، وذكرَ الموت وأهوالَ يوم القيامة ، وهذا هو موت القلب ، والعياذ بالله ، فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لِمُوَاتَاةِ الدنيا ، وَعَلِموا أن النجاة في الحزن الدائم ، والتباعُدِ من أسباب الفرح والبطر ، فقطعوا النفس عن ملاذها ، وعودوا الصبر عن شهواتها ، حلالها وحرامها ، وعلموا أن حلالها حساب ، وهو نوع عذاب ، ومن نوقش الحساب عُذّب ، فخلَصوا أنفسهم من عذابها ، وتوصلوا إلى الحرية والملك في الدنيا والآخرة ، بالخلاص من أسر الشهوات ورقها ، والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته. هـ.
وقال يُمْن بن رزق : اعلم أني لم أجد شيئاً أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب ، وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب : أنْسُ القلب بالوحدة. هـ. قلت : وهذا مذهب العباد والزهاد ، وأما العارفون فقد دخلوا جنة المعارف ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، جعلنا الله من خواصهم ، بمنِّه وكرمه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 286
(5/437)
يقول الحق جل جلاله : {قال} قارون : {إنما أُوتيته} أي : المال {على علم
287
عندي} أي : على استحقاق مني ، لِمَا فيّ من العلم الذي فَضلت به الناس ، وهو علم التوراة ، وكان أعلم الناس به بعد ، موسى وهارون ، وكان من العباد ، ثم كفر بعد ذلك. وذكر القشيري أنه كان منقطعاً في صومعة للعبادة ، فصحبة إبليسُ على العبادة ، واستمر معه على ذلك ، وهو لا يشعر ، إلى أن ألقى إليه : إن ما هما عليه ، من الانقطاع عن التكسب ، وكون أمرها على أيدي الناس ، ليس بشيء ، فرده إلى الكسب بتدريج ، إلى أن استحكم في حب الدنيا والجمع والمنع ، ثم تركه. هـ. وقيل : المراد به علم الكيمياء ، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. أو : العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة ، أو : العمل بكنوز يوسف.
قال تعالى : {أَوَلَمْ يعلم أن الله قد أهلكَ مِنْ قبله من القرون مَنْ هو أشدُّ منه قوةً وأكثرُ جَمْعاً} ، أي : أو لم يكن في علمه ، من جملة العلم الذي عنده ، أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه وأقوى وأغنى ، وأكثر جمعاً للمال ، أو أكثر جماعة وعددا ، وهو توبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله ، مع علمه بذلك ؛ لأن قرأه في التوراة ، وسمعه من حفاظ التواريخ. أو : نفيٌ لعلمه بذلك ؛ لأنه لَمَّا قال : {أُوتيته على علم عندي} ؛ قيل له ، أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ، ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع ، الذي هو الاعتبار بمن هلك قبله ، حتى يَقِيَ نفسه مصارع الهالكين.
{ولا يُسْئل عن ذنوبهم المجرمون} ، لعلمه تعالى بعملهم ، بل يُدخلهم النار بغتة.
(5/438)
أو : يعترفون بها بغير سؤال ، أو : يُعرفون بسيماهم فلا يُسألون ، أو : لا يُسألون سؤال توبيخ ، أو لا يُسْأَلُ المجرمون من هذه الأمة عن ذنوب الماضين. قال محمد بن كعب : هو كلام متصل بما قبله ، والضمير في (ذنوبهم) ؛ عائد على من أهلك من القرون ، أي : أُهلكوا ، ولم يُسْأَلُ غيرهم بعدهم عن ذنوبهم ، بل كان أحد إنما يُعاتب على ما يخصه. هـ. وإذ قلنا هو ؛ في القيامة فقد ورد في آيات أخر أنهم يُسْألون ، ويومُ القيامة مواطن وطوائف. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 287
الإشارة : إذا خص الله عبداً بخصوصية فلا ينسبها لنفسه ، أو لحوله وقوته ، أو لكسبه ومجاهدته ، بل يشهدها منَّةً من الله عليه ، وسابق عناية منه إليه ، قال سهل رضي الله عنه : ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح ، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله ، وفتح له سبيل رؤيةِ مِنَّةِ الله عليه ، في جميع الأفعال والأقوال. والشقي مَنّ زُيِّنَ له في عينه أفعالهُ وأقوالُه وأحوالُه ، ولا فتِحَ له سبيلُ رؤيةِ منَّةِ الله عليه ، فافتخر بها وادعاها لنفسه ، فشؤمه أن يهلكه كما خسف بقارون. لَمّا ادعى لنفسه فضلاً. هـ.
288
جزء : 5 رقم الصفحة : 287
قلت : (في زينته) : حال ، {ويْكَأنه} : مذهب الخليل وسيبويه : أن " وي " : حرف تنبيه منفصلة عن كَأَنَ ، لكن أضيفت لكثرة الاستعمال. وقال أبو حاتم وجماعة : " ويك " هي " ويلك " ؛ حذفت اللام منها ؛ لكثرة الاستعمال. وقالت فرقة : " ويكأن " بجملتها كلمة. قاله الثعلبي ، وقال البيضاوي : ويكأن ، عند البصريين ، مركب من " وي " ؛ للتعجب ، و " كأن " ، للتشبيه. هـ. وقال سيبويه : " وي " : كلمة تنبيه على الخطأ وتَنَدُّمٍ ، يستعملها النادم لإظهار ندامته.
(5/439)
يقول الحق جل جلاله : {فخرج} قارونُ {على قومه في زينته} ، قال جابر : كانت زينته القرمز ، وهو صبغ أحمر معروف. قيل : إنه خرج في الحمرة والصفرة ، وقيل : خرج يوم السبت على بغلة شهباء ، عليها الأرْجُوان ، وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه ، وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلاثمائة غلام ، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض ، عليهن الحليّ والديباج.
{قال الذين يُريدون الحياةَ الدنيا} ، قيل : كانوا مسلمين ، وإنما تمنوا ، على سبيل الرغبة في اليسار ، كعادة البشر ، وقيل : كانوا كفاراً ، ويرده قوله : {لولا أن مَنّ الله علينا..} إلخ. {يا ليت لنا مِثْلَ ما أُوتي قارونُ} من المال والجاه ، قالوه ؛ غِبْطَةً. والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه ، من غير أن تزول عنه ، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له ، دونه. وهو كقوله تعالى : {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىا بَعْضٍ} [النساء : 32] ، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تضر الغبطة ؟ فقال : " لا... " الحديث. {إنه لذو حظٍ عظيم} من الدنيا ، والحظ : الجَدُّ ، وهو البخت والدولة.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 289
وقال الذين أُوتوا العلمَ} بالثواب والعقاب وفناء الدنيا ، أو : أتوا العلم بالله ، فيؤخذ منه : أن متمني الدنيا جاهل ولو كان أعلم الناس ؛ إذ لا يتمناها إلا المحب لها ، وهي رأس الفتنة. فأيّ علم يبقى مع فتنة الدنيا ؟ ! قالوا في وعظهم لغابطي قارون : {وَيْلَكُمْ} ؛ هلاكاً لكم ، فأصل ويلك : الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع على
289
(5/440)
ترك ما لا يرضى. وقال في التبيان في إعراب القرآن : هو مفعول بفعل محذوف ، أي : ألزمتكم الله ويلكم ، {ثوابُ الله} في الآخرة ، {خير لمن آمن وعَمِلَ صالحاً} مما أوتي قارون ، بل من الدنيا وما فيها ، {ولا يُلقَّاها} أي : لا يلقى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء ، وهي ثواب الله خير ، {إلا الصابرون}. أو : لا يلقى هذه القوة والعزيمة في الدين إلا الصابرون على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا.
وفي حديث الترمذي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك اللباس - أي : الفاخر - ؛ تواضعاً لله تعالى ، وهو يَقْدِرُ عليه ، دعاهُ الله على رؤوس الخلائق ، حتى يُخَيِّره من أي حُلل الإيمانِ شاء يَلْبَسُهَا " وفيه أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام : " لَيْسَ لابن آدَمَ حقٌّ في سوى هذِهِ الخِصَال ؛ بيتٌ يَسْكُنُهُ ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَه ، وجلَف الخُبْزِ وَالْمَاءِ " أي : ليس معه إدام.
(5/441)
قال تعالى : {فخسفنا به} ؛ بقارون {وبداره الأرض} ، كان قارون يؤدي موسى عليه السلام كل وقت ، وهو يداريه ؛ للقرابة التي بينهما ، حتى نزلت الزكاة ، فصالحه : على كل ألف دينار دينارٌ ، وعلى كل ألف درهم درهمٌ ، فحاسبه فاستكثره ، فشحت به نفسه ، فجمع بني إسرائيل ، وقال له : قد أطعتم موسى في كل شيء ، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فَمُرنا بما شئت ، قال : نجعل لفلانة البغي جُعْلاً حتى تقذف موسى بنفسها ، فيرفضه بنو إسرائيل ، فجعل لها ألف دينار ، أو : طستاً من ذهب ، فلما كان يوم عيد قام موسى خطيباً ، فقال : من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة ، ومن زنى وله امرأة رجمناه ، فقال قارون : وإن كنتَ أنتَ ؟ قال : وإن كنتُ أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، فأحضرت ، فناشدها بالذي خلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق ، فقالت : جعل لي قارون جُعلا على أن أقذفك بنفسي ، فخرَّ موسى ساجداً يبكي ، وقال : اللهم إن كنتُ رسولَك فاغضبْ لي ، فأوحى الله تعالى إليه : مُر الأرض بما شئت فيه ، فإنها مطيعة لك ، فقال : يا بني إسرائيل : إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا جميعاً غير رَجُلَيْن. ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارونُ وأصحابه يتضرعون إلى موسى ، ويناشدونه بالله وبالرحم ، وموسى لا يلتفت إليهم ؛ لشدة غضبه ، ثم قال : خذيهم ، فانطبقت عليهم. فقال الله تعالى : يا موسى ؛ استغاث بك مراراً فلم ترحمه ، فوعزتي لو استرحمني مرة لرحمته.
290
رُوي أنه يخسف كل يوم قامة ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، فقال بعض بني إسرائيل : إنما أهلكه ليرث داره وكنوزه ، فدعى الله تعالى فخسف بداره وكنوزه ، وأوحى الله تعالى إلى موسى : إني لا أُعَبِّدُ الأرض أحداً بعدك أبداً ، أي : لا آمرها تطيع أحداً بعدك.
{
(5/442)
جزء : 5 رقم الصفحة : 289
فما كان له من فئة} ؛ جماعة {ينصرونه من دون الله} ؛ يمنعونه من عذاب الله {وما كان من المنتصرين} من عذاب الله ، أو : من المنتقمين من موسى.
{وأصبح} أي : وصار {الذين تمنَّوا مكانَه} أي : منزلته من الدنيا {بالأمس} : متعلق بتمنوا. ولم يُرد به اليوم الذي قبل يومك ، ولكن الوقت القريب ، استعارة. {يقولون ويْكأنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدرُ} أي : أعجب مما صنع بقارون ؛ لأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ، وهو عنده ممقوت ، {ويقدر} أي : يضيقه على من يشاء ، وهو عنده محبوب. {لولا أن مَنَّ الله علينا} ؛ بصرف ما كنا نتمناه بالأمس ، {لخسف بنا} معه ، كما فعل بالرجلين {ويْكأنه لا يُفلح الكافرون} أي : اعجب لعدم فلاح الكافرين. قال الرضي : كأنه المخاطب كان يدعي أنهم يفلحون ، فقال له : عجباً منك ، فسئل : لم تتعجب منه ؟ فقال : إنه لا يفلح الكافرون ، فحذف حرف الجار. وقال ابن عزيز : ويكأن الله معناه. ألم تر أن الله. واقتصر عليه البخاري. والله تعالى أعلم.
(5/443)
الإشارة : في الآية ترهيب من التعمق في زينة الدنيا ، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها ، وترغيب في الزهد فيها ، وإيثار الفقر على الغنى ، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف ؛ سيدي عبد الرحمن بن يوسف اللجائي في كتابه : اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد ، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا ، ويتمنى أن ينال منها ما نال ، فإن كل إنسان يعظم ما اشتهت نفسه. وهذه صفة عبيد الدنيا ، وعبيد أهوائهم. وهي صفة من أسكرته الغفلة ، وخرجت عظمة الله عز وجل من قلبه ، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى : {قال الذين يريدون الحياة الدنيا...} الآية. فكل محب للدنيا ، مستغرق في حبها ، فهو لاحق بالذين تموا زينة قارون. واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب ، واستوطنت ، ظهر ذلك على جوارح العبد ، بتكالبه عليها ، وشدة رغبته فيها ، فيسلبه الله تعالى لذة القناعة ، ويمنعه سياسة الزاهدين ، ويبعده عن روح العارفين ؛ فإن القلب إذا لم يقنع ـ لو ملك الدنيا بحذافيرها ـ لم يشبع. وقال بعض الحكماء : القناعة هي الغنى الأكبر ، ولن تخفى صفة القانعين. هـ. ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون ، من الفناء والذهاب تحت التراب ، وأنشدوا :
إنْ كُنْتَ تَسّمُوِ إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا
فَانْظُرْ إِلى مَالِكَ الأَمْلاَكِ قَارُونِ
رَمَّ الأُمُورَ فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا
وَسَخَّرَ النَّاسَ ؛ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ
جزء : 5 رقم الصفحة : 289
حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه
وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ
291
رَاحَتْ عَلَيْهِ الْمَنَايَا رَوْحَةً تَرَكَتْ
ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ وَالطِّينِ
جزء : 5 رقم الصفحة : 289
قلت : (تلك) : مبتدأ ، و(نجعلها) : خبر.
(5/444)
يقول الحق جل جلاله : {تلك الدارُ الآخرة} أي : تلك الدار التي سمعْت بذكرها ، وبلغت خبرها. وعنى البُعد في الإشارة ، لبُعد منزلتها وعلو قدرها ، {نجعلها للذين لا يُريدون علواً في الأرض} أي : تكبراً وقهراً كحال فرعون ، {ولا فساداً} ؛ عملاً بالمعاصي ، أو ظلماً على الناس ، كحال قارون ، أو قتل النفس ، أو : دعاء إلى عبادة غير الله ، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما ، أدرك ذلك بالفعل أم لا. وعن علي رضي الله عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحيه ، فيدخل تحتها. وعن الفضيل : أن قرأها ، ثم قال : ذهبت الأماني ها هنا وعن عمر عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قُبض. {والعاقبة} المحمودة {للمتقين} ما لا يرضاه الله ؛ من العلو والفساد وغير ذلك.
{ومن جاء بالحسنة فله خيرٌ منها} ذاتاً وقدراً ووصفاً ، {ومن جاء السيئة} ؛ مالا يرضاه الله تعالى ، {فلا يجزى الذين عملوا السيئات} ، أصله : فلا يجزون ، وضع الظاهر موضع المضمر ؛ لِمَا في إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفية أحلامهم ، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين ، {إلا ما كانوا يعملون} ؛ إلا جزاء عملهم فقط ، ومن فضله العظيم ألا يجزي السيئة إلا مثلها ، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
الإشارة : جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين ، أهل الذل والإنكسار ، والعاقبة المحمودة - وهي الوصول إلى الحضرة - للمتقين الشهرة والاستكبار ، وفي الحكم : " ادفن نفسك في أرض الخمول ؛ فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدفنْ ؛ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ ". قال في التنبيه : لا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت ؛ لأن ذلك من أعظم حظوظه ، التي هي مأمور بتركها ، ومجاهدة النفس فيها ، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. هـ.
(5/445)
وكان شيخ شيخنا يقول : نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته ، ولا يكون صيته أعظم من قدمه. هـ. وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه : ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال بعضهم : طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل. وقال أيوب رضي الله عنه : ما صدق عبد إلا سَرَّهُ ألا يشعر بمكانه. وقال في القوت : ومتى ذل العبد نفسه ، واتضع عندها ، فلم يجد لذلته طعماً ، ولا لضعته حسماً ، فقد صار الذل
292
والتواضع كونَه ، فهذا لا يكره الذم من الخلق ؛ لوجود النقص في نفسه ، ولا يحب المدح منهم ؛ لفقد القدر والمنزلة في نفسه. فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه ، لازمة لزوم الزبالة للزبال ، والكساحة للكساح ، هما صنعتان له كسائر الصنائع. وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما. فهذه ولاية عظيمة له من ربه ، قد ولاّه على نفسه ، وملّكه عليها ، فقهرها بعزه ، وهذا مقام محبوب ، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب. ثم قال : ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه ، كما يطلب المتكبر العز ، ويستحليه إذا وجده ، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله ، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه ؛ لأن ذلك عيش نفسه. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 292
قلت : وهذا مقام من المقامات ، والعارف الكالم لا يتغير قلبه على فقد شيء ؛ إذ لم يفقد شيئاً بعد أن وجد الله ، (مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ). والذي ذكره في القوت هو حال السائرين الصادقين. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 292
قلت : (ولا يصدنك) : مجزوم بحذف النون ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، حين دخلت نون التوكيد.
(5/446)
يقول الحق جل جلاله : لرسوله صلى الله عليه وسلم {إن الذي فَرَضَ عليك القرآن} أي : أوجب عليك تلاوته وتبليغه ، والعمل بما فيه ، {لرادُّك إلى معاد} عظيم ، وهو المعاد الجسماني ؛ لتقوم المقام المحمود ، الذي لا يقوم فيه أحد غيرك ، مع حضور الأكابر من الرسل وغيرهم. أو : لرادك إلى معادك الأول ، وهو مكة ، وكان عليه الصلاة والسلام اشتاق إليها ؛ لأنها مولده ومولد آبائه ، وقد ردّه إليها يوم الفتح ، وإنما نكَّره ؛ لأنه كان في ذلك اليوم معاد له شأن ، ومرجع له اعتداد ؛ لغلبته - عليه الصلاة والسلام - ونصره ، وقهره لأعدائه ، ولظهور عز الإسلام وأهله ، وذل الشرك وحزبه.
والسورة مكية ، لكن هذه الآية نزلت بالجُحْفَةِ ، لا بمكة ولا بالمدينة ، وفي الآية وعد بالنصر ، وأن العاقبة الحسنة والخير الجسيم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يختص بالآخرة ، بل يكون في الدنيا له ولمتَّبِعيهِ ، ولكن بعد الابتلاء والامتحان ، كما في صدر السورة الآتية بعدها ، وبهذا يقع التناسب بينهما ، فإنها كالتعليل لِمَا قبلها.
293
ولما وعده بالنصر قال له : (قل ربي أعلم من جاء بالهُدى أي : يعلم مَنْ جاء بالحق ، يعني نَفْسَهْ صلى الله عليه وسلم مع ما يستحقه من النصر والثواب ، في معاده ، {ومن هو في ضلال مبين} ؛ وهم المشركون ، مع ما يستحقونه من العقاب في معادهم.
{وما كنتَ ترجو أن يُلقى} ؛ يوحي {إليك الكتابُ} أي : القرآن ، فكما ألقى إليك الكتاب ، وما كنت ترجوه ؛ كذلك يردك إلى معادك الأول ، من غير أن تَرْجُوَهُ ، {إلا من رحمةً من ربك} ، لكن ألقاه إليك ، رحمة منه إليك ، ويجوز أن يكون استثناء محمولاً على المعنى ، كأنه قال : وما أُلْقِيَ إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ، {فلا تكونن ظهيراً} ؛ معيناً {للكافرين} على دينهم ؛ بمُداراتهم والتحمل عنهم ، والإجابة إلى طلبتهم.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
(5/447)
ولا يَصُدُّنَّك عن آيات الله} أي : لا يمنعك هؤلاء عن العمل بآيات الله وتبليغها وإظهارها ، {بعد إذ أُنزلت إليك} أي : بعد وقت إنزالها ، و {إذ} : مضاف إليه أسماء الزمان ، كقولك : حينئذٍ ويَومَئذٍ. {وادعُ إلى ربك} ؛ إلى توحيده وعبادته ، {ولا تكونن من المشركين} ، نهاه ، تنفيراً لغيره من الشرك.
{ولا تَدْعُ مع الله إلهاً آخر} ، قال ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به أَهْلُ دينه. قال البيضاوي. وهذا وما قبله تهييج ، وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم ، {لا إله إلا هو} : استئناف ، مقرر لِمَا قبله ، {كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وَجْهَهُ} أي : ذاته ، فالوجه يُعَبِّرُ به عن الذات ، أي : لكل شيء فانٍ مستهلك معدوم ، إلا ذاته المقدسة ، فإنها موجودة باقية. وقال أبو العالية : إلا ما أريد به وجه الله ، مِنْ عِلْمٍ وعمل ، فإنه لا يفنى. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : يجاء بالدنيا يوم القيامة ، فيقال : ميزوا ما كان لله تعالى منها ، فيميز ، ثم يؤمر بسائرها فيُلقى في النار. هـ. وقال الضحاك : كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش.
{له الحُكْمُ} ؛ القضاء النافذ في خلقه ، {وإليه تُرجعون} ؛ للجزاء والفصل. والله تعالى أعلم.
(5/448)
الإشارة : أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية ، فيقولون لها : إن الذي فرض عليك القرآن ، أن تعمل به في الدنيا لرادك إلى معاد جسماني روحاني ، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب ، من غير عذول ولا رقيب ، على سبيل الاتصال ، من غير تكدر ولا انفصال ، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية ؛ فيقولون : {ربي أعلم} الآية.. وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إلا رحمة من ربك ، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها ، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها ، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه ، بعد إذ أُنزلت إليك ، أي : لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله ، الدالين عليه ، وادع إلى ربك ، أي : إلى معرفة ذاته ووحدانيته ، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى ، فإن كل شيء هالك ، أي : معدم في الماضي والحال والاستقبال ، إلا
294
وجهه : إلا ذاته ، فلا موجود معها ، وفي ذلك يقول الشاعر :
الله قُلْ ، وذَرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى
إِنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلُوغَ كَمَال
فَالْكُلُّ ، دون اللهِ ، إِن حَقَّقْتَهُ ،
عَدََمٌ عَلَى التَّفْصِيل وَالإجْمَالِ
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
وَاعلَمْ بأنَّكَ ، والعَوالِمَ كُلَّها ،
لَوْلاَهْ ، فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ
مَنْ لاَ وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ
فَوُجُودُهُ ، لولاه ، عَيْنُ مُحَالِ
فَالْعَارِفُون فَنَوْا ، وَلَمْ يَشْهَدُوا
شَيْئاً سِوَى المُتَكَبِّرِ الْمُتَعَالِ
وَرَأَوْا سِوَاهُ عَلَى الحَقِيقَةِ هَالِكاً
فِي الْحَاِلِ وَالْمَاضِي وَالاسْتِقْبَال
وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وَصَلَّى اللهُ على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسَلَّمَ.
295
جزء : 5 رقم الصفحة : 293(5/449)
سورة العنكبوت
جزء : 5 رقم الصفحة : 295
قلت : الحسبان : قوة أحد النقيضين على الآخر ، كالظن ، بخلاف الشك ، فهو الوقوف بينهما. والعلم : هو القطع بأحدهما ، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات ، ولكن بمضامين الجمل ، فلا أقول : حَسِبْتُ زيداً ، وظننت الفرس ، بل حسبت زيداً قائماً ، والفرس جواداً. والكلام الدال على المضمون ، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله : {وهم لا يفتنون} أي : أحسبو تركهم غير مفتونين لأن يقولوا : آمنا.
يقول الحق جل جلاله : {الم} : الألف : لوحدة أسرار الجبروت ، واللام : لفيضان أنوار الملكوت ، والميم : لاتصال المادة بعالم الملك. فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته ، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره ؛ ليظهر صدقه أو كذبه ، وهذا معنى قوله : {أحَسِبَ الناسُ} أي : أظن الناس {أن يُتركوا} غير - مفتونين ومختَبَرِين ، {أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون} ؛ أظنوا أن يَدَّعوا الإيمان ولا يُختبرون عليه ؛ ليظهر الصادق من الكاذب ، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف ؛ من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، ورفض الشهوات ، ووظائف الطاعات ، وبالفقر ، والقحط ، وأنواع المصائب في الأموال والأنفس ، وإذاية الخلق ؛ ليتميز المخلص من المنافق ، والثابت في الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالي الدرجات ، فإن مجرد الإيمان ، وإن كان على خلوص قلب ، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب ، وما ينال
296
العبدَ من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات ، مع ما في ذلك من تصفية النفس وتهذيبها ، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان.
رُوي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد جزعوا من أذى المشركين ، وضاقت صدورهم من ذلك ، وربما استنكر بعضهم أن يُمكِّن اللهُ الكفرةَ من المؤمنين. فزلت مُسلِّية ومعِلْمة أن هذه هي سيرة الله في عباده ؛ اختباراً لهم.(5/450)
قال تعالى : {ولقد فتنَّا الذين مِنْ قبلهم} بأنواع المحن ؛ فمنهم من كان يُوضع المناشر على رأسه ، فَيُفْرَقُ فرقتين ، وما يصرفه ذلك عن دينه ، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد ، ومنهم من كان يُطرح في النار ، وما يصده ذلك عن دينه. {فليعْلَمَنَّ اللهُ} بذلك الامتحان {الذين صَدَقُوا} في الإيمان بالثبات ، {وليعلمنَّ الكاذبين} بالرجوع عنه. ومعنى علمه تعالى به ، أي : علم ظهور وتمييز. والمعنى : ولَيُمَيِّزَنَّ الصادق منهم من الكاذب ، في الدنيا والآخرة. قال ابن عطاء : يَتَبَيَّن صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء ، فمن شكر في أيام الرخاء ، وصبر في أيام البلاء ، فهو من الصادقين ، ومن بطر في أيام الدنيا ، وجزع في أيام البلاء ، فهو من الكاذبين. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
الإشارة : سُنَّة الله تعالى في أوليائه : أن يمتحنهم في البدايات ، فإذا تمكنوا من معرفة الله ، وكمل تهذيبهم ، أعزهم ونصرهم ، وأظهرهم لعباده. ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول ، حتى يلقوه على ذلك ؛ وهم عرائس الملكوت ، ضنَّ بهم أن يظهرهم لخلقه. والامتحان يكون على قدر المقام ، وفي الحديث : " أشدُّ الناسِ بلاءً : الأنبياء ، ثم الأمْثَلُ فالأمثلُ ، يُبْتَلَى الرجلُ على قدر ديِنهِ ، فإن كان في دينه صُلْباً ، اشتد بلاؤُهُ ، وإن كان في دينِه رقَّةٌ ، ابتلى على قَدرِ دينِه ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يَتْرُكَهُ يَمْشِي على الأرْضِ وما عليه مِنْ خَطِيئة ". وقال صلى الله عليه وسلم : " أشدُّ الناسِِ بلاءً في الدنيا : نبي أو صفي " وقال صلى الله عليه وسلم : " أشدُّ الناس بلاءً : الأنبياءُ ، ثم الصالحون. لقد كان أحدهم يُبْتَلى بالفقر ، حتى ما يَجَدَ إلا العباءَةَ يُحَوِّيهَا فيلبسها ، ويُبْتَلى بالقَمَلِ حتى يَقْتُلَهُ ، ولأَحَدُهُمْ كان أشدَّ فرحاً بالبلاء من أحَدِكُم بالعطاء " من الجامع. والله تعالى أعلم.
(5/451)
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
يقول الحق جل جلاله : {أَمْ حَسِبَ الذين يعملون السيئات} أي : الشرك والمعاصي وإذاية المسلمين ، {أن يسبقونا} أي : يفوتونا ، بل يلحقهم الجزاء لا محالة. و " أم " : منقطعة ، ومعنى الإضراب فيها : أن هذا الحسبان أَبْطَلُ من الحسبان الأول ، لأن ذلك يظن أنه لا يُمْتَحَنُ لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يُجَازَى بمساوئه ، وشبهته أضعف ، ولذلك عقّبه بقوله : {ساءَ ما يحكمون} ، أي : بئس ما يحكمون به حكمهم في صفات الله أنه مسبوق ، وهو القادر على كل شيء ، فالمخصوص محذوف.
ثم ذكر الحامل على الصبر عند الإمتحان ، وهو رجاء لقاء الحبيب ، فقال : {من كان يرجو لقاء الله} أي : يأمل ثوابه ، أو يخاف حسابه ، أو ينتظر رؤيته ، {فَإِنَّ أَجَلَ الله} المضروب للغاية {لآتٍ} لا محالة. وهو تبشير بأن اللقاء حاصل ؛ لأنه لأجل آت ، وكل آت قريب. وكل غاية لها انقضاء ، فليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله. {وهو السميعُ} لما يقوله عباده ، {العليمُ} بما يفعلونه ، فلا يفوته شيء.
{ومن جاهَدَ} نفسه ، بالصبر على مشاق الطاعات ، ورفض الشهوات ، وإذاية المخلوقات ، وَحَبَسَ النفس على مراقبة الحق في الأنفاس واللحظات ، {فإِنما يُجاهدُ لنفسه} ؛ لأن منفعة ذلك لها ، {إن لله لغنيٌ عن العالمين} وعن طاعاتهم ومجاهدتهم. وإنما أمر ونهي ؛ رحمة لهم ، ومراعاة لصلاحهم.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرنَّ عنهم سيئاتهم} أي : الشرك والمعاصي ؛ بالإيمان والتوبة ، {ولنجزينهم} مع غنانا عنهم ، {أحسنَ الذين كانوا يعملون} أي : أحسن جزاء أعمالهم ؛ بالفضل والكرم. والله تعالى أعلم.
(5/452)
الإشارة : أم حسب الذين يُنكرون على أوليائي ، المنتسبين إليّ ، أن يسبقونا ؟ بل لا بد أن نعاقبهم في الدنيا والآخرة ، إما في الظاهر ؛ بمصيبة تنزل بهم ، أو في الباطن ، وهو أقبح ، كقساوة في قلوبهم ، أو : كسل في بدنهم ، أو : شك في يقينهم ، أو : بُعد من ربهم ، فإن من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب. ثم بشّر المتوجهين الذين يؤذَون في جانبه ، بأن لقاءه حاصل لهم إن صبروا ، وهو الوصول إلى حضرته ، والتنعم بقربه ومشاهدته ، جزاء على صبرهم ومجاهدتهم ، وهو الغَنِي بالإطلاق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 297
298
قلت : " وصى " حُكمه حُكْمُ " أَمَرَ " ، يقال وصيت زيداً بان يفعل خيراً ، كما تقول : أمرته بأن يفعل خيراً ، ومنه : {وَوَصَّىا بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة : 132] ، أي : أمرهم بكلمة التوحيد ووصاهم عليها.
يقول الحق جل جلاله : {ووصينا الإنسانَ بوالديه} ؛ أمرناه بإيتاء والديه {حُسْناً} أي : فعلاً ذا حُسْنٍ ، أو : ما هو في ذاته حُسن ، لفرط حسنه ، كقوله : {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة : 83] أو : وصينا الإنسان بتعاهد والديه ، وقلنا له : أحسن بهما حسناً ، أو أوْلِهِمَا حُسْناً. {وإِن جاهداك} أي : حملاك بالمجاهدة والجد {لتُشرك بي ما ليس لك به علم} أي : لا علم لك بالإلهية ، والمراد نَفْيُ العلم نَفْيُ المعلوم ، وكأنه قيل : لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً ، وقيل : ما ليس لك به حجة ؛ لأنها طريق العلم ، فهو قوله : {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون : 117] ، بل هو باطل عقلاً ونقلاً ، {فلا تُطعمها} في ذلك ؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
(5/453)
{إليّ مرجعُكُم} ، من آمن منكم ومن أشرك ، {فأُنبئُكم بما كنتم تعملون} ؛ فأُجازيكم حق جزائكم. وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك ، وحث على الثبات والاستقامة في الدين. رُوي أن سعد بن أبي وقاص لما أسلم ، نذرت أمه ألا تأكل ولا تشرب حتى يرتد ، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية والتي في لقمان {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} [لقمان : 15].
{والذين آمنوا} ؛ ثبتوا على الإيمان {وعملوا الصالحات لنُدخِلنّهم في الصالحين} أي : في جملتهم ، والصلاح مِن أبلغ صفة المؤمنين ، وهو متمني الأنبياء ، فقال سليمان عليه السلام : {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل : 19]. وقال يوسف عليه السلام : {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف : 101] أو : في مدخل الصالحين ، وهو الجنة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 298
الإشارة : قد وصى الله تعالى بطاعة الوالدين في كل شيء ، إلا في شأن التوحيد والتخلص من الشرك الجلي والخفي ، فإن ظهر شيخ التربية ومنع الوالدان ولدَهما من صحبته ، ليتطهر من شركه ، فلا يُطعمها ، وسيأتي في لقمان دليل ذلك ، إن شاء الله. وبالله التوفيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 298
299
(5/454)
يقول الحق جل جلاله : {ومن الناس من يقول آمنا بالله} ، فيدخل في جملة المسلمين ، {فإِذا أُوذي في الله} أي : مسّه أذىً من الكفرة ؛ بأن عذبوه على الإيمان ، {جعل فتنةَ الناسِ كعذابِ الله} أي : جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ، فَيُصْرَفْ عن الإيمان ، {ولئن جاء نصرٌ من ربك} ؛ فتح أو غنيمة ، {ليقولن إنا كنا معكم} أي : متابعين لكم في دينكم ، ثابتين عليه بثباتكم ، فأعطونا نصيباً من المغنم. والمراد بهم : المنافقون ، أو : قوم ضعف إيمانهم فارتدوا. قال تعالى : {أَوَلَيس الله بأعلمَ بما في صدور العالمين} أي : هو أعلم بما في صدور العالمين. ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق ، وما في صدور المؤمنين. من الإخلاص.
الإشارة : منافق أهل الإيمان هو الذي يظهر الإيمان في الرخاء ويرجع عنه في الشدة ، ومنافق الصوفية هو الذي يظهر الانتساب في السعة والجمال ، فإذا وقع البلاء والاختبار بأهل النسبة خرج عنهم ، فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله بالقطيعة والحجاب ، ولئن جاء لأهل النسبة نصر وعز ، ليقولن : إنا كنا معكم. وقد رأينا كثيراً من هذا النوع ، دخلوا في طريق القوم ، فلما قابلتهم نيران التعرف والامتحان ؛ رجعوا القهقرى ، فعند الامتحان يعز المرء أو يهان ، وعند الحَمْلَةِ يتميز الجبان من الشجاع.
(5/455)
قال القشيري : المحن تُظْهِرُ جواهرَ الرجال ، وتَدُلُّ على قيمتهم وأقدارهم. ثم من كانت محنته من فوات الدنيا ، أو نقص نصيبه فيها ، أو بموت قريب أو فَقْد حبيب ، فحقيرٌ قدره ، وكثيرٌ في الناس مثله. ومن كانت محنته في الله ولله ، فعظيم قدره ، وقليل مثله ، في العدد قليل ، ولكن في القدر والخطر جليل. هـ. قلت : معنى كلامه : أن العامة يمتحنهم الله ويختبرهم بذهاب حظوظهم وأحبابهم ، فإن جزعوا فقدرهم حقير ، وإن صبروا فأجرهم كبير ، وأما الخاصة فيمتحنهم الله بسبب نسبتهم إلى الله ، وإقبالهم عليه ، أو الأمر بمعروف أو نهي عن منكر ، فَيُؤْذَوْنَ في جانب الله ، فمنهم من يُسجن ، ومنهم من يُضرب ، ومنهم من يُجلى من بلده ، فهؤلاء قدرهم عند الله كبير. ثم قال : والمؤمن مَنْ يكفُّ الأذى ، والولي من يتحمل من الناس الأذى ، من غير شكوى ، ولا إظهار دعوى. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 299
يقول الحق جل جلاله : {وقال الذين كفروا} من صناديد قريش ، {للذين آمنوا اتَّبِِعُوا سبيلَنَا} الذي نسلكه ، وهو الدخول في ديننا ، {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} إن كان ذلك خطيئة في زعمكم. أمروهم باتباع سبيلهم ، وهي طريقتهم التي كانوا عليها ، وأمروا
300
أنفسهم بحمل خطاياهم ، فعطف الأمر على الأمر ، وأرادوا ليجتمع هذان الأمران في الحصول. والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، أي : إن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم. وهذا قول صناديد قريش ، كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نُبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان ذلك فإنا نحمل عنكم الإثم.
(5/456)
قال تعالى : {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيءٍ} أي : ما هم حاملين شيئاً من أوزارهم ، {إنهم لكاذبون} فيما ادعوا ؛ لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يَعِدُون الشيء وفي قلوبهم نية الخُلْف. {وليَحْمِلُنَّ أثقالهم} أي : أثقال أنفسهم بسبب كفرهم ، {وأثقالاً مع أثقالهم} أي : أثقالاً أُخر غير التي ضمنوا للمؤمنين حملَها ، وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم ، كقولهم : {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل : 25] ، {وَلَيُسْأَلُنَّ يوم القيامة عما كانوا يفترون} من الأكاذيب والأباطيل التي ضلوا بها.
الإشارة : كل من عاق الناس عن الدخول في طريق التصفية والتخليص : تَصْدُقُ عليه هذه الآية ، فيتقلد بحمل نقائصهم ومساوئهم التي بقيت فيهم ، فيحاسب عليها وعلى مساوئ نفسه. والله تعالى أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 300
يقول الحق جل جلاله : {و} الله {لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلَبِثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاماً} يدعوهم إلى الله ، وهم يؤذونه بالشتم والضرب حتى نُصر ، فاصبر كما صبر ، فإن العاقبة للمتقين.
(5/457)
رُوي أنه عاش ألفاً وخمسين سنة ، وقيل : إنه ولد في حياة آدم ، وآدم يومئذٍ ابن ألف سنة إلا ستين عاماً. وقيل : إلا أربعين. ذكره الفاسي في الحاشية. والمشهور : أن بينه وبين آدام نحو العشرة آباء. وروي أنه بُعث على رأس أربعين ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين. وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وَهْبٍ أنه عاش في عمره ألفاً وأربعمائة ، وقيل : وستمائة ، فقال له ملك الموت : يا أطول الأنبياء عمراً ؛ كيف وجدت الدنيا ؟ قال : كَدَارٍ لها بابان ، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ولم يقل : تسعمائة وخمسين سنة ، لأنه ، لو قيل ذلك ، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره ، وهذا التوهم زائل هنا ، وكأنه قيل : تسعمائة وخمسين كاملة وافية العدد. مع أن ما ذكره الحق أسلس وأعذب لفظاً ، ولأن القصة سيقت لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمته ، وما كابده من طول
301
المصابرة ؛ تسليةً لنبينا - عليه الصلاة والسلام - فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض. وَجِيءَ ، أولاً : بالسّنةِ ثم بالعام ؛ لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة.
{فأخذهم الطوفانُ} ؛ طوفان الماء ، وهو ما طاف وأحاط ، بكثرة وغلبة ، من سيل ، أو ظلام ليلٍ ، أو نحوها ، {وهم ظالمون} أنفسهم بالكفر والشرك ، {فأنجيناه وأصحابَ السفينة} ، وكانوا ثمانية وسبعين نفساً ، نصفهم ذكور ، ونصفهم إناث ، أولاد نوح : سام ، وحام ، ويافث ، ونساؤهم ، ومَنْ آمَنَ مِنْ غَيْرِهِمْ ، {وجعلناها} أي : السفينة ، أو الحادثة ، أو القصة ، {آيةً} ؛ عبرة وعظة {للعالَمين} يتعظون بها.
(5/458)
الإشارة : كل ما سُلى به الأنبياء يُسَلّى بِهِ الأولياء ، فكل من أُوذي في الله ، او لحقته شدة من شدائد الزمان ، فليعتبر بمن سلف قبله من الأكابر ، ويتسلى بهم ، ولينظر إلى لطف الله وبره وإحسانه ، فإن لطفه لا ينفعك عن قدره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : العارف هو الذي يغرق إساءته في إحسان الله إليه ، ويغرق شداد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه ؛ فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون.
جزء : 5 رقم الصفحة : 301
قلت : (إبراهيم) : عطف على (نوح) ، أو متعلق باذكر ، و (وإذ قال) : ظرف زمان لأرسلنا ، أو : بدل اشتمال من (إبراهيم) ؛ إِنْ نُصِبَ باذكر ، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها.
يقول الحق جل جلاله : {وإِبراهيمَ} أي : وأرسلنا إبراهيم {إذ قال لقومه} أي : أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره ، وبلغ من السن والعلم مبلغاً صَلَحَ فيه لأن يعظ قَوْمَهُ ، وَيَأَمُرَهُمْ بالعبادة والتقوى. وقرأ النخعي وأبو حنيفة : بالرفع. أي : ومن المرسلين إبراهيم ، قال في وعظه : {اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم} مما أنتم عليه من الكفر ، {إن كنتم تعلمون} ؛ إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم.
{إنما تعبدون من دون الله أوثاناً} ؛ أصناماً {وتخلُقُون} : تختلفون وتكذبون ، أو تصنعون أصناماً بأيديكم تسمونها آلهة. وقرأ أبو حنيفة والسُّلَمِي : " وَتُخَلِّقُونَ " بالكسر والشد. من خَلَّقَ ؛ للمبالغة. {إفكاً} : وقرئ " أَفِكاً " بفتح الهمزة ، وهو مصدر ، نحو
302
كذب ولعب. واختلاقهم الإفك : تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله.
(5/459)
{إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً} : لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق ، {فابتغوا عند الله الرزقَ} كُلَّه ؛ فإنه هو الرزاق وحده ، لا يرزق غَيْرُهُ. {واعبدوه واشكروا له} أي : متوسلين إلى مطالبكم بعبادته ، مقيدين لما خصكم به من النعم بشكره ، {إليه تُرجعون} ، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه ، {وإِن تُكذِّبوا} أي : تكذبوني {فقد كَذَّبَ أُمَمٌ من قبلكم} رُسُلَهم ، {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} الذي يزول معه الشك. والمعنى : وأن تكذبوني فلا تضرونني بتكذيبكم ؛ فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم ، وما ضروهم ، وإنما ضروا أنفسهم ، حيث حلّ بهم العذابُ. وأما الرسول فقد أدى ما عليه حين بلغَ البلاغَ المبين ، الذي لم يبق معه شك ، حيث اقترن بآيات الله معجزاته. أو : وإن كنت مُكَذِّباً فيما بينكم ، فلي في سائر الأنبياء أسوة ، حيث كُذَّبُوا ، وعلى الرسول أن يُبَلِّغَ ، وما عليه أن يصدَّق ولايكذّب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 302
(5/460)
وهذه الآية من قوله : {وإِن تُكذِّبوا} إلى قوله : {فما كان جواب قومه} : يحتمل أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه السلام لقومه ، والمراد بالأمم قبله : قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم ، وأن تكون من كلام الله في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشأن قريش ، مُعْتَرِضَةً بين أول قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت : الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت ؛ معترضة فيه ؛ فلا تقول : مكة ، وزيد قائم ، خير بلاد الله ؟ قلت : قد وقع الاتصال ، وبيانه : أن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أباهُ إبراهيم كان مبتلى بنحو ما ابتلى به ؛ من شرك قومه ، وعبادتهم الأوثان ، فاعترض بقوله : {وإِن تُكذِّبوا} يا معشر قريش محمداً ، فقد كذب إبراهيمَ قومُه ، وكل أمة كذبت نبيها لأن قوله : {فقد كذّب أمم مِن قبلكم} لا بد من تناوله لأمة إبراهيم ، وهو كما ترى اعتراض متصل ، ثم سائر الأيات بعدها من توابعها ؛ لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله ، وهدم الشرك ، وتوهين قواعده ، وصفة قدرة الله وسلطانه ، ووضح صحته وبرهانه. قاله النسفي.
قال ابن جزي : {وإن تُكذِّبوا} يحتمل ان يكون وعيداً للكفار وتهديداً لهم ، أو يراد به تسلية النبي عن تكذيب قومه ، بالتأسي بغيره من الأنبياء الذين كذّبهم قومُهم. هـ.
الإشارة : قوله تعالى : {فابتغوا عند الله الرزق} ؛ قال سهل رضي الله عنه : معناه : اطلبوا الرزق في التوكل ، لا في الكسب ؛ فإن طلب بالكسب سبيل العوام. وقال ابن عطاء الله : اطلبوا الرزق في الطاعة والإقبال على العبادة. وقال القشيري : وقدَّم ابتغاء الرزق ؛ لتوقف القيام بالعبادة عليه ، ثم أمر بالشكر على الكفاية. هـ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 302
(5/461)
قلت : يقال : بدأ الله الخلق ، وأبداه : بمعنى واحد ، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة. وقوله : (يُعيده) : عطف على الجلمة ، لا على (يبدئ) ؛ لأن رؤية البداءة بالمشاهدة بخلاف الإعادة ، فإنها تُعْلَمُ بالنظر والاستدلال ، وهم لا يقرونها ، لعدم النظر. وقد قيل : إنه يريد إعادة النبات وإبداءه ، وعلى هذا تكون (ثم يعيده) : عطفاً على (يبدئ).
يقول الحق جل جلاله : {أَوَلَم يروا} أي : كفار قريش {كيف يُبدىءُ اللهُ الخلقَ} أي : يظهره من العدم ، أي : قد رأوا ذلك وعلموه ، {ثم يُعيده} بالبعث ؛ للجزاء بالعذاب والثواب.
قال القشيري : الذي دَاخَلَهم في الشكُّ هو بعث الخلَق ، فاحتجَّ عليهم بما أراهم من فصول السنة بعد نقضها ، وإعادتها على الوجه الذي كان في العام الماضي. وكما أن ذلك سائغٌ في قدرته ، كذلك بُعث الخلق. هـ. ونحوه لابن عطية وغيره. كما هو مشهود في الثمار ، من كونها تبدأ ، فتجنى ، ثم تفنى ، ثم تعيدها مرة أخرى. وكذلك يبدئ خلق الإنسان ، ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً ، وخلق من الولد ولداً آخر ، وكذا سائر الحيوان. وهذا يرشح صحة عطف " يعيد " على " يبدئ ". {إن ذلك على الله يسيرٌ} أي : الإعادة بعد الإفناء يسيرة على قدرة الله تعالى.
(5/462)
{قُلْ سيروا في الأرض} أي : قل يا محمد ، وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره : وأوحينا إليه أن قل : سيروا في الأرض ، {فانظروا كيف بدأَ الخلقَ} على كثرتهم ، واختلافْ أحوالهم والسنتهم وألوانهم وطبائعهم ، تفاوت هيئاتهم ، لتعرفوا عجائب قدرة الله بالمشاهدة ، ويقوي إيمانكم بالبعث ، وهو قوله : {ثم الله ينشىءُ النشأةَ الآخرةَ} أي : البعث ، وهذا دليل على أنهما نشأتان : نشأة الاختراع ونشأة الإعادة ، غير إن الآخرة إنشاء بعد إنشاء ، والأولى ليست كذلك. والقياس أن يقال : كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة ، وإنما عدل عنه ؛ لأن الكلام معهم وقع في الإعادة ، فلما قررهم في الإبداء ، بإنه من الله ، احتج بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب ألا يعجزه الإعادة ، فكأنه قال : ثم ذلك الذي أنشأ الأولى هو الذي يُنشىء النشأة الآخرة ، فللتنبيه على هذا أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. قال النسفي.
{
جزء : 5 رقم الصفحة : 303
إن الله على كل شيءٍ قديرٌ} ؛ فلا يعجزه شيء. {يُعذِّب من يشاء} بعدله
304
{ويرحم من يشاء} بفضله ، أو : يُعذب من يشاء بالخذلان ، ويرحم بالهداية للإيمان ، أو : يُعذب من يشاء بالحرص ، ويرحم من يشاء بالقناعة ، أو : يُعذب بالتدبير والاختيار ويرحم بالرضا والتسليم لمجاري الأقدار ، أو : يُعذب بالإعراض عنه ، ويرحم بالإقبال عليه ، أو : بالاستتار والتجلي ، أو : بالقبض والبسط ، أو بالمجاهدة والمشاهدة ، إلى غير ذلك. {وإليه تقلبون} ؛ تُردون للحساب والعقاب.
(5/463)