وقوله : {ألا حين يستغشون ثيابهم} : يحتمل أن يكون عند النوم ، فيكون الإثناء عن الحق ، أو عن الله ، أو عند مواجهة الرسول ، فيكون الإثناء عن رؤيته ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، أو عن سماع القرآن. قال تعالى : {يعلم ما يسرون} في قلوبهم ، {وما يعلنون} بأفواههم ـ فقد استوى في علمه سرهم وعلانيتهم ، فكيف يخفى عليه أمرهم واستخفاؤهم منه ؟ {إنه عليم بذات الصدور} أي : بالأسرار صاحبة الصدور ، أو بحقائق الصدور وما احتوت عليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 193
الإشارة : يقول الحق جل جلاله : هذا كتاب أحكمت آياته بالتعريف بالذات ، ثم فصلت ببيان الصفات ، أو : أحكمت بتبيين الحقائق ، ثم فصلت بتبيين الشرائع : أو أحكمت ببيان ما يتعلق بعالم الأرواح من التعريف ، ثم فصلت ببيان ما يتعلق بعالم الأشباح من التكليف ، أو : أحكمت ببيان أسرار الملكوت ، ثم فصلت ببيان أحكام الملك. ثم بيَّن ما يتعلق بالذات فقال : {ألا تعبدون إلا الله} وبيَّن ما يتعلق بالصفات من التفصيل فقال : {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} ، أو : بيَّن ما يتعلق بالحقائق ، ثم ما يتعلق بالشرائع ، وهكذا. فإن جمعتم بين الحقائق والشرائع يمتعكم متاعاً حسناً ؛ بشهود ذاته ، والتنزه في أنوار صفاته ، إلى أجل مسمى ، وهو : النزول في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ويؤت كل ذي فضل من المعرفة جزاء فضله من الشهود ، فمن تولى عن هذا خاف من عذاب يوم كبير ، وهو : غم الحجاب ، والتخلف عن الأحباب. ثم عاتب أهل الشهود حيث تركوا مقام المشاهدة وتنزلوا إلى مقام المراقبة ، بقوله : {ألا إنهم يثنون صدورهم...} ، الآية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 193
(3/266)
يقول الحق جل جلاله : {وما من دابةٍ في الأرض} أي : كل ما يدب عليها ؛ عاقلاً أو غيره ، {إلا على الله رزقُها} ؛ غذاؤها ومعاشها ؛ لتكلفه إياه بذلك ؛ تفضلاً وإحساناً. وإنما أتى بعلى التي تقتضي الوجوب ؛ تحقيقاً لوصوله ، وتهييجاً على التوكل وقطع الوساوس فيه ، {ويعلمُ مستقرها ومستودعها} ؛ أماكنها في الحياة والممات ، أو الأصلاب
195
والأرحام. أو : مستقرها في الأرض بعد وجودها ، ومستودعها : موادها قبل إيجادها. أو بالعكس : مستقرها : موادها في العلم قبل الظهور ، ومستودعها إقامتها في الدنيا بعد الوجود. {كلٌّ} واحد من الدواب على اختلاف أجناسها وأصنافها {في كتاب مبين} ؛ مذكور في اللوح المحفوظ ، أو في العلم القديم المبين للأشياء ، قال البيضاوي : وكأنه أريد بالآية كونه عالماً بالمعلومات كلها ، وبما بعدها بيان كونه قادراً على الممكنات بأسرها ، تقريراً للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد. هـ.
الإشارة : هم الرزق ، وخوف الخلق ، من أمراض القلوب ، ولا ينقطعان عن العبد حتى يكاشف بعلم الغيوب وهو التوحيد الخاص ؛ أعني : الرسوخ في الشهود والعيان. وإنما يضر العبدَ ما كان ساكناً ، وأما الخواطر التي تلمع وتذهب ، فلا تضر ؛ لأن الإنسان خلق ضعيفاً.
(3/267)
واعلم ان الرزق على قسمين : رزق الأرواح ، ورزق الأشباح. فرزق الأرواح معنوي ، وهو : قوت الروح من المعرفة وعلم اليقين. ورزق الأشباح حسي ، وهو : الطعام والشراب. وقد تكفل الله بالأمرين معاً ، وأمر بالتسبب فيهما ، قياماً برسم الحكمة. فالتكفل حقيقة ، والتسبب شريعة ، فالعامة اشتغلوا بالتسبب في الرزق الحسي والبحث عنه ، ولم يعبأوا بالرزق المعنوي ، ولا عرفوه ؛ من شدة إعراضهم عنه ، مع أنهم لو فقدوا الرزق المعنوي لماتت أرواحهم. والخاصة اشتغلوا بالتسبب في الرزق المعنوي والبحث عنه ، ولم يعبأوا بالرزق الحسي من شدة إعراضهم عنه ، مع أنهم لو فقدوا الرزق الحسي لهلكت أشباحهم. وخاصة الخاصة يتسببون في الرزق الحسي والمعنوي ، وليس هم مع إرادتهم في واحد منهما ، وإنما هم أبداً مع إرادة مولاهم راتِعين أبداً ، حيث دفعتهم إرادة سيدهم في الحسي أو في المعنوي من غير تبرم ولا التفات لغيره ، كما قال القائل :
آرَانِي كالآلات وَهو مُحَرَّكي
أَنَا قَلَمٌ والاقتِدارُ أصَابِعُ
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
العامة قد حُجبوا عن الله بإرادتهم للرزق الحسي ، حيث صار الرزق الحسي هو حظ النفوس. صاروا مع حظ نفوسهم لا غير ، والخاصة وجدوا الله في طلبهم للرزق المعنوي ، لأنه حق الله ، لا حظ للنفس فيه ، لأجل ذلك لمّا كانوا لله كان الله لهم. وخاصة الخاصة ليس هم مع إرادتهم في شيء ، بل هُم بالله في الأحوال كلها لا بنفوسهم. قد انمحت إرادتهم في إرادة الله ، فصارت إرادتهم إرادة الله ، وفعلهم فعله. وهذا المقام يقال له : التمكين بالتلوين. هـ. قاله شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه في كتابه ، نفعنا الله بهم جميعاً. قوله تعالى : {ويعلم مُستقرها ومُستودعها} أي : يعلم مستقرها في العلم ، ومستودعها في العمل ، أو مستقرها في الحال ، ومستودعها في المقام ، أو مستقرها في
196
(3/268)
الفناء ، ومستودعها في البقاء ، أو مستقرها في التلوين ومستودعها في التمكين ، أو مستقرها في عالم الأشباح ، ومستودعها في عالم الأرواح. وأنشدوا :
كُلُّ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ أو تَرَاه
فَهوَ للقبضتين يُشيرُ
ضع قميصي عن العيون ترى ما
غاب عنك فقد أتاك البشير
فالمراد بالقبضتين : الحس والمعنى ، وإن كانا في الأصل قبضة واحدة ، لكن لما تجلت بالضدين سمَّاها قبضتين. فالحس رداء للمعاني. وسماه هنا قميصاً ؛ لأنه يستر كالرداء ، فإذا رفع القميص عن عُيون البصيرة رأت ما غاب عنها من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، وهذا معنى قوله : ضع قميصي عن العيون. إلخ... وَرَفْعُ حجاب المعنى عن البصيرة هو بشير الولاية وعنوانها. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
يقول الحق جل جلاله : {وهو الذي خلق السماوات والأرض} وما بينهما وما فيهما {في} مقدار {ستة أيام} من أيام الدنيا ، أو خلق العالم العلوي والسفلي في مقدار ذلك. وجمع السماوات دون الأرض ؛ لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات. {وكان عرشه على الماء} قيل : لم يكن بينهما حائل ، وكان موضوعاً على متن الماء. واستدل به على إمكان الخلاء ، وعلى أن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. وقيل : كان الماء على متن الريح. والله أعلم بذلك. قاله البيضاوي.
(3/269)
قلت : الخلاء هو الفضاء الخارج عن دائرة الأكوان. وهو عند المتكلمين من جملة الممكنات ، ووجه الاستدلال من الآية على إمكانه : أن العرش والماء لما كانا محصورين لزم أن يكون ما خرج عنهما خلاء ، وكل ما سوى الله فهو ممكن. وعند الصوفية : هو أسرارالذات الأزلية الجبروتية ، كما أن الأكوان هي أنوار الصفات الملكوتية ، ولا شيء معه ، {سبحانه وتعالى عما يشركون}. ونقل بعض أهل التاريخ : أن الله تعالى خلق بعد العرش ياقوته صفراء ، ذكروا من عظمتها وسعتها ، ثم نظر إليها ، فذابت من هيبته ، فصارت ماء ، فكان العرش مرتفعاً فوقها ، ثم اضطرب ذلك الماء ، فعلته زبدة ، خلق منها الأرض ، ثم ارتفع من الماء دخان خلق منه السماوات. هـ.
خلق ذلك {لِيبلُوكم أيُّكم أحسن عملاً} أي : ليختبركمْ اختباراً تقوم به الحجة عليكم ، {أيكم احسن عملاً} بالزهد في هذا العالم الفاني ، وتعلق الهمه بالعالم الباقي
197
قال البيضاوي : أي : يعاملكم معاملة المبتلى لأحوالكم ، كيف تعملون ؟ فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم ، وما تحتاج إليه أعمالكم ، ودلائل وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها. ثم قال : فالمراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " أيكم أحسن عقلاً وأروع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ". والمعنى : أكمل علماً وعملاً. هـ.
(3/270)
قال المحشي : ويتجه كون المعنى : أيكم أكثر شكراً لله على تمهيد تلك المنافع والمصالح. والشكر يشمل الطاعات القلبية والبدنية. ويحتمل أنه كآية : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56]. وأن بقاء الدنيا وخلقها إنما هو للتكليف ، فإذا لم يبق في الأرض من يعبد الله انقضت الدنيا ، وجاءت الساعة ، كما تقتضيه الأحاديث الصحاح والمتبادر ما قدمناه ، وحاصله : أنه خلق الأشياء من أجل ابن آدم ، ولتدله على خالقه فيجني بها ثمار معرفته تعالى ، ويعترف بشكره ، وإفراد عبادته. وقد جاء : " خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي ".
جزء : 3 رقم الصفحة : 197
قلت : فيكون المعنى : هو الذي أظهر الوجود من عرشه إلى فرشه ، ليختبركم أيكم أحسن عملاً بالاشتغال بالله ، والعكوف في حضرته دون الوقوف مع ظاهر الكون ، والاشتغال بحسه ، مع كونه خُلق من أجله. ثم قال : وقوله تعالى : {لئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت...} الآية ، هو : تنبيه على أن الإنكار الكفار للبعث بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالق العالم ، الذي هو أعظم من البعث ، تناقض منهم ؛ لأن إقرارهم بقدرته على الأكبر ، ثم إنكارهم لما هو أيسر تناقض. هـ. أي : ولئن ذكرت لهم البعث بعد الموت لقالوا ما هذا إلا سحر ظاهر. أي : ما البعث أو القول به ، أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان. وقرأ حمزة ساحر أي : القائل بهذا. والله تعالى أعلم.
(3/271)
الإشارة : في صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم : " كَانَ اللَّهُ ولا شَيء مَعه ، وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ " الحديث. فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الحق جل جلاله كان في أزله لا شيء معه ، ثم أظهر الأشياء من نوره بنوره لنوره ، فهو الآن على ما كان عليه. وعن أبي رَزِينٍ : قلنا : يا رَسُولَ الله! أَيْنَ كَانَ ربُّنَا قَبْل أنْ يَخْلُقَ خَلقَهُ ؟ قال : " كَان في عَمَاءٍ ما فَوْقَه هَوَاءٌ ، ومَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ ، وخَلَق عَرشَه عَلَى المَاءِ ". والعماء هو : الخفاء ، قال تعالى : {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ} [القصص : 66] ، أي : خفيت. ويقال للسحاب عماء ؛ لأنه يخفى ما فيه. وقال الششتري : في المقاليد : كان في عمّى ، ما فوقه هَوَاء ، وما تحته هواء. هي الوحدة المُصْمتة
198
الصّمدية ، البحر الطامس الذي هو الأزل والأبد ، فلم يكن موجود غير الوجود هو هو.هـ.
والحاصل : أن الحق جل جلاله كا في سابق أزله ذاتاً مقدسة ، لطيفة خفيفة عن العقول ، نورانية متصفة بصفات الكمال ، ليس معها رسوم ولا أشكال ، ثم أظهر الحق تعالى قبضة من نوره حسية معنوية ؛ إذ لا ظهور للمعنى إلا بالحس ، فقال لها : كوني محمداً ، فمن جهة حسها محصورة ، ومن جهة معناها لا نهاية لها ، متصلة ببحر المعاني الأزلي ، الذي برزت منه ، وما نسبتها من ذلك البحر من جهة حسها إلا كخردلة في الهواء. وقد أشار ابن الفارض إلى وصف هذه الخمرة الأزلية ـ وهو تفسير للعماء المذكور قبلُ ـ فقال :
صفاءٌ ولا ماءٌ ، ولُطفٌ ولاَ هواً
ونورٌ ولا نارٌ ، وروحٌ ولا جِسمٌ
تَقَدَّمَ كلَّ الكائنات حديثُها
قديماً ولا شكلٌ هناك ، ولا رَسْم
جزء : 3 رقم الصفحة : 197
وقامت بها الأشياءُ ثمَّ لحكمَةِ
بها احتَجَبَت عن كلّ من لا له فَهْمُ
(3/272)
فالأشكال والرسوم متفرعة من تلك القبضة المحمدية ، والقبضة متدفقة من بحر الجبروت الذي لا نهاية له ، فهي حقيقة ، وما ظهر تحديدها إلا من جهة حسها. فهي كثلجة في بحرٍ ، ماؤها الباطن متصل في البحر ، وظاهرها محدود محصور. فالأشكال كلها غريقة في بحر الجبروت. ولذلك قال صاحب العينية :
هو العَرْشُ الكُرسِيُّ والمَنْظَرُ البهي
هو السِّدرةُ التي إِليهَا المَرَاجعُ
وقال أيضاً :
هُوَ المُوجِدُ الأَشْيَاءِ وهوَ وُجُودُهَا
وعَيْنُ ذَوَاتِ الكُلّ وهْوَ الجَوَامعُ
فَأوْصَافُهُ والاسْمُ والأثَرُ الذي
هُو الكَونُ عَيْنُ الذَّات والله جَامِعُ
فالأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فالحق تعالى كما كان لا شيء معه ، فهو الآن كما كان. إذ التغير في حقه تعالى مُحال ، ولا يعلم هذه الأسرار إلا من صحب أهل الأسرار ، وحسب من لم يصحبهم التسليم. كما رمزوا وأشاروا إليه :
وإن لَمْ تَرَ الهِلال فَسَلَّمْ
لأُناسٍ رَأوْهُ بالأبْصارِ
وقوله تعالى : {ليبلُوكم أيكم أحسنُ عملاُ} أي : ليظهر منكم من يقف مع الأكون ، ومن ينفذ إلى شهود المكون. وهو الذي حسن عمله ، وارتفعت همته. ولئن قلت أيها العامي : إنكم تحيون بالمعرفة من بعد موت قلوبكم بالجهل والغفلة إن صحبتمُوني ، ليقولن أهلُ الإنكار : إن هذا إلا سحر مبين.
199
جزء : 3 رقم الصفحة : 197
قلت : (يوم) : معمول لخبر ليس ، وهو دليل جواز تقديمة إن كان ظرفاً.
{يقول الحق جل جلاله : } {ولئن أخَّرنا عنهم العذابَ} الموعود في الدنيا ، أو في الآخرة ، {إلى أمة} أي : أوقات معدودة قلائل ، {ليقولن} ؛ استهزاء : {ما يحْسبُه} ؟ أي : ما يمنعه من الوقوع الآن ؟ {ألا يوم يأتيهم} وينزل بهم كيوم بدر ، أو يوم القيامة {ليس مصروفاً عنهم} ليس مدفوعاً عنهم حين ينزل بهم ، {وحاقَ} ؛ نزل وأحاط {بهم ما كانوا به يستهزئون} ، وضع الماضي الاستقبال ؛ تحقيقاً للوقوع ، ومبالغة في التهديد.
(3/273)
الإشارة : إمهال العاصي بإهمال له ؛ فإن الله تعالى يمهل ولا يهمل. فإمهاله إما استدراج ، أو انتظار لتوبته ، فليبادر بالتوبة قبل الفوات ، وبالعمل الصالح قبل الممات. فما أبعد ما فات ، وما أقرب ما هو آت ، وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 199
قلت : (ولئن) : شرط وقسم ، ذكر جواب القسم ، واستغنى به عن جواب الشرط.
يقول الحق جل جلاله : {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمةً} أي : أعطيناه نعمة يجد لذتها. {ثم نزعناها منه} أي : سلبنا تلك النعمة منه {إنه ليؤوسٌ} ؛ قنوط ، حيث قلَّ رجاؤه من فضل الله ؛ لقلة صبره ، وعدم ثقته بربه ، {كفور} : مبالغ في كفران ما سلف له من النعم ، كأنه لم ير نعمة قط. {ولئن أذقناه نعماءَ بعد ضراء مسَّتْه} ؛ كصحة بعد سقم ، وغنى بعد فقر ، أو علم بعد جهل ، {ليقولنَّ ذهب السيئاتُ}. أي : المصائب التي مستني ، {عني} ، ونسي مقام الشكر. {إنه لفرح} أي : بطر متعزز بها ، {فخورٌ} على الناس ، متكبر بها ، مشغول بذلك عن شكرها ، والقيام بحقها. قال البيضاوي : وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على ان ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة ، وأنه يقع في الكفر والبطر بأدنى شيء ؛ لأن الذوق : إدراك المطعم ، والمس مبدأ الوصول إليه. هـ.
200
{إلا الذين صبروا} على الضراء ؛ إيماناً بالله ، واستسلاماً لقضائه ، {وعملوا الصالحات} شكراً لآلائه ، سابقها ولاحقها ، {أولئك لهم مغفرة} لذنوبهم ، {وأجر كبير} أقلة الجنة ، وغايته النظرة. والاستثناء من الإنسان ؛ لأن المراد به الجنس. ومن حمله على الكافر ـ لسبق ذكرهم ـ جعله منقطعاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي للعبد أن يكون شاكراً للنعم ، صابراً عند النقم ، واقفاً مع المنعم دون النعم. إن ذهبت من يدة نعمة رَجَى رجوعها ، وإن أصابته نقمة انتظر انصرافها. والحاصل : ان يكون عبداً لله في جميع الحالات.
(3/274)
حُكي أن سيدنا موسى عليه السلام قال : يا رب دلني على عمل إذا عملته رضيت عني. قال : إنك لا تطيق ذلك ، فخر ساجداً متضرعاً ، فقال : يا ابن عمران ؛ إن رضاي في رضائك بقضائي. هـ. وقال ابن عباس رضي الله عنه أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ : أنا الله لا إله إلا أنا ، محمد رسولي ، فمن استسلم لقضائي ، وصبر على بلائي ، وشكر نعمائي ، كتبته صديقاً ، وبعثته مع الصديقين ، ومن لم يستسلم لقضائي ، ولم يصبر على بلائي ، ولم يشكر نعمائي ، فليتخذ رباً سوائي. هـ. ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ثلاث من رزقهن خير الدنيا والآخرة : الرضا بالقضاء ، والصبر على الأذى ، والدعاء في الرخاء. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 200
يقول الحق جل جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم : {فلعلك تارك بعضَ ما يُوحى إليك} ، فلا تبلغه وهو ما فيه تشديد على المشركين ، مخافة ردهم واستهزائهم به. ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه. فالعصمة مانعة من ذلك. فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يترك شيئاً من الوحي إلا بغله ، ولكن الحق تعالى شجعه وحرضه على التبليغ في المستقبل. ولو قوبل بالإنكار.
ثم قال له : {وضائق به صدرُكَ} ؛ أي : ولعله يعرض لك في بعض الأحيان ضيق في صدرك ، فلا تتلوه عليهم مخافة {أن يقول لولا أُنزل عليه كنز} ينفقه للاستتباع
201
كالملوك ، أو يستغني به عن طلب المعاش ، {أو جاء معه ملكٌ} يشهد له ، والقصد تسليته صلى الله عليه وسلم عن قولهم ، حتى يُبلغ الرسالة ولا يبالي بهم. وإنما قال : {ضائق} ؛ ليدل على اتساع صدره صلى الله عليه وسلم ، وقلة ضيقه في الحال. {إنما أنت نذير} ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك ، ولا عليك ردوا أو اقترحوا ، فلا يضيق صدرك بذلك. {والله تعالى على كل شيء وكيل} فتوكل عليه ، فإنه عالم بحالهم ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم.
(3/275)
{أَمْ} ؛ بل {يقولون افتراه} أي : ما يوحى إليه ، {قل} لهم : {فأتوا بعشر سُورٍ مثِلهِ} في البيان وحسن النظم. تحداهم أولاً بعشر سور ، فلما عجزوا سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة. وتوحيد المثل باعتبار كل واحد. {مُفتريات} ؛ مختلفات من عند أنفسكم ، إن صح أني اختلقته من عند نفسي ؛ فإنكم عرب فصحاء مثلي. {وادعوا من استطعتم من دون الله} للمعاونه على المعارضة ، {إن كنتم صادقين} أنه مفترى. {فإن لم يستجيبوا لكم} ؛ فإن عجزوا عن الإتيان ، {فاعلموا} أيها الرسول المؤمنون {إنما أُنزل بعلم الله} ؛ بإذنه ، أو بما لا يعلمه إلا الله من الغيوب. والمعنى : دوموا على إيمانكم ، وزيدوا يقيناً فيه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
قال البيضاوي : وجمع الضمير ؛ إما لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لأن المؤمنين كانوا يتحدونهم ، فكان أمر الرسول ـ عليه الصلا ة والسلام ـ متناولاً لهم من حيث إنه يجب اتباعه عليهم في كل أمر إلا خصه الدليل. أو للتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم. ولذلك رتب عليه قوله : {فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله} ؛ ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله ، لأن العالم والقادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره. {وأن لا إله إلا هو} ؛ لظهور عجز آلهتهم. {فهل أنتم مسلمون} ؟ ثابتون على الإسلام ، راسخون مخلصون فيه ، إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقاً.
(3/276)
ويجوز أن يكون الكل خطاباً للمشركين ، والضمير في {يستجيبوا} لمن استطعتم ، أي : فإن لم يستجيبوا لكم ، أي : من استعنتم به على المعارضة لعجزهم ، وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة ، {فاعلموا} أنه نظم لا يعلمه إلا الله وأنه منزل من عنده ، وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق ، فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة ؟ وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ ؛ لما فيه معنى الطلب ، والتنبيه على قيام الموجب ، وزوال العذر. هـ. وقال في الوجيز : فإن لم يستجيبوا لكم ؛ من تدعون إلى المعاونة ، ولا تهيأ لكم المعارضة ، فقد قامت عليكم الحجة ، {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} أي : أنزل والله عالم بإنزاله ، وعالم أنه من عنده ، {فهل أنتم مسلمون} ؟ استفهام ، معناه الأمر ، كقوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة : 91]. هـ.
الإشارة ينبغي لأهل الوعظ والتذكير أن يعمموا الناس في التذكير ، ولا يفرقوا بين
202
أهل الصدق ، وأهل التنكير. يل ينصحوا العباد كلهم ، ولا يتركوا تذكيرهم ، ومخافة الرد عليهم ، ولا تضيق صدورهم بما يسمعون منهم ، اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم ، وقد قال لقمان لابنه حين أمره بالتذكير {وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} [لقمان : 17] ، فإن طلبوا من المذكر الدليل فليقل : إنما أنا نذير ، والله على كل شيء وكيل : فإن قالوا : هذا الذي تذكر كلنا نعرفه ، فليقل : فأتوا بسورة من مثله ، أو بعشر سور من مثله. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
قلت : " ما صنعوا فيها " : الضمير يعود على الدنيا ، والظرف يتعلق بصنعوا. أو يعود على الآخرة ، ويتعلق الظرف بحبط ، أي : حبط في الآخرة ما صنعوا من الأعمال في الدنيا.
(3/277)
يقول الحق جل جلاله : {من كان يريد} بعمله {الحياةَ الدنيا وزينتَها} ، فكان إحسانه وبره رياء وسمعَة ، {نُوفّ إليهم أعمالَهم فيها} أي : نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا ، من الصحة والرئاسة ، وسعة الأرزاق ، وينالُون ما قصدوا من حمد الناس ، وإحسانهم وبرهم ، {وهم فيها لا يُبخسون} لا يُنقصون شيئاً من أجورهم ، فيحتمل : أن تكون الآية نزلت في أهل الرياء من المؤمنين الذين يراؤون بأعمالهم ؛ كما ورد في حديث الغازي والغني القارئ المرائين ، وأنهم أول من تُسعر بهم جهنم. ويحتمل أن تكون نزلت في الكفار ، وهو أليق بقوله : {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النارُ} ؛ لأنهم استوفواما تقضيه صور أعمالهم الحسنة ، وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. {وحَبِطََ ما صنعوا فيها} أي : في الدنيا فكل ما صنعوا في الدنيا من الإحسان حبط يوم القيامة ؛ لأنهم لم يريدوا به وجه الله. والعمدة في انتظار ثواب الأعمال هو الإخلاص ، {وباطلٌ ما كانوا يعملون} ؛ لأنه لم تتوفر فيه شروط الصحة التي من جملتها الإخلاص.
الإشارة : في الحديث " مَن كَان الدُّنيا هَمَّه : فَرَّق اللَّهُ عَليْهِ أَمْرَهُ ، وجَعَل فَقْرَه بَينَ عَينَيه ، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيا إلا ما قُسِمَ له. ومن كَانت الآخرةُ نيته : جمعَ اللَّهُ عَليه أَمْرَه ، وجَعَل غَناهُ في قَلبِه ، وأَتتهُ الدُّنيا وهِي صَاغِرة ". قلت : ومن كان الله همه كفاه هَم الدارين. فطالبُ الدنيا أسير ، وطالب الآخرة
203
أجير وطالب الحق أمير. فارفع همتك أيها العبد عن دار الفانية ، وعلق قلبك بالدار الباقية ، ثم ارفعها إلى شهود الذات العالية ، ولا تكن ممن قصرَ همته على هذه الدار فتكن ممن ليس له في الآخرة إلا النار. وحصّن أعمالك بالإخلاص ، وإياك وملاحظة الناس ؛ فتبوأ بالخيبة والإفلاس ، وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 203
(3/278)
قلت : (أفمن كان) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : كمن كان يريد الدنيا وزينتها.
يقول الحق جل جلاله : {أفمن كان على بينةٍ} ، طريقة واضحة {من ربه} وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، كمن ليس كذلك ، ممن همه الدنيا ؟ ! والمراد بالبينة : ما أدرك صحتَه العقلُ والذوقُ ، أي : على برهان واضح من ربه ، وهو الدليل العقلي ؛ والأمر الجلي. أو برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما ياتيه ويذره ، {ويتلُوه} ؛ ويتبع ذلك البرهان ـ الذي هو دليل العقل ، {شاهدٌ منه} أي : من الله يشهد بصحته ، وهو : القرآن ، لأنه مصباح البصيرة والقلب ؛ فهو يشهد بصحة ما أدركه العقل من البرهان.
{ومن قبله} أي : من قبل القرآن ، {كتابُ موسى} يعني : التوارة ، فإنها أيضاً متلوة شاهدة بما عليه الرسول ومن تبعه من البينة الواضحة. أو البينة : القرآن ، والشاهد : جيريل عليه السلام ، أو عَلِيٌّ ـ كرم الله وجهه ـ ، أو الإنجيل ، وهو حسن ، لقوله : {ومن قبله كتابُ موسى} ؛ فإن التوراة قبل الإنجيل. قال ابن عطية : وهنا اعتراض ؛ وهو أن الضمير قي " قبله " عائداً على القرآن ، فَلِمَ لَمْ يذكر الإنجيل ـ وهو قبله ـ وبينه وبين كتاب موسى ؟ فالانفصال عنه : أنه خَصَّ التوراة بالذكر ؛ لأن الملّتين متفقتان على أنها من عند الله ، والإنجيل قد خالف فيها. فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الكتابين أولى. وهذا كقول الجن {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىا} [الاحقاف : 30]. وقول النجاشي : " إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاه واحدة " ، . هـ. وإذا فسرنا الشاهد بالإنجيل سقط الاعتراض.
(3/279)
ثم وصف التوراة بقوله : {إماماً}. أي : مؤتماً به في الدين ، لأجله ، {ورحمةً} على المنزل عليهم. {أولئك} أي : من كان على بينة من ربه ، {يُؤمنون به} أي : بالقرآن ، {ومن يكفرْ به من الأحزاب} : كأهل مكة ، ومن تحزب منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، {فالنارُ موعده} يدخلها لا محالة ، {فلا تكُ في مريةٍ} ؛ شك {منه} أي : من
204
ذلك الموعد ، أو القرآن ، {إنه الحقُ من ربك} الثابت وقوعه ، {ولكن أكثرَ الناس لا يؤمنون} ؛ لقلة نظرهم ، وإخلال فكرتهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 204
الإشارة : لا يكون العبد على بينة من ربه حتى يتحقق فيه أمران ، أولهما : التوبة النصوح ، والثاني : الزهد التام. فإذا تحقق فيه الأمران كان بينة من ربه. وهي درجات ؛ أولها : بينة ناشئة عن صحيح النظر ولاعتبار ، وهي لقوم نظروا في الحجج والبراهين العقلية والدلائل السمعية ، فأدركوا وجود الحق من طريق الإيمان بالغيب ، وهم : أهل الدليل والبرهان. وثانيها : بينة ناشئة عن الرياضات والمجاهدات والاعتزال في الخلوات ، فخرقت لهم العوائد الحسيات فرأوا كرامات وخوارق عادات ، فأدركوا وجود الحق على وجه التحقيق والبيان ، مع رقة الحجاب والوقوف بالباب. وهم : العُبّاد ، والزهاد ، والصالحون من أهل الجد والاجتهاد. وثالثها : بينة ناشئة عن الذوق والوجدان ، والمكاشفة والعيان ، وهي لقوم دخلوا في تربية المشايخ ، فتأدبوا وتهذبوا ، وشربوا خمرة غيبتهم عن حسهم ورسمهم ؛ فغابوا عن الأكوان بشهود المكون. فهم يستدلون بالله على غيره. قَدَّّسُوا الحق أن يحتاج إلى دليل ، وهؤلاء هم الأفراد وخواص العباد ، وإليهم أشار الشاعر بقوله :
الطُّرقُ شَتَّى وطَريقُ الحَقِّ مُقفِرَةٌ
والسَّالكون طَريق الحقّ أَفرادُ
لا يُعرفُون ولا تُدرَى مَسالِكُهم
فهم على مَهَلٍ يَمشُونَ قُصّادُ
والنَّاسُ في غفلَةٍ عَمَّا يَراد بِهِم
فَجُلُّهم عَن سَبِيل الحَقِّ رُقَّادُ
(3/280)
وقال في القوت : {أفمن كان على بينة من ربه} أي : من شهد مقام الله ـ عز وجل ـ بالبيان ، فقام له بشهادة الإيقان ، فليس هذا كمن زُين له سُوء عمله ، واتبع هواه ، فآثره على طاعة مولاه. بل هذا قائم بشهادته ، متبع لشهيده ، مستقيم على محبة معبوده هـ. وقال الورتجبي : تقدير الآية على وجه الاستفهام : أفمن كان على بينة من ربه ؛ كمن هو في الضلالة والجهالة ؟ أفمن كان على معرفة من ربه ، وولاية وسلامة وكرامة ، وكل عارف إذا شاهد الحق سبحانه بقلبه وروحه ، وعقله وسره ، فأدرك فيض أنوار جماله ، وقربه ، يؤثر ذلك في هيكله حتى يبرز من وجهه نور الله الساطع ، ويراه كل صاحب نظر ، قال تعالى : {ويتلوه شاهد منه} ، والبينة : بصيرة المعرفة ، والشاهد : بروز نور المشاهدة منه. وأيضاً : البينة : كلام المعرفة. والشاهد : الكتاب والسنة. ثم قال عن الجنيد : البينة : حقيقة يؤيدها ظاهر العلم. هـ.
والحاصل : أن البينة أمر باطني ، وهي : المعرفة ، إما بالبرهان ، أو بالعيان ، والشاهد الذي يتلو هو العلم الظاهر ، فيتفق ما أدركه العقل أو الذوق مع ما أفاده النقل ، فتتفق الحقيقة مع الشريعة. كلِّ في محله ، الباطن منور بالحقائق ، والظاهر مُؤيد بالشرائع. وهذا
205
غاية المطلوب والمرغوب. رزقنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنِّه وكرمه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 204
قلت : (مثلاً) : تمييز.
يقول الحق جل جلاله : {ومن أظلمُ} أي : لا أحد أظلم {ممن افترى على الله كذباً} ؛ بأن أسند إليه ما لم يقله ، وكذب بما أنزله ، أو نسب لله ما لا يليق بجلاله. {أولئك يُعرضون على ربهم} يوم القيامة ، بأن يحسُبوا في الموفق ، وتعرض عليهم أعمالهم على رؤوس الأشهاد ، {ويقول الأشهادُ} من الملائكة والنبيين ، أو كل من شهد الموقف : {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} وهو تهويل عظيم لما يحيق بهم حينئذٍ ، لظلمهم بالكذب على الله ، ورد الناس عن طريق الله.
(3/281)
{الذين يصُدُّون عن سبيل الله} ؛ عن دينه ، {ويبغونها عِوَجاً} ؛ يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب. أو يبغون أهلها أن يعرجوا عنها بالردة والكفر ، أو يطلبون اعوجاجها بالطعن فيها. {وهم بالآخرة هم كافرون} أي : والحال أنهم كافرون بالبعث. وتكرير الضمير ؛ لتأكيد كفرهم واختصاصهم به.
{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أي : ما كانوا ليعجزوا الله في الدنيا أن يعاقبهم. بل هو قادر على ذلك ، واخرهم ليوم الموعود ، ليكون أشد وأدوم. {وما كان لهم من دون الله من أولياءَ} يمنعونهم من العقاب ، {يضاعف لهم العذاب} بسبب ما اتصفوا به ، كما ذكره بقوله : {ما كانوا يستطيعون السمعَ وما كانوا يبصرون} ؛ لتصاممهم عن الحق ، وبغضهم أهله. {أولئك الذين خسروا أنفسَهم} حين اشتروا عبادة الأصنام بعبادة الله ، {وضل عنهم ما كانوا يفترون} من أن الأصنام تشفع لهم ، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما أملوا ، فلم يبق لهم سوى الحسرة والندامة. {لا جرم} لا شك ، أو لا بد
206
{أنهم في الآخرة هم الأخسرون} : فلا أحد أكثر خسراناً منهم ؛ حيث حرموا النعيم المخلد ، واستبدلوا بالعذاب المؤبد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 206
ثم ذكر ضدهم فقال : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتُوا} أي : اطمأنوا أو خشعوا ، أو تابوا {إلى ربهم أولئك اصحابُ الجنة هم فيها خالدون} ؛ دائمون.
(3/282)
{مَثَلُ الفريقين} المتقدمين ؛ فريق الكافر وفريق المؤمن : {كالأعمى والأصمّ والبصير والسميع} ، فمثل الكافر كمن جمع بين العمى والصمم ، ومثل المؤمن كمن جمع بين السمع والبصر. فالواو لعطف الصفات ، ويجوز أن يكون شبه الكافر بمن هو أعمى فقط ، وبمن هو أصم فقط والمؤمن بضدهما ، فهو تمثيل للكافرين بمثالين ، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي : يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى ؛ لتعاميه عن آيات الله ، وبالأصم لتصاممه عن استماع كلام الله ، وتأبيه عن تدبره معانيه. أو تشبيه المؤمن بالسميع والبصير ؛ لأن أمره بالضد ، فيكون كل منهما مشّبهاً باثنين باعتبار وصفين. أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم ، والمؤمن بالجامع بين ضديهما ، والعاطف لعطف الصفة على الصفة ، كقوله : فالأدب الصَّابُح فالغانم ، فهذا من بيان اللف والطباق. هـ. {هل يستويان} : هل يستوي الفريقان ؟ {مثلاً} ؛ أي : جهة التمثيل ، بل لا استواء بينهما ، {أفلا تذكرون} ؛ تتعظون بضرب الأمثال فترجعون عن غيكم.
الإشارة : كل من ترامى على مراتب الرجال ، أو ادعى مقاماً من المقامات وهو لم يدركه ، يريد بذلك إمالة وجوه الناس إليه ، يُفضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ، ويقال له : {هؤلاء الذين كَذَبوا على ربهم...} الآية. فكل آية في الكفار تجر ذيلها على عُصاة المؤمنين. وقد تقدم أمارات من كان على بينة من ربه ، فمن ادعى مقاماً من تلك المقامات وهو يعلم أنه لم يصله نادى عليه الآية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 206
قلت : من قرأ : إني ؛ بالكسر ، فعلى إرادة القول ، ومن قرأ بالفتح ، فعلى إسقاط الخافض ، أي : بأني ، و(بادي الرأي) : ظرف لـ(اتبعك) ، على حذف مضاف أي : وقت حدوث أول رأيهم. وهو من البدء أي : الحدوث ، أو من البُدُوِّ ، أي : الظهور. أي :
207
اتبعوك في ظاهر الرأي دون التعمق في النظر.
(3/283)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} فقال لهم : {إني لكم} ، أو بأني لكم {نذير مبينٌ} أي : بين ظاهر ، أو أبين لكم موجبات العذاب ، ووجه الخلاص منه ، قائلاً : {ألا تعبدوا إلا الله} ، ولا تعبدوا معه غيره ، {إني أخاف عليكم عذابَ يومٍ أليم} ؛ مُؤلم ، وهو في الحقيقة صفة للعذاب ، ووصف به زمانه على طريقة [جَدَّ جَدُّه ، ونهاره صائم] ؛ للمبالغة.
{فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نَراك إلا بشراً مثلنا} ؛ لا مزية لك علينا تخصك بالنبوءة ووجوب الطاعة ، {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلُنا} ؛ أخساؤنا وسُقَّاطنا ؛ جمع ارذل. {بادِيَ الرأي} ؛ من أول الرأي من غير تفكر ولا تدبر ، أي : اتبعك هؤلاء بادي الرأي من غير ترو. أو ظاهراً رأيهم خفيفاً عقلهم ، وإنما استرذلوهم ، لأجل فقرهم ، جهلاً منهم ، واعتقاداً أن الشرف هو المال والجاه. وليس الأمر كذلك. بل الشرف إنما هو بالإيمان والطاعة ، ومعرفة الحق. وقيل : إنهم كانوا حاكة وحجامين. وقيل : أراذل في أفعالهم ، لقوله {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الشعراء : 112] ، ثم قالوا : {وما نَرى لكم} أي : لك ولمتبعيك {علينا من فضلٍ} يؤهلكم للنبوءة ، واستحقاق المتابعة. {بل نظنكم كاذبين} ؛ أنت في دعوى النبوءة ، وهم في دعوى العلم بصدقك. فغلب المخاطب على الغائبين.
الإشارة : تكذيب الصادقين سنة ماضية ، وأتباع الخصوص موسومون بالذلة والقلة ، وهم أتباع الرسل والأولياء وهم أيضاً جُل أهل الجنة ؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال " أَهلُ الجَنَّة كُلُّ ضَعِيفٍ مُستَضعَفٍ ". وقالت الجنة : مَا لِيَ لا يَدخُلُني إلا سُقَّطُ الناس " فقال لها الحق تعالى : " أنتِ رَحمَتي أَرحَمُ بِك مَنْ أَشاء " حسبما في الصحيح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 207
قلت : " أنلزمكموها " : يصح في الضمير الثاني الوصل والفصل ؛ لتقدم الأخص.
(3/284)
يقول الحق جل جلاله : {قال} نوح لقومه : {يا قوم أرأيتم} : أخبروني ، {إن كنت على بينة من ربي} ؛ على طريقة واضحة من عند ربي ، أو حجة واضحة شاهدة بصحة دعواي ، {وآتاني رحمة من عنده} النبوة ، {فعميت} ؛ خفيت {عليكم} فلم
208
تهتدوا إليها ، {أنلزمكموها} ؛ أنكرهكم على الاهتداء بها {وأنتم لها كارهون} لا تختارونها ولا تتأملون فيها. ولم يؤمر بالجهاد ، بل تركهم حتى نزل بهم العذاب.
الإشارة : طريقة أهل التذكير ـ الذين هم على بينة من ربهم ـ أنهم يُذكرون الناس ، ولا يكرهون أحداً على الدخول في طريقهم ، إذا عميت عليهم ، والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 208
يقول الحق جل جلاله : ، حاكياً عن نوح عليه السلام : {ويا قوم لا أسألكم عليه} ؛ على التبليغ المفهوم من السياق ، {مالاً} : جُعلاً انتفع به ، {وإن أجري إلا على الله} ؛ فإنه المأمول منه. ثم طلبوا منه طرد الضعفاء ليجالسوه ، فقال لهم : {وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم} فيخاصموني إن طردتهم ، أو : إنهم ملاقوه فيفوزون بقربه ، فكيف أطردهم ؟ {ولكني أراكم قوماً تجهلون} لقاء ربكم ، أو بأقدارهم ، أو تسفهون عليهم فتدعُوهم أرذال ، أو قوماً جُهالاً استحكم فيكم الجهل وشختم فيه ، فلا ينفع فيكم الوعظ والتذكير. {ويا قوم من ينصرني من الله} : من يدفع انتقامه عني {إن طردتهم} وهم بتلك الصفة الكاملة من الإيمان والخوف منه ؟ {أفلا تذكرون} فتعلموا أن التماس طردهم ، وتوقيف الإيمان عليه ليس بصواب.
(3/285)
الإشارة : قال القشيري : قوله تعالى : {لا أسألكم عليه مالاً} ، فيه تنبيه للعلماء ـ الذين هم ورثة الأنبياء أن يتأدبوا بأنبيائهم ، وألا يطلبوا من الناس شيئاً في بث علومهم ، ولا يرتفقوا منهم بتعليمهم ، والتذكير لهم ، وما ارتفق من المستمعين في بث فائدة يذكر بها من الدين ، ويعظ بها المسلمين فلا يبارك الله فيما يُسمعون به عن الله ، ولا ينتفعون به ، ويحصلون به على سخط من الله. هـ.
قلت : هذا إن كان له تشوف وتطلع بذلك ، بحيث لو لم يعط لم يُعلم ، أو لم يُذكر. وأما إن كان يعلم ويذكر لله ، ثم يتصدق عليه لله ، فلا بأس به إن شاء الله. وما زالت الأشياخ والأولياء يقبضون زيارات الفقراء ، وكل من يأتيهم ويذكرونهم ويعرفونهم بالله ، لأن ذلك ربح للمعطي وتقريب له ، وما ربح الناس إلا من فلسهم ونفسهم ؛ بذلوها لله ، فأغناهم الله. وقد تقدم عند قوله {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً...} [التوبة : 103] بعض الكلام على هذا المعنى ، والله تعالى أعلم.
209
جزء : 3 رقم الصفحة : 209
يقول الحق جل جلاله : قال نوح لقومه : {ولا أقول لكم عندي خزائنُ الله} حتى أنفق منها متى شئت ، فأستغني عن مباشرة الأسباب ، بل ما أنا إلا بشر ، أو لا أدعي ما ليس لي فتنكروا قولي ، أي : لا أفوه لكم ، ولا أتعاطى غير ما ألهمني الله له ، فلست أقول : عندي خزائن الله ، أي : القوة التي توجد بها الأشياء بعد عدمها. أو : عندي خزائن الله التي يتنزل منها الأشياء ، كالريح والمياه ونحوها ، كما قال تعالى {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر : 21] فتبرأ عليه السلام من هذه الدعوى.
(3/286)
ثم قال : {ولا أعلمُ الغيبَ} أي : ولا أقول : إني أعلم الغيب ، فأعلم من أصحابي ما يسترونه عني في نفوسهم ، فسبيلي قبول ما ظهر منهم. أو : لا أعلم أنهم اتبعوني في بادي الرأي عن غير بصيرة وعقد قلب {ولا أقولُ إني ملكٌ} حتى تقولوا : ما نزال إلا بشراً مثلنا. {ولا اقول للذين تزدري أعينُكم} أي : تحتقرهم. من زريت على الرجل : قصرت به. قلبت تاؤه دالاً ؛ لتجانس الزاي للتاء ، والمراد بهم ضعفاء المؤمنين ، أي : لا أقول في شأن من احتقرتموهم ، لفقرهم : {لن يُؤتهم الله خيراً} ؛ فإنَّ ما أعد الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا. {والله اعلم بما في أنفسكم} من خير أو غيره ، {إني إِذاً} أي : إن قلتُ شيئاً من ذلك ، {لَمِنَ لظالمين}.
قال البيضاوي : وإسناده إلى الأعين ؛ للمبالغة ، والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرأي من غير روية ، مما عاينوه من رثاثة حالهم ، وقلة منالهم ، دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم. وقال أيضاً : وإنما استرذلوهم لفقرهم ؛ لأنهم لمَّا لم يعلموا إلا ظاهراً من الحياة الدنيا كان الأحظ بها أشرف عندهم ، والمحروم منها أرذل. هـ.
الإشارة : لا يشترط في وجود الخصوصية ظهور الكرامة ؛ فقد تظهر الكرامة على من لم تكمل له الاستقامة ، فلا يشترط فيه الاطلاع على خزائن الغيوب ، وإنما يشترط فيه التطهير من نقائص العيوب ، لا يشترط فيه الإنفاق من الغيب ، وإنما يشترط فيه الثقة بما ضمن له في الغيب. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 209
قلت : {إن اردت} : شرط حذف جوابه ؛ لتقدم ما يدل عليه ، وكذا (إن كان الله يريد أن يُغويكم) ، والتقدير : إن كان يريد أن يغويكم لا ينفعكم نصحي إن أردت ان أنصح لكم. أي : فكذلك. فهو من تعليق الشرط ، كقولك : إن دخلتِ الدار ، إن كلمت زيداً ، فأنتِ طالق. فلا تطلق إلا بهما ، ثم استأنف : (هو ربكم).
(3/287)
يقول الحق جل جلاله : {قالوا يا نوحُ قد جادلتنا} : خاصمتنا {فأكثرت جِدالنا} : خصامنا ومخاطبتنا ، {فأتِنا بما تَعِدُنا} من العذاب ، {إن كنتَ من الصادقين} في الدعوى والوعيد ، فإن مناظرتك ووعظك لا يؤثر فينا. {قال} نوح عليه السلام : {إنما يأتيكم به الله} دوني {إن شاءَ} عاجلاً أو آجلاً ، {وما أنتم بمعجزين} بدفع العذاب عنكم ، أو الهرب منه حتى تعجزوا القدرة الإلهية ، {ولا ينفعكم نُصحي إن أردتُ أن أنصح لكم} ، وأراد الله {ان يُغويكم} ، فإن النصح مع سابق الشقاء عنت. وهذا جواب لما أوهموا من أن جداله كلام لا طائل تحته ، وهو دليل على أن إرادة الله تعالى يصح تعلقها بالإغواء ، وأن خلا ف مراد الله تعالى محال. ولذلك قيل : مراد الله من خلقه ما هم عليه. ثم قال : {هو ربُكمْ} ؛ خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته. {وإليه تُرجعون} فيجازيكم على أعمالكم.
الإشارة : ينبغي لأهل الوغظ والتذكير أن لا يملوا ـ ولو أكثروا ـ إذا قابلهم الناس بالبعدُ والإنكار ، وليقولوا : ولا ينفعكم نصحنا إن أردنا ان ننصحكم {إن كان الله يريد أن يُغويكم...} الآية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 210
يقول الحق جل جلاله : {أمْ يقولون} ؛ أي : كفار قريش : هذا الذي يقرؤه محمد علينا ، ويقصه من خبر مَن قبلنا {افتراه} من عنده. {قل} لهم : {إن افتريتُه} ؛ تقديراً {فعليَّ إجرامي} ؛ اي : وباله عليَّ دونكم ، {وأنا بريء مما تُجرمون} ؛ مما ترتكبون من الإجرام بتكذيبكم وكفركم.
الإشارة : ينبغي لمن قوبل بالتكذيب والإنكار أن يكتفي بعلم الله ، ويقول لمن كذبه ما قال نبيه صلى الله عليه وسلم لمن كذبه : {إن افتريته فعلي إجرامي...} الآية. وفي الحِكَم : " متى آلمك عدم إقبال الناس عليك ، أو توجههم بالذم إليك ، فارجع إلى علم الله فيك ، فإن كان لا يقنعك علمه فمصيبك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم ".
211
(3/288)
قال الشيخ زروق رضي الله عنه : وذلك لأن عدم قناعتك بعلمه يُصيبك في قلبك ودينك ، وأذاهم يُصيبك في عرضك وبدنك ودنياك ، وأيضاً : أذاهم يردك إليه ، فهو فائدتك ، وعدم القناعة بعلمه يردك إليهم ، فهو مصيبة توجب ثلاثاً ، هي علامة عدم القناعة بعلمه : أولها : التصنع والمراءاة ، والثاني : طلب رضاهم بما أمكن في جميع الحالات. الثالث : إظهار علمه وعمله وحاله ، ليعلموا برتبته.
والقناعة بعلمه علامتها ثلاث : أولها قصد الإخلاص في كلٍّ ، بحيث لا يبالي أين رآه الخلق ، وكيف رأوه. الثاني : طلب رضاه بالعمل بطاعته ، وترك ما لا يرضيه ، رضوا بذلك أو سخطوا. الثالث : الاكتفاء بعلمه فيما يجري عليه من حكمه وحكمته ، قال إبراهيم التيمي رضي الله عنه لبعض أصحابه : ما يقول الناس فِيّ ؟ فقال : يقولون إنه مرائي ، فقال : الآن طاب العمل. قال بشر الحافي : اكتفى ـ والله ـ بعلم الله. فلم يحب أن يدخل مع علم الله غيره ، وقال أيضاً : سكون النفس لقبول المدح لها أشد عليها من المعاصي. وقال أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه : من أحب أن يعرف بشيء من الخير ، أو يُذكر به ، فقد أشرك مع الله في عبادته ؛ لأن من عمل على المحبة لا يحب أن يرى عمله غير محبوبه.
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : لا تنشر علمك ، ليصدقك الناس ، وانشر علمك ليصدقك الله. وإن كان لام العلة موجوداً ، فَعِلَّةٌ تكون بينك وبين الله من حيث أمرك ، خير لك من عِلَّة تكون بينك وبين الناس ، من حيث نهاك. ولعِلَّةٌ تردك إلى الله خير لك من علة تقطعك عن الله. هـ. المراد منه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 211
(3/289)
يقول الحق جل جلاله : {وأوحي إلى نوح انه لم يؤمن من قومك} بعد هذا {إلا من قد آمن} قبل ، وكان هذا الوحي بعد ان مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى : فكان الرجل منهم يأتيه بابنه ، ويقول : يا بُني لا تصدق هذا الشيخ ، فهكذا عَهد إليَّ أبي وجَدّي. فلما نزل الوحي وأيس من إيمانهم دعا عليهم. وقال له تعالى {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح : 26]. قال له تعالى : {فلا تبْتئسْ} : تحزن وتغتم {بما
212
كانوا يفعلون} من التكذيب والإيذاء ، أقنطه أولاً من إيمانهم ، ونهاه أن يغتم لأجلهم.
ثم أمره بصنع السفينة ، فقال : {واصنع الفلكَ بأعيُننا} ؛ بحفظنا ورعايتنا ، أو بمرأى منا ومسمع غير محتاج إلى آلة حفظ وحرس ، {ووحينَا} إليك ، كيف تصنعها ، رُوي أنه لما جهل صنعها أوحى الله إليه : أن اصنعها على مثال جُؤجؤ الطائر. وروي أيضاً : انها كانت مريعة الشكل ، طويلة في السماء ، ضيقة الأعلى ، وأن المراد منها إنما كان الحفظ ، لا سرعة المشي ، والأول أرجح : أعني : على صورة ظهر الطائر. قال في الأساس : عملت سفينة نوح عليه السلام من ساج ، وهو خشب أسود ، رزان ، لا تكاد الأرض تبليه ، من الهند. هـ. وفي رواية أخرى : صنعها نوح عليه السلام ، وجبريل يصف له ، فكان أسفلها كأسفل السفن وأعلاها كالسقف ، وداخلها كالبيت ، ولها أبواب في جوانبها. هـ.
ثم إن نوحاً عليه السلام لما تحقق هلاك قومه ، رق عليهم ، فَهَمَّ ان يُراجع الله في شأنهم ، فقال له تعالى : {ولا تخاطبني} ؛ ولا تراجعني {في الذين ظلموا} ، ولا تدع باستدفاع العذاب عنهم ؛ {إنهم مُغرقون} : محكوم عليهم بالغرق لا محالة. فلا سبيل إلى كفه.
(3/290)
{ويصنعُ الفلكَ} ، حكي ما وقع بصيغة الحال ؛ استحضاراً لتلك الحال العجيبة ، {وكلمَّا مرَّ عليه ملأٌ} : جماعة {من قومه سَخرُوا منه} : استهزؤوا به : لأنه كان يعمل السفينة في برية بعيدة من الماء. أو أن عزته تنفي صنعته ، فكان يضحكون منه ، ويقولون له : صرت نجاراً بعد أن كنت نبياً. {قال} لهم : {إنْ تسخروا منا فإنا نسخرُ منكم كما تسخرون} ، فنسخر منكم حين يأخذكم في الدنيا الغرق ، وفي الآخرة الحرق. {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يُخزيه} ، وهو : الغرق ، والحرق بعده. {ويَحِلُّ} أي : ينزل {عليه عذاب مقيمٌ} : دائم ، وهو النار يوم القيامة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 212
الإشارة : إذا تحقق الولي بإعراض الخلق عنه ، وأيس منهم أن يتبعوه ، فلا يحزن ، ولا يغتم منهم ، ففي الله غنى عن كل شيء ، وليس يُغني عنه شيء. وفي إعراض الخلق راحة لقلب الولي ولبدنه ، فإذا سخروا منه فليقل في نفسه : إن تسخروا منا اليوم ، فنسخر منكم حين تحقق الحقائق ، فيرتفع المقربون ، وينسفل الباطلون ، وكان شيخ أشياخنا سيدي علي العمراني رضي الله عنه كثيراً ما يقول : ليت القيامة قامت ، حتى يظهر الرجال من غيرهم. أو ما هذا معناه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 212
قلت : (حتى) : غاية لقوله : (ويصنع الفلك) ، أو ابتدائية. و(اثنين) مفعول باحمل ، و(أهلك) : عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله : {حتى إذا جاء أمرُنا} بغرقهم ، أو أمرنا للأرض بالفوران وللسحاب بالإرسال ، {وفار التنورُ} ؛ نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور. والتنور : تنور الخبز ، ابتدأ منه النبوع ، على خرق العادة ، أرادت ابنته أن تسجره ففار الماء في النار ، رُوي أنه كان تنور آدم ، خلص إلى نوح فكان يوقد فيه ، وقيل : كان في الكوفة في موضع مسجدها. وقيل : في الهند ، وقيل : التنور : وجه الأرض. قاله ابن عباس.
(3/291)
فلما فار بالماء {قلنا احْمِلْ فيها} ؛ في السفينة ، {من كل زوجين اثنين} ؛ من كل نوح من الحيوان ؛ ذكراُ وأنثى ـ رُوي أن نوحاً عليه السلام وقف على باب السفينة ، وحشر إليه الوحوش ، فكان الذكر يقع في يمينه ، والأنثى في شماله ، وهو يُدخل في السفينة. وآخر ما دخل الحمار ، فتمسك الشيطان بذنبه ؛ فزجره نوح فلم ينعق ، فدخل معه ، فجلس عند مؤخر السفينة. ورُوي أن نوحاً عليه السلام آذاه نتن الزبل والعذرة ، فأوحى الله إليه : أن امسح على ذنب الفيل ، فخرج من انفه خنزير وخنزيرة ، فكفياه أمر ذلك الأذى. ورُوي أن الفأر آذى الناس فاوحى الله إليه : أن امسح على جبهة الأسد ففعل ، فعطس فخرج منه هرٌّ وهرَّة. فكفياه أمر الفأر. انظر ابن عطية.
{و} احمل أيضاً {أهْلكَ} أي : امرأتك وبنيك ونساءهم ، {إلا من سبقَ عليه القولُ} : أنه من المغرقين يريد : ابنه كنعان وأمه وَاعِلة ، فإنهما كانا كافرين. {و} احمل {من آمن} بك. قال تعالى : {وما آمن معه إلا قليلٌ} ، قيل : كانوا تسعةَ وسبعين : زوجته المسلمة ، وبنوه الثلاثة : حام وسام ويافث ، ونساؤهم ، واثنان وسبعون رجلاً وامرأة من غيرهم. وفي بعض الآثار : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سام أبو العرب ، ويافث أبو الروم ، وحام أبوالحبش ". قاله ابن عطية : وسيأتي خلافه في سورة الصافات. وهو الراجح. وقال البيضاوي : رُوي ان نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين ، وكان طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين ، وسمكها ثلاثين. وجعل لها ثلاثة بطون. فحمل في أسفلها الدواب والوحش ، وفي وسطها الإنس ، وفي أعلاها الطير. هـ. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 213
الإشارة : حتى إذا جاء أمرنا بكمال الطهارة من العيوب ، وفار تنور القلب بعلم الغيوب وجرت سفينة الفكرة في بحار التوحيد ، وأسرار التفريد ، قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين ؛ علم الشريعة والحقيقة ، وعلم الحكمة القدرة ، وعلم الحس والمعنى ،
214
(3/292)
وعلم الأشباح والأرواح ، وعلم الملك والملكوت. وتحمل من تمسك بها من أهل المحبة والوداد ، إلا من سبق عليه القول بالمكث في مقام البعاد ، وتحمل من آمن بخصوصيتها من العباد ، فتقربه من مسلك التوفيق والتسديد ، حين يمن الحق تعالى عليها بالقرب من أهل المحبة والوداد. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 213
قلت : (مَجْريها ومرساها) : مشتقان من الجري والإرسال ، أي : الثبوت ، وهما إما ظرفان زمانيان ، أو مكانيان ، وإما مصدران ، والعامل فيهما : ما في (بسم الله) من معنى الفعل. وإعراب " بسم الله " : إما حال مقدرة من الضمير في " اركبوا " ، أي : اركبوا متبركين بسم الله ، أو قائلين : بسم الله ، وقت إجرائها وإرسائها. أو (مجراها ومرساها) : مبتدأ ، و(بسم الله) : خبر : فيوقف على (فيها) ؛ أي : إجراؤها وإرساؤها حاصل بسم الله.
يقول الحق جل جلاله : وقال نوح لمن كان معه : {اركبوا} في السفينة وسيروا فيها. رُوي أنهم ركبوا أول يوم من رجب ، وقيل : يوم العاشر منه ، واستوت على الجودي يوم عاشوراء ، {بسم الله مَجْريها ومُرْساها} أي : متبركين بسم الله وقت إجرائها ، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها وإرسائها ، رُوي : أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجري السفينة قال : بسم الله ، فتجري ، وإن أراد أن يوقفها قال : بسم الله ، فتوقف. {أن ربي لغفور رحيم} ، فلولا مغفرته لما فرط منكم ، ورحمته إياكم ، لَما أنجاكم. فركبوا مسلمين وساروا.
{وهي تجري بهم في موج كالجبال} ، والموج : ما يرتفع من الماء عند اضطرابه ، أي : كل موجة من الطوفان كالجبال في تراكمها وارتفاعها ، وما قيل من أن الماء أطبق ما بين السماء والأرض ، وكانت السفينة تجري في جوفه ، لم يثبت. وكيف يكون الموج كالجبال ؟ والمشهور أنه علا شوامخ الجبال ، خمسة عشر ذراعاً ، وإنْ صح ذلك فلعل ارتفاع الموج كالجبال كان قبل التطبيق.
(3/293)
{ونادى نوحٌ ابنَه} ، كان كنعمان. وقيل : كان لغير رشدة ، وهو خطأ ؛ لأن الأنبياء عُصمت من أن تزني أزواجهم. والمراد بالخيانة في قوله {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم : 10]. في الدين. {وكان في معزلٍ} ؛ في ناحية ، عزل نفسه فيها عن أبيه ، أو عن دينه ، فقال له
215
أبوه : {يا بُنيَّ اركب معنا} في السفينة ، {ولا تكن مع الكافرين} في الدين أو في الأعتزال عنا ، وكان يظنه مؤمناً ، لإخفاء كفره. {قال سآوي إلى جبل يعصمُني} ؛ يمنعني {من الماء} ، فلا أغرق ، {قال لا عاصمَ اليوم من أمر الله إلا من رحم ربي} أي : إلا الراحم ، وهو الله فلا عاصم إلا أرحم الراحمين. أو : {لا عاصم} ؛ لا ذو عصمة إلا من رحم الله ، فلا معصوم إلا من رحمه الله. فالاستثناء حينئذٍ متصل. أو : لا عاصم اليوم من أمر الله لكن من رحمه الله فهو المعصوم. أو : لا ذو عصمة لكن الراحم يعصم من شاء ، والاستثناء منقطع.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 215
(3/294)
وحال بينهما الموجُ} ؛ بين نوح وابنه ، {فكان من المغرَقين} ؛ فصار من المهلكين بالماء. رُوي أنه صنع بيتاً من زجاج ، وحمل معه طعامه وشرابه ، وصعد على وجه الماء فسلط الله عليه البول حتى غرق في بوله ، والله تعالى أعلم بشأنه. الإشارة : إذا دخل العارف في بحر الفناء ، وغاب عن حسه ورسمه ، واتصل معناه ببحر معاني الأسرار ، جرت سفينة فكرته في بحر الذات وأنوار الصفات ، فقال لأصحابه : اركبوا فيها ، بسم الله مجريها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم ، حيث غطى وصفكم بوصفه ، ونعتكم بنعته. فوصلكم بما منه إليه ، لا بما منكم إليه ، فصارت سفن الأفكار تجري بهم في موج كالجبال ، وهي تيار بحر الذات. فالخمرة الأزلية الخفية الصافية بحر لا ساحل له ، وما ظهر من أنوار الصفات أمواجه. فأنوار الآثار هي أمواج البحار ، وما عظم من أمواجه يسمى التيار ، ولذلك قيل : العارفون يغرقون في بحر الذات ، وتيار الصفات ، فتراهم إذا غرقوا في بحر الأسرار وتيار الأنوار ، وساروا فيها بمدد أسرارهم ، تلاطمت عليهم أمواجه. وهي تجري بهم في موج كالجبال ، فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، فآواه إلى جبل السنة المحمدية فكان من الناجين.
وآخرون حال بيهم الموج ، فكانوا من المغرقين ، فالتبس الأمر عليهم ، فقالوا بالحلول والاتحاد ، أو نفي الحكمة والأحكام. وهذا في حق من ركب بلا رئيس ماهر ، وإلا رده إلى سفينة النجاة ، وهي : التمسك بالشريعة المحمدية في الظاهر ، والتحقق بالحقيقة الأصلية. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 215
قلت : (بعداً) : منصوب على المصدر ، أي : أبعَدوا بعداً.
يقول الحق جل جلاله : {وقيل} أي : قال الله : {يا ارضُ ابلعي ماءك} الذي خرج
216
منك ، فانفتحت أفواهاً ، فرجع إليها ما خرج منها ، {ويا سماءُ أَقلعي} : أمسكي عن الإمطار. رُوي أنها أمطرت من كل موضع. فبقي ما نزل منها بحاراً على وجه الأرض.
(3/295)
قال البيضاوي : نوديا بما ينادى به أولو العلم ، وأُمرا بما يؤمنون به ، تمثيلاً لكمال قدرته ، وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما ، بالأمر المطاع ، الذي يأمر المنقاد لحكمه ، المبادر إلى امتثال أمره ، مهابة من عظمته ، وخشية من أليم عقابه. والبلع : النشف ، والإقلاع : الإمساك. هـ.
{وغيض الماءُ} ؛ نقص ولم ينشف ما خرج منها ، {وقُضِيَ الأمرُ} : وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين ، وإنجاء المؤمنين ، {واستوتْ} : استقرت السفينة {على الجُودي} ؛ جبل بالموصل. وقيل : بالشام. وتقدم أنه نزل يوم عاشوراء ، فصامه شكراً. وبقي ستة أشهر على الماء. {وقيل بُعداً للقوم الظالمين} ؛ هلاكاً لهم. يقال بعد ، إذا بعد بعداً بعيداً ، بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك. وخص بدعاء السوء.
والآية ـ كما ترى ـ في غاية الفصاحة ؛ لفخامة لفظها وحسن نظمها ، والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل ، وأنه متعين في نفسه ، مستغن عن ذكره ، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره ؛ للعلم به ، فإن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار. قاله البيضاوي.
فإن قلت : قد عم الغرق الدنيا كلها ، مع أن دعوة نوح عليه السلام لم تكن عامة ، وقد قال تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء : 15] ؟ فالجواب : أن الكفر قد كان عم الموجودين في ذلك الزمان ، مع تمكنهم من النظر والاستدلال على الصانع وتوحيده ، ومع قدرتهم على الإتيان إلى نوح في أمر الشرائع ، فقصروا في الجهتين. وأيضاً : لم تكن الأرض كلها معمورة بالناس ، فكل من كان موجوداً سمع بدعوة نوح فجحدها. والله تعالى أعلم. وانظر ابن عطية عند قوله : {واصنعِ الفلك}. والله تعالى أعلم.
(3/296)
الإشارة : إذا توالت على القلب الواردات الإلهية السماوية ، والأحوال النفسانية المزعجة ، خيف على العقل الاختطاف والاصطدام ، فقيل : يا أرض النفس ابلعي ماءك واسكني ، ويا سماء الواردات أقلعي ، وغيض الماء ، أي : نقص هيجان الحال ، وقضي الأمر بالاعتدال ، واستوت سفينة الفكرة على جبل العقل ، فحاز الشرف والكمال ؛ لكونه برزخاً بين بحرين ، يعطي الحقيقة حقها والشريعة حقها ، فيعطي كل ذي حق حقه ، ويوفى كل ذي قسط قسطه. وقيل : بُعداً لمن تخلف عن هذا المقام ، وظلم نفسه بإلقائها في سجن الهوى وغيهب الظلام. والله تعالى أعلم.
217
جزء : 3 رقم الصفحة : 216
قلت : (وإنَّ وعدك) : عطف على (إن ابني). و(أنت أحكم) : حال من الكاف. و(إني أعظك) : مفعول من أجله ، أي : كراهية أن تكون من الجاهلين.
يقول الحق جل جلاله : {ونادى نوحٌ ربَّه} بعد تعميم الغرق ، أي : أراد النداء بدليل عطف قوله : {فقال ربِّ إنَّ ابني من أهلي} ، فإنه هو النداء ، أو تكون فصيحة ، جواباً عن مقدر ، كأن قائلاً قال : ماذا في ندائه ؟ فقال : إن ابني من أهلي وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ، {وإن وعَدَكَ الحقُّ} لا يتطرقه الخلف ، فما باله غرِق ؟ {وأنت أحكمُ الحاكمين} ؛ لأنك أعلمهم وأعدلهم ، فلم أعرف وجه حكمك عليه بالغرق. أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم ، فلم أفهم حكمة غرقه.
(3/297)
{قال} تعالى : {يا نوح إنه ليس من أهلك} ؛ لأنه خالفك في الدين ، ولا ولاية بين الكافر والمؤمن ، {إنه عملٌ غير صالح} أي : ذو عمل فاسد. جعل ذاته نفس العمل ؛ مبالغةً. وقرأ الكسائي ويعقوب : (عَمِلَ) بلفظ الماضي. أي : عمل عملاً فاسداً. استحق به البعد عنك. أو : إنه ـ أي سؤالك ـ عملٌ غير صالح. ويقوي هذا قراءة ابن مسعود : " إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم ، وقراءة الجماعة : {فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ} أصواب هو أم لا ، حتى تقف على كنهه. وإنما سمي نداءه سؤالاً ؛ لتضمنه معنى السؤال ، بذكر الوعد واستنجازه واستفسار المانع.
ثم وعظه بقوله : {إني أعظُكَ أن تكون من الجاهلين} أي : إني أعظك ؛ كراهة أن تكون من الجاهلين الذين يسألون ما لا يوافق القدر. وقد استثنيته بقولي : {إلا من سبق عليه القول}. وليس فيه وصفه بالجهل ، بل وعظه لئلا يقع فيه ، والحامل له على السؤال ، مع أنه استثنى له ؛ غلبة الشفقة على الولد ؛ مع كونه لم يتحقق أنه ممن سبق عليه القول.
{قال} نوح : يا {رب إني أعوذُ بك أن أسألكَ} في المستقبل {ما ليس لي به علمٌ} ؛ ما لا علم لي بصحته. {وإلا تغفرْ لي} ما فرط مني من السؤال ، {وترحمني} بالتوبة ، تفضلاً وإحساناً ، وبالتوفيق والعصمة في المستقبل ، {أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} بسوء أدبي معك.
218
الإشارة : قال الورتجبي : أدَّب نبيه نوحاً عليه السلام بأن لا يسأل إلا ما وافق القدر. كل دعاء لم يوافق مراده تعالى في سابق علمه لم يؤثر في مراد الداعي. وقوله : {إنه عمل غير صالح} أي : ليس عمله على موافقة السنة ، ثم وعظه ، وقال : {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} ، الجاهل : من جهل قدر الله ، أي : أنزهك عن سوء الأدب في السؤال ، على غير قاعدة مرادك. هـ. وقال في الحكم : " ليس الشأن وجوب الطلب ، وإنما الشأن أن ترزق حسن الأدب ".
جزء : 3 رقم الصفحة : 218
(3/298)
قلت : " تلك " : مبتدأ. و " من أنباء " : خبر. و " نُوحيها " : خبر ثان ، و " ما كنت تعلمها " : خبر ثالث ، أو حال من الهاء ، أي : حال كونها مجهولة عندك وعند قومك.
يقول الحق جل جلاله : {قيل يا نوحُ اهبط} من السفينة إلى عمارة الأرض {بسلامٍ منّا} ، أي : متلبساً بسلامة من المكاره ، من جهة حفظنا ورعايتنا. أو مسلماً عليك. {وبركات عليك} ؛ وزيادات في نسلك حتى تصير آدماً ثانياً ، فالبركة هي : الخير النامي. أو : مباركاً عليك ، {وعلى أمم ممن معكَ} أي : هم الذين معك ، أو ناشئة ممن معك ، فقد تشعبت الأمم ممن معه من ذريته. والمراد : المؤمنون ، بدليل قوله : {وأمم سنُمتعهم} في الدنيا ، ونوسع عليهم فيها ، {ثم يمسُّهُم منا عذابٌ أليم} في الآخرة ، وهم الكفار ممن نشأ من ذريته. وقيل : هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب ، والعذاب : ما نزل بهم في الدنيا.
{تلك} القصة ، أو خبر نوح عليه السلام ، هي : {من أنباءِ الغيب} أي : بعض أخبار الغيب {نُوحيها إليك} ؛ لا طريق إلى معرفتها إلا الوحي ، {ما كنتَ تعلمها أنتَ ولا قومُكَ من قبل هذا} الوقت لولا إيحاؤنا إليك بها ، فهي من دلائل نبوتك ؛ لأنك لم تغب عنهم ، ولم تخالط غيرهم ، فتعين أنه من عند الله. فإن كذبوك {فاصبرْ إن العاقبة للمتقين} وأنت أعظمهم. فالعاقبة لك في الدنيا بالنصر والعز ، وفي الآخرة بالرفيق الأعلى. أو فاصبر على مشاق التبليغ مع إذاية قومك ، كما صبر نوح عليه السلام. إن العاقبة للمتقين بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
الإشارة : يقال للمريد إذا تمكن من الفناء ، وارتفعت فكرته عن عالم الأكوان : اهبط إلى مقام البقاء ؛ لتقوم بآداب العبودية بعد مشاهدة عظمة الربوبية ، انزل إلى سماء
219
(3/299)
الحقوق ، أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، لا بقصد متابعة الشهوة والمتعة. اهبط بسلام منا ؛ أي : بسلامة من الرجوع أو الشقاء. وبركات عليك وعلى من تبعك. ولذلك قيل : من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء. وأمم قد ضلوا عن متابعتك ، سنمتعهم في الدنيا بمتابعة الهوى ، ثم يمسهم منا عذاب الحجاب وسوء الحساب. تلك الواردات الإلهيةُ نُوحيها إليك ، ما كنت تعلمها أيها العارف من قبل هذا ، أنت ولا من تبعك ، فاصبر ؛ فإن الجمال مقرون بالجلال ، والعاقبة للمتقين. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 219
قلت : " أخاهم " : عطف على نوح في قوله : (ولقد أرسلنا نوحاً) ، و(هوداً) : بدل.
يقول الحق جل جلاله : {و} أرسلنا {إلى} قبيلة {عادٍ أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله} وحده ، {ما لكم من إله غيرُهُ} يستحق أن يعبد ، {إن أنتم إلا مُفترون} على الله ، باتخاذ الأوثان آلهة. {يا قوم لا أسألكم عليه} : على التبليغ {أجراً} حتى يثقل عليكم ، أو تتهموني لأجله {إنْ أجْرِيَ إلا على الذي فطرني} ؛ خلقني. بهذا خاطب كل رسول قومَه ؛ إزاحةً للتهمة ، وتمحيصاً للنصيحة ، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع. {أفلا تعقلون} : أفلا تستعملون عقولكم ؛ فتعرفوا المحق من المبطل ، والصواب من الخطأ.
{ويا قوم استغفروا ربكم} من الشرك ، {ثم توبوا إليه} ، ثم ارجعوا إليه بطاعته فيما أمر ونهى. أو : ثم توبوا من المعاصي ؛ لأن التوبة من الذنوب لا تصح إلا بعد الإيمان ، والتطهير من الشرك ، {يُرسل السماء عليكم مدراراً} أي : كثير الدر ، أي النزول ، {ويَزدْكُم قوة إلى قوتكم} : يضاعف قوتكم ، ويزدكم فيها. وإنما دعاهم إلى الله ، ووعدهم بكثرة المطر ، وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة ؛ فوعدهم هود عليه السلام على الإيمان والتوبة بالأمطار وتضاعف القوة بالتناسل. قاله البيضاوي.
(3/300)
وقال ابن جزي : وفي الآية دليل على أن التوبة والاستغفار سبب لنزول المطر. رُوي : أن عاداً كان المطر قد حُبس عنهم ثلاث سنين ، فأمرهم بالتوبة والاستغفار ،
220
ووعدهم على ذلك بالمطر. هـ. {ولا تتولَّوا} : ولا تُعرضوا عما أدعوكم إليه ، {مجرمين} ؛ مصرين على إجرامكم.
الإشارة : في تكرير القصص والأخبار وَعظ وتذكير لأهل الاعتبار ، وزيادة إيقان لأهل الاستبصار ، وتهديد وتخويف لأهل الإصرار ، وحث على المبادرة إلى التوبة والاستغفار. وقوله تعالى : {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} ، أي : استغفروا ربكم من الشرك الخفي ، ثم توبوا إليه من النظر إلى وجودكم ، ورؤية أعمالكم ، يرسل سحاب الواردات الإلهية والعلوم الإلهامية على قلوبكم وأسراركم ، مدراراً ، ويزدكم قوة في شهود الذات إلى قوتكم في شهود الصفات ، ولا تتولوا عن شهوده بشهود أثره ، مجرمين معدودين في زمرة المجرمين المصرين على الكبائر ، وهم لا يشعرون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 220
وقال الورتجبي : استغفروا من النظر إلى غيري ، وتوبوا إليَّ من نفوسكم ، ورؤية طاعتكم وأعواضها ، يرسل سماء القدم على قلوبكم مدرار أنوار تجليها ، ويزدكم ، أي : يزد قوة أرواحكم في طيرانها. انظر تمامه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 220
قلت : (إن نقول إلا اعتراك) : الاستثناء مفرغ ، و " اعتراك " : مقول لقول محذوف ، أي : ما نقول إلا قولنا اعتراك ، و(ما من دابة) : " ما " نافية ، و " من " صلة و " دابة " مبتدأ مجرور بمن الزائدة ، وجملة (إلا هو آخذ) : خبر.
(3/301)
يقول الحق جل جلاله : قالوا يا هود ما جئتنا ببينة ؛ بمعجزة واضحة تدل على صدق دعواك ، وهذا كذب منهم وجحود ؛ لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. وفي الحديث " ما مِنْ نَبي إلاَّ أُوتي من المعجزات ما مثلُهُ آمنَ عَليه البشَرُ ، وإَنَّما كَانَ الذِي أُوتيتُه وحياً أُوحي إلي ، فأرجُوا أن أكُون أكثرهم تَابِعاً يوم القِيَامةِ ". كما في الصحيح. ويحتمل أن يريدوا : ما جئتنا بآية تضطر إلى الأيمان بك ، وإن كان قد أتاهم
221
بآية نظرية. ولم يذكر في القرآن معجزة معينة لهود عليه السلام ، مع الاعتقاد أنه لم يخل من معجزة ؛ لما في الحديث.
ثم قالوا : {وما نحن بتاركي آلهتنا} ؛ بتاركي عبادتهم {عن قولك} أي : بسبب قولك أو صادرين عن قولك ، {وما نحن لك بمؤمنين} أبداً ، وهو إقناط له عن الإجابة والتصديق. {إن نقول إلا اعتراك} ؛ أصابك {بعض آلهتنا بسوء} ؛ بجنون ؛ لما سببْتها ، ونهيت عن عبادتها ، ولذلك صرت تهذو وتتكلم بالخرافات.
{قال} هود عليه السلام : {إني أُشهد الله} على براءتي من شرككم ، {واشهدوا أني بريء مما تُشركون من دونه فكيدوني} أي : اقصدوا كيدي وهلاكي ، {جميعاً} ، أنتم وشركاؤكم ، {ثم لا تنظرون} ؛ لا تؤخرون ساعة. وهذا من جملة معجزاته ، فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة ، والفتاك العِطاش إلى إراقة دمه ، بهذا الكلام ، ليس إلا لتيقنه بالله ، ومنعُهم من إضراره ليس إلا لعصمته إياه. ولذلك عقبه بقوله : {إني توكلتُ على الله ربي وربكم} ، فهو تقرير له. والمعنى : أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضروني ؛ فإني متوكل على الله ، واثق بكلاءته ، وهو مالكي ومالككم ، لا يحيق بي ما لم يُرده ، ولا تقدرون على ما لم يُقدره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 221
(3/302)
ثم برهن عليه بقوله : {ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها} : إلا وهو مالك لها ، قادرٌ عليها ، يصرفها على ما يريد بها. والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك. قاله البيضاوي. وقال ابن جزي : أي : هي في قبضته وتحت قهره ، وهذه الجملة تعليل لقوة توكله على الله ، وعدم مبالاته بالخلق. هـ. {إن ربي صراط مستقيم} أي : إنه على الحق والعدل ، ولا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم. وقال في القوت : أخبر عن عدله في محله ، وقيام حكمته ، وأنه وإن كان آخذاً بنواصي العباد في الخير والشر ، والنفع والضر ؛ لاقتداره ، فإن ذلك مستقيم في عدله ، وصواب من حكمه. هـ.
{فإن تولَّوا} أي : فإن تتولوا وتُعرضوا عما جئتكم به ، {فقد أبلغتُكم ما أرسلتُ به إليكم}. أي : فقد أديت ما عليّ من الإبلاغ ، فلا تفريط مني ، ولا عذر لكم ؛ فقد جاءكم النذير ، وقامت الحجة عليكم ، وما بقي إلا هلاككم. {ويستخلفُ ربي قوماً غيركم} يسكنون دياركم ، ويعمرون بلادكم ، فإن عتوا وطغوا سلك بهم مسلككم ، {ولا تضرونَه} بتوليكم عن الإيمان به ، {شيئاً} من الضرر. أو لا تضرونه شيئاً إذا أهلككم واستخلف غيركم ، {إن ربي على كل شيء حفيظٌ} ؛ رقيب فلا يخفى عليه أعمالكم ، ولا يغفل عن مجازاتكم. أو حافظ مستول عليه ، فلا يمكن أن يضره شيء. قاله البيضاوي.
الإشارة : ما يقال للأولياء إلا ما قيل للرسل ، فإذا توجه العبد إلى مولاه ، وسقط
222
على من هو أهل للتربية ، وترك ما كان عليه قبل من الانتساب إلى غيره ، وخرق عوائد نفسه ، أو إصابة شيء من المكاره ، قال الناس : ما اعتراه إلا بعض الصالحين بسواء ، فيقول لهم : إني أُشهد الله ، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه. فإن أجمعوا على إضراره أو قتله قال لهم : فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون.
(3/303)
{إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} ، وأنتم دواب مقهورون تحت قبضة الحق ، {إن ربي على صراط مستقيم} ؛ لا ينتقم إلا من أهل الانتقام ، " من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب " ، فإن ذكرهم بالله ودلهم على الطريق ، فكذبوه وأعرضوا عنه ، قال : عسى أن يذهب بكم ، ويستخلف قوماً غيركم ، يكونون متوجهين إليه أكثر منكم ، ولا تضرونه شيئاً. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 221
قلت : إنما قال هنا وفي قصة شعيب : (ولما) ، بالواو ، وفي قصة صالح ولوط : (فلما) ، بالفاء ؛ لأن قصة صالح ولوط ذكرهما بعد الوعيد ، في الفاء التي تقتضي التسبب ، كما تقول : وعدته فما جاء الوعيد كان.. الخ ، بخلاف قصة هود وشعيب لم يتقدم ذلك فيهما ، فعطف بالواو ، قاله الزمخشري.
يقول الحق جل جلاله : {ولما جاء أمرُنا} : عذابنا ، أو أمرنا بالعذاب ، {نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا} ، وكانوا أربعة آلاف ، {ونجيناكم من عذابٍ غليظ} ، وهو ريح السموم ، وكانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أمعاءهم. والتكرير ؛ لبيان ما نجاهم منه ، وإعلاماً بأنه عذاب غليظ ، وتعديداً للنعمة في نجاتهم. ويحتمل أن يريد النجاة الأولى : من عذاب الدنيا ، وهو الريح الذي نزل بقومهم ، وبالنجاة الثانية : عذاب الآخرة ، وهو العذاب الغليظ ، ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح.
{وتلك عادٌ} ؛ الإشارة إلى القبيلة ، أو إلى قبورهم وآثارهم ؛ تهويلاً وتهديداً ، {جحدوا بآيات ر بهم} ؛ كفروا بها ، {وعَصوا رسله} ، والجمع إما لأنَّ من عصى رسولاً فكأنما عصى الكل ؛ لأنهم متفقون في الدعوة ، مع أنهم أُمروا بطاعة كل رسول. وإمَّا على إرادة الجنس كقولك : فلان يركب الخيل ، وإن يركب إلا فرساً واحداً. {واتبعوا أمر
223
(3/304)
َ كل جبارٍ عنيد} يعني : كبراءهم الطاغين ، والعنيد : الطاغي ، والمعنى : عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم ، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم ، {وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويومَ القيامة} أي : جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين ؛ في الدنيا أهلكتهم ، وفي الآخرة أحرقتهم.
{ألا إن عاداً كفروا ربَّهم} ؛ جحدوه ، أو كفروا نعمه. وفيه تشنيع لكفرهم وتهويل لأمرهم ، بالإتيان بحرف التنبيه ، وتكرار اسم عاد ؛ {ألا بعداً لعادٍ} أي : هلاكاً لهم ، دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا ؛ للدلالة على أنهم كانوا مستحقين له ، مستوجبين لما نزل بهم ؛ بسبب ما حكي عنهم. وإنما كرر " ألا " وأعاد ذكرهم ؛ تفظيعاً لأمرهم ، وحثاً على الاعتبار بحالهم. ثم بيَّنهم بقوله : {قوم هود}. فهو عطف بيان لعاد ، وفائدته : تمييزهم عن عاد الثانية التي هي عاد إرم ، والإيمان إلى استحقاقهم للبعد ، بما جرى بينهم وبينه. قاله البيضاوي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 223
الإشارة : من أراد سلامة الدارين والظفر بقرة العين ، فليتمسك بالإيمان بالله ، وبكل رسول أتى من عند الله ، وليتبع من يدعو إلى الله. وهم أهل المحبة والوداد ، السالكون مناهج الرشاد والسداد. وليتجنب كل جبار عنيد ، وهو : كل من يحول بينك وبين الله ، ويغفلك عن ذكر الله. وقوله تعالى : (أَلا بُعداً لعاد) وأخواتها ، فيها تخويف لأهل القرب والوصال.
قال في الإحياء : ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة ، ليست لغيرهم ، وبعض مخاوفهم أشد من بعض ، فأولها : خوف الإعراض ، وأشد منه : خوف الحجاب ، وأشد منه خوف الإبعاد ، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيب سيد المحبين ، أنه سمع : (ألا بُعداً لعاد) ، (ألا بُعداً لمدين) ، وإنما تعظم هيبةُ البُعد وخوْفُه في قلب من ألف القرب وذاقه ، وتنعَّم به. ثم قال : ثم خوف الوقوف وسلب المزيد ، فإنا قَدَّمنا : أن درجات القرب لا نهاية لها. هـ.
(3/305)
جزء : 3 رقم الصفحة : 223
قلت : قال الشطيبي : صالح : هو ابن عبيد بن عابرَ بن أرْفَخْشد بن سام بن نوح.
224
وثمود هم أولاد ثمود بن عوص بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. هـ. وفيه نظر ؛ فقد ذكر البيضاوي في سورة الأعراف أن بين صالح ونوح تسعة أجداد ، فانظره.
يقول الحق جل جلاله : {و} أرسلنا {إلى ثمودَ أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيرُه هو أنشأكم من الأرض} كونكم من الأرض ؛ لأنه خلق آدم منها ، والنطف التي هي مواد نسله أصها منها ، {واستعمركم} ؛ عمركم {فيها} وجعلكم تعمرونها بعد من مضى قبلكم ، ثم تتركونها لغيركم. أو استبقاكم فيها مدة أعماركم ، ثم ترحلون عنها. {فاستغفروه ثم توبوا إليه ، أن ربي قريبٌ} من كل شيء {مجيبٌ} لمن دعاه.
{قالوا يا صالحُ قد كنت فينا مرجُواً قبل هذا} أي : كنا نرجو أن ننتفع بك ؛ لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد ، فتكون لنا سيداً ، أو مُستشاراً في الأمور ، وإن توافقنا على ديننا ، فلما سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا منك ؛ {أتنهانا أن نعبدَ ما يعبد آباؤنا} قبلنا لتصرفنا عن ديننا ، {وإننا لفي شكٍّ مما تدعونا إليه} من التوحيد ، والتبري من الأوثان. {مُريب} : موقع في الريبة ؛ مبالغة في الشك ، {قال يا قوم أرأيتُم إن كنتُ على بينة} ؛ طريقة واضحة {من ربي} وبصيرة نافذة منه ، {وآتاني منه رحمةٌ} : نبوة ، {فمن ينصرني من الله} ؛ من يمنعني من عذابه {إن عصيته} وأطعتكم في ترك التبليغ ، وموافقتكم في الدين الفاسد ، {فما تزيدونني} باستتباعكم {غير تَخسير} بترك ما منحني الله به ، والتعرض لغضبه ، أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير تخسير لكم ؛ لأنه يجركم إلى الخسران. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 224
(3/306)
الإشارة : كل من وجهه الحق تعالى يدعو إلى الله فإنما يدعو إلى خصلتين : إفراد الحق بنعوت الألوهية ، والقيام بوظائف العبودية ؛ شكراً لنعمة الإيجاد ، وتوالي الإمداد. فقول صالح عليه السلام : {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} ، هذا إفراد الحق بالربوبية ، وقوله : {هو أنشأكم من الأرض} ، هذه نعمة الإيجاد. وقوله : {واستعمركم فيها} هي : نعمة الإمداد ، وقوله : {فاستغفروه ثم توبوا إليه} ، وهو القيام بوظائف العبودية ؛ شكراً لتلك النعمتين. وفي قوله : {إن ربي قريب مجيب} : ترهيب وترغيب.
وقوله تعالى : {قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا} : يؤخذ من الآية : أن شُعاع الخصوصية ، وآثارها ، تظهر على العبد قبل شروق أنوارها ، وهو جار في خصوص النبوة والولاية ، فلا تظهر على العبد في الغالب حتى يتقدمها آثار وأنوار ، من مجاهدة أو أنس ، أو اضطرار أو انكسار ، أوعِرْق طيب. والله تعالى أعلم. وكل من واجهه منهم تكذيب أو إنكار يقول : {أرأيتم إن كنتُ على بينة من ربي...} الآية. وبالله التوفيق.
225
جزء : 3 رقم الصفحة : 224
قلت : " آية " : نصبت على الحال ، والعامل فيها : معنى الإشارة. و(لكم) : حال منها ، تقدمت عليها لتنكيرها. و(من خزي يومئذٍ) ـ حذف المعطوف ، أي : ونجيناهم من خزي يومئذٍ ، ومن قرأ بكسر الميم أعربه ، ومن قرأ بالفتح بناه ؛ لاكتساب المضاف البناء من المضاف إليه. قاله البيضاوي. وقال في الألفية :
وابْن ، أَو اعربْ ما كَإِذْ قَدْ أُجرِيا
واختَرْ بنَا متَلُو فعْل بُنيا
وقَبل فعْل معرب أو مُبْتَدأ
أعربْ ، ومنْ بَنَى فَلَنْ يُفنَّدا
وثمود : اسم قبيلة ، يصح فيه الصرف باعتبار الحي أو الأب الأكبر ، وعدمه باعتبار القبيلة. وقد جاء بالوجهين في هذه الآية.
(3/307)
يقول الحق جل جلاله : قال صالح لقومه بعد ظهور آية الناقة ، وقد تقدم في الأعراف قصتها : {هذه ناقةُ الله لكم آيةً} تدل على صدقي ، {فذرُوها تأكل في أرض الله} ؛ أي : ترعى نباتها وتشرب ماءها ، {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذابٌ قريب} : عاجل ، لا يتأخر عن مسكم لها بالسوء إلا ثلاثة أيام. {فعقروها} وقسموا لحمها ؛ {فقال} لهم : {تمتعوا} : عيشوا {في داركم} ؛ منازلكم {ثلاثة ايام} ؛ الأربعاء والخميس والجمعة. وقيل : عقروها يوم الأربعاء ، وتأخروا الخميس والجمعة والسبت ، وهلكوا يوم الأحد. {ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب} فيه " ، بل هو حق.
{فلما جاء أمرْنا} : عذابنا ، أو أمرنا بهلاكهم ، {نجينا صالحاً والذين آمنوا معه} ، قيل : كانوا ألفين وثمانمائة رجل وامرأة. وقيل أربعة آلاف ، وقال كعب : كان قوم صالح أربعة عشر ألفاً ، سوى النساء والذرية ، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات. انظر القرطبي. قلت : وقول كعب : كان قوم صالح... الخ ، لعله يعني الجميع : من آمن ومن لم يؤمن ، فآمن ألفان وثمانمائة ، وهلك الباقي. وكذا هود ، أسلم أربعة آلاف ، وهلك الباقي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 226
قال تعالى : فنجينا {صالحاً} ومن معه {برحمة منا} ؛ ونجيناهم {من خِزْي
226
يؤمئذٍ} وهو : هلاكهم بالصيحة ، أو من هوان يوم القيامة ، {إن ربك هو القوي العزيز} ؛ القادر على كل شيء ، الغالب عليه ، {وأخذ الذين ظلموا الصيحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمين} ؛ باركين على ركبهم ميتين ، {كأن لم يغنوا} : يعيشوا ، أو يقيموا {فيها} ساعة ، {ألا إن ثمودَ كفروا ربهم} ؛ جحدوه ، {أَلا بُعْداً لثمود} ؛ هلاكاً وسحقاً لهم.
(3/308)
الإشارة : ما رأينا أحداً ربح من ولي وهو يطلب منه إظهار الكرامة ، بل إذا أراد الله أن يوصل عبداً إليه كشف له عن سر خصوصيته ، بلا توقف على كرامة. وقد يظهرها الله له بلا طلب ؛ تأييداً له ، وزيادةً في إيقانه ، فإن طلب الكرامة ، وظهرت له ، ثم أعرض عنه ، فلا أحد أبعدُ منه. قال تعالى ، في حق من رأى المعجزة ثم أعرض : {ألا بعداً لثمود}. وبالله التوفيق
جزء : 3 رقم الصفحة : 226
قلت : " سلاماً " : منصوب على المصدر ، أي : سلمنا سلاماً. ويجوز نصبه بقالوا ؛ لتضمنه معنى ذكروا. (قال سلام) : إما خبر ، أي : أمرنا سلام ، أو جواب سلام ، وإما مبتدأ ، أي : عليكم سلام. وكسر السين : لغة ، وإنما رفع جوابه ليدل على ثبوت سلامة ؛ فيكون قد حياهم بأحسن مما حيوه به. (فما لبث أن جاء) ؛ . " ما " : نافية و " أن جاء " : فاعل " لبث ". ونكر وأنكر بمعنى واحد. والإيجاس : الإدراك أو الإضمار. و(من وراء إسحاق يعقوب) : من قرأ بالنصب فبفعل دل عليه الكلام ، أي : ووهبنا لها يعقوب. ومن رفعه فمبتدأ ، أي : ويعقوب مولود من بعده. و(شيخاً) : حال ، والعامل فيه : الإشارة ، أي : أشير إليه شيخاً. و(أهل البيت) : نصب على المدح والاختصاص ، أو على النداء.
يقول الحق جل جلاله : {ولقد جاءت رسُلنا إبراهيمَ} ، وهم الملائكة ، وقيل : ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل : تسعة جاؤوه {بالبُشرى} ؛ بالولد. فلما دخلوا عليه {قالوا سلاماً} أي : سلمنا عليك سلاماً ، أو ذكروا سلاماً ، {قال سلام} أي : عليكم سلام ، {فما لبثَ} أي : أبطأ ، {أن جاء بعجل حَنيذ} ؛ مشوي بالرضف ، أي : بالحجر المحمي. وقيل : حنيذ بمعنى يقطر ودكه. كقوله : {بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات : 26] ، فامتنعوا
227
(3/309)
من أكله ، {فلما رأى أيديَهم لا تصل إليه} ؛ لا يمدون إليه أيديهم ، {نَكرهم} أي : أنكر ذلك منهم ، {وأوجس} : أدرك ، أو أضمر {منهم خفيةً} أي : خوفاً ، خاف أن يريدوا به مكروهاً ؛ لامتناعهم من طعامه ، وكان من عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه ، وإلا خافوه.
والظاهر أنه أحسن بأنهم ملائكة ونكرهم ؛ لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه فأمنوه ، وقالوا : {لا تخفْ إنا} ملائكة {أرسلنا إلى قوم لوطٍ} لنعذبهم ، وإنما لم نأكل طعامك ؛ لأنا لا نأكل الطعام. {وامرأته قائمة} من وراء ستر تسمع محاورتهم ، أو على رؤوسهم للخدمة ، {فضحكتْ} سروراً بزوال الخيفة ، أو بهلاك أهل الفساد ، أو بإصابة رأيها ، فإنها كانت تقول لإبراهيم : اضمم إليك لوطاً ، فإني لأعلم أن العذاب نازل بهؤلاء القوم. وقيل : معنى ضحكت : حاضت. يقال : ضحكت الشجرة : إذا سال صَمغُها. وقيل : ضحكت سروراً بالولد الذي بُشرت به. فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، أي : فبشرناها فضحكت ، وهو ضعيف.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
(3/310)
قال تعالى {فبشرناها بإسحاقَ ومن وراء إسحاق يعقوبَ} ولد ولدها. وتوجيه البشارة إليها ؛ لأنه من نسلها ، ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد ، {قالت يا ويلتا} ؛ يا عجباً ، وأصله في الشر ، فأطلق على كل أمر فظيع. وقرئ بالياء على الأصل ، أي : يا ويلتي {أألدُ وأنا عجوزٌ} ابنة تسعين ، أو تسع وتسعين {وهذا بَعْلِي} : زوجي ، وأصله : القائم بالأمر ، {شيخاً} ؛ ابن مائة أو مائة وعشرين سنة ، {إنَّ هذا لشيء عجيب} يتعجب منه ؛ لكونه نشأ الولد من هرمين. وهو استغرب من حيث العادة ، لا من حيث القدرة ، ولذلك قالوا : {أتعجبينَ من أمر الله} ؛ منكرين عليها ، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ، ومهبط الوحي ومظهر المعجزات. وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع ، ولذلك قالوا : {رحمةُ الله وبركاته عليكم أهل البيت} أي : بيت إبراهيم ، فلا تستغرب ما يظهر منهم من خوارق العادات ، ولا سيما من نشأت وشابت في ملاحظة الآيات ، {إنه} تعالى {حميدٌ} ؛ فاعل ما يستوجب به الحمد ، أو محمود على كل حال {مجيد} ؛ كثير الخير والإحسان. أو ممجَّد بمعنى العلو والشرف التام. قال ابن عطية هنا : إن في الآية دليلاً على ان الذبيح إسماعيل لا إسحاق. وفيه نظر. وسيأتي في سورة الصافات ما هو الحق ، إن شاء الله تعالى.
الإشارة : من شأن أهل الكرم والامتنان : المبادرة إلى من أتاهم بالبر والإحسان ؛ إما بقوت الأرواح ، أو بقوت الأشباح. من أتاهم لقوت الأرواح بادروه بإمداد الروح من اليقين والمعرفة ، ومن أتاهم لقوت الأشباح بادروه بالطعام والشراب ، كُلاً ما يليق به ، ومن
228
(3/311)
شأن الضيف اللبيب المبادرة إلى أكل ما قُدِّمَ إليه ، من غير اختبار ، إلا لمانع شرعي أو عادي. ومن شأن أهل التحقيق والتصديق ألا يتعجبوا مما يظهر من القدرة من الخوارق ؛ إذ القدرة صالحة لكل شيء ، حاكمة على كل شيء ، هي تحكم على العادة ، لا العادة تحكم عليها. وهذا شأن الصديقين ؛ لا يتعجبون من شيء ؛ ولا يستغربون شيئاً ، ولذلك توجه الإنكار إلى سارة من الملائكة ، ولم يتوجه إلى مريم ؛ حيث سألت ؛ استفهاماً ، ولم تتعجب ، ووصفت بالصديقية دون سارة. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
قلت : " لما " : حرف وجود لوجود ، تفتقر للشرط والجواب. فشرطها : " ذهب " ، وجوابها : محذوف أي : جعل يجادلنا. والتأوه : التفجع والتأسف ، ومنه قول الشاعر :
إِذا ما قمتُ أرحَلُهَا بليلٍ
تأوّهُ آهةَ الرجل الحزين
يقول الحق جل جلاله : {فلما ذهب عن إبراهيمَ الرَّوعُ} ، وهو ما أوجس في نفسه من الخيفة ، {وجاءته البشرى} بدل الروع ، جعل {يُجادلنا} أي : يخاصم رسلنا {في} شأن {قوم لوطٍ} ، ويدفع عنهم ، قال : {إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} [العنكبوت : 32] ، {إنَّ إبراهيمَ لحليمٌ} ، غير عجول من الانتقام إلى من أساء اليه. {أواهٌ} ؛ كثير التأوه والتأسف على الناس ، {منيب} ، راجع إلى الله. والمقصود من ذلك : بيان الحامل له على المجادلة ، وهي : رقة قلبه وفرط ترحمه. قال تعالى على لسان الملائكة : {يا إبراهيمُ أعرضْ عن هذا} ، الجدال ؛ {إنه قد جاء أمرُ ربك} بهلاكهم ، ونفذ قضاؤه الأزلي فيهم ، ولا مرد لما قضى ، {وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} ؛ غير مصروف بجدال ولا دعاء ، ولا غير ذلك.
(3/312)
الإشارة : قال الورتجبي : قوله تعالى {إن أبراهيم لحليم أواه} ؛ حليم بأنه كان لا يدعو على قومه ، بل قال {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم : 36] وتأوه زفرة قلبه من الشوق إلى جمال ربه ، هكذا وصْف العاشقين. ثم قال : ومجادلته كمال الانبساط ، ولم يكن جهلاً ، ولكن كان مُشفقاً ، باراً كريماً ، رأى مكانة نفسه في محل الخلة والاصطفائية القديمة ، وهو تعالى يُحب غضب العارفين ، وتغير المحبين ، ومجادلة
229
الصديقين ، وانبساط العاشقين حتى يحثهم على ذلك.
وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما أُسري بي رأيت رجلاً في الحضرة يتذمر ، فقلت لجبريل : من هذا ؟ فقال : أخوك موسى يَتَذَمَّرُ عَلَى ربهِ ـ أي : يجترئ عليه انبساط ـ فقلت : وهل يليق له ذلك ؟ فقال : يعرفه ؛ فيتحمل عنه " ثم قال : ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم. هـ. قال في الصحاح : يَتَذَمَّرُ على فلان : إذا تَنَكَّرَ له وأَوعَدَهُ. قاله المحشي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 229
والحاصل أن إبراهيم عليه السلام حملته الشفقة والرحمة ، حتى صدر ، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته ، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين ، غير أن العارفين بالله مع مراد مولاهم ، يشفقون على عباد الله ، ما لم يتعين مراد الله ، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله ، لما تعين قضاؤه : {يا أبراهيم أعرض عن هذا}. فالشفقة التي تؤدي إلى معارضة القدر لا تليق بأهل الأقدار ، وفي الحكم " ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله ". ولهذا قالوا : الشفقة لا تليق بالأولياء.
(3/313)
قال جعفر الصادق ـ رحمه الله ـ : ست خصال لا تحس بستة رجال : لا يحسن الطمع في العلماء ، ولا العجلة في الأمراء ، ولا الشح في الأغنياء ، ولا الكبر في الفقراء ، ولا الشفقة في المشايخ ، ولا اللؤم في ذوي الأحساب. وقولنا : الشفقة لا تليق بالأولياء ، يعني إذا تعين مراد الله ، أو إذا ظهرت المصلحة في عدمها ، كأمر الشيخ المريد بما تموت به نفسه ، فإذا كان الشيخ يحن على الفقراء في هذا المعنى لا تكمل تربيته. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 229
230
قلت : (سيء) : مبني للمفعول ، صلة : سَوِئ ، نُقلت حركة الواو إلى السين بعد ذهاب حركتها ، ثم قلبت الولو ياء. و(ذرعاً) : تمييز محول عن الفاعل ، أي : ضاق ذرعه ، وهو كناية عن شدة الانقباض عن مدافعة الأمر المكروه ، وعجزه عن مقاومته. و(لو أن لي بكم قوة) : إما للتمني فلا جواب له ، أو محذوف ، أي : لدفعت.
وفي(أَسْرَ) لغتان : قطع الهمزة من الإسراء ، ووصلها من السُّرى ، وقرئ بهما معاً ، و(إلا امرأتك) الرفع ؛ بدل من (أحد) ، وبالنصب ؛ منصوب بالاستثناء من (فأسر بأهلك). ومنشأ القراءتين : هل أخرجها معه ، فالتفتت أم لا ؟ فمن رفع ذهب إلى أنه أخرجها. ومن نصب ذهب إلى أنه لم يسر بها ، وهما روايتان.
(3/314)
يقول الحق جلاله : {ولما جاءت رسلُنا} ، وهم الملائكة المتقدمون ، {لوطاً سِيءَ بهم} ساءه مجيئهم ؛ لأنهم أتوه في صورة غلمان حسان الوجوه ، فظن أنهم بشر ، فخاف عليهم من قومه أن يقصدوهم للفاحشة ، ولا يقدر على مدافعتهم ، {وضاقَ بهم ذرعاً} أي : ضاق صدره بهم ، {وقال هذا يومٌ عصيبٌ} : شديد من عصبه : إذا شده ، ورُوي أن الله تعالى قال لهم : لا تهلكوا قومه حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله ، قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية ؟ قالوا : وما أمرهم ؟ قال : أشهد بالله أنها شرُّ قرية في الأرض عملاً. قال ذلك أربع مرات. فدخلوا منزله ، ولم يعلم بذلك أحد ، فخرجت امرأته فأخبرتهم ، {وجاءه قومُه يُهرَعُون} ؛ يُسرعون {إليه} كأنهم يُدفعون إليه دفعاً ، لطلب الفاحشة من أضيافه. {ومن قبل} ذلك الوقت {كانوا يعملون السيئات} ؛ الفواحش ، كاللواطة ، وغيرها ، مستمرين عليها مجاهرين بها ، حتى لم يستحيوا وجاؤوا يهرعون إليها.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 230
قال يا قوم هؤلاء بناتي} تزوجوهن ، وكانوا يطلبونهن قبل ، فلا يجيبهم لخبثهم ، وعدم كفاءتهم ، لا لحرمة المسلمات على الكفار ، فإنه شرع طارئ ؛ قال ابن جزي : وإنما قال لهم ذلك ؛ ليقي أضيافه ببناته. قيل : إن اسم بناته ، الواحدة : ريثا ، والأخرى : غوثاً. هـ. ولم يذكر الثالثة ، فعرضهن عليهم ، وقال : {هنَّ أطهرُ لكم} ؛ أحل لكم ، أو أقل فحشاً ، كقولك : الميتة أطيب من المغضوب ، {فاتقوا الله} بترك الفواحش ، {ولا تُحزون} ؛ لا تفضحوني {في ضيفي} ؛ في شأنهم ، فإن افتضاح ضيف الرجل خزي له. {أليس منكم رجلٌ رشيدٌ} ؛ عاقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح.
(3/315)
{قالوا لقدْ علمتَ ما لنا من بناتك من حقٍّ} ؛ من حاجة ، {وإنك لتعلم ما نُريد} وهو إتيان الذكران ، {قال لو أن لي} ؛ ليت لي {بكم قوةً} طاقة على دفعكم بنفسي ، {أو آوي إلى ركن شديد} ؛ أو ألجأ إلى أصحاب أو عشيرةٍ يحمونَني منكم ، شبه ما يتمتع بهم بركن الجبل في شدته ، قال صلى الله عليه وسلم " رَحِمَ اللَّهُ أَخي لُوطاً لقد كَانَ يأوي إِلى رُكنٍ
231
شَديدٍ " يعني : الله تعالى.
رُوي أنه أغلق بابه دون أضيافه ، وأخذ يجادلهم من وراء الباب ، فتسوروا الجدار ، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب ، {قالوا يا لوطُ إنا رُسلُ ربك لن يصلُوا إليك} : لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا ، فهو عليك ودَعْنا وإياهم. فخلاهم ، فلما دخلوا ضرب. جبريل عليه السلام بجناحيه وجوههم ، فطمس أعينهم ، وأعمالهم ، فخرجوا يقولون : النجاء ؛ النجاء في بيت لوط سحرة ، فقالت الملائكة للوط عليه السلام : {فأسرٍ بأهلك} ؛ سِر بهم {بقطع من الليل} : بطائفة منه ، {ولا يلتفت منكم أحدٌ} : لا يتخلف ، أو لا ينظر إلى ورائة ؛ لئلا يرى ما يهوله. والنهي في المعنى يتوجه إلى لوط ، وإن كان في اللفظ مسنداً إلى أحد.
{إلا امرأتك} ، اسمها : واهلة ، أي : فلا تسر بها ، أو : ولا ينظر أحد منكم إلى ورائه إلا امرأتك ؛ فإنها تنظر. رُوي أنها خرجت معه ، فلما سمعت صوات العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ؛ فأدركها حجر فقتلها ، ولذلك قال : {أنه مُصيبُها ما أصابهم} من العذاب ، {إن موعدَهُم} وقت {الصُّبحُ} في نزول العذاب بهم ، فاستبطأ لوط وقتَ الصبح ، وقال : هلا عُذبوا الأن ؟ فقالوا : {أليس الصبح بقريب}.
{فلما جاء أمرنا} ؛ عذابنا ، أو أمرنا به ، {جعلنا} مدائنهم {عاليَها سافلَها} ، رُوي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم ، ورفعها إلى السماء ، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب ، وصياح الديكة ، ثم قلبها بهم.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 230
(3/316)
وأمطرنا عليهم} ؛ على المدائن ، أي : أهلها ، أو على ما حولها. رُوي أنه من كان منهم خارجَ المدائن أصابته الحجارة من السماء ، وأما من كان في المدائن ، فهلك لمّا قلبت. فأرسلنا عليهم : {حجارة من سجيل} : من طين طبخ بالنار ، أو من طين متحجر كقوله : {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [الذاريات : 33] ، وأصلها : سنكِين ، ثم عرب ، وقيل : إنه من أسجله إذا أرسله ، أي : من مثل الشيء المرسل ، وقيل : أصله من سجين ، أي جهنم ، ثم أبدلت نونه لاماً ، {منضود} : مضموم بعضه فوق بعض ، معداً لعذابهم ، أو متتابع يتبع بعضه بعضاً في الإرسال ، كقطر الأمطار.
{مُسَوّمةً} أي : معلمة للعذاب ، وقيل : معلمة ببياض وحمرة ، أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض ، أو باسم من يرمي به ؛ فكل حجارة كان فيها اسم من ترمى به ، وقوله : {عند ربك} ، أي : في خزائن علمه وقدرته ، {وما هي من الظالمين ببعيد} بل هي قريبة من كل ظالم.
232
(3/317)
قال ابن جزي : الضمير للحجارة ، والمراد بالظالمين : كفار قريش ، فهذا تهديد لهم ، أي : ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم ؛ لأجل كفرهم ، وقيل : الضمير للمدائن ، أي : ليس مدائنهم ببعيد منهم ؛ أفلا يعتبرون بها. كقوله : {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِيا أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان : 40]. وقيل : الظالمين على العموم. هـ. وقال البيضاوي : وعنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " أَنَّهُ سَأَلَ جِبريل ، فَقَال " يَعني : ظَالِمي أُمتِكَ ، مَا مِنْ ظَالمٍ منهم ؛ إِلاَّ هوَ معرض لحَجَرٍ يَسقُط مَنْ سَاعَةٍ إلى ساعة " هـ. الإشارة : الاعتناء بشأن الأضياف ، وحفظ حرمتهم : من شأن الكرام ، والاستخفاف بحقهم ، والتجاسر عليهم ، من فعل اللئام. وفي الحديث : " مَن كَانَ يُؤمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخر فَليُكرمْ ضَيفَهُ " والإسراع إلى الفواحش من علامة الهلاك ، لا سيما اللواطَ والسفاح. والإيواء إلى الله والاعتصام به من علامة الفلاح ، والبعد عن ساحة أهل الفساد من شيم أهل الصلاح ، وكل من اشتغل بالظلم والفساد فالرمي بالحجارة إليه بالمرصاد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 230
قلت : " مفسدين " : حال مؤكده لمعنى عاملها ، وهو : " لا تعثوا ". وفائدة ذكره : إخراج ما يُقصد به الإصلاح ، كما فعله الخضر عليه السلام.
(3/318)
يقول الحق جل جلاله : {و} أرسلنا {إلى مَدْيَنَ أخاهم شعيباً} ، أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أو أهل مدين ، وهي بلدهُ ، فسميت باسمه ، {قال يا قوم اعبدوا الله} وحده ؛ {ما لكم من إله غيره ولا تَنقُضوا المكيالَ والميزان} ، وكانوا مطففين. أمرهم أولاً بالتوحيد ؛ فإنه رأس الأمر ، ثم نهاهم عما اعتادوا من : البخس المنافي للعدل ، المخل بحكمة المعاوضة ، ثم قال لهم : {إني اراكم بخيرٍ} ؛ بسعة كرخص الأسعار ، وكثرة الأرزاق ، فينبغي أن تشكروا عليها ، وتتعففوا بها عن البخس ، لا أن تنقضوا الناس حقوقهم ، أو بسعة ونعمة ، فلا تزيلوها بما أنتم عليه ؛ فإن من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، {وإني أخاف عليكم عذابَ يوم محيط} ؛ يوم القيامة ، فإنه محيط بكل ظالم ، أو عذاب الاستئصال في الدنيا ، ووصف اليوم بالإحاطة ، وهي صفة العذاب ؛ لاشتماله عليه.
233
{ويا قوم أوفوا الميكالَ والميزان بالقسط} ؛ بالعدل من غير زيادة ولا نقصان. صرح بالأمر بالاستيفاء بعد النهي عن ضده ؛ مبالغةً ، وتنبيهاً على أنهم لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف ، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بالزيادة ، حيث لا يتأتى دونها ، وقد تكون الزيادة محظورة ، ولذلك أمرهم بالعدل في قوله : (بالقسط) ، بلا زيادة ولا نقصان.
{ولا تبخسوا الناسَ أشياءهم} لا تنقصوهم حقهم ، وهو تعميم بعد تخصيص ، فإنه أعم من أن يكون في الميزان والمكيال وفي غيره ، وكذا قوله : {ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين} ؛ فإن العثو ـ وهو الفساد ـ يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل : المراد بالبخس : المكس ، كأخذ العشور في المعاملات ، والعثو : السرقة وقطع الطريق والغارة ، وأكد بقوله : {مفسدين} وفائدته : إخراج ما يقصد به الإصلاح ، كما فعل الخضر عليه السلام ، وقيل : معناه : مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم. قاله البيضاوي.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 233
(3/319)
بقيةُ اللَّهِ} ؛ أي : ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عن الحرام ، {خيرٌ لكم} مما تجمعون بالتطفيف ، {إن كنتم مؤمنين} ؛ فإن الإيمان يقتضي الاكتفاء بالحلال عن الحرام. أو إن كنتم مؤمنين فالبقية خير لكم ، فإن خيريتها تظهر باعتبار الثواب والنجاة من العذاب ، وذلك مشروط بالإيمان ، أو : إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم. وقيل : البقية : الطاعة ، كقوله {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف : 46]. وقرئ : " تقية الله " ؛ أحفظ عليكم أعمالكم ، وأجازيكم عليها ، إنما أنا نذير وناصح مبلغ ، وقد أعذرت حين أنذرت. أو : أحفظكم عن القبائح وأمنعكم منها. أو : لست بحافظ عليكم نعم الله إن سُبلت عنكم بسوء صنيعكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كما أمر الحق تعالى بالوفاء في الموازين أمر بالوفاء في الأعمال والأحوال والمقامات. ولذلك قيل للجنيد في النوم : أفضل ما يُتقرب به إلى الله عمل خفي ، بميزان وفي ، فالوفاء في الأعمال : إتقانها في الظاهر ، باستيفاء شروطها وآدابها ، وإخلاصها في الباطن مع حضور القلب فيها. والوفاء في الأحوال : ألا تخرج عن قواعد الشريعة ، بأن لا تكون محرمة ولا مكروهة ، وأن يقصد بها موت النفوس وحياة الأرواح ، والوفاء في المقام : ألا ينتقل عن مقام إلى غيره حتى يتحقق بالمقام الذي أنزل فيه. وفيه خلاف بين الصوفية : هل يصح الانتقال عن مقام قبل التحقق به ، ثم يحققه في المقام الذي بعده ، أم لا ؟ .
والمقامات التي ينزل فيها المريد : التوبة ، الخوف ، الرجاءُ ، والورع ، والزهد ، والتوكل ، والصبر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة بالفناء ثم البقاء ، أو الإسلام ، ثم الإيمان ، ثم الإحسان. فلا ينتقل من مقام إلى ما بعده حتى يحقق المقام
234
(3/320)
الذي هو فيه ، ذوقاً وحالاً. وقيل : يجوز أن ينتقل إلى ما بعده إذا كان ذا قريحة فتحقق له ما قبله. والله تعالى أعلم. وطريق الشاذلية مختصرة ، تطوي عن المريد هذه المقامات ، فينزل في أول قدم في مقام الإحسان ، شعر أم لا ، ثم يحصل الفناء ثم البقاء ، إن وجد شيخاً كاملاً تربى على يد شيخ كامل ، وإلا فلا.
وقول الجنيد رضي الله عنه : (عمل خفي) ، اعلم أن الخفاء على ثلاثة أقسام : خفاء عوام الصالحين ، وهو : إخفاء الأعمال عن الناس مخافة الرياء. وخفاء المريدين ، وهو : الإخفاء عن ملاحظة الخلق ومراقبتهم ، ولو كانوا بين أظهرهم ، فإخفاؤهم قلبي لا قالبي. وخفاء العارفين الواصلين ، وهو : الإخفاء عن رؤية النفس ، فهم يغيبون عن أنفسهم ووجودهم ، في حال أعمالهم ، فليس لهم عن نفوسهم إخبار ، ولا مع غير الله قرار. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 233
قلت : " تأمرك أن نترك " : على حذف مضاف ، أي : تأمرك بتكليف أن نترك ؛ لأن الرجل لا يُؤمر بفعل غيره. و(أن نفعل) : عطف على (ما) ؛ أي : أو نترك فعلنا في أموالنا ما نشاء.
يقول الحق جل جلاله : {قالوا يا شعيب أصلواتك} التي تُكثر منها هي التي {تأمرك} أن تأمرنا {أن نترك ما يعبد آباؤنا} من الأصنام ، وندخل معك في دينك المحدث ، أجابوا به ما أمرهم به من التوحيد بقوله : {ما لكم من إله غيره} ، على وجه التهكم والاستهزاء بصلواته. وكان كثير الصلاة ، ولذلك جمعوها وخصوها بالذكر. وقرأ الأخوان وحفص بالإفراد المراد به الجنس.
(3/321)
ثم أجابوه عن نهيهم عن التطفيف وأمرهم بالإيفاء ، فقالوا : {أو} نترك {أن نفعل في أموالنا ما نشاء} من البخس وغيره ؟ وقيل : كانوا يقطعون الدراهم والدنانير ، فناهم عن ذلك.. {إنك لأنت الحليم الرشيد} ، تهكموا به وقصدوا وصفه بضده ، من خفة العقل والسفه ؛ لأن العاقل عندهم هو الحرص على جمع الدنيا وتوفيرها ، وهو الحمق عند العقلاء ، أو إنك موسوم بالحلم والرشد ؛ فلا ينبغي لك أن تنهانا عن تنمية أموالنا والتصرف فيها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الإنكار على من أمر بالخروج عن العوائد والتقلل من الدنيا من طبع أهل الكفر والجهل ، وكذلك رميه بالحمق والسفه. فلا تجد الناس اليوم يعظمون إلا من أقرهم
235
على توفير دنياهم ورئاستهم. والتكاثر منها ، وأما من زهدهم فيها وأمرهم بالقناعة ، فإنهم يرفضونه ، ويحمقونه. وهذا طبع من طبع الأمم الخالية ، الجاهلة بالله ، وبما أمر به ، وفي الحديث : " لَتَتبعُنَّ سَننَ مَن قَبلِكُم شِبراً بِشبر ، وذرَاعاً بِذرَاعٍ ، حَتَّى لَوْ دَخَلْوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخَلتُمُوه " وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 235
قلت : جواب " إن كنت " : محذوف ، أي : فهل ينبغي أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره.
(3/322)
يقول الحق جل جلاله : {قال} شعيب لقومه : {يا قوم أرأيتم إن كنتم على بينةٍ من ربي} ، وهي النبوة والعلم والحكمة ، {ورزقني منه} ؛ من عنده ، وبإعانته ، بلا كد في تحصيله ، {رزقاً حسناً} : حلالاً ، إشارة إلى من آتاه من المال الحلال. فهل يسع لِي بعد هذا الإنعام ، الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية ، أن أخون في وحيه ، وأخالفه في أمره ونهيه ، حتى لا أنهاكم عن عبادة الأوثان ، والكف عن العصيان ، والأنبياء لا يبعثون إلا بذلك ، وهذا منه اعتذار لما أنكروا عليه من الأمر بالخروج عن عوائدهم ، وترك ما ألفوه من دينهم الفاسد ، أي : كيف أترك ما أمرني به ربي من تبليغ وحيه ، وأنا على بينة منه ، وقد أغناني الله عنكم وعن غيركم. ولذلك قال إثره : {وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} أي : وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه ؛ لأَستبد به دونكم ، فتتهموني إن أردت الاستبداد به. يقال : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده ، وأنت مول عنه ، وخالفني عنه : إذا ولى عنه وأنت قاصده. {إن أريدُ إلا صلاحَ ما استطعت} أي : ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري لكم بالمعروف ، ونهيي لكم عن المنكر جهد استطاعتي.
قال البيضاوي : ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن ، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة : أهمها وأعلاها : حق الله تعالى. وثانيها : حق النفس ، وثالثها : حق الناس. هـ. قلت : فحق الله : كونه على بينة من ربه ، وحق النفس : تمكينه من الرزق الحسَن. وحق الناس : نصحهم من غير طمع ، ولا حظ.
236
(3/323)
ثم قال : {وما توفيقي إلا بالله} ؛ وما توفيقي لإجابة الحق ، والصواب إلا بهدايته ومعونته ، {عليه توكلتُ} ؛ فإنه القادر على كل شيء ، وما عداه عاجز بل معدوم ، ساقط عن درجة الاعتبار. وفيه إشارة إلى محض التوحيد ، الذي هو أقصى مراتب العلم بالله. {وإليه أُنيب} ؛ أرجع في جميع أموري. {ويا قوم لا يجرمنكم} : لا يُكسبنكم {شقاقي} : معاداتي ، {أن يُصيبكم مثل ما أصاب قومَ نوح} من الغرق ، {أو قومَ هودٍ} من الريح ، {أو قومَ صالحٍ} من الصيحة ، والمعنى : لا تخالفوني فيجركمْ ذلك إلى الهلاك كما هلك الأمم قبلكم ، {وما قومُ لوطٍ منكم ببعيدٍ} ؛ زماناً ولا مكاناً ، فإن لم تعتبروا بمن قبلكم ، فاعتبروا بهم ؛ إذ هم ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوئ ، فلا يبْعد عنكم ما أصابهم. وإنما أفرد " بعيد " ؛ لأن المراد : وما إهلاكهم ، أو وما هم بشيء بعيد. {واستغفروا ربَّكم ثم تُوبوا إليه} عما أنتم عليه ؛ {إن ربي رحيم} ؛ عظيم الرحمة للتائبين {ودود} ؛ متودد إليهم ، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ بمن يوده ، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار. قاله البيضاوي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 236
الإشارة : قد تضمنت خطبة شعيب عليه السلام ست خصال ، من اجتمعت فيه فاز بسعادة الدارين : الأولى : فتح البصيرة ، ونفوذ العزيمة ، وتنوير القلب بمعرفة الله ، حتى يكون على بينة من ربه.
الثانية : تيسير الرزق الحلال ، من غير تعب ولا مشقة ، يستعين به على طاعة ربه ، ويقوم به بمؤنة أمره.
الثالثة : السعي في إصلاح عباد الله وإرشادهم ، ودعاؤهم إلى الله من غير طمع ولا حرف ، ويكون حاله يصحح مقاله ، فلا يترك ما أمر به ، ولا يفعل ما نهى عنه.
الرابعة : الاعتماد على الله والرجوع إليه في توفيقه وتسديده ، وفي أمر دنياه ودينه ، بحيث لا يرجو إلا الله ، ولا يخاف إلا منه.
(3/324)
الخامسة : الحذر والتحذير من مخالفة ما جاءت به الرسل من عند الله ، والتمسك بما أمروا به من طاعة الله ، والاعتذار بمن هلك قبله ممن خالف أمر الله.
السادسة : تحقيق التوبة والانكسار ، والإكثار من الذكر والاستغفار. فذلك سبب المودة من الكريم الغفار. ولأجل هذه الخطبة سُمي شعيب خطيب الأنبياء. والله تعالى أعلم.
237
جزء : 3 رقم الصفحة : 236
قلت : " سوف تعلمون " : ذكره هنا بغير فاء ، وفي الأنعام بالفاء ، لأن الكلام في سورة الأنعام مع الأمة المحمدية ، فأتى بالفاء لمطلق السببية ، وهنا مع قوم شعيب عليه السلام ، فحذفها ؛ لأنه أبلغ في التهويل. فكأن الجملة بيانية لجواب سائل قال : فما يكون بعد ذلك ؟ فقال : سوف تعلمون... الخ.
يقول الحق جل جلاله : {قالوا يا شعيبُ ما نفقه} ؛ ما نفهم {كثيراً مما تقول} من أمر التوحيد ، وترك التبخيس ، وما ذكرت من الدليل عليها ؛ وذلك لانهماكم في الهوى ، وقصور عقلهم وعدم تفكرهم. وقيل : قالوا ذلك استهانة بكلامه ، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم. ثم قالوا : {وإنا لنراك فينا ضعيفاً} ؛ لا قوة لك تمتنع بها منا إن أردنا بك سوءاً ، أو : نراك ناحل البدن ، أو : ضرير البصر. وضعفه ابن عطيه. {ولولا رهطُك} أي : قومك ، الذين هم باقُون على ما ملتنا ، وكونهم في عزة عندنا ، {لرجَمْنَاكَ} : لقتلناك بالحجارة. أو بأصعب وجه ، {وما أنت علينا بعزيز} ؛ فتمنعنا عزتك من رجمك.
(3/325)
قال البيضاوي : وهذا ديدن السفيه المحجوج ، يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد. وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة ، وأن المانع لهم من إيذائه عزة قومه. ولذلك قال : {يا قوم أرَهْطِي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءَكم ظِهْرياً} ، وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر ، بإشراككم به ، والإهانة لرسوله. وهو يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب. والظهري : منسوب إلى الظهر ، والكسر من تغيير البناء. هـ. قال ابن جزي : فإن قيل : إنما وقع الكلام فيه وفي وهطه ، بأنهم هم الأعزة دونه ، فكيف طابق جوابه كلامهم ؟ فالجواب : أن تهاونهم به ، وهو رسول الله ، تهاون الله. فلذلك قال : {أرهطي أعز عليكم من الله}. هـ.
{إن ربي بما تعملون محيط} فلا يخفى عليه شيء منها ، فيجازي عليها بتمامها. {ويا قوم اعملوا على مكانتكم} : على حالتكم من تمكنكم في الدنيا ، وعزتكم فيها ، {إني عامل} على حالي ، {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه} ، يُهينه في الدنيا والآخرة ، {و} سوف تعلمون {من هو كاذب} مني ومنكم ، {وارتقبوا} ؛ وانتظروا ما
238
أقول لكم ، {إني معكم رقيب} : مرتقب لذلك. وهو فعيل بمعنى فاعل ، كالصريح والرفيع. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 238
الإشارة : لا يفقه المواعظ والتذكير إلا أهل الإيمان والتنوير. وأما القلب القاسي بالكفر والمعاصي فلا يسمع إلا ما تسمعه البهائم من الناعق والراعي. فبقدر ما يرق القلب يتأثر بالمواعظ ، وبقدر ما يغلظ باتباع الحظوظ والهوى ؛ يغيب عن تدبر المواعظ. وسبب تنوير القلب ورقته : قربه من الله ، وتعظيمه لحرمات الله ، وتعظيم من جاء من عند الله من أنبيائه ورسله ، وورثتهم القائمين بحجته ، كالأولياء والعلماء الأتقياء. وسبب ظلمة القلب وقساوته : بعده من الله ، وإهانته لحرمات الله ، واتخاذه أمره ظهرياً ، وجعل ذكره نسياً منسياً. وبالله التوفيق.
(3/326)
جزء : 3 رقم الصفحة : 238
يقول الحق جل جلاله : {ولما جاء أمرنُا} : عذابنا لقوم شعيب ، {نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا} ، لا بعمل استحقوا به ذلك ؛ إذ كل من عنده ، {وأخذت الذين ظلموا الصيحةُ} قيل : صاح بهم جبريل فهلكوا ، {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} : ميتين. وأصل الجثوم : اللزوم في المكان. {كأن لم يَغْنَوا فيها} كأن لم يقيموا فيها ساعة ، {ألا بعْداً لمدين كما بَعِدَتْ ثمودُ} ، شبههم بهم ؛ لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة ، غير أن صيحة ثمود كانت من فوق ، وصيحة مدين كانت من تحت ، على ما قيل ، ويدل عليه : التعبير عنهما بالرجفة في آية أخرى. والرجفة في الغالب إنما تكون من ناحية الأرض. وفي البيضاوي خلاف هذا ، وهو غير جَيد.
قال قتادة : بعث الله شعيباً إلى أمتين : أصحاب الأيكة ، وأصحاب مدين ، فأهلك أصحاب الأيكة بالظلة ، على ما يأتي ، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة ؛ فهلكوا أجمعين. قيل : وآمن بشعيب من الفئتين : تسعمائة إنسان. وكان أهل الأيكة أهل غيطة وشجر ، وكان شجرهم الدَّوْم ـ وهو شجر المُقْل.
الإشارة : سبب النجاة من الهلاك في الدارين : توحيد الله ، وتعظيم من جاء من عند
239
الله. وسبب الهلاك : الإشراك بالله ، وإهانة من عظمه الله. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 239
(3/327)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} ؛ بمعجزاتنا الدالة على صدقه ، {وسلطان مبين} ؛ وتسلط ظاهر على فرعون ، أو برهان بيِّن على نبوته. قال البيضاوي : والفرق بينهما : أن الآية تعم الأمارة والدليل القاطع ، والسلطان يخص بالقاطع ، والمبين يخص بما فيه جلاء. هـ. أرسلناه {إلى فرعون وملئه} ؛ جماعته ، {فاتبعوا أمرَ فرعون} أي : اتبعوا أمره بالكفر بموسى ، أو : فما اتبعوا موسى الهادي إلى الحق ، المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة ، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلالة والطغيان ، الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل ؛ لفرط جهالتهم ، وعدم استبصارهم ، {وما أمرُ فرعون برشيد} أي : ليس أمره برشد وصواب ، وإنما هو غي وضلال.
{يَقْدُمُ قومَه يوم القيامة} إلى النار ، كما يتقدم في الدنيا إلى الضلال ، {فأوردهم} : أدخلهم {النار} ذكره بلفظ الماضي ؛ مبالغة في تحققه ، ونزّل النار لهم منزلة الماء ، فسمى إتيانها مورداً ثم قال : {وبئس الورد المورود} أي : بئس المَوْرد الذي وردوه ، فإنَّ المورد إنما يراد لتبريد الأكباد ، وتسكين العطش ، والنار بضد ذلك. والآية كالدليل على قوله : {وما أمر فرعون برشيد} ؛ فإنَّ من هذا عاقبته لم يكن في أمره رشد ، أو تفسير له ، على أن المراد بالرشيد : ما يكون مأمون العاقبة حميدها. قاله البيضاوي. {وأتبعوا في هذه لعنةً ويومَ القيامة} أي : تتبعهم اللعنة في الدارين {بئس الرفدُ المرفود} : بئس العون المعان ، أو العطاء المعطى. فالرفد : العطاء ، والإرفاد : المعونة ، ومنه : رفادة قريش ، أي : معونتهم للفقراء في الحج بالطعام. والمخصوص بالذم محذوف ، أي : رفدهم ، وهو اللعنة في الدارين.
(3/328)
الإشارة : إذا أردتَ أن تعرف قدر الرجل في مرتبة الخصوصية ؛ فاسأل عن إمامه الذي يقتدى به ، فإن كان من أهل الخصوصية فصاحبه من الخصوص ، إن دامت صحبته معه ، وإن كان من العموم فصاحبه من العموم. والمراد بالخصوصية : تحقيق مقام الفناء ، ودخول بلاد المعاني. فكل من لم يحصل مقام الفناء ، ولم يشهد إلا المحسوسات فهو من العوام ، ولو بلغ من العلم والعمل ما بلغ ، ولو رأى من الكرامات أمثال الجبال. فمن
240
صحب مثل هذا الذي لم يفن عن نفسه ، ولم يخرج عن دائرة حسه ، لم يخرج من العمومية ؛ لأن نفسه فرعونية. قال تعالى : {وما أمر فرعون برشيد} ، وفي الخبر : " المَرْءُ على دين خليله " وقال الشاعر :
جزء : 3 رقم الصفحة : 240
عن المرءِ لا تسأل وسَلْ عن قرينه
فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يَقْتَدي
والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 240
قلت : (ذلك) : مبتدأ. و(من أنباء) : خبر ، و(نقصه) : خبر ثان. وجملة : (منها قائم وحصيد) : استئنافية لا حالية ؛ لعدم الرابط.
يقول الحق جل جلاله : {ذلك} النبأ الذي أخبرناك به في هذه السورة ، هو {من أنباء القرى} الماضية المهلَكة ، {نقصه عليك} ، ونخبرك به ؛ تهديداً لأمتك وتسلية لك. {منها} ما هو {قائم} البناء باقي الأثر ، {و} منها {حصيد} أي : محصود عافي الأثر ، كالزرع المحصود. أو : منها ما هو ساكن بقوم آخرين ، قائم العمارة بغير من هلك ، ومنها ما هو دارس عفى أثره ، واندرست أطلالُه.
(3/329)
قال تعالى : {وما ظلمناهم} بإهلاكنا إياهم ، {ولكن ظلموا أنفسهم} بأن عرضوها له ؛ بارتكابهم ما يوجب هلاكهم ، فعبدوا معي غيري ، {فما أغنت عنهم} : ما نفعتهم ، ولا قدرت أن تدفع عنهم العذاب ، {آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء} من ذلك العذاب ، {لما جاء أمر ربك} ـ ؛ حين جاءهم عذابه {وكذلك أخذُ ربك} أي : مثل ذلك الأخذ الوبيل أخذ ربك {إذا أَخَذَ القرى وهي ظالمةٌ} فلا يمهلها ، وقد يمهلها ثم يأخذها. فكل ظالم معرض لذلك. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم " إنَّ اللَّهَ ليُمْلِي للظَّالِمِ ، حَتى إِذا أَخَذَهُ لَمْ يُفلِتْهُ " ثم قرأ : {وكذلك أخذ ربك...} الآية. فالآية تعم قرى المؤمنين ؛ حيث عبَّر بظالمة دون كافرة. قاله ابن عطية. {إن أخذه أليم شديد} ؛ وجيع عظيم ، غير مرجو
241
الخلاص منه ، وهو مبالغة في التهديد والتحذير.
{إن في ذلك} الذي نسرده عليك من قصص الأمم الدارسة ، {لآية} ؛ لعبرة {لمن خاف عذابَ الآخرة} فيعتبر به ويتعظ ؛ لعلمه بأن ما خاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة. وأما من أنكر الآخرة فلا ينفعه هذا الوعظ والتذكير ؛ لفساد قلبه ، وموت روحه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
ذلك} أي : يوم القيامة الذي وقع التخويف به ، {يوم مجموعٌ له الناسُ} : محشورون إليه أينما كانوا. وعبَّر باسم المفعول دون الفعل ؛ للدلالة على الثبوت والاستقرار ، ليكون أبلغ ؛ لأن " مجموع " أبلغ من " يجمع ". {وذلك يوم مشهود} أي : تشهده أهل السماوات وأهل الأرض ؛ لفصل القضاء ، ويحضره الأولون والآخرون ، لاقتضاء الثواب والعقاب. فاليوم مشهود فيه ، فحذف الظرف اتساعاً.. {وما نُؤخره إلا لأَجلٍ معدود} أي : إلا لانتهاء مدة معدودة في علم الله ، لا يتقدم ولا يتأخر عنها ، قد اختص الله تعالى به. والله تعالى أعلم.
(3/330)
الإشارة : التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار ؛ لأنه يزهد في الدنيا الفانية ، ويشوق إلى دار الباقية ، ويرقق القلب ، ويستدعي مخافة الرب ، فلينظر الإنسان بعين الاعتبار في الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، والأماكن الدارسة ؛ كيف رحل أهلها عن الدنيا أحوج ما كانوا إليها ، وتركوها أحب ما كانت إليهم ؟ وفي بعض الخطب الوعظية : أين الفراعين المتكبرة ، وأين جنودها المعسكرات ؟ أين الأكاسير المنكسرة ؟ وأين كنوزها المقنطرات ؟ أين ملكوك قيصر والروم ؟ وأين قصورها المشيدات ؟ أين ملوك عدن ؟ أهل الملابس والحيجان ؟ وأين ملوك اليمن ، أهل العمائم والتيجان ؟ قد دارت عليهم ـ والله ـ الأقدار الدائرات ، وجرت عليهم برياحها العاصفات ، وأسكنتهم تحت أطباق الرجام المنكرات ، وصيرت أجسامهم طعمة للديدان والحشرات ، وأيمت منهم الزوجات ، وأيتمت منهم البنين والبنات. أفضوا إلى ما قدموا ، وانقادوا قهراً إلى القضاء وسلموا. فلا ما كانوا أملوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم من العمل الصالح رجعوا. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
242
قلت : (يوم يأتي) : العامل في الظرف : " لا تكلم " ، أو : اذكر ، مضمر. والضمير في " يأتي " : يعود على اليوم. وقال الزمخشري : يعود على " الله " ؛ لعود الضمير عليه في قوله : (إلا بإذنه) ، وضمير " منهم " على أهل الموقف المفهوم من قوله : (لا تكلم نفس).
يقول الحق جل جلاله : {يوم يأتي} ذلك اليوم المشهود ، وهو : يوم الجزاء {لا تكلم} ؛ لا تتكلم {نفس} بما ينفع وينجي في جواب أو شفاعة {إلا بإذنه} تعالى ، وهذا كقوله : {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـا} [النبأ : 38] ، وهذا موقف ، وقوله {هَـاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات : 35 ـ 38] ، في موقف آخر. والمأذون فيه هي الجوابات الحقية ، أو الشفاعات المرضية ، والممنوع منه هي الأعذار الباطلة.
(3/331)
ثم قسّم أهل الموقف ، فقال : {فمنهم شقي} وجبت له النار بمقتضى الوعيد ؛ لكفره وعصيانه. {و} منهم {سعيد} وجبت له الجنة بمقتضى الوعد ؛ لإيمانه وطاعته. {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} ، الزفير : إخراج النفس ، والشهيق : رده. ويستعملان في أول النهيق وآخره. أو الزفير : صوت المحزون ، والشهيق : صوت الباكي. أو الزفير من الحلق ، والشهيق من الصدر. والمراد بهما : الدلالة على شدة الكرب والغم ، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه ، وانحصرت فيه روحه ، أو تشبيه حالهم بأصوات الحمير. قاله البيضاوي.
{خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} أي سماوات النار وأرضها. وهي دائمة أبداً ، ويدل عليه قوله تعالى : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم : 48] ، أو يكون عبارة عن التأبيد : كقوله العرب : ما لاح كوكب وما ناح الحمام ، وشبه ذلك بما يقصد به الدوام ، وهذا أصح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 242
(3/332)
وقوله : {إلا ما شاء ربك} ، للناس هنا كلام واختلاف. وأحسن ما قيل فيه ؛ ما ذكره البقاعي ، قال : والذي ظهر لي ـ والله أعلم ـ أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين ، وأن الشرك لا يغفر ، والإيمان موجب للجنة ، فكان ربما يُظن أنه لا يمكن غير ذلك ، كما ظنه المعتزلة ، لا سيما إذا تأمل القطع في مثل قوله : {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء : 48] ، مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله : {وَيَغفِر مَا دُونَ ذََلِكَ لِمَن يَشَآءُ} جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلى الله كغيره من الأمور ، له أن يفعل في كلها ما يشاء ، وإن جُزم القوم فيه ، لكنه لا يقع غير ما أخبره به ، وهذا كما تقول : اسكن هذه الدار عمرك ألا ما شاء زيد ، وقد لا يشاء زيد شيئاً. فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر ، كذلك الاستثناء فلا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين ، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة. هـ.
243
(3/333)
وقال الجلال السيوطي ، في " البدور السافرة في أمور الآخرة " : اعلم أن للعلماء في هذا الاستثناء أقوالاً ، أشبهها بالصواب : أنه ليس باستثناء ، وإنما " إلا ". بمعنى " سوى " كما تقول : لي عليك ألف درهم إلا ألفان ، التي لي عليك ، أي : سوى الألفين ، والمعنى : خالدين فيها قدر مدة السماوات والأرض في الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها ، فلا منتهى له. وذلك عبارة عن الخلود. والنكتة في تقديم ذكر مدة السماوات والأرض : التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود أولاً. ثم أردفه بما لا إحاطة للدهر به ، والجري على عادة العرب في قولهم في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده : لا آتيك ما دامت السماوات والأرض. هـ. ومثله لابن عطية. قال : ويؤيده هذا التأويل قوله بعدُ : {عطاء غير مَجذُوذ} أي : غير مقطوع ، وهذا قول الفراء ، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع بسوى ، وسيبويه بلكن. هـ. وقال الورتجبي : قال ابن عطاء : {إلا ما شاء ربك} من الزوائد لأهل الجنة من الثواب. ومن الزوائد لأهل النار من العقاب. هـ. {إن ربك فعال لما يريد} من غير حجر ولا اعتراض.
{وأما الذين سُعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} كما تقدم. {عطاء غير مَجْذُوذٍ} : غير مقطوع ، وهو تصريح بأن الثواب غير مقطوع ، وتنبيه على أن المراد من الاستثناء تعليم الأدب فقط. والله تعالى أعلم.
الإشارة : السعادة على قسمين : سعادة الظاهر ، وسعادة الباطن. والشقاو ة كذلك. أما سعادة الظاهر ففي الدنيا بالراحة من التعب ، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب. وأما سعادة الباطن ففي الدنيا براحة القلب من كد الهموم والأحزان ، واليقين والاطمئنان ، في حضرة الشهود والعيان ، وفي الآخرة بدوام النظر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وشقاوة الظاهر باتصال الكد والتعب. وشقاوة الباطن بالبعد عن الله ، وافتراقه عن حضرة مولاه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 242
(3/334)
قال في نوادر الأصول : الشقاوة : فراق العبد من الله ، والسعادة اندساسه إليه. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير : والسعيد من أغنيته عن السؤال منك ، والشقي حقاً من حرمته مع كثرة السؤال لك.
قال شيخ شيوخنا ـ سيدي عبد الرحمن الفاسي ـ في حاشيته عليه : ومدار السعادة : الجمع على الله والغيبة عمن سواه ، فيفنى العبد عن وجوده ، ويبقى بربه ، فيشغله استغراقه في شهوده عن الشعور بغيريته ، وينمحي عنه أمل شيء يرجى ، أو خوف شيء يُتقى ، فليس له عن سوى الحق إخبار ، ولا مع غيره قرار. وعندما حل بهذه الحضرة ، وظفر بقُرة عينه ، وحياة روحه ، وسر حياته ، لا يتصور منه سُول ، ولا فوات مأمول ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك " ، " اشْتَاقَتْ الجَنَّةُ إِلى عَليِّ وعَمَّارٍ وسَلمَانَ
244
وصهيب وبلال " كما في الأثر. نعم ، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية ، وأداء الأمر وإظهار الفاقة ، لا على وجه الاقتضاء والسببية. " جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل ".
(3/335)
ثم قال : وعلى ما تقرر في السعادة ، فالشقاوة : احتجاب العبد بوجوده عن شهوده ، فلا يَنفَكُّ عن أمل ، ولا عن خوف عطب. فيستحثه الطبع للسؤال جلباً أو دفعاً. وهو في ذلك في شقاء ، سواء أعطى أو منع ؛ لفقده قرةَ عينه وراحة قلبه ، لأسْره في طبعه ، ومكابدة أمره وهلعه. كما قال تعالى : {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج : 19ـ 22] ، فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة ، وهم أهل الوجهة لله ، المواجَهين بعناية الله ، المتحققين بذكر الله. وقد وَرَدَ : " هُمُ القَوْم لاَ يَشْفَى جَلِيسُهُم " فضلاً عنهم. وعلى الجملة : فالمراد بالسعادة والشقاوة في كلامه ـ أي الشاذلي ـ الباطنة لا الظاهرة ، والقلبية لا القالبية. وإن كان قد تطلق على ذلك أيضاً ، لكن لكل مقام مقال. وقد قال تعالى : {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا} [طه : 123].
قال في نوادر الأصول : تَابعُ القرآن قد أجير من شقاء العيش في الدنيا ؛ لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها ، وسَيره في الأمور بقلبه في راحة ؛ لأنه منشرحُ الصدر واسعه ، وبدنه في راحة ؛ لأنه ميسر عليه أمور الدنيا ، تُهيأ له في يسر ؛ لضمان الله ، واكتنافه له. وكذا يجار في الآخرة من شقاء العيش في سجون النيران. أعاذنا الله من ذلك. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 242
(3/336)
يقول الحق جل جلاله : {فلا تك} يا محمد {في مرية}. في شك {مما يعبد هؤلاء} المشركون ، أي : لا تشك في فساد ما هم فيه ، بعد ما أنزل عليك من حال الناس ، وتبيين ما لأهل السعادة الموحدين ، مما لأهل الشقاء المشركين ، {ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبلُ} ، وهو تعليل للنهي ، أي : ما يعبدون عبادةً إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئاً إلا مثل ما عبد آباؤهم من الأوثان ؛ تقليداً من غير برهان ، وقد بلغك ما لحق آبائهم من العذاب فسيلحقهم مثل ذلك ؛ لاتفاقهم في سبب الهلاك. {وإنا لموفوهم نصيبهم} حظهم من العذاب ، كآبائهم ، {غير منقوص} من نصيبهم شيء. فالتوفية لا تقتضي التمام ، تقول : وفيته حقه ، وتريد وفاء بعضه. والله تعالى أعلم.
245
الإشارة : فلا تكن أيها العارف في مرية مما يعبد هؤلاء العوام ، من جمع الدنيا ، والتكاثر منها ، وصرف الهمة إلى تحصيلها ، واستعمال الفكر في أسباب جمعها ، وانهماك النفس في حظوظها وشهواتها. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ، ممن سلك هذا المسلك الذميم ، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص بانحطاط درجتهم عن درجة المقربين. قال بعض الحكماء : دار الدنيا كأحلام المنام ، وسرورها كظل الغمام ، وأحدثها كصوائب السهام ، وشهواتها : كمشرب الشمام ، وفتنتها كأمواج الطوام. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
قلت : {وإنَّ كلاًّ لما ليوفينهم} : إن : مخففة عاملة ، والتنوين في (كُلا) عوض عن المضاف. و " ما " : موصولة ، واللام : لام الابتداء ، و {ليوفينهم} : جواب لقسم محذوف ، وجملة القسم وجوابه : صلة " ما " ، أي : وإن كل الفريقين للذين ، والله ليوفينهم ربك أعمالهم. ومن قرأ : " لمَّا " ؛ بالتشديد ، فعلى أن (إن) نافية ، و " لما " بمعنى إلا ، وقيل : غير هذا.
(3/337)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد آتينا موسى الكتاب} : التوراة ، {فاختُلف فيه} ؛ فآمن به قوم وكفر به قوم ، كما اختلف هؤلاء في القرآن ، {ولولا كلمة سبقت من ربك} وهي : كلمة الإنظار إلى يوم القيامة ، {لقُضي بينهم} بإنزال ما يستحقه المبطل من الهلاك ، ونجاة المحق. {وإنهم} أي : قوم موسى ، أو كفار قومك ، {لفي شك منه} أي : التوراة ، أو من القرآن ، {مريب} : موقع في الريبة ، {وإنَّ كلاَّ} من الفريقين المختلفين ، المؤمنين والكافرين ، للذين {ليوفينهم ربك} جزاء أعمالهم ، ولا يهمل منه شيئاً ـ {إنه بما يعملون خبير} فلا يفوته شيء منه وإن خفي.
الإشارة : الاختلاف على الأنبياء والأولياء سنة ماضية. ولولا أن الله سبحانه حكم في سابق علمه أنه لا يفضح الضمائر إلا يوم تُبلى السرائر ، لفضح أسرار البطالين. وأظهر منار الذاكرين من السائرين أو الواصلين. لكنه سبحانه أخر ذلك بحكمته وحلمه ، إلى يوم الدين. والله تعالى أعلم.
246
جزء : 3 رقم الصفحة : 246
قلت : (ومن تاب) : عطف على فاعل (استقم) ؛ للفصل ، (فَتَمَسَّكُمُ) : جواب النهي. ويقال : ركن يركن : كعَلِم يعلم ، وركن يركن : كدخل يدخل ، و(ثم لا تنصرون) : مستأنف لا معطوف ، و(طرفي) : منصوب على الظرفية. و(زلفاً) ، كقربة ، أزلفه : قربة.
يقول الحق جل جلاله : {فاستقمْ} يا محمد {كما أُمرت} ، {و} ليستقم {من تابَ معك} من الكفر وآمن بك. وهي شاملة للاستقامة في العقائد ، كالتوسط بين التشبيه والتعطيل ، بحيث يبقى العقل مصوناً من الطرفين ، وفي الأعمال ؛ من تبليغ الوحي ، وبيان الشرائع كما أنزل ، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط ولا إفراط. وهي في غاية العسر. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " شَيَّبَتنِي هُود " قاله البيضاوي.
(3/338)
قال المحشي الفاسي : واللائق أن إشفاقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أجل أمته لا من أجل نفسه ؛ لأجل نفسه ؛ لأجل عصمته ، وإنما أشفق عليهم لتوعد اللعن لهم بقوله : {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف : 16]. هـ. قلت : ولا يعبد أن يكون أشفق ـ عليه الصلاة والسلام ـ من صعوبة استقامته التي تليق به ، فبقدر ما يعلو المقام يطلب بزيادة الأدب ، وبقدر ما يشتد القرب يتوجه العتاب. ولذلك كان الحق تعالى يعاتبه على ما لا يعاتب عليه غيره. وقد قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد تقدم كلام الإحياء في قوله : {أَلا بُعداً لِعَادٍ} [هود : 60].
ثم قال تعالى : {ولا تَطْغَوا} ؛ ولا تخرجوا عما حد لكم ، {إنه بما تعملون بصير} ، فيجازيكم على النقير والقطمير ، وهو تهديد لمن لم يستقم ، وتعليل للأمر والنهي. {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} : لا تميلوا إليهم أدنى ميل ؛ فإن الركون : هو الميل اليسير ، كالتزيي بزيهم ، وتعظيم ذكرهم ، وصحبتهم من غير تذكيرهم ووعظهم. {فتمسَّكم النارُ} ؛ لركونهم إليهم. قال الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عَالِم يَزورُ عَاملاً. هـ. وقال سفيان : في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. هـ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دَعَا لِظَالٍمٍ بالبَقَاءِ ـ أي بأن قال : بارك الله في عمرك ـ فَقَدْ
247
أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى الله في أرضهِ " وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية ، هل يسقى شربة ماء ؟ فقال : لا. فقيل له : يموت ؟ ! فقال : دعه يموت. هـ. وهذا إغراق ولعله في الكافر المحارب ، والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 247
(3/339)
قال البيضاوي : وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلماً موجباً للنار ، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم ، ثم الميل إليهم ، ثم بالظلم نفسه ، والانهماك فيه. ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه. وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها ؛ للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل ؛ فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط أو تفريط ، ظلم على نفسه أو غيره ، بل ظلم في نفسه. هـ.
{وما لكم من دون الله من أولياء} ؛ من أنصار يمنعون العذاب عنكم ، {ثم لا تُنصرون} : ثم لا ينصركم الله إن سبق في حكمه أنه يعذبكم.
ولمَّا كان الركون إلى الظلم ، أو إلى من تلبس به فتنة ، وهي تكفرها الصلاة ، كما في الحديث ، أمر بها أثره ، فقال : {وأقم الصَّلاةَ طرفي النهار} غدوة وعشية ، {وزلُفاً من الليل} ؛ ساعات منه قريبة من النهار. والمراد بالصلاة المأمور بها : الصلوات الخمس. فالطرف الأول : الصبح ، والطرف الثاني : الظهر والعصر ، والزلف من الليل : المغرب والعشاء ، {إن الحسنات يُذهبن السيئات} ؛ يكفر بها قال ابن عطية : لفظ الآية عام في الحسنات خاص في السيئات ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " ما اجتنَبت الكَبَائِرُ " ثم قال : وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الجُمُعَةُ إلى الجُمعَةِ كفَّارَة ، والصَّلوَاتُ الخَمسُ ، وَرَمَضانُ إِلى رَمَضانَ كفاره لِمَا بينَهُما ما اجتُنِبت الكبائر " انظر تمامه في الحاشية.
(3/340)
قال ابن جزي : رُوي أن رجلاً قََبّل امراة ، قلتُ : هو نبهان التمار ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وصلَّى معه الصلاة ، فنزلت الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أين السائل ؟ " فقال : ها أنا ذا ، فقال : " قدغَفَرَ اللَّهُ لَكَ بِصَلاتِكَ مَعَنا " فقال الرجل : أَلِيَ خاصَّةً ، أو للمسلمين عامة ؟ فقال : " للمسلمين عَامَّةً " والآية على هذا مدنية. وقيل : إن الآية كانت قبل ذلك ، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للرجل مستدلاً بها. والآية على هذا مكية كسائر السورة ، وإنما تُذهب الحسناتُ ـ عند الجمهورـ الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. هـ. قلت : وقيل : تكفر مطلقاً ؛ اجتُنِبَت الكبائر أم لا ، وهو الظاهر ، لأنه إذا حصل اجتناب الكبائر كفرت بلا سبب ؛ لقوله
248
تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ...} [النساء : 31] الآية. وقوله عليه الصلاة والسلام : " ما اجتنبت الكبائر " معناه : أن الصلوات والجمعة مكفرة لما عدا الكبائر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 247
والحاصل : أن من اجتنب الكبائر كفرت عنه الصغائر بلا سبب ؛ لنص الآية. ومن ارتكب الكبائر والصغائر وصلى ، كفرت الصغائر دون الكبائر ، وبهذا تتفق الآية مع الحديث. والله تعالى أعلم.
قال ابن عطية في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىا...} [التوبة : 111] الآية : الشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد. وقد روي : " أن الله يتحمل عن الشهيد مظالم العباد ، ويجازيهم عنه ". ختم الله لنا بالحسنى. انتهى.
{ذلك} أي : ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد ، وأمر الاستقامة ، أو القرآن كله ، {ذكرى للذاكرين} : عظة للمتقين. وخص الذاكرين ، لمزيد انتفاعهم بالوعظ ، لصقالة قلوبهم. وفي الخبر : " لكل شيء مصقلة ، ومصقلة القلوب ذكر الله ". {واصبرْ} على مشاق الاستقامة ، ودوامها {فإن الله لا يُضيع أجرَ المحسنين} وهم : أهل الاستقامة ظاهراً وباطناً.
(3/341)
الإشارة : الاستقامة على ثلاثة أقسام : استقامة الجوارح ، واستقامة القلوب ، واستقامة الأرواح والأسرار. أما استقامة الجوارح فتحصل بكمال التقوى ، وتحقيق المتابعة للسنة المحمدية. وأما استقامة القلوب فتحصل بتطهيرها من سائر العيوب ، كالكبر والعجب ، والرياء ، والسمعة ، والحقد والحسد ، وحب الجاه والمال ، وما يتفرع عن ذلك من العداوة والبغضاء ، وترك الثقة بمجيء الرزق ، وخوف سقوط المنزلة ، من قلوب الخلق ، والشح والبخل ، وطول الأمل ، والأشر والبطر ، والغل والمباهاة ، والتصنع والمداهنة ، والقسوة والفظاظة والغلظة ، والغفلة ، والجفاء ، والطيش ، والعجلة ، والحمية ، وضيق الصدر ، وقلة الرحمة. إلى غير ذلك من أنواع الرذائل.
فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات : كالتواضع لله ، والخشوع بين يديه ، والتعظيم لأمره ، والحفظ لحدوده ، والتذلل لربوبيته ، والإخلاص في عبوديته ، والرضى بقضائه ، ورؤية المنة له في منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة ، واللين والرفق ، وسعة الصدر والحِلم ، والاحتمال والصيانة ، والنزاهة والأمانة ، والثقة والتأني ، والوقار ، والسخاء والجود ، والحياء ، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.
وأما استقامة الأرواح والأسرار ، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى ، وعدم الالتفات إلى غيره حالاً كان أو مقاماً أو كرامة ، أو غير ذلك : كما قال الششتري رضي الله عنه :
249
فلا تلْتَفِت في السَّير غيراً ، وكلُّ ما
سوى الله غيرٌ ، فاتخذ ذِكرَه حِصنا
جزء : 3 رقم الصفحة : 247
وكلُّ مقامٍ لا تُقمْ فيهِ إنّه
حجابٌ ، فجد السَّير واستَنجد العونا
ومهما ترى كلًّ المراتِبِ تجْتَلِي
عليكَ فحلْ عنها ، فعَن مثلها حُلنا
وقُلْ : ليس لي في غَير ذاتِكَ مَطلبٌ
فلا صورةُ تُجلى ولا طُرفة تُجنا
(3/342)
وقوله تعالى : {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} : هو نهي عن صحبة الغافلين والميل إليهم. قال بعض الصوفية : قلب لبعض الأبدال : كيف الطريق إلى التحقيق ، والوصول إلى الحق ؟ قال : لا تنظر إلى الخلق ؛ فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لي ، قال : لا تسمع كلامهم ؛ فإن كلامهم قسوة : قلت : لا بد لي ، قال : لا تعاملهم ؛ لأن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة ، قلت : أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم ؟ قال : لا تسكن إليهم ؛ فإن السكون إليهم هلكة. قلت : هذا لعله يكون ؟ قال : يا هذا ، أتنظر إلى اللاعبين ، وتسمع كلام الجاهلين ، وتعامل البطالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة ، وقلبك مع غير الله عز وجل!! هيهات! هذا ما لا يكون أبداً. هـ. ونقل الورتجبي عن جعفر الصادق : ولا تركنوا إلى نفوسكم فإنها ظلمَة. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 247
قلت : (لولا) : تحضيضة ، ويقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف ، كقوله : {ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} و " إلا قليلاً " منقطع ، ولا يصح اتصاله ، إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. أي : ما كان في القرون الماضية أولو بقية إلا قليل. يقال : فلان من بقية القوم ، أي : خيارهم ، وإنما قيل فيه " بقية " ؛ لأن الشرائع والدول تقوى أولاً ثم تضعف. فمن ثبت في وقت الضعف على ما كان في أوله ، فهو بقية الصدر الأول. قاله ابن عطية. وقوله : " بظلم " : حال من " ربك " ؛ أي : ما كان ربك ليهلك القرى ظالماً لهم ، أو متعلق بيُهلك.
(3/343)
يقول الحق جل جلاله : {فلولا} فهلا {كان من القرون من قبلكم} ؛ كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكرهم ، {اُولوا بقية} من الرأي ، والعقل يُنكرون عليهم ، أي : فهلا وجد فيهم من فيه بقية من العقل والحزم والثبوت ، {ينهون عن الفساد في الأرض} ، لكن قليلاً ممن أنجينا منهم كانوا كذلك ، فأنكروا على أهل الفساد ، واعتزلوهم في دينهم ؛ فأنجيناهم. وفي هذا تحريض على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف ، وأنه سبب النجاة
250
في الدارين. {واتَّبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه} : ما أنعموا فيه من الشهوات ، واهتموا بتحصيل أسبابها ، وأعرضوا عما وراء ذلك ، {وكانوا مجرمين} كافرين. قال البيضاوي : كأنه أراد أن يُبين ما كان السبب لاستئصال الأمم الماضية : وهو : فشو الظلم فيهم ، واتباع الهوى ، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر. هـ.
{وما كان ربك ليُهلك القرى بظلم} أي : متلبساً بظلم ، {وأهلُها مصلحون} ، فيعذبهم بلا جرم ، أي : ما كان ليعذبهم ظالماً لهم بلا سبب. أو ما كان ليهلك القرى بشرك وأهلها مصلحون فيما بينهم ، لا يضمون إلى شركهم فساداً وبغياً ، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه. ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ ، عند تزاحم الحقوق ، وحقوقَ العباد ، وقال بعضهم : [الذنوب ثلاثة : ذنب لا يغفره الله ، وهو الشرك ، وذنب لا يعبأ الله به ، وهو ما كان بينه وبين عباده ، وذنب لا يتركه الله ، وهو حقوق عباده]. وقالوا : قد يبقى المُلك مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 250
(3/344)
الإشارة : أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض هم : أهل النور المخزون المستودع في قلوبهم من نور الحق ، إذا قابلوا منكراً دمغوه بالحال أو المقال ، وإذا قالوا فساداً أصلحوه ، وإذا قالوا فتنة أطفؤوها. وإذا قابوا بدعة أخمدوها ، واجهوا ضالاً أرشده ، أو غافلاً ذكروه ، أو طالباً للوصول وصلوه ، يمشون في الأرض بالنصيحة ، لا يخافون في الله لومة لائم. أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأُقسمن لكم : إنَّ أحَبَّ عباد اللَّهِ إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده ، ويحببون عباد الله إلى الله ، ويمشون في الأرض بالنصيحة " أما كونهم يحببون الله إلى عباده ، فلأنهم يَذكرون لهم آلاءه وإحسانه وبره. والنفسُ تحب بالطبع من أحسن إليها. وأما كونهم يحببون عباد الله إلى الله ؛ فلأنهم يردونهم عن غيهم وحظوظهم ، التي تبعدهم عن ربهم. فإذا رجعوا إليه أحبهم.
وسئل ذو النون المصري رضي الله عنه عن وصف الأبدال ، فقال : سألتَ عن دياجي الظلام ؛ لأَكشفُ لك عنهم ، وهم قوم ذكروا الله بقلوبهم ، تعظيماً لربهم ؛ لمعرفتهم بجلاله ، فهم حجج الله تعالى على خلقه ، ألبسهم الله ـ تعالى ـ النور الساطع من محبته ، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته ، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته ، وأفرغ عليهم من مخافته ، وطهَّر أبدانهم بمراقبته ، وطيبهم بطيب أهل معاملته ، وكساهم حُللاً من نسج مودته ، ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته ، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب ، فهي متعلقة بمواصلته ، فهممهم إليه ثائرة ، وأعينهم بالغيب ناظرة ، قد أقامهم على باب النظر من رؤية ، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته ، ثم قال لهم : إن أتاكم عليلٌ مَنْ فقدي فداووه ، أو مريض من فراقي فعالجوه ، أو خائف مني فانصروه ، أو من آمن مني
251
(3/345)
فحذِّروه ، أو راغب في مواصلتي فمنُّوه ، أو راحل نحوي فزودوه ، أو جبان في متاجرتي فشجعوه ، أو آيسٌ من فضلي فرجّوه ، أو راج لإحساني فبشروه ، أو حسن الظن بي فباسطوه ، أو محب لي فواصلوه ، أو معظم لقدرتي فعظموه ، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه ، أو مسترشد فأرشدوه. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 250
قلت : الاستثناء من ضمير " يزالون ".
يقول الحق جل جلاله : {ولو شاء ربك لجعل الناسَ أمةً واحدة} ، متفقين على الإيمان أو الكفران ، لكن مقتضى الحكمة وجود الاختلاف ؛ ليظهر مقتضيات الأسماء في عالم الشهادة ؛ فاسمه : الرحيم يقتضي وجود من يستحق الكرم والرحمة ، وهم : أهل الإيمان. واسمه : المنتقم والقهار يقتضي وجود من يستحق الاتنقام والقهرية ، وهم أهل الكفر والعصيان. قال البيضاوي : وفيه دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة ، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد ، وأن ما أراد يجب وقوعه. هـ.
{ولا يزالون مختلفين} ؛ بعضهم على الحق ، وهم أهل الرحمة والكرم ؛ وبعضهم على الباطل ، وهم أهل القهرية والانتقام. أو مختلفين في الأديان والملل والمذاهب ، {إلا من رَّحِمَ ربك} ؛ إلا ناساً هداهم الله من فضله ، فاتفقوا على ما هو أصل الدين والعمدة فيه ، كالتوحيد والإيمان بجميع الرسل وبما جاؤوا به ، وهم المؤمنون.
وقوله : {ولذلك خلقهم} ؛ إن كان الضمير للناس ، فالإشارة إلى الاختلاف ، واللام للعاقبة ، أي : ولتكون عاقبتهم الاختلاف خلقهم ، وإن كان الضمير يعود على " من " ، فالإشارة إلى الرحمة ، أي : إلا من رحم ربك وللرحمة خلقه. {وتمت كلمة ربك} الأزلية على ما سبق له الشقاء ، أي : نفذ قضاؤه ووعيده في أهل الشقاء ، أو هي قوله للملائكة : {لأَملأَنِّ جهنم من الجَنَّة والناس أجمعين} ؛ أي من أهل العصيان منهما ، لا من جميعهما.
(3/346)
الإشارة : الاختلاف بين الناس حكم أزلي ، لا محيدَ عنه. وقد وقع بين أهل الحق وبين أهل الباطل. فقد اختلف هذه الأمة في الأصول والفروع. أما الأصول فأهل توحيد الدليل وقع بينهم تخالف في صفات الحق ، كالمعتزلة والقدرية والجهمية والجبرية مع أهل السنة. وأما الفروع فالاختلاف بينهم شهير. فقد كان في أول الإسلام اثنا عشر مذهباً. ولا تجد علماً من علوم إلا وبين أهله اختلاف ، إلا أهل التوحيد الخاص ، وهم :
252
المحققون من الصوفية ، فكلهم متفقون في الأذواق والوجدان ، وإن اختلفت طرقهم ، وكيفية سيرهم. فهم متفقون في النهايات ، التي هي معرفة الشهود والعيان ، على طريق الذوق والوجدان ، وفي ذلك يقول ابن البنا ـ رحمه الله ـ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 252
مَذاهبُ الناس على اختلاف
ومذاهب القوم على ائتلاف
وأما قول من قال : [ما زالت الصوفية بخير ما اختلفوا ، فإذا اتفقوا فلا خير فيهم] ، فالمراد بالاختلاف : تغيير بعضهم على بعض ، عند ظهور نقص أو عيب أو ذنب. فإذا اتفقوا وسكت بعضهم عن بعض فلا خير فيهم. وقوله عليه الصلاة والسلام : " خلاف أمتي رحمة " المراد : الاختلاف في الفروع كاختلاف المذاهب ؛ ففي ذلك رخصة لأهل الاضطرار ؛ لأن من قلد عالماً لقي الله سالماً. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 252
قلت : " وكُلاً " مفعول " نقص " ، و " ما نثبت به " : بدل ، أو " ما " مفعول " نَقُصُّ " ، و " كلا " : مصدر. أي : ونقص.
علك كُلاً من الاقتصاص ما نثبت به فؤادك.
(3/347)
يقول الحق جل جلاله : وكل نبأ {نقص عليك} من أخبار الرسل ، ونخبرك به {ما نثبت به فؤادك} ، ليزيدك يقيناُ وطمأنينة ، وثباتاً بما تسمع من أخبارهم ، وما جرى لهم مع قومهم ، وما لقوا من الأذى منهم ، فتتسلى بهم ، وتثبت على أداء الرسالة ، واحتمال أذى الكفار. {وجاءك في هذه} السورة ، أو الأنباء المقتصة عليك ، {الحق} أي : ما هو حق ، {وموعظة وذكرى للمؤمنين} فيتحملون ، ويصبرون لما يواجههم من الأذى والإنكار.
الإشارة : ذكر أحوال الصالحين ، وسيرهم وكراماتهم ؛ جند من جنود القلب ، وذكر أشعارهم ومواجيدهم جند من جنود الروح ، وقد ورد : أن عند ذكرهم تنزل الرحمة ، أي : رحمة القلوب باليقين والطمأنينة. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 252
253
يقول الحق جل جلاله : {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم} : حالهم ، {إنا عاملون} على حالنا ، {وانتظروا} وقوع ما نزل بمن قبلكم ممن خالف رسوله ؛ فإنه نازل بكم ، {إنا منتظرون} ما وعدنا ربنا من النصر والعز.
{ولله غيبُ السموات والأرض} لا يعلمه غيره ؛ فلا يعلم غيب العواقب ، ووقت وقوع المواعد إلا هو. {وإليه يُرجع الأمرُ كلُّه} فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه ، {فاعبدوه وتوكل عليه} ؛ فإنه كافيك أمرهم وأمر غيرهم. وفي تقديم العبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع التوكل العابد دون البطال. {وما ربك بغافل عما تعملون} أنت وهم ، فيجازي كلاّ ما يستحقه. أو عما يعمل الكافرون ، فيمهلهم ولا يهملهم.
(3/348)
الإشارة : {فاعبده وتوكل عليه} : يقول تعالى : يا عبدي ؛ قُم بخدمتي أقم لك بقسمتي ، قف ببابي وانتسب لجنابي ؛ أكفك شؤونك ، وتكن من أحبابي. أأدعوك لداري ، وأمنعك من وجودي إبراري ، أأكلفك بخدمتي ، ولا أقوم لك بقسمتي ، فثق بي كفيلاً ، واتخذني ، وكيلاً ، أعطك عطاء جزيلاً ، وأمنحك فخراً جليلاً. قال القشيري : ويقال : إن التوكل : سكون القلب بضمان الربِّ. ويقال : سكون الجأش في طلب المعاش ، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه ، أو الا كتفاء بالوعد عند فقد النقد. وسيأتي تمامه في سورة الفرقان ، إن شاء الله. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.
254
جزء : 3 رقم الصفحة : 253(3/349)
سورة يوسف
جزء : 3 رقم الصفحة : 254
قلت : (قرآناً) : حال ، و(عربياً) : نعت له ، و(لعلكم) : يتعلق بأنزلناه أو بعربياً. و(أحسن) : مفعول (نَقُصُّ) ، و(بما أوحينا) : مصدرية ، ويجوز أن يكون (هذا القرآن) : مفعول (نَقُصُّ) ، و(أحسن القصص) : مصدر.
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المجتبى ، والمحبوب المنتقى {تلك} الآيات التي تُتلى عليك هي {آيات الكتاب} المنزل عليك من حضرة قدسنا ، {المبين} أي : الظاهر صدقه ، الشهير شأنه. أو الظاهر أمره في الإعجاز والبلاغة ، الواضح معانيه في الفصاحة ، والبراعة. أو المبين للأحكام الظاهرة والباطنة. أو البَينُ لمن تدبره أنه من عند الله. أو المبين لمن سأل تَعنُّتاً من أحبار اليهود سؤالهم ؛ إذ رُوي أنهم قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمداً : لِمَ انتقلَ يعقوب من الشام ؟ وعن قصة يوسف. فنزلت السورة.
{إنا أنزلناه} أي : الكتاب ، {قرآناً} أي : مقروءاً ، أو مجموعاً ، {عربياً} بلغة العرب ، {لعلكم تعقلون} أي : أنزلناه بلغتكم كي تفهموه وتستعملوا عقولكم في معانيه ؛ فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص ، ولم يخالط من يعلم ذلك ، معجز ؛ إذ لا يتصور إلا بالإيحاء.
{نحن نقصُّ عليك أحسن القَصَص} ؛ أحسن الاقتصاص ؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب ، أو أحسن ما يُقص ؛ لاشتماله على العجائب والحِكَمٍ والآيات والعِبَر ، {بما
255
أوحينا إليك هذا القرآن} مشتملاً على هذه السورة التي فيها قصة يوسف ، التي هي من أبدع القصص ، {وإن كنتَ من قبله لَمِنَ الغافلين} عن هذه القصة ، لم تخطر ببالك ، ولم تقرع سمعك. قال البيضاوي : وهو تعليل لكونه موحى ، و " إنْ " هذه : مخففة واللام هي الفارقة. هـ.
الإشارة : ما نزل القرآن بلسان عربي مبين إلا لنعقل عظمة ربنا ونعرفه ، وذلك لا يكون إلا بعد استعمال العقول الصافية ، والأفكار المنورة ، في الغوص على درر معانيه. فحينئذٍ تطلع على أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وعلى أنوار الصفات ، وأسرار الذات ، وعلى توحيد الأفعال وتوحيد الصفات ، وتوحيد الذات. وقال تعالى : {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام : 38] ، لكن لا يحيط بهذا إلا أهل التجريد ، الذين صفت عقولهم من الأكدار ، وتطهرت من الأغيار ، وملئت بالمعارف والأسرار. قال تعالى : {لِّيَدَّبَّرُوااْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ} [ص : 29]. وهم : أهل العقول الصافية المتفرغة من شواغل الحس. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 255(3/350)
قلت : (إذ قال) : معمول لاذكر ، أو بدل من (أحسن القصص) ؛ إن جعل مفعولاً ، بدل اشتمال ، و(يا أبت) : أصله : يا أبي ، عوض من الياء تاء التأنيث ؛ لتناسبهما في الزيادة ، ولذلك قلبت في الوقف هاء ، في قراءة ابن كثير وأبي عمر ويعقوب. وإنما أعاد العامل في " رأيتهم " ؛ لطول الكلام ، وجمع الشمس والقمر والكواكب جمع العقلاء ؛ لوصفهم بصفاتهم.
يقول الحق جل جلاله : {إذ قال يوسفُ لأَبيهِ} يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم : {يا أبتِ إني رأيتُ} في النوم {أحداً عَشَر كوكباً والشمسَ والقَمَرَ رأيتُهم لي ساجدين}. وقد ذكر البيضاوي حديثاً في تفسير هذه الكواكب فانظره. قيل : إن يوسف عليه السلام كان نائماً في حجر أبيه ، فنظر فيه ، وقال في نفسه : أترى هذا الوجه أحسن ام الشمس أم القمر ؟ فإذا بيوسف قد انتبه من نومه ، وقال : {يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً...} الخ ، فلما قص الرؤيا على أبيه بكى ، فقال يوسف : لم تبكي يا أبتي ؟ قال : يا بني لم
256
يسجد مخلوق لمخلوق إلا عند المحنة ، والبلاء ، ألا ترى الملائكة لما أسجدهم الله لآدم ، كيف ابتلي بالخروج من الجنة ؟ ثم قال له : يا بني ، الشمس والقمر أنا وخالتك ـ وكانت أمه قد ماتت ـ والإحدى عشر كوكباً إخوتك. هـ.
{قال يا بنيَّ} ، وهو تصغير ابن صغر للشفقة أو لصغر السن ، وكان ابن ثنتي عشرة سنة ، {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً} ؛ فيحتالوا لإهلاكك حيلة. فَهِمَ يعقوبُ عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته ، ويفوقه على إخوته ، فخاف عليه حسدهم. ومن خاف من شيء سلط عليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 256
(3/351)
والرؤيا تختص بالنوم ، والرؤية ، بالتاء بالبصر. قال البيضاوي : وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، المصادفة منها إنما يكون باتصال النفس بالملكوت ؛ لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ. انظر تمامه فيه. وأخرج الحاكم في المستدرك ، والطبراني في الأوسط ، عن ابن عمر قال : لقي عمر عليَّاً ـ رضي الله عنهما ـ فقال : يا أبا الحسن ، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ، ومنها ما يكذب ، قال : نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلي نوماً إلا عرج بروحه إلى السماء. فالتي لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدقُ ، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذبُ " هـ. فمنها ما تكون واضحة المعنى لا تحتاج إلى تعبير ، ومنها ما تكون خفية تحتاج إلى تعبير. والمعبر يحتاج إلى علم وفراسة وزيادة إلهام ، فعلم التعبير علم مستقل ، وقد أعطى الله منه ليوسف عليه السلام حظاً وافراً. ولما قال يعقوب لابنه : {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً} قال : يا أبت ، الأنبياء لا يكيدون ، قال له : {إن الشيطان للإنسان عدو مبين} ؛ ظاهر العداوة ؛ لأجل ما فعل بآدم وحواء ، فلا يألوا جهداً في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم ، حتى يحملهم على الكيد. قيل : لم يسمع كلام يوسف في رؤياه إلا خالته ـ أم شمعون ـ فقالت لإخوته : التعب عليكم ، والإقبال على يوسف. فحركهم ذلك حتى فعلوا ما فعلوا. وقيل : أخبرت بذلك ولدها شمعون ، فأخبر شمعون إخوته ، فخلوا به وقالوا له : إنك لم تكذب قط. فأخبرنا بما رأيت في نومك ، فأبى ، فأقسموا عليه ، فأخبرهم. فوقعوا فيما فعلوا به.
(3/352)
ثم قال له : {وكذلك} أي : وكما اجتَباك لهذه الرؤية الدالة على شرف وعز وكمال نفس ، {يجتبيك ربُّك} للنبوة والملك ، أو لأمور عظام ، {ويُعلِّمك} أي : هو يعلمك {من تأويل الأحاديث} ؛ من تعبير الرؤيا ؛ لأنها أحاديث المَلك إن كانت صادقة ، وأحاديث الشيطان إن كانت كاذبة. أو يعلمك من تأويل غوامض علوم كتب الله ، وسنن الأبياء وحكم الحكماء. {ويُتمُّ نعمتَه عليك} بالنبوة ، أو بأن يجمع لك بين نعمة الدنيا ،
257
ونعمة الآخرة ، {وعلى آل يعقوب} يريد : سائر بنيه. ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب ، {كما أتمها على أبويك من قبلُ} ؛ من قبلك ، أو من قبل هذا الوقت. فأتمها على إبراهيم بالرسالة والخلة والإنجاء من النار ، وإسحاق بالرسالة والإنقاذ من الذبح ، وهم : {إبراهيمَ وإسحاقَ} ، فهما عطف بيان لأبويك {إن ربك عليمٌ} بمن يستحق الاجتباء ، {حكيم} لا يخلو فعله من حكمة ، نعمة كانت أو نقمة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 256
الإشارة : البداية مجلاة النهاية ، يوسف عليه السلام نزلت له أعلام النهاية في أول البداية. وكذلك كل من سبق له شيء من العناية ، لا بد تظهر أعلامه في أول البداية ؛ " من أشرقت بدايته أشرقت نهايته ". من كانت بالله بدايته كانت إليه نهايته.
وأوصاف النهاية تأتي على ضد أوصاف البداية ؛ فكمال العز في النهاية لا يأتي إلا بعد كمال الذل في البداية. وتأمل قول الشاعر :
تَذَلَّلَ لِمَنْ تَهوَى لِتَكسِبَ عِزَّةً
فَكَم عِزَّةٍ قَدْ نَالَها المرْء بِالذُّلِّ
(3/353)
وتأمل قضية سيدنا يوسف عليه السلام ؛ ما نال العز والملك حتى تحقق بالذل ، والملك وكمال الغنى في النهاية لا يأتي إلا بعد كمال الفقر في البداية ، وكمال العلم لا يأتي إلا بعد إظهار كمال الجهل ، وكمال القوة لا يأتي إلا بعد كمال الضعف.. وهكذا جعل الله تعالى بحكمته الأشياء كامنة في أضدادها ؛ " تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه ". فالاجتباء يكون بعد الابتلاء ، وإتمام النعم يكون بعد تقديم النقم ، وذلك لتكون أحلى وأشهى ، فيعرف قدرها ويتحقق منه شكرها ، وهذا السر في تقديم أهوال يوم القيامة على دخول الجنة ؛ ليقع نعيمها في النفس كل موقع. ولا فرق بين جنة الزخارف ، وجنة المعارف. (حُفت الجنة بالمكاره ، وحُفت النار بالشهوات). والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 256
قلت : (يوسف) : عجمي ، وفي سينه ثلاث لغات : الضم ـ وهو الأشهر ـ والفتح ، والكسر.
يقول الحق جل جلاله : {لقد كان في يوسف وإخوته} أي : في قصصهم {آيات} ؛ دلائل قدرة الله وحكمته ، وعلامة نبوتك حيث أخبرتَ بها من غير تعلم. ففي ذلك آيات {للسائلين} أي : لمن سأل عن قصتهم. والمراد بإخوته : علاته العشرة ، والعلات : أبناء أمهات لأب واحد ، فكانوا إخوته لأبيه ، وهم : يهوذا ، ورَوْبيل ، وشمعون ، ولاوي ، وريالون ، ويشجر ، ودينة من بنت خالته ليّا ، تزوجها يعقوب أولاً ، فلما توفيت تزوج
258
راحيل ، فولدت له بنيامين ، ويوسف. وقيل : جمع بينهما ، ولم يكن الجمع حينئذٍ محرماً. وأربعة آخرون من سُريتَيْن ، وهم : دان ، وتفثالى ، وجاد ، وآشر.
(3/354)
{إذ قالوا ليُوسفُ وأخوه} بنيامين ، وخُص بالإضافة ؛ لأنه شقيقه ، {أحبُّ إلى أبينا منا ونحنُ عصبةٌ} أي : والحال أنا جماعة أقوياء ، فنحن أحق بالمحبة ؛ لأنهما لا كفاءة فيهما. والعصبة : العشرة ففوق : {إن أبانا لفي ضلالٍ} ؛ خطأ {مبين} ؛ ظاهر ؛ لتفضيل المفضول. رُوي أنه كان أحب إليه ؛ لما كان يرى فيه من مخايل الخير ، وكان إخوته يحسدونه ، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة ، بحيث لم يصبر عنه ، فتناهى حسدهم حتى حملهم على التعرض لقلته. وهكذا شأن الحسد يبلغ بصاحبه امراً عظيماً.
الإشارة : كان يعقوب عليه السلام لا يفارق يوسف ليلاً ولا نهاراً. وهكذا شأن المحبين. وأنشدوا :
وَلِي كَبِدٌ يَسرِي إِليهِم سَلاَمه
بَجَمر تَلَظَّى ، والفؤادُ ضِرامُه
وأجفَانُ عَين لا تَمَل من البُكَا
وصَبٌّ تَشَكِّى للحبيب غَرَامُه
فأنتُم سُروري ، أنتُم غَايةُ المنى
وقَلبي إِليكم والغرامُ زِمامُه
فَوَالله ما أَحبَبتُ ما عِشتُ غَيرَكم
لأن اشتياقي لا يحل اكتتامه. هـ.
قال الجنيد رضي الله عنه : رأيت غلاماً حسن الوجه يعنف كهلاً حسناً ، فقلت : يا غلام ، لِمَ تفعل هذا ؟ قال : لأنه يدعي أنه يهواني ، ومنذ ثلاث ما رآني ، قال : فوقعت مغشياً علي ، فلما أفقتُ ما قدرت على النهوض ، فقيل لي في ذلك ، فقلت : ينبغي للمحب ألا يفارق باب محبوبه على أي حال. وأنشدوا :
جزء : 3 رقم الصفحة : 258
لاَزم البابَ إن عَشِقتَ الجَمَالا
واهجُر النَّوم إنْ أردت الوِصَالا
واجعل الروحَ منك أَوَّل نَقدٍ
لحبيبٍ أَنوارُه تَتَلالا
قلت : فالحبيب غيور ؛ لا يحب أن يرى في قلب حبيبه غيره. فإذا رأى فيه شيئاً أخرجه منه ، وفرق بينه وبينه ؛ غيرةً منه واعتناء به ، وهو السر في افتراق يوسف من أبيه. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 258
يقول الحق جل جلاله : قال إخوة يوسف لما حركهم الحسد {اقتلوا يوسف} ؛
259
(3/355)
قيل : إنما قاله شمعون ودان ، ورضي به الآخرون ، {أو اطرَحُوهُ أرضاً} ؛ أي : في أرض بعيدة يأكله السباع ، أو يلتقطه أحد ، فإن فعلتم {يَخلُ لكم وجهُ أبيكم} أي : يصفْ إليكم وجه أبيكم ؛ فليقبل بكليته عليكم ، ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ، ولا ينازعكم في محبته أحد ، {ولا تكونوا من بعده} ؛ من بعد يوسف ، أو الفراغ من أمره ، أو قتله ، أو طرحه ، {قوماً صالحين} تائبين إلى الله عما جنيتم ، مع محبة أبيكم. أو صالحين في أمور دنياكم ، فإنها تنتظم لكم بخلو وجه أبيكم لكم ، {قال قائل منهم} هو يهوذا ، وكان أحسنهم فيه رأياً ، وقيل : روبيل : {لا تقتلوا يوسف} ؛ فإن القتل عظيم ، {وألقُوه في غيابه الجُبِّ} : في قعره ، سمي به لغيبته عن أعين الناظرين. ومن قرأ بالجمع ، فكان بتلك الجب غيابات ، {يلتقطْه} : يأخذه {بعضُ السيارة} أي : الذين يسيرون في الأرض ، {إن كنتم فاعلين} ما يفرق بينه وبين أبيه ولا بد ، أو كنتم فاعلين بمشورتي.
الإشارة : إن أردت أن يخلو لك وجه قلبك فيخلو لك وجه حبيبك ، حتى تشاهده عياناً وتعرفه إيقاناً ، فاقتل كل ما يميل إليه قلبك ويعشقه من الهوى ، واطرح عن عين بصيرتك رؤية السِّوى ، ترى من أنوار وجهه ، وأسرار محاسنه ، ما تبتهج به القلوب والأسرار ، وتتنزه في رياض محاسنه البصائر والأبصار ، وأنشدوا :
إِنْ تَلاَشَى الكَون عَنْ عَينِ كَشفِي
شَاهَدَ القلبُ غَيبَهُ في بَيَان
فَاطرحِ الكَون عن عِيَانِكَ وامْحُ
نُقطَةَ الغَينِ إِن أَرَدتَ تَرَانِي
جزء : 3 رقم الصفحة : 259
قلت : (تأمننا) : اجتمع نونان ، فيجوز الإدغام ، وبه قرأ أبو جعفر ، وقرأ الجماعة بالإشمام. وقوله : (يرتع ويلعب) : جواب الأمر ، فمن قرأ بكسر العين فجزمه بحذف الياء ، وهو من رعي الإبل ، ومن قرأ بالإسكان فهو من الرتع ، وهي الإقامة في الخصب
260
(3/356)
والنعم ، والتاء على هذا أصلية. ووزن الفعل : يفعل ، ووزنه على الأول يفتعل ، قال ابن عطية : فيرتع على قراءة نافع من رعي الإبل ، أي : يتدرب في رعي الإبل وحفظ المال. قال أبو علي : وقراءة ابن كثير : (نرتع) بالنون (ويلعب) بالياء ، فنزعها حسن ؛ لإسناد النظر في المال والرعاية إليهم ، واللعب إلى يوسف لصباه ، وقرأ أبو عمر وابن عامر : (نرتع ونلعب) ؛ بالنون فيهما ، وإسكان العين والباء ، من الرتوع ، وهو الإقامة في الخصب والمرعي في أكل وشرب ، وقرأ عاصم والأخَوان : (يرتع ويلعب) بإسناد ذلك كله إلى يوسف. هـ. قلت : وكذا قرأ نافع ، غير أنه يكسر العين وهم يسكنون.
(ونحن عصبة) : حال ، والرابط الواو ، والعصبة : الجماعة من العشرة إلى فوق.
يقول الحق جل جلاله : قال إخوة يوسف لأبيهم : {يا أبانا مَا لَك لا تأمنّا على يوسف} أي : لم تخافنا عليه ؟ {وإنا له لناصحون} نشفق عليه ، ونريد له الخير. أرادوا أن يستنزلوه عن رأيه في حفظه منهم لما تنسم من حسدهم. قلت : قد نصحوه في الحقيقة حيث تسببوا في ملكه وعزه. رُوي أنهم لما قالوا له : (مالك...) الخ ، اهتزت أركانه ، واصفر لونه ، واصطكت أسنانه ، وتحركت جوانبه ، كأنه علم بما في قلوبهم بالفراسة. ثم قالوا : {أرسِله معنا غداً يرتع} : يتسع في أكل الفواكه ونحوها. أو يتعلم الرعاية ، {ويلعبُ} بالاستباق والانتضال ، {وإنا له لحافظون} أن يناله مكروه
{قال} يعقوب : {إني ليحزنني أن تذهبوا به} لشدة مفارقته عليَّ ، وقلة صبري عنه ، {وأخافُ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافِلُون} : لاشتغالكم بالرتع واللعب ، أو لقلة اهتمامكم به ، وإنما خاف عليه من الذيب ، لأن الأرض كانت مذأبة ، وقيل : رأى في المنام أن الذئاب أحدقت بيوسف ، فكان يخافه ، وإنما كان تأويلها : إحداق إخوته به حين أرادوا قتله. {قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة} : جماعة ، {إنا إذا لخاسرون} : مغبرنون من القوة والحزم ، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسارة.
(3/357)
جزء : 3 رقم الصفحة : 260
الإشارة : لم يسمح يعقوب عليه السلام بفراق حبيبه ساعة ، وكذلك العبد لا ينبغي أن يغفل عن سيده لحظة ؛ لأن الغفلة فراق ، والذكر انجماع ، والعبد لا صبر له عن سيده. وأنشدوا :
فلأَبكيَن على الفراق كما بكى
سفا لفُرقةِ يوسفٍ يعقوبُ
وَلأَدعُوَنَّكَ في الظلام كما دعا
عند البلية رَبّةُ أيوبُ
وأنشدوا أيضاً في ذم الغفلة :
غَفَلتَ عَنِ الأَيَّامِ يا أَخي فَانتَبِهْ
وَشَمِّرْ فإن الموتَ لا شك واقعْ
على أي شيءٍ هو حزنك قائم
جنود المنايا تأتيك فانهض وسارعْ
قيل : إن بعض الصالحين رأى أستاذه في المنام ، فقال له : يا أستاذ ، أي الحسرات عندكم أعظم ؟ قال : حسرة الغافلين ، وأنشدوا :
تيقظ إلى التِّذكارفالعمر قد مضى
وحتى مَتَى ذا السكرُ من غفلة الهوى
ورأى ذو النون المصري بعض الصالحين في المنام ، فقال له : ما فعل الله بك ؟
261
قال : أوقفني بين يديه ، وقال : يا مدعي ، ادعيت محبتي ثم غفلت عني. وأنشدوا :
تغافلت عن فهم الحقيقة بالهوى
فلا أُذنٌ تُصغِي ولا عينٌ تَذرِفُ
ضعفت ولكن في أمانيك قوةٌ
فيا تابعَ اللذاتِ كم تتخلفُ
ورأى عبد الله بن مسلمة والده في النوم ، فقال له : يا أبت ، كيف ترى حالك ؟ فقال له : يا ولدي عشنا غافلين. وأنشدوا :
غفلتَ وحادِي الموتِ يحدوك للبِلاَ
وجسمك يا مغرور أصبح معتلا
وحتى متى يا صاح بابك مغلق
أتاك نذير الموت والعمر قد ولّى
وقيل : ما أصاب يعقوب ما أصابه في ولده إلا من أجل خوفه عليه ، وغفلته عن استيداعه ربه ، ولو استودعه ربه لحفظه. لكن لا ينفع حذر من قدر. (وكان أمر الله قدراً مقدوراً).
جزء : 3 رقم الصفحة : 260
(3/358)
قلت : (لمّا) حرف وجود لوجود ، يطلب الشرط والجواب ، وجوابها هنا محذوف ، أي : فعلوا به ما فعلوا. وقيل : جوابها : (أجمعوا) ، وقيل : (أوحينا) على زيادة الواو فيهما. وجملة : (وهم لا يشعرون) : حال من (تنبئنهم) ، فيكون خطاباً ليوسف عليه السلام ، أو من (أوحينا) ؛ أي : وهم لا يشعرون حين أوحينا إليه. فيكون حينئذٍ الخطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، و(صبر جميل) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : مثل. أو : خبر عن مبتدأ ، أي : أمري صبر جميل. و(على قميصه) : في موضع نصب على الظرف ، أي : فوق قيمصه. أو : حال من الدم ؛ إن جوز تقديمها على المجرور.
يقول الحق جل جلاله : فلما ذهبوا بيوسف معهم {وأجْمَعُوا} أي : عزموا {أن يجعلوه في غيابات الجُبِّ} ؛ وهو بئر بأرض الأردن ، أو بين مصر ومدين ، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب.
قال الفراء : كان حفره شداد بن عاد. فانظره. قال السدي : ذهبوا بيوسف وبه عليهم كرامة ، فلما برزوا في البرية أظهروا له العداوة ، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر
262
فيضربه ، فجعل لا يرى منهم رحيماً. فضربوه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح : يا أبتاه ، يا يعقوب ، لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء. هـ. وكان إخوته سبعة من خالته الحرة ، والباقون من سريتين له ، كما تقدم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان يعقوب عليه السلام ينظر إلى يوسف عليه السلام حتى غاب عنه ، وعن نظره ، فلما علموا أنهم غيبوه عنه ، وضعوه في الأرض وجروه عليها ، ولطموا خده ، فجرد شمعون سكينه وأراد ذبحه ، فتعلق بذيل روبيل وضربه ، وكذلك جيمع إخواته ؛ إذا لجأ لواحد منهم طرده ، فضحك عند ذلك يوسف عليه السلام فقال له يهوذا : ليس هذا موضع الضحك يا يوسف ، فقال : من تعزز بغير الله ذل ، ظننت أنه لا يصيبني وأنا بينكم مكروه لما رأيت من قوتكم وشدتكم ، فسلطكم الله علي بشؤم تلك الفكرة ؛ حتى لا يكون التوكل إلا عليه والتعزز إلا به. هـ. بالمعنى.
(3/359)
جزء : 3 رقم الصفحة : 262
وقال الفراء : كانت زينب بنت يعقوب عليه السلام ـ أخت يوسف ـ وكانت رأت في منامها كان يوسف وضع بين الذئاب وهم ينهشون ، فانتبهت فازعة ، ومضت إلى أبيها باكية ، فقالت : يا أبت ، أين أخي يوسف ؟ قال : أسلمته إلى إخواته ، فمضت خلفه حتى لحقت به ، فأمسكته ، وتعلقت بذيله ، وقالت : لا أفارقك اليوم يا أخي أبداً ، فقال لها إخوتها : يا زينب ، أرسليه من يدك ، فقالت : لا أفعل ذلك أبداً ؛ لأني لا أطيق فراق أخي ، فقالوا : بالعشي نرده إليك ويأتيك. ثم أقبل يوسف عليه السلام يقبل رأسها ويديها ، ويقول لها : يا أختاه دعيني أسير مع إخوتي أرتع وألعب ، فذهب ، وجلست تشيعه بعينها ، ودموعها تتناثر مما رأت ؛ خوفاً عليه. هـ.
فلما غابوا به عنها فعلوا به ما تقدم ، وهموا بقتله ، فقال لهم يهوذا : أما عاهدتمُوني ألا تقتلوه ؛ فأتوا به إلى البئر فدلوه فيها فتعلق بشفيرها ، فربطوا يده ، ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ، ويحتالوا به على أبيهم ، فقال : يا إخوتاه رُدّوا عليّ قميصي أتوارى به ، فقالوا : ادعُ الأحد عشر كوكباً والشمس والقمرَ يلبسوك ويؤنسوك. فلما بلغ نصفها ألقوه ، وكان فيها ماء ، فسقط ، ثم آوى إلى الصخرة كانت فيها فقام عليها يبكي ، فجاءه جبريل بالوحي ، كما قال : {وأوحينا إليه...} الخ. وكان ابن سبع عشرة سنة ، وقيل : كان مراهقاً. وقال ابن عطية : كان ابن سبع سنين ، وأوحي إليه في صغره كما أوحي إلى يحيى وعيسى ـ عليهما السلام ـ.
وفي القَصَص : أن إبراهيم عليه السلام ، حين ألقي في النار ، جُرد من ثيابه ، فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق ، وإسحاق إلى يعقوب ، فجعله في تميمة علقها على يوسف ، فأخرجه جبريل وألبسه يوسف.
ثم قال له فيما أوحي إليه : {لتنبئنهم} أي : لتحدثنهم {بأمرهم هذا} ؛ بما فعلوا
263
(3/360)
بك ، {وهم لا يشعرون} أنك يوسف ، لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم ، وطول العهد المغير للحال والهيئات. وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر ، حين دخلوا عليه ممتارين ، فعرفهم وهم له منكرون ، إلى أن قال لهم : {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف : 89]. وفي رواية : أوحى إليه : يا يوسف لا تحزن على ما أصابك ، فإنك تصل إلى ملك كبير ، ويقف إخوتك بين يديك. بشره بما يؤول إليه أمره ، أيناساً وتطبيباً لقلبه. وقيل : {وهم لا يشعرون} متصل بقوله : {وأوحينا} أي : آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 262
وجاؤوا أباهم عِشَاءَ} آخر النهار ، وقرئ {عُشي} بضم العين والقصر ، جمع أعشى ، أي : عُشي من البكاء. فجاؤوا إليه {يبكُون} أي : متباكين. روي أنه لما سمع بكاءهم فزع وقال : يا بني ، أين يوسف ؟ فقالوا : {يا أبانا إنا ذهبنا نستبق} ؛ أي : نتسابق بأقدامنا في العَدْو ، أو الرمي {وتركنا يوسفَ عند متاعنا فأكله الذئبُ وما أنت بمؤمنٍ لنا} : بمصدق لنا ، {ولو كنا صادقين} ؛ لسوء ظنك ، وفرط محبتك ليوسف.
{وجاؤوا على قميصه} : فوق قميصه {بدم كذبٍ} ، أي : ذي كذب بمعنى مكذوب فيه ؛ لأنهم ذبحوا جدياً ولطخوا قميصه بدمه. رُوي أنه لما سمع بخبر يوسف صاح ودعا بقميصه فأخذه ، وألقاه على وجهه ، وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص ، وقال : ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا! أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه.
(3/361)
وفي رواية أخرى : أنه لما رأى صحة القميص ضحك ، فقالوا له : الضحك والبكاء من فعل المجانين! فقال : أما بكائي فعلى يوسف لما رأيت الدم ، وأما ضحكي ، فإني لما رأيت صحة القميص رجوت أن الحديث غير صحيح ، ولذلك {قال بل سولتْ لكم أنفسكم أمراً} أي : سهلت لكم ، وهونت في أعينكم أمراً عظيماً حتى أقدمتم عليه. وقيل : لما سمع مقالهم غشي عليه إلى الصباح ، وهم يبكون بأجمعهم ، ويقولون بينهم : بئس ما فعلناه بيوسف ووالده ، وأي عذر لنا عند الله. فلما أفاق نظر إلى أولاده ، وقال : هكذا يا أولادي كان ظني فيكم ، بئس ما فعلتم ، وبئس ما سولت لكم أنفسكم {فصبر جميل} أي : فأمري صبري جميل. وفي الحديث : " الصبرُ الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق " {واللَّهُ المستعانُ على ما تصفون} أي : على احتمال ما تصفونه من هلاك ابني يوسف. وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم ، إن صح أنهم تنبأوا. وقد تقدم في سورة البقرة الخلاف في نبوة الأسباط فراجعه.
الإشارة : في هذه الآية رجاء كبير لأهل العصيان ، وبشارة وتأنيس لمن أراد مقام
264
الإحسان بعد الإساءة والغفلة والنسيان ، وذلك أن هؤلاء السادات فعلوا بيوسف عليه السلام ما فعلوا ، فلما تابوا بعد هذا الفعل العظيم اجتباهم الحق تعالى ، وتاب عليهم ، وقربهم حتى صاروا أنبياء ، على حد قول بعض العلماء. ولذلك قيل : [كم من خصوص خرجوا من اللصوص ، وكم من عابد ناسك خرج من ظالم فاتك]. وفي الحكم : " من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شيء مقتدراً ". وللشافعي رضي الله عنه :
جزء : 3 رقم الصفحة : 262
فَلما قَسَا قَلبي وَضَاقَت مَذَاهِبِي
جَعَلتُ الرَجَا منِّي لِعَفْوكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَني ذَنبِي فَلَمَّا قَرَنتُهُ
بِعفوكَ رَبِّي كَانَ عَفوُكَ أَعظَمَا
(3/362)
وهذا إنما يكون بالتوبة النصوح ، والنهوض التام ، والمجاهدة الكبيرة ، كما فعل إبراهيم بن أدهم ، والفضل بن عياض ، والشيخ أبو يعزى ، وغيرهم ممن كانوا لصوصاً فصاروا خصوصاً. قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَن لَم يَغلِب نَفسَه وَهَواه فَليس لَهُ حَظٌ في عُقبَاه " وأنشدوا :
جَنَينَا على النَّفس الَّتي لَك رُشدُها
بِطبْعِ الهَوى فِيها وَتِيهٍ مَن الحِجا
جَزَى الله خَيراً مَن أَعَدَّ لِدَائهِ
دَوَاءَ التُقَى فَاستَعمَلَ الخَوفَ والرَّجَا
جَبَانٌ وتَرجُوا أن تُلقَّبَ فَارساً
مَتَى شَابه العَضبُ اليَمَانيُّ دُملَجَا
وفيها أيضاً : تنويه بمقام الصابرين وعاقبة المتقين ، فإن يعقوب عليه السلام ، لما استعمل الصبر الجميل ، جمع الله شمله بولده مع ما أعد له من الثواب الجزيل. ويوسف عليه السلام ، لما صبر على ما أصابه من المحن ؛ عوضه العز الدائم بترادف المنن. وفي الخبر : " أعلى الدرجات درجات الصابرين ". لكل عمل ثواب محدود ، وثواب الصابرين غير محدود ولا معدود. قيل : إن الله تعالى أعطى لكل صابر قصراً في الجنة مسيرة الشمس أربعين يوماً ، من درة بيضاء معلقة في الهواء ، ليس تحته دعامة ، ولا فوقه علاقة ، وله أربعة آلاف باب ، يدخل من كل باب سبعون ألف ملك ، يسلمون على صاحبه ولا ترجع النوبة إليهم أبداً. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 262
265
قلت : (بضاعة) : حال من المفعول ، أي : وأخفوه مبضعاً به للتجارة. و(لنعلمه) : عطف على محذوف ، أي : مكناه في الأرض ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه. إلخ. و(دراهم) : بدل من (ثمن). قال الهروي : الأَشُدَّ : من خمسة عشر إلى أربعين سنة. وهو جمع شدة ، مثل : نعمة وأنعم ، وهي : القوة والجلادة في البدن والعقل. هـ.
(3/363)
يقول الحق جل جلاله : {وجاءت سيارة} ؛ رفقة تسير من مدين إلى مصر ، فنزلوا قريباً من الجب ، وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه. {فأرسلوا واردَهم} الذي يرد الماء ، ويستقي لهم ، وهو : مالك بن ذعر الخزاعي ، {فأدلى دلوه} أرسلها في الجب ليملأها ، فتعلق بها يوسف ، فلما رآه ، {قال يا بشرى هذا غلام} ؛ نادى البشرى ، بشارة لنفسه ، أو لقومه ، كأنه قال : تعالِ هذا أوانك. وقيل : اسم لصاحبه ، ناداه ليعينه على إخراجه فأخرجوه ، {وأسروه} أي : أخفاه الوارد ، وأصحابه عن الرفقة ، وقالوا : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه بمصر ، حال كونه {بضاعة} ؛ أي : متاعاً مبضعاً به للتجارة ، أي : يباع ويتجر بثمنه. {والله عليم بما يعملون} لم يخف عليه اسرارهم.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 265
(3/364)
وشَرَوه} أي : باعه السيارة من الرفقة ، أو إخوته ، فيكون الضمير راجع لهم. رُوي أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام ، فأتاه يومئذٍ فلم يجده فيها ، وأخبر إخوته فأتوا الرفقة ، وقالوا : هذا غلامنا فاشتروه ، وسكت يوسف خوفاً من أن يقتلوه. أو اشتروه من إخوته ؛ لأن شرى قد يستعمل بمعنى اشترى. فاشتراه الرفقة منهم {بثمن بَخْسٍ} ؛ أي : مبخوس ، لزيفه أو نقصانه ، {دراهم مَعدودةٍ} قليلة ، فإنهم يَزنُون ما بلغ الأوقية ، ويعدُّون ما دونها. قيل : كان عشرين درهماً. وقيل : اثنين وعشرين. رُوي أن الذي اشتراه منهم مالك بن ذعر المتقدم ، وكان صعلوكاً ، فسأل يوسف أن يدعو له فدعا له فصار غنياً. رُوي أنه قال لهم : بكم تبيعونه ؟ فقالوا له : إن اشتريته بعيوبه بعناه لك. فقال : وما عيوبه ؟ فقالوا : سارق كذاب ، يرى الرؤيا الكاذبة. فقال لهم : بكم تبيعونه لي مع عيوبه ؟ ويوسف عليه السلام ينظر إليهم ولا يتكلم ، وهو يقول في نفسه : ما أظنه يقوم بثمني ؛ لأنهم يطلبون أموالاً كثيرة. قال لهم مالك : معي دراهم قليلة تعد ولا توزن ، فقالوا له : هاتها. فاشتراه منهم بتلك الدراهم المعدودة. قال ابن عباس : كانت سبعة عشر درهماً ، جعل له ذلك جزاء لما قوم نفسه ، وظن أنهم يطلبون في الأموال. هـ. {وكانوا فيه من الزاهدين} : الراغبين عنه. يحتمل أن يكون الضمير لإخوته ، وزهدهم فيه ظاهر. أو يكون للرفقة فإن بائعين كانوا بائعين فزهدهم فيه لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه ، وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق.
266
(3/365)
قال الفراء : لما اشتراه منهم مالك ، قال لهم : اكتبوا لي كتاباً بخطكم بأنكم بعتم مني هذا الغلام بكذا وكذا ، فكتبوا له ذلك ، فلما أراد الرحيل قالوا له : اربطه لئلا يهرب ، فلما همَّ بربطه قال له يوسف : خلني أودِّع ساداتي ؛ فَلَعَلَّي لا ألقاهم بعد هذا اليوم. فقال له مالك : ما أكرمك من مملوك ، حيث يفعل بك هذا وأنت تتقرب منهم. فقال له يوسف : كل أحد يفعل ما يليق به ، فقال له : دونك ، فقصدهم وهُم قيام صفاً واحداً ، فلما دنا منهم بكوا وبكى يوسف عليه السلام ، ثم قالوا : والله لقد ندمنا يا يوسف على ما فعلنا ، ولولا الخشية من والدنا لرددناك. هـ. ثم ذهبوا به إلى مصر فباعوه ، فاشتراه العزيز الذي كان خزائن مصر. واسمه : " قطفير " ، وكان المَلِك يومئذٍ " ريان بن الوليد العلقمي " ، وقد آمن بيوسف ، ومات في حياته.
{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته} راعيل ، أو زليخا ، {أكرمي مثواه} ؛ اجعلي مقامه عندنا كريماً ، والمعنى : أحسني تعهده ، {عسى أن ينفعنا} في ضِياعنا وأموالنا ، نستظهر به في مصالحنا ، {أو نتخذه ولداً} أي : نتبنَّاه ، وكان عقيماً ، لما تفرس فيه من الرشد. ولذلك قيل : (أفرس الناس عزيز مصر ، وابنة شعيب التي قالت : {ياأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص : 26] ، وأبو بكر حين استخلف عمر).
جزء : 3 رقم الصفحة : 265
قال البيضاوي : رُوي أنه اشتراه العزيز وهو ابن تسع عشرة سنة ، ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. واختلف فيما اشتراه به مَنْ جعل شراءً غير الأول ، فقيل : عشرون ديناراً ، وزوجاً نعل ، وثوبان أبيضان. وقيل : ملؤه ـ أي وزنه ـ فضة ، وقيل : ذهباً. هـ. وقيل : مسكاً وحريراً.
(3/366)
{وكذلك مكَّنَّا ليوسف في الأرض} أي : وكما مكنا محبته في قلب العزيز ، أو كما مكناه في منزله ، أو كما أنجيته ، وعطفنا عليه العزيز مكناه في الأرض ، ليتصرف فيها بالعدل ، {ولنُعلِمَهُ من تأويل الأحاديث} ؛ أي : من تأويل كتب الله المتقدمة ، أو من تأويل الأحكام الحادثة بين الناس ليحكم فيها بالعدل ، أو من تعبير المنامات ، ليستعد لها قبل حلولها. أي : كان القصد في إنجائه وتمكينه : إقامته العدل ، وتْيسير أمور الناس ، وليعلَمَ معاني كُتب الله وأحكامه فينفذها ، {والله غالبٌ على أمره} : لا يرده شيء ، ولا ينازعه فيما يريد جبار ، ولا عنيد ، أو غالب على أمر يوسف ، فيدبر أمره بالحفظ والرعاية ، والنصر والعز في عاقبة أمره ، خلاف ما أراد به إخوته ، {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أن الأمر كله بيده ، أو لا يفهمون لطائف صنعه ، وخفايا لطفه.
{ولما بلغ أشده} ؛ منتهى اشتداد جسمه ، وكمال عقله. وتقدم تفسير الهروي له ،
267
وحده. وقيل : ما بين الثلاثين والأربعين ، {آتيناه حكماً} : حكمة ، وهي النبوة. أو العلم المؤيد بالعمل. أو حُكماً بين الناس بالعدل. {وعلماً} يعني : علم تأويل الأحاديث ، أو علماً بأسرار الربوبية ، وكيفية آداب العبودية. {وكذلك نجزي المحسنين} إذا كمل عقلهم ، وتوفر آدابهم ، وكمل تهذيبهم ، آتيناهم الحكمة وكمال المعرفة. وفيه تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه وإتقانه عمله في عنفوان شبابه.
اَلإشارة : من ظن انفكاك لطف الله عن قدره ؛ فذلك لقصور نظره ، لا سيما لطفه بالمتوجهين إليه ، أو العارفين به الواصلين لحضرته. فكل ما ينزل بهم فإنما هو أقدار جارية ، وأمداد سارية ، وأنوار بهية ، وألطاف خفية ، تسبق لهم الأنوار قبل نزول الأقدار ، فلا تحول حول قلوبهم الأكدار ، ولا تغير قلوبَهم رؤية الأغيار ، عند نزول شدائد الأقدار ، يحفظ عليهم أسرار التوحيد ، وينزل عليهم أنوار التأييد ، عند نزول القضاء الشديد ، والبلاء العتيد ، ولابن الفارض رضي الله عنه :
(3/367)
أَحبائِي أَنتُم ، أَحْسَنَ الدَّهرُ أم أَسا
فَكُونُوا كما شِئتُمُ أَنا ذَلك الخِل
جزء : 3 رقم الصفحة : 265
وقال صاحبه العينية :
تَلَذُّ لِي الآلام إذ كُنتَ مُسْقِمَِي
وإن تَختَبِرني فَهْي عَندي صَنَائِعُ
تَحِكَّم بِِما تَهواهُ فيَّ فإِنَّني
فَقِيرٌ لسُلطَان المَحَبَّة طَائِعُ
وقد جرت عادة الله تعالى أن يعقب الجلال بالجمال ، والمحن بالمنن ، والذل بالعز ، والفقر بالغنى ، فبقدر ما تشتد المحن تأتي بعدها مواهب المنن ، ما ينزل من الجلال يأتي بعده الجمال ، سُنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. لا راد لما قضى ، ولا معقب لما به حكم وأمضى.
قال تعالى : {والله غالبٌ على أمره} : قال بعض المفسرين : هذه الآية هي قطب هذه السورة ، ثم قال : أراد آدم البقاء في الجنة ، وما أراد الله ذلك ، فكان الأمْر مُراد الله. وأراد إبليس أن يكون رأس البررة الكرام ، وأراد الله أن يكون إمام الكفرة اللئام ، فكان الأمر كما أراد الله. وأراد النمرود هلاك إبراهيم عليه السلام ، ولم يرده الله ، فكان الأمر كما أراد الله. وأراد فرعون هلاك موسى عليه السلام ، فأهلكه الله ، ونجى موسى ، . وأراد داود أن يكون الملك لولده ميشا ، وأراد الله أن يكون لسليمان عليه السلام ، فكان كما أراد الله. وأرد أبو جهل هلاك سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونبوة الوليد بن المغيرة ، فأهلك الله أبا جهل ونبأ محمداً صلى الله عليه وسلم. وأراد المنذر بن عاد البقاء في الدنيا ، فأهلكه الله وخرب ملكه. وأراد إرم العاتي ، الذي بنى ذات العماد ، يحاكي بها الجنة ، أن يسكنها خالداً فيها ، فكذبه الله ، وحال بينه وبينها ، وغيبها عنه حتى مات بحسرتها. هـ.
268
جزء : 3 رقم الصفحة : 265
(3/368)
قلت : المراودة : المطالبة ، من راد يرود : إذا جاء وذهب لطلب الشيء ، ومنه الرائد. و(هيت) : اسم فعل معناه : تعال ، أو أقبل ، مبني على الفتح كأين ، واللام للتبيين ، كالتي في سقيا لك ، وقرأ ابن كثير : بالضم ، تشبيهاً بحيث ، ونافع وابن عامر بالفتح ، وهي لغة فيه. وقرئ : " هئْت " بالهمز ؛ كجئت ، من هَاءَ يهيء : إذا تهيأ. و(معاذ الله) : مصدر لمحذوف ، أي : أعوذ بالله معاذاً. و(إنه) : ضمير الشأن. و(لولا) : حرف امتناع ، وجوابها محذوف ، أي : لخالطها ، ولا يجوز أن يكون (وهمَّ بها) : جوابها ؛ لأن حكمها حكم الشرط ، فلا يتقدم عليها جوابها. قاله البيضاوي.
قلت : وبهذا يُرد على من وقف على (همت به) ، كالهبطى ، ومن تبعه ، إلا أن يُحمل على أنه ابتداء كلام مع حذف الجواب. واستحسنه البعض ؛ ليكون همُّ يوسف خارجاً عن القسم ، (وكذلك) : في موضع المصدر ، أي : ثبتناه مثل ذلك التثبيت لنصرف.. الخ ، و(المخلصين) بالفتح : اسم مفعول من : أخلصه الله. وبالكسر : اسم فاعل بمعنى أخلص دينه لله.
يقول الحق جل جلاله : {وراودتْه} للفاحشة ، أي : تمحلت وطلبت منه أن يوافقها {التي هو في بيتها} ؛ وهي زليخا. وترك التصريح بها ؛ استهجاناً. فراودته عن نفسه ، {وغلقتِ الأبوابَ} ، قيل : كانوا سبعة. والتشديد للتكثير ، أو للمبالغة في الإيثاق ، {وقالت هَيت لك} أي : أقبل وبادر ، أو تهيأتُ لك. رُوي أنها تزينت بأحسن ما عندها ، وقالت : تعالى يا يوسف ، {قال مَعَاذَ الله} ؛ أي : أعوذ بالله معاذاً ، {إنه} أي : الشأن ، {ربي أحسن مثواي} ؛ سيدي أحسن إقامتي وتربيتي ، إذ قال لك أكرمي مثواي ، فما جزاؤه أن أخونه في أهله ، أو أنه تعالى ربي أحسن مَنزلي ؛ بأن عطف عَلَيَّ قلبَ سيدي ،
269
ولطف بي في أموري ، فلا أعصيه ، {إنه لا يُفلح الظالمون} ؛ المجاوزون الإحسان إلى الإساءة ، أو الزناة ؛ فإن الزنى ظلم على الزاني والمزنيّ بأهله.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
(3/369)
ولقد هَمَّتْ به وهمَّ بها} ، قال ابن جزي : أكْثََرَ الناسُ الكلامَ في هذه الآية ، حتى ألفوا فيها التآليف ، فمنهم مفرط ومُفرّط ؛ وذلك أن منهم من جعل هَمَّ المرأة وهَمَّ يوسف من حيث الفعل الذي أرادته. وذكروا من ذلك روايات من جلوسه بين رجليها ، وحله للتكَّة ، وغير ذلك مما لا ينبغي أن يقال به ؛ لضعف نقله ولنزاهة الأنبياء عن مثله ، ومنهم من قال : همت به لتضربه على امتناعه ، وهَمَّ بها ليقتلها أو يضربها ؛ ليدفعها. وهذا بعيد يرده قوله : {لولا أن رأى برهان رَبِّهِ}. ثم قال : والصواب ـ إن شاء الله ـ : أنها همت به من حيث مرادُها ، وهَمَّ بها كذلك ، لكنه لم يعزم على ذلك ، ولم يبلغ إلى حد ما ذكر من حل التكَّة ، بل كان همه خطرة خطرت على قلبه ، ولم يتابِعها ، ولكنه بادر إلىالتوبة والإقلاع عن تلك الخطرة ، حتى محاها من قلبه ، لمَّا رأى برهان ربه. ولا يقدح هذا في عمة الأنبياء ؛ لأن الهم بالذنب لبس بذنب ، ولا نقص في ذلك ؛ لأنَّ من هَمَّ بذنب ثم تركه كتب له حسنة. هـ.
(3/370)
قلت : وكلامه حسن ؛ لأن الخطرات لا طاقة للبشر على تركها ، وبمجاهدة مخالفتها فُضِّل البشر على جنس الملائكة ، وقال البيضاوي : والمراد بهمه : ميل الطبع ، ومنازعة الشهوة ، لا القصد الاختياري ، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف ، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل ، لمن يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفته ، كقوله : قتلته لو لم أخف الله. هـ. ومثله في تفسير الفخر ، وأنه مال إليها بمقتضى الطبع ، ومُنع منه بصارف العصمة ، كالصائم يشتاق الماء البارد ويمنعه منه صومه. ومثله أيضاً في لطائف المنن : همت به هَمَّ إرادة ، وهَمَّ بها هَمَّ ميل لا هَمَّ إرادة. قال المحشي الفاسي : وفيه نظر ؛ لأن ذلك لا يتصور في النفوس المطمئنة. وإنما ذلك شأن أرباب التلوين والمجاهدة ، دون أهل التمكين والمشاهدة ، وخصوصاً الأنبياء ؛ إذ صارت نفوسهم مشاكلة للروح ، مندرجة فيها ، ولذلك صارت مطمئنة ، وميلها حينئذ إنما يكون للطاعة ، وأما غير الطاعة ، فهي بمنزلة القذر والنتن تشمئز منه ، ولا يتصور بحال ميلها إليه. ثم أطال الكلام في ذلك.
قلت : أما تفسير الهم بالميل فلا يليق بالنفس المطمئنة. وأما تفسيره بالخاطر فيتصور في المطمئنة وغيرها. وإنما سماه الله تعالى هماً في حق يوسف عليه السلام ؛ لأن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لعلو منصبهم ، وشدّة قربهم من الحضرة ، يشدد عليهم في مطالبة الأدب ، فيجعل الخاطر في حقهم هَمّاً وظناً. كما قال تعالى : {حَتَّىا إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوااْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} [يوسف : 110] فيمن خفف الذال ، أو كما قال تعالى في حق يونس عليه
270
السلام : {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْه} [الأنبياء : 87] ؛ على أحد التفاسير. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
(3/371)
ثم قال تعالى : {لولا أن رأى برهانَ ربه} لخالطها. والبرهان الذي رأى : قيل : ناداه جبريل : يا يوسف تكون في ديوان الأنبياء ، وتفعل فعل السفهاء. وقيل : رأى يعقوب عاضاً على أنامله ، يقول : إياك يا يوسف والفاحشة. وقيل : تفكر في قبح الزنى فاسبتصر. وقيل : رأى زليخا غطت وجه صنمها حياءً منه ، فقال : أنا أولى أن أستحي من ربي. {كذلك} أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه ؛ {لِنَصْرِِفَ عنه السّوءَ} ؛ خيانة السيد ، {والفحشاءَ} ، الزنى ؛ {إنه من عبادنا المخلَصين} الذين أخلصناهم لحضرتنا. أو من الذين أخلصوا وجهتهم إلينا.
{واسْتَبَقَا البَابَ} أي : تسابقا إلى الباب ، وابتدرا إليه ، وذلك أن يوسف عليه السلام فرَّ منها ؛ ليخرج حيث رأى البرهان ، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج ، {وقَدّت قميصَه من دُبُرٍ} أي : شقت قميصه من خلف لما اجتذبته لترده. والقدُّ الشق طولاً ، والقَطُّ : الشق عرضاً ، {وألفيا سيدها} : وصادفاً زوجها {لدى الباب} ؛ وفيه إطلاق السيد على الزوج ، وإنما أفرد الباب هنا ، وجمعه في قوله : {وغلقت الأبواب} لأن المراد هنا الباب البراني الذي هو المخرج من الدار. {قالتْ} لزوجها : {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يَسجن أو عذابٌ أليم} ؟ قالته إيهاماً أنها فرت منه ؛ تبرئة لساحتها عند زوجها ، وإغراء له عليه ؛ انتقاماً لنفسها لما امتنع منها. {قال هي راودتني عن نفسي} : طالبتني بالمواقعة بها. قال ذلك تبرئة لساحته ، ولو لم تكذب عليه ما قاله.
(3/372)
{وَشَهِدَ شاهدٌ من أهلها} ، قيل : ابن عمها. وقيل : ابن خالها صبياً في المهد. وكونه من أهلها أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف. وكونه لم يتكلم قط ، ثم تكلم كرامة ليوسف عليه السلام ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " تكلم في المهد أربعةٌ : ابنُ ماشِطة ابنة فرعَون ، وشَاهِدُ يُوسفَ ، وَصَاحِبُ جُرَيْج ، وعيسَى " وذكر مسلم في صحيحه ـ في قصة الأخدود ـ : " أن امرأة أتِي بها لتُطْرَح في النار ، ومعها صبي يرضع ، فقال لها : يا أمه اصبري ، لا تجزعي. فأنك على الحق ". وعَدَّ بعضهم عشرة تكلموا في المهد ، فذكر إبراهيم عليه السلام ، ويحيى بن زكريا ، ومريم ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وطفلاً في زمنه عليه السلام ، وهو : مبارك اليمامة ، وقد نظمهم السيوطي ، وزاد واحداً ، فقال :
تكلم في المَهدِ النَّبيُّ مُحَمدٌ
ويحيى وعيسى والخليلُ ومريمُ
وصَبِيّ جُريْجٍ ثم شاهِدُ يوسِفُ
وطِفلٌ لدى الأُخدود يَرويهِ مُسلِمُ
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
وطفلٌ عَلَيهِ مُرَّ بالأمَةِ الَّتي
يُقالُ لَها تَزنِي ولا تَتَكَلَّمُ
271
وماشِطَةٌ فِي عَهدِ فرعون طِفلُها
وفي زَمَنِ الهادي المُبَاركُ تُختَمُ
وذكر ابن وهب عن أبي لهيعة قال : بلغني أن المولود فيما تقدم كان يولد في الليل ، فيصبح يمشي مع أمه. هـ. وضعف ابن عطية كون شاهد يوسف صبياً بالحديث " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة " ، وبأنه لو كان الشاهد صبياً لكان الدليل نفس كلامه ، دون أن يحتاج إلى الاستدلال بالقميص. هـ. وقد يجاب بأن الحصر باعتبار بني إسرائيل ، مع أن الوحي يتزايد شيئاً فشيئاً ، فأخبر بثلاثة ، ثم أخبر بآخرين ، وبأن الاستدلال وقع بهما تحقيقاً للقضية.
(3/373)
ثم ذكر الحق تعالى ما قاله الشاهد ، فقال : {إن كان قميصُه قُدَّ من قُبلٍ فصدقت وهو من الكاذبين} ؛ لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قُدامه بالدفع عن نفسها. أو لأنه أسرع خلفها فعثر بذيله فانقدَّ جَيبُه. {وإن كان قميصُه قُدَّ من دُبر فكذبت وهو من الصادقين} ؛ لأنها جذبته إلى نفسها حين فرَّ منها. والجملة الشرطية محكية بالقول ، أي : قال : إن كان... إلخ. وتسميتها شهادة ؛ لأنها أدت مؤداها. والجمع بين " إنْ " و " كان " على تأويل : إن يعلم أنه كان ، ونحوه ، ونظيره : قولك : إن أحسنت إليَّ فقد أحسنت إليك من قبل. فإن معناه : إن تمنن علي بإحسانك امنن عليك بإحساني. ومعناه : إن ظهر أنه كان قميصه... الخ.
{فلمّا رأى} زوجُها قميصَ يوسف {قُدَّ من دُبرٍ قال إنه} أي : قَوْلُكِ : {ما جزاء...} الخ. {من كَيدِكُنَّ} ؛ من حيلتكن. والخطاب لها ولأمثالها ولسائر النساء. {إنَّ كيدَكُنَّ عَظيم} ؛ لأن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب ، وأشد تاثيراً من النفس والشيطان ؛ لأنهن يواجهن به الرجال ، والنفس والشيطان يوسوسان مسارقة. ثم التفت العزيزُ إلى يوسف وقال : {يوسفُ} اي : يا يوسف. وحذف النداء ؛ إشارة إلى تقريبه وملاطفته ، {أعرضْ عن هذا} الأمر واكتمه ، ولا تذكره ، {واستغفري} يا زليخا {لذنبك إنك كنت من الخاطئين} ؛ من القوم المذنبين من خطأ ؛ إذا أذنب متعمداً. والتذكير للتغليب. قاله البيضاوي.
الإشارة : إذا أراد الله أن يصافي عبده بخصوصية النبوة ، أو الولاية ، كلأه بعين الرعاية ، وجذبه إليه بسابق العناية ؛ فإذا امتحنه أيَّده بعصمته ، وسابق حفظه ورعايته ، ولا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية ؛ فالشهوة في البشر أمر طبيعي وبمجاهدتها ظهر شرفه. لكن النفس المطمئنة لا تحتاج في دفعها إلى كبير مجاهدة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
(3/374)
والنفس اللوامة لا بد في دفعها من المكابدة والمجاهدة ؛ فالهواجم والخواطر ترد على القلوب كلها ، لكن النفس المطمئنة لها قوة على دفعها ، وقد تتصرف فيها بإمضاء ما قدره الله الواحد القهار عليها. {وكان أمرالله قدراً مقدوراُ}. وذلك كمال في حقهم لا
272
نقصان ؛ إذ بذلك تتميز قهرية الربوبية من ضعف العبودية ، فما ظهرت كمالات الربوبية إلا بظهور نقائص العبودية. أما الإصرار على العيوب فلا يوجد مع الخصوصية مطلقاً ، وأما هجومها على العبد من غير إصرار فيكون مع وجود خصوصية النبوة والولاية ، وقد تقع بها الزيادة إن صحبها الانكسار والإنابة. وفي الحكم : " ربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول ". والله تعالى أعلم.
واعلمْ أن ما امتحن به الصديق عليه السلام مع العصمة ، قد وقع مثله كثيراً في هذه الأمة المحمدية مع الحفظ والامتناع ؛ ذكر الرصاع في كتاب التحفة : أن بعض الطلبة كان ساكناً في مدرسة فاس ، فخرجت امرأة ذات يوم إلى الحمام بابنتها ، فَتَلَفتْ البنت وبقيت كذلك إلى الليل ، فرأت باباً خلفه ضوء ، فأتت إليه ، فوجدت فيه رجلاً ينظر في كتاب ، فقالت : إن لم يكن الخير عند هذا فلا يكون عند أحد. فقرعت الباب ، فخرج الرجل فذكرت له قصتها ، وأنها خافت على نفسها ، فرأى أنه تَعَيَّنَ عليه حفظها ، فأدخلها وجعل حصيراً بينه وبينها ، وبقي كذلك ينظر في كتابه ، فإذا بالشيطان زين له عمله ، فحفظه الله ببركة العلم ، وفأخذ المصباح ، وجعل يحرك أصابعه واحداً بعد واحد حتى أحرقها ، والبنت تنظر إليه وتتعجب. ثم خرج ينظر إلى الليل فوجده ما زال ، فأحرق أصابع اليد الأخرى ، ثم لاح الضوء ، فقال : اخرحي ، فخرجت إلى دارها سالمة ، فذكرت القضية لوالديها ، فأتى أبوها إلى مجلس العلم ، وذكر القصة للشيخ ، فقال للحاضرين : أخرجوا أيديكم وأمنوا على دعائي لهذا الرجل ، فأخرجوا أيديهم ، وبقي رجل ، فعلم الشيخ أنه صاحب القضية ، فناداه ، فأخبره ، فذكر أنه زوجه الأب منها. هـ. مختضراً.
(3/375)
فمن ترك شيئاً لله عوضه الله مثله ، أو أحسن منه. وكذلك فعل الحق تعالى بيوسف عليه السلام قد زوجه زليخاً على ما يأتي إن شاء الله.
وحدثني شيخي مولاي العربي رضي الله عنه ، أنه وقف على حكايات تناسب هذا ؛ وهو أن رجلاً صالحاً تعلق قلبه بابنة الملك ، فلما رأى نفسه أنه لا يقدر على تزوجها تطلف حتى دخل عليها في قبتها ليلاً ، فوجدها نائمة على فراشها ملقى على وجهها رداؤها ، وشمعة تشعل عند رأسها ، وأخرى عند رجلها ، وطعام موضوع عندها. فكشف عن وجهها فرأى من الجمال ما أبهر عقله ؛ فجعل يتردد في نفسه ، ويخاصمها على فعل الفاحشة ، فبينما هو كذلك إذ أبصر لوحاً فوق رأسها مكتوباً فيه : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق : 2] ، فتاب الله تعالى عليه ، وزجر نفسه عن هواها ، فوضع يده في ذلك الطعام ليأكل منه ، وترك فيه ؟ أثراً ، فلما أفاقت البنت رأت أثر اليد في الطعام ، فسألت أهل الدار ، فكلهم قالوا : ما دخل عليك أحد منا ، فتيقنت أن رجلاً دخل عليها ، وكان يخطبها كثيرٌ ممن له الرئاسة والجاه ، فخافت على نفسها من أن يطرقها أحد منهم فيغضبها ، فقالت
273
لأبيها : لا بد أن تروجني ، فقال في نفسه : والله لا أزوجها إلا لرجل صالح ، فخرج مختفياً إلى المدرسة ، فأتى بعض الناس ، فقال : سمعت هنا برجل صالح ، فأردت أن أزوره ، فأشار إلى ذلك الرجل الذي دخل على بنته ، ثم سأل ثانياً ، وثالثاً ، فلكهم أشار إليه ، فأتى إليه فقال له : إن لي بنتاً جميلة خطبها مني كثير من الناس ، فأردت أن أزوجكها ، فجهزها بما يليق بها ، وزوجها إياه. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
(3/376)
وذكر ابن عرضون : إن رجلاً كان بالقيروان من العلماء الأتقياء ، يقال له شقران ، وكان جميل الصورة فهوته امرأة ، فأرسلت إلى عجوز ، وأسرت إليها أمره على أن توصله إليها ، فأتت إليه العجوز ، وقالت : عندي ابنة مريضة ، وأرادت أن توصي ، وعسى أن تصل إليها ، وتدعو لها ، فلبس ثيابه ، ومشى معها إلى أن وصلت إلى الدار فأدخلته ، فوجد صبية جميلة ، فقالت له : هلمّ ، فقال : إني أخاف الله رب العالمين. فقالت له العجوز : هيهات شقران ، والله لئن لم تفعل لأصيحنَّ ، وأقول : إنك دخلت علينا عارضتنا ، فقال لها : إن كان ولا بد فدعيني حتى أدخل الحجرة ، فقالت له : افعل ما بدا لك ، فدخل الحجرة ، فقال : اللهم إنها ما هوت مني إلا صورتي فَغَيَّرها ، فخرج من الحجرة وقد ظهر عليه الجذام. فلما رأته ، قالت : اخرج فحرج سالماً. وهذه الحكاية مشهورة ببلاد القيروان. هـ.
قلت : وقد نزل بنا في حال شبابنا كثير مما يشبه هذا ، فحفظنا الله بمنّه وكرمه وحسن رعايته. فللَّهِ المنة والحمد ، لا أحصي ثناء عليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
قلت : (نسوة) : اسم جمع لامرأة. وتأنيثه غير حقيقي ، ولذلك جرد فعله من التاء. و(في المدينة) متعلق بقال ، أي : أشعن الخبر في المدينة ، أو : صفة لنسوة ، فيتعلق بالاستقرار. و(حباً) : تمييز. و(حاشَ لله) : قال أبو علي الفارسي : هي هنا فعل ، والدليل
274
على ذلك من وجهين ، أحدهما : أنها دخلت على لام الجر ، ولا يدخل حرف على حرف. والآخر : أنها حذف منها الألف ، على قراءة الجماعة ، والحروف لا يحذف منها شيء ، وقرأها أبو عمرو بالألف على الأصل ، والفاعل بحاش ضميرُ يوسف ، أي : بعد يوسف عن الفاحشة لخوف الله.
(3/377)
وقال الزمخشري : حاش ، وضع موضع المصدر ، كأنه قال : تنزيهاً لله. وحذف منه التنوين ؛ مراعاة لأصله من الحرفية. وقال البيضاوي : هو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء ، فوضع موضع التنزيه. واللام للبيان ، كما في قولك : سقيا لك. هـ. و(ليكونن) : نون التوكيد الخفيفة كتبت بالألف ؛ لشبهها بالتنوين.
يقول الحق جل جلاله : {وقال نسوة في المدينة} : مصر ، وكانوا خمساً : زوجة الحاجب ، والساقي ، والخباز ، والسجان ، وصاحب الدواب. قلن : {امرأةُ العزيزُ تُراودُ فتاها} : خادمها {عن نفسه} أي : تطلب مواقعه غلامهِا إياها ، {قد شَغَفَها حُبَّاً} ؛ قد دخل شغاف قلبها حُبُّه ، وهو غلافه ، {إنا لنراها في ضلالٍ مبين} ؛ في خطأ عن الرشد بيِّن ظاهر. {فلما سمعتْ بمكرهنّ} ؛ باغتيابهن. وسماه مكراً ؛ لأنهن أخفينَه كما يخفي الماكر مكره. وقيل : كانت اسْتَكتَمَتهن سرها فأفشينه. فلما بلغها إفشاؤه {أرسلتْ إليهن} تدعوهن. قيل : دعت أربعين امرأة فيهن الخمس. {وأعتدتْ} : أعدت {لهن مُتكأ} ؛ ما يتكئن عليه من الوسائد ونحوها. وقيل : المتكأ : طعام ، فإنهم كانوا يتكئون للطعام عند أكله ، وقرئ في الشاذ : " مَتْكاً " ، بسكون التاء وتنوين الكاف ، وهو الأترج. {وآتتْ كل واحدةٍ منهن سكّيناً} ليقطعن به. وهذا يدل على أن الطعام كان مما يقطع بالسكاكين كالأترج. وقيل : كان لحماً.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 274
(3/378)
قالت اخْرُجْ عليهن} ، فأسعفها ؛ لأنه كان مملوك زوجها ، فخرج عليهن ، {فلما رأينه أكْبَرْنَهُ} : عظمن شأنه وجماله الباهر ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رأيتً يُوسفَ لَيلَةَ المعراج كالقَمَر لَيلَةَ البَدْرِ " وقيل : كان يُرى تلألؤ وجهه على الجدران. {وقطّعن أيديَهُنَّ} ، جرحنها بالسكين ؛ لفرط الدهشة ، اشتغلن بالنظر إليه ، وبُهتْن من جماله حتى قطعن أيديهن ، وهُنَّ لا يشعرن ، كما يقطع الطعام. {وقُلْنَ حاشَ لله} ؛ تنزيهاً له عن صفات العجز عن أن يخلق مثله. أو تنزيهاً له أن يجعل هذا بشراً. اعتقدوا أن الكمال خصاص بالملائكة ، وكونه في البشر في حيز المحال ، أو تعجباً من قدرته على خلق مثله. {ما هذا بشراً} ؛ لأن هذا الجمال غير معهود للبشر. {إن هذا إلا مَلَكٌ كَريمُ} على الله ؛ لأن الجمع بين الجمال الرائق ، والكمال الفائق ، والعصمة البالغة ، من خواص الملائكة.
{قالت} لهن : {فذلِكُنَّ الذي لُمتنَّني فيه} ؛ توبيخاً لهن على اللوم ، أي : فهو ذلك الغلام الكنعاني ، الذي لمتنني في الافتتان به قبل أن ترونه. ولو كنتن رَأَيْتُنَّهُ لعذرتُنَّنِي ،
275
{ولقد راودتُه عن نفسه فاستعصم} : فامتنع طلباً للعصمة. أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها ؛ كي يعاونها على إلانة عريكته ، {ولئن لم يفعلْ ما آمُرُهُ} به {ليُسَبِّحنَ وليكونا من الصاغرين} الأذلاء ، وهو من صِغَر ، بالكسر يَصغَر صغاراً. فقلن له : أطع مولاتك.
(3/379)
{قال ربّ السجنُ أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه} من فعل الفاحشة ؛ بالنظر إلى العاقبة. وإن كان مما تشتهيه النفس. لكن رُبَّ شَهوةَ ساعة أورَثَتْ حُزْناً طويلاً. قيل : إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا ، وإنما كان اللائق به أن يسأل الله العافية ، فالاختيار لنفسه أوقعه في السجن ، ولو ترك الاختيار لكان معصوماً من غير امتحان بالسجن ، كما كان معصوماً وقت المراودة ، {وإلا تَصْرِف عني} : وإن لم تصرف عني {كيدَهُنَّ} من تحبيب ذلك إليَّ ، وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة ، {أَصْبُ إليهن} ؛ أًمِلْ إلى جانبهن بطبعي ومقتضى شهوتي ، {وأكن من الجاهلين} ؛ من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه ، فإن الحكيم لا يفعل ما هو قبيح. أو من الذين لا يعملون بما يعلمون ، فإنهم جهال ، وكلامه هذا : تضرع إلى الله تعالى ، واستغاثة به.
{فاستجاب له ربه} : أجاب دعاءه الذي تضمنه كلامه ، {فصرفَ عنه كيدهنَّ} حيث ثبته على العصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن ، وآثرها على اللذة الفانية ؛ {إنه هو السميعُ} لدعاء الملتجئين إليه ، {العليم} بإخلاصهم أو بما يصلح بهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 274
الإشارة : الحب إذا كان على ظاهر القلب ، ولم يخرق شغافه ، كان العبد مع دنياه ، وآخرته ، بين ذكر ، وغفلة. فإذا دخل سويداء القلب ، وخرق شغافه نسي العبد دنياه وأخراه ، وغاب عن نفسه وهواه ، وضل في محبة مولاه. ولذلك قيل لعاشقة يوسف : {إنا لنراها في ضلال مبين} أي : في استغراق في المحبة حتى ضل عنها ما دون محبوبها. ومنه قوله تعالى : {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىا} [الضحى : 7] أي : وجدك ضالاً في محبته ، فهداك إلى حضرى مشاهدته ومقام قربه ، فكان قاب قوسين أو أدنى. وعلامة ودخول المحبة شغاف القلب أربعة أشياء : الاستيحاش ، والإيناس ، وذكر الحبيب مع الأنفاس ، وحضوره مع الحواضر والوسواس. وأنشدوا :
تَاللَّهِ مَا طَلَعت شَمسٌ ولا غربت
إلاَّ وَذكْرُكَ مَقرُونٌ بِأَنفَاسِي
(3/380)
وَلاَ جَلَسْتُ إلى قوْمٍ أُحدّثُهُم
إلاَّ وأَنتَ حَدِيثِي بَينَ جُلاّسي
ولا شربتُ لَذيذ الماء مِنْ ظَمَإِ
إلا رَأيتُ خَيَالاً مَنكَ في الكاسِ
إن كَانَ للنَّاسِ وسوَاسٌ يُوسوِسُهُم
فَأَنتَ واللَّهِ وَسواسِي وخَنَّاسِي
لَولا نَسيمٌ بِذكراكُم أَفيقُ بهِ
لكُنتُ مُحتَرِقاً من حرِّ أَنفَاسي
276
وقال آخر :
خَيَالُك في وَهمِي ، وذَكرُكَ في فَهمِي
ومَثواكَ فِي قَلبِي ، فَأَين تَغِيب ؟
قوله تعالى : {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن...} الآية : أدهشتهم طلعة يوسف ، وجماله الباهر ، وزليخا لما استمرت معه لم تفعل شيئاً من ذلك. كذلك المريد إذا استشرف على أنوارالحضرة وجمالها ، أدهشته وحيرته ، فلولا التأييد الإلهي ما أطاقها ، فإذا صبر على صدماتها ، واستمر مع تجليات أنوارها ذهب دهشه. واطمأن قلبه بشهود محبوبه من وراء أردية العز والكبرياء ، وهذه هي الطمأنينة الكبرى والسعادة العظمى.
وقوله تعالى : {قال رب السجن أحب إليَّ} ، هكذا ينبغي للعبد أن يكون ؛ يختار ما يبقى على ما يفنى ؛ فرب شهوة ساعة أورثت حزناً ، ورب صبر ساعة أورثت نعيماً جزيلاً. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 274
قلت : (ليسجننه) : مفسر للفاعل ، أي : ظهر له سجنه ؛ إذ الجملة لا تكون فاعلاً على المشهور ، وجوزه بعضهم مستدلاً بالآية. وقيل : محذوف ، أي : بدا لهم رأي ليسجننه. وقال الإمام القصار ، الفاعل هو القسم المفهوم من اللام الموطئة له ، أي : بدا لهم قسمهم ليسجننه.
(3/381)
يقول الحق جل جلاله : {ثم بَدَا لهم} أي : ظهر للعزيز وأهله ، {من بعد ما رأوا الآيات} الدالة على براءة يوسف ؛ كشهادة الصبي ، وقَدّ القميص ، وقطع الأيدي ، واستعصامه منهن ، فظهر لهم سجنه. وأقسموا {ليَسجُننَّهُ حتى حين} حتى يظهر ما يكون منه ؛ ليظن الناس أنها مُحِقة فيما ادعت عليه. فخدعت زوجها حتى وافقها على سجنه. ورُوي أنه لما أدخل السجن ندَمت زليخاً على سجنه ، وعيل صبرها على فراقه ، فأرسلت إلى السجان ليطلقه ، فأبى ، فلبث فيه سبع سنين.
{ودخلَ معه السجنَ فتيان} أي : فسجنوه واتفق أنه دخل معه في ذلك اليوم رجلان
277
آخران ، من عبيد الملك : ساقيه وخبازه ، اتُهِمَا أنهما أرادا أن يَسُمَّاه ، {قال أحدهما} وهو الساقي : {إني أراني} في المنام {أعصِرُ خمراً} أي : عنباً. وسماه خمراً : باعتبار ما يؤول إليه. رُوي أنه قال : رأيت كأن الملك دعاني وردني إلى قصره ، فبينما أنا أدور في القصر ، وإذا بثلاثة عناقيد من العنب ، فعصرتها ، وحملت ذلك إلى الملك لأسقيه له.
{وقال الآخرُ} وهو الخباز : {إني أراني أحمل فوق راسي خبزاً تاكلُ} : تنهش {الطيرُ منه} ، قال : رأيت كأن العزيز دعاني ، وأخرجني من السجن ، ودفع لي طيفورة عليها خبز ، فوضعتها على رأسي ، والطير تأكل منه. {نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين} ؛ من الذين يحسنون تأويل الرؤيا. وإنما قالا له ذلك ؛ لأنهما رأياه في السجن يعظ الناس ويعبر رؤياهم ، أو من المحسنين إلى أهل السجن ، كان عليه السلام ، إذا رأى محتاجاً طلب له ، وإذا رأى مضيقاً وسع ليه ؛ فقالا له : فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 277
(3/382)
قال لا يأتيكما طعامُ تُرزِقَانِه} في النوم ، {إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكُما} تأويله في الدنيا. أو : لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة ؛ لتأكلاه إلا أخبرتكما به ، ما هو ؟ وما لونه ؟ وما صفته ؟ وكم هو ؟ قبل أن يأتيكما ، إخباراً بالغيب ، فيأتيهما كذلك ؛ معجزة. وصَفَ نفسَه بكثرة العلم والمكاشفة ؛ ليكون وسيلة إلى دعائهما إلى التوحيد.
ثم قال لهما : {ذلكما مما علمني ربي} بالوحي والإلهام. وليس ذلك من قبيل التكهن أو التنجيم. رُوي أنهما قالا له : من أين لك هذا العلم ، وأنت لست بكاهن ولا منجم ؟ فقال لهما : {ذلكما مما علمني ربي إني تركتُ مِلّةََ} ؛ طريقة {قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون} أي : علمني ذلك لأني تركت ملة أهلِ الكفر ، {واتبعتُ ملة آبائي إبراهيمَ وإسحاق ويعقوبَ} ، وإنما قال ذلك ؛ تمهيداً للدعوة ، وإظهاراً أنه من بيت النبوة ؛ لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه ، والوثوق به. {ماكان لنا} : ما صح لنا معشر الأنبياء {أن نُشرك بالله من شيء} أيّ شرك كان ، {ذلك} التوحيد {من فضل الله علينا} بالوحي {وعلى الناس} ببعثنا إليهم ، وإرشادنا إياهم وتثبيتهم عليه ، {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} هذا الفضل ؛ فيُعرضون عنه. أو من فضل الله علينا بالوحي والإلهام ، وعلى الناس بنصب الدلائل وإنزال الآيات. ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ، ولا يستدلون بها ، فيوحدون خالقها ، فهم كمن كفر النعمة ولم يشكرها.
الإشارة : جرت عادة الحق ـ تعالى ـ في خلقه أنه لا يأتي الامتكان إلا بعد الامتحان ، ولا يأتي السلوان إلا بعد الأشجان ، ولا يأتي العز إلا بعد الذل ، ولا يأتي الوجد إلا بعد الفقد. فبقدر ما يضيق على البشرية تتسع ميادين الروحانية ، وبقدر ما تسجن النفس وتحبس عن هواها ، تتسع الروح في مشاهدة مولاها.
278
(3/383)
وقوله تعالى : {ودخل معه السجن فتيان} : إشارة إلى أن امتحانه بالسجن كان لتكميل حقيقته وشريعته ، فمن رأى أنه يحمل الطعام فإشارة إلى حمل لواء الشريعة ، ومن رأى أنه يعصر خمراً فإشارة إلى تحقيق خمرة الحقيقة ، فيكون من أهل مقام الإحسان ، ولذلك قال : {إنا نراك من المحسنين} ، ثم ذكر نتيجة مقام الإحسان ـ هو التوحيد الخاص ـ فقال : {ما كان لنا ان بشرك بالله من شيء}. وذكر أن ذلك ناله من باب الكرم لا من باب العمل ، فقال : {ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس}. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 277
قلت : الإضافة في (صاحبي السجن) : على معنى (في) ؛ كقولك :
يا سَارِقَ الليْلَةَ أَهْل الدَّارِ
(3/384)
يقول الحق جل جلاله : {يا صاحبَي السجن} أي : ساكنيه ، أو يا صاحبي فيه ؛ {أأرباب متفرقون} : متعددون ، {خيرٌ أم اللهُ الواحدُ} المتوحّد في الألوهية ، {القهّار} : الغالب على أمره ، لا يقاومه غيره ، {ما تعبدون} أنتم ومن على دينكم من أهل مصر ، {من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} أي : ما تعبدون إلا مسميات أسماء من الحجارة ، والخشب ، سميتموها آلهة من غير حجة تدل على استحقاقها للعبادة. والمعنى : سميتم آلهة ما لا يستحق الألوهية ، ثم عبدتموها. {ما أنزل اللهُ بها} أي : بعبادتها {من سلطانٍ} : من حجة ولا برهان. {إن الحُكمُ} في أمر العبادة {إلا لله} ؛ لأنه المستحق لها دون غيره ، من حيث أنه الواجب لذاته ، الموجد للكل ، هو المالك لأمره ، {أمَر} على لسان أنبيائه {ألا تعبدوا إلا إياه} ولا تعبدوا معه سواه {ذلك الدين القيم} القويم الذي لا عوج فيه ، {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} دلائل توحيده ، فيتخبطون في جهالتهم. قال البيضاوي : وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة ، بَيّن لهم أولاً : رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة ، ثم برهن على أن ما يُسمونها آلهة ، ويعبدونها لا تستحق الألوهية ، ثم دل على ما هو الحق القويم ، والدين المستقيم ، الذي لا يقتضي العقل غيره ، ولا يرتضي العلم دونه. هـ.
الإشارة : كل من لم يجمع قلبه على مولاه ، واتبع حظوظه وهواه ، فله أرباب متفرقون بقدر ما يميل إليه قلبُه من هذا العرض الفاني. قال ابن عطية : وقد ابتلي بأرباب
279
متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ، ويؤملهم. هـ. وفي الحديث : " خَابَ مَن رَجَى غير الله وضَلَّ سَعيُه ، وطَابَ وقَتُ مَن وَثَقَ بِاللِّهِ " ولله در القائل :
حَرامٌ على مَنْ وَحّدَ الله رَبّهُ
وَأَفرَدَهُ أن يَجتَدي أَحَدَاً رَفدا
جزء : 3 رقم الصفحة : 279
فَيَا صَاحِبي قِف بي عَلى الحقِّ وقفَةً
مُوتُ بَها وَجداً وأَحيَا بِها وَجداً
(3/385)
وَخَلِّ مُلوك الأرضِ تَجهَد جُهدَهَا
فّذا المُلكُ مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدَى
جزء : 3 رقم الصفحة : 279
قلت : (منهما) : يتعلق بظن ، والظن يحتمل أن يكون بمعنى اليقين ؛ لأن قوله : (قضي الأمر) يقتضي ذلك ، أو يبقى على بابه.
يقول الحق جل جلاله : قال يوسف : {يا صاحِبَي السجن} المستفتيان عن الرؤيا ، {أما أحدُكُما} وهو الساقي ، {فيسْقي ربه خمراً} كما كان يسقيه قبلُ ، ويعود إلى ما كان عليه ، {وأما الآخرُ فيُصلبُ فتأكلُ الطيرمن رأسه} ، فقالا : كَذَبْنا ما رأينا شيئاً ، فقال : {قُضِيَ الأمرُ الذي فيه تستفتيان} ، سبق به القضاءُ في الأزل ، وهو ما يؤول إليه أمركما ، ولذلك وحده ولم يقل : قضي أمراكما. رُوي أنه لما دعاهما إلى التوحيد أسلم الساقي وأبى الخباز ، فأخرج بعد ثلاث وصُلب.
{وقال للذي ظنَّ أنه ناج منهما} يوسف ، أي : تيقن ، أو غلب على ظنه أنه ناجٍ منهما ، إما عن وحي ، على الأول ، أو باجتهاد بسبب الرؤيا : {اذكُرني عند ربك} ؛ عند سيدك ، وهو المَلِك ، وقل له : غلامٌ سُجنَ ظُلماً ، لعله يُخلصني. قال ابن عطية : يحتمل أن يذكره بعلمه ومكانته ، ويحتمل أن يذكره بمظلمته ، وما امتحن به بغير حق. أو يذكره بهما. هـ. وقال الورتجبي : يحتمل أن قوله : {اذكرني عند ربك} : عَرَّف له طريقتي مع الله حتى يعرفني أني رسول الله ، ويطيعني في طاعة الله ، وينجو بذلك من عذابه ، ويصل إلى ثوابه ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وليوحد الله تعالى ، ويتخلص من كيد الشيطان ، وما معه من الإنسان. هـ.
{فأنسَاهُ الشيطانُ ذكرَ ربه} أي : فأنسى الساقي أن يذكر يوسف لربه. أو أنسي يوسفَ ذكرَ الله حتى استغاث بغير ، فأدبه ، {فلبثَ في السجن} ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :
280
(3/386)
" رَحِمَ الله أخِي يُوسُف ، لَوْ لَمْ يَقُل : اذْكرْنِي عند رَبِّك ، لَمَا لَبِثَ في السِّجنِ سَبْعاً بَعدَ الخَمسِ ". روي أن جبريل عليه السلام أتاه بعد المقالة ، فقال له : مَن أخرجك من الجُبِّ ، وخلِّصك من القتل ، وعَصَمَكَ من الفاحشة ؟ فقال : الله. فقال : كيف تعتصم بغيره ، وتثق بالمخلوق ، وترفع قصتك إليه ، وتترك ربك ؟ ! قال : يا جبريل ؛ كلمات جرت على لساني ، وأنا تائب لا أعود لمثلها. هـ. والاستعانة بالمخلوق ، وإن كانت جائزة شرعاً ، لكنها لا تليق بمقام الأقوياء. {فلبث في السجن بضْعَ سنين} البضع : من الثلاث إلى التسع. ؟ رُوي أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين أولاً ، ثم سجن بعد المقالة سبع سنين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
الإشارة : النسيان والغفلة التي لا تثبت في القلب ، والخواطر التي ترد وتذهب من أوصف البشرية التي لا تنافي الخصوصية ، إذ لا انفكاك للعبد عنها. قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف : 201] فالطيف لا ينجو منه أحد ؛ لأنه من جملة أوصاف العبودية التي بها تعرف كمالات الربوبية. وقد قال تعالى في حق سيد العارفين : {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف : 200] ؛ فالعصمة التي تجب للأنبياء إنما هي مما يوجب نقصاً أن غضاً من مرتبتهم. وهذه الأمور إنما توجب كمالاً ؛ لأنها بها يتحقق كمال العبودية التي هي شرف العبد. فافهم وسلم ، ولا تنتقد ، فإن هذه الأمور لا يفهمها إلا العارفون بالله ، دون غيرهم من أهل العلم الظاهر.
(3/387)
وقال الورتجبي : إن يوسف عليه السلام لم يعلم وقت إيمان الملك ، ولم يأت وقت دخوله في الإسلام ، فأنساه الشيطان ذكر ربه ، في سابق حكمه ، على تقدير وقت إيمان الملك ، فلبث في السجن إلى وقت إيمان الملك ، فنسيان يوسف : احتجابه عن النظر إلى قدره السابق. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
281
قلت : يقال : عَبرت الرؤيا ـ بالتخفيف ـ عبارة ، وهو أفصح من عبَّرت ـ بالتشديد ـ تعبيراً. واللام للبيان ، أو لتقوية العامل ؛ لضعف الفعل بتأخيره عن مفعوله. والأصل : تعبرون الرؤيا. وأصل (ادكر) اذتكر ، فقلبت التاء دالاً مهملة ، وأدغمت المعجمة فيها فبقيت دالاً. وإليه أشار ابن مالك بقوله :
في ادَّانَ وازْدَادْ وادَّكِرْ دالاً بَقِي
و(دأباً) حال ، أي : دائبين ، أو مصدر بإضمار فعله ، أي : تدأبون دأباً. وفيه لغتان : السكون ، والفتح.
يقول الحق جل جلاله : {وقال الملِكُ} ؛ وهو ملك مصر الذي كان العزيز وزيراً له ، واسمه : " ريان بن الوليد ". وقيل : " مصعب بن الريان " ، وكان من الفراعنة ـ رُوي أن يوسف عليه السلام لما لبث في السجن سْبع سنين سجد ، وقال : إلهي ، خلصني من السجن ، فكلما دعا يوسف أمنت الملائكة ، فاتفق في الليلة التي دعا فيها يوسف أن رأى الملكُ تلك الرؤيا التي ذكرها بقوله : {إني أرى} في المنام {سبعَ بقراتٍ سمَانٍ} خرجن من نهر يابس ، وسبع بقرات عجاف ـ مهازيل ـ خرجن بأثرهن فابتلعت المهازيلُ السمان ، {وسبعَ سنبلات خُضْرٍ} قد انعقد حَبُّها ، {و} سبعاً ، {أخر يابسات} قد أدركت ، فالْتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها. فلما رأى ذلك انتبه مرعوباً ، وجمع ندماءه ، ودعا المفسرين ، فقال : {يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي} ؛ اعبروها ، {إن كنتم للرؤيا تعْبُرون} أي : إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 281
(3/388)
قالوا} : هذه {أضغاثُ أحلام} ؛ تخاليطها ، جمع ضَغث ، وأصله : ما جمع من أخلاط النبات وحُزم ، فاستعير للرؤيا الكاذبة. وإنما جمعوا {أحلام} ؛ للمبالغة في وصف الحلم بالكذب. ثم قالوا : {ومن نحن بتأويل الأحلام بعالمين} ، والمعنى : ليس لها تأويل عندنا ؛ لأنها أكاذيب الشيطان ، وإنما التأويل للمنامات الصادقة.
{وقال الذي نجا منهما} من صاحبي السجن ، وهو الساقي ، وكان حاضراً ، {وادَّكرَ بعد أُمة} أي : وتذكر بعد جماعة من السنين ، وهي سبع سنين ، {أنا أُنبئكم بتأويله فأرسلون} إلى من عنده علمها ، أو إلى السجن. رُوي أنه لما سمع مقالة الملك بكى ، فقال الملك : ما لك تبكي ؟ قال : أيها الملك ؛ إن رؤياك هذه لا يعبرها إلا الغلام العبراني الذي في السجن ، فتغير وجه الملك ، وقال : إني نسيته ، وما ذكرته منذ سبع سنين ، ما خطر لي ببال. فقال الساقي : وأنا مثلك ، فقال لهم الملك : وما يدريك أنه يعبر الرؤيا ؟ فحدثه بأمره ، وأمر الساقي فقال له : امض إليه وسله ، فقال : إني والله أستحي منه ؛ لأنه أوصاني ونسيت ، فقال له : لا تستح منه ؛ لأنه يرى الخير والشر من مولاه فلا يلومك. فأتاه.
282
فقال : {يوسفُ} أي : يا يوسف ، {أيها الصّدّيق} : المبالغ في الصدق. وإنما وصفه بالصِّدِّيقية لما جرب من أحواله ، وما رأى من مناقبه ، مع ما سمع من تعبير رؤياه ورؤيا صاحبه ، {افْتِنَا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات} أي : أفتني في رؤيا ذلك واعبرها لي ، {لعلي أرجعُ إلى الناس} أي : أعودُ إلى الملك ومن عنده ، أو إلى أهل البلد ؛ إذ قيل : إن السجن كان خارجاً البلد. {لعلهم يعلمون} تأويلها. أو يعلمون فضلك ومكانتك. وإنما لم يجزم بعلمهم ؛ لأنه ربما اختُرِم دونه ، أو لعلهم لا يفهمون ما يقول لهم.
(3/389)
{قال} في تعبيرها : {تزرعون سبعَ سنينَ دأباً} أي : على عادتكم المستمرة من الخصب والرخاء. {فما حصدتُّم فَذَرُوهُ} : اتركوه {في سُنْبُله} ؛ لئلا تأكله السوس ، وهي نصيحة خارجة عن عبارة الرؤيا ، {إلا قليلاً مما تأكلون} في تلك السنين ، أي : لا تدرسوا منه إلا ما تحتاجون إلى أكله خاصة ، وذلك أن أرض مصر لا يبقى فيها الطعام عامين. فعلمهم حيلة يبقى بها السنين المخصبة إلى السنين المجدبة ، وهو أن يتركوه في سنبله غير مُدرَس ؛ فإن الحبة إذا بقيت في غشائها حُفظت بإذن الله.
{ثم يأتي من بعد ذلك سبع شِدَادٌ} أي : ذات شدة وجوع {يأكُلْنَ ما قدمتم لهن} أي : يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن. أسند الأكل إلى السنين مجازاً ؛ تَطْبِيقاً بين المعبر والمعبر به ، {إلا قليلاً مما تحصنون} أي : مما تخزنون وتخبئُون للزراعة والبذر. {ثم يأتي من بعد ذلك عام يُغاث الناس} أي : يغيثهم الله بالفرج من القحط ، أو يغاث بالمطر ، لكن مصر إنما تسقى من النيل. {وفيه} أيضاً {يَعْصِرُون} العنب والزيتون ؛ لكثرة الثمار. أو يعصرون الضروع لحلب اللبن ؛ لأجل الخصب. وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أوَّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة. والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة. ولعله علم ما في السنة الثامنة من الخصب والرخاء بالوحي ، أو بأن انتهاء الجدب لا يكون إلا بالخصب ، وبأن سنة الله الجاربة أن يوسع على عباده بعد ما ضَيّق علهيم ، لقوله : {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح : 5]. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 281
(3/390)
الإشارة : الروح في أصل نشأتها علامة داركَةٌ ، تكاشف بالأمور قبل وقوعها ، إذا غابت عن إحساسها الذي حجبها عن ذلك العلم ، ولو كانت من كافر إذا غاب عن حسها بنوم ، أو اصطلام ، عقل. فمن طهرها من دنس الشرك بالتوحيد ، وغيبها عن شواغل الحس بالتفرغ والتجريد ، رجعت إلى أصلها ، وفاضت عليها العلوم التي كانت لها قبل التركيب في القالب الحسي ، علماً وكشفاً. ولا شيء أنفع لها في الرجوع من السهر والجوع. وفي أسرار كثيرة حسية ، ومعنوية ، وبسببه جمع الله شمل يوسف بأبيه
283
وإخوته. وبه أيضاً ملَّك اللَّهُ يوسف ونصره ومكنه في الأرض حتى ملك مصر وأهلها. ولذلك قال نبينا ـ عليه الصلاة والسلام - : " اللهم إعِنِّي عَلَيهم ـ أي على قريش ـ بِسبعٍ كَسَبع يُوسفَ " وذكر الغزالي في الإحياء ، في أسرار الجوع ، أربعين خصلة. وفي بعض الأثر : (أن الله تعالى عذب النفس بأنواع من العذاب ، ومع كل عذاب يقول لها : من أنا ؟ فتقول هي : ومن أنا ؟ حتى عذبها بالجوع ، فقالت : أنت ربي سبحانك الواحد القهار). والممدوح منه ؛ هو المتوسط دون إفراط ولا تفريط ، كما قال البوصيري.
وَاخْشَ الدَّسَائِسَ مِنْ جُوع ومِنْ شِبعٍ
فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ
وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 281
(3/391)
يقول الحق جل جلاله : ولما جاء الرسول من عند يوسف بالتعبير ، وسمعه الملك ، تعجب منه ، واستعظم علمه وعقله ، وقال : لا ينبغي لمثل هذا أن يُسجن ، {ائتوني به فلما جاءه الرسولُ} ليُخرجه ، {قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهن} : ما شأنهن حتى قطعن أيديهن ، وهل رأين مني ميلاُ إليهن. وإنما تأنى في الخروج ، وقدَّم سؤال النسوة ، والفحص عن حاله ؛ ليظهر براءة ساحته ، وليعلم الملك أنه سُجن ظلماً ، فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يتقي مواضع التهم ، ويجتهد ، في نفيها ، وفي الحديث : " مَنْ كََان يُؤمِنُ بِالله ِواليومِ االآخِر
284
ِفلا يَقِفَنَّ مَواقِفَ التُّهَم ". وفيه دليل على حلمه وصبره ، وعدم اهتباله بضيق السجن ؛ إذ لم يُجب الداعي ساعة دُعي بعد طول سجنه. ومن هذا المعنى تواضع معه نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال " لَو لَبِثت في السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي " ولم يذكر امرأة العزيز كرماً ، ومراعاةً للأدب ، ورعياً لذمام زوجها ، وستراً لها. بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 284
(3/392)
ثم قال : {إن ربي بكيدهن عليم} حين قلن لِي : أطع مولاتك. وفي عبارته تعظيم لكيدهن ، والاسشهاد عليه بعلم الله ، وبراءته مما قذف به ، والوعيد لهن على كيدهن. ثم جمع الملك النسوة ، وكُن ستاً أو سبعاً ، مات منهن ثلاث ويوسف في السجن ، وبقي أربع ومعهن امرأة العزيز ، و {قال} لهن : {ما خطبكُنَّ} ؛ ما شأنكن {إذ راودتُنَّ} أي : حين راودتن {يوسفَ عن نفسه} ، وأسند المراودة إلى جميعهن ؛ لأن المَلِك لم يتحقق أن امرأة العزيز هي التي راودته وحدها. {قلنَ حاشَ لله} ؛ تنزيهاً لله أن يعجز عن خلق عفيف مثله ، أو تنزيهاً ليوسف أن يعصيه ؛ لأجل خوف الله. وهذا تبرئة ليوسف ولهن ، أو لهن فقط. وتكون تبرئة يوسف في قولهن : {ما علمنا عليه من سُوءٍ} : من ذنب.
{قالت امرأةُ العزيز الآن حَصْحَصَ الحق} : أي : تبين ووضح ، أو ثبت واستقر ، {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} في قوله : {راودتني عن نفسي} فلما رجع إليه الرسول ، وذكر ما قالته النسوة ، وما أقرت به امرأة العزيز ، قال : {ذلك ليعلم أني لم أخُنْهُ بالغيب} أي : فعلت ذلك التثبت والتأني في الخروج ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته {بالغيب} في حال غيبته ، أو بظهر الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة ، بل تعففت عنها. {وأن الله لا يهدي كيدَ الخائنين} أي : لا ينفذه ولا يسدده. أو لا يهدي الخائنين ليكدهم. وأوقع الفعل على الكيد ؛ مبالغةً. وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها زوجها ، وتوكيد لأمانته. رُوي عن ابن عباس أنه لما قال : {لم أخُنْهُ بالغيب} قال جبريل عليه السلام : ولا حين هممت. فقال : {وما أُبرئُ نفسي} لا أنزهها في عموم الأحوال ، أو لا أزكيها على الدوام. قاله تواضعاً وإظهاراً للعبودية ؛ وتنبيهاً على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه ، ولا العجب بحاله ، بل إظهاراً لنعمة العصمة والتوفيق.
(3/393)
ثم قال : {إنَّ النفسَ لأمارةٌ بالسوء} بحيث إنها مائلة بالطبع إلى الشهوات ، فتهُم بها ، وتستعمل القوى والجوارح في نيلها في كل الأوقات ، {إلا ما رحم ربي} : إلا وقت
285
رحمة ربي بالعصمة والحفظ ، أو : إلا ما رحم الله من النفوس فيعصمها من ذلك. وقيل : الاستثناء منقطع ، أي : لكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة ، {إن ربي غفور رحيم} ، يغفرما همت به النفوس ، ويرحم من يشاء بالعصمة. أو يغفر للمستغفر ذنبه المعترف على نفسه ، ويرحمه بالتقريب بعد تعرضه للإبعاد.
وقيل : إن قوله تعالى : {ذلك ليعلم أني لم أخُنْه بالغيب} إلى هنا ، هو من كلام زليخا. والأول أرجح.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 284
وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي} أي : أجعله خاصتي وخلاصتي ، أو أجعله خالصاً لنفسي. قال أولاً : {ائتوني به} فقط ، فلما تبين له حاله وظهر كماله ، قال : {ائتوني به أستخلصه لنفسي} رُوي أنه لما أراد ان يخرجه أرسل إليه بخلعة يأني فيها ، وكان بين السجن والبلد : أربعة فراسخ ، فقال يوسمف : لا أخرج من السجن حتى لا يبقى فيه أحد ، فأمر الملك بخروج جميع مَن فيه. فلما خرج من السجن اغتسل وتنظف ، ولبس ثياباً جدداً ، فلما دخل على الملك ، قال : اللهم إني أسألك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره. ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية ، فقال : ما هذا اللسان ؟ . فقال : لسان آبائي. وكان الملك يعرف سبعين لساناً ، فكلمه بها ، فأجابه بجميعها ، فتعجب منه ، فقال : أحب أن أسمع رؤياي ، فحكاها ، ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها فأجلسه على السرير ، وفوض إليه أمره. وهذا معنى قوله تعالى : {فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} أي : فلما أتوا به وكلمه وشاهد منه الرشد والدعاء ، {قال إنك اليوم} عندنا {مكينٌ} أي : في مكانه ومنزلة ، {أمين} : مؤتمن على كل شيء ، ثم فوض إليه أمر المملكة.
(3/394)
وقيل : توفي قطفير ـ أي : العزيز ـ فنَصَّبه منصبه ، وزوجه من زليخا بعد أن شاخت ، وافتقرت ، فدعا الله تعالى فرد عليها جمالها وشبابها ، فوجدها عذراء وولد منها إفراثيم وميشا. ثم قال له الملك : ما ترى نصنع في هذه السنين المخصبة ؟ . {قال اجعلني على خزائنِ الأرض} أي : أرض مصر ألى أمرها. والخزائن : كل ما يخزن فيه طعام ومال وغيرهما. {إني حفيظٌ} لها ممن لا يستحقها ، {عليم} بوجوه التصرف فيها. قال البيضاوي : ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة ، آثر ما تعم فوائده وعوائده ، وفيه دليل على جواز طلب التولية ، وإظهار أنه مستعد لها ، والتولي من يد الكافر ، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به. وعن مجاهد : ان الملك أسلم على يديه. هـ. قلت : وقد تقدم عن الورتجبي ما يدل عليه.
وقال ابن عطية : وطلب يوسف للعمل إنما هو حسبة منه عليه السلام ؛ لرغبته أن
286
يقع العدل ، ونحو هذا هو دخول أبي بكر رضي الله عنه في الخلافة ، مع نهيه المستشيرَ له من الأنصار عن أن يتأمَّر على اثنين. فجائز للفاضل أن يعمل ويطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه.هـ. وفي " الاكتفاء في أخبار الخلفاء " : أن عمر أراد أبا هريرة على العمل ، فامتنع ، فقال له : أوليس يوسف خيراً منك ، وقد طلب العمل ؟ فقال : يوسف نبي ابن نبي ، وأنا ابن أميمَةَ ، فأنا أخاف ثلاثاً واثنين : أن أقول بغير علم ، وأقضي بغير عدل ، وأن يضرب ظهري ، ويشتم عرضي ، ويؤخذ مالي. هـ.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 284
(3/395)
وكذلك مَكَّنَا ليوسف} أي : ومثل ذلك الصنع الجميل الذي صنعنا بيوسف مكناه {في الأرض} ؛ أرض مصر ، {يتبوأ منها حيثُ يشاءُ} : ينزل من بلادها حيث يريد هو ، أو ينزل منها حيث نريد ، {نُصيب برحمتنا من نشاء} في الدنيا والآخرة ، {ولا نُضيع أجر المحسنين} ، بل نوفي أجورهم عاجلاً وآجلاً. ويوسف أفضلهم في زمانه ، فمكَّنه الله من أرض مصر ، حتى ملكها بأجمعها ؛ وذلك أنه لما فوض إليه الملك اجتهد في جمع الطعام وتكثير الزراعات ، حتى دخلت السنون المجدبة ، وعم القحط مصر والشام ، ونواحيهما ، وتوجه الناس إليه ، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق لهم منها شيء ، ثم في السنة الثانية بالحلي والحلل ، ثم في السنة الثالثة بأمتعة البيوت ، هم في الرابعة بالدواب ، ثم في الخامسة بالرباع والعقار ، ثم في السادسة بأولادهم ، ثم في السابعة برقابهم حتى استرقهم جيمعاً ، ثم عرض الأمر على الملك ، فقال : الرأي رأيك. فأعتقهم ورد إليهم أموالهم.
قال تعالى : {ولأجرُ الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} الشرك والفواحش ، فهو أحق بالرغبة وأولى بالطلبة. وقال ابن جزي في قوله : {نُصيب برحمتنا من نشاء} : الرحمة هنا المراد بها الدنيا ، وكذلك الأجر في قوله : {ولا نُضيع أجر المحسنين} ؛ بدليل قوله بعد ذلك : {ولأجرُ الآخرة خير} فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر ، وطائع وعاص ، وأن المحسنين لا بد من أجرهم في الدنيا. فالأول في المشيئة ، والثاني واقع لا محالة. ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله {للذين آمنوا وكانوا يتقون} ، وفيه إشارة إلى أن يوسف عليه السلام جمع الله له بين الدنيا والآخرة. هـ.
(3/396)
الإشارة : في الآية ثلاث فوائد : الأولى : مدح التأني في الأمور ، ولو كانت جلالية ؛ لأنه يدل على كمال العقل والرزانة ، وطمأنينة القلب. وذم العجلة ؛ لأنها من خفة العقل والطيش ، وعدم الصبر والاحتمال. يؤخذ ذلك من تأني يوسف عليه السلام في السجن بعد طول مدته. وفي الحديث " التَأَنِّي مِن اللَّهِ ، والعَجَلَةُ من الشَّيطَانِ ".
287
الثانية : عدم تزكية النفس ، ودوام اتهامها ، ولو بلغت من التصفية ما بلغت. وقد تقدم في قوله تعالى : {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} [الأنعام : 70] ، وقال بعض الصوفية : وكيف يصلح لعاقل أن يزكي نفسه والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يقول : {إنا النفس لأمارة بالسوء} ، والنفوس ثلاثة : أمارة ، ولوامة ، ومطمئنة. وزاد بعضهم : اللهامة من قوله تعالى : {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس : 8]..
جزء : 3 رقم الصفحة : 284
الثالثة : تسلية أهل البلاء ، إذا صحبهم الإحسان والتقوى ، وبشارتهم بالعز بعد الذل ، والغنى بعد الفقر ، والنصر والتمكين في الأرض بعد الاستضعاف والهوان ، يؤخذ ذلك من قوله : {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين}. وفي ذلك يقول الشاعر :
وكُلُّ عَبْدٍ أَرَادَ الله عِزَّتَه
فَهُو َالعَزِيزُ ، وعزُّ اللهِ يغْشَاه
قََدْ لاَحَ عِزُّ لَه في الأرْضِ مُنْتَشِرٌ
فَهُو الحَبِيبُ لِمَنْ نَادَاهُ لبّاهُ
يا حُسْنَهُ ومَتى قَد طَالَ مَطْلَبُه
تَاجُ البرية والرحمنُ صَفَّاهُ
جزء : 3 رقم الصفحة : 284
(3/397)
يقول الحق جل جلاله : {وجاء إخوة يوسف} إلى مصر للميرة ، {فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون} ، إنما أنكروه ؛ لبعد العهد ولتغير سنه ، ولأنهم فارقوه في سن الحداثة ، ولتوهمهم أنه هللك ، أو لقلة تأملهم في حاله ؛ لشدة هيبتهم إياه ، أو لأنه كان مُلثّماً. رُوي أنهم دخلوا عليه في قصر مُلكه وهو في هيئة عظيمة من الملك ، والتاج على رأسه ، فقال لهم بعد أن عرفهم : من أنتم ، وما أمركم ، وما جاء بك إلى بلادي ، ولعلكم عيون ؟ فقالوا : معاذ الله ، نحن بنو أب واحد ، وهو شيخ صدِّيق ، نبي من الأنبياء ، اسمه يعقوب. قال : كم أنتم. قالوا : كنا اثني عشر ، فذهب أحدنا إلى البرية ، فهلك. فقال : فكم أنتم ها هنا ؟ قالوا : عشرة. قال : فأين الحادي عشر ؟ قالوا : عند أبيه يتسلّى به عن الهالك ، قال : فمن يشهد لكم ؟ قالوا : لا يعرفنا ها هنا من يشهد لنا. قال : فَدَعوا عندي بعضكم رهينة ، وائتوني بأخ لكم من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا ؛ فأصابت شمعون.
288
وهذا معنى قوله : {ولما جَهَّزَهُم بجَهَازهم} أعطاهم ما اشتروا منه الطعام ، وأوقر ركابهم ؛ {قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم} وهو : بنيامين ـ بكسر الباء ـ على وزن إسرائيل ، قاله في القاموس. وقيل : كان يوسف عليه السلام يعطي لكل نفس حملاً ، ولا يزيد عليه ، فسألوه حِملاً زائداً لأخيهم من أبيهم ؛ فأعطاهم ، وشرط عليهم أن يأتوا به ؛ ليعلم صدقهم. ثم قال لهم : {ألا ترَوْنَ أني أُوفي الكيلَ وأنا خيرُ المنزِلين} للأضيافِ. قال لهم ذلك ؛ ترغيباً في رجوعهم ، وقد كان أحسن ضيافتهم غاية الإحسان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 288
(3/398)
رُوي أنه عليه السلام نادى صاحب المائدة ، وقال له : لا تنزل هؤلاء بدار الغرباء ، ولا بدار الأضياف ، ولكن أدخلهم داري ، وانصب لهم مائدة كما تنصبها لي ، واحفظهم وأكرمهم. فسأله عنهم ، فلم يجب ، فبسط لهم الفرش والوسائد ، فلما جن الليل أمر أن توضع بين أيديهم الموائد ، والشماع ، والمجامر ، وهم ينظرون من كوة إلى دار الأضياف ، وقد بلغ بهم الجهد ، فكانوا يعطونهم قرصة شعير لكل أحد من الغرباء ، وهم يرون ما بين أيديهم من الإكرام والطعام ، وقد بلغ الحمل من الطعام ألفاً ومائتي دينار. فقال بعضهم لبعض : إن هذا المَلك أكرمنا بكرامة ما أكرم بها أحداً من الغرباء! فقال شمعون : لعل الملك سمع بذكر آبائنا فأكرمنا لأجلهم. وقال آخر : لعله أكرم فقرنا وفاقتنا. ويوسف عليه السلام ينظر إليهم من كوة ويسمع كلامهم ، ويبكي. ثم قال لولده ميشا : اشدد وسطك بالمنطقة واخدم هؤلاء القوم ، فقال له : من هم با أبت ؟ فقال : هم أعمامك يا بني ، قال : يا أبت هؤلاء الذين باعوك ؟ قال : نعم ، باعوني حتى صرت مَلك مصر ، ما تقول يا بني ، أحسَنُوا أو أساؤوا ؟ قال : بل أحسَنوا فما أقول لهم ؟ قال : لا تكلمهم ، ولا تُفش لهم سراً حتى يأذن الله بذلك ، فبقوا في الضيافة ثلاثاً أو أكثر ، ثم جهزهم ، وأرسلهم ، وشرط عليم أن يأتوا بأخيه بنيامين. قال لهم : {فإن لم تأتوني به فلا كيلَ لكم عندي ولا تقربون}. أي : لا تدخلوا دياري ولا تقربوا ساحتي ، {قالوا سَنُراود عنه أباه} أي : سنجهد في طلبه منه ، {وإنا لفاعلون} ذلك ، لا نتوانى فيه ، {وقال لفتيته} ؛ لغلمانه الكيالين ، وقرأ الأخوان وحفص : {لفتيانه} ، بجمع الكثرة : {اجعلوابضاعتَهم} أي : ثمنهم الذي اشتروا به ، {في رحالهم} ؛ في أوعيتهم. فامر أن يجعل بضاعة كل واحد في رحله ، وكانت نعالاً وأدَمَا. وإنما فعل ذلك يوسف تكرماً وتفضلاً عليهم ، وترفقاً أن يأخذ ثمن الطعام منهم ، وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به إليه.
(3/399)
{لعلهم يعرفُونها} أي : لعلهم يعرفون هذه اليد والكرامة في رد البضاعة إليهم ، فيرجعون إلينا. فليس الضمير للبضاعة ؛ لأن ميز البضاعة لا يعبر عنه بلعل ، وإنما المعنى : لعلهم يعرفون لها يداً وتكرمة ويرون حقها {إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يَرْجِعُون} ، أي :
289
لعل معرفتهم بهذه الكرامة تدعوهم إلى الرجوع. وقصد بذلك استمالتهم والإحسان إليهم. أو : لعلهم يعرفون البضاعة ، ولا يستحلون متاعنا فيرجعون به إلينا ، وضعف هذا ابن عطية : فقال : وقيل : قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن. وهذا ضعيف من وجوه. ثم قال : ولسرورهم بالضاعة ، وقولهم : {هذه بضاعتُنا رُدَّتْ إلينا} ، يكشف أن يوسف لم يقصد هذا ، وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم كما تقدم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 288
الإشارة : قوله : {فعرفهم وهم له منكرون} ، كذلك أهل الخصوصية من أهل مقام الإحسان ، يعرفون مقامات أهل الإيمان ومراتبهم ، وأهل مقام الإيمان ينكرونهم ولا يعرفون مقامهم ، كما قال القائل :
تَرَكْنَا البُحُورَ الزَّجِرَاتِ وَرَاءنَا
فَمِنْ أَينَ يَدْرِِي النَّاسُ أين تَوَجَّهْنَا
فكلما علا بالولي المقام خفي عن الأنام ، ولا يعرف مراتب الرجال إلا من دخل معهم ، وشرب مشربهم ، وإلا فهو جاهل بهم. وقوله تعالى : {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي} : كذلك الحق ـ جل جلاله ـ يقول لعبده : ائتني بقلبك ، فإن لم تأتني به فلا أقبل طاعتك ، ولا تقرب إلى حضرتي. قال النبي صلى الله عليه السلام : " إنَّ الله لا يَنْظُرُ إلى صَُوَرِكم ولاَ إلى أَعْمَالِكُمْ ، وَإَنَّما يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُم ونيَّاتِكُم " أو كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
وقوله تعالى : {سنراود عنه أباه} : كذلك ينبغي للعبد أن يحتال على قلبه حتى يرده إلى ربه ؛ وذلك بقطع العلائق ، والفرار من الشواغل والعوائق ، حتى تشرق عليه أنوار الحقائق.
(3/400)
وقوله تعالى : {اجعلوا بضاعتَهم في رِحَالِهم}... الآية. كذلك ينبغي للواعظ والمذكر أن يبشر الناس ، وينمي بضاعتهم ، وهو : الإيمان والمحبة لله ومعرفته ، ويجعلها في قلوبهم بحسن وعظه ، ونور حاله ، فيكون ممن ينهض الناس حاله ، ويدل على الله مقاله. ولا يقنط الناس ويفلسهم من الإيمان والمحبة ، بل ينبغي أن يجمع بين التبشير والتحذير ، والترغيب والترهيب ، ويغلب جانب الترغيب بذكر إحسان الله وآلائه.. لعلهم يعرفون ذلك إذا انقلبوا إلى أسبابهم ، لعلهم يرجعون إلى الله في غالب أحوالهم. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 288
قلت : (نكتل) : أصله : نَكْتَيِِل ، بوزن نفتعل ، من الكيل ، قلبت الياء ألفاً ؛ لتحرك ما قبلها ، ثم حذفت للساكنين. و (حفظاً) : تمييز ، ومن قرأ بالألف فحال ، كقوله : لله دره فارساً. أو تمييز ، وهو أرجح. و(ما نبغي) : استفهامية ، أو نافية. و(نمير أهلنا) : عطف على محذوف ، أي : ردت فنستظهر بها ونمير... الخ. قال في القاموس : مار يَمير ؛ بالكسر : جَلَب الطعام. هـ. و(إلا أن يحاط) : استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم.
يقول الحق جل جلاله : {فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا مُنع منا الكيلُ} أي : حكم بمنعه بعد هذا ، إن لم نذهب بأخينا بنيامين ، {فأرْسِل معنا أخانا نكتلْ} أي : نرفع المانع من الكيل ، ونكتل ما نحتاج إليه. وقرأ الأخوان بالياء : {يكتل} لنفسه ، فنضم اكتياله إلى اكتيالنا ، {وإنا له لحافضون} من أن يناله مكروه. {قال هل آمنكم عليه} أي : ما آمَنكم عليه {إلا كما أمنْتُكُم على أخيه من قبلُ} ، وقد قلتم في يوسف : {وإنا له لحافظون} ، {فاللَّهُ خيرٌ حافظاً} ؛ فأثق به ، وأفوض أمري أليه ، {وهو أرحمُ الراحمين} ، فأرجو أن يرحمني بحفظه ، ولا يجمع عليّ مصيبتين.
(3/401)
{ولما فَتحوا متاعَهُم} : أوعيتهم ، {وجدوا بضاعَتَهم رُدت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي} أي : ما نطلب ، فهل من مزيد على هذه الكرامة ، أكرمنا وأحسن مثوانا ، وباع منا ، ورد علينا متاعنا ، ولا نطلب وراء ذلك إحساناً. أو : ما نتعدى في القول ، ولا نزيد على ما حكينا لك من إحسانه. أو : ما نبغي على أخينا ، ولا نكذب على الملك. {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إلينا} ، وهو توضيح وبيان لقولهم : {ما نبغي} ، أي : ردت إلينا فنتقوى بها. {ونمير أهلَنا} : نسوق لهم الميرة ـ وهو : الطعام حين نرجع إلى الملك ، {ونحفظُ أخانا} من المكاره في ذهابنا وإيابنا.. {ونزدادُ كيلَ بعيرٍ} بزيادة حِمل بعير أخينا ، إذ كان يوسف عليه السلام لا يعطي إلا كيل بعير لكل واحد.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 290
ذلك كيلٌ يسير} أي : ذلك الطعام الذي أتيناه به شيء قليل لا يكفينا حتى نرجع ويزيدنا كيل أخينا ، أوْ ذلك الحِمل الذي يزيدنا لبعير أخينا ـ كيل قليل عنده ، يسهل عليه لا يتعاظمه ، فلا يمنعنا منه. كأنهم اسْتَقَلَّوا ما كيل لهم ؛ فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى
291
الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. وقيل : إنه من كلام يعقوب عليه السلام ، والمعنى : أن حمل بعير شيء قليل لا يخاطرَ لمثله بالولد.
{قال لن أرْسِلهُ معكم} ؛ لأني رأيت منكم ما رأيت ، {حتى تُؤتون موثقاً من الله} ؛ حتى تعطوني ما أثق به من عهد الله ، وتحلفوا ليَ الأيمان الموثقة {لتأتنني به} في كل حال ، {إلا أن يُحاطَ بكم} ؛ إلا أن تغلبوا ، ولا تطيقوا الإتيان به. أو : إلا أن تهلكوا جميعاً ويحيط الموت بكم {فلما آتَوْهُ موثقَهم} ؛ عهدهم وحلفوا له ، {قال} أبوهم : {الله على ما نقولُ} من طلب الموثق وإتيان الولد {وكيل} أي : مطلع رقيب ، لا يغيب عنه شيء.
(3/402)
ثم وصاهم {وقال} لهم : {يا بَنيّ لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقةٍ}. وكانت في ذلك العهد خمساً : باب الشام ، وباب المغرب ، وباب اليمن ، وباب الروم ، وباب طَيْلون. فقال لهم : ليدخل كل أخوين من باب ، خاف عليهم العين ؛ لأنهم أهل جمال وأُبَّهة ، مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة ؛ فإذا دخلوا كبكبة واحدة أصابتهم العين. ولعل لم يوصهم بذلك في المرة الأولى ؛ لأنهم كانوا مجهولين حينئذٍ ، وللنفس آثار من العين ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " العَينُ حَقٌّ تُدخِل الرَّجُلَ القَبرَ والجَمَلَ القِدرَ ". وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ منها ، بقوله : " اللهم إنِّي أَعُوذ بك مِن كَلِّ نَفسٍ هَامَّةٍ ، وعَينٍ لامَّةٍ " يؤخذ من الآية والحديث : التحصن منها قياماً برسم الحكمة. والأمر كله بيد الله. ولذلك قال يعقوب عليه السلام : {وما أغني عنكم من الله من شيء} مما قُضي عليكم بما أشرت به عليكم ، والمعنى : أن ذلك لا يدفع من قدر الله شيئاً ، فإن الحذر لا يمنع القدر ، {إن الحُكم إلا لله} فما حكم به عليكم لا ترده حيلة ، {عليه توكلتُ وعليه فليتوكل المتوكلون} أي : ما وثقت إلا به ، ولا ينبغي أن يثق أحد إلا به. وإنما كرر حذف الجر ؛ زيادة في الاختصاص ؛ ترغيباً في التوكل على الله والتوثق به.
الإشارة : رُوي أن إخوة يوسف لما رجعوا عنه صاروا لا ينزلون منزلاً إلا أقبل عليهم أهل ذلك المنزل بالكرامات والضيافات ، فقال شمعون : لما قدمنا إلى مصر ما التفت إلينا أحد ، فلما رجعنا صار الناس كلهم يكرموننا ؟ فقال يهوذا : الآن أثر الملك عليكم ، ونور حضرته قد لاح عليكم. هـ. قلت : وكذلك من قصد حضرة العارفين لا يرجع إلا محفوفاً بالأنوار ، معموراً بالأسرار ، مقصوداً بالكرامة والإبرار.
292
(3/403)
قوله تعالى : {فأرسل معنا أخانا...} إلخ ؛ قال الأستاذ القشيري : المحبة غيورٌ ؛ لما كان ليعقوب تَسَلٍّ عن يوسف برؤية بنيامين ، أبت المحبة إلا أن تظهر سُلطانها بالكمال فغارت على بنيامين أن ينظر إليه يعقوب بعين يوسف. هـ. قلت : وكذلك الحق تعالى غيور أن يرى في قلب حبيبه شيئاً غيره ، فإذا رأى أزاله عنه ، وفرق بينه وبين ذلك الشيء ، حتى لا يُحب شيئاً سوى محبوبه. هذا مما يجده أهل الأذواق في قلوبهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 290
وقوله تعالى في وصية يعقوب : {لا تدخلوا من باب واحد} ، فيه إشارة إلى أن الدخول على الله لا يكون من باب واحد بحيث يلتزم المريد حالة واحدة وطريقة واحدة ؛ كالعزلة فقط ، أو الخلطة فقط ، أو الصمت على الدوام ، أو ذكر الاسم على الدوام. بل لا بد من التلوين قبل التمكين وبعده ؛ فالعزلة على الدوام : مقام الضعف ، والخلطة من غير عزلة بطالة. بل لا يكون عارفاً حتى يعرف الله ، ويكون قلبُه معه في العزلة والخلطة ، والصمت والكلام ، والقبض والبسط ، والفقد والوجد ، ويترقى من ذكر الاسم إلى الفكرة والنظرة ، كما هو عند أهل الفن.
وقوله تعالى : {عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون} ، فيه تهييج على مقام التوكل ، وحث على الثقة بالله في جميع الأمور. وفي ذلك يقول الشاعر :
تَوَكَّل على الرَّحمن في كُلِّ حَاجَةٍ
وَثِق بالله ، دَبَّر الخلق أجمعْ
وضَع عَنكَ هَمَّ الرِّزْقِ ؛ فالرَّبُّ ضَامِنٌ
وكفّ عن الْكَونَينِ والخلق أَربع
قوله : " والخلق أربع " أراد العالم العلوي والسفلي ، والدنيا والآخرة. وكلها أكوان مخلوقة يجب كف البصر والبصيرة عن الميل إليها ، والوقوف معها. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 290
(3/404)
قلت : (ما كان) : جواب " لما " ، و(إلا حاجة) : استثناء منقطع. و(جزاؤه) : مبتدأ ، و(من) : شرطية أو موصولة ، وخبرها : (فهو جزاؤه) ، والجملة : خبر جزاء الأول. أو (جزاؤه) : مبتدأ و(من) خبر ، على حذف مضاف ، أي : جزاؤه أخذ من وُجد في رحله ، وتم الكلام ، و(فهو جزاؤه) : جملة مستقلة تقريرية لما قبلها.
يقول الحق جل جلاله : {ولمّا دخلوا من حيثُ أمرهم ابُوهم} أي : من أبواب متفرقة في البلد ، {ما كان يُغني عنهم} أي : ما أغنى عنهم رأي يعقوب واتَّبَاعهم له {من الله من شيء} مما قضى عليهم ، فاتُّهموا بالسرقة وظهرت عليهم ، فأخذ بنيامين الذي كان الخوف عليه ، وتضاعفت المصيبة على يعقوب ، {إلا حاجةً} : لكن حاجة {في نفس يعقوب} يعني : شفقته عليهم ، وتحرزه من أن يعانوا ، {قضاها} ؛ أظهرها ووصى بها. {وإنه لَذُو علم لمَا علمناه} بالوحي ونصب الدليل. ولذلك قال : {وما أغنى عنكم من الله من شيء} ؛ فلم يغتر بتدبيره ، ففيه تنزيه ليعقوب عن الوقوف مع الأسباب والعوائد ، ورفع إيهام وقوفه مع عالم الحكمة. {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} سر القدر ؛ وأنه لا ينفع منه الحذر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 293
قال ابن عطية : قوله : {ما كان يغني عنهم من الله من شيء} ، معناه : ما درأ عنهم قدراً ؛ لأنه لو قَُضِي أن تصيبهم عين لأصابتهم ، مفترقين أو مجتمعين. وإنما طمع يعقوب عليه السلام أن تصادف وصيته القدر في سلامتهم. ثم أثنى الله ـ عز وجل ـ على يعقوب بأنه لقن مما علمه الله من هذا المعنى ، واندرج غيره في ذلك العموم ، وقال : إن أكثر الناس ليس كذلك. هـ.
(3/405)
{ولما دخلوا على يوسفَ آوى إليه أخاه} أي : ضم إليه بنيامين على الطعام ، أو في المنزل. رُوي أنه أضافهم ، فأجلسهم اثنين اثنين ، فبقي بنيامين وحيداً فبكى ، وقال : لو كان يوسف حياً لجلس معي ، فأجلسه معه على مائدته ، ثم قال : لينزل كل اثنين بيتاً ، وهذا لا ثاني له فيكون معي ، فبات عنده ، وقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال : من يجد إذاً مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، {قال إني أنا أخوك} وعرفه بنفسه ، {فلا تبتئس} ولا تحزن {بما كانوا يعملون} في حقنا من الأذى ، أو : لا تحزن بما يعمله فتياني ، ولا تبالي بما تراه في تحيُّلي في أخذك.
{فلما جَهَّزهُم بجَهَازِهمْ جعل السِّقايةَ} ، التي هي الصواع ، {في رَحْلِ أَخيه} ،
294
وهي إناء يشرب بها الملك ، ويأكل فيها ، وكان من فضة ، وقيل : من ذهب. وقيل : كان صاعاً يُكال به. وقصد بجعله في رحل أخيه أن يحتال على إمساكه معه ؛ إذ كان شَرْعُ يعقوب أن من سرق استعبده المسروق منه. {ثم أذَّن مؤَذِّنٌ} بعد أن انصرفوا : {أيتها العير إنكُم لسارقون} ، والخطاب لإخوة يوسف ، وإنما استحل رميهم بالسرقة مع علمه بانهم أبرياء ؛ لما في ذلك من المصلحة في المآل ، وبوحي لا محالة ، وإرادة من الله تعالى عَنَتُهم بذلك ، يقويه قوله تعالى : {كذلك كدنا ليوسف} ، ويمكن من أن يكون فيه تورية ، وفيها مندوحة عن الكذب ، أي : إنكم لسارقون يوسف من أبيه ، حين باعوه.
{قالوا وأقبلُوا عليهم ماذا تفقدون} أي : أيُّ شيء ضاع منكم ؟ والفقد : غيبة الشيء عن الحس. {قالوا نَفقِدُ صُوَاعَ الملكِ} الذي يكيل به ، أو يشرب فيه ، {ولمن جاء به حِمْلُ بعيرٍ} من الطعام ، {وأنا به زعيم} كفيل أؤديه إلى من رده. وفيه دليل على جواز الجعل ، وضمان الجعل قبل تمام العمل. قاله البيضاوي.
(3/406)
{قالوا تالله لقد عَلِمْتُم ما جئنا لنُفسدَ في الأرض وما كنا سارقين} فيما مضى ، استشهدوا بعلمهم بديانتهم على براءه أنفسهم ؛ لما عرفوا منهم من الديانة والأمانة في دخولهم أرضهم ، حتى كانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم ؛ لئلا تنال زرع الناس ، {قالوا فما جزاؤه} أي : السارق ، {إن كنتم كاذبين} في ادعاء البراءة. {وقالوا جزاؤه مَن وُجِدَ في رَحْلهِ فهو جزاؤه} ؛ يحبس في سرقته ، ويُسْتَرَقّ للمسروق منه ، وهذا كان قصد يوسف عليه السلام ، وهي كانت شريعة يعقوب. وكانت أيضاً شريعتنا في أول الإسلام ثم نسخ بالقطع. ثم قالوا : {كذلك نجزي الظالمين} بالسرقة.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 293
فَبَدأَ} المؤذن أو يوسف ؛ لأنهم رُدُّوا إلى مصر ، أي : بدأ في التفتيش ، {بأوعيتِهم قبلَ وعَاءِ أخيه} بنيامين ، تقية للتهمة ، {ثم استخرجها} ؛ أي : السقاية ، أو الصواع ؛ لأنه يُذكر ويُؤنث ، {من وعاءِ أخيه} {كذلك} ، أي : مثل ذلك الكيد {كِدْنَا ليوسفَ} أي : علمناه الحيلة بالوحي في أخذ أخيه ، {ما كان ليَأخُذَ اخاه في دين الملك} ملك مصر ؛ لأن دينه كان الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق. {إلا أن يشاءَ اللهُ} أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك. أو : لكن أخذه بمشيئة الله وإرادته. {نرفعُ درجات من نشاء} بالعلم والعمل ، كما رفعنا درجته ، {وفوق كلّ ذي علم عليم} أرفع درجة منه.
قال البيضاوي : واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته ؛ إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه ـ أي : لدخوله تعالى في عموم الآية ـ والجواب : أن المراد كل ذي علم من الخلق ؛ لأن الكلام فيهم ، ولأن العليم هو الله تعالى. ومعناه : الذي له العلم البالغ ، ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا : فوق كل العلماء عليم ، وهو مخصوص. هـ.
قلت : وقد ورد ثبوت العلم له تعالى في آيات وأحاديث. كقوله تعالى : {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء : 166]
295
(3/407)
{أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود : 14] ، " وإني على عِلمٍ من عِلمِ اللهِ علَّمَنيهِ " إلى غير ذلك مما هو صريح في الرد عليهم. الإشارة : يؤخذ من قوله تعالى : {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} : امتثال أمر الأب فيما يأمر وينهى. ولا فرق بين أب البشرية وأب الروحانية ـ وهو الشيخ ـ ، فامتثال أمره واجب على المريد ، ولو كان فيه حتف أنفه ، وأمره مقدم على أمر الأب كما تقدم في سورة النساء. وقد قالوا : أركان التصوف ثلاث : الاجتماع ، والاستماع ، والاتباع. وقوله تعالى : {ما كان يُغني عنهم من الله شيء إلا حاجة...} الخ : فيه الجمع بين مراعاة القدرة والحكمة ، فالقدرة تقتضي التفويض ؛ إذ لا فعل لغير الله ، والحكمة تقتضي الحذر ، واستعمال الأسباب ؛ لأن الحكمة رداء للقدرة. فالكمال هو الجمع بينهما ؛ ستراً لأسرار الربوبية ، فالباطن ينظر لتصريف القدرة ، والظاهر يستعمل أستار الحكمة.
وقوله تعالى : {فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رَحْل أخيه...} الآية. هذا من فعل أهل التصريف بالله ، المأخوذين عنهم ، لا يدخل تحت قواعد الشرع ؛ لأن فاعله مفعول به ، أو ناظر بنور الله إلى غيب مشيئة الله ، كأفعال الخضر عليه السلام. قال الورتجبي : إن الله سبحانه إذا خصَّ نبياً ، أو ولياً أإلبسه صفاته بتدريج الحال ؛ ففي كل حالة له يكسوه نوراً من صفته ، فمن جملة صفاته : كيد الأزل ومكر الأبد ، فكسى علم كيده قلب يوسُفَ ، حتى كاد برؤية كيد الله الأزلي ، فعرفه فيه اسرار لطف صنائعه ، وعلم حقائق أفعاله وقدرته. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 293
(3/408)
وقوله : {نرفع درجات من نشاء} : أي بالعلم بالله ؛ كالكشف عن أسرار ذاته وأنوار صفاته ، والتخلق بمعاني أسمائه ، والتحقق بمقامات اليقين ، ومنازل السائرين. وهذه درجات المقربين ، وليس فوقها إلا درجة الأنبياء والمرسلين. أو بالعلم بأحكام الله وشرائعه ؛ كالعلم بأحكام العبادات والعادات ، وسائر المعاملات. وهذه درجات عامة أهل اليمين من العلماء الأتقياء والصالحين ، ومنتهى درجاتهم هي ابتداء درجات العارفين المقربين ، ثم الأنبياء والمرسلين. {وفوق كل ذي علم عليم} ، ومنتهى العلم إلى الله العظيم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 293
296
قلت : معنى الشرط والجواب : إن ثبت أن بنيامين يسرق فقد سرق أخ له ، أي : سرقته كسرقة اخيه ، و(مكاناً) : تمييز.
يقول الحق جل جلاله : قال إخوة يوسف ، لما ظهرت السرقة عليهم : {إن يسرقْ} بنيامين {فقد سرق أخٌ له} أخوه يوسف {من قبل} ، فهذا الأمر إنما صدر من ابْنَي راحيل ، لا منا ، قصدوا بذلك رفع المضرة عن أنفسهم ، ورموا بها يوسف وشقيقه ، وهذه السرقة التي رموه بها ؛ قيل : كانت ورثت عمته من أبيها منطقة ، وكانت تخصُّ يوسف وتحبه ، فلما شب ، أراد يعقوب انتزاعه منها ، فشدت المنطقة على وسطه ، ثم اظهرت ضياعَها ، ففتَّش عليها ، فوجدت مشدودة على وسطه ، فصارت أحق به في حكمهم وقيل : كان لجده من أمه صنم من ذهب ، فسرقه وكسره ، وألقاه في الجيف. وقيل : كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل.
(3/409)
{فأسرَّها يوسفُ في نفسه ولم يُبدها لهم} أي : أخفى هذه الإجابة ، ولم يكذبهم فيها. أو : الحزازة التي وجد في نفسه من قولهم : {فقد سرق أخ له من قبل} ؛ أي : أسر كراهية مقالتهم. أو : المقالة التي يفسرها قوله : {قال أنتم شرُّ مكاناً} ؛ أي : قال في نفسه خفية : أنتم شر مكاناً ، أي : انتم أقبح منزلة في السرقة بسرقتكم أخاكم ، أو بسوء صنيعكم بما فعلتم معي. {والله أعلم بما تَصِفُون} ، وقد علم سبحاته أن الأمر ليس كما تصفون ، فهو إشارة إلى كذبهم فيما نسبوا إليه من السرقة.
{قالوا يا أيها العزيزُ إن له أباً شيخاً كبيراً} في السن ، أو القدر ، ذكروا حاله ؛ استعطافاً له ، وكانوا أعلموه بشدة محبة أبيه فيه ، {فخُذ أحدَنا مكانه} ؛ فإن أباه ثكلان ، أي : حزين على أخيه الهالك ، يستأنس به ، {إنا نراك من المحسنين} إلينا ، فأتمم إحسانك ، أو من المتعودين الإحسان فلا تغير إحسانك. {قال معاذَ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} فإنَّ أَخْذَ غيره ظلم ، فلا آخذ أحداً مكانه ؛ {إنا إذاً لظالمون} في مذهبكم ؛ لأن الله أمرنا باسترقاق السارق ؛ فاسترقاق غيره ظلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 296
الإشارة : النفس الأمارة من شأنها الانتصار ، ودفع النقائص عنها والعار. والنفس المطمئنة من شأنها الاكتفاء بعلم الله ، والرضا بما يجري به القضاء من عند الله ، فإذا اختلجها شيء من الانتصار أَسَرَّتْه ، ولم تخرجه إلى حالة الإظهار.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : آداب الفقير المتجرد أربعة أشياء : الحرمة للأكابر ، والرحمة للأصاغر ، والانتصاف من نفسه ، وعدم الانتصار لها. هـ. فالفقير إذا انتصر لنفسه فقد نقض العهد مع ربه ، فيجب عليه التوبة. وقالوا : [الصوفي دمه هدر ، وعرضه وماله مباح]. يعني : أنه لا ينتصر لنفسه ، فكل من آذاه لا يخاف من جانبه ؛ فكأنه مباح ، مع كونه حراماً بالشريعة ، بل هو أشد حرمة من غيره. والله تعالى أعلم.
297
(3/410)
جزء : 3 رقم الصفحة : 296
قلت : (نجياً) : حال ، أي : انفردوا عن الناس مناجين. وإنما أفرده ؛ لأنه مصدر ، أو بزنته. و(من قبل ما) : يحتمل أن تكون مزيدة ومصدرية مرفوعة بالابتداء ، أي : تفريطكم في يوسف واقع من قبل هذا. قاله ابن جزي. وفيه نظر ؛ فإن الظرف المقطوع لا يقع خبراً ، أوْ منصوبة بالعطف على مفعول (تعلموا) ، أي : لم تعلموا أخذ ميثاق أبيكم ، وتفريطكم في يوسف قبل هذا.
يقول الحق جل جلاله : {فلما استيأسوا} ؛ أي يئسوا {منه} من يوسف أن يجيبهم إلى ما دعوه إليه من أخذ أحدهم مكان أخيهم ، {خَلَصُوا} أي : تخلصوا من الناس ، وانفردوا عنهم {نجيّاً} متناجين ، يناجي بعضهم بعضاً : كيف وقع للصاع ؟ وكيف يتخلصون من عهد أبيهم ؟ ثم فسر تلك المناجاة : {قال كبيرُهمْ} في السن ، وهو رُوَيْبيل ، أو في الرأي ، وهو شمعون ، وقيل يهوذا : {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله} ؛ عهداً وثيقاً ، وحلفتم له لتأتن بابنه إلا أن يُحاط بكم ؟ فكيف تصنعون معه ، {ومن قبلُ} هذا {فرطتم في يوسف} واعتذرتم بالأعذار الكاذبة ؟ {فلن أبرح الأرض} ؛ فلن أفارق أرض مصر {حتى يأذن لي أبي} في الرجوع ، {أو يحكم الله لي} : أو يقضي لي بالخروج منها ، أو بتخليص أخي منهم قهراً ، {وهو خيرُ الحاكمين} ؛ لأن حكمه لا يكون إلا بالحق.
رُوي أنهم كلموا العزيز في إطلاقه ، فقال رويبيل ، وقيل : يهوذا : أيها الملك ، لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل ، ووقف شعر جسده ، فخرجت من ثيابه ، فقال يوسف لابنه الصغير ، واسمه نائل : قم إلى جنبه ومُسَّه ، فمسه ، وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم لا يسكن غضبه إلا إذا مسه أحد من آل يعقوب ، فلما مسه ولد يوسف عليه السلام سكن غضبه ، فقال : من هذا ؟ إن في هذا البلد لبذراً من بذر يعقوب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
(3/411)
وقيل : إنهم هموا بالقتال ، وقال يهوذا لإخواته : تفرقوا في أسواق مصر ، وأنا أصيح صيحة تشق مراريهم ، فإذا سمعتم صوتي ، فاخربوا يميناً وشمالاً ، فلما غضب ، وأراد أن
298
يصيح مسه ولد يوسف فسكن ، فلما لم يسمعوا صوته أتوا إليه فوجدوا قد سكن غضبه ، فقال : إن هنا بذراً من آل يعقوب.
ثم قال لهم : {ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا أنّ ابنك سرق} على ما شهدنا من ظاهر الأمر ، {وما شهدْنا إلا بما علمنا} بأن رأينا الصاع استُخرج من وعائه. {وما كنا للغيب حافظين} أي ما كنا لباطن الأمر حافظين ، فلا ندري أسرق ، أو أحد دسه في وعائه ؟ أو ما كنا حين أعطيناك العهد حافظين للغيب ، عالمين بالقدر المغيب ، وأنك تصاب به كما أصبت بأخيه. {واسأل القرية التي كنا فيها} ؛ وهي القرية التي لحقهم فيها المنادي ، أي : أرسل إليهم عن القصة إن اتهمتنا. " {و} سل أيضاً {العيرَ} : أهل العير ، {التي أقبلنا فيها} ، والعير : جماعة الإبل. {وإنا لصادقون} فيما أخبرناك به. هذا تمام وصية كبيرهم. فلما رجعوا إلى أبيهم ، وقالوا له ما قال لهم كبيرهم.
{قال} لهم أبوهم : {بل سَوَّلت لكم أنفسُكم أمراً} أي : زينت لكم أمراً فصنعتموه ، وإلا فمن أين يدري الملك أن السارق يُؤخذ في السرقة ، إذ ليست بشريعته ، {فصبر جميلٌ} أي : فأمري صبر جميل ، {عسى اللهُ أن يأتيني بهم جميعاً} ؛ بيوسف وبنيامين ، وأخيهما الذي بقي بمصر ؛ {إنه هو العليمُ} بحالي وحالهم ، {الحكيم} في تدبيره. رُوي أن عزرائيل دخل ذات يوم على يعقوب ـ عليهما السلام ـ فقال له يعقوب : جئت لقبض روحي ، أو لقبض روح أحد من أولادي وأهلي ؟ قال : إنما جئت زائراً ، فقال له : أقسمت عليك بالله إلا ما أخبرتني ، هل قبضت روح يوسف ؟ فقال : لا ، بل هو حي سَوِيّ ، وهو ملك وله خزائن ، وجنود وعبيد ، وعن قريب يجمع الله شملك به. هـ.
(3/412)
الإشارة : فلما استيأس القلب من الدنيا ، والرجوع إليها ، وقطع يأسه من حظوظها وهواها ، خلصت له المناجاة وصفت له أنوار المشاهدات ، وأنواع المكالمات ، والقلب هو كبير الأعضاء وملكها ، فيقول لها : ألم تعلموا أن الله قد أخذ عليكم موثقاً ألا تعصوه ولا تُخالفوه ، ومن قبل هذا وهو زمان البطالة ، قد فرطتم في عبادته ، فلن أبرح أرض العبودية حتى يأذن لي في العروج إلى سماء شهود عظمة الربوبية ، أو يحكم لي بالوصال ، وهو خير الحاكمين. فإن وقعت من الجوارح هفوة فيقال لها : ارجعوا إلى أبيكم ـ وهو القلب ـ فقولوا : إن ابنك سرق ، أي : تعدى وأخذ ما ليس له من الهوى فيما ظهر لنا ، وما شهدنا إلا بما علمنا ، فرب معصية في الظاهر طاعة في الباطن ، واسأل البشرية التي كنا فيها والخواطر التي أقبلنا على المعصية فيها ، فيقول القلب : بل زينت لكم أنفسكم أمر الهوى ، فدواؤكم الصبر الجميل ، والتوبة للعظيم الجليل ، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً ، فنصرفهم في طاعة الله ومرضاته. والله تعالى أعلم بأسرار حِكَم كتابه ، فعلم الإشارة يقبل مثل هذا وأكثر. وإياك والانتقاد ؛ فقد قالوا في باب الإشارة أرق من هذا وأغرب. وبالله التوفيق.
299
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
قلت : يا أسفي ، ويا ويلتي ، ويا حسرتي ، مما عوض فيه الألف عن ياء المتكلم. والأسف : أشد الحزن. وقيل : شدة الحسرة. و (كظيم) : إما بمعنى مفعول ، كقوله : (وهو مكظوم) ؛ أي : فهو مملوء غيظاً على أولاده ، ممسك له في قلبه ، تقول : كظم السقاء ؛ إذا شد على ملئِه. أو بمعنى فاعل ؛ كقوله : {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران : 134] ؛ من كظم البعير جِرَّتَهُ ؛ إذا ردها في جوفه. و (تفتأ) : من النواقص اللازم للنفي ، وحذفه هنا لعدم الإلباس ؛ لأنه لو كان مثبتاً لأكد باللام والنون. والحرض : المريض المشرف على الهلاك ، وهو في الأصل مصدر ، ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. والبث : أشد الحزن.
(3/413)
يقول الحق جل جلاله : {وتولّى} يعقوب عن أولاده ، أي : أعرض {عنهم} لما لم يصدقهم ، كراهةً إما صادف منهم ، ورجع إلى تأسفه {وقال يا أسَفَا} أي : يا شدة حزني {على يوسف}. وإنما تأسف على يوسف دون أخويه لأن محبته كانت أشد ؛ لإفراط محبته فيه ، ولأن مصيبته سبقت عليهما. {وابيضَّتْ عيناه} من كثرة البكاء {من الحُزن} ، كأَنَّ العَبْرَةَ محقت سوادها ، وقيل : ضعف بصره ، وقيل : عمي. وقد رُوي أنه : " حَزِنَ يعقُوب حُزْن سبعين ثَكْلَى ، وأُعطِي أَجر مائَة شَهيدٍ ، وما ساءَ ظَنّه بالله قَطّ ".
وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع. ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف ، فإنه قلَّ من يملك نفسه عند الشدائد ، وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " القلْبُ يَحْزَنُ ، والعَيْنُ تَدمَعُ ، ولا نَقُولُ إلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا ، وإنَّا على فِراقِكَ يا إبراهِيمُ لَمَحْزُونون ". {فهو كظيم} أي : مملوء غيظاً على أولاده ؛ لما فعلوا. أو كاظم غيظه ، ماسك له ، لم يظهر منه شيئاً ، ولم يَشْكُ لأحد.
{قالوا تاللهِ تَفْتَؤا} : لا تزال {تذكرُ يوسفَ} تفجعاً عليه ، {حتى تكون حَرَضاً} : مشرفاً على الهلاك ، {أو تكون من الهالكين} : من الميتين. {قال إنما أشكو بَثّي} أي :
300
شدة همي {وحزني} الذي لا صبر عليه ، {إلى الله} لا إلى أحد منكم ولا غيركم ؛ فَخَلّوني وشِكَايتي ، فلست مِمَّن يجزع ويَضْجَر ؛ فيستحق التعنيف ، وإنما أشكو إلى الله ، ولا تعنيف فيه ؛ لأن فيه إظهار الفقر ، والعجر بين يديه ، وهو محمود. {وأعلمُ من الله ما لا تعلمون} أي : أعلم من لطف الله ورأفته ورحمته ، ما يوجب حسن ظني وقوة رجائي ، وأنه لا يخيب دعائي ، ما لا تعلمون. أو : وأعلم من طريق الوحي من حياة يوسف ما لا تعلمون ؛ لأنه رأى ملك الموت فأخبره بحياته ، كما تقدم. وقيل : علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى تخر له إخوته سُجّداً.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 300
(3/414)
يا بَني اذهبوا} إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم ، {فتحسسُوا من يوسفَ وأخيهِ} أي : تعرفوا من خبرهما ، وتفحَّصوا عن حالهما. والتحسس : طلب الشيء بالحواس. وإنما لم يذكر الولد الثالث ؛ لأنه بقي هناك اختياراً. وفي ذكر يوسف دليل على أنه كان عالماً بحياته. {ولا تيأسوا من رَّوْح الله} : لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه ، أو من رحمته ، وقرئ بضم الراء ، أي : من رحمته التي يحيي بها العباد ، أي : ولا تيأسوا من حي معه روح الله ؛ فكل من بقي روحه يرْجى ، أي : ويوسف عندي ، فمن معه روح الله فلا تيأسوا من رجوعه. {إنه} أي : الشأن {لا ييأسُ من رَّوْح الله إلا القومُ الكافرون} بالله وصفاته ؛ لأن العارف لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال. وإنما جعل اليأس من صفة الكافر ؛ لأن سببه تكذيبٌ بالربوبية ، أو جهل بصفة الله وقدرته ، والجهل بالصفة جهل بالموصوف ، فالإياس من رحمة الله كفر.
وأما الحديث الرجل الذي قال : (إذا متُّ فاحرقوني ، ثم اذْروني في البحر والبر في يوم رائح ، فلئِنِ قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من الناس) ، حسبما في الصحيح ، فليس فيه اليأس ولا تعجيز القدرة ، لكن لما غلبه الخوف المفرط لم يتأمل ولم بضبط حاله ؛ إما لحقه من الخوف وغمره من الدهش ، دون عقد ولا إصرار على نفي الرحمة واليأس منها. ويدل على ذلك قوله : (لما قال له الرب ـ تعالى ـ : ما حملك على هذا ؟ قال : مخافتك ، فغفر له). ولم يقل اليأس من رحمتك. انظر المحشي الفاسي.
الإشارة : لم يتأسف يعقوب عليه السلام على فقد صورة يوسف الحسية ، إنما تأسف على فقد ما كان يشاهد فيه من جمال الحق وبهائه ، في تجلي يوسف وحسن طلعته البهية ، وفي ذلك يقول ابن الفارض :
عَيْني لِغَيْرِ جَمَالِكُمْ لاَ تَنْظُرُ
وسِوَاكمُ فِي خَاطِري لا يَخطرُ
(3/415)
فلما فقد ذلك التجلي الجمالي حزن عليه ، وإلا فالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أولى بالغنى بالله عما سواه. فإذا حصل للقلب الغنى بالله لم يتأسف على شيء ، ولم يحزن على شيء ؛ لأنه حاز كل شيء ، ولم يفته شيء. " ماذا فقد من وجده ، وما الذي وجد من
301
فقده ". ولله در القائل :
أَنَا الفَقِيرُ إِليْكُمُ والْغَنِيُّ بِكُمُ
وَلَيْس لِي بَعدَكُمُ حِرْصٌ عَلى أَحدِ
وهذا أمر محقق ، مذوق عند العارفين ؛ أهل الغنى بالله. وقوله : {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} : فيه رفع الهمة عن الخلق ، والاكتفاء بالملك الحق ، وعدم الشكوى فيما ينزل إلى الخلق... وهو ركن من أركان طريق التصوف ، بل هو عين التصوف. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 300
قلت : (من يتق ويصبر) : من قرأ بالياء : أجرى الموصول مجرى الشرط ؛ لعمومه وإبهامه ، فعطف على صلته بالجزم ، ومنه قول الشاعر :
كذَلِكَ الذي يَبْغي عَلَى النَّاسِِ ظَالِماً
تُصْبه عَلَى رغمِ عَوَاقِبُ مَا صَنَعْ
(3/416)
يقول الحق جل جلاله : {فلما دخلوا عليه} على يوسف حين رجعوا إليه مرة ثالثة ، {قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضُّرُّ} شدة الجوع {وجئنا} إليك {ببضاعةٍ مُّزجَاةٍ} : رديئة ، أو قليلة ، أو ناقصة ، تدفع وترد من أزجيته ، دفعته. ومنه {يُزْجِي سَحَاباً} [النور : 43] قيل : كانت دراهم زيوفاً وقيل : الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل : سَويق المُقْل أي : الدوم. وقيل : عروضاً. {فأوْف لنا الكَيْلَ} : أتممه لنا ، {وتصدَّقْ علينا} بالمسامحة ، وقبول المزجاة ، أو بالزيادة على ثمننا. وهذا يقتضي أن الصدقة كانت حلالاً على الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهو خلاف المشهور. أو برد أخينا ، {إن الله يجزي المتصدّقين} أحسن الجزاء. والتصدق : التفضل مطلقاً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في القصر : " هذهِ صَدَقةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ عَلَيكُمْ بها ، فاقبلوا صدقته ". رُوي أن يعقوب عليه السلام لما أرسلهم أرسلهم المرة الثالثة ليتحسسوا أخبار يوسف
302
وأخيه ، أرسل معهم كتاباً ونصه : بسم الله الرَّحمن الرحيم ، من يعقوب الحزين إلى عزيز مصر ، ولو عرفت اسمك لذكرتك في كتابي هذا ، يا من أعتز بعز الله ، فالله يُعِزُ من يشاء ، ويُذل من يشاء ، وإني أيها العزيز قد اشمأز قلبي ، وقطع الحزن أوصالي ، وإني ناهٍ إلى الإقراح ، دائم البكاء والصياح ، وإني من نطفة آباء كرام ، فكيف يتولد اللصوص مني وأنا من الخصوص! وقد أخبرت أنك وضعت الصَّاع بالليل في رحل ولدي الأصغر ، وإني حزين عليه كما كنتُ حزيناً على أخيه الفقيد ، حزناً دائماً سرمداً شديداً. وإن كنت أفجعتني في الآخرة ؛ فإن قلبي لا محالة طائر. ثم ختمه بالسلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 302
(3/417)
فلما دفعوه ليوسف قرأه. وبكى بكاء شديداً ، ثم دفعه لأخيه بنيامين فقرأه وبكى أيضاً. ثم نزل عن سريره ، ثم دفع لهم الكتاب الذي كانوا يكتبوه لمالك بن ذعْر لما باعوه بخطوط شهادتهم ، كان أخذه من مالك حين باعه. فلما قرأوه تغيرت ألوانهم وتضعضعت أركانهم ، وبُهتوا ، فقال لهم : {هلْ علمتم ما فعلتم بيوسفَ وأخيه} ؛ من إيذاء يوسف ، وتفريقه من أبيه ، ومضرة أخيه من بعده ، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه ، أي : هل علمتم قبحة فتبتم منه ؟ قاله نصحاً وتحريضاً لهم على التوبة. {إذ أنتم جاهِلَون} أي : فعلتم ذلك حين كنتم جاهلين قُبح ذلك. وإنما سماهم جاهلين ؛ لأن فعلهم حينئذٍ فعل الجهال ، أو لأنهم حينئذٍ كانوا صبياناً طياشين ، فعرفوه حينئذٍ على ظن ، فقالوا : {أئنك لأنتَ يوسف} ؟ بالاستفهام التقريري. وقرأ ابن كثير على الإيجاب. قيل : عرفوه بذوائبه وشمائله حين نزل إليهم وكلمهم. وقيل : تبسم فعرفوه بثناياه. وقيل : رفع التاج عن رأسه فعرفوه بِشَامةٍ كانت في رأسه بيضاء ، وكانت لسارة يعقوب مثلها.
{قال} لهم : {أنا يوسف وهذا أخي} من أبي وأمي. ذكره تعريفاً لنفسه به ، وتفخيماً لشأنه ، وإدخالاً له في المنة بقوله : {قد مَنّ الله علينا} بالسلامة والكرامة والعز. {إنه من يتقِ} الله {ويصبرْ} على بلواه ، وعلى طاعته وتقواه {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} ، وضع المحسنين موضع المضمر ؛ تنبيهاً على أن المحسن جمع بين الصبر والتقوى. فمن اتقى الله وصبر فهو محسن...
(3/418)
{قالوا تالله لقد آثَرَكَ اللهُ علينا} بحسن الصورة وكمال السيرة ، أو فضلك علينا رغماً على أنفنا ، {وإن كنا لخاطئين} أي : والحال أن شأننا أنَّا كنا مذنبين فيما فعلنا معك. {قال لا تثريبَ} : لا عتاب {عليكم اليوم} أي : لا عقوبة عليكم في هذا اليوم. ثم دعا لهم فقال : {يغفرُ الله لكم} ، فيوقف على اليوم. وقيل : يتعلق بيغفر ، فيوقف على ما قبله ، وهو بعيد ؛ لأنه تحكم على الله ، وإنما يصلح أن يكون دعاء ، إذ هو الذي يليق بآداب الأنبياء ، فكأنه أسقط حق نفسه بقوله : {لا تثريب عليكم اليوم} ، ثم دعا الله أن يغفر لهم الله حقه. قاله ابن جزي ، وصدر به البيضاوي. وبه تعلم ضعف وقف الهبطي.
303
ثم قال في تمام دعائه : {وهو أرحمُ الراحمين} ؛ فإنه يغفر الصغائر والكبائر ، ويتفضل على التائب.
قال البيضاوي : ومن كرم يوسف عليه السلام أنهم لما عرفوه أرسلوا له ، وقالوا : إنك تدعوننا بالبكرة والعشي إلى الطعام ، ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك ، فقال لهم : إن أهل مصر كانوا ينظرون إليَّ بالعين الأولى ، ويقولون : سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شَرُفْت بكم ، وعظمت في أعينهم حيث إنكم إخوتي ، وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 302
(3/419)
الإشارة : من رام الدخول إلى حضرة الكريم الغفار ، فليدخل من باب الذل والانكسار. وفي الحِكَم : " ما طلب لك شيء مثل الاضطرار ، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار ". فإذا قرعت الباب ، ورمت الدخول مع الأحباب ، فقل بلسان التضرع والانكسار : يا أيها العزيز الغفار مسنا الضر ، وهو البعد والغفلة ، وجئنا ببضاعة مزجاة ؛ عمل مدخول ، وقلب معلول ، فأوْفِ لنا ما أملناه من الجزاء المأمول ، وتفضل علينا بالقبول والوصول ، وقل : اليوم نغفر لكم ونغطي مساوءكم ، ونوصلكم بما مني إليكم من الإحسان ، لا بما منكم إلينا الطاعة والإذعان. هؤلاء إخوة يوسف لما أظهروا فاقتهم ، واستقلوا بضاعتهم ، وأحضروا شكايتهم ، سمح لهم وقربهم ، وكشف لهم عن وجهه الجميل ، ومنحهم العطاء الجزيل ، فما ظنك بالرب العظيم الجليل ، الذي هو أرحم الراحمين ، ومحل أمل القاصدين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 302
قلت : جواب (لولا) : محذوف ، أي : لولا أن تفندون لقلت إنه قريب ، أو لصدقتموني.
يقول الحق جل جلاله : قال يوسف لإخوته لما عرفوه ، وأزال ما بينه وبينهم من الوحشة ، وقد أخذ قميصه : {اذهبوا بقميصي هذا} ، رُوي أن هذا القميص كان لإبراهيم
304
الذي لبسه حين كان في النار ، وقيل : ألبسه له جبريل حين خرج من النار ، وكان من ثياب الجنة ، ثم كان لإسحاق ثم ليعقوب ، ثم كان دفعه ليوسف ، فكان عنده في حِفَاظ من قصب ، وكان في عنقه في الجب ، وأمره جبريل بإرساله ، وقال : إنه قميص يوسف الذي هو منه بمنزلة قميص كل واحد. وبهذا تتبين الغرابة في أن وجد يعقوبُ ريحة من بُعدٍ ولو كان من قميص الجنة لما كان في ذلك غرابة ، ويجده كل أحد. هـ.
قلت : وما قاله لا ينهض ؛ لأن ما ظهر من الجنة إلى دار الدنيا لا يبقى على حاله دائماً ؛ لأنه من أسرار الغيب ، بل لا يجده إلا أهل الذوق من أهل القرب ، كنور الحجر الأسود ، وغيره مما نزل من الجنة. والله تعالى أعلم.
(3/420)
ثم قال لهم اذهبوا به : {فألقوه على وجهِ أبي يأتِ بصيراً} أي : يرجع بصيراً ، علم ذلك بوحي ، أو تجربة من القميص ، {وأتوني بأهلكم أجمعين} ؛ نسائكم وذراريكم وأموالكم.
{ولما فَصَلَتِ العيرُ} من مصر ، وخرجت من عمارتها ، {قال أبوهم} لمن حضره : {إني لأجِدُ ريحَ يوسف} ؛ أوجده الله ، ريح ما عَبَق من قميصه حين أقبل إليه به يهوذا من ثمانين فرسخاً ؛ لأن يعقوب كان إذ ذاك ببيت المقدس ، ويوسف بمصر ، {لولا أن تُفَنِّدون} ؛ تنسبوني إلى الفِند ، وهو : نُقصان عَقْلِ يحدث من هِرَم. ولذلك لا يقال عجوز مفندة ؛ لأن نقصان عقلها ذاتي. أي : لولا أن تحمِّقوني لقلت إنه قريب ، أو لصدقتموني في ذلك ، أو لولا أن تلوموني ، وتردوا عليّ قولي لقلت إنه ريح يوسف. {قالوا} أي : الحاضرون : {تاللهِ إنك لفي ضلالِكَ القديم} أي : إنك لفي خطئك القديم بالإفراط في محبة يوسف ، وإكثار ذكره ، وتوقع لقائه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 304
فلما أن جاءَ البشير} أي : المبشر ، وهو يهوذا. رُوي أنه قال : كنتُ أحزنْتُه بِحَمل قميصه المُلَطَّخ بالدم إليه ، اليوم أفرحُه بحمل هذا إليه. وفي رواية عنه قال : إني ذهبت إليه بقميص التَّرْحَة ، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة. فلما وصل إليه {ألقاه على وجهه} ؛ طرح البشيرُ القميصَ على وجه يعقوب ، أو : القاه يعقوبُ بنفسه على وجهه ، {فارتدَّ بصيراً} بقدرة الله وبركة القميص. {قال ألم أقلْ لكم إني أعلمُ من الله ما لا تعملون} من حياة يوسف ، وإنزال الفرج.
(3/421)
{قالوا يا أبانا استغفرْ لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} ، وقد اعترفنا بذنوبنا ، وسألنا المغفرة. {قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} ، أخره إلى السَّحَر ، أو إلى صلاة الليل ، أو إلى ليلة الجمعة ، تحرياً لوقت الإجابة ، أو إلى أن يتحلّل لهم من يوسف ، فإن عفو المظلوم شرط في المغفرة ، ويؤيده ما رُوي أنه لما اجتمع به ، وتحلل منه ، استقبل يعقوبُ القبلة قائماً يدعو ، ويوسفُ خلفه يؤمن ، وقاموا خلفهما أذلةً خاشعين ،
305
حتى نزل جبريل وقال : إن الله قد أجاب دعوتك في أولادك ، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة. وهو إن صح ، دليل نبوتهم ، وأن ما صدر منهم كان قبل نبوتهم ، قاله البيضاوي.
الإشارة : اعلم أن الحق ـ جل جلاله ـ جعل للبشرية عَيْنَين حسيين : تبصر بهما الحسيات ، وجعل للقلب عينين معنويين يرى بهما المعاني. فالأول : يسمى البصر ، والثاني : البصيرة : فأحد عيني القلب تبصر أنوار الشريعة ، والأخرى تبصر أسرار الحقيقة. وقد يغشى القلب ظلمةُ الكفر ، فتغطيهما معاً ، وهو : عمى البصيرة. وقد يغشاه ظلمة المعاصي ، واتباع الحظوظ والهوى ، فتعمى عين الحقيقة ، وجلباب العصمة على عين الشريعة ، فيرجع القلب بصيراً. ولا بد من صحبة شيخ عارف يعطيه هذا القميص ، ويقول : اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه بصيرتكم ، تأتي بصيرة عارفة ، فإذا قرب منها هذا القميص هبَّ عليها نسيم الوصال ، وهاج عليها الوجدُ والحالُ. وأنشدت بلسان المقال :
سُوَيْداء قََلْبِي أَصْبَحَت حَرماً لَكُم
تَطُوفُ بها الأسرارُ من عَالَم اللُّطف
وسائلُ ما بينَ المُحبِّين أَصْبَحَتْ
تَجِلُّ عن التَّعْرِيفِ والرَّسم والعُرْفِ
رَسَائِل جَاءَتْنا بِِرُؤْيَا جَنَابِكُمْ
عَوارِِفُ عُرف فَاقَ كُلَّ شّذا عَرف
جزء : 3 رقم الصفحة : 304
(3/422)
يقول الحق جل جلاله : {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه}. قبل هذا الكلام محذوفات ، وهي : فرحل يعقوب بأهله حتى بلغوا إليه ، ولما دخلوا على يوسف... الخ.
رُوي أن يوسف عليه السلام وجه إليه رواحل وأموالاً ليتجهز إليه بمن معه ، وأرسل إليه مائة وثمانين كسوة من رفيع الثياب والعمائم لإخواته ، وقميصان مُذَهبان للإناث ، فلما وصلت إلى يعقوب لبس ، وألبس أولاده. وركبوا المراكب ، وخرجوا من أرض كنعان يريدون مصر ، فلما قربوا ، أًمَرَ يوسف عليه السلام العساكر أن تخرج معه للقائهم ، فأول
306
من لقيهم ثلاثون ألف فارس ، كلهم يسجدون بين يدي يعقوب ، وهو يتعجب من عظم تلك الأجناد ، ويضحك من نصر الله تعالى ، وعزه لا بنه. ثم لقيهم البغال ، والجواري لنساء إخوته وأولادهم. ثم لقيهم أربعون ألف شيخ من الوزراء والكبراء. ثم استقبلهم يوسف عليه السلام مترجلاً ماشياً على قدميه ، متواضعاً لأبيه ، في مائة ألف ، كلهم على أرجلهم ، معهم الملك " ريَّان " ثم سلم يوسف عليه السلام والملك على أبيه ، ثم اقبلا يبكيان ، وبكى إخوته وضج الناس بالبكاء ، ثم ضم إليه أبويه ، وقيل : أباه وخالته ، {وقال ادخلوا ان شاء الله آمنين} ، ثم حُمل يعقوب عليه السلام في هودج من الذهب ، ويوسف عليه السلام ، وإخوته يمشون بين يديه مترجلين حتى دخلوا مصر ، ثم أتوا إلى قصر مملكته.
(3/423)
قال ابن عباس : فجلس يوسف عليه السلام على سريره ، وأبوه عن يمينه ، وخالته عن شماله ، وإخوته بين يديه ، فخروا له سجداً ؛ لأنها كانت في ذلك الزمان ـ يعني تحيتهم على الملوك ـ رُوي أنهم قالوا في سجودهم : سبحان مولف الشتات بعد الإياس ، سبحان كاشف الضر بعد البأس. فقال يوسف لأبيه : {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل...} الخ ـ هكذا ذكر القصة صاحب الزهرالأنيق في قصة يوسف الصديق. وهذا معنى قوله : {فلما دخلوا على يوسف} بلده ومملكته {آوى إليه أبويه} ؛ أي : اعتقهما ، وسلم عليهما ، وضمهما إليه. قيل : الأبوين حقيقة. وقيل : أباه وخالته ، ونزَّل الخالة منزلة الأم تنزيلَ العم منزلة الأب في قوله : {نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة : 133].
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 306
وقال ادخلوها مصر إن شاء الله آمنين} من القحط وأصناف المكاره. والمشيئة متعلقة بالدخول المكيَّف بتلك الهيئة لا بالأمن. وقال ابن جزي : راجعة إلى الأمن. قال البيضاوي : وكان أولاد يعقوب الذين دخلوا مصر اثنين وسبعين رجلاً ، وامرأة ، وكانوا حين خرجوا مع موسى ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وتسعين رجلاً سوى الذرية والهرمى. هـ.
{ورفع أبويهِ على العرش} ، أي : حين دخلوا قصر مملكته ، {وخرُّوا له سُجداً} ؛ تحية وتكرمة ؛ فإن السجود كان عندهم يجري مجرى التحية. وقيل : معناه : خروا لأجله سجداً لله ؛ شكراً. وقول البيضاوي : الرفع مؤخر عن الخرور ، فيه نظر ؛ لما تقدم عن صاحب الزهر الأنيق ، ولا داعي إلى الخروج عن الظاهر إلا بنص صريح.
قال ابن عطية : واختلف في هذا السجود ؛ فقيل : كان المعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض ، وقيل : بل دون ذلك ؛ كالركوع البالغ ونحوه ، مما كان سيرة تحيتهم للملوك في ذلك الزمان. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود ، كيفما كان ، إنما كان تحيةً لا عبادة.
307
(3/424)
قال قتادة : هذه كانت تحية الملوك عندهم ، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. ثم قال : قال أبو عمرو الشيباني : تقدم يوسُفُ يعقوب عليه السلام في المشي في بعض تلك المواطن ، فهبط جبريل فقال : أتتقدَّم أباك ؟ إن عقوبتك لذلك ألا يخرج من نسلك نبي. هـ. قال المحشي الفاسي : وما أظن لهذا صحة ، وقد كان في ذريته " يوشع بن نون " عليه السلام ، ويوسف المذكور في سورة الطَّوْل على قول. وفي البيضاوي : وكان عمر يوسف مائة عشرين سنة ، وقد ولد له من راعيل : إفراثيم وميشا ، وهو جد يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب. هـ. قلت : المذكورفي قصة أيوب أن زوجه رحمة إنما كانت ابنة إفراثيم بن يوشع لابنته.
ثم قال : {يا أبت هذا تأوِيلُ رؤيايَ من قبلُ} ؛ التي رأيتها أيام الصبا ، وهي : رؤيا أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون لي ، {قد جَعَلَهَا ربي حقاً} : صدقاً. وكان بين رؤياه وبين صدق تأويلها ثمانون عاماً ، وقيل : أربعون ، وهو الأصح. {وقد أحسنَ بي إذ أخرجني من السجن} ، ولم يذكر الجب ؛ لئلا يخجل إخوته ولأنه خرج من الجب إلى الرق ، ومن السجن إلى الملك ، فالنعمة هنا أوضح. {وجاءَ بكم من البَدْوِ} : من البادية ؛ لأنهم كانوا أصحاب المواشي وأهل البدو ، فعد عليهم من النعم انتقالهم للحاضرة ؛ لأنها محل الراحة. {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} : أفسد بيننا وحرش ، من نَزَغَ الدابة إذا نخسها. {إن ربي لطيف لِمَا يشاء} أي : لطيف التدبير لما يشاء من الأمور ؛ إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته ، ويتسهل دونها ، {إنه هو العليم} بوجوه المصالح والتدابير ، {الحكيم} الذي يفعل كل شيء في وقته ، على وجه تقتضيه الحكمة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 306
(3/425)
رُوي أن يوسف عليه السلام طاف بأبيه ـ عليهما السلام ـ في خزائنه ، فلما أدخله خزانة القرطاس ، قال : يا بني ، ما أغفلك ، عندك هذه القراطيس وما كتبت لي على ثماني مراحل ، قال : أمرني جبريل ، قال : أو ما تسأله ؟ قال : أنت أبسط مني ، سله ، فقال جبريل : أمرني ربي بذلك ؛ لقولك(إني أخاف أن يأكله الذئب) ، فهلا خفتني. هـ. قاله البيضاوي : وزاد في القوت : لِمَ خفت عليه الذئب ولم ترجني ؟ ولِمَ نظرت إلى غفلة إخوته ، ولم تنظر إلى حفظي له ؟ فهذا على معنى قول يوسف عليه السلام للساقي : (اذكرني عند ربك) ، فهذا مما يعتب على الخصوص من خفي سكونهم ، ولمح نظرهم إلى ما سوى الله عز وجل. هـ.
الإشارة : ما أحلى الوصال ، بعد الفراق ، وما ألذ شهود الحبيب على الاشتياق ، فبقدر طول البين يعظم قدر الوصال ، وبقدر حمل مشاق الطلب يظفر بالمأمول. فجدّ أيها العبد في طلب مولاك ، وغبَ في سيرك إليه عن حظوظك وهواك ، تظفر بالوصْل الدائم في عزك وعُلاك ، وتتصل بكل ما كنت تأمله من مطالبك ومنُاك. وأنشدوا :
308
وإنِ امْرُؤ أَمْسَى بِقُرْبِك نَازِلاً
فَأَهْلاً بِه ، حَازَ الفَضَائِلَ كُلّها
وألبسته حُلْيَ المحاسِن فاكْتَسَى
حُلَلَ الرضَا فازْدَادَ قُرْبا ما انْتَهَى
وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 306
قلت : (فاطر) : نعت المنادي ، أو منادى بنفسه.
يقول الحق جل جلاله : حاكياً عن يوسف عليه السلام : {ربِّ قد آتيتني من المُلكِ} أي : من بعض الملك ، وهو ملك مصر ، {وعلمتني من تأويل الأحاديث} ؛ الكتب المتقدمة ، أو تأويل الرؤيا. و " من " : للتبعيض فيهما ؛ إذ لم يعط ملك الدنيا كلها ، ولا أحاط بالعلم كله. {فاطِرَ السَّماواتِ والأرض} : مبدعهما ومنشئهما ، {أنت وليي في الدنيا والآخرة} : أنت ناصري ومتولي أمري في الدارين ، {توفني مسلماً} : اقبضني ملسماً ؛ {وألحقني بالصالحين} من آبائي ، أو جماعة الصالحين في الرتبة والكرامة ، أو بالصالحين لحضرة قدسك.
(3/426)
رُوي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ، ثم توفي ، فنقله يوسف عليه السلام إلى الشام ليُدفن مع أبويه. هكذا ذكر بعض المفسرين. وقال في الزهر الأنيق : بقي يعقوب عليه السلام بمصر أربعين سنة في أطيب وقت ، وأكمل عافية ، ثم أوحى الله إلى جبريل : أن انزل إلى يعقوب ، وقال له : يرحل إلى الأرض المقدسة ، عند قبور آبائه ، يجاورهم حتى أُلحِقَه بهم. فنادى يعقوب عليه السلام يوسفَ وأولاده ، وقال لهم : قد أمرني ربي بمجاورة أبي ؛ ليقبض روحي هناك ، ثم ودَّعهم وخرج إلى الأرض المقدسة فزار قبور آبائه فبكى ، فرأى في المنام إبراهيم على كرسي ، وإسماعيل عن يمينه ، وإسحاق عن يساره ، وهم يقولون : ألْحق بنا يا يعقوب ، فانتبه ، ثم قالم فوجد قبراً محفوراً تخرج منه رائحة المسك ، فقال : لمن هذا ؟ قال له مَلَكٌ عنده : هو لمن يتمنى سكناه ، فقال : أنا ، فقبض روحه ملكُ الموت ، ثم نزل جبريلُ وميكائيلُ ـ عليهما السلام ـ وكفناه وصليا عليه ، ودفناه.
قال كعب الأحبار : توفي يعقوب وهو ابن مائتي سنة ، ولما وصل نعيُه يوسفَ بكى ، وبكى معه إخوته. هـ. قلت : ظاهره أنهم لم يحضروا موته. وهو خلاف قوله تعالى : {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} [البقرة : 133] ، إلا أن يؤول بمعنى :
309
قرب ، فتكون وصيته وقعت حين أراد الرجوع إلى الشام ، وهو خلاف الظاهر.
(3/427)
ثم أن يوسف تاقت نفسه إلى الملك المخلد ، فتمنى الموت ، فقال : {رب قد آتيتني من الملك....} الخ. رُوي أنه عاش بعد قوله هذا مدة ، ثم ماتت زليخا ، ولم يتزوج بعدها ، وعاش بعدها أربعين يوماً ، ثم اشتاق إلى اللقاء واللحوق بآبائه ، فتوفاه الله طيَّباً طاهراً ، فتخاصم أهل مصر في مدفنه ، حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مَرمَرـ أي : رُخام ـ فيدفعوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ، ثم يصل إلى مصر ؛ ليكونوا شرْعاً فيه. وفي رواية : أنهم دفنوه في ضفة النيل ؛ فخصبت وجدبت الأولى ، فجعلوه في صندوق ، ودفنوه في النيل ؛ فاخضرت الجهتان ، ثم نقله موسى عليه السلام إلى مدفن آبائه. وكان عمره : مائة وعشرين سنة ، وقد تقدم ذكر أولاده الثلاثة : إفراثيم ، وميشا ، ورحمة امرأة أيوب ، وتقدم البحث فيها ، وذكر في الزهر الأنيق أنه ولد له من زليخا عشرة أولاد ، فانظره. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 309
الإشارة : إذا كان العبد في زيادة من الأعمال ، وفي الترقي إلى مقامات الكمال ، فلا بأس أن يتمنى البقاء في هذه الدار ؛ لزيادة الزاد إلى دار القرار ، وإذا كان في نقصان من الأعمال ، أو خاف النقصان بعد الكمال ، فلا بأس بطلب الرحيل والانتقال ؛ كما طلبه الصَّديق عليه السلام بعد الملك التام. وكما فعل عمر رضي الله عنه حين انتشرت رعيته ، وخاف التقصير في سيرته. وقد تقدم في سورة البقرة تفصيل ذلك ، ولقد أحسن الشاعر في التحذير ، من الاغترار بزخرف هذه الدار ، فقال :
هُو الحِمَامُ فلا تُبْعِدْ زِيَارَتَه
ولا تَقُلْ : لَيْتَني منه على حَذَرِ
يَا وَيحْ مَن غَرَّه دَهْرٌ فَسُرَّ به
لَم يَخْلُص الصَّفْوُ إلا شِيبَ بالكَدَرِ
انْظُر لِمَنْ باد تنْظُرْ آية عَجَباً
وعِبْرَةً لأُولِي الأبصَارِ والبَصَرِ
بَادُوا فعَادُوا حَديثاً ، إنَّ ذَا عَجَبٌ
ما أَوْضَحَ الرُّشْدَ لولا غَفلَةُ النَّظَرِ
(3/428)
تَنَافَسَ النَّاسُ في الدُّنيا وَقَدْ عَلِمُوا
أن الزمانَ إذا فَكَّرت ذو غِيرِ
وَاعمَل لأُخْرَاكَ لا تَبْخَلْ بِمَكْرمُةٍ
ومَهَّدِ العُذْرَ ؛ ليْس العينُ كَالأَثرِ
جزء : 3 رقم الصفحة : 309
قلت : (ذلك) : مبتدأ ، و(من أنباء الغيب) : خبر. و(نوحيه) : حال.
يقول الحق جل جلاله : ذلك أي : خبر يوسف وقصته ، هو {من أنباء} أخبار {الغيب} التي لم يكن لك بها علم ، وإنما عَلِمْتَه بالوحي الذي {نُوحيه إليك} فأخبرتهم به. {وما كنت لديهم} أي : وما حضرت عندهم ، {إذ أجمعوا أمرَهم} : حين عزموا أمرهم على أن يجعلوه في غَيَِابَةِ الجب ، {وهم يمكرون} به ، وبأبيه ؛ ليرسله معهم. ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحداً من الأحبار فتعلمت ذلك منه ، فتحققوا أنه وحي من عند الله ، ولكن جحدوا ؛ {وما أكثرُ الناس ولو حرصْتَ} على إيمانهم ، وبالغت في إظهار الآيات لهم ، {بمؤمنين} ؛ لعنادهم وتصميمهم على الكفر ، {وما تسألُهم عليه} على تبليغ هذا النبأ ، أو القرآن ، {من أجرٍ} ؛ كما يفعله حملة الأخبار من الأحْبار. {إن هو إلا ذِكْرٌ} : عظة من الله ، {للعالمين} من الجن والإنس.
(3/429)
{وكأيّنَ} : كثيراً {من آية في السماوات والأرضِ} الدالة على وجود صانعها وتوحيده ، وكمال قدرته وتمام حكمته ، {يَمرُّونَ عليها} ويشاهدونها ، {وهم عنها مُعْرِضُون} : لا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون. {وما يؤمن أكثرُهُم بالله} أي : وما يصدق أكثرهم بوجود الله في إقرارهم ، بوجوده ، وخالقيته للأشياء ، وأنه الرزّاق المميت. {إلا وهم مشركون} بعبادة الأصنام ، أو باتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً ، أو بنسبة التبني إليه ، أو الوقوف مع الأسباب ، أو غير ذلك من أنواع الشرك الجلي والرهبان أرباباً ، أو بنسبة التبني إليه ، أو بالوقوف مع الأسباب ، أو غير ذلك من أنواع الشرك والجلي والخفي. قيل : نزلت في مشركي مكة ، وكانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً تملكه وما ملك : وقيل : في أهل الكتاب. {أفأمنوا أن تأتيهم غاشيةٌ} : عقوبة تغشاهم وتشملهم ، {من عذاب الله} المرسل على الأمم المتقدمة ، {أو تأتيهم الساعةُ بغتهً} : فجأة ، {وهم لا يشعرون} بإتيانها ، غير مستعدين لها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 310
الإشارة : قوله تعالى : {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} : مثله يقال لأهل الوعظ والتذكير ، الداعين إلى مقام الخصوصية ، وما أكثر الناس ولو حرصت على هدايتهم ، بمهتدين إلى مقام الخصوصية ؛ لأن أهل الخصوصية أفراد قليلون في كل زمان ؛ قال تعالى : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ : 13]. وتقدم في سورة هود ما يتعلق بقوله : {وما تسألهم عليه من أجر}.
311
(3/430)
وقوله تعالى : {وكأيِّن من آية...} الخ ، فيه ذم الغفلة ، والإعراض عن التفكر والاعتبار ؛ فإن الحق ـ جل جلاله ـ ما أظهر هذه الكائنات إلا ليعرف بها ، وتظهر فيها أسرار ذاته ، وأنوار صفاته. قال في لطائف المنن : فما نصبت الكائنات لتراها ، ولكن لترى فيها مولاها ؛ فمراد الحق منك أن تراها بعين من لا يراها ؛ تراها من حيث ظهوره فيها ، ولا تراها من حيث كونيتها. قال : ولنا في هذا المعنى :
ما أثبتَ لَكَ المعالم إلا
لِتَراهَا بعَيْنِ مَن لا يَرَاهَا
فَارْقَ عَنهَا رُقِيَ منْ لَيْس يَرضَى
حَالةً دُون أن يرى مَولاهَا. هـ.
وقوله تعالى : {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} : لا ينجو من الشرك الخفي إلا أهل التوحيد الخاص ، وهم الذين غابوا عن الأكوان جملةً بشهود المكون ، قد سقط من نظرهم وجود الأغيار ، وتطهرت سرائرهم من لوث الأكدار ، ولم يبق في مشهدهم إلا الواحد القهار ، فلم يعتمدوا على الوسائط والأسباب ، برؤية مسبب الأسباب ، ولم يركنوا إلى العشائر والأصحاب ، فإن التفتوا إلى غيره ، غفلةً ، أدبهم ، وردهم إلى حضرته. هذا شأنهم معه أبداً. جعلنا الله منهم ، وخرطنا في سلكهم آمين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 310
قلت : (أدعوا) : حال من الياء. و(على بصيرة) : حال ثان ، و(أنا ومن اتبعني) : الضمير ـ تأكيد للمستكن في (أدعو) ، أو في (على بصيرة) ، أو مبتدأ خبره : (على بصيرة) ، مقدم.
(3/431)
يقول الحق جل جلاله : {قل} يا محمد : {هذه سبيلي} : طريقي الذي جئتُ به من عند ربي ؛ وهي الدعوة إلى التوحيد ، والتاهب ليوم المعاد. ثم فسرها بقوله : {أدعو إلى الله} ، أول حال كوني داعياً إلى الله ، أي : إلى توحيده ومعرفته والأدب معه ، {على بصيرة} : حجة واضحة ، وبينة من ربي ، لا عن تقليد أو عمى. أدعو إلى الله {أنا ومن اتبعني} ؛ فمن كان على قدمي فهو يدعو أيضاً إلى الله علي بصيرة وبينة من ربه ، {وسبحان الله} : وأنزهه عن الشركاء والأنداد ، {وما أنا من المشركين} به شركاً جلياً ولا خفياً ، بل مخلصاً موحداً.
الإشارة : لا يصلح العبد أن يكون داعياً إلى الله حتى يكون على بصيرة من ربه ، بحيث لا يبقى فيه تقليد بحت ، ولا يختلجه شك ولا هم. والدعاة إلى الله على ثلاث مراتب : فمنهم من يدعو على بصيرة الإسلام ؛ وهم الدعاة إلى معرفة أحكام الله وشرائعه ،
312
ومنهم من يدعو على بصيرة الإيمان ، وهم الدعاة إلى معرفة صفات الله تعالى وكمالاته ، ومعرفة ما يجب له تعالى وما يستحيل وما يجوز على طريق البرهان الواضح. ومنهم من يدعو إلى الله على بصيرة الإحسان ، وهم الدعاة إلى معرفة الذات العلية على نعت الشهود والعيان ، من طريق الذوق والوجدان ؛ وهم العارفون بالله ، أهل النور المخرق ، بحيث كل من واجههم خرق النور إلى باطنه. وهذه الدعوة الحقيقية والبصيرة النافذة ، وأهل هذا المقام هم اهل التربية النبوية ، فدعوة هؤلاء أكثر نفعاً ، وأنجح تأثيراً ؛ في زمن يسير ؛ يهدي الله على أيديهم الجم الغفير.
(3/432)
قال في نوادر الأصول : الداعي إلى الله على بصيرة ـ أي معاينة ـ هو الذي قلبه عند الله ، وعلى بصيرة في الطريق ، ومحل القلوب في تلك المراتب ؛ ناطقاً بالله ، عن الله ، فلذلك يلج آذان المستمعين ، مع الكسوة التي تخرق كل حجاب ، وهو نورالله ، لأنه خرج من قلب مشحون بالنور ، فخرق كل حجاب قد تراكم على قلوب المخلطين ، فخلصها إلى نور التوحيد فأنارها ؛ بمنزلة جمرة وصلت النفخة إليها ، فالتهبت ناراً ، فاضاءت البيت. وهذا سبيل الناطق عن الله. ثم قال : وكيف يجوز الدعاء إلى الله لمن ليس عند الله ، وهو لله ، وإنما قلبه عند نفسه ولنفسه ، مشغول بنهمته وشهواته وأحواله ، وإنما هذا لمن تفرغ من نفسه ، واشتغل بالله. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 312
قلت : (نوحى) : نعت لرجال ، وكذا (من أهل القرى) : نعت ثان ، و(حتى) : غاية لمحذوف ، أي : وما أرسلنا إلا رجلاً يوحى إليهم فأوذوا مثلك ، ودام عليهم ، حتى إذا استيأسوا جاءهم نصرنا.
يقول الحق جل جلاله : {وما أرسلنا من قبلك} يا محمد {إلا رجالاً} بشراً لا ملائكة ، وهو رد لقولهم : {لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} [فصلت : 14] ، وقيل : معناه : نفي استنباء النساء. وصفة أولئك الرجال : {يوحَى إليهم} كما أوحي إليك ، فتميزوا بالوحي عن غيرهم ، وهم {من أهل القُرى}. وهم المدن والأمصار ، والمداشر الكبار ؛ لأنهم أحلم وأعلم ، بخلاف أهل العمود فإنهم أهل جفاء وجهالة. قال الحسن : (لم يبعث الله نبياً من أهل البادية ، ولا من النساء ولا من الجن).
313
قال ابن عطية : والتَّبَدِّي مكروه إلا في الفتن ، وحين يُفَرُّ بالدين ، لحديث : " يُوشِكُ أن يَكونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِم غَنما يَتْبَعُ بها سَعَفَ الجِبَالِ... " الحديث. وفي ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع. هـ.
(3/433)
قلت : والفتنة تتنوع بتنوع المقامات ؛ ففتنة أهل الظاهر : تعذر إقامة الشريعة لكثرة الهرج والفتن ، وفتنة أهل الباطن : تعذر جمع القلب بالله ؛ لكثرة الحس ، وتعرض الشواغل والعلائق. فمن وجد ذلك في الحواضر فلينتقل إلى البوادي ، إن وجد من يعينه على الدين. والغالب أن الحواضر في هذا الزمان يغلب فيها العوائد والشهوات ، وتعتري فيها الشواغل والشواغب ، بخلاف البادية. فإذا كان عليه الصلاة والسلام أذن لسَلَمة : خوف فتنة الظاهر ، فأولى خوف فتنة الباطن ؛ لأنه إذا فسد القلب فسد الجسد كله.
ثم قال ابن عطية : وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تعرب في الإسلام " وقال : " مَن بَدَا جَفَا " وعن معاذ بن جبل أنه قال : (الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الإِنْسَانِ ، كذِئبِ الغَنَمِ ؛ يَأخُذُ الشَّاةَ القَاصية ؛ فإِيَّاكُمْ والشِّعاب ، وَعَليكم بالمَسَاجِدِ ، والجَمَاعَاتِ ، والعَامةَ).
جزء : 3 رقم الصفحة : 313
ثم قال : ويعترض هذا ببدو يعقوب ، وينفصل عن ذلك بوجهين : أحدهما : أن ذلك البدو لم يكن في أهل العمود ، بل بَتَقَرِّ في منازل وربوع ، والثاني : إنما جعله بدواً بالإضافة إلى مصر ، كما هي بنات الحواضر الصغار بَدْوٌ بالإضافة إلى الحواضر الكبار.هـ.
قلت : فالتعرب المنهي عنه هو اعتزال الرجل وحده في جبل أو شِعْبٍ ، وإما إن تقرر في جماعة يقيمون الدين ، ويجتمعون عليه ، فليس بتعرب ولا بدو. ويدل عليه جواب ابن عطية الأول عن يعقوب عليه السلام. والحاصل : أن أهل القلوب بفتشون على مصالح قلوبهم ، فأينما وجدوها فهي حاضرتهم. وقد ظهر في البوادي أكابر من الأولياء ، ربما لم يظهروا في الحواضر. والله تعالى أعلم.
(3/434)
ثم قال تعالى : {أفلم يسيروا} أي : كفار مكة ، {في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم} من المكذبين لرسلهم : كيف هلكوا وتركوا آثارهم يشاهدونها خراباً دارسة ، فيحذروا تكذيبك ، ليؤمنوا ويتأهبوا للدار الآخرة ؛ {ولَدَار الآخِرَةِ} أي : ولدار الحياة الآخرة {خير للذين اتقوا} الشرك والمعاصي ، {أفلا تعقلون} ، وتستعملون عقولكم لتعلموا أنها خير. أو : أفلا يعقلون الذين يسيرون في الأرض ليعلموا أن الدنيا
314
فانية ، والدار الآخرة خير ؛ لأنها باقية.
فإن أبيتم وكذبتم نبيكم فقد كذب من قبلكم رسلهم ، وآذوهم ، وتأخر نصرهم ، {حتى إذا استيأس الرسل} من النصر ، أو من إيمان قومهم ؛ لانهماكهم في الكفر ، وتماديهم من غير وازع ، {وظنوا} أي : تيقنوا {أنهم قد كذبوا} أي : أن قومهم كذبوهم فيئسوا من إيمانهم. أو : ظنوا أن من آمن بهم قد كذبوهم ؛ لطول البلاء وتأخر النصر. وأما قراءة (كُذِبُوا) ؛ بالتخفيف ؛ فمعناه : وظنوا أنهم قد كذب عليهم في وعد النصر.. وأنكرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ هذه الرواية ، وقالت : معاذ الله ؛ لم تكن الرسل تظن بربها ذلك. كما في البخاري.
وقد يجاب بأن ذلك كانت خواطر وهواجس من وسواس النفس ، يمر ولا يثبت ، وهو من طبع البشر ، لا يدخل تحت التكليف. وسماه ظناً ؛ مبالغة في طلب المراقبة ، كما تقدم في قوله : {ولقد همت به وهم بها}. وقال ابن جزي ، على هذه القراءة : الضميران يعودان على المرسل إليهم ، أي : ظن الأتباع أن الرسل قد كذبوا عليهم في دعوى الرسالة ، أو في مجيء النصر لما اشتد عليهم البلاء ، وتأخر عنهم النصر.
فلما يئسوا {جاءهم نصرنا فنُجَّي من نشاء} نجاته : وهو : النبي والمؤمنون. وإنما لم يعينهم ؛ للدلالة على أنهم الذين يستأهلون نجاتهم بالمشيئة القديمة ، لا يشاركهم فيها غيرهم ، {ولا يُردُّ بأسُنا عن القوم المجرمين} إذا نزل بهم. وفيه بيان المستثنين بالمشيئة ، كأنه قال : ولا نشاء نجاة المجرمين.
(3/435)
جزء : 3 رقم الصفحة : 313
الإشارة : قد وجد كثير من الأولياء بالمدن والحواضر ، وكثير منهم في القرى والمداشر. وفضل الله يؤتيه من يشاء ، لا يختص بمكان ولا زمان ، غير أن جلهم جمعوا بين علم المدن وتفرغ البوادي ، يعني : جمعوا بين شريعة المدن وحقيقة البوادي ؛ لأن أهل المدن شريعتهم قوية ، وحقيقتهم ضعيفة. والبوادي بالعكس ؛ لكثرة العلائق في المدن وخفتها في البوادي ، والحقيقة تحتاج إلى تفرغ كبير وتفكر كثير ، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى : {وظنوا أنهم قد كذبوا} بالتخفيف ، معناه : أنهم لم يقفوا مع ظاهر الوعد ؛ لسعة علمهم ؛ لأن ذلك الوعد قد يكون في علم الغيب متوقفاً على شروط خفية لا يعلمها ذلك النبي أو الولي ، ليتحقق انفراده تعالى بالعلم الحقيقي ، والقهرية الغالبة. فلذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم.
وقال الورتجبي : إنهم استغرقوا في قلْزُوم الأزلية ، وغابوا تحت بحار الديمومية ، ولم يروا الحق من كمال استغراقهم في الحق. فلما لم يروه ناداهم لسان غيْره قهر القدم :
315
أين أنتم ؟ غبتم عنه وعن الحقيقة ، فتطُلع أنوار الحقيقة عليهم ، ويأخذ لطفها عن شبكات امتحان القهر. وهذا دأب الحق مع الأنبياء والأولياء حتى لا يسكنوا إلى ما وجدوا منه ، بل يفنوا به عن كل ماله إليهم. هـ.
قال المحشي الفاسي : وحاصل ما أشار إليه : أن قراءة التخفيف تشير إلى أخذهم عن الوقوف مع الوعد ، والسكون إليه ، غيبةً في الحق عن مقتضى وعده ، لا تكذيباً لوعده ، بل ذلك احوالٌ غالبة آخذة عن الصفة ، غيبةً في الموصوف. وهذا حال الصوفي كما يعرف ذلك أهله. وهو صحيح في نفسه ولكنه بعيد عن مرمى الآية ؛ فإن صاحب الغيبة لا يوصف بظن خلاف الوعد ، وإن كان غائباً عنه. وأقرب منه ما ذكره الترمذي الحكيم : من أن ذلك كان لظن فقد شرط في الموعود أوجب عدَم القطع لوقوع الوعد. والله أعلم.
(3/436)
وقد قال في الحِكم : " لا يشككنك في الوعد عدم وقوع الموعود ، وإن تعين زمنه ". يعني أنه قد يتخلف لفقد شرط ؛ كما في قضية الجرْو الذي تخلف جبريل من أجله. أو لعدم تحقيق الوقت ؛ لأن تعيينه كان من قبل أنفسهم من غير وحي ، فلما تأخر ظنوا ذلك بأنفسهم. والله تعالى أعلم. هـ.
والحاصل : أن الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لما تأخر عنهم النصر هجس في أنفسهم تخلف الوعد ؛ خوفاً أن يكون متوقفاً على شرط لم يعلموه ، أو جعلوا له وقتاً فهموه من أمارات ، فلما تأخر عنه ظنوا أنه قد تخلف. وأما قضية الجرو الذي أشار إليهم : فكان جبريل عليه السلام وعد نبينا صلى الله عليه وسلم أن يأتيه في وقت مخصوص ، فدخل جرو البيت ، فلم ينزل في ذلك الوقت ، فلما نزل بعد ذلك ، قال : " إنما تَخلَّفْنَا عن الوقت ؛ لأَنَّ الملائكة لا تَدخلُ بَيْتاً فيه كَلْبٌ " كما في الصحيح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 313(3/437)
سورة الرعد
جزء : 3 رقم الصفحة : 315
316
{بسم الله الرحمن الرحيم * الامار...}
قيل : معناه : أنا أعلم ، الله أعلم وأرى. وقيل : مختصرة من لفظ المرسل ، على عادة رمز المحبين. أو إشارة إلى العوالم الأربعة : فالألف لوحدة الجبروت ، واللام لتدفق أنوار المكوت ، والميم لحس عالم الملك والراء لسريان أمداد الرحموت.
{... تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}. قلت : (تلك) مبتدأ. و(آيات) : خبر ، و(الذي أُنزل) : مبتدأ ، و(الحق) : خبر ، والجملة الثانية كالحجة على الجملة الأولى.
يقول الحق جل جلاله : أيها المرسل المعظم ، والحبيب المفخم ، {تلكَ} الآيات التي تتلوها على الناس هي {آياتُ الكتاب} المنزل من حضرة قدسنا. {و} الكتاب أي : القرآن {الذي أُنزل إليك من ربك} هو {الحق} الذي لا ريب فيه ، {ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون} ؛ لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه.
الإشارة : لَوْ صَفَت القلوب من الأكدار ، ومُلئت بالمعارف والأنوار ؛ لفهمتْ أسرار الكتاب ، وجواهر معانيه ، ولأدركت معرفة الحق من كلامه ؛ لأن الكلام صفة المتكلم ، ولكن أكثر الناس اشتغلوا بمتابعة الهوى ، فصُرفوا عن فهم الكلام ، وفاتهم معرفة المتكلم.
318
جزء : 3 رقم الصفحة : 316
319
قلت : (رواسي) : جمع راسية ، من رسى الشيء : ثبت ، و(جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) مَنْ خَفَضَ عطف على (أعناب) ، ومن رفع عطف على (جنات) ، و(صنوان) نعت تابع ، و(غير) : عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله : {وهو الذي مدَّ الأرض} ؛ بسطها طولاً وعرضاً ؛ لتثبت عليها الأقدام وتتقلب عليها الحيوان والأنام ، {وجعلَ فيها رواسي} : جبالاً ثوابت لتستقر وتثبت ، فلا تميد كالسفينة ، {و} جعل فيها {أنهاراً} مطرده دائمة الجري ، من غير نفاد ولا فتور. ضمها إلى الجبال ؛ لأنها أسبابٌ لتولدها في العادة. {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أي : وجعل فيها صنفين اثنين من كل الثمرات ؛ فكل ثمرة فيها صنفان ؛ أحمر وأسود ، أو حلو وحامض ، وقد خلق من كثير من الثمرات أصنافاً كثيرة ؟ فالجواب : أن ذلك زيادة في الاعتبار ، وأعظم في الدلالة على القدرة بذكر الاثنين ؛ لأن دلالة غيرهما من باب أولى. هـ.
{يُغشى الليلَ النهارَ} ، أي : يجعل الليلَ غشاءً على النهار ولباساً له ، فيصير الجو مظلماً بعدما كان مضيئاً. {إنَّ في ذلك لآياتٍ} ؛ دلائل وجوده وباهر قدرته {لقوم يتفكرون} فيها ؛ فإن وجودها وتخصيصها في هذا الشكل العجيب ، دليل على وجود صانع حكيم ، دبر أمرها ، وهيأ أسبابها.(3/438)
{وفي الأرض قِطَعٌ متجاوراتٌ} ؛ قريب بعضها من بعض ، مع اختلاف أوصافها ، بعضها طيبة وبعضها سبخة ، وبعضها رخوة وبعضها صلبة ، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر ، وبعضها بالعكس ، وبعضها معادن مختلفة. ولولا تخصيص قادر مخصص لتلك الأفعال ، على وجهٍ دون وجه ، لم يكن الحكم كذلك ؛ لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية ، وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية ، من حيث إنها متضامة متشاركة في السبب والأوضاع. قاله البيضاوي : {وجناتٌ من أعناب وزرعٌ ونخيلٌ} ؛ أي : وفي الأرض أيضاً بساتين فيها أنواع من الأعناب والزروع والنخيل ، من صفة تلك النخيل : {صِنْوَانٌ} أي : نخلات كثيرة متفرعة من أصل واحد ، {يُسقى بماءٍ واحد ونُفَضِّلُ بعضها على بعضٍ في الأُكُل} أي : في الثمر المأكول ؛ قدراً وشكلاً ، وطعماً ، ورائحةً ولوناً ، مع اتفاق الماء الذي تُسقى به. وذلك مما يدل أيضاً على الصانع القادر الحكيم ؛ فإن إيجادها ، مع اختلاف الأصول والأسباب ، لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وفيه رد على الطبائعيين. {إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون} : يستعملون عقولهم بالتفكر
320
والاعتبار ، فيُدركون عظمة الواحد القهار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(3/439)
الإشارة : ذَكَرَ أولاً سماء الأرواح ، وما يُناسبها من أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وذكر هنا أرض النفوس ، وما يلائمها من جبال العقول وأنهار العلوم ، فقال : وهو الذي مد أرض النفوس ، وجعل فيها جبالاً من العقول الشامخة ، حتى أدركت الصانع ، وتحققت بوجوده ووحدانيته ، بالدلائل الواضحة ، والبراهين القطعية ، وأنبع منها أنهاراً من العلوم الرسمية ؛ والرقائق الوعظية. وجعل فيها من كل صنف ؛ من ثمار ما جنت بمجاهدتها صنفين اثنين : قبضاً وبسطاً منعاً ووجداً ، ذلاً وعزاً ، فقراً وغنىً. يغْشيانها غشاءَ الليل للنهار ؛ فإذا كان ليل القبض غشيه نهار البسط ، فيزيله ، وإذا كان المنع ، غشية الوجد ، وإذا كان الذل غشيه العز ، وإذا كان الفقر غشيه الغنى ، وهكذا. ودوام حال من قضايا المحال.
وفي أرض النفوس أيضاً قطع متجاورة ، مع اختلاف ألوانها وطبائعها ، وعلومها ومعارفها ، ومواجدها وألسنتها. وفيها أيضاً جنات المعارف ـ إن اتصلت بطبيب عارفٍ ـ من أعناب الحقائق الناشئة عن خمرة الأزل ، وزرع الشرائع الناشئة عن الكسب والتحصيل ، ونخيل الأذواق والوجدان ، صنوان وغير صنوان ـ يعني من تعتريه الأحوال ، ومن لا تعتريه لكمال رسوخه ، تُسقى بخمره واحدة ، وهي الخمرة الأزلية ، على أيدي الوسائط ، أو بلا وسائط ، وهو نادر. ونُفضل بعضها على بعض في الأذواق والوجدان ؛ فترى العارفين بعضهم قطب في الأحوال ، وبعضهم قطب في المقامات ؛ كان الجنيد رضي الله عنه قطباً في العلوم ، وكذا الشاذلي والجيلاني والغزالي ، وأمثالهم. وكان الشيخ أبو زيد قطباً في الأحوال ، وكان سهلُ التسْتُري قطباً في المقامات. والأولياء كلهم لا يخرجون عن هذا التقسيم ، كل واحد وما يغلب عليه ، مع مشاركته لغيره في الثلاث. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(3/440)
قلت : (فعجب) : خبر ، و(قولهم) : مبتدأ ، و(أئذا كنا...) الخ ـ محكي به. واختلف القراء هنا ، وفي مواضع من القرآن ، فمنهم من قرأ بالاستفهام في الأول دون الثاني ، ومنهم بالعكس ، ومنهم من قرأ بالاستفهام فيهما. فمن قرأ بالاستفهام في الأول دون الثاني فإنما القصد هو الثاني ؛ لأنهم إنما أنكروا كون الإنسان يصير تراباً ثم يُبعث ، وأما كونهم يصيرون تراباً فلا إنكار عندهم فيه. ومن قرأ بالاستفهام في الثاني فعلى الأصل ، ومن قرأ بالاستفهام فيهما فزيادة تأكيد. والعامل في (إذا) محذوف دل عليه :
321
{لفي خلق جديد} أي : أُنجَدد إذا... الخ.
يقول الحق جل جلاله : {وإن تعجب} يا محمد من إنكارهم البعث {فعجبٌ قولُهم} أي : فقولهم حقيق بأن يتعجب منه ، فإنَّ من قدر على إنشاء ما قصَّ عليك من عجائب السماوات والأرض ، وأنواع الثمار على اختلاف أصنافها وألوانها ، كانت الإعادة أيسر شيء عليه ، فالآيات المعدودة ، كما هي دالة على وجود المبدأ ، فهي دالة على إمكان الإعادة ، لأنها دالة على كمال قدرته تعالى. ثم فسر قولهم في الإنكار قالوا : {أَئذا كنا تراباً أئنا لفي خَلْقٍ جديد} أي : أَنُجَدِّدُ إذا متنا ، وكنا تراباً ، {أولئك} القائلون ذلك ، أو المنكرون البعث ، {الذين كفروا بربهم} ؛ لأنهم كفروا صفة القدرة ، {وأولئك الأغلالُ في أعناقهم} أي : مقيدون بالضلال ، قد أحاط بهم الشقاء ، ولا يُرجى خلاصهم. أو : يُغلّون يوم القيامة. {وأولئك أصحابُ النار هم فيها خالدون} لا ينفكون عنها. وتوسط ضمير الفصل ؛ التخصيص الخلود بالكفار ، ففيه رد على المعتزلة. والله تعالى أعلم.
(3/441)
الإشارة : إنكار بعث الأرواح من غفلاتها وجهلها ، كإنكار بعث الأشباح بعد موتها ، يُتعجب من الأول كما يتعجب من الثاني ؛ فالقدرة صالحة ، فمن قدر على بعث الأشباح بعد موتها الحسي قدر على بعث الأرواح بعد موتها المعنوي : " من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ؛ {وكان الله على كل شيء مقتدراً} " ، وقد أحيا الله أرواحاً كثيرة كانت ميتة بالجهل والمعاصي ، فصارت عارفة بالله ، من خواص أولياء الله مَنْ كانوا لصوصاً فصاروا خُصوصاً ، ومنهم من كانوا كفاراً فصاروا أبراراً. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
قلت : " المَثُلات " : جمع مَثُلَة ، كَسَمُرة ، وهي العقوبة القظيمة ، التي تجعل الإنسان مثلاً لمن بعده. وفيها لغات وقراءات شاذة. و(على ظلمهم) : حال ، والعامل فيه : المغفرة.
يقول الحق جل جلاله : {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} أي : بالنقمة قبل العافية ، طلبوا نزول العذاب الذي أوعدهم به ؛ استهزاء ، {وقد خَلَتْ} : مَضَتْ {من قََبلِهم المَثُلات} : عقوبات أمثالهم من المكذبين ، أو المصيبات الدواهي ، حتى صاروا مثلاً لمن بعدهم. فما لهم لم يعتبروا ، ولم يخافوا حلول مثلها عليهم ؟ {وإنَّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} أي : مع ظلمهم أَنْفُسَهم بالكفر والمعاصي ، فسترهم وأمهلهم
322
في الدنيا. فالمغفرة هنا لغوية ، وقيل : يغفر لهم بالتوبة. وقيل : بلا قيد التوبة ، بل بمجرد الحلم. قال البيضاوي : وفيه جواز العفو قبل التوبة ، فإن التائب ليس على ظلمه ، ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة باجتناب الكبائر. هـ. {وإنَّ ربك لشديدُ العقاب} لمن يريد تعذيبه ، أو للكفار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَوْلاَ عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُه مَا هنَأ أَحَد العَيْش ، وَلَوْلاَ وَعِيدُهُ وعِقَابُه لاتَّكَلَ كُلُّ أحَد " قاله البيضاوي.
(3/442)
الإشارة : ترى بعض المستهزئين بالأولياء يؤذيهم بلسانه ، أو بغيره ، ويقول : إن كان بيده ما يفعل يفعله بي ، والله تعالى يقول : " مَنْ آذَى لِي ولياً فقد آذَنْتُهُ بالحَرْب " ولكن الحق تعالى يُمهل ولا يُهمل ؛ {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب}.
جزء : 3 رقم الصفحة : 322
(وسارب) : عطف على جملة (من هو) أي : ومن هو سارب ، ليكمل التقسيم أربعة : من أسر ، ومن جهر به ، ومن استخفى ، ومن سرب ؛ أي : برز. انظر ابن جزي. و(المتعال) : منقوص ، يجوز في الوقف عليه حذف الياء وإثباتها ، كذلك : هادٍ ، وواقٍ ، وشبهه ، غير أن الراجح في المعرّف بأل الإثبات ، وفي المُنَوّنِ : الحذف. قال ابن مالك :
وَحَذْفُ يَا المَنقُوصِ ذي التَّنوين ما
لَمْ يُنْصَب : أَوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا
وغَيْرُ ذِي التَّنْوين بالْعَكْسِ ، وفِي
نَحْو مُرٍ : لُزُومُ رَدِّ اليَا اقْتُفِي
وأثبتها ابن كثير في الجميع ، ووافقه يعقوبُ في المُعرّف بأل ، وَحَذَفَها غيرهُ مطلقاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
يقول الحق جل جلاله : {ويقول الذين كفروا} من أهل مكة : {لولا} : هلا {أنزل عليه آيةٌ} أي : معجزة واضحة {من ربه} كما أوتي موسى وعيسى. ولم يعتدوا بالآيات المنزلة عليه ؛ كانشقاق القمر وانقياد الشجر ، وتسليم الحجر ، وأعظمها : القرآن العظيم. وذلك عناد منهم. قال تعالى : {إنما أنت مُنِذرٌ} ؛ مُرْسَل إليهم لتنذرهم كغيرك من الرسل
323
(3/443)
وما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات ، لا مما يُقترح عليك. {ولكل قوم هادٍ} ؛ رسول يهديهم إلى الحق والصواب ، مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم ؛ ففي زمن موسى عليه السلام كان الغالب عليهم السحر ، فأوتي بالعصا تنقلب حية ؛ ليبطل سحرهم ، وفي زمن عيسى عليه السلام كان الغالب عليهم الطب ، فأوتي إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى الذي يعجزون عن مثله ، وفي زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان الغالب عليهم البلاغة والفصاحة ، بها كانوا يتباهون ويتناضلون ، فأوتي القرآنَ العظيم ، أعجز ببلاغته البلغاء والفصحاء. أو : لكل قوم هاد ، يقدر على هدايتهم ، وهو الله تعالى ، أي : إنما عليك الإنذار ، والله هو الهادي لمن يشاء ، أو : ولكل قوم واعظ ومذكر من نَبِيِّ أو وَليّ. رُوي أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا المُنْذِرُ وَأنْتَ يا عَلِيُّ الهَادي ". ثم أردف ذلك ما يدل على كمال علمه وقدرته ، وشمول قضائه وقدره ؛ تنبيهاً على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه ، وإنما لم يُنزله ؛ لعلمه بأن اقتراحهم كان عناداً لا استرشاداً. أو ان وقت الإنزال لم يحضر ، فقال : {الله يعلمُ ما تحملُ كلُّ أنثى} هل هو ذكر أو أنثى ، أو تام أو ناقص ، أو حسن أو قبيح. وهو من الخمس التي اختص بها. {وما تَغِيضُ الأرحامُ وما تزداد} أي : ما تنقص في الجثة بمرض الجنين او إسقاطه ، وما تزداد بنمو الجنين إلى أمده أو أكثر. قال البيضاوي : مدة الحمل عندنا اربع سنين ، وخمس عند مالك ، وسنتان عند أبي حنيفة. رُوي أن الضحاك وُلد لسنتين ، وهرم بن حيان لأربع سنين. وأعلى عدده لا حد له. ـ قلت : يعني مع تحققه ـ وقيل : المراد نقصان دم الحيض وزيادته. هـ. {وكل شيء عنده بمقدار} : بقدر محدود ، ووقت مخصوص ، لا يجاوزه ، ولا ينقص عنه ، فالحق ـ تعالى ـ خص كل حادث بوقت مخصوص معين ، وهيأ له أسباباً تسوقه إليه على ما تقتضيه حكمته.
(3/444)
{عالمُ الغيبِ والشهادة} أي : الغائب عن الحس ، والظاهر فيه {الكبيرُ} : العظيم الشأن ، الذي يصغر كل شيء دون عظمته وكبريائه ، {المتعال} : المستعلي عن سمة الحوادث ، أو : المستعلي بقدرته على كل شيء. {سواءٌ منكم من أسرَّ القولَ} في نفسه {ومن جهر به} لغيره ، {ومن هو مُستَخْف بالليل} : طالب للخفاء مستتراً بظلمة الليل ، {و} من هو {سارب بالنهار} أي : بارز فيه. فقد أحاط الله بذلك ، علماً وسمعاً وبصراً. فالآية مقرره لما قبلها من كمال علمه وشموله.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
له معقباتٌ} أي : لمن أسر أو جهر ، أو استخفى أو برز ، {معقبات} : ملائكة تعتقب في حفظه ، اي : يعقب بعضُها بعضاً ، اثنان بالليل واثنان بالنهار ، أو : لأنهم يعقبون
324
أقواله وافعاله فيكتبونها. أو : جماعة من الملائكة وَكَّلهم الله بحفظ الآدمي ، يعقب بعضُهم بعضاً ، وهو مناسب لقوله : {يحفظونه من أمر الله} أي : يحرسونه من الآفات التي تنزل من امر الله وإرادته. أو : يحفظونه من عقوبة الله وغضبه. إذا أذنب أمهلوه واستغفروا له. أو : يراقبون أحواله من أجل أمر الله ، إذ أمرهم الله بذلك ، أو يكون صفة للمعقبات ، أي : له معقبات من أجل أمر الله ، حيث أمرهم بحفظه. وقيل : الضمير في {له} : يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، المتقدم في قوله : {إنما أنت منذر} ، فتكون نزلت فيمن اراد غدر النبي صلى الله عليه وسلم سراً ، على ما يأتي في الآية الآتية. والله تعالى أعلم.
(3/445)
الإشارة : قد تقدم مراراً حالُ من طلب الكرامة من الأولياء ، وأنه جاهل بهم ، ولا يعرفهم ما دام يلتمس الكرامة منهم. وأيُّ كرامة أعظم من الاستقامة ، والمعرفة بالله ، على نعت الشهود والعيان ؟ !. وقوله تعالى : {ولكل قوم هادٍ} أي : ولكل عصر عارف بالله ، يهدي الناس إلى حضرة الله ، وهم ورثة الهادي الأعظم والنبي الأفخم ، نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ أولهم سيدنا علي ـ كرم الله وجهه ؛ للحديث المتقدم ، لأنه أول من ظهر علم التصوف وأفشاه ، ثم أخذ عنه الحسن البصريّ وهذبه ، ثم حبيب العجمي ، ثم داود الطائي ، ثم معروف الكرخي ، ثم سري السقطي ، ثم إمام الطريقة : أبو القاسم الجنيد ، ثم انتشر في الأرض ، فلكل عصرٍ رجالٌ يحملون لواء الحقيقة ويهدون الناس إلى لباب الشريعة. وهم العارفون بالله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَبْعَثُ اللهُ عَلَى رأسِ كلِّ مائِة سنةٍ منْ يُجَددُ لهذِه الأمة أمرَ دِينِهَا " أي : يجدد الطريقة بعد دروسها ، ويحيي الحقيقة بعد خمود أنوارها ، ويُظهر الشريعة بعد خفاء أعلامها. وقد يكون واحداً ومتعدداً. وقد بعث الله في رأس هذه المائة الثالثة عشر ، أربعةً ، أحيا الله بهم الحقيقة ، وأظهر بهم أنوار الشريعة ، يمشون في الأرض بالنصيحة ، ويهدون الناس إلى رب العالمين ، والله ولي المتقين ، وشهرتهم تُغني عن تعيينهم ، وتقدم اثنان في العقود.
وقوله تعالى : {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} : ما تحمل كل نفس من العلوم ، وما تحمل كل روح من الأسرار. وما تغيض الأرحام ، أي : القلوب ، فقد تنقص أنوارها بمباشرة الأغيار ، وقد تزداد بالتفرغ أوصحبة العارفين الكبار. وكل شيء عنده بمقدار ، فالفتح له وقت معلوم ، وحد محدود ، والمراتب والمقامات مقسومة محدودة في الأزل ، كل أحد ياخذ ما قُسم له. وقوله تعالى : {سواء منكم من أسر القول...} إلخ ، فيه تحقيق المراقبة وتشديد المحاسبة على الخواطر والقلوب. والله تعالى أعلم.
325
(3/446)
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
قلت : (وإذا) : ظرف ، والعامل فيه : ما دل عليه الجواب ، أي : لا يُرد ما قضى إذا أراد إنفاده. و(خوفاً وطعماً) : منصوبان على العلة بتقدير المضاف ، أي : إرادة الخوف والطمع ؛ ليتحد الفاعل ، أو بتأويل : يجعلكم ترون البرق خوفاً وطمعاً. و(الثقال) : نعت للسحاب ، وجَمَعَه ؛ لأن السحاب جنس بمعنى الجمع. وجملة : {وهم يجادلون} : إما استئنافية ، أو حال من الموصول ، و(المِحال) : المكر والخديعة. من مَحَل بفلان إذا كاده وعرَّضه للهلاك ، ومنه تَحَمَّلَ : إذا تكلَّف استعمال الحيلة ، فالميم أصلية ، ووزنه : فِعَال ، وقيل : مشتق من الحيلة ، فالميم زائدة ، ووزنه : مِفْعَل ، وأصله : مِحْيَل.
يقول الحق جل جلاله : {إن الله لا يُغَيّر ما بِقومٍ} من النعم والعافية إلى النقمة والبلية {حتى يُغَيِّروا} هم {ما بأنفسهم} من الطاعة وترك المعصية ، إلى ارتكاب الذنوب. فلا يسلب النعم عن قوم إلا بارتكاب ذنب ، ولو من البعض إذا سكت الكل. {وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له} أي فلا رادّ له ولا معقب لحكمه ، {وما لهم من دونه من وَالٍ} أي : ليس لهم من يلي أمرهم ، ويدفع عنهم السوء الذي قضاه الله عليهم ، وأراد نزوله بهم ؛ لأن وقوع خلاف مراد الله تعالى محال.
(3/447)
{هو الذي يُريكم البَرق خوفاً وطمعاً} أي : خوفاً مما ينشأ عن البرق من الصواعق والأمور الهائلة ، وطمعاً في نزول الغيث الذي يكون معه غالباً ، {ويُنشئ} أي : يخلق {السحاب} ؛ الغيم المسْحب ، {الثِّقال} : المثقل بالمطر الحاملة له ، {ويُسبحُ الرعدُ بحمده} أي : متلبساً بحمده. أو : يدل الرعد بنفسه على وحدانيته تعالى وكمال قدرته ملتبساً بالدلالة على كمال فضله ، ونزول رحمته. وعن ابن عباس رضي الله عنه : سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ؛ فقال : " مَلَكٌ مَوَكَّلُ بالسَّحابِ ، له مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ السَّحَاب ". {و} تسبح أيضاً {الملائكة من خِيفَته} أي : من خوفه وإجلاله ، {ويُرسل الصواعقَ} ؛ نار تنزل من السماء وقت ضرب الرعد ، {فيصيب بها ما يشاء} فيهلكه {وهم يجادلون في الله} أي : الكفار ، حيث يكذبون رسوله فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة ، والتفرد بالألوهية ، وبعث الناس وحشرهم للمجازاة ، {وهو شديد المِحَال} أي :
326
شديد المكر بأعدائه ، الذين أرادوا أن يمكروا بنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 326
رُوي أن عامر بن الطُفَيل وأرْبَدَ بن ربيعة وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله ، فأخذ عامر بالمجادلة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغله ، ودار أرْبَدُ من خلفه ؛ ليضربه بالسيف ، فتنبه له الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقال : " اللَّهُمَّ اكفنيهما بِمَا شِئتَ " ، فأرسل الله على أرْبد صاعقة فقتلته ، ورُمي عامرٌ بغدة ، فمات في بيت امرأة سلُوليَّة ، فكان يقول : غُدة كغُدَّة البعير ، وموت في بيت امرأة سلُولِيَّة! فنزلت الآية من أولها ، وهو قوله : {له معقبات... } إلخ ، على قول.
(3/448)
الإشارة : من جريان حكمته تعالى في خلقه أنه لا يسلب النعم عنهم إلا بسوء أدبٍ منهم ، كلٌّ على قدر مقامه ، فالنعم الظاهرة يسلبها بترك الطاعة الظاهرة ، أو بالمخالفة الظاهرة ، والنعم الباطنة يسلبها بترك المراقبة الباطنة أو المشاهدة الباطنة ، فلكل مقام حقوق وآدب ؛ فمن أَخَلَّ بحقوق مقام نقص له منه ، إلا أن يتوب. وقد يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه ، فيظن أنه لم يُسْلب. ولو لم يكن إلا ترك المزيد. وقد يبعد ، وهو لا يشعر ، ولو لم يكن إلا وتركه وما يريد. كما في الحِكَم : " إن الله لا يغير ما في القلوب من أنوار الشهود والعيان ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من حسن الأدب بسوء الأدب ". وهذا ما لم يتحقق له مقام المحبوبية والتمكن مع الله في المعرفة. وإلا فالرعاية والعناية محفوفة بقلبه ، فقد يبلغ الولي إلى مقام يقال له : افعل ما شئت فقد غفرتُ لك ، كما وقع لأهل بدر ، وارجعٌ ما تقدم عند قوله : {أُوْلَـائِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام : 82] وقد يُغير الله قلب عبده اختباراً له ، فيسلبه حلاوة المعاملة أو المعرفة ، فإن هو اضطرب وتضرع ردَّ له حاله ، وإن لم يضطرب ولم يفزع إلى الله لم يرد له شيئاً. وإليه الإشارة بقوله : {وإذا اراد الله بقوم سوءاً فلا مَردَّ له...} الآية.
هو الذي يُريكم بَرْقَ لمعان أنوار المشاهدة ، عند الاستشراف على الحضرة القدسية ، خوفاً من الرجوع ؛ لعدم إطاقة ذلك النور ، وطمعاً في الوصول إلى التمكين ، فلا يزال تترادف عليه البروق حتى يستمر ذلك كبرق متصل ، وهي أنوار المواجهة ، وينشئ سحاب الواردات ثقالاً بالعلوم والأسرار ، ويرسل الصواعق تصعق وجود الحس عن أسرار المعاني ، فيصيب بها من يشاء ممن سبقتَ له العناية. وأهل الإنكار والتكذيب بطريق الخصوص يجادلون في الله بتكذيب أوليائه وإنكار هذه الأنوار ، وهو شديد المحال ، فيمكر بهم ويتركهم في مقام البُعد ، وهم لا يشعرون.
327
(3/449)
جزء : 3 رقم الصفحة : 326
يقول الحق جل جلاله : {له دعوةُ الحق} ؛ لأنه الذي يحق أن يُدعى فيجيب ، دون غيره ؛ فإنما له الدعاء الباطل ؛ لأنه يُدعى فلا يسمع ولا يجيب. أو : له دعوة الحق ، وهي كلمة التوحيد ؛ " لا إله إلا الله ، فمن دعا إليها فقد دعا إلى الحق. والأول أرجح ؛ لمناسبة قوله : {والذين يَدْعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} ، أي : والأصنام الذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ، مما طلبوا ، أو : والمشركون الذين يدعون أصناماً من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء ، فحذف المفعول ؛ للدلالة عليه ، فلا يستجيبون لهم {إلا كباسط كَفَّيْه إلى الماء} ؛ إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء يشير إليه ، {ليبلغ فاهُ} ؛ أي : يطلب منه أن يصعد إليه ويبلغ فاه {وما هو ببالغه} أي : ليس الماء ببالغ فاه ، لأنه جماد لا يشعر بدعائه ، ولا يقدر على إجابته من حيث هو ، شَبّه إجابة الأصنام لمن عبدهم بإجابة الماء لمن بسط إليه كفه ، وأشار إليه بالإقبال إلى فيه ، ولا يبلغ فاه أبداً ؛ لأنه جماد لا يسمع ولا يعقل ، وكذلك الأصنام لا تسمع ولا تجيب من بسط إليها يده ليطلب منها ؛ لأنها خشب وأحجار. {وما دعاءُ الكافرين} للأصنام ، {إلا في ضلال} وخسران وضياع.
ثم ذكر الحقيق بالعبادة والطلب ، فقال : {ولله يسجدُ من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} يحتمل أن يكون السجود حقيقة ، فالملائكة والمؤمنون يسجدون طوعاً في الشدة والرخاء يسجدون كرهاً في الشدة والضرورة. أو يكون مجازاً ؛ وهو : انقيادهم لما أراد منهم ، شاؤوا أو كرهوا. {و} تسجد أيضاً {ظلالُهم} ؛ بانقيادها لله تعالى في طولها وقصرها ، وميلها من جانب إلى جانب ، {بالغدو والآصالِ} ، أي : طرفَيْ النهار. وخُصَّ هذان الوقتان ـ وإن كان سجودهما دائماً ـ ؛ لأن الظلال إنما تَعْظُم وتكبر فيهما. وقال الواحدي : كل شخص مؤمن أو كافر ظله يسجد لله تعالى ، ونحن لا نقف على كيفية ذلك. هـ.
(3/450)
وقال القشيري : ذلك سجود شهادة ، لا سجود عبادة ، فإن امتنع من إقامة الشهادة قوم قالةً فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة ، فكل مخلوقٍ من عين وأثر ، حجر ومدر أو غير ذلك ؛ فمن حيث البرهان لله ساجد ، ومن حيث البيان للواحد شاهد. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 328
وقال أبو حيان : عن الفراء : الظل في الأصل مصدر ، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم طولُه بسبب انخفاض الشمس ، وقصره بسبب ارتفاعها ، فهو منقاد لله تعالى
328
في طوله وميله من جانب. ثم قال : والحاصل أنها جارية على مقتضى إرادته تعالى ومشيئته ، من الامتداد والتقلص ، والفيء والزوال. هـ.
وقيل : لا يعلم تسبيح الجماد والنبات والحيوان البهيمي وسجودها ؛ إلا مَنْ كاشفه الله تعالى بحقيقة ذلك من نبي أو ملك أو صدِّيق. واما حمدها لله تعالى وتسبيحها بلسان الحال فيعلمه العلماء. قاله المحشي الفاسي.
الإشارة : كل من تعلق في نوائبه بغير الله ، أو ركن في حوائجه إلى غير مولاه ، فهو كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ، وليس بواصل إليه ، ولا ببالغ قصده ومناه ، بل دعاؤه في تلف وخسران ، وجزاؤه الخيبة والحرمان. فالواجب على العبد أن يَقْصر حوائجه على مولاه ، وينقاد إليه بكليته في حال الطوع والإكراه. إما أن ينقاد إليه بالإحسان ، أو بسلاسل الامتحان. " عَجِبَ رَبُّكَ من قَوْمٍ يُساقُون إلى الجَنَّةِ بالسَّلاسِل ".
جزء : 3 رقم الصفحة : 328
(3/451)
يقول الحق جل جلاله : {قل} يا محمد للمشركين : {من ربُّ السماوات والأرض} أي : خالقهما ، ومدبر أمرهما ، {قل} لهم : هو {الله} لا خالق سواه ، ولا مدبر غيره ، أجاب عنهم بذلك ، إذ لا جواب لهم سواه ؛ لأنهم يقرون به ، ولكنهم يشركون به ، فأبطل ذلك بقوله : {قل أفاتخذتم من دونه أولياءَ} ؛ أصناماً جامدة تتولونها بالمحبة والنصرة والدفع ، وهم جوامد {لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً} أي : لا يقدرون أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً ، ولا يدفعون عنهم ضراً ، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم ممن عبدهم ، أو يدفعون عنه ضراً ؟ !. وهو دليل على ضلالهم وفساد رأيهم ، في اتخاذهم الأصنامَ أولياء ، وجاء أن يشفعوا لهم.
{قل هل يستوي الأعمى والبصيرُ} أي : الكافر الجاهل ، الذي عميت بصيرته بالجهل والشرك ، والمؤمن الموحد الذي انفتحت بصيرته بالإيمان والعلم. أو المعبود الغافل عن عبادة من عبده ، والعالم بأسرار عباده. {أم هل تستوي الظلماتُ والنور} ؛ الكفر والإيمان ، أو الجهل والعلم. {أم} : بل {جعلوا لله شركاءَ} من صفتهم ، {خَلقوا كخلقه فتشابه} ؛ التبس {الخلقُ عليهم} فلم يدروا ما خلق الله مما خلق أصنامُهم ،
329
وهذا كله داخل الإنكار. والمعنى : هل خلق شركاؤهم خلقاً كخلق الله ، فالتبس الخلق عليهم ، فلم يُميزوا خلق الله من خلق أصنامهم ، حتى ظنوا أنها تستحق أن تُعبد مع الله ، أو يُطلب منها حوائج دون الله ؟ !.
(3/452)
ثم أبطل ذلك بقوله : {قل اللَّهُ خالقُ كل شيء} ، قال البيضاوي : والمعنى أنهم ما اتخذوا له شركاء خالقين مثله حتى يتشابه الخلق عليهم ، فيقولوا : هؤلاء خلقوا كما خلق الله ، واستحقوا العبادة كما استحقها ، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق ، فضلاً عما يقدر عليه الخالق.هـ. {قل اللهُ خالق كل شيء} ؛ لا خالق غيره فيشاركه في العبادة. جعل الخلق موجب الخلق مُوجَب العبادة ، ولازم استحقاقها ، ثم نفاه عما سواه ؛ ليتحقق انفراده بالربوبية والقهرية كما أفاد قوله : {وهو الواحدُ} في الألوهية ، {القهار} بتصريف أحكام الربوبية. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
الإشارة : إذا علِم العبدُ أن ربه قائم بأمر خلقه ، مدبر لشأن ملكه ، من عرشه إلى فرشه ، جعل حوئجة كلها وقْفاً عليه ، وانحاش بكليته إليه ، ورفع همته عن خلقه ، إذ ليس بيدهم ضر ولا نفع ، ولا جلب ولا دفع ، بل هم عاجزون عن إصلاح أنفسهم ، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم ؟ ! وفي الحكم العطائية : " لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك فيكف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعاً ، من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه : فكيف يستطيع أن يكون لها من غيره رافعاً ". وقال بعض العارفين من المُكَاشَفين ـ رضي الله عنهم ـ : قيل لي في نوم كاليقظة ، أو يقظة كالنوم : لا تُبْديَنّ فاقة فأضَاعفها عليك ، مكافأة لسوء أدبك ، وخروجك عن حد عبوديتك. إنما ابتليتك بالفاقة لتفزع بها إليَّ ، وتتضرع بها لَديَّ ، وتتوكل فيها عليَّ. سبكتك بالفاقة لتصير ذهباً خالصاً ، فلا تزيفن بعد السبك ، وَسَمْتُكَ بالفاقة وحكمت لنفسي بالغنى ، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى ، وإن وصلتها بغيري قطعت عنك مواد معونتي ، وحسمت أسبابك من أسبابي ، طرداً لك عن بابي. فمن وكلتُه إليَّ ملك ، ومن وكلته إليه هلك. هـ.
(3/453)
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : آيست من نفع نفسي لنفسي ، فكيف لا آيس من نفع غيري لها ، ورجوت الله لغيري فكيف لا أرجو لنفسي ؟ . هـ. فالبصير من اعتمد في أموره على مولاه. والأعمى من ركن في حوائجه إلى سواه. فأنوار التفويض والتسليم لا تستوي مع ظلمات الشرك والتدبير. {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور}. بالله التوفيق.
330
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
قلت : (جُفاء) : حال. و(الحسنى) : مبتدأ ، و(للذين) : خبر مقدم. و(الذين لم يستجيبوا) : مبتدأ و(لو أن) : خبر ، أو (الذين) : متعلق بيضرب ، و(الحسنى) : نعت لمصدر محذوف ، و(الذين) : معطوف على (الذين) الأولى ، أي : يضرب الأمثال للذين استجابوا الحسنى وللذين لم يستجيبوا ، ثم استانف قوله : لو أن... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : {أنزل من السماء} أي : السحاب ، أو ناحية السماء ، {ماءً} ؛ مطراً {فسالتْ} به {أودية} : أنهار ، جمع وادٍ ، وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة ، فاتسع واستعمل للماء الجاري فيه. {بقَدَرها} أي : بقَدَر صغرها وكبرها ، كل يسيل على قدره ، أو بقدر ما قسم في قسمة الله تعالى ، وعلم أنه نافع غير ضار ، {فاحتمل السيلُ زَبَداً} أي : رفعه على وجه الماء ، وهو ما يحمله السيْل من غذاء ونحوه ، أو ما يطفو على الماء من غليانه ، {رابياً} : عالياً على وجه الماء ، {ومما تُوقدون عليه في النار} من الذهب وفضة ، وحديد ورصاص ونحاس وغيره ، {ابتغاءً} أي : لطلب {حليةٍ} كالذهب والفضة ، {أو متاع} كالحديد والنحاس يصنع منه ما يتمتع به ؛ من الأواني وآلات الحرب والحرث. والمقصود بذلك : بيان منافعها ، فكل واحد منهما له {زَبَدٌ مثله} أي : مثل زبد الماء ، وهو خبثه الذي تخرجه النار عند سبكه.
(3/454)
{كذلك يَضْرِِبُ اللَّهُ الحقَّ والباطل} ؛ فمثل الحق ـ وهو العلم بالله وبأحكامه ـ كمثل الأمطار الغزيرة ، ومثل القلوب التي سكن فيها ، وجرت حِكَمُه على ألسنة أهلها ؛ كالأودية والأنهار والخلجان ، كلٌّ يحمل منه على قدره ، وسعة صدره ، ومثل الباطل الذي دمغه وذهب به ؛ كالزبد وخبث الحديد والنحاس ، أو الذهب والفضة. وسيأتي في الإشارة تكميله إن شاء الله. ورُوِي مثل هذا عن ابن عباس. وإنكار ابن عطية له جمود ، وتَذَكرْ حديث البخاري : " مثل ما بعثني الله به من الهدى... " الحديث ، فإنه يشهد لذلك التأويل. وتقدم له بنفسه في قوله : {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ} [يوسف : 39] ما يشير إلى تفسير أهل الإشارة والرموز. وراجع ما تقدم لنا في خطبة الكتاب يظهر لك الحق والصواب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 331
قال البيضاوي : مُثِّلَ الحقُّ في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء ، فتسيل به
331
الأودية على قدر الحاجة والمصلحة ، فتنفع به أنواع المنافع ، ويمكن في الأرض ، فيثبت بعضه في منابعه ، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والآبار ، وبالفِلِزِّ الذي ينتفع به في صَوْغ الحلي ، واتخاذ الأمتعة المختلفة ، ويدوم ذلك مدة متطاولة. والباطلُ ، في قلة نفعه وسرعة ذهابه ، بزبدهما ، وبيَّن ذلك بقوله : {فأما الزَّبدُ فيذهب جُفَاءً} ، أي : مَرْمياً به ، من جفاه : رمى به وأبعده ، أي : يرمى به السيل والفلز المذاب. هـ. {وأما ما ينفع الناس} كالماء ، وخالص الذهب أو الحديد ، {فيمكثُ في الأرض} لينتفع به أهلها. {كذلك يضرب اللهُ الأمثالَ} لإيضاح المشكلات المعنوية ، بالمحسوسات المرئية.
(3/455)
{للذين استجابوا لربهم} بالإيمان والطاعة ، {الحسنى} أي : المثوبة الحسنى ، أو الجنة. {والذين لم يستجيبوا له} من الكفرة {لو أنَّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به} من هول ذلك المطلع. أو : يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى ، والذين لم يستجيبوا له. ثم بيَّن مثال غير المستجيبين بقوله : {لو أن لهم...} إلخ. {أولئك لهم سُوءُ الحساب} ؛ أقبحة وأشده ، وهو أن يناقش فيه ، بأن يحاسبَ العبد على كل ذنب ، ولا يغفر منه شيء ، {ومأولهم} : مرجعهم {جهنمُ وبئس المهادُ} ؛ الفراش والمستقر ، والمخصوص محذوف ، أي : هذا.
الإشارة : قد اشتملت الآية على أمثلة : مثال للعلم النافع ، ومثال للعمل الخالص ، وللحال الصافي. فمثَّل الحقُّ تعالى العلم النافع بالمطر النازل من السماء ، فإنه تحيا به الأرض ، وتجري به الأودية والعيون والآبار ، ويحبس في الخلجان والقدور لنفع الناس ، وتتطهر به الأرض من الخبث ؛ لأنه ترمى به السيول ، فيذهب جفاء ، كذلك العلم النافع تحيا به النفوس بعد الموت بالجهل والشك ، وتحيا به الأرواح بعد موتها بالغفلة والحجاب ، وتمتلئ به القلوب على قدر وسعها وسعتها ، وعلى قدر ما قُسم لهم من علم اليقين ، أو عين اليقين ، أو حق اليقين ، وتتطهر به النفوس من البدع وسائر المعاصي.
ومثَّل العمل الخالص الذي تَصَفَّى من الرياء والعجب وسائر العلل ، بالحديد المصفى من خبثه ؛ لتصنع منه السيوف والآلات ، أو النحاس المصفى لتصنع منه الأواني ، وغيرها مما ينفع به الناس.
جزء : 3 رقم الصفحة : 331
(3/456)
ومثَّل الحال الصافي من العلل بالذهب المصفى أو الفضة ، إذا صفيت وذهب خبثها ؛ ليصنع بهما الحلي والحلل ؛ ليتزين بها أهلها ، فأشار إلى المثال الأول ـ وهو ا لعلم ـ بقوله : {أنزل من السماء ماء} إلخ. وأشار إلى الحال بقوله : {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية} ، وأشار إلى العمل بقوله : {أو متاع زبد مثله}. وقدَّم الحال لشرفه ، ومثَّله بالذهب والفضة ؛ لزيادة الرغبة فيه ؛ لأنه ثمرة العمل ، ومرجعه إلى الوجدان والأذواق ، وهو عزيز لا يجده إلا المقربون.
332
والحاصل : أن المراتب أربعة : العلم ، والعمل ، والحال ، والمقام. وإنما لم يضرب الحق تعالى مثلاً للمقام ؛ لأن النزول فيه لا يكون إلا بعد التصفية ، فليس فيه علة ، يحتاج إلى التصفية منها. فمقامات اليقين كلها يجري فيها العلم ، والعمل ، والحال ، والمقام. فالتوبة مثلاً : يتعلق العلم بمعرفة حقيقتها وفضليتها ، ثم يسعى في العمل بالمجاهدة والرياضة حتى يذهب زبده وخبثه ، حتى يذوق حلاوة الاستقامة مع بقية الخوف من السقوط ، وهذا هو الحال ، ثم تطمئن النفس ، وترسخ التوبة النصوح ، وهذا هو المقام. وكذلك الصبر ، يتعلق به العلم أولاً ثم يسعى في مرارة استعماله حتى يذوق حلاوة الشدة والفاقة ثم يرسخ فيه ، وهكذا يجري في المقامات كلها... وهي اثنا عشر مقاماً : التوبة ، والخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة ، وهي : بروج شمس المعرفة ، وقمر التوحيد. وكذلك معرفة الشهود والعيان : يتعلق العلم أولاً بأسرار التوحيد ، ثم يعمل في خرق عوائد نفسه حتى تموت ، فيشرق عليها أنوار التوحيد ، غير أنها تظهر وتخفى ، ثم يصير الشهود مقاماً ، رسوخاً وتمكيناً.
(3/457)
وقد أشار الحكم إلى بعض هذا فقال : " حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال ، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال ". وكل واحد من الثلاثة يحتاج إلى تصفية حتى يذهب زبده وخبثه ؛ فتصفية العلم بالإخلاص والتحقيق ، فيذهب عنه قصد الرئاسة والجاه ، أو التوصل إلى الدنيا ، ويذهب به الشكوك والأوهام ؛ فهذا زبده. وتصفية العمل بالإخلاص في أوله ، والإتقان والحضور في وسطه ، والكتمان في آخره ، فيذهب عنه الرياء والعجب به ، والتوصل به إلى حفظ نفساني. وتصفية الحال بصحة القصد وإفراد الوجهة ، وإذا هاج عليه الوارد ملك نفسه وأمسكها ، فيذهب به قصد الظهور ، وطلب المراتب الدنيوية والكرامات الحسية ، التي هي من حظ النفس وتشتيت القلب ، إن لم يفرد وجهته لله ، وانحلال عزمه وخمود نوره ، إن لم يمسك نفسه عند هواجم الحال. فهذا زبد الحال الذي يذهب عنه بمجاهدة النفس ، ويمكث في أرض القلوب صفاء اليقين والمعرفة وخالص العمل في مقام العبودية. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 331
333
قلت : (أولئك..) الخ : جملة خبر الموصولات ، إن رفعت بالابتداء ، وإن جُعلت صفاتٍ لأُولي الألباب : فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات. و(جنات) : بدل من (عُقبى الدار). و(من صلُح) : عطف على الواو بفصل المفعول ، و(سلام عليكم) : محكي بحال محذوفة ، أي : قائلين سلام عليكم ، وحذْفُ الحال ـ إذا كان قولاً ـ كثيرٌ مطرد.
(3/458)
يقول الحق جل جلاله : {أفمن يعلم انما أنزِلَ إليك من ربك} هو {الحقُّ} فيستجيب له ، وينقاد له {كَمَنْ هو أعمى} عمى القلب ، لا يستجيب ولا يستبصر ؟ أنكر الحق ـ جل جلاله ـ على من اشتبه عليه الحق من الباطل ، بعدما ضرب المثل ، فإن الأمور المعنوية ، إذا ضرب لها الأمثال المحسوسة ، صارت في غاية الوضوح لا تخفى إلاَّ على الخفاشة ، الذين انطمس نور قلوبهم بالكفر أو المعاصي. ولذلك قال : {إنما يتذكر أولو الألباب} ؛ ذوو العقول الصافية والقلوب المنورة ، التي تطهرت من كدر العوائد والشهوات ، ولم تركن إلى المألوفات والمحسوسات.
ثم وصفهم بقوله : {الذين يُوفون بعهد الله} ؛ ما عقدوه على نفوسهم من معرفة عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية ، حين قالوا : {بلى}. {ولا ينقُضُون الميثاق} ؛ ما أوثقوه على نفوسهم ، وتحملوه من المواثيق التي بينهم وبين الله ، وبينهم وبين عباد الله. وهو تعميم بعد تخصيص ؛ تأكيداً على الوفاء بالعهود. {والذين يَصِلُونَ ما أمر الله به أن يُوصَلَ} من الرحم ، وموالاة المؤمنين ، وحُضور مجالس الصالحين ، والعلماء العاملين ، والاقتداء بقولهم والاهتداء بهديهم. {ويَخْشَون ربهم} : غضبه ، وعذابه ، أو إبعاده وطرده ، {ويخافون سوءَ الحساب} : مناقشته ، فيحاسبون أنفسهم قبل ان يُحاسبوا.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 333
(3/459)
والذين صَبرُوا} على مشاق الطاعة وترك المخالفة ، أو على ما تكرهه النفوس ، ويخالفه الهوى. فعلوا ذلك {ابتِغَاءَ وَجهِ ربهم} ؛ طلباً لرضاه ، أو لرؤية وجهه وشهود ذاته ، لا فخراً ورياء ، وطلباً لحظ نفساني. {وأقاموا الصلاة} المفروضة ، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها ، وحضور السر فيها ، {وأنفقوا مما رزقناهم} من الأموال فرضاً ونفلاً ، {سِراً وعلانيةً} ؛ إن تحقق الإخلاص ، وإلا تعيَّن الإسرار. أو سراً لمن لا يعرف بالمال ، وجهراً لمن يعرف به ؛ لئلا يُتهم ، أو ليُقتدى به. {ويدرءُونَ بالحسنةِ السيئَةِ} أي : يدفعون الخصلةَ السيئة بالخصلة الحسنة ، فيجازون الإساءة بالإحسان ؛ امتثالاً لقوله تعالى : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون " 96] ، أو : يدفعون الشرك بقول : " لا إله إلا الله " ، أو يفعلون الحسنات فيدرؤون بها السيئات ، كقوله {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
334
[هود : 114]. قيل : نزلت في الأنصار. وهي عامة.
ثم ذكر جزاءهم ، فقال : {أولئك لهم عُقْبَى الدَّارِ} أي : عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلُها. وهي : الجنة التي فسَّرها بقوله : {جناتُ عَدنٍ} أي : إقامة ، {يدخُلونها} مخلدين فيها. والعدْن : الإقامة ، وقيل : هي بطنان الجنة ، أي : مداخلها لا ربضُها ، فيدخلونها {ومن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} أي : يَلْحَقُ بهم مَنْ صلح من أهلهم ، وإن لم يبلغوا في العمل مبلغهم ، بتعاً لهم وتعظمياً لشأنهم ، أو بشفاعتهم لهم. وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة ، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقرب بعضهم من بعض ـ لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة ؛ زيادة في أُنسهم لكن يقع التفاوت في الدرجات والنعيم والقرب ، على قدر اجتهادهم في التحقق بتلك الصفات ، والدؤوب عليها. والتقييد بالصلاح يدل على أن مجرد الانتساب لا ينفع من غير عمل.
(3/460)
{والملائكةُ يدخلون عليهم من كل بابٍ} من أبواب المنازل ، أو من أبواب الفتوح والتحف ، قائلين : {سلامٌ عليكم} ؛ بشارة بدوام السلامة ، هذا {بما صبرتم} ، أو سلامة لكم بسبب صبركم. {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار} التي سكنوها ورحلوا عنها دارهم هذه.
الإشارة : أفمن تَصَفَّتْ مرآة قلبه من الأكدار والأغيار ، حتى أبصرت أمطار العلوم والأسرار النازلة من سماء الملكوت على النبي المختار ، فتضلع منها حتى امتلأ منها قلبه وسره ، ونبع بأنهار العلوم لسانه وفكره ، كمن هو أعمى القلب والبصيرة ، فلم يرفع بذلك رأساً ؟ إنما ينتفع بتلك العلوم أولو القلوب الصافية التي ذهب خبثها ، فصفت علومها وأعمالها وأحوالها من زبد المساوئ والعيوب ، الذين دخلوا تحت تربية المشايخ ، فأوفوا بعهودهم ، وواصلوهم ، وخافوا ربهم أن يبعدهم من حضرته ، أو يناقشهم الحساب ؛ فحاسبوا أنفسهم على الأنفاس والأوقات ، وصبروا على دوام المجاهدات ، حتى أفضوا إلى فضاء المشاهدات ، وأقاموا صلاة القلوب ـ وهي العكوف في حضرة الغيبوب ـ وأنفقوا مما رزقهم من سعة العلوم ومخازن الفهوم ، ويقابلون الإساءة بالإحسان ؛ لأنهم أهل مقام الاحسان. أولئك لهم عقبى الدار ؛ وهي العكوف في حضرة الكريم الغفار ، تدخل على أبواب قلوبهم المواهبُ والأسرار ، تقول بلسان الحال : سلام عليكم بما صبرتم في مجاهدتكم ، فنعم عقبى الدار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 333
335
(3/461)
يقول الحق جل جلاله : {والذين ينقُضُون عهد اللهِ...} الذي اخذه عليهم في عالم الذر ، حيث قال : {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا} [الأعراف : 172] ، ثم كفروا به بعد بعث الرسل المنبهين عليه. أو ينقضون العهود فيما بينهم وبين عباد الله ، أن أعطوا ذلك من أنفسهم ، {ويقطعونَ ما أمر اللهُ به أن يُوصل} من الأرحام ، أو ممن يدل على الله من الأنبياء ، والعلماء الأتقياء ؛ فإنَّ الله أمر بوصلهم ، {ويُفسدون في الأرض} بالظلم والمعاصي ، وتهييج الفتن ، {أولئك لهم اللعنةُ} : البُعد والطرد من رحمة الله ، {ولهم سُوءُ الدَّارِ} : سوء عاقبة الدار ، وهو العذاب والهوان ، حيث اغتروا في الدنيا بسعة الأرزاق ، وظنوا أن ذلك من علامة إقبال الحق.
ولم يدروا أن الله {يبسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ} ، ولو كان من أهل الشقاء ، {ويَقْدِرُ} يُضيقه على من يشاء ، ولو كان من أهل السعادة والعناية ، {وفرحُوا بالحياة الدنيا} واطمأنوا بها ، وقنعوا بنعيمها الفاني ، {وما الحياةُ الدنيا} في جنب الآخرة {إلا متاعٌ} ؛ إلا متعة لا تدوم ، كعُجَالة الراكب وزاد الراعي. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " مَا لي وللدُّنْيَا إِنَّما مثلي ومَثَلُ الدُّنيا كَرَاكبٍ سَافَرَ في يَوْمٍ صائِفٍ ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرةٍ ، ثم رَاحَ عَنْها وَتَركَهَا " والمعنى : أنهم أشِروا بما نالوا من الدنيا ، ولم يصرفوها فيما يستوجبون به نعيم الآخرة ، واغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع ، سريع الزوال. قاله البيضاوي.
(3/462)
الإشارة : لا شيء أفسد على المريد من نقض عهود المشايخ ، والرجوع عن صحبتهم ؛ فإنه لمَّا دخل في حماهم انقبض عنه الشيطان والدنيا والهوى ، وأسفوا عليه ، فإذا رجع إليهم ، واتصلوا به ، فعلوا به ما لم يفعلوا بغيره ؛ كمن هرب من عدوه ثم اتصل به. وتنسحب عليه الآية من قوله : {والذين ينقضون عهد الله} إلى قوله : {أولئك لهم اللعنة} ؛ أي : البُعد عن الحضرة ، {ولهم سوء الدار} وهو : غم الحجاب والبقاء من وراء الباب. فإذا رجعت إليه الدنيا يقال له : {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} ؛ فلا تغتر ولا تفرح بالعرض الفاني ، فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع قليل ، ثم التحسر الوبيل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 335
يقول الحق جل جلاله : {ويقولُ الذين كفروا} من أهل مكة : {لولا أنزل عليه آيةٌ} ظاهرة {من ربه} كما أنزلتْ على مَنْ قبله فنؤمن حينئذٍ ؟ {قل} لهم : {إنَّ اللَّهَ يُضلُّ مَن يشاء} بعد ظهور الآيات والمعجزات. وليس الإيمان والهداية بيد العبد في الحقيقة.
336
{ويهدي إليه من أناب} أي : من أقْبل ورجع عن عناده من غير احتياج إلى معجزة. قال البيضاوي : وهو جواب ، يجري التعجب من قولهم ، كأنه قال : قل لهم ما أعظم عنادكم! {إن الله يُضِلُّ من يشاء} ممن كان على صفتكم ، فلا سبيل إلى اهتدائه ، وإن نزلت كل آية ، ويهدي إليه من أناب لما جئت به ، بل بأدنى منه من الآيات. هـ.
الإشارة : تقدم مراراً أن من سبقت له من عند الله عناية الخصوصية ، لم يتوقف على ظهور آية. ومن لم يسبق له شيء في الخصوصية لا ينفع فيه ألف آية. فالله يضل من يشاء عن دخول حضرته ، ولو رأى من أولياء زمانه ما رأى ، ويهدي إلى حضرته من أناب ، ورجع بلا سبب. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 336
(3/463)
قلت : الموصول : بدل ممن أناب ، أو خبر عن مضمر ، أي : هم. والموصول الثاني بدل ثانٍ ، أو مبتدأ ، وجملة (طوبى) : خبر ، وهي فُعْلى ، من الطيب ، كبشرى من البشارة ، قلبت ياؤها واواً ؛ لضم ما قبلها ، ومعناها : أصبت خيراً وطيباً. وقيل : شجرة في الجنة. وسوغ الابتداء بها : ما فيها من معنى الدعاء.
يقول الحق جل جلاله : في وصف من سبقت له الهداية واتصفت بالإنابة : هم {الذين آمنوا} بالله وبرسوله إيماناً تمكَّن من قلوبهم ، واطمأنت إليه نفوسُهم ؛ فإذا حركتهم الخواطر والهواجم ، أو فتن الزمان وأهواله {تطمئن قلوبُهم بذِكرِ اللهِ} ، وترتاح بذكر الله ؛ أُنساً به ، واعتماداً عليه ورجاء منه ، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته ، أو بذكر آلائه ، ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته ، أو بكلامه القرآن ، الذي هو أقوى المعجزات. قاله البيضاوي. وقال في القوت : معنى تطمئن بذكر الله : تهش وتستأنس به. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرَّحمن الفاسي بعد كلام : والحاصل أن المراد من الطمأنينة : السكون إلى المذكور ، والأنس به. ووجود الرَّوْحِ والفرح والانشراح ، والغنى به. هـ.
قال تعالى : {ألا بذِكْرِ الله تطمئن القلوبُ} لا بغيره ، فلا تسكن إلا إليه ، ولا تعتمد إلا عليه ؛ فإن سكنت إلى غيره ذهب نورها ، وعظم قلقها. {الذين آمنوا وعملوا الصالحات طُوبَى لهم} أي : لهم عيش طيب وحياة طيبة. أو الجنة ، أو شجرة فيها ، {وحُسنُ مآبٍ} أي : مرجع يرجعون إليه بعد الموت.
الإشارة : الطمأنينة على قسمين : طمأنينة إيمان وطمأنينة شهود وعيان. قوم اطمأنوا إلى غائب موجود ، وقوم إلى آخر مشهود. قوم اطمأنوا بوجود الله من طريق الإيمان على
337
نعت الدليل والبرهان ، وقوم اطمأنوا بشهود الله من طريق العيان على نعت الذوق والوجدان. وهذه ثمرة الإكثار من ذكر الله.
(3/464)
قال الشيخ الشاذلي رضي الله عنه : حقيقة الذكر : ما اطمأن بمعناه القلب ، وتجلّى في حقائق سحاب أنوار سمائه الرب. هـ. وقال الورتجبي : إنْ كان الإيمان من حيث الاعتقاد ، فطمأنينة القلب بالذكر ، وإن كان من حيث المشاهدة فطمأنينة القلوب بالله وكشف وجوده. هـ. فطمأنينة الإيمان لأهل التفكر والاعتبار من عامة أهل اليمين. وطمأنينة العيان لأهل الشهود والاستبصار من خاصة المقربين. أهل الأولى يستدلون بالأشياء على الله ، وأهل الثانية يستدلون بالله على الأشياء ؛ فلا يرون إلا مظهر الأشياء. وشتان بين من يستدل به أو يستدل عليه ؛ المستدل به عرف الحق لأهله ، وأثبت الأمر من وجود أصله ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه ، ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه ؟ !. كما في الحِكَم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
وقال في المناجاة : " إلهي كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ !. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك ؟ ! متى غِبْتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ !.
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : " كيف يُعرف بالمعارف من به عُرفت المعارف ؟ ! أم كيف يُعرف بشيء مَنْ سَبَقَ وجودُه كلَّ شيء ؟ أي : وظهر بكل شيء ". وفي ذلك يقول الشاعر :
عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي عَلَيْكَ شَهَادَةً
وَأَنْتَ الَّذي أَشْهَدْتَهُ كُلَّ شَاهِدِ
وقال آخر :
لَقَدْ ظَهَرْتُ فَمَا تَخْفَى على أَحَدٍ
إِلاَّ عَلى أَكْمَهٍ لا يُبْصِرُ القَمَرَا
لَكِنْ بَطنْتَ بِما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبِاً
وكَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ بالْعِزَّةِ اسْتَتَرَا
(3/465)
وأهل طمأنينة الإيمان على قسمين ؛ باعتبار القرب والبُعد : فمنهم من يطمئن بوجود الحق على نعت القرب والأنس ، وهم أهل المراقبة من الزهاد والصالحين ، والعلماء العابدين المجتهدين ، وهم متفاوتون في القرب على قدر تفرغهم من الشواغل والعلائق ، وعلى قدر التخلية والتحلية. ومنهم من يطمئن إليه على نعت البعد من قلبه ، وهم أهل الشواغل والشواغب ، و العلائق والعوائق. وعلامة القرب : وجود حلاوة المعاملة ، كلذيذ المناجاة ، والأنس به في الخلوات ، ووجود حلاوة القرآن والتدبر في معانيه ، حتى لا يشبع منه من كل أوان. وعلامة البعد : فقد الحلاوة المذكورة ، وعدم الأنس به في الخلوة ، وفقد الحلاوة القرآن ، ولو كان من أعظم علماء اللسان.
338
وأهل طمأنينة الشهود على قسمين أيضاً : فمنهم من تشرق عليه أنوار ، وتحيط به الأسرار ، فيغرق في الأنوار وتطمس عنه الآثار ، فيكسر ويغيب عن الأثر في شهود المؤثر ، ويسمى عندهم هذا المقام : مقام الفناء. ومنهم من يصحو من سكرته ، ويفيق من صعقته ، فيشهد المؤثر ، لا يحجبه جمعه عن فرقه ، ولا فرقة عن جمعه ، ولا يضره فناؤه عن بقائه ، ولا بقاؤه ، عن فنائه ، يعطي كل ذي حق حقه ، ويوفي كل ذي قسط قسطه ، وهو مقام البقاء ، ولا يصح وجوده إلا بعد وجود ما قبله ، فلا بقاء إلا بعد الفناء ، ولا صحو إلا بعد السكْر. ومن ترامى على هذا المقام ـ أعني مقام البقاء ـ من غير تحقيق مقام السكر والفناء فهو لم يبرح عن مقام أهل الحجاب.
(3/466)
واعلمْ أن طمأنينة الإيمان تزيد وتنقص ، وطمأنينة العيان ، إن حصلت ، تزيد ولا تنقص. فمواد أسباب زيادة طمأنينة الإيمان أشياء متعددة ، فمنهم من تزيد طمأنينته بالتفكر والاعتبار. إما في عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات ، فيطمئن إلى صانعٍ عظيم القدرة باهر الحكمة. وإما بالنظر في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وباهر علمه ، وعجائب حكمه وأسراره ، وإخباره بالأمور الغيبية السابقة والآتية ، مع كونه نبياً أمّياً. فإذا تحقق معرفة الرسول فقد تحقق بمعرفة الله ، واطمأن به ؛ لأنه الواسطة العظمى ، بين الله وبين عباده. ومنهم من تزيد طمأنينته بموالاة الطاعات وتكثير القربات ، كالذكر وغيره. ومنهم من تزيد طمأنينته بزيادة الأولياء أحياء أو ميتين. ومادة الأحياء أكثر ، ونور طمأنينتهم أبهر ، لا سيما العارفين ، وفي الأثر : تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
وأما طمأنيته أهل الشهود : فزيادتها باعتبار زيادة الكشف وحلاوة الشهود ، والترقي في العلوم والأسرار ، والاتساع في المقامات إلى ما لا نهاية له ، في هذه الدار الفانية وفي الدار الباقية ، ففي كل نَفَس يُجدد لهم كشوفات وترقيات ومواهب وتُحف ، على قدر توجههم وتحققهم. حققنا الله بمقامهم ، وأتحفنا بما أتحفهم. آمين
(3/467)
ولا بد في تحصيل طمأنينة الشهود من صُحبة شيخ عارف طبيبٍ ماهر ، يقدح عين البصيرة حتى تنفتح ؛ فما حجب الناس عن شهود الحق إلا طمسُ البصيرة ؛ فإذا اتصل بشيخٍ عارفٍ كحل عين بصيرته أولاً بإثمد على اليقين ، فيدرك شعاع نور الحق قريباً منه ، ثم يكحل عينه ثانياً بإثمد عين اليقين ، فيدرك عدمه لوجود الحق ، أي : يغيب عن حسه بشهود معناه القائم به. ثم يكحل عينه بإثمد حق اليقين ، فيدرك وجود الحق ـ بلا واسطة قدرة وحكمة ، معنى وحساً ، لا يتحجب بأحدهما عن الآخر. وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله : " شعاع البصيرةُ يُشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يُشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يُشهدك وجود الحق ، لا عدمك ولا وجودك. وكان شيء معه ، وهو الآن على ما كان عليه.
339
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
قلت : (كذلك) : مفعول مطلق بأرسلناك ، أي : مثل ذلك الإرسال المتقدم أرسلناك. وقال ابن جزي : الكاف تتعلق بالمعنى الذي في قوله : {يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}. هـ. أي : كما أن الإضلال والهداية بيده كذلك اختصاصك بالرسالة إلى أمة... إلخ ، وجملة : (وهم يكفرون) : حال من ضمير (عليهم) أي : لتتلو عليهم في حال كفرهم لعلهم يؤمنون. و (متاب) : مفعل ، من التوبة.
(3/468)
يقول الحق جل جلاله : قد أرسلنا قبلك رسلاً فأنذروا وبشروا قومهم ، {كذلك أرسلناك} أي : مثل ذلك الإرسال أرسلناك في أمة ، أو كما هدينا من أناب إلينا اختصصناك برسالتنا ، {في أُمةٍ قد خَلتْ} ؛ مضت {من قبلها} أي : تقدمها {أممٌ} أرسل إليهم رسلهم ؛ فليس ببدع إرسالك إلى هذه الأمة الأمية ، {لِتَتلُوَ عليهم الذي أوحينا إليك} : لتقرأ عليهم الكتاب ، الذي أوحينا إليك ، والحالة أنهم {يكفرون بالرحمن} أي : بالبليغ الرحمة التي أحاطت بهم نعمته ، ووسعت كل شيء رحمته ، فلم يشكروا ما أنعم به عليهم ، وخصوصاً إرسالك إليهم ، وإنزال القرآن عليهم ، الذي هو مناط المنافع الدينية والدنيوية. قيل : نزلت في أبي جهل ، وقيل : في قريش حين قالوا : لا نعرف الرحمن ، والمعنى : أرسلناك إليهم رحمة لتتلوا عليهم ما هو مناط الرحمة ، {وهم يكفرون بالرحمن} ـ ، والحال : أنهم يكفرون ببليغ الرحمة. {قل هو ربي} أي : الرحمن خالقي ومتولي أمري ، {لا إله إلا هو} ، لا مستحق للعبادة غيره ، {عليه توكلتُ} في أموري ، ومن جملتها نصري عليكم. {وإليه مَتَابِ} ؛ مرجعي في أموري كلها ، لا أرجع إلى أحد غيره ، ولا أتعلق بشيء سواه.
الإشارة : قد بعث الله في كل عارفاً بالله يحيي به الدين ، ويعرف الطريق إلى رب العالمين ؛ فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة ، غير أنهم تارة يخفون ، لفساد الزمان ، وتارة يظهرون ؛ رحمة للأنام. فإذا وقع الإنكار عليهم ، أو استغرب وجودهم ، يقال لهم : كذلك أرسلنا في كل أمة نذيراً ، وداعياً ، فإرسالكم أنتم وإظهاركم ليس ببدع ، لتعلموا الناس ما أوحي إليكم من طريق الإلهام ؛ فإظهاركم رحمة ، وهم يكفرون هذه النعمة. فاعتمدوا على الرحمن ، وثقوا بالواحد المنان ، وراجعوا إليه في كل حال وشأن. فمن توكل عليه كفاه ، ومن التجأ إليه حماه.
340
جزء : 3 رقم الصفحة : 340
جواب (لو) : محذوف ، أي : لم يؤمنوا ؛ لسابق الشقاء ، أو : لكان هذا القرآن ، وسيأتي بيانه.
(3/469)
يقول الحق جل جلاله : {ولو أن قرآناً} أنزل عليك ، من صفته : {سُيِّرت به الجبالُ} أي : زعزعت عن مقارها ، {أو قُطعَت به الأرضُ} : تصدعت وتشققت من خشية الله عند قراءته ، أو : تشققت فجعلت أنهاراً وعيوناً ، {أو كُلِّمَ به الموتى} ؛ فتجيب من قبورها جهراً ، لمّا آمنوا ؛ لعنادهم وغلبة الحسد عليهم. فهذا كقوله تعالى {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلاائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىا وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا} [الأنعام : 111] ، أو : ولو أن قرآناً بهذه الصفة : من تسيير الجبال ، وتقطيع الأرض ، وتكليم الموتى ، لكان هذا القرآن ؛ لأنه الغاية في الإعجاز ، والنهاية في التذكير والإنذار ، والأرل أرجح ؛ لمناسبة ما قبله وما بعده.
رُوي أن قريشاً قالوا : يا محمد ، إنْ سَرَّك أن نتبعك فَسَيِّرْ بقرآنك الجبالَ عن مكة ، حتى تتسع لنا فنتخذها بساتين وقطائع. أو سخر لنا به الريح لنركبها ، فَنَتَّجِرَ بها إلى الشام. أو ابعث لنا قُصَيَّ بن كلاب فإنه شيخَ صِدْقٍ ، أو غيره من آبائنا ، فيكلمونا فيك ، ويشهدوا لك بما تقول. فنزلت الآية.
(3/470)
{بل لله الأمرُ جميعاً} ؛ ليس لي منه شيء ، فهو القادر على الإتيان بما اقترحتموه من الآيات ، إلا أن الإرادة لم تتعلق بذلك ؛ لأنه علم أنه لا ينجع فيكم شيء من ذلك ؛ لفرط عنادكم ، فإذا رأيتموها قلتم : {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر : 15] ، وبيَّن ذلك قوله : {أفلم ييأس الذين آمنوا} من إيمانهم مع رأوا من أحولهم ، وفرط عنادهم ، علماً منهم {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} ، أو : {أفلم ييأس} أي : يعلم {الذين آمنوا} أن الهداية بيد الله ، ومشيئته ، فلو شاء لهدى الناس جميعاً ، وكون " ييأس " بمعنى " علم " : لغة هوازن ؛ فقد علموا بما أعلمهم أن الله لا يهدي من يضل. وقد قرأ علي وابن عباس وجماعة : " أفلم يتبين الذين آمنوا " ، وهو يقوي تفسير ييأس بيعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 341
قال البيضاوي : وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم ، لأنه مُسَبِّبٌ عن العلم ، فإن
341
الميئوس منه لا يكون إلا معلوماً. ولذلك علّقه بقوله : {أن لو يشاء اللهُ لهدى الناس جميعاً} ؛ فإن معناه نفي هدى بعض الناس ؛ لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم ، وهو ـ على الأول ـ يتعلق بمحذوف تقديره : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمانهم ؛ علماً منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. أو : بآمنوا ، على حذف الجار ، أي : بأن الله... الخ. هـ.
(3/471)
{ولا يزال الذين كفروا} من قريش والعرب ، {تُصيبُهم بما صنعوا} من الكفر والمعاصي ، {قارِعةٌ} داهية تقرعهم ؛ تقلقهم ، وتصيبهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم. أو غزوات المسلمين إليهم ، إمَّا أن تنزل بهم {أو تَحُلُّ قريباً من دارهم} فيفزعون منها وتتطاير إليهم شررها. وقيل : نزلت في كفار مكة ، فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان لا يزال يبعث السرايا ، فتُغير حواليهم وتختطف أموالهم. وعلى هذا يجوز أن يكون ضمير {تَحُل} خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم أي : تحل بجيشك قريباً من دراهم ، {حتى يأتي وعد الله} بالموت أو بالبعث أو فتح مكة. {إنَّ الله لا يُخلف الميعاد} ؛ لامتناع الخلف في وعده تعالى.
الإشارة : لو أن عارفاً بالله سيَّر الجبال عن أماكنها وفجر الأرض عيوناً ، وكلمه الموتى لما آمن بخصوصيته إلا من سبقت له عناية الخصوصية. فلو شاء الله لهدى الناس إلى معرفته جميعاً. لكن الحكمة اقتضت وجود الخلاف ، قال تعالى : {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود : 118] ، فمن لم يهتد إلى معرفتهم لا يزال تطرقه قوارع الشكوك والأوهام ، وخواطر السوء ، أو تحل قريباً من قلبه ، إن لم تتمكن فيه ، حتى يأتي وعد الله بحضور موته ، فقد يتداركه اللطف والرعاية ، وقد يتسع الخرق عليه فيموت على الشك ، والعياذ بالله. بخلاف من صَحِبَ أهل الطمأنينة واليقين ، ولا يموت إلا على اليقين ؛ لأن همة الشيوخ قد حَلَّقَتْ عليه ، والعناية قد حفت به. والله ولي المتقين.
قال أبو الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : (والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب) ، والمراد باليد : الهمة والحفظ. ووقت الموت أولى بالحضور ، وقد شاهدنا ذلك من إخواننا ممن حضره الموت منهم ، أخبر أنه يرى شيخه حاضراً معه. فللَّهِ الحمد والمنة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 341
(3/472)
يقول الحق جل جلاله : في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم : {لقد استُهزئ برسلٍ من قبلك} فأوذوا وأهِينُوا ، {فأمْلَيتُ للذين كفروا} : أمهلتهم في دعة ورغد عيش ، مدة من الزمان ،
342
{ثم أخذتهم} بالهلاك والاستئصال ، {فكيف كان عقاب} ؟ أي : عقابي إياهم ، وهو تهويل لما نزل بهم ، وتخويف لغيرهم من المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم والمقترحين عليه الآيات.
الإشارة : الاستهزاء بأهل الخصوصية في بدايتهم سنة ماضية ، ويتسلون بمن سلف من خصوص الأنبياء والأولياء. وما هدد به الكفار يهدد به أهل الإنكار. بالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 342
قلت : (أفمن) مع صلته : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : أفمن هو رقيب على كل شيء أحق أن يعبد أم غيره. أو كمن ليس كذلك ؟ !.
يقول الحق جل جلاله : {أفَمَنْ هو قائمٌ على كل نَفْس} ؛ أي : حفيظ رقيب على عمل كل نفس {بما كسبتْ} من خير أو شر ، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، ولا يفوت عنده شيء من جزائهم أحق أن يُعبد أم غيره ؟ أو كمن ليس كذلك ممن هو جماد لا يسمع ، ولا يعقل!!. {وجعلوا لله شركاءَ} بعد هذا البيان التام ، {قل} لهم : {سَمُّوهُم} أي : اذكروا أسماءهم ، فلا تجدون إلا أسماء إناث ؛ كاللات والعزى ومناة ، أو أسماء أحجار وخشب ؛ فبأي وجه تستحق أن تعبد ، وتشرك مع الله في ألوهيته ؟ .
{أم تُنبِئُونه بما لا يعلمُ في الأرضِ} ؛ بل أتخبرونه بما لا يعلم وجوده في الأرض ، وهذا تهكم بهم ، كأنهم علموا استحقاق الأصنام العبادة ، ولم يعلمها الحق تعالى ، وهو محال. والمعنى : أن الله لا يعلم لنفسه شركاء وإذا لم يعلمهم فليسوا بشيء ، فكيف تفترون الكذب في عبادتهم ؟ {أم} تسمونهم شركاء ، {بظاهرٍ من القولِ} ، من غير حقيقة واعتبار معنى ، كتسمية الخبث مسكاً ، والبول عطراً.
(3/473)
{بل زُيِّن للذين كفروا مكرُهُم} أي : انخداعهم وغرورهم حتى توهموا الباطل حقاً ، أو مكرهم بالإسلام وكيدهم لأهله ، {وصدُّوا عن السبيل} أي : وصدوا الناس عن طريق الحق ، حيث منعوهم من الإسلام ، ومن قرأ بضم الصاد مبنياً للمفعول فمعناه : صدَّهُم الشيطانُ عن طريق الحق وضلوا عنه. {ومن يُضلل اللَّهُ فما له من هَادٍ} أي : من يخذله الله فليس له من يوقفه غيره. {لهم عذابٌ في الحياة الدنيا} بالقتل والأسر ، وسائر
343
ما يصيبهم من المصائب ، {ولعذابُ الآخرة أشقُ} ؛ لشدته ودوامه ، {وما لهم من الله} اي : من عذابه {من واقٍ} يقيهم ويعصمهم منه.
الإشارة : كل من تحقق أن الله قائم عليه استحيا منه أن يُسيء الأدب بين يديه ، يقول الله تعالى في بعض الأخبار : " إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم ، فالخلل في إيمانكم ، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فَلَمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم ؟ " وكل من وقف مع الأسباب واعتمد عليها ، أو طمع في الخلق وركن إليهم ، فقد جعل لله شركاء ، فيقال له : سَمِّ هؤلاء تجدهم حقاً عاجزين ، لا قدرة لهم على شيء ، ولا ينفعوك بشيء إلا ما قَسَم الله لك في الأزل. بل زين لضعفاء اليقين مكرهم ، حتى انخدعوا وافتتنوا برؤية الأسباب ، أي : كفروا كفراً دون كفر ؛ بأن شكّوا في الرزق والشكُّ في الرزق شكٌ في الرزَّاق ، وصدوا عن طريق اليقين ، الغنى برب العالمين ، لهم عذاب في الحياة الدنيا بالذل والحرص والحرمان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 343
قال بعض العارفين : لو قيل للطمع : من أبوك ؟ لقال : الشك في المقدور ، ولو قيل له : ما حرفتك ؟ لقال : الذل والهوان ، ولو قيل له : ما غايتك ؟ لقال : الحرمان. وفي الحِكَم : " ما بَسَقَتْ أغصانُ ذُلٍّ إلا عَلَى بَذْرِ طَمعٍ ". وقال الشاعر :
العَبدُ حُرٌّ مَا قَنَع
والحرُّ عَبدٌ ما طَمعْ
(3/474)
ولعذاب الآخرة أشق ؛ حيث يسقط بضعف يقينه عن درجة المقربين على سبيل الدوام ، وما لهم من الله من واق يقيهم من غم الحجاب ، وعدم اللحوق بالأحباب الذين ترقوا إلى القرب من الحبيب. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 343
قلت : (مثل الجنة) : مبتدأ. قال سيبويه : الخبر محذوف ، أي فيما يتلى عليكم صفة الجنة. وقال الفراء : الخبر هو : (تجري...) إلخ ، وعلى قول سيبويه يكون (تجري) : حالاً من العائد المحذوف ، أي : التي وُعدها المتقون حَالَ كَوْنِها تجري... إلخ. والمراد بالمثل هنا : الصفة ، لا ضرب المثل. و(ظِلُّها) : مبتدأ حُذِف خبره ، وظلها كذلك ، والأكُل بضم الهمزة ، ويجوز فيه ضم الكاف وإسكانها ، وأما الأكل بالفتح فمصدر.
يقول الحق جل جلاله : صفة الجنة التي وُعِدَها المتقون هي غرف وقصور {تجري من تحتها الأنهارُ} من ماء وخمر وعسل ولبن ، {أُكُلُها دائمٌ} ؛ ما يؤكل من ثمارها وأنواع أطعمتها لا ينقطع ، {وظِلُّها} دائم ، لا يُنسخ بالشمس كظلال الدنيا ، {تلك} الجنة
344
الموصوفة بهذه الأوصاف هي {عُقْبَى الذين اتقوا} الشرك والمعاصي ، وهي مآلهم وعاقبة استقرارهم ، {وعُقْبَى الكافرين النار} لا محيد عنها ، وهي مآلهم وإليها رجوعهم. وفي ترتيب العقبيين إطماع للمتقين ، وإقناط للكافرين.
الإشارة : مثل جنة المعارف التي وعدها المتقون لكل ما يشغل عن الله هي حضرة مقدسة ، يتنعم فيها أسرار العارفين ، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والحكم ، لذتها وقُوت الأرواح فيها دائم ، وهي الفكرة في ميادين أنوار التوحيد ، وجولان الروح في فضاء أسرار التفريد ، وظل روحها وريحانها دائم ، وهو : سكون القلب إلى الله ، وفرح الروح بشهود الله. وإليه أشار ابن الفارض بقوله ، رحمه الله ، في صف خمرتها :
وَإِنْ خَطَرَتْ يَوْماً عَلَى خَاطِرِ امرئ
أَقامَتْ بِهِ الأَفرَاحُ وارْتَحَلَ الْهَمُّ
(3/475)
تلك عقبى الذين أتقَّوا السِّوى ، وعقبى المنكرين لوجود أهل هذه الجنة نار القطعية والبعد. أعاذنا الله من ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 344
قلت : (حُكْماً) : حال من ضمير (أنزلناه).
يقول الحق جل جلاله : في حق من سبقت له السعادة : {والذين آتيناهم الكتابَ} ؛ كعبد الله بن سلام ومخيريق وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى ، وهم : ثمانون رجلاً : أربعون بنجران ، وثمانية باليمن ، واثنان وثلاثون من الحبشة. أو : كل من آمن من أهل الكتاب ، فإنهم كانوا {يفرحون} بما يوافق كتبهم. ثم ذكر ضدهم فقال : {ومن الأحزاب من يُنكرُ بعضَه} أي : ومن كَفَرتهِم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة والشحناء ؛ ككعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود ، والعاقب والسيد وأشياعهما من النصارى ، {من يُنكر بعضه} ، وهو ما يخالف شرائعهم التي نُسخت به ، أو ما يوافق ما حرّفوا منها.
{قل إنما أُمِرتُ أن أعبدَ اللهَ ولا أُشركَ به} ، وهو جواب للمنكرين ، أي : قل لهم : إنما أمرت فيما أنزل إليَّ أن أعبد الله وأوحده ، وهو العمدة في الأديان كلها ، فلا سبيل لكم إلى إنكاره. وأما إنكاركم ما يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام ؛ لأنها تابعة للمصالح والعوائد وتتجدد بتجددها. {إليه
345
أدعو} لا إلى غيره ، {وإليه مآب} أي : وإليه مرجعي بالبعث لا إلى غيره. وهذا هو القدْر المتفق عليه من الشرائع ، وهو الأمر بعبادة الله وحده ، والدعاء إليه ، واعتقاد المآب إليه ، وهو الرجوع بالبعث يوم القيامة ؛ فلا يخالف ما قبله من الشرائع ، فلا معنى للإنكار حينئذٍ.
(3/476)
{وكذلك أنزلناه} أي : ومثل هذا الإنزال المشتمل على أصول الدين المجمع عليها ، {أنزلناه حُكْماً عربياً} أي : يحكم في القضايا والوقائع ، بما تقتضيه الحكمة ، مترجماً بلسان العرب ؛ ليسهل عليهم فهمه وحفظه. {ولئن اتبعتَ أهواءَهُم} التي يدعونك إليها ؛ كتقرير دينهم ، والصلاة إلى قبلتهم بعدما حُوِّلْتَ عنها ، {بعد ما جاءَك من العِلم} بنسخ ذلك ، {ما لك من اللهِ من ولِيٍّ} ينصرك ، {ولا واقٍ} يقيك عتابه. وهو حسم لأطماعهم ، وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 345
الإشارة : الفرح بما أُنزل من عند الله هو مقدمات الفرح بالله ، فإذا رفعت أكنة الغفلة عن القلب تلذذ بسماع الخطاب من وراء الباب ، وذلك أمارة القرب. وهذا مقام أهل المراقبة من المحبين. فإذا جدَّ في السير رُفعت عنه الحجب والأستار ، وواجهته الأنوار والأسرار ، فيكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات ، فيتلذذ بشهود المتكلم ، فيسمع حينئذٍ الكلام من المتكلّم به بلا واسطة. وهذا مقام أهل الشهود من المحبين المقربين. (ومن الأحزاب) ، وهم أهل الرئاسة والجاه ، من ينكر وجود بعض هذه المقامات ؛ تعصباً وحمية. أو ينسبها لنفسه غلطاً وجهلاً ، فيقول له من تحقق بهذا المقام : إنما أمرتُ أن أعبد الله ولا أشرك به ، إليه أدعو وإليه مآب. ويغيب عنه بالاشتغال بالله ، وبالدعاء إليه ، فإن غفل واشتغل به ، أو ركن إلى قوله ، قيل له : ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ؛ ما لك من الله من وليِّ ولا واق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 345
(3/477)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد ارسلنا رُسُلاً من قَبلكَ} يا محمد ، {وجعلنا لهم أزواجاً} كثيرة : كداود عليه السلام ؛ كان له مائة امرأة ، وابنه كان له ألف ، على ما قيل ، وغيرهما من الأنبياء والرسل. {و} جعلنا لهم منهن {ذُريةً} ، وأنت يا محمد منهم ؛ فليس ببدع أن يكون الرسول بشراً ، يتزوج النساء ، ويحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر ، إلا
346
أنه لا يشغله ذلك عن أداء الرسالة ، ونصيحة الأمة ، وإظهار شريعة الدين ، والقيام بحقوق رب العالمين. ولما أجابهم بشبهتهم قالوا : أظهر لنا معجزة كما كانت لهم ، كالعصا وفلق البحر ، وإحياء الموتى ؟ فإنزل الله {وما كان لرسول} ؛ ما صح له ولم يكن في وسعه {أن يأتي بآيةٍ} تُقترح عليه ، ويظهرها {إلا بإذن الله} وإرادته ؛ فإنه القادر على ذلك. {لكل أجلٍ} من آجال بني آدم وغيرهم ، {كتابٌ} يُكتب فيه وقت موته ، وانتقاله من الدنيا.
{يمحو الله ما يشاء} من ديوان الأحياء ، فيكتب في الأموات ، {ويُثبتُ} من لا يموت. قيل : إن هذا الكتاب يُكتب ليلة القدر ، أو ليلة النصف من شعبان ، ويجمع بينهما بأن الكتابة تقع ليلة النصف ، وإبرازه للملائكة ليلة القدر ، {وعنده أُمُّ الكتاب} أي : الأصل المنسوخ منه كتب الآجال ، وهو اللوح المحفوظ ، أو العلم القديم. وهذا التفسير يناسب اقتراح الآيات ؛ لأنهم إذا أجيبوا بظهور الآية ولم يؤمنوا ، عوجلوا بالهلاك ، وذلك له كتاب محدود. قال الورتجبي : بيَّن الحق ـ سبحانه ـ أن أوان إتيان الآية بأجل معلوم في وقت معروف ، بقوله : {لكل أجل كتاب} أي : لكل مقدور في الأزل في قضية مرادة وقت معلوم في علم الله ، لا يأتي إلا في وقته. هـ.
(3/478)
أو : {لكل أجل} أي : عصر وزمان ، {كتاب} فيه شريعة مخصوصة على ما يقتضيه استصلاحهم. {يمحو الله ما يشاء} : ينسخ ما يستصوب نسخه من الشرائع ، {ويُثبتُ} ما تقتضي الحكمة عدم نسخه. {وعنده أم الكتاب} وهو : اللوح المحفوظ ؛ فإنه جامع للكائنات. وهذا يترتب على قوله : {ومن الأحزاب من ينكر بعضه} ، وهو ما لا يوافق شريعتهم. قال سيدي عبد الرحمن الفاسي : {يمحو الله ما يشاء} ما يستصوب نسخه ، {ويُثبت} ما تقتضيه حكمته ، فلا ينكر مخالفته للشرائع في بعض الأحكام مع موافقته للحكم ، وهو الأصول الثابتة في أصول الشرائع ، ولذا قال : {وعنده أمُّ الكتاب} أي : لا يبدل. هـ. وقريب منه للبيضاوي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 346
وقيل : إن المحو والإثبات عام في جميع الأشياء. قال ابن جزي : وهذا ترده القاعدة المتقررة بأن القضاء والقدرلا يتبدل ، وعلم الله لا يتغير. هـ. قلت : أما القضاء المبرم ، وهو : علم الله القديم الذي استأثر الله به ، فلا شك أنه لا يتبدل ولا يغير ، وأما القضاء الذي يبرز إلى علم الخلائق من الملائكة وغيرهم ، فيقع فيه المحو والإثبات ، وذلك أن الحق تعالى قد يُطلعهم على بعض الأقضية ، وهي عنده متوقفة على أسباب وشروط يخفيها عنهم بقهريته ، ليظهر اختصاصه بالعلم الحقيقي ، فإذا أراد الملائكة أن ينفذوا ذلك الأمر محاه الله تعالى ، وأثبت ما عنده في علم غيبه ، وهو أُمُّ الكتاب ، حتى قال بعضهم : إن اللوح الكحفوظ له جهتان : جهة تلي عالَم الغيب ، وفيه القضاء المبرم ، وجهة تلي عالَم الشهادة ، وفيه القضاء الذي يُرد ويُمْحى ؛ لأنه قد تكتب فيه أمور ، وهي متوقفة على شروط
347
(3/479)
وأسباب في علم الغيب ، لم تظهر في هذه الجهة التي تلي عَالَم الشهادة ، فيقع فيها المحو والإثبات ، وبهذا يندفع إشكالات كقوله في الحديث : " لا يَرُدُ القَضَاءَ إلا الدُّعَاءُ ، وصلة الرحم تزيد في العُمُر ". وقول ابن مسعود ، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ : اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاء فامحنا ، واكتبنا في ديوان السعادة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. هـ. أي : إن كنت أظهرت شقاوتنا فامحها ، وأظهر سعادتنا ؛ فإنك تمحو ما تشاء...إلخ. وفي ابن عطية ما يشير إلى هذا ، قال : وأصوب ما يفسر به أم الكتاب ، أنه كتاب الأمور المجزومة التي سبق القضاء فيها بما هو كائن ، وسبق ألا تبدل ، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتُمحى وتثبت. قال نحوه قتادة. هـ.
الإشارة : قوله تعالى : {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك...} الآية ، قد أثبت تعالى لأهل خصوصية النبوة والرسالة الأزواج والذرية ، وكان ذلك كمالاً في حقهم. وكذلك أهل خصوصية الولاية ، تكون لهم أزواج وذرية ، ولا يقدح في مرتبتهم ، بل يزيد فيها ، وذلك بشرط أن يقع ذلك بعد التمكين ، أو يكون في صحبة شيخ عارف كامل عند أمره ونهيه ، يكون فعل ذلك بإذنه ، فإذا كان هذا الشرط فإن التزوج يزيد صاحبه تمكيناً من اليقين.
قال الورتجبي في هذه الآية : أعْلَمَ تَعالى ، بهذه الآية ، الجُهَّال أنه إذا شَرَّف وليّاً أو صدِّيقاً بولايته ومعرفته لم يَضُرّ بِه مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد ، ولم يكن بسْط الدنيا له قدحاً في ولايته. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 346
(3/480)
وقال الغزالي في الإحياء ، في الترغيب في النكاح : قال تعالى في وصف الرسل ومَدْحِهِم : {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذُرية} ، فذكر ذلك في معرض الامتنان وإظهار الفضل ، ومَدَح أولياءه بسؤال ذلك في الدعاء ، فقال تعالى : {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان : 74] الآية ، ويقال : إن الله تعالى لم يذكر في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين. وقالوا : إن يحيىعليه السلام قد تزوج فلم يجامع. قيل : إنما فعل ذلك لنيل الفضل وإقامة السُّنة ، وقيل : لغض البصر. وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل الأرض ، ويولدُ له.
وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم : " النَّكَاحُ سُنَّتي ، فَمَنْ أَحَبَّ فِطْرَتي فَليسْتَنَّ بِسُنَّتِي " وقال
348
أيضاً صلى الله عليه وسلم : " تَنَاكَحُوا تَكَاثَروا ؛ فإنِّي أُبَاهِي بِكُم الأُممَ يَوْمَ القِيَامة ، حَتَّى السَّقْط " وقال أيضاً : " مَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيْسَ مِنِّي ، وإِنَّ مِنْ سُنَّتي النِّكاحَ ، فَمَنْ أحَبَّنِي فَليَسْتَنَّ بِسُنَّتِي " وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّج مَخَافَةَ العَيْلة فَلَيس مِنَّا " وقال صلى الله عليه وسل : م " مَنْ نَكَحَ لله وأَنكَحَ لله استَحَقَّ ولايَة الله ". ثم قال : وقال ابن عباس لابنه : لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج. وكان ابن مسعود يقول : لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج ، لا ألقى الله عَزَبَاً. وكان معاذ رضي الله عنه مطعوناً وهو يقول : زوجوني ، لا ألقي الله عزباً. وكان ماتت له زوجتان بالطاعون. وكان عُمَرُ يكثر النكاح ، ويقول : لا أتزوج إلا للولد ، وكان لعليّ رضي الله عنه أربع نسوة ، وسبع عشرة سرية ، وهو أزهد الصحابة. فدل أن تزوج النساء لا يدل على الرغبة في الدنيا.
(3/481)
قال سفيان : كثرة النساء ليس من الدنيا. واستدل بقضية عليّ رضي الله عنه قال : وكان أزهد الصحابة. ورُوي أن بشر الحافي رُئيَ في المنام ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : رفعت إلى منازلي في الجنة فأشرفت على مقامات الأنبياء ، ولم أبلغ منازل المتأهلين. وفي رواية : قال لي : ما كنت أحب أن تَلقاني عَزَباً ، قال الرائي : فقلت له : ما فعل أبو نصر التمار ؟ قال : رُفع فوقي بسبعين درجة ؛ بصبره على بُنياته وعياله. وقد قيل : فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد ، وركعةٌ مِنْ متأهل أفضل من سبعين ركعة من عزب. هـ. كلام الغزالي باختصار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 346
وقوله تعالى : {يمحو الله ما يشاء ويُثبت} ، من جملة ما يقع فيه المحو والإثبات الواردات الإلهية التي ترد على القلوب من تجليات الغيوب ؛ فإن القلب إذا تطهر من الأكدار ، وصفا من الأغيار ، كان كل ما يتجلى فيه من الغيوب فهو حق ، إلا أنه ينسخ بعضها بعضاً ؛ فقد يخبر الولي بأمر ، يكون أوْ لا يكون على حساب ما تجلى في قلبه ، ثم يمحو الله ذلك ، ويثبت في قلبه خلافه. أو يظهر في الوجود خلاف ما أخبر ، وليس بكذب في حقه ، ولكن الحق تعالى يُظهر لخلقه أموراً من مقدوراته ، متوقفاً وجودُها على أسبابٍ
349
وشروطٍ أخفاها الحق تعالى عن خلقه ، ليظهر عجزهم عن إحاطة علمه ، فالنسخ إنما يقع في فعله لا في أصل علمه.
قال الأستاذ القشيري : المشيئة لا تتعلق إلا بالحدوث ، والمحو والإثبات لا يكون إلا من أوصاف الحدوث ، فصفات ذات الحق ـ سبحانه ـ ؛ من كلامه وعلمه ، لا يدخل تحت المحو والإثبات ، إنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله. هـ. وقال سهل رضي الله عنه : {يمحو الله ما يشاء ويثبت} الأسباب ، {وعنده أمُّ الكتاب} ؛ القضاء المبرم. هـ.
(3/482)
وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي : {وعنده أم الكتاب} : العلم الأول الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير ولا تبديل ، ولا يقبل النسخ والتحريف. ومطالعته : بالفناء عن الحقيقة الخَلْقِية ، والبقاء بالأنوار الصمدانية ، والأنفاس الرحمانية. قال في القوت : والمحبة من أشرف المقامات ، ليس فوقها إلا مقام الخُلَّة ، وهو مقام في المعرفة الخاصة ، وهي : تخلّل أسرار الغيب ، فيطلع على مشاهدة المحبوب ، بان يعطى إحاطة بشيء من علمه بمشيئته ، على مشيئته التي لا تتقلب ، وعلمه القديم الذي لا يتغير. وفي هذا المقام : الإشراف على بحار الغيوب ، وسرائر ما كان في القديم وعواقب ما يدب. ومنه : مكاشفة العبد بحاله ، وإشهاده من المحبة مقامه ، والإشراف على مقامات العباد في المآل ، والاطلاع عليهم في تقلبهم في الأبد ؛ حالاً ومآلاً. هـ.
قلت : هذا الاطلاع إنما هو إجمالي لا تفصيلي ، وقد يقع فيه المحو والإثبات ؛ لأنه من جملة المعلومات التي دخلت عالم التكوين ، التي يقع فيها التبديل والتغيير.
ثم قال صاحب القوت : وقد قال أحسن القائلين : {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة : 255] ، والاستثناء واقع على إعطاء الإحاطة بشيء من شهادة علمه ، بنورٍ ثاقبٍ من وصفه ، وشعاع لائحٍ من سبحاته ، إذا شاء ، وذلك إذا أخرجت النفس من الروح ، فكان روحانياً ، خُروجَ الليلِ من النهار. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 346
350
قلت : (إما) : شرطية ، اتصلت ما الزائدة بأن الشرطية ؛ للتأكيد ، والجواب : (فإنما...) إلخ. أو : فلا تحتفل فإنما... إلخ ، و(لا معقب) : في موضع الحال ، أي : يحكم نافذاً حكمه ، كقوله : جاء زيد لا سلاح معه ، أي : خاسراً. و(من عنده) : عطف على (بالله).
(3/483)
يقول الحق جل جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم ؛ تسكيناً له : {وإما نُرِيَنَّكَ بعضَ الذي نَعدهُم} من العذاب الذي استعجلوه ، {أو نَتوفَّينك} قبل أن ترى ذلك ، فلا تحتفل بشأنهم ، {فإنما عليك البلاغُ} للرسالة لا غير ، {وعلينا الحسابُ} : المجازاة. والمعنى : كيفما دار الحال دُرْ معه ، أريناك بعض ما أوعدناهم في حياتك ، أو توفيناك قبله ، فلا تهتم بإعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم ؛ فإنا فاعلون ذلك لا محالة ، وهذا طلائعه ، فقد فتحنا عليك كثيراً من بلادهم ونقصناها عليهم.
{أوَ لَم يروا أنا نأتي الأرضَ} أي : أرض الكفرة ، {ننقُصُها من أطرافِها} بما نفتحه على المسلمين منها ، فيخافون أن نُمَكّنك من أرضهم ، وتنزل بساحتهم ، منصوراً عليهم ، فإذا نزلتَ بساحتهم ، ولم يخضعوا لك ، فساء صباح المنذرين. وقيل : الأرض جنس ، ونقصها بموت الناس ، وهلاك الثمرات ، وخراب البلاد ، وشبه ذلك. وذلك مقدمات العذاب الذي حَكَمَ به عليهم ، {واللهُ يحكُمُ لا مُعقبَ لحُكْمِهِ} : لا راد له. والمعقب : الذي يعقب الشيء بالأبطال ، ومنه قيل لصاحب الدَيْن : معقب ؛ لأنه يعقب غريمه للاقتضاء ، والمعنى : أنه حكم للأسلام بالإقبال ، وعلى الكفرة بالإدبار ، وذلك كائن لا يمكن تغييره. {وهو سريعُ الحساب} فيحاسبهم عما قليل في الآخرة ، وبعدما عذَّبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا.
(3/484)
{وقد مَكَرَ الذين من قَبلهم} بأنبيائهم ، وبمن تبعهم ، {فللَّهِ المكر جميعاً} ، إذ لا يُؤبه بمكرٍ دون مكره ، فإنه القادر على ما هو المقصود منه ودون غيره. سَمَّى العقوبة باسم الذنب ؛ للمشاكلة ، {يعلم ما تكسب كل نفس} فينفذ جزاؤها. {وسيعلم الكافر} أي : جنس الكافر ، بدليل قرأءة : " الكفار " ، {لِمَنْ} هي {عُقْبَى الدار} أي : لمن تكون العاقبة في الدارين ، دار الفناء ، ودار البقاء ، هل لأهل الإسلام المعد لهم دار السلام ؟ أو للكفار المعد لهم دار البوار ؟ . قال البيضاوي : وهذا كالتفسير لمكر الله بهم ، واللام تدل على أن المراد بالعُقبى العاقبة المحمودة ، مع ما في الإضافة إلى الدار كما عرفت. هـ.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
ويقول الذين كفروا} من رؤساء اليهود : {لستَ مرسلاً} ، ولم نجد لك ذكراً في كتابنا ، ولا ما يشهد لك عندنا. قال تعالى : {قل} لهم : {كفى بالله شهيداً بيني وبينكم} ؛ فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها منكم ، ولا من غيركم. {و} يشهد لي أيضاً : {مَنْ عنده عِلمُ الكتاب} الأول ؛ العلم الحقيقي ، كعبد
351
الله بن سلام ، ومن أسلم من اليهود والنصارى الذين علموا صفته صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل ، وعلماء المؤمنين الذين عندهم علم القرآن ، وما احتوى عليه من النظم المعجز ، والعلوم الغيبية الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم. أو علم اللوح المحفوظ إلا هو ، شهيداً بيننا. ويؤيده قراءة من قرأ : " ومَنْ عِنْدِهِ " ؛ بكسر الميم. وعلم الكتاب ، على الأول : مرفوع بالظرف ؛ فإنه معتمد على الموصول. ويجوز أن يكون مبتدأ ، والظرف خبره. وهو متعين على الثاني. قاله البيضاوي.
(3/485)
الإشارة : قد قال تعالى في الحديث القدسي : " مَنْ آذَى لي وَلِيّاً فَقَد آذَنَ بالحَرْب " وجرت عادة الله تعالى أن ينتقم لأوليائه ، ويغار عليهم ، ولو بعد حين ، فإذا أُوذي أحدُهم ، واستعجل ذلك يقول له الحق تعالى ما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك} قبل ذلك ، فليس الأمر بيدك ، فإنما عليك بلاغ ما جاء به نبيك ؛ من نصح العباد ، وإرشادهم إلى معالم دينهم ، وتصفية بواطنهم ، وعلينا الحساب ؛ فنُجازي مَنْ أقَْبَلَ ومَنْ أدْبَرَ. ومن جملة الانتقام : حَبسُ الأمطار ، ونقص الثمار ، وتخريب البلاد ، وكثرة موت العباد ، فتنقص الأرض من أطرافها. أفلم يعتبروا بذلك ، ويقصروا عن مكرهم بأولياء الله ؟ .
وقد مكر الذين من قبلهم بأولياء زمانهم ، فلم يغنوا شيئاً ، فَمَكَرَ الله بهم ، وخذلهم عن طاعته ، وسيعلم أهل الإنكار لِمن تكون عاقبة الدار. ويقول الذين كفروا بخصوصية وليّ من أولياء الله : لست وليّاً. فيقول لهم : كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ، ومن عنده علم الخصوصية ، وهم : السادات الصوفية ، فلا يعرف الوليَّ إلا وليُّ مثله ، ولا يعرف أهلَ الخصوصية إلا مَنْ له الخصوصية. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
352
جزء : 3 رقم الصفحة : 350(3/486)
سورة إبراهيم
جزء : 3 رقم الصفحة : 352
{بسم الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ * الار...}
الألف : آلاؤه ، واللام : لطفه ، والراء : رحمته. فكأنه يقول : بآلائنا ولطفنا ورحمتنا أنزلنا إليك كتابنا ، ولذلك رتَّب عليه قوله :
{... كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىا صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـائِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} قلت : (كتاب) : خبر ، أي : هذا كتاب ، و(بإذن) : متعلق بتُخرج ، أو حال من فاعله ، أو مفعوله. و(إلى صراط) : بدل من (النور). (الله الذي) ؛ من رفعه فعلى الابتداء ، والموصول خبره ، أو خبر عن محذوف ، ومن خفضه فبدل من (العزيز) ، و(الذين يستحبون) : صفة للكافرين أو نصب ، أو رفع على الذم.
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المحبوب ، هذا {كتابٌ أنزلناه إليك لتُخرج الناس} بدعائك إياهم إلى العمل به ، {من الظلمات إلى النورِ} ؛ من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الهداية والعلم ، {بإذنِ ربهم} ؛ بتوفيقه وهدايته وتسهيله ، {إلى صراطِ العزيزِ الحميد} أي : لتخرجهم إلى نور العلم الذي هو سلوك طريق العزيز الحميد ، التي توصل إلى رضوانه ومعرفته. وفي ذكر الوصفين إشارة إلى أنه لا يذل سالكه ، ولا يخيب سائله ، بل تحمد عاقبته.
ثم ذكر الموصوف بهما بقوله : {الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} أي : الموصوف بالعزة والحمد هو الله الذي استقر له ما في السماوات وما في الأرض ملكاً
353
وعبيداً. ثم ذكر وعيد من كفر بكتابه أو به ، فقال : {وويلٌ للكافرين} بكتابه ، ولم يخرجوا به من ظلمات كفرهم ، {من عذابٍ شديد} ، والويل : كلمة عذاب تقال لمن استحق الهلاك ، أي : هلاك لهم من أجل عذاب شديد يلحقهم. وقيل : وادٍ في جهنم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 353(3/487)
ثم ذكر وجه استحقاقهم العذاب بقوله : {الذين يستحبون الحياةَ الدنيا} ؛ يختارونها {على الآخرةِ} ، فإنَّ من أحب شيئاً اختاره وطلبه ، {ويصُدُّون} الناس {عن سبيل الله} ؛ بتعويقهم عن الإيمان ، {ويبغونها عوجاً} أي : ويبغون لها زيغاً ، ونُكُوباً عن الحق ، ليتوصلوا للقدح فيها ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير ، {أولئك في ضلال بعيد} أي : في تلف بعيد عن الحق ؛ بحيث ضلوا عن الحق ، وبعدوا عنه بمراحل. والبُعد في الحقيقة : للضال ، ووُصف به فعله ؛ للمبالغة.
الإشارة : قد أخرج صلى الله عليه وسلم أمته من ظلمات عديدة إلى نوار متعددة ؛ أولها : ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام ، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق ، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة ، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة ، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعفة ، ثم من ظلمة رؤية الأسباب ، والوقوف مع العوائد ، إلى نور شهود المسبب ، وخرق العوائد ، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود ، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة ، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون ، وهذا آخر ظلمة تبقى في النفس ، فتصير حينئذٍ روحاً وسراً من أسرار الله ، ويصير صاحبها روحانياً ربانياً عارفاً بالله ، ولا يبقى حينئذٍ إلا التراقي في شهود الأسرار ابداً سرمداً. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية ، ويصير ولياً محمدياً ، يُخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار.
(3/488)
وأما من لم يبلغ هذا المقام ، فإنه له الإخراج من أحد هذه الأشياء ؛ فالغزاة والمجاهدون يُخرجون من ظلمة الكفر إلى نورِ الإيمان ، والعلماء يُخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، والعُباد والزهاد يُخْرِجونَ من صَحِبَهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة. وأما ما بقي من الظلمات فلا يُخْرج منها إلا الربانيون الروحانيون. أهل التربية النبوية ، بإذن ربهم ، يدلهم على صراط العزيز الحميد ، الموصل إلى العز المديد. وويل لمن أنكر هؤلاء ، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه ، واستحبَّ حياة دنياه على أخراه ، أولئك في ضلال عن حضرة الحق ببعيد. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
354
يقول الحق جل جلاله : {وما أرسلنا من رسولٍ} قبلك {إلا بلسانِ قومه} ، وأنت بعثناك بلسان قومك. وإنما قال : بلسان قومه ، ولم يقل بلسان أمته ؛ لأن الأمة قد تكون أوسع من قومه ، كما في الحق نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد بُعث إلى العرب والعجم والجن والإنس ، فقومه الذين يفهمون عنه : يُتَرْجُمِونَ إلى من لا يفهم ، فتقوم الحجة عليهم. وكذلك إعجاز القرآن يُدركه أهل الفصاحة والبلاغة ، فإذا وقع العجز عن معارضته منهم قامت الحجة على غيرهم ، كما قامت الحجة في معجزة موسى عليه السلام بعجز السحرة ، وفي معجزة عيسى بعجز الأطباء.
ثم بيَّن الحكمة ، في كون الداعي لا يكون إلا بلسان قومه ، بقوله : {ليُبيّن لهم} ما أُمروا به ؛ فيفهمونه عنه بسرعة ، ثم ينقلونه ويترجمونه لغيرهم ، فتقوم الحجة عليهم ولذلك أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته أولاً ؛ فإذا فهموا عنه بلّغوا إلى غيرهم. قال البيضاوي : ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز ، لكن ادى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها ، والعلوم المتشبعة منها ، وما في إتعاب القرائح وكد النفس من القرب المقتضية لجزيل الثواب. هـ.
(3/489)
فالرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ إنما عليهم البيان بلسانهم ، والهداية بيد ربهم ، ولذلك قال تعالى : {فيُضِلُّ اللهُ من يشاءُ} إضلاله ، فيخذله عن الإيمان ، {ويهدي من يشاء} بالتوفيق له ، {وهو العزيزُ} الغالب على أمره ، فلا يُغلَب على مشيئته ، {الحكيم} في صنعه ، فلا يضل ولا يهدي إلا لحكمة أرادها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما بعث الله وليّاً داعياً إلا بلسان قومه ، وقد يخرق له العادة ، فيطلعه على جميع اللغات ، كما قال المرسي رضي الله عنه : من بلغ هذا المقام لا يخفى عليه شيء. وذلك من باب الكرامة ؛ كما كان صلى الله عليه وسلم يخاطب كل قوم بلغتهم ؛ معجزة له صلى الله عليه وسلم ؛ فقد اتسع علمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأحاط بحقائق الأشياء وأسمائها ومفهوماتها ، وأصول اللغة ، وفروعها ، فعلم ما علمه سيدنا آدم عليه السلام ، أو أكثر ، وإلى ذلك أشار القطب ابن مشيش في تصليته المشهورة ، وبقوله : " وتنزلت علوم آدم فإعجز الخلائق ". وقال البوصيري في همزيته :
جزء : 3 رقم الصفحة : 354
لَكَ ذَاتُ العُلوم مِنْ عالِم الغِيْ
ـبِ ومنْهَا لآدمَ الأَسْمَاءُ
جزء : 3 رقم الصفحة : 354
قلت : (أنْ أخرج) : إما تفسيرية لا محل لها ، أي : وقلنا : أن أخرج ؛ لأن في الإرسال معنى القول ، أو على إسقاط الخافض ، أي : بأن أخرج ، فإنَّ صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر ، فيصح أن توصل بها " إن " الناصبة.
(3/490)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد ارسلنا موسى بأياتنا} ؛ كاليد والعصا ، وسائر معجزاته التسع ، وقلنا له : {أن أخرج قومَك} ؛ بني إسرائيل ، وفرعون وملأه ؛ {من الظلمات إلى النور} من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أما فرعون وملؤه فظاهر ، وأما بنو أسرائيل فقد كان فرعون فَتَنَ جُلّهم ، وأضلهم مع القبط ، فكانوا أشياعاً متفرقين ، لم يبق لهم دين. فإن قلتَ : إذا كان موسى عليه السلام مبعوثاً إلى القبط ، فِلمَ لَمْ يرجع إليهم بعد خروجه عنهم إلى الشام ؟ فالجواب : أنه لما بلَّغهم الرسالة قامت الحجة عليهم ، فيجب عليهم أن يهاجروا إليه للدين.
ثم أمره بالتذكير فقال : {وذكِّرْهُم بأيامِ الله} : بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة قبلهم ، وأيام العرب : حروبها. أو ذكِّرهم بِنَعم الله وآلائه ، وبنقمه وبلاءه ؛ فالأيام تطلق على المعنيّين. {إنَّ في ذلك لآياتٍ لكل صبارٍ} في بلائه ، {شكور} لنعمائه ، وإنما خصه ؛ لأنه إذا سمع ما نزل على من قبله من البلاء ، وأُفِيض عليهم من النعماء ، اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر. وقيل : المراد لكل مؤمن ، وإنما عبَّر بذلك ؛ تنبيهاً على أن الصبر والشكر عنوان الإيمان. قاله البيضاوي.
{وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ أنجاكم} : حين أنجاكم {من آلِ فرعونَ} : رهطه ، {يسومونكم} : يُولونكم {سُوء العذابِ} : أقبحه يستعبدونكم ويُكلفونكم مشاق الأعمال ، {ويُذبِّحُون أبناءكم ويستحْيون نساءكم} ، قال البيضاوي : المراد بالعذاب هنا غير المراد به في سورتَيْ البقرة والأعراف ؛ لأنه هناك مفسر بالتذبيح والقتل ، ومعطوف عليه هنا ، فهو هنا إما جنس العذاب ، أو استعبادهم واستعمالهم بالأعمال الشاقة. هـ. {وفي ذلكم} الامتحان {بلاء} أي : ابتلاء {من ربكم عظيم} ؛ اختبركم به حتى أنقذكم منه ، ليعظم شكركم ، أو : في ذلك الإنجاء بلاء ، أي : نعمة
356
واختبار عظيم ، لينظر كيف تعملون في شكر هذه النعمة.
(3/491)
جزء : 3 رقم الصفحة : 355
ولذلك قال لهم موسى عليه السلام : {وإذْ تأذَّنَ ربكُمْ} أي : آذن ، بمعنى أعلمَ ، كتوعَّد وأوعد ، غير أنَّ تأذن أبلغ من آذن ؛ لما في تفعّل من التكلف والمبالغة ، أي أعلمكم ، وقال : والله {لئن شكرتم} يا بني إسرائيل ما أنعمتُ به عليكم من الإنجاء وغيره ، بالإيمان والعمل الصالح ، وبالإقرار باللسان ، وإفراد النعمة للمنعم بالجَنَان ، {لأَزيدَنَّكُمْ} نعمة على نعمة. وهذ الخطاب ، وإن كان لبني إسرائيل ، يعم جميع الخلق ، والزيادة إما من خير الدنيا ، أو ثواب الآخرة. وشكر الخواص يكون على السراء والضراء ؛ فتكون الزيادة في الضراء ، إما في ثواب أو في التقريب. ثم ذكر ضده فقال : {ولئن كفرتم} ما أنعمتُ به عليكم ، وقابلتموه بالكفر والعصيان ، {أنَّ عذابي لشديد} ؛ فأعذبكم به على كفركم. قال البيضاوي : ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويُعرض بالوعيد. هـ. فصرح بوصول الزيادة إليهم ، ولم يقل : أعذبكم عذاباً شديداً ، بل عظم عذابه في الجملة.
{وقال موسى} ، في شأن من لم يشكر : {إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً} من الثقلين ، {فإنَّ الله لغنيٌّ} عن شكركم ، {حميد} : محمود على ألسنة خلقه ، من الملائكة وغيرهم. فكل ذرة من المخلوقات ناطقة بحمده ؛ حالاً أو مقالاً ، فهو غني أيضاً عن حمدكم ، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم ؛ حيث حرمتموها مزيد الإنعام ، وعرضتموها لشديد الانتقال. وبالله التوفيق.
(3/492)
الإشارة : ذكر الحق تعالى في هذه الآية مقامين من مقامات اليقين : الصبر والشكر ، ومدح من تخلق بهما واستعملهما في محلهما ، فيركب أيهما توجه إليه منهما ، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر ، وأجره لا ينحصر ، والشكر ضامن للزيادة ، قال بعض العارفين : (لم يضمن الحق تعالى الزيادة في مقام من المقامات إلا الشكر) ، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات ، من حيث إنه متضمن للفرح بالله ، وموجب لمحبة الله. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر ؛ لأن الشاكر يرى المنن في طي المحن ، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك ؛ لأنه لا يكون شاكراً حقيقة حتى يشكر في السراء والضراء ، ولا يشكر في الضراء حتى يراها سراء ، باعتبار ما يُواجَه به في حال الضراء من الفتوحات القبية ، والمواهب اللدنية ، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر ، صاحبه يتجرع مرارة الصبر ؛ لأنه لم يترق إلى شهود المبلى في حال بلائه ، ولو ترقى إلى شهوده لَلَذَّتْ لديه البلايا ، كما قال صاحب العينية :
تَلَذُّ لِيَ الآلامُ ؛ إذْ كُنْتَ مُسْقِمِي
وإنْ تَخْتَبِرْنِي فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
جزء : 3 رقم الصفحة : 355
لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف ؛ فتارة تجده قوياً يتلقى
357
المهالك بوجه ضاحك ، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفاً ؛ فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء ، والعياذ بالله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في كتاب القصد : " رأيت كأني مع النبيين والصديقين ، فأردت الكون معهم ، ثم قلت : اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم ، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم ، فقيل لي : قل : وما قدّرت من شيء فأيَّدْنا كما أيدتهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 355
قلت : (شك) : فاعل بالمجرور ، و(فاطر) : نعت له.
(3/493)
يقول الحق جل جلاله : حاكياً عن نبيه موسى عليه السلام في تذكير قومه ، أو من كلامه ؛ تذكيراً لهذه الأمة {ألم يأتكم نبأ الذين مِن قبلكم} : ما جرى عليهم حين عصوا أنبياءهم ؛ {قوم نوح وعادٍ وثمود والذين من بعدهم} كقوم شعيب ، وأمم كثيرة {لا يعلمهم إلا اللهُ} ؛ لكثرة عددهم ، واندراس آثارهم. ولذلك قال ابن مسعود : كذب النسَّابُون. {جاءتهم رسلهم بالبيناتِ} ؛ بالمعجزات الواضحات ، {فرَدُّوا أيديَهُمْ في أفواههم} ؛ ليعضوا عليها ؛ غيظاً مما جاءت به الرسل كقوله {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} {آل عمران : 119}. أو : وضعوها عليها ؛ تعجباً منهم ، أو : استهزاءً بهم ، كمن غلب عليه الضحك. أو إسكاتاً للأنبياء ، وأمراً لهم بإطباق الأفواه ، أو : ردوها في أفواه الأنبياء ، يمنعونهم من التكلم ، أو : ردوا أيديهم ، أي : نِعَم الأنبياء عليهم ، وهي : مواعظهم والشرائع التي أتوهم بها من عند الله ، ردوها في أفواه الأنبياء حيث كذبوها ، ولم يعملوا بها ، كما تقول لمن لم يمتثل أمرك : ترك كلامي في فمي وذهب. {وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتُمْ به} على زعمكم ، {وإنا لفي شكٍّ مما تدعوننا إليه} من التوحيد والإيمان ، {مُريب} : مُوقع في الريبة ، أو : ذي ريبة ، وهو : قلق النفس بحيث لا تطمئن إلى شيء.
فإجابهم الرسل عن دعواهم الشك في الربوبية ، {قالت رُسُلُهم أفي الله شكٌّ} : أفي وجوده شك ، أو في ألوهيته ، أو في وحدانيته شك ؟ قال البيضاوي : أُدخلت همزة الإنكار على الظرف ؛ لأن الكلام في المشكوك فيه ، لا في الشك ، أي : إنما ندعوكم إلى الله ، وهو لا يحتمل الشك ؛ لكثرة الأدلة ، وظهور دلالتها عليه. هـ. وأشار إلى ذلك بقوله :
358
(3/494)
{فاطر السماواتِ والأرض} أي : خالقهما ومبدعهما على هذا الشكل الغريب ، والإتقان العجيب ؛ إذ لا يصدر إلا من إله عظيم القدرة ، باهر الحكمة ، واحد في ملكه ؛ {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء : 22] ، وهو {يدعوكم} إلى الإيمان والتوحيد ببعثه إيانا ، والتصديق بنا ، {ليغفر لكم من ذُنُوبكم} إن آمنتم ، أي : يغفر لكم بعض ذنوبكم ، وهو ما تقدم قبل الإسلام ، ويبقى ما يُذيب بعده في المشيئة ، أو : ما بينكم وبينه دون المظالم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 358
والجمهور : أنه يغفر للكافر ما سلف مطلقاً ، وقيل : " من " : زائدة ، على غير مذهب سيبويه. قال البيضاوي : وجيء بمن ، في خطاب الكفرة ، دون المؤمنين في جميع القرآن ، تفرقةً بين الخاطبين ، ولعل المعنى فيه أن المغفرة ، حيث جاءت في خطاب الكفار ، مرتبة على الإيمان ، وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة ، والتجنب عن المعاصي ، ونحو ذلك ، فيتناول الخروج عن المظالم. هـ. {ويُؤخّرَكُم إلى أجلٍ مسمّى} : إلى وقت سماه الله ، وجعله آخر أعماركم. وقال الزمخشري تبعاً للمعتزلة : يؤخركم إن آمنتم إلى آجالكم ، وإن لم تؤمنوا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت ، وهذا على قولهم بالأجلين. وأهل السنة يأبون هذا ، فإن الأجل عندهم واحد محتوم ، والله تعالى أعلم.
(3/495)
الإشارة : التفكر والاعتبار أفضل عبادة الأبرار ، وفي الحديث : " تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة " فيتفكر العبد فيما سلف قبله من القرون الماضية والأمم الخالية ، كيف رحلوا عن ديارهم المشيدة ، وفروشهم الممهدة ، واستبدلوها بضيق القبور ، وافتراش التراب تحت الجُنوب ، وجاءهم الموت وهم غافلون ، وتجرعوا كأسها وهم كارهون ، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم رجعوا قدِموا على ما قدَّموا ، وندموا على ما خلفوا ، ولم ينفع الندم وقد جف القلم ، فيوجب هذا التفكرُ الانحياش إلى الله ، والمسارعة إلى طاعة الله ، والزهد في هذه الدار الفانية ، والتأهب للسفر إلى الدار الباقية ؛ فيفوز فوزاً عظيماً. وفي تكذيب الصادقين تسلية للعارفين ، وللمتوجهين من المريدين ، إذا قُوبلوا بالإيذاء والتكذيب ، وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 358
يقول الحق جل جلاله : وقال الذين كفروا لرسلهم : {إنْ أنتم إلا بشرٌ مثلُنا} لا فضل لكم علينا ، فَلِمَ تختصمون بالنبوة دوننا ، ولو شاء الله أن يبعث رسلاً إلى البشر لأرسلهم من جنس أفضل ، كالملائكة ، أو : ما أنتم إلا بشر ، والبشر لا يكون رسولاً. قال ابن جزي : يحتمل أن يكون استبعاداً لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة ، أو يكون إحالة لنبوة البشر ، والأول أظهر ؛ لطلبهم البرهان بقولهم : {فأتونا بسلطان مبينٍ} ، ولقول الرسل : {ولكن الله يَمُنُّ على من يشاءُ من عباده}. هـ. ثم قالوا للرسل : {تُريدون أن تَصدُّونَا عما كان يعبدُ آباؤُنا} من الأصنام بهذه الدعوى ، {فأتونا بسلطانٍ مبين} : ببرهان بيِّن يدل على فضلكم ، واستحقاقكم لهذه المرتبة التي هي مرتبة النبوة ، كأنهم لم يعتبروا ما جاؤوا به من البينات والحجج ، فاقترحوا عليهم آية أخرى ، تعنتاً ولجاجاً.
(3/496)
{قالت لهم رُسُلهم إن نحن} : ما نحن {إلا بشر مثلُكم ولكن الله يَمُنُّ على من يشاءُ من عباده} بالنبوة والرسالة ، فمَنَّ علينا بذلك ، وإن كنا بشراً مثلكم ، سلّموا لهم مشاركتهم في الجنس ، وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله ومَنَّهُ عليهم. وفيه دليل على ان النبوة مواهب عطائية لا كسبية. ثم أجابوا عما اقترحوا بقولهم : {وما كان لنا أن نأتيَكم بسلطانٍ إلا بإذنِ الله} ، فليس لنا الإتيان بآيات ، ولا في قدرتنا أن نأتيكم بما اقترحتموه ، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله ، يخص من يشاء بها ، على ما تقتضيه حكمته وسابق إرادته.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
وعلى الله فليتوكَّل المؤمنون} ، فلنتوكل نحن عليه ، في الصبر على معاناتكم ومعاداتكم. عمموا الأمر بذكر المؤمنين ؛ للإشعار بأن الإيمان موجب للتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً ، ألا ترى قولهم : {وما لنا ألا نتوكل على الله} أي : أيُّ عذر لنا في ترك التوكل على الله ؟ {وقد هَدَانَا سُبُلنا} أي : طرقنا التي نعرفه بها ، فنوحده ، ونعلم أن الأمور كلها بيده ، {ولَنصْبِرَنَّ على ما آذيتمونا} : على أذاكم حتى يحكم الله بيننا ، وهو جواب عن قسم محذوف ، أكدوا به توكلهم ، وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم. {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} أي : فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم ، المسبب عن إيمانهم. قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري.
قال ابن جزي : إن قيل : لِمَ كرر الأمر بالتوكل ؟ فالجواب عندي : أن قوله : {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار : {فأتونا بسلطان مبين} أي : حجة ظاهرة ، فتوكل الرسل في ورود ذلك إلى الله. وأما قوله : {فليتوكل المتوكلون} فهو راجع إلى قولهم : (ولنصْبرنَّ على ما آذيتمونا) أي : نتوكل على الله في دفع أذاكم. هـ. وهو حسن ، لكن التعبير بالمتوكلين يقتضي أن التوكل حاصل ، والمطلوب الدوام
360
(3/497)
عليه ، وقد يقال : إنما عبَّر ثانياً بلفظ المتوكلين ؛ كراهية إعادة اللفظ بعينه ، أي : من كان متوكلاً على الله فإنه الحقيق بذلك. وقال في القوت : أي : ليتوكل عليه في كل شيء مَنْ توكل عليه في شيء. وهذا أحسن وجوهه. قال في الحاشية : والوجه الآخر : وعليه فليتوكّل ، في توكله مَنْ تَوكَّل عليه من الأشياء ؛ لأن الوكيل في كل شيء واحد ، فينبغي أن يكون التوكل في كل شيء واحد. هـ.
الإشارة : سر الخصوصية مستور بأوصاف البشرية ، ولا فرق بين خصوصية النبوة ، والولاية. سترها الحق تعالى غيرةً عليها أن يعرفها من لا يعرف قدرها ؛ فلا يطلع عليها إلا من سبقت له من الله العناية ، وهبت عليه ريح الهداية. وفي الحِكَم : " سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية. وقال أيضاً : " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه ". قال في لطائف المنن : فأولياء الله أهل كهف الإيواء ، فقليل من يعرفهم ، ولقد سمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله ؛ فإن الله معروف بكماله وجماله ، وحتى متى تعرف مخلوقاً مثلك ، يأكل كما تأكل ، ويشرب كما تشرب ؟ قال فيه : وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته ، وأشهدك وجود خصوصيته. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
(3/498)
قلت : ومعنى " طوى عنك وجود بشريته " هو : عدم الوقوف مع أوصافها اللازمة للنقائص ، بل تنفذ منها إلى شهود خصوصيته ، التي هي محل الكمالات. فأوصاف البشرية الذاتية للبشر لا تزول عن الولي ، ولا عن النبي كالأكل والشرب ، والنوم والنكاح ، والضعف والفقر ، وغير ذلك من نعوت البشر ؛ لأنها في حقهم رداء وصون لستر خصوصيتهم ؛ صيانةً لها أن تتبدل بالإظهار ، وينادى عليها بلسان الاشتهار ، ولذلك اختفوا عن كثير من الخلق. وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله : لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم البشرية ".
وقال صاحب كتاب (أنوار القلوب) : لله سبحانه عباد ضنَّ بهم عن العامة ، وأظهرهم الخاصة ، فلا يعرفهم إلا شكل ، أو محب لهم ، ولله عباد ضنَّ بهم عن الخاصة والعامة ، ولله عباد يُظهرهم في البداية ويسترهم في النهاية ، ولله عباد يسترهم في البداية ويُظهرهم في النهاية ، ولله عباد لا يظهر حقيقة ما بينه وبينهم إلى الحفظة فمن سواهم ، حتى يلقوه بما أودعهم منه في قلوبهم ، وهم شهداء المكلوت الأعلى ، والصفْح الأيمنِ مِنَ العرش ؛ الذين يتولى الله قبض أرواحهم بيده ، فتطيب اجسادهم به ، فلا يعدوا عليها الثرى ، حتى يُبعثوا بها مشرقةً بنور البقاء الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. هـ.
361
وقال أبو يزيد رضي الله عنه : أولياء الله تعالى عرائس ، ولا يرى العرائس إلا من كان مَحرماً لهم ، وأما غيرهم فلا. وهم مخبؤون عنده في حجاب الأنس ، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة. هـ. وجميع ما أجاب به الأنبياءُ قومَهم يجيب به الأولياءُ من أنكر عليهم ، من قوله : {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} ، من التعلق بالأسباب والانهماك في الحظوظ ، ومتابعة الهوى ، وحب الدنيا ، ومن قولهم : {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} إلى تمام ما أجابوا به. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
(3/499)
قلت : (واستفتحوا) : معطوف على (أوحى) ؛ إن كان الضمير للرسل ، واستئناف إن كان للكفار. و(يسْقى) : معطوف على محذوف ، أي : يلقى فيها ويسْقى ، و(صديد) : عطف بيان لماء ، و(يتجرعه) : صفة لماء ، أو حال من ضمير (يسقى).
يقول الحق جل جلاله : {وقال الذين كفروا لِرُسُلهم} ؛ تخويفاً لهم : والله {لنُخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودُنَّ في ملَّتنا} ، حلفوا ليكونن أحد الأمرين ؛ إما إخراج الرسل من ديارهم ، أو عودهم إلى ملتهم ، والعود هنا بمعنى الصيرورة ؛ لأنهم لم يكونوا على ملتهم ، كما تقدم في قصة شعيب عليه السلام. ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ، ولمن آمن معه ، فغلّب الجماعة على الواحد ، وقال الذين كفروا في كل عصر لكل رسول أتاهم : لنخرجنك ، أو لتعودَن في ملتنا. {فأوحى إليهم ربُّهم} أي : إلى رسلهم ، مجتمعين أو متفرقين ـ على القولين ـ وقال في إيحائه : والله {لَنُهلكنَّ الظالمين} فتخلى بلادهم ، {ولَنُسْكِنَنكُم الأرضَ من بَعدهم} أي : أرضهم وديارهم ، لقوله : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ا} [الأعراف : 137]. {ذلك} الميراث والإسكان {لمن خاف مقامِي} أي : قيامه للحساب بين يدي في القيامة ، أو قيامي على عبادي ، وحفظي لأعمالهم ، واطلاعي على سرهم وعلانيتهم. أو خاف عظمة ذاتي وجلالي ، {وخاف وعيد} أي : وعيدي بالعذاب ، أو عذابي الموعود للكفار.
{واستفتحوا} أي : استفتح الرسل : طلبوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعاديهم ، كقوله : {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف : 89] ؛ واستفتح
362
(3/500)
الكفرة واستنصروا على غلبة الرسل ، على نحو قول أبي جهل في غزوة بدر : اللهم ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة ، أي : أهلكه. أو : استفتح الفريقان معاً ، فكل واحد منهما سأل الله أن يُهلك المبطل وينصر المحق. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن : بكسر التاء ؛ على الأمر للرسل بطلب الفتح. {وخاب} : خسر {كلُّ جبارٍ} : متكبر على الله ، {عنيدٍ} : معاند للحق ولمن جاء به. وهذا هو الفتح الذي فتح لهم ، وهو : خيبة المتكبرين وفلاح المؤمنين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 362
(3/501)
ثم ذكر مآل خيبهم بقوله : {من ورائه جهنمُ} أي : أمامه وبين يديه ، فإنه مرْصد بها ، واقف على شفيرها في الدنيا ، مبعوث إليها بعد الموت فيلقى فيها ، {ويُسقى من ماءٍ صديد} ، وهو ما يسيل من جلود الكفارمن القيح والدم. {يتجرَّعُه} : يتكلف جرعه ، أي : زهوقه في حلقه. رُوي : " أن الكافر يؤتى بالشربة منه فيتكرهها ، فإذا أدْنيت منه شوت وجهه ، وسقطت فيها فروة رأسه ، فإذا شربها قطعت أمعاءه ". فيتجرعه {ولا يكادُ يُسيغُه} أي : لا يقارب أن يُسيغه ، أي : يبتلعه بصعوبة فكيف يُسيغه ، بل يكلف به ويطول عذابه ثم يبتلعه ؛ لأن نفي " كاد " يقتضي الوقوع. والسوغ : جواز الشراب على الحلق بسهولة ، وهذا بخلافه. {ويأتيه الموتُ} أي : أسباب الموت {من كل مكانٍ} ؛ من أجل الشدائد التي تُحيط به من جميع الجهات. أو : من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجليه. {وما هو بميت} فيستريح ، {ومن ورائهِ} : من بين يديه {عذابٌ غليظ} أي : يستقبل في كل وقت عذاباً أشد مما هو عليه ، وقيل : هو الخلود في النار ، وقيل : حبس الأنفاس في الأجساد. قاله الفضيل بن عياض. وقيل : قوله : {واستفتحوا} : كلام منقطع عن قصة الرسل ، بل نزل في أهل مكة حين استفتحوا بطلب المطر في السنة التي أخذتهم بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فخيب الله رجاءهم ولم يسقهم ، وأوعدهم أن يسقيهم ـ بَدَلاً من سقياهم المطر ـ صديدَ أهل النار. قال معناه البيضاوي.
(3/502)
الإشارة : ما خوَّفت الكفارُ به ، رسلَهم خوفت به العوام فقراءَهم وأولياءهم ، قال التجيبي ، في الإنالة ، لما تكلم على خفاء الأولياء ، قال : ومعلوم أن العصمة لم تثبت إلا للنبيين والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأنَّ غيرهم يصيب ويخطئ ، ويذنب ويتوب ، لكن لمن سُطرت مناقب الرجال ، وكراماتهم ، ولم تذكر سيئاتهم ، وطال العهد بهم ، ظن أكثر الخلق أن ليس لهم سيئات ، وقد كان لهم في أزمانهم المُحب والمبغض ، والمسلّم والمنتقد. ثم قال : فمن يرضى يقول أحسن ما يعلم ، ومن يسخط يقول أقبح ما يعلم ، وقد رأى أولئك في أزمانهم من الأذى والتنقص ، وإساءة الظن بهم ما كان يقصر عنه صبر غيرهم ، وقد أُخْرِجَ أبو زيد البسطامي من بسطام مراراً ، ورُفِع الشبلي والخواص والنوري
363
للسلطان ، وتستر الجنيد بالفقه حين ضُيِّقَ على الفقراء ، وقُبض على الحلاج ، وضُرب ، ومُثَّل به ، على أنه ساحر زنديق. هـ. المراد منه.
قلت : وقد وقع بنا في مدينة تِطوان أيام التجريد أمثال هذا ، فقد خُوفنا بالضرب مراراً ، وسُجِنا وأُخرجنا من زاويتنا ، وقال لنا محتسبُهُم : والله لنخرجنكم من مدينتنا ، ونركبكم في سفينة إلى بر النصارى ، فقلت له : حبّاً وكرامة ، ولعلّنا نُذكرهم الله حتى يسلموا ، ولما وصل الخبر بهذه المقالة إلى شيخنا ، كتب لنا بهذه الآية : {وقال الذين كفروا لرسلهم...} الخ. وكل آية في الكفار تجر ذيلها على من تشبه بهم ، وإن كان مُسلماً. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 362
قلت : (مثل) : مبتدأ ، والخبر محذوف عند سيبويه ، أي : فيما يتلى عليكم مثلهم. وقال الفراء : الخبر ما بعده ، وهو جملة : (أعمالهم كرمادٍ) ، أو (أعمالهم) : بدل ، والخبر : (كرماد) ، وعلى قول سيبويه تكون جملة : (أعمالهم) : مستأنفة لبيان مثلهم.
(3/503)
يقول الحق جل جلاله : {مَّثلُ} أعمال {الذين كفروا بربهم} ؛ في عدم الانتفاع بها وذهابها : {كرمادٍ اشتدت به الريحُ} في الهوى بسرعة {في يومٍ عاصفٍ} : شديد ريحه. والعصْف : اشتداد الريح. وصف به زمانه ؛ للمبالغة ، كقولهم : نهاره صائم ، وليله قائم. شبه صنائعهم ؛ من الصدقة ، وصلة الرحم ، وإغاثة الملهوف ، وعتق الرقاب ، ونحو ذلك من مكارمهم ؛ في حبوطها ـ لبنائها على غير أساس من الإيمان بالله ، والتوجه بها إليه ـ بغبار طارت به الريح العاصفة {في يوم عاصفٍ ، لا يقْدرونَ} يوم القيامة {مما كسبوا} من أعمالهم {على شيءٍ} من الانتفاع بها ؛ لحبوطها ، وتلاشيها ، فلا يقدرون منها على شيء ، ولا يجدون ثوابها ، وحيل بينهم وبين النفع ، كما حالت الرياح بينك وبين ما تنسفه ، فهو كما قيل : فذلكة التمثيل. {ذلك} ؛ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون ، {هو الضلال البعيد} أي : هو الغاية في البُعد عن طريق الحق.
الإشارة : العمل الذي يثبت لصاحبه هو الذي يصحبه الإخلاص في أوله ، والإسرار في آخرِه ، والتبري فيه من الحول والقوة ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ الإبقَاءَ عَلَى العمل أشَدُّ مِنَ العمل ، وإنَّ الرجلَ لَيَعْمَلُ العمل فيُكتب له عَمَلٌ صالحٌ ، معمول به في السر ، يضعِّف أجره بسبعين ضِعفاً ، فلا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويُعْلنه ، فيكتب علانيته ، ويمحى تضعيف أجره كله ، ثم لا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويُحب أن
364
يُحمد عليه ، فيُمحى من العلانية ، ويكتب رياء ، فاتقى الله امرؤ صان دينه ، وإن الرياء شرك " وراه البيهقي.
(3/504)
وبهذا تظهر فضيلة عمل القلوب ، كعبادة التفكر والاعتبار ، أو الشهود والاستبصار ، أو نية صالحة وهدى صالح ، أو زهد في القلب ، وورع وصبر ، وشكر وحلم ، وغير ذلك من أعمال القلوب ، التي لا يطلع عليها ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيُفسده ، بل يتولى جزاءه أكرمُ الأكرمين. ولذلك قيل : ذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح. وقال عليه الصلاة والسلام : " تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة " ولهذا أمر به ـ أي : بالتفكير ـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 364
يقول الحق جل جلاله : {ألم تَرَ} يا محمد ، أو أيها السامع {أن الله خلق السماوات والأرض بالحق} ؛ لتدل على الحق ، أو بالوجه الذي يحقَّ ان تُخلق لأجله ، وهو التعريف بخالقها ، وبقدرته الباهرة التي تقدر على الإيجاد والإعدام ، ولذلك قال : {إن يشأ يُذهبكم ويأت بخَلْقٍ جديدٍ} ، أي : إن يشأ يعدمكم ويستبدل مكانكم خلقاً آخر. فإنَّ من قدر على إيجاد صورهم ، وما تتوقف عليه مادتهم ، قادر على أن يبدلهم بخلق آخر ؛ {وما ذلك على الله بعزيز} أي : بمتعذر ، أو ممتنع ؛ لأن قدرته عامة التعلق ، لا تختص بمقدور دون آخر ، ومن كان هذا شأنه كان حقيقاً بأن يُفرد بالعبادة والقصد ؛ رجاء لثوابه ، وخوفاً من عقابه يوم الجزاء ، الذي أشار إليه بقوله : {وبرزوا لله...} إلخ.
(3/505)
الإشارة : ألم تر أن الله خلق سماوات الأرواح ، لشهود الحق في مقام التعريف ، وأرض النفوس لعبادة الحق في مقام التكليف. الأرواح مستقرها سماء الحقائق ، والأشباح مقرها أرض الشرائع. عالم الأرواح محل التعريف ، وعالم الأشباح محله التكليف. والأرواح لا تنفك عن الأشباح في الصورة الخلقية ، غير أنها تعرج عنها بالتصفية والذكر ، حتى تترقى إلى عالم الأرواح ، فلا تشهد إلا الأرواح في محل الأشباح ؛ وهذا من أعظم أسرار الربوبية ، التي يطلع عليها العارفون بالله ، فإذا أطلعهم الله على هذا المقام ، كُوشفوا بأسرار الذات العلية ، وبعالم الأرواح الذي هو مظهر أرواح الأنبياء والرسل ، فلا يغيبون عن الله ساعة ، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن مقام أرواح الأنبياء والأولياء. وفي هذا المقام قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : لي ثلاثون سنة ، ما غاب عني الحق طرفة عين. وقال أيضاً : لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ما عددت نفسي من المسلمين.
365
وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه : مما منَّ الله به عليَّ أني ما ذكرتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا خطر على قلبي إلا وجدتني بين يديه... الخ كلامه. نفعنا الله بهم.
وأهل هذا المقام موجودون في كل زمان ، فإن القادر في زمانهم هو القادر في زماننا ، وفي قوله تعالى : {إن يشأ يذهبكم...} الآية ، إشارة إلى هذا ، أي : إن يشأ يذهبكم عن شهود أنفسكم ، ويأت بخلق جديد ، تُشاهدون به أسرار ربكم ، وما ذلك على الله بعزيز. قال أبو المواهب التونسي رضي الله عنه : حقيقة الفناء محو واضمحلال ، وذهاب عنك وزوال. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 365
(3/506)
قلت : (تَبعاً) : جمع تابع ، أو مصدر نُعت به ؛ للمبالغة على حذف مضاف ، أي : كنا لكم ذا تبع ، و(من عذاب الله من شيء) : من ، الأولى ؛ لبيان ، والثانية : زائدة ، هذا المختار. وـ عليه الصلاة والسلام ـ و(محيص) : إما مصدر ، أو اسم مكان.
يقول الحق جل جلاله : {وبرزوا لله} أي : لأمر الله {جميعاً} ، فيبرزون من قبورهم يوم القيامة حفاةً عراةً ، لفصل القضاء ، أو : برزوا لله على ظنهم ؛ فإنهم كانوا يرتكبون الفواحش خفية ، ويظنون أنها تخفى على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم. وإنما عبَّر بالماضي ؛ لتحقق وقوعه. فيقول حينئذٍ {الضعفاءُ} وهم : الأتباع ، لضعف رأيهم عندهم ، {للذين استكبروا} وهم الرؤساء الذين استتبعوهم وغووهم : {إنا كنا لكم تَبَعاً} في الكفر ، وتكذيب الرسل ، والإعراض عن نصحهم ، {فهل أنتم مُغْنون عنا من عذابِ الله من شيء} أي : فهل أنتم دافعون عنا شيئاً من عذاب الله ؟ .
{قالوا} ، أي : رؤساؤهم ، في جوابهم واعتذارهم : {لو هدانا الله لهديناكم} أي : لو هدانا الله للإيمان ، ووفقنا إليه لهديناكم ولكن ضللنا فأضللناكم ، أي : اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا ، ولو هدانا الله لطريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم ، لكن سُدَّ دوننا طريق الخلاص ، {سواءٌ علينا أجزِعْنَا أمْ صَبَرنا} ، أي : مستوٍ علينا الجزع والصبر ، {ما لنا من محيص} : من مهرب ومنجى ، ويحتمل أن يكون قوله : {سواءٌ علينا...} إلخ ، من كلام الفريقين معاً ، ويؤيده ما رُوي أنهم يقولون : تعالوا نجزع ، فيجزعون خمسمائة عام ، فلا ينفعهم ، فيقولون : تعالوا نصبر ، فيصبرون كذلك ، ثم يقولون : {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}. نسأل الله العصمة بمنَّه وكرمه.
366
(3/507)
الإشارة : إذا ترقى العارفون ، ومن تعلق بهم ، عن عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، وبرزوا لشهود الله في كل شيء ، وقبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، وعند كل شيء ، وتنزهوا في حضرة الأسرار ، ورُفعوا يوم القيامة مع المقربين الأبرار ، بقي ضعفاء اليقين ؛ الذين تعوقوا عن صُحبتهم ، في غم الحجاب ، وتعب الحس والخواطر ، مسجونين في سجن الأكوان ، فيقولون لمن عَوَّقهم عن صحبة العارفين من أهل الرئاسة والجاه : إنا كنا لكم تبعاً ، فهل تمنعون شيئاً مما نحن فيه من غم الحجاب ، وسقوط الدرجة ؟ فيقولون : لو هدانا الله لصحبتهم لهديناكم. فإذا نظروا يوم القيامة إلى ارتفاع درجاتهم ضجوا ، وفزعوا على ما فاتهم ، فلا ينفعهم ذلك ؛ فما لهم من محيص عن تخلفهم عن مقام المقربين. رُوي أن أهل عليين إذا أشرفوا على الأسلفين تشرق منازلهم من أنوار وجوههم. وسيأتي ـ إن شاء الله ـ الحديث عند قوله : {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة : 17].
جزء : 3 رقم الصفحة : 366
قلت : (إلا أن دعوتُكم) : الاستثناء منقطع ، ويجوز الاتصال ، و(بما أشركتمون) : مصدرية ، أو موصولة اسمية ، و(من قبل) : يتعلق بأشركتمون ، وعلى الثاني : بكفرت.
(3/508)
يقول الحق جل جلاله : {وقال الشيطانُ} ، أي إبليس الأقدم {لمَّا قُضِي الأمرُ} أي : أمر الحساب ، وفزغ منه ، ودخل أهل الجنةِ الجنة ، وأهلُ النارِ النارَ. رُوي أنه يُنصب له منبر من نار ، فيقوم خطيباً في النار على أهل النار ، يعني على الأشقياء من الثقَلين ، فيقول في خطبته : {إن الله وعدكم وعدَ الحق} ، أي : وعداً حقاً أنجزه لكم ، وهو وعد البعصث والجزاء ، {ووعدتكم} وعد الباطل ، وهو : ألاَّ بعث ولا حساب ، وإن كان واقعاً شيء من ذلك فالأصنام تشفع لكم ، {فأخْلَفتكم} ، أي : فظهر خلاف ما وعدتكم ، جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه ، مجازاً. {وما كان لِيَ عليكم من سلطان} ؛ من تسلط ، فألجئكم إلى الكفر والمعاصي ، {إلا أن دعوتُكم} ؛ إلا دعائي إياكم بتسويل وتزيين ، {فاستجبْتمْ لِي} ، وهو ليس من جنس التسلط ، لكنه تهكم بهم ، على طريقة قوله :
367
تَحِيَّةُ بَيْنِهِم ضَرْبٌ وَجِيعُ
ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً ، أي : ما تسلطت عليكم بالقهر ، لكن دعوتكم فأسرعتم إجابتي ، {فلا تلوموني} ؛ فإنَّ من اشتهر بالعداوة لا يُلام على أمثال ذلك ، {ولُوموا أنفسكم} ؛ حيث أطعتموني حين دعوتكم ، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم. ولا حجة للمعتزلة في الآية على أن العبد يخلق أفعاله ؛ لأن كسب العبد مقدر في ظاهر الأمر ، لقيام عالم الحكمة ، وهو رداء لعالم القدرة ، فالقدرة تبرز ، والحكمة تستر ، وهو ما يظهر من اختيار العبد ، ولا اختيار له في الحقيقة ؛ قال تعالى {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الإنسان : 30 ، التكوير : 29] {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ا} [الأنعام : 112].
(3/509)
ثم قال لهم : {ما أنا بمُصْرخِكُم} : بمغيثكم من العذاب ، {وما أنتم بمُصْرخِيَّ} : بمغيثي ، {إني كفرت بما أشركتمونِ من قبلُ} ، أي : إني كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم في دار الدنيا ، بمعنى : تبرأت منه واستنكرته ، كقوله تعالى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر : 14]. أو : أني كفرت بالله الذي أشركتموني معه في طاعته من قبل ، حين امتنعْت من السجود. والأول أظهر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 367
قال تعالى : {إنَّ الظالمين لهم عذابٌ أليم}. ويحتمل أن يكون من تتمة خطبة الشيطان ، قال البيضاوي : وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين ، وإيقاظ لهم ، حتى يُحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم. هـ.
الإشارة : ينبغي لك أيها العبد الصالح الناصح لنفسه ان تصغي بسمع قلبك إلى هذه المقالة ، التي تصدر من الشيطان عند فوات الأوان ، فتبادر إلى خلاص نفسك ما دمت في قيد حياتك ، قبل حلول رمسك ، قبل أن تزل بك القدم ، حيث لا ينفعك الندم ، فتحاسب نفسك ، وتتدبر في عواقب أمرك ، وتصحح عقائد توحيدك ، وتعمل جهدك في طاعة ربك ، وتجتنب مواقع غرور الشيطان ، وتعتمد على فضل الكريم المنان ، وتجعل الموت نصب عينيك ، وما هو مستقبل تجعله حاصلاً ، وما هو متوقع تجعله واقعاً ؛ فكل ما هو آت قريب ، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام : 134]. وفي الحِكَم : " لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت محاسن الدنيا وكسفة الفناء ظاهرة عليها ". وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 367
قال تعالى : {إنَّ الظالمين لهم عذابٌ أليم}. ويحتمل أن يكون من تتمة خطبة الشيطان ، قال البيضاوي : وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين ، وإيقاظ لهم ، حتى يُحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم. هـ.
(3/510)
الإشارة : ينبغي لك أيها العبد الصالح الناصح لنفسه ان تصغي بسمع قلبك إلى هذه المقالة ، التي تصدر من الشيطان عند فوات الأوان ، فتبادر إلى خلاص نفسك ما دمت في قيد حياتك ، قبل حلول رمسك ، قبل أن تزل بك القدم ، حيث لا ينفعك الندم ، فتحاسب نفسك ، وتتدبر في عواقب أمرك ، وتصحح عقائد توحيدك ، وتعمل جهدك في طاعة ربك ، وتجتنب مواقع غرور الشيطان ، وتعتمد على فضل الكريم المنان ، وتجعل الموت نصب عينيك ، وما هو مستقبل تجعله حاصلاً ، وما هو متوقع تجعله واقعاً ؛ فكل ما هو آت قريب ، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام : 134]. وفي الحِكَم : " لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت محاسن الدنيا وكسفة الفناء ظاهرة عليها ". وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 367
368
يقول الحق جل جلاله : {وأدخل الذين آمنوا} ، أي : أدخلهم الله على أيدي الملائكة {جنات تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها} ، فيدخلونها {بإذن ربهم} ؛ بأمره ، فيأذن للملائكة أن تُدخلهم حين يقضي بينهم. {تحيتُهم فيها سلامٌ} أي : تحييهم الملائكة ، أو الخدام ، حين يتلقونهم يسلمون عليهم ، ويهنئونهم ، على ما في الحديث.
الإشارة : في ذكر هذه الآية بعد خطبة الشيطان تنبيه على وجه الخلاص منه ، حتى لا يكون من أهل خطبته ، وهو تصحيح الإيمان وتقوية مواده ، وهو ما ذكرنا قبل في مواد طمأنينة أهل الإيمان ، وإن أسعده الله بصحبة عارف رقَّاه إلى شهود العيان ، فلا يكون للشيطان ولا لغيره عليه سلطان ، لتحقيق عبوديته ، وارتقائه إلى شهود عظمة ربوبيته ؛ قال تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر : 42] ، وهم الذين رسخت في قلوبهم شجرة الإيمان ، وارتفعت أغصانها إلى الرحمن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 368
(3/511)
قلت : (كلمة طيبة) : يجوز أن يكون مفعولاً بمحذوف ، أي : جعل كلمة ، وتكون الجملة تفسيرية لضرب المثل ، وأن تكون (كلمة) : بدلاً من (مَثَلاً) ، و(شجرة) : صفة لها ، أو خبر عن مضمر ، أي : هي شجرة.
يقول الحق جل جلاله : {ألم تَرَ} يا محمد ، أو أيها السامع ، {كيف ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً} لأهل " لا إله إلا الله " ، وهم : أهل التوحيد ، الذين رسخ التوحيد في قلوبهم ، وعبّروا عنه بألسنتهم. فمثال الكلمة الطيبة التي نطقوا بها ، ورسخ معناها في قلوبهم {كشجرةٍ طيبةٍ} : كالنخلة مثلاً ، {أصلُها ثابت} في الأرض ، غائص بعروقه فيها ، {وفروعها في السماء} ؛ أي : أعلاها. أي : يريد الجنس ، أي : فروعها وأفنانها في السماء ، {تُؤتي أًكُلُها} : تُعطى ما يؤكل من ثمرها {كل حين} وقَّته الله لإثمارها ، فقيل : سنة ، وبه قال ابن عباس وجماعة من المفسرين والفقهاء ، واستدلوا بها على من حلف لا يُكلم أخاه حيناً لزمه سنة ، وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وغيرهما : {كل حين} ؛ أي : غدوة وعشية ، ومتى أريد جناها ، قلت : وهذا هو الظاهر.
واخْتُلف في هذه الشجرة الطيبة ، التي ضرب الله بها المثل لكلمة الإخلاص ، فقيل : غير معينة ، وقيل : النخلة ، وبه قال الجمهور. قال الشطيبي : وقيل : جوزة الهند ، فإنها
369
ثابت الأصل ، متصلة النفع ، يكون طعمها أولاً لبناً ، ثم عسلاً ، ثم تنعقد طعاماً ، ويصنع بلبنها ما يصنع بلبن المواشي ، ثم يكون كالخل ، ثم كالخمر ، ثم كالزيت ، كل هذا قبل عقد الطعم ، وأما النخلة فهي : ستة أشهر طلع رخص ، وستة أشهر رطب طيب ، فنفعه متصل. وقال ابو حنيفة : إنه ببلاد اليمن نوعٌ من التمر ، يقال له : الباهين ، يطعم السنة كلها. هـ. قلت : وقد ذكر ابن مقشب جوزة الهند ، ووصفها كما قال الشطيبي ، وقوله : " في النخلة ستة أشهر... " الخ ، فيه نظر ، وصوابه : ثلاثة ، فإن المعاينة ترده.
جزء : 3 رقم الصفحة : 369
(3/512)
والمشبه بهذه الشجرة : المؤمن الكامل الدائم نفعه ، المتصل علمه ، أوقاته معمورة بذكر الله ، أو تذكير عباد الله ، وحركاته وسكناته في طاعة الله ، حيث أراد بها وجه الله ، فكل حين وساعة يصعد منه عمل إلى الله.
ثم قال تعالى : {ويضربُ الله الأمثال للناس لَعلهم يتذكرون} ؛ لأن في ضربها زيادة إيضاح وإفهام وتذكير ؛ فإنه تصوير للمعاني وتقريبها من الحس ، لتفهم سريعاً.
ثم ذكر ضدها فقال : {وَمَثَلُ كلمة خبيثة} ؛ كلمة الكفر {كشجرة} كمثل شجرة ؛ {خبيثة} ؛ كالحنظلة مثلاً ، {اجْتُثتْ} : استؤصلت ، وأُخذت جثتها ، وقُلعت {من فوق الأرض} ، أي : قطعت من فوق الأرض ؛ لأن عروقها قريبة منه ، {ما لها من قرارٍ} استقرار. وهذا في مقابلة قوله : {أصلها ثابت}. قال البيضاوي : واختُلف في الكلمة والشجرة ؛ ففُسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد ـ أي : (لا إله إلا الله) ، ودعوة الإسلام والقرآن ، والكلمة الخبيثة بالإشراك بالله تعالى ، والدعاء إلى الكفر ، وتكذيب الحق. ولعل المراد بهما ما يعم ذلك ، فالكلمة الطيبة : ما أعرب عن حق ، أو دعا الى صلاح ، والكلمة الخبيثة : ما كان على خلاف ذلك ، وفُسرت الشجرة الطيبة بالنخلة ، ورُوي ذلك ، مرفوعاً ، وبشجرة في الجنة ، والخبيثة بالحنظلة ، ولعل المراد بهما أيضاً ما يعم ذلك. هـ.
(3/513)
{يُثبت اللهُ الذين آمنوا بالقول الثابت} وهو : لا إله إلا الله ، أو كل ما يثبت في القلب ، ويتمكن فيه من الحق ، بالحجة الواضحة ، {في الحياة الدنيا} مدة حياتهم ، فلا يزالون إذا افتتنوا في حياتهم ، أو عند موتهم ، وهي حسن الخاتمة ، {وفي الآخرة} عند السؤال ، فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في القبر ، وعند الموقف ، فلا تدهشهم أهوال القيامة. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : " ثُمَّ تُعَادُ رُوحه في جَسَدِهِ ، فَيَأتيهِ مَلَكانِ ، فيُجْلِسَانهِ فِي قَبْرهِ ، ويَقُولاَنِ لَه : مَنْ رَبُّكَ ، وَمَا دِينُكَ ، وَمَنْ نَبِيكَ ؟ فيقول : رَبي الله ، ودِيني الإسْلاَمُ ، ونَبيي محمد صلى الله عليه وسلم. فينادي مُنَادٍ من السَّماءِ : أنْ صَدَقَ عَبْدِي " فذلك قوله تعالى : {يُثَبِتُ اللهُ الذينَ أَمنُوا بِالقَولِ الثابتِ}. قلت : والقدرة صالحة لهذا كله. قال الغزالي : هو أشبه شيء بحال النائم.
370
{ويُضِلُّ اللهُ الظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتقليد ، فلا يهتدون إلى الحق ، ولا يثبتون في مواقف الفتن. {ويفعلُ الله ما يشاء} ؛ من تثبيت بعض ، وإضلال آخرين ، من غير اعتراض عليه ، ولا تعقيب لحكمه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 369
(3/514)
الإشارة : الكلمة الطيبة ، هي كلمة التوحيد ، والشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان ، وأصلها هو : التوحيد الثابت في القلب ، وفروعها : الفرائض والواجبات ، وأغصانها : السنن المؤكدات ، وأوراقها : المندوبات والمستحبات ، وأزهارها : الأحوال والمقامات ، وأذواقها : الوجدان وحلاوة المعاملات ، وانتهاء طيب أثمارها : العلوم وكشف أسرار الذات ، الذي هو مقام الإحسان ، وهي معرفة الشهود والعيان. فمن لم يبلغ هذا المقام لم يجْن ثمرة شجرة إيمانه. ومن نقص شيئاً من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه ، إما من فروعها ، أو من أغصانها ، أو من ورقها ، أو من حلاوة أذوقها ، أو مِنْ عَرْف أزهارها ، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها في الخلاء ، ولم تُلَقَّح كانت ذَكَّاره ، تورق ولا ثمر ، فهي شجرة إيمان من لا شيخ له يصلح للتربية ، فإن الفروع والأوراق كثيرة ، والثمار ضعيفة ، أيُّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم في إشارة قوله تعالى : {وَابْتَغُوااْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة : 35]. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 369
(3/515)
يقول الحق جل جلاله : {ألم تَرَ} يا محمد {إلى الذين بدَّلوا} شكر {نعمةَ الله كفراً} ؛ بأن وضعوا الكفر مكان الشكر ، أو : بدلوا نفس النعمة كفراً ؛ فإنهم لما كفروها سُلبت منهم ، فصاروا تاركين لها مُحصلين للكفر مكانها ؛ كأهل مكة ، خلقهم الله من نسل إسماعيل عليه السلام ، وأسكنهم حَرَمه ، وجعلهم خُدَّام بيته ، وَوَسَّع عليهم أبواب رزقه ، وعطف عليهم قلوب خلقه ، وتمم شرفهم ببعْثة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فكفروا ذلك ، فقحطوا ، وجاعوا حتى أكلوا الميتة ، وأُسروا وقُتلوا يوم بدر ، وصاروا كذلك مسلوبي النعمة ، موصوفين بالكفر ؛ وعن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ : أنها نزلت في الأفجريْن من قريش : بني المغيرة ، وبني أمية ؛ فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمُتِّعُوا إلى حين. {وأحَلَّوا قومَهم} : من أطاعهم في الكفر والتبديل ، أي : أنزلوهم {دارَ البوار} : دار الهلاك ، بحملهم على الكفر معهم ، ثم فسرهم بقوله : {جهنم يصلونها} : يحترقون فيها ، و {بئس القرارُ} ؛ وبئس المستقر جهنم.
371
ثم بيَّن كفرهم ، فقال : {وجعلوا لله أنداداً} : أشباهاً وأمثالاً ، يعبدونها معه ، {ليُضِلوا عن سبيله} ؛ عن طريق التوحيد ، أي : لتكون عاقبتهم الضلال أو الإضلال ، على القراءتين ، أي : ليضلوا في أنفسهم ، أو ليضلوا غيرهم. وليس الضلال كان غرضهم في اتخاذ الأنداد ، ولكن لمَّا كان نتيجته وعاقبته جُعل كالغرض. {قل تمتعوا} بشهواتكم الدنيوية ، فإنها فانية ، أو بعبادتكم الأوثان ، فإنها من قبيل الهوى والأمر للتهديد. وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب ؛ لإفضائه إلى المهدد به ، وان الأمرين كائنان لا محالة ، فلا بد من وقوع تمتعهم ، ولا بد من إفضائهم إلى النار. ولذلك علقه بقوله : {فإنَّ مصيرَكم إلى النار} ، وأن المخاطب ، لانهماكه فيه ، كالمأمور به من آمر مطاع. قاله البيضاوي.
(3/516)
الإشارة : ظهور أهل التربية في زمان الغفلة والجهل نعمة عظيمةُ ، لكن لا يعرفها إلا من سقط عليها ، ومن أنكرها ، وسدَّ بابها ، وعوَّق الناس عن الدخول في طريقها ، فقد بدل نعمة الله كفراً ، وأحلَّ الناس ـ من تبعه ـ دار البوار ، وهي : الإقبال على الدنيا ، والانهماك في الغفلة ، وخراب الباطن من نور اليقين ، وكثرة الخواطر والوساوس ، والحرض والجزع والهلع ، وغير ذلك من أمراض القلوب. وأيُّ عذاب المؤمن أشد من هذا في الدنيا ؟ ويسقط في الآخرة عن درجة المقربين ، ومن لم يصحب أهل التوحيد الخالص لا يخلو من عبادة أنداد وأشباه ؛ بمحبته لهم والركون إليهم. ومن أحب شيئاً فهو عبد له. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ذات يوم : إنا لا نحب إلا الله ، ولا نحب معه شيئاً سواه. فقال له بعض الحاضرين : قال جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النفس مجبولة على حب من أحسن إليها " فقال له الشيخ : إنا لا نرى الإحسان إلا من الله ، ولا نرى معه غيره. هـ. بالمعنى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 371
قلت : (يُقيموا) : جواب شرط مقدر ، يتضمنه قوله : (قل) ، تقديره : إن تقل لهم أقيموا يقيموا ، ومعمول القول ، على هذا ، محذوف. وفيه تنبيه على أنهم لفرط مطاوعتهم للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره ، وأنه كالسبب الموجب له ، أي : مهما قلت أقاموا وأنفقوا. وقيل جزم بإضمار لام الأمر. ولا يصح أن يكون جواب الأمر من غير حذف ؛ لأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة. انظر البيضاوي : وقال ابن عطية : إلا إن ضمّن (قل) معنى : بلّغ أو أدَّ ، فيصح أن يكون (يقيموا) : جواب أمره. و(سراً وعلانية) : حالان ، أو ظرفان ، ومن قرأ : " لا بيع " بالبناء فقد بنى " لا " مع
372
اسمها بناء للتركيب ، ومن قرأ بالرفع فقد أهملها.
(3/517)
يقول الحق جل جلاله : {قل لعباديَ الذين آمنوا} ، خصهم بالإضافة إليه ؛ تشريفاً لم ، وتنويهاً بقدرهم ، وتنبيهاً على أنهم الذين قاموا بحقوق العبودية. قل لهم يا محمد : {يُقيموا الصلاة} التي هي عنوان الإيمان ، بإتقان شروطها وأركانها وآدابها ، {ويُنفقوا مما رزقناهم} من الأموال ، فرضاً ونفلاً ، {سراً وعلانيةً} أي : مُسرين ومعلنين ، أو في سر وعلانية ، والأحب : إعلان الواجب ، وإخفاء المُتَطَوَّع به ، إلا في محل الاقتداء لأهل الإخلاص. {من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه} فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره ، أو ما يفدي به نفسه ، {ولا خلالٌ} : ولا مخاللة ومودة تنفع في ذلك اليوم ، حتى ينفع الخليلُ خليلَه ، وإنما العملُ الصالح ، كالإنفاق لوجه الله ، وإقام الصلاة ، وغير ذلك.
الإشارة : قد مدح الله هاتين الخصلتين : الصلاة والإنفاق ، وأمر بهما في مواضع من القرآن ؛ لأنهما عنوان الصدق ، أحدهما ، عمل بدني ، والآخر : عمل مالي. أما الصلاة فإنها طهارة للقلوب ، واستفتاح لباب الغيوب ، وهي محل المناجاة ومعدن المصافاة ، تتسع فيها ميادين الأسرار ، وتُشرق فيها شوارق الأنوار ، كما في الحِكَم. وفي بعض الأخبار : (إن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحُجُبَ بينه وبينه ، وواجهه بوجهه ، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء ، يُصلون بصلاته ، ويُؤَمَّنُونَ على دعائه ، وإن المصلي لينثر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه ، ويناديه مناد : لو يعلم المناجي من يناجي ما انفتل). وإن أبواب السماء لتفتح للمصلي. وإن الله تعالى يباهي ملائكته بصفوف المصلين. وفي التوراة : يا ابن آدم لا تعجز ان تقوم بين يَدَيَّ مصلياً باكياً ، فأنا الذي اقتربتُ من قلبك ، وبالغيب رأيتَ نوري. هـ. فكانوا يرون أن تلك المراقبة والبكاء ، وتلك الفتوح التي يجدها المصلي في قلبه من دنو الرب من القلب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 372
(3/518)
وأما الصدقة فإنها برهان على إيمان صاحبها ، وفي الحديث : " الصَّدقةُ بُرْهانٌ " فهي تدل على خروج حب الدنيا من القلب ، وعلى اتصاف صاحبها بمنقبة السخاء ، التي هي أفضل الخصال ، وفي الحديث : " السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ ، قَرِيبٌ من النَّاس قريبٌ من الجَنَّةِ ، بَعِيدٌ من النارِ ، والبَخِيلُ بَعيدٌ من اللهِ ، بَعِيدٌ من النَّاسِ ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ ، قَرِيبٌ من النَّارِ ، ولجَاهلٌ سَخِيٌ أَحَبُ إلى اللهِ من عَالمٍ بخيلٍ ".
جزء : 3 رقم الصفحة : 372
قلت : (الله) : مبتدأ ، و(الذي) ، وما بعده : خبر ، و (رزقاً لكم) : مفعول أخرج ، و (من الثمرات) : بيان له ، حال ، ويجوز العكس ، ويجوز أن يراد بالرزق : المصدر ، فينصب على العلة أو المصدر ؛ لأن (أخرج) فيها معنى " رَزَقَ " ، و (دائبينْ) : حال ، والدؤوب : الدوام على عمل واحد ، و (من كل ما سألتموه) : يحتمل أن تكون " ما " مصدرية ، أو موصولة ، أو موصوفة.
يقول الحق جل جلاله : {اللهُ الذي خلق السماوات والأرض} من أجلكم ، السماء تُظلكم ، والأرض تُقلكم ، {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمراتِ رزقاً لكم} ، تعيشون به وتتفكهون منه. ويشمل الملبوس ، كالقطن ، والكتان ، وشبه ذلك {سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره} : بمشيئته وقدرته ، إلى حيث توجههم مع أسباب حكمته ، تغطية لقدرته ، وهو ما يتوقف عليه جريها وإرساؤها ، من الجبال والقلاع ، {وسخّر لكم الأنهار} مطردة لانتفاعكم بالسفن والشرب ، وسائر منافعها ، فجعلها مُعدَّة لا نتفاعكم وتصرفكم. وقيل : تسخير هذه الأشياء : تعليم كيفية اتخاذها والانتفاع بها.
(3/519)
{وسخَّر لكم الشمسَ والقمرَ دائبين} ؛ متماديين في الطلوع والغروب ، يدأبان في سيرهما وإنارتهما ، وإصلاح ما يصلحانه من المكونات ، بقدرة خالقهما ، {وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ} يتعاقبان لسكناتكم ومعايشكم. {وآتاكم من كل ما سألتموه} أي : وآتاكم بعض جميع ما سألتموه ، وهو ما يليق بكم ، وما سبق لكم في مشيئته وعلمه. قال البيضاوي : ولعل المراد بما سالتموه : ما كان حقيقياً بأن يسأل ؛ لاحتياج الناس إليه ، سُئل أو لم يسأل. هـ. وقرأ الضحاك وابن عباس : " من كُلِّ " ؛ بالتنوين ، أي : وآتاكم من كل شيء احتجتم إليه ، وسألتموه بلسان الحال. ويجوز على هذا أن تكون " ما " نافية ، في موضع الحال ، أي : وآتاكم من كل شيء غير سائليه.
{وإن تعدوا نعمةَ الله لا تُحصوها} : لا تحصوها ، ولا تطيقوا عدَّ أنواعها ، فضلاً عن أفرادها ، فإنها غير متناهية ؛ فمنها ظاهرة ، ومنها باطنة ، كالهداية والمعرفة. قال طلق بن حبيب : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، ونعمة أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أصبحوا توابين ، وأمسوا توابين. هـ. وقال أبو الدرداء : من لم ير نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه ، فقد قلَّ علمه ، وحضر عذابه. هـ. {إنَّ الإنسانَ لظلوم} ؛ بظلم النعمة
374
لمَّا غفل عن شكرها ، أو بظلم نفسه لمَّا عرضها للحرمان ، بارتكاب المعاصي ، {كفارٌ} : شديد الكفران ، وقيل : ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفّار في النعمة يجمع ويمنع. قاله البيضاوي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 373
(3/520)
الإشارة : الله الذي أنزل من سماء الملكوت علوماً وأسراراً ، تحيا به القلوب والأرواح ، فأخرج به من أرض النفوس ، ثمرة اليقين والطمأنينة ، رزقاً لأرواحكم. وسخر لكم فلك الفكرة تجري في بحر التوحيد ، وفضاء التفريد بأمره. وسخر لكم أنهار العلوم ، منها ما هو علم الرسوم لأصلاح الظواهر ، ومنها ما هو علم الحقائق لإصلاح الضمائر. وسخر لكم شمس العرفان وقمر الإيمان ، دائبين ، يستضيء بقمر التوحيد في السير إلى معرفة أنوار الصفات ، وبشمس العرفان إلى أسرار الذات. وسخَّر لكم ليل القبض لتسكنوا فيه ، ونهار البسط ، (لا تدرون أيهم أقرب نفعاً). وآتاكم من كل ما سألتموه حين كمل تهذيبكم ، وصح وصلكم ، فيكون أمركم بأمر الله. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصُوها ؛ إذ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد لا حدَّ لهما في هذه الدار وفي تلك الدار ، ففي كل نَفَس يمدهم بمَددٍ جديد ، ومع هذا كله يغفل العبد عن هذه النعم!! إن الإنسان لظلوم كفار ، وشكرها : نسبتها لمعطيها ، وحمد الله عليها. وفي الحكم : " لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرك ؛ فإنَّ ذلك مما يحط من وجود قدرك ".
قال سهل بن عبد رضي الله عنه : ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها ، والنعمة التي ألهم بها الحمد أفضل من الأولى ، لأن الشكر يستوجب المزيد. وفي أخبار داود عليه السلام أنه قال : إلهي ، ابنُ آدمَ ليس فيه شعرة إلا وتحتها نعمة ، وفوقها نعمة ، فمن أين يكافئها ؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا داود ، إني أُعْطِي الكثير وأرْضَى باليسير ، وإنَّ شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمني. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 373
375
(3/521)
قلت : قال هنا : {اجعل هذا البلد} بالتعريف ، وقال في سورة البقرة {بَلَداً} [البقرة : 126] بالتنكير ، قال البيضاوي : الفرق بينهما أن المسؤول في الأول ـ أي : في التعريف ـ إزالة الخوف وتصييره أمناً ، وفي الثانية جعله من البلاد الآمنة. هـ. وفرَّق السهيلي : بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة حين نزول آية إبراهيم ، لأنها مكية ؛ فلذلك قال فيه : " البلد " ؛ بلام التعريف التي للحضور ، بخلاف آية البقرة ، فإنما هي مدينة ، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها ، فلم يُعرفها بلا تعريف الحضور. هـ. قال ابن جزي : وفيه نظر ؛ لأن ذلك كان حكاية عن إبراهيم عليه السلام ، ولا فرق بين كونه بالمدينة أو بمكة. هـ.
قلت : لا نظر فيه ؛ لأن الحق تعالى لم يحك لنا قصص الأنبياء بألفاظهم ، وإنما ترجم عنها بلسان عربي ، فينزل على رعاية مقتضى الحال. ولذلك اختلفت الألفاظ في قصص الأنبياء ، لأن كل قصة تنزل على ما يقتضيه المقام والحال ، من تعريف وتنكير ، واختصار وإطناب. وقد ذكر أبو السعود في سورة الأعراف ما يؤيد هذا ، فانظره. والله تعالى أعلم.
(3/522)
يقول الحق جل جلاله : {و} اذكر {إذْ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد} يعني : مكة ، {آمناً} لمن فيها من أغدرة الناس عليها ، أو من الخسف والعذاب ، أو من الطاعون والوباء ، {واجنُبني} أي : امنعني واعصمني ، {وبَنيَّ} من بعدي ، من {أن نعبد الأصنامَ} أي : اجعلنا منهم من جانب بعيد. قال البيضاوي : وفيه دليل على أن العصمة للأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم ، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته ، وغم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم ، محتجاً به ، وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ، وسمونها الدوار ، ويقولون : البيت حجر ، وحيثما نصبت حجراً فهو بمنزلته. هـ. قال ابن جزي : و {بَنِيَّ} يعني : من صُلبه ، وفيهم أجيبت دعوته ، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام. هـ. وقد قال في الإحياء : عنى إبراهيمُ عليه السلام بالأصنام ، الذهب والفضة ، بمعنى : حبهما والأغترار بهما ، والركون إليهما. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ والدِّرْهَم... " الحديث ؛ لأن رتبة النبوة أجل من أن يُخْشى عليها أن تعتقد الألوهية في شيء من الحجارة. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
قلت : الظاهر أن يبقى اللفظ على ظاهره ، في حقه وفي حق بنيه. أما في حقه فلسعة علمه وعدم وقوفه مع ظاهر الوعد ، كما هو شأن الأكابر ، لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، وهذا كقوله : {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام : 80]. وتقدم هذا المعنى مراراً. وأما في حق بنيه فإنما قصد العموم في نسله لكن لم يجب إلا فيما كان صلبه ؛ فإن دعاء الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لا يجب أن يكون كله مجاباً ، فقد يُجابون في أشياء ، ويُمنعون من أشياء. وقد سأل نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته أشياء ، فأجيب
376
في البعض ، ومُنع البعض ، كما في الحديث.
(3/523)
ثم قال إبراهيم عليه السلام : {ربِّ إنهن أضللن كثيراً من الناس} أي : إن الأصنام أتلفت كثيراً من الخلق عن طريق الحق ، فلذلك سألتُ منك العصمة ، واستعذتُ بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية ، كقوله {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام : 70]. {فمن تبعني} على ديني {فإنه مني} ؛ لا ينفك عني في أمر الدين ، {ومن عصاني فإنك غفور رحيم} ، تقدر أن تغفر له ابتداء ، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أن كل ذنب فللَّه أن يغفره ، حتى الشرك ، إلا أن الوعيد فرَّق بينه وبين غيره ، قاله البيضاوي. قال ابن جزي : {ومن عصاني} ؛ يريد : بغير الكفر ، أو عصاه بالكفر ثم تاب منه ، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة ، ولكنه ذكر اللفظ بالعموم ؛ لما كان فيه ـ عليه السلام ـ من التخلْق بالرحمة للخلق ، وحسن الخُلق. هـ.
{ربنا إني أسكنت من ذريتي} أي : بعض ذريتي ، وهو : إسماعيل عليه السلام ، أو : أسكنت ذرية من ذريتي ، وهو إسماعيل ومن وُلِد منه ؛ فإن إسكانه متضمن لإسكانهم ، {بوادٍ غير ذي زرع} يعني : وادي مكة ، لأنها حجرية لا تنبت ، والوادي : ما بين الجبلين ، وإن لم يكن فيه ماء. ولم يقل : ولا ماء ، ولعله علم بوحي أنه سيكون فيه الماء ، {عن بيتك المحرَّم} الذي حَرَّمه على الجبابرة من التعرض له والتهاون به ، أو : لم يزل محترماً تهابُه الجبابرة ، أو مُنع منه الطوفان ، فلم يستأصله ويمح أثره. وهذا الدعاء وقع منه أول ما قدم ، ولم يكن موجوداً ، فلعله قال ذلك باعتبار ما كان ، أي : عند أثر بيتك المحرم ، أو باعتبار ما يؤول إليه من بنائه وعمارته واحترامه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
(3/524)
وقصةُ إنزاله ولده بمكة : أن هاجر كانت مملوكة لسارة ، وهبها لها جبارٌ من الجبابرة ؛ وذلك أن إبراهيم عليه السلام دخل مدينة ، وكان فيها جبار يغصب النساء الجميلات ، فأخذها ، وأدخلها بيتاً ، فلما دخل عليها دعت عليه ، فسقط ، ثم قالت : يا رب إن مات قتلوني فيه ، فقام ، فلما دنا منها ، دعت عليه ، فسقط ، فقال في الثالثة : ما هذه إلا شيطانة ، أخرجوها عني ، وأعطوها هاجر ، فعصمها الله منه ، وأخدمها هاجر ، ثم وهبتها لإبراهيم ، فوطئها فحملت بإسماعيل ، فلما ولدته غارت منها فتعب إبراهيم معها ، ثم ناشدته ، سارةُ أن يخرجها من عندها ، فركب البراق ، وخرج بها تحمل ولدها حتى أنزلها مكة ، تحت دوحة ، قريباً من موضع زمزم ، فلما ولي تبعته ، وهي تقول : لِمنْ تتركنا في هذه البلاد ، وليس بها أنيس ؟ ثم قالت : " أألله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذاً لا
377
يُضيعنا. فرجعت تأكل من مِزود ، تم تركها لها ، وتشرب من قربة ماء ، فما فرغ الماء نشف اللبن ، وجعل الولدُ يتخبط من العطش ، فجعلت تطوف من الصفا ، وكان جبلاً صغيراً قريباً منها ، وتذهب إلى المروة ، وتسعى بينهما ، لعلها ترى أحداً ، فلما بلغت سبعة أطواف وسمعت صوتاً في الهواء ، فقالت : أغِثْ إن كان معك غياث ، فتبدَّى جبريلُ بين يديها حتى وصل إلى موضع زمزم ، فهمز بعقبه ففار الماء. فلما رأته دهشت ، وخافت عليه يذهب ؛ فجعلت تحوطه ، وتقول : زم زم ، فانحصر الماء. قال صلى الله عليه وسلم : " يَرْحمُ اللهُ أُمَّ إسمَاعِيل ، لَوْ تَركَتْهُ ، كَانَ عَيْناً مَعِيناً " فشربت ، ودرَّ لبنُها.
(3/525)
ثم إن جرهم رأوا طيوراً تحوم ، فقالوا : لا طيور إلا على الماء. فقصدوا الموضع ، فوجدوها مع ابنها ، وعندها عين ، فقالوا لها : أتشركيننا في مائك ، ونشركك في ألباننا ؟ ففعلت. وفي حديث البخاري : " قالوا لها : أتحبين أن نسكن معك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء " فرحلوا إليها ، وسكنوا معها ، ثم زوجوا ولدها منهم. وحديث إتيان إبراهيم يتعاهد ابنه ، وبنائهما الكعبة ، مذكور في البخاري والسَّيَر.
ثم قال : {ربنا ليُقيموا الصلاة} أي : ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق ، إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم. وتكرير النداء وتوسيطه ، للإشعار بأنها المقصود بالذات من إسكانهم ثَمَّةَ. والمقصود من الدعاء : توفيقهم لها ، وقيل : اللام للأمر ، وكأنه طلب منهم الإقامة ، وسأل من الله أن يوفقهم لها. {فاجعل أفئدة من الناس} أي : اجعل أفئدة من بعض الناس ، {تهوي إليهم} أي : تسرع إليهم شوقاً ومحبة ، و " من " : للتبعيض ، ولذلك قيل : لو قال : أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم ، ولحجت اليهودُ والنصارى. وقيل : للبيان ، أي : أفئدة ناسٍ. {وارزقهم من الثمرات} مع كونهم بوادٍ لا نبات فيه ، {لعلهم يشكرون} تلك النعمة ، فأجاب دعوته ، فجعله حرماً آمناً تُجبى إليه ثمرات كل شيء ، حتى أنه يوجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية ، في يوم واحد.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
ربنا إنك تعلم ما نُخفي وما نُعلن} أي : تعلم سرنا ، كما تعلم علانيتنا. والمعنى : إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ، وأرحم منا بأنفسنا ، فلا حاجة لنا إلى الطلب ، لكننا ندعوط إظهاراً لعبوديتك ، وافتقاراً إلى رحمتك ، واستجلاباً لنيل ما عندك. قاله البيضاوي : أي : فيكون مناسباً لحاله في قوله : " علمه بحالي يُغني عن سؤالي ". وقيل : ما نُخفي من وَجْدِ الفرقة ، وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليه. وتكرير النداء ؛ للمبالغة في التضرع
378
(3/526)
واللجوء إلى الله تعالى. {وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} ؛ لأن علمه أحاط بكل معلوم. " من " : للاستغراق.
الإشارة : ينبغي للعبد أن يكون إبراهيمياً ، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة ، فيقول : رب اجعل هذا القلب آمناً من الخواطر والوساوس ، واجنبني وبَنِيَّ ، أي : بَعِّدْنِي ومن تعلق بي ، أن نعبد الأصنام ، التي هي الدنانير والدراهم ، وكل ما يُعشق من دون الله ، {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} فتلفوا في حبها والحرص عليها ، فلا فكرة لهم إلا فيهما ، ولا شغل لهم إلا جمعهما ، فمن تبعني في الزهد فيهما ، والغنى بك عنهما ، فإنه مني ، ومن عصاني ، واشتغل بمحبتهما وجمعهما ، {فإنك غفور رحيم}. وقوله : {ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع} فيه : تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم ، ونِعْم التربية ذلك فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة ، الخليلية الحبيبية ، الأحمدية المصطفوية ـ صلوات الله عليهما ـ أن العارف الصادق ينبغي له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب ـ في حياته وبعد وفاته ـ لتربية عياله ، فإنه تعالى حسبه ، وزاد في تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة إظهاراً للعبودية ، وإخلاصاً في المعرفة ، وطلباً للمشاهدة ، ومناجاة في القربة بقوله : {ربنا ليقيموا الصلاة} الخ.(3/527)
وقال القشيري : أخبر عن صدق توكله وتفويضه ، أي : أسكنت قوماً من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع ، عند بيتك المحرّم. وإنما رد الرِّفق لهم في الجِوارِ فقال : {عند بيتك المحرم} ، ثم قال : {ليقيموا الصلاة}. أي : أسكنتُهم لإقامة حقَّكَ ، لا لِطَلَبِ حظوظهم. ويقال : اكتفى بأن يكونوا في ظلال عنايته ، عن أن يكونوا في ظلال نعيمهم ، ثم قال : قوله : {بوادٍ غير ذي زرع} أي : أسكنتُهم هذا الوادي ، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم ، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم ، فهم مطروحون ببابِكَ مُقيمون بحضرتك ، جار فيهم حُكمك ، إن رَاعَيتَهُم كَفَيْتَهم ، وكانوا أعَزَّ خلقِ اللهِ ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلَّ خَلْقِكَ. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
وقوله تعالى : {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} : قال القشيري : ليشتغلوا بعبادتك ، فأفُرد قوماً يقومون لهم بكفايتهم ، وارزقهم من الثمرات ، فإنَّ من قام بحقِّ الله قام الله بحقِّه. فاستجاب الله دعاءَه فيهم ، فصارت القلوبُ من أهل كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة ذلك البيت ، ومحبة أولئك المصلين من سُكانه. وقال الورتجبي : سأل أن يجعلهم مرادي جلاله وجماله ، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين ، بقوله : {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} ، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك ، والاقتداء بهم في إقامة سُنتك ، وألبسهم لباس أنوارك ، وألق في قلوب خلقك محبتهم بمحبتك. هـ. ومعنى
379
قوله : مرادي جلاله وجماله : أي : مظهراً لجلاله وجماله ، يعشقهم البَرُّ والفاجر ، والكامل والناقص ، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
قلت : (لسميعُ الدعاء) : من إضافة أمثلة المبالغة إلى مفعوله ، أي : لسميع دعاء من دعاءه. و(من ذريتي) : عطف على مفعول " اجعل " ، أي : اجعلني وبعض ذريتي مقيمين للصلاة.(3/528)
يقول الحق جل جلاله : حاكياً عن خليله عليه السلام : {الحمدُ لله الذي وهبَ لي على الكِبَر} أي : مع كبر سني عن الولد ، {إسماعيل وإسحاق} ، رُوي أنه وُلد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة ، وإسحاق لمائة وثنتي عشرة سنة ، وقيل : غير ذلك. وإنما ذكر كبر سنه ؛ ليكون أعظم في إظهار النعمة ، وإظهاراً لما فيه من الآية ، ولذلك قال : {إنَّ ربي لسميعُ الدعاء} أي : يجيب من دعاه ، من قولك : سمع الملك كلامي ، إذا اعتنى به. وفيه إشعارٌ بأنه تقدم بأنه تقدم منه سؤال الولد ، فسمع منه ، وأجابه حين وقع اليأس منه ، ليكون من أجلِّ النعم وأجلاها.
ثم طلب الاستقامة له ولولده بقوله : {ربِّ اجعلني مقيم الصلاة} أي : مُتقناً لها ، مواظباً عليها ، {ومن ذريتي} فاجعل من يُقيمها. والتبعيض ؛ لعلمه بالوحي أنَّ مِنْ ولده من لا يقيمها ، أو باستقرار عادته في الأمم الماضية أن منهم من يكون كفاراً. {ربنا وتقبل دعاء} أي : استجب ، أو تقبل عبادتي. {ربنا اغفر لي ولوالدي} ، وكان هذا الدعاء قبل النهي ، أو قبل تحقق موتهما على الكفر ، أو يريد آدم وحواء. {وللمؤمنين يوم يقول الحسابُ} أي : يثبت ويتحقق وجوده ، مستعار من القيام على الرِّجل ، كقولهم : قامت الحرب على ساق. أو يقوم إليه أهله ، فحذف المضاف ، أي : يقوم أهل الحساب إليه ، وأسند إليه قيامهم ؛ مجازاً.
الإشارة : إتيان النسل البشري ، أو الروحاني ، من أجلِّ النعم وأكملها على العبد ، وفي الحديث : " إذَا مَاتَ العَبْدُ انْقََطََعَ عَمَلُه إِلاَّ مَن ثَلاثٍَ ، صدقةٍ جَاريةٍ ، أو عَلْم بَثَه في صُدُور الرِّجالِ ، أو وَلدٍ صالح يدعُو له بَعدَ مَوتهِ " والولد الروحاني أتم ، لتحقق استقامته في الغالب. وطلب ذلك محمود كما فعل الخليل وزكريا ، وغيرهما ، وقد مدح الله مَنْ فعل ذلك بقوله : {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان : 74].
380(3/529)
وقرة عين في الذرية : أن يكونوا على الاستقامة في الدين ، وسلوك منهاج الصالحين. وكل ما أتوا به من الطاعة والإحسان فللوالدين حظ ونصيب من ذلك ، ولا فرق بين الولد الروحاني والبشري ، وفي ذلك يقول الشاعر :
جزء : 3 رقم الصفحة : 380
والمَرْءُ في ميزانه أَتْبَاعُهُ
فاقْدِرْ إذنْ قَدْرَ النبيّ مُحَمَّدِ
والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 380
قلت : (يوم يأتيهم) : مفعول ثانٍ لأَنذِر ، ولا يصح أن يكون ظرفاً. و(نُجبْ دعوتك) ؛ جواب الأمر.
يقول الحق جل جلاله : {ولا تحسبنَّ} أيها السامع ، أن {اللَّهَ غافلاً عما يعملُ الظالمون} ، أو أيها الرسول ، بمعنى : دُمْ على ما أنت عليه من أن الله مطلع على أفعالهم ، لا تخفى عليه خافية ، غير غافل عنهم. وهو وعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة. وقيل : إنه تسلية للمظلوم ؛ وتهديد للظالم ؛ فالحق تعالى يمهل ولا يهمل. {إنما يؤخرهم} ، أي : يؤخر عذابهم {ليوم تشخص فيه الأبصارُ} ، أي : تحد فيه النظر ، من غير أن تطرف ؛ من هول ما ترى.
{مُهطعين} : مسرعين إلى الداعي ؛ مذلة واستكانة ، كإسراع الأسير والخائف ونحوه ، أو مقبلين بأبصارهم ، لا يطرفون ؛ هيبة وخوفاً ، {مُقنعي رؤوسهم} رافعيها إلى السماء كرفع الإبل رأسها عند رعيها أعالي الشجر. وذلك من شدة الهول ، أو من أجل الغل الذي في عنقه ، كقوله {إِنَّا جَعَلْنَا فِيا أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ} [يس : 8]. وقال الحسن في هذه الآية : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. هـ. {لا يرتدُّ إليهم طرفهم} ، بل تقف أعينهم شاخصة لا تطرف ، أو : لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم ، {وأفئدتهم هواء} : خلاء ، محترقة ، فارغة من الفهم ، لا تعي شيئاً ؛ لفرط الحيرة والدهشة. ومنه يُقال للأحمق وللجبان : قلبه هواء ،
381(3/530)
أي : لا رأي فيه ولا قوة. وقيل : خالية من الخير ، خاوية من الحق.
{وأنذر الناس} يا محمد ، أي : خوفهم هذا اليوم ، وهو : {يوم يأتيهم العذابُ} ، يعني يوم القيامة ، أو يوم الموت ؛ فإنه أول مطلع عذابهم ، {فيقول الذين ظلموا} بالشرك والتكذيب : {ربنا أخِّرنا إلى أجل قريب} أي : أخِّر العذاب عنا ، وردنا إلى الدنيا ، وأمهلنا إلى أجل قريب ، {نُجب دعوتك} حينئذٍ {ونتبع الرسلَ} ونظيره : {لَوْلاا أَخَّرْتَنِيا إِلَىا أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون : 10]. قال تعالى لهم : {أو لم تكونوا أقسمتم من قبلُ} أنكم باقون في الدنيا ، {ما لكم من زوال} عنها بالموت ولا بغيره ، ولعلهم أقسموا بطراً وغروراً. أو دل عليه حالهم ؛ حيث بنوا مشيداً ، وأمَّلوا بعيداً. أو أقسموا أنهم لا يُنقلون إلى دار أخرى ، وأنهم إذا ماتوا لا يُزالون عن تلك الحالة ، ولا ينقلون إلى دار الجزاء ، كقوله : {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} [النحل : 38].
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 381(3/531)
وسكنتمُ في مساكن الذين ظلموا أنفسَهم} بالكفر والمعاصي ، من الأمم السالفة كعاد وثمود ، {وقد تبيّنَ لكم كيف فعلنا بهم} بما تُشاهدون من آثارهم الدارسة ، وديارهم الخربة ، وما تواتر عندكم من أخبارهم ، {و} قد {ضربنا لكم الأمثالَ} من أحوالهم ، أي : بيَّنا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب ، أو بيَّنا لكم صفات ما فعلوا ، وما فُعل بهم ، التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة. الإشارة : كما أمهل ، سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال ، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال ؛ لأن هذه الدار لا تسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات ؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان ، فقد أجلَّ مقدارهم أن يجازيهم في دار لا بقاء لها ، وتلك الدار باقية لا نفاذ لها ، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم : {ربنا أخرنا إلى اجل قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل} ، ثم بادر إلى إجابة الداعي ، واتباع الرسول الهادي ، في كل ما جاء به من الأوامر والنواهي ، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم ، كيف فعل بهم الزمان ؟ وكيف غرتهم الأماني وخدعهم الشيطان ، حتى أسكنهم دار الذل والهوان ؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان والشكر لله على الهداية لنعمة الإسلام ، والإيمان ، وعلق قلبك بمقام الإحسان ؛ فإن الله يرزق العبد على قدر نيته ، وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 381
قلت : (وإن كان مكرُهم) ؛ " إن " نافية ، واللام للجحود ، ومن قرأ " لّتزول " ؛ بفتح اللام ، فإن مخففة ، واللام فارقة ؛ و (يوم تُبدل) : بدل من (يوم يأتيهم) ، أو ظرف للانتقام ، أو مقدر باذكر ، أو (بمخلف وعده). ولا يجوز ان ينتصب بمخلف ؛ لأن ما قبل " إن " لا يعمل فيما بعدها. و(السماوات) : عطف على (الأرض) ، أي : وتبدل السماوات.(3/532)
يقول الحق جل جلاله : {وقد مكروا} بك يا محمد {مكرَهُم} الكلي ، واستفرغوا جهدهم في إبطال الحق وتقرير الباطل ، {وعند الله مكرُهُم} اي : مكتوب عنده فعلهم ، فيجازيهم عليه. أو عند الله ما يمكرهم به جزاء لمكرهم ، وإبطالاً له ، {وإن كان مكرُهُم} في العظم والشدة ، {لِتزولَ منه الجبال} الثوابت لو زالت ؛ تقديراً ، أو ما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال ، أي : الشرائع والنبوات الثابتة كالجبال الواسي. والمعنى على هذا تحقير مكرهم ؛ لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة ، أو : وإن مكرهم لَتزولُ منه الجبال من شدته ، ولكن الله عصم ووقى. وقيل : الآية متصلة بما قبلها ، أي وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، ومكروا مكرهم في إبطال الحق.
{فلا تحسبن اللهَ مخلفَ وعدِهِ رسلَه} ، يعني : وعد النصر على الأعداء ، وقدَّم المفعول الثاني ، والأصل : مخلف رسله وعده ، فقدَّم الوعد ؛ ليُعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق ، ثم قال : {رسله} ؛ ليعلم أنه لم يخلف وعد أحد من الناس ، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه ؟ ! فقدَّم الوعد أولاً بقصد الإطلاق ، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص. {إن الله عزيز} : غالب لا يماكر ، قادر لا يدافع ، {ذو انتقام} لأوليائه من أعدائه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
يظهر ذلك {يوم تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرضِ} ، أ اذكر {يوم تبدل الأرض غير الأرض} ، فتبدل أرض الدنيا يوم القيامة بأرض بيضاء عفراء ، كقُرْصَة النقِيّ ، كما في الصحيح. {و} تبدل {السماوات} بأن تنشق وتُطوى كطي السجل للكتب ، ويبقى
383
العرش بارزاً ، وهو سماوات الجنة.(3/533)
قال البيضاوي : والتبديل يكون في الذات ، كقوله : بدلت الدراهم بالدنانير ، وعليه قوله : {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء : 56] ، وفي الصفة ، كقولك : بدلت الحلقة خاتماً ، إذا أذبتها وغيرت شكلها. وعليه قوله {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان : 70]. والآية تحتملها ، فعن علي رضي الله عنه : تبدل أرضاً من فضة وسماوات من ذهب ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : هي تلك الأرض ، وإنما تغير صفاتها ، ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِِ فَتبْسَط ، وتُمَدّ مد الأديم العكَاظيّ ، " لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا " قال ابن عطية : وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عَفراءَ لم يُعْصَ اللهُ فيها ، ولا سُفِكَ فيها دم ، وليس فيها مَعْلم لأحد. ورُوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المُؤْمِنُ في وَقْتِ التبديلِ في ظل العرْشِ ". ورُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الناسُ ، وقتَ التبديل ، على الصِّرَاط " ورُوي أنه قال : " الناس حينئذٍ أضْيَافُ الله ؛ فلا يُعجزهم ما ". وفي سراج المريدين لابن العربي : أن الله خلق الأرض مختلفة محدودبة ؛ ويخلقها يوم القيامة مستوية ، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، متماثلة بيضاء كخبرة النقى ، كما في الصحيح ، وأما تبديل السماوات فليس في كيفيتها حديث ، وإنما هو مجهول. وفي حديث مسلم : " أين يكون الناس يوم تبدل الأرض ؟ قال : هم على الصراط " قال : يحتمل أنه الصراط المعروف ، ويحتمل أنه اسم لموضع غيره ، تستقر الأقدام عليه ، وكأنه الأظهر ؛ للحديث الآخر. وقد سألته عائشة ـ وضي الله عنها ـ أين يكون الناس يوم تبدل الأرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم " هُمْ في الظُّلْمَةِ دُونَ الجسْر ". والجسر : الصراط. هـ.(3/534)
أما تبديل الأرض : فظاهر الآيات أنها قبل البعث والحشر ، فلا يقع البعث والحشر ، إلا على الأرض المبدلة ؛ كقوله {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف : 47] ، وقوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} [طه : 105 ـ 106].. ثم قال {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} [طه : 108]. وقوله {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة : 1] ، ثم قال : {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} [الواقعة : 4 ـ 5] إلى غير ذلك من الآيات. والأرواح حينئذٍ أضياف الله ، أو في ظل
384
العرش ، أو دون الجسر ، حيث يعلم الله. وأما تبديل السماوات فظاهر الأخبار أنه وقت وقوف الناس في المحشر ، حيث تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة تنزيلاً. والله تعالى أعلم.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
وبرزوا للهِ الواحدِ القهار} ، أي : وبرزوا من أجداثهم ؛ لمحاسبة الواحد القهار ، أو لمجازاته. وتوصيفه بالوصفين ؛ للدلالة على أنه في غاية الصعوبة ، كقوله {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر : 16] ، وأن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ، ولا مستجار ، {وترى المجرمين يومئذٍ مُقَرَّنين} : قرن بعضهم إلى بعض {في الأصفاد} : في القيود ، أو الأغلال ، كل واحد قُرن مع صاحبه ، على حسب مشاركتهم في العقائد والأعمال ، كقوله {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير : 7] : أو قُرنوا مع الشياطين ، أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائفة والأهوية الفاسدة ، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. فقوله : {في الأصفاد} : متعلق بمقرنين ، أو حال من ضميره. والصفد : القيد أو الغل.(3/535)
{سرابيلُهُم} : قُمصانُهم ، والسربال : القميص ، {من قَطرانٍ} ، وهو الذي يهنأ به الإبل ، أي : تدهن به. وللنار فيه اشتعال شديد ، فلذلك جُعِل قَميصَ أهل النار. قال البيضاوي : وهو أسود منتن ، تشتعل فيه النار بسرعة ، يُطلى به جلود أهل النار ، حتى يكون طلاؤه لهم كالقميص ، ليجتمع عليهم لذغ القطران ووحشة لونه ونتن ريحه ، مع إسراع النار في جلودهم. على أنَّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. هـ.
{وتغشى وجوهَهُم النار} ، أي : تكسوها وتأكلها ؛ لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ، ولم يخضعوا بها إلى الخالق ، كما تطلع على أفئدتهم ؛ لأنها فارغة من المعرفة والنور ، مملوءة بالجهالات والظلمة. ونظيره قوله : {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُواءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر : 24] ، وقوله تعالى : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىا وُجُوهِهِمْ} [القمر : 48].
فعل ذلك بهم ؛ {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} من الإجرام ، أو ما كسبت مطلقاً ؛ لأنه إذا بيَّن أن المجرمين معاقبون لأجرامهم ؛ علم أن المطيعين يُثابون لطاعتهم. ويتعين ذلك إذا علق اللام ببرزوا. {إن الله سريع الحساب} ، فيحاسب الناس في ساعة واحدة ؛ لأنه لا يشغله حسابٌ عن حساب ، فكل شخص يظهر له أنه واقف بين يديه ، يُحاسب في وقتِ حسابِ الآخر ؛ لأن ذلك وقت خرق العوائد.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
هذا} القرآن ، أو ما فيه من الوعظ والتذكير ، أو ما وصفه من قوله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً...} [إبراهيم : 42] إلخ ، {بلاغ للناس} ؛ أي : كفاية لهم عن غيره في الوعظ وبيان الأحكام ، يقال : أعطيته من المال ما فيه بلاغ له ، أي : كفاية ، أو بلاغ ؛ أي : تبليغ لهم ، كقوله : {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشورى : 48] {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [النور : 54].
385(3/536)
وقوله : {وليُنذروا به} : عطف على محذوف ، أي : ليُنصحوا به ، ولينذروا به ، أو متعلق بمحذوف ، أي : ولينذروا به أنزلناه ، {وليعلموا أنما هو إله واحد} بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى ، أو المنبهة على ما يدل عليه. {وليذَّكَّر} أي : ليتعظ به {أولو الألباب} أي : القلوب الصافية بالتدبر في أسرار معانيه وعجائب علومه وحكمه ، فيرتدعوا عما يُرديهم ، ويتذرعوا بما يحظيهم. واعلم أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتاب : تكميل الرسل للناس ، واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد ، وإصلاح القوة العملية التي هي التدرع بكمال التقوى. جعلنا الله من الفائزين بغايتها. قال معناه البيضاوي. الإشارة : قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء ، قديماً وحديثاً ، واحتالوا على إطفاء نورهم ، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم ؛ {إن الله عزيز ذو انتقام} فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسول والأشكال ، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات ؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار ، وبمحيطات أفلاك الأسرار ، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور : 35]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر ، تبدل من هذه الأوصاف ، وظلمة الخلقية ، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها ، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته ، بوصف الجبارية والقهارية بقوله {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر : 69] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم ؛ من استيلاء قهر أنوار القدم ، قال : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص : 88]. وقيل : فأين الأشياء إذ ذاك ؟ قال : عادت إلى مصادرها. وقال : متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء ؟ ! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. هـ.(3/537)
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
وترى المجرمين ، وهم الغافلون ، مقرنين في قيود الأوهام ، والشكوك ، مسجونين في محيطات الأكوان ، سرابيلهم ظلمة الغفلة ، تغشى وجوههم نارُ القطيعة ، لا تظهر عليها بهجة المحبين ، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس ، وليُنذوا به وبال الغفلة والحجاب ، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
386
جزء : 3 رقم الصفحة : 382(3/538)
سورة الحجر
جزء : 3 رقم الصفحة : 386
قلت : رُب : حرف جر ، تدل على التقليل غالباً. وفيها ثماني لغات : التخفيف ، والتثقيل مع ضم الراء وفتحها بالتاء ، وتدخل عليها (ما) فتكفها عن العمل ، ويجوز دخولها حينئذٍ على الفعل ، ويكون ماضياً ، أو منزلاً منزلته في تحقيق وقوعه ، وقد تدخل على الجملة الاسمية ؛ كقول الشاعر :
رُبَّمَا الجَامِلُ المُؤَبَّلُ فِيهمْ
وَعَناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ
وجملة : (إلا ولها) : صفة لقرية ، والأصل ألا يدخلها الواو ، كقوله {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء : 208] ، لكن لما شابهت صورة الحال دخلت عليها ؛ تأكيداً لوصفها بالموصوف.
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المعظم ، {تلك} الآيات التي تتلوها هي {آياتُ الكتاب} الذي أنزلناه إليك ، {و} آيات {قرآنٍ} عربي {مبينٍ} ؛ واضح البيان ، مبيناً للرشد والصواب ، فمن تمسك به وآمن بما فيه كان من المسلمين الناجين ، ومن كان تنكب عنه وكفر به كان من الكافرين الهالكين ، وسيندم حين لا ينفع الندم ، كما قال
387
تعالى : {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} : متمسكين بما فيه حتى يكونوا من الناجين. وهذا التمني قيل : يكون عند الموت ، وقيل : في القيامة ، وقيل : إذا خرج العصاة من النار ، وهذا أرجح ؛ لحديثٍ في ذلك. ومعنى التقليل فيه : أنه تدهشهم أهوال يوم القيامة ، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا أن لو كانوا مسلمين.(3/539)
قال تعالى : {ذرهم} : دعهم اليوم {يأكلوا ويتمتعوا} بدنياهم {ويُلهِهمُ الأملُ} : ويشغلهم توثقهم بطول الأعمار ، واستقامة الأحوال ، عن الاستعداد للمعاد ، {فسوف يعلمون} سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاؤهم. والأمل للتهديد ، والغرض : حصول الإياس من إيمانهم ، والإيذان بأنهم من أهل الخذلان ، وأنَّ نصحهم بعد هذا تعب بلا فائدة. وفيه إلزام الحجة لهم. وفيه التحذير عن إيثار التنعم ، وما يؤدي إليه طول الأمل من الهلاك عاجلاً وآجلاً ، ولذلك قال تعالى بُعد : {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتابٌ معلوم} أي : أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ ، {ما تسبق من أمة أجلها} ؛ أي : أجَل هلاكها ، {وما يستأخرون} عنه ساعة ، وتذكير الضمير في {يستأخرون} ؛ للحمل على المعنى ، لأن الأمة واقعة على الناس. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 387
الإشارة : انظر هذا التهديد العظيم ، والخطر الجسيم لمن تمتع بدنياه ، وعكف على حظوظه وهواه : {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}. ولله در القائل :
تَفَكَّرتُ فِي الدُّنيا وفي شَهَواتِها
ولَذاتِها حَتَّى أَطَلْتُ التَّفَكُّرَا
وَكيْفَ يَلَذُّ العَيشُ مَنْ هُو سَالِكٌ
سَبِيلَ المَنَايا رائِحا أوْ مُبكِّرا
فَلاَ خَيْرَ في الدُّنْيَا ولاَ في نَعِيِمهَا
لحُرِّ مقلِّ كانَ أوْ مُكْثِرا
جزء : 3 رقم الصفحة : 387
(3/540)
يقول الحق جل جلاله : {وقالوا} ؛ أي : كفار قريش : {يا أيها الذين نُزِّل عليه الذكْرُ} في زعمه ، أو قالوه تَهكماً ، {إنك لمجنون} أي : إنك لتقول قول المجانين ، حين تدعي أنه ينزل عليك الذكر ، أي : القرآن. {لَوْ مَا} : هلا {تأتينا بالملائكة} ليصدقوك فيما تدعي ، أو يعضدوك على الدعوى ، أو للعقاب على تكذيبنا {إن كنت من الصادقين} في دعواك ، قال تعالى : {ما نُنزّلُ الملائكة} ؛ لعذابهم أو لغيره {إلا بالحق} من الوحي ، والمصالح التي يريدها الله ، لا باقتراح مقترح ، أو اختبار كافر ، أو : إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق ، أي : بالوجه الذي قدره في الأزل ، واقتضته الحكمة الإلهية ، وهو أنه لا تنزل إلا
388
باستئصال العذاب ، وقد سبق في العلم القديم أن من ذريتهم من سبقت كلمتنا له بالإيمان ، أو يراد بالحق : العذاب ، ويؤيده قوله : {وما كانوا إذاً منظَرين} ؛ أي : ولو نزلت الملائكة لعوجلوا ، وما كانوا ، إذا نزلت ، مُؤخرين عن العذاب ساعة.
ثم رد إنكارهم نزولَ الذكر واستهزاءَهُمْ فقال : {إنا نحن نزلنا الذَّكَر} ؛ أي : القرآن ، وأكده بأن وضمير الفصل ، وحفظه بعد نزوله ، كما قال : {وإنا له لحافظون} من التحريف ، والزيادة ، والنقص ، بأن جعلناه معجزاً ، مبايناً لكلام البشر ، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان. قال القشيري : نزل التوراة ، وَوَكَلَ حفظها إلى بني إسرائيل ، بما استحفظوا من كتاب الله ، فحرَّفوا وبَدَّلوا ، وأنزل القرآن ، وأخبر أنه حافظه ، فلا جرم أنه كتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ويقال : إنه أخبر أنه حافظ القرآن ، وإنما يحفظه بقرائه ، فقلوبُ القُرَّاءِ هي خزائنُ كتابه ؛ وهو لا يضيع حفظة كتابه ، فإن في ذلك تضييع كتابه. هـ.
(3/541)
وقال ابن عطية على قوله {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة : 75] ذهبت جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم ، وأن ذلك ممكن في التوراة ؛ لأنهم استحفظوها ، وغير ممكن في القرآن ؛ لأن الله تعالى ضمن حفظه. هـ.
الإشارة : كل ما جاء في القرآن من الإنكار على الرسل على أيدي الكفرة وتنقصيهم ، والاستهزاء بهم ، ففيه تسلية لمن بعدهم من الأولياء. وكذلك ما ذكره الحق تعالى من مقالات أهل الجهل في جانبه ؛ كقوله : {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوااْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [ آل عمران : 181] ، وقوله : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة : 64] ، إلى غير ذلك من مقالات أهل الجهل ، فكأن الحق تعالى يقول : لو سَلِم أحد من الناس ، لسلمتُ أنا وأنبيائي ، الذين هم خاصة خلقي ، فليكن بي وبرسلي أسوة لمن أُوذي من أوليائي. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 388
يقول الحق جل جلاله : في تسلية رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ {ولقد أرسلنا مِن قبْلِكَ} رسلاً {في شِيَعٍ} : فرق {الأولين} أي : القرون الماضية ، جمع شيعة ، وهي : الفرقة المتفقة على طريق واحد ، وتتشيع لمذهب أو رجل ، من شاعه إذا تبعه ، أي : نبأنا رجالاً فيهم ، وجعلناهم رسلاً إليهم ، فكذبوهم واستهزؤوا بهم ، فكانوا : {ما يأتيهم
389
من رسول إلا كانوا به يستهزئون} كما يفعل بك هؤلاء المجرمون.
(3/542)
{كذلك نَسْلُكُه} أي : ندخل الاستهزاء {في قلوب المجرمين}. والسلك : إدخال الشيء كالخيط في المخيط ، وفيه دليل على أنه تعالى يخلق الباطل دليل على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوبهم. وإذا سلك في قلوبهم التكذيب {لا يؤمنون به} أبداً. أو : نسلكه ، أي : القرآن ؛ مستهزءاً به ، أي : مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين ؛ مُكَذَّباً غير مؤمن به ، ثم هددهم على عدم الإيمان به ، فقال : {وقد خلت سُنَّةُ الأولين} أي : تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء ، حتى هلكوا بسبب ذلك ، أو مضت سنته في الأولين بإهلاك من كذب الرسل منهم ، فيكون وعيداً لأهل مكة.
{ولو فتحنا عليهم} أي : على هؤلاء المقترحين المعاندين من كفار قريش ، {باباً من السماء فظلوا فيه يعرجُون} : يصعدون إليها ، ويرون عجائبها طول نهارهم ، لكذبوا ، أو فظلت الملائكة يعرجون فيها وهم يشاهدونهم لقالوا ؛ من شدة عنادهم وتشكيكهم في الحق : {إنما سُكِّرتْ} : حيرت {أبصارُنا} ، فرأينا الأمر على غير حقيقته ؛ من أجل السكر الذي أصابنا بالسحر.
ويحتمل أن يكون مشتقاً من السَكر بفتح السين ، وهو السد ، أي : سُدَّت أبصارنا ، ومُنعنا من الرؤية الحقيقية. {بل نحن قوم مسحورون} ؛ سحرنا محمد ، كما قالوا عند ظهور غيره من الآيات. قال البيضاوي : وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على جزمهم بأن ما يرونه لا حقيقة له ، بل هو باطل خُيّل ما خيل لهم بنوع من السحر. هـ. وذلك من فرط عنادهم ، وشقاوتهم. والعياذ بالله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
(3/543)
الإشارة : هذا كله من قبيل التسلية لأهل الخصوصية ، إذا قوبلوا بالإنكار والاستهزاء ، فيرجعون إلى الله ، والاكتفاء بعلمه ، والاشتغال بالله عنه. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : عداوة العدو حقاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك ، وفاتتك محبة الحبيب. وقال الولي الصالح سيدي أبو القاسم الخصاصي رضي الله عنه لبعض تلامذته : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل بالله يرده عنك ، فإنه هو الذي حركه عليك ، ليختبر دعواك في الصدق. وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير اشتغلوا بإيذاء من آذاهم ، فدام الأذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم ، وكفاهم أمرهم. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
يقول الحق جل جلاله : {ولقد جعلنا في السماء بروجاً} ؛ اثني عشر برجاً ، وهي : الحَمَل ، والثور ، والجَوْزاء ، والسرطان ، والأسد والسُّنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجَدْي ، والدلو ، والحوت ، والبرج عبارة عن قطعة في الفلك تقطعها الشمس في شهر ؛ فتقطع البروج كلها في سنة ، ستة يمانية ، وستة شمالية ، وهي مختلفة الهيئات والخواص ، على ما دل عليه الرصد والتجربة. وكل ذلك بقدرة المدبر الحكيم. قال تعالى : {وزيَّناها} بالأشكال والهيئات البهية {للناظرين} المعتبرين ؛ ليستدلوا بها على قدرة مبدعها ، وتوحيد صانعها. {وحفظها من كل شيطانٍ رجيمٍ} : مرجوم ، فلا يقدر أن يصعد إليها ليسترق السمع منها ، أو يوسوس أهلها ، أو يتصرف في أمرها ، أو يطلع على أحوالها.
(3/544)
{إلا من استَرَق السمعَ} أي : حفظناها من الشياطين ، إلا من استرق منها. والاستراق : الاختلاس ، رُوي أنهم يركبون بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء ، فيسمعون أخبار السماء من الغيب ، فيخطف الجن الكلمة قبل الرمي فيلقيها إلى الكهنة ، ويخلط معها مائة كذبة ، كما في الصحيح. رُوي عن ابن عباس : أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات ، فلما ولد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سماوات ، فلما وُلد محمد صلى الله عليه وسلم مُنعوا من كلها بالشهب. وقيل : الاستثناء منقطع ، أي : ولكن من استرق السمع ، {فأتبعه} لحقه {شهابٌ مبين} ؛ ظاهر للمبصرين. والشهاب : شُعلة نار يقتبسها الملك من النجم ، ثم يضرب به المسترق ، وقيل : النجوم هي التي تضرب بنفسها ، فإذا أصابت الشيطان فتلته أو خبلته فيصير غولاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 390
ثم ذكر معجزة الأرض فقال : {والأرضَ مددناها} : بسلطناها ، {وألقينا فيها رواسيَ} ؛ جبالاً ثوابت ، {وأنبتنا فيها} ؛ في الأرض ، أو فيها أو في الجبال {من كل شيء موزونٍ} ؛ مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته. فالوزن مجاز ، أو ما يكون يوزن حقيقة كالعشب النافعة ، أو كالذهب والفضة وسائر الأطعمة. {وجعلنا لكم فيها معايش} تعيشون بها من المطاعم والملابس ، {و} خلقنا لكم {من لستم له برازقين} من الولدان والخدمة والمماليك ، وسائر ما تظنون أنكم ترزقونهم كاذباً ؛ فإن الله يرزقكم وإياهم.
قال البيضاوي : وفذلكة الآية : الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار معين ،
391
(3/545)
مختلفة الأحزاء في الوضع ، محدثة فيها أنواع النباتات والحيوانات المختلفة خلقة وطبيعة ، مع جواز ألا تكون كذلك ؛ على كمال قدرته ، وتناهي حكمته ، والتفرد في ألوهيته ، والامتنان على العباد بما أنعم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه. ثم بالغ في ذلك فقال : {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} أي : وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه ، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يجوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. هـ. قال ابن جزي : {وإن من شيء إلا عندنا خزائنُه} ؛ قيل : المطر ، واللفظ أعم من ذلك ، والخزائن : المواضع الخازنة ، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت. هـ. {وما نُنَزَّله} أي : نبرزه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، {إلا بقَدَر معلوم} : بمقدار محدود في وقت معلوم اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة ، لا يزيد ولا ينقص على ما سبق به العلم.
{وأرسلنا الرياحَ لواقحَ} : حوامل للماء في أوعية السحاب ، يقال : لقحت الناقة والشجرة إذا حملت ، فهي لاقحة ، وألْقَحَت الريحُ الشجرَ فهي ملقحة. ولواقح : جمع لاقحة ، أي : حاملة ، أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة ، فهي على هذا ملقحة للسحاب أو الشجر ، ونظيره : الطوائح ، بمعنى المطيحات في قوله :
ومُخْتَبِط مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
(3/546)
والرياح أربعة : صَبَا ، ودَبُور ، وجَنوب ، وشمال. والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة ، وتسمى الشمال الحائل والعقيم. وفي البخاري : " نُصِرْتُ بالصِّبَا ، وأُهْلكَتْ عَادٌ بالدُّبُور ". وروي أبو هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الرِّيحُ الجنوب من الجنة ، وهي اللواقح التي ذكر الله ، وفيها منافع للناس " وفي الحديث : " الرِّيحُ من نفس الرحمن " والإضافة هنا إضافة خلق إلى خالق ، كما قال : {مِن رُّوحِي} [الحجر : 29]. ومعنى نفس الرحمن ، أي : من تنفيسه وإزالة الكرب والشدائد ، فمن التنفيس بالريح : النصر بالصبا ، وذر الأرزاق بها ، وجلب الأمطار ، وغير ذلك مما يكثر عده. قاله ابن عطية.
392
والمختار في تفسير اللواقح : أنها حاملة للماء ، قوله : {فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه} أي : جعلنا لم سقيا. يقال : سقى وأسقى بمعنى واحد عند الجمهور. {وما أنتم له بخازنين} : بممسكين له في الجبال ، والغدران ، والعيون ، والآبار ، فتخرجونه متى شئتم ، بل ذلك من شأن المدبر الحكيم ، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور ، فوقوفه دون حد لا بد له من مسبب مخصص ، وجريه بلا انتهاء لا يكون إلا بقدرة السميع العليم ، الذي لا تتناهى قدرته. أو : {وما أنتم له بخازنين} ؛ بقادرين متمكنين من إخراجه وقت الاحتياج إليه. نفى عنهم ما أثبته لنفسه بقوله : {عندنا خزائنُه}.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 390
وإنا لنحن نُحيي ونُميت} أي : نحيي من نريد إحياءه بإيجاد الحياة فيه ، ونميت من نريد إماتته بإزالة الحياة منه. وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات. وتكرير الضمير ؛ للدلالة على الحصر. {ونحن الوارثون} : الباقون إذا مات الخلائق كلهم.
(3/547)
{ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} أي : علمنا من تقدم ؛ ولادةً ، ومن تأخر ، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعدُ ، أو من تقدم إلى الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ، ومن تأخر ، لا يخفى علينا شيء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ، فإنَّ ما يدل على كمال قدرته دليل على كمال علمه. وقيل : رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول ، فازدحموا عليه ، فنزلت ، وقيل : إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه ، فتقدم بعض القوم ؛ لئلا ينظر إليها ، وتأخر بعض ؛ ليبصرها ، فنزلت. قاله البيضاوي :
{وإن ربك هو يحشرهم} لا محالة للجزاء ، كأن هذا هو الغرض من ذكر العلم بالمتقدمين والمتأخرين ؛ لأنه إذا أحاط بهم علماً لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم. {إنه حكيمٌ} باهر الحكمة ، {عليم} ؛ واسع العلم والإحاطة بكل معلوم. قال البيضاوي : وفي توسيط الضمير ـ يعني في قوله : {هو يحشرهم} ؛ للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره ، وتصدير الجملة بأن ؛ لتحقيق الوعيد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم. هـ.
الإشارة : ولقد جعلنا في سماء قلوب العارفين بروجاً ، وهي المقامات التي ينزلون فيها بشموس عرفانهم ، وهي : التوبة ، والخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة. وزيناها للناظرين ؛ أي : السائرين حتى يقطعوها جملة محمولين بعناية الجذب ، حتى يَحلو لهم ما كان مُراً على غيرهم ، وحفظنا سماء قلوبهم من طوارق الشيطان ، إلا ما كان طيفاً خيالياً لا يثبت ، بل يتبعه شهاب الذكر فيحرقه ، وأرضَ النفوس مددناها لقيام رسم العبودية ، وظهور عالم الحكمة وآثار القدرة ، وألقينا فيها جبال العقول الرواسي ، لتعرف الرب من المربوب الذي
393
(3/548)
اقتضته الحكمة. وأنبتنا فيها من العلوم الرسيمة والعقلية ، ما قدر لها في العلم المكنون ، وجعلنا لكم فيها من علم اليقين ، وحق اليقين ما تتقوت به قلوبكم ، وتعيش به أرواحكم وأسراركم ، وتعولون به من لستم له برازقين من المريدين السائرين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 390
سُئل سهل رضي الله عنه عن القوت ، فقال : هو الحي الذي لا يموت ، فقيل : إنما سألناك عن القوام. فقال : القوام هو العلم ، فقيل : سألناك عن الغذاء ، فقال : الغذاء هو الذكر ، فقيل : سألناك عن طعام الجسد ، فقال : ما لَكَ وللجسد ، دع من تولاَّه أولاً يتولاه آخراً ، إذا دخلت عليه علة رده إلى صانعه ، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها. وأنشدوا :
يَا خادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ
وتَطلُب الربْحَ مما فيه خُسْرَانُ
عليك بالنفسِ فاستكمل فَضِِيلَتَهَا
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
واستكمال فضيلة النفس هو تزكيتها وتحليتها حتى تشرق عليها أنوار العرفان ، وتخرج من سجن الأكوان. وبالله التوفيق. ثم قال تعالى : {وإن من شيء} من الأرزاق المعنوية والحسية ، أو العلوم اللدنية ، والفتوحات القدسية {إلا عندنا خزائنه} ؛ فمن توجه بكليته إلينا فتحنا له خزائن غيبنا ، وأطلعناه على مكنون سرنا شيئاً فشيئاً ، {وما نُنزله إلا بقدر معلوم}. وقال الورتجبي : عِلْم الإشارة في الآية : دعوة العباد إلى حقائق التوكل ، وهي : قطع الأسباب ، والإعراض عن الأغيار ، قيل : كان الجنيد رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية : {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} ، قال : فأين تذهبون ؟ . وقال حمدون : قطع أطماع عبيدهِ سواه بقوله : {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} ، فمن رفع بعد هذا حاجته إلى غيره ، فهو لجهله ولؤمه. هـ.
(3/549)
وأرسلنا رياح الهداية لواقح ، تلقح الطمأنينة والمعرفة في قلوب المتوجهين ، وتلقح اليقين والتوفيق في قلوب الصالحين ، وتلقح الإيمان والهداية في قلوب المؤمنين ، فأنزلنا من ساء الغيب ماء العلم اللدني ، فأسقيناكموه على أيدي وسائط الشيوخ ، أو بلا واسطة ، وما أنتم له بخازنين ، بل يفيض على قلوبكم عند غلبة الحال ، أو لهداية مريد ، أو عند الاحتياج إليه عند استفتاح القلوب ، وإنا لنحن نُحيي قلوباً بالمعرفة واليقين ونميت قلوباً بالجهل والكفر ، ونحن الوارثون ؛ لبقاء انوارنا على الأبد. ولقد علمنا المستقدمين منكم إلى حضرة قدسنا بالاستعداد ، وإعطاء الكلية من نفسه ، ولقد علمنا المستأخرين عنها بسبب ضعف همته ، وإن ربك هو يحشرهم ؛ فيُقرب قوماً لسبقهم ، ويبعد آخرين لتأخرين. إنه حكيم عليم.
394
جزء : 3 رقم الصفحة : 390
قلت : قال في الصحاح : الحَمأُ الْمسنُون : المنتنُ المتغير. وسُنَّةُ الوجه : صورته ، ثم قال : والمسْنُونُ : المصَوَّرُ ، وقد سَنَنتُهُ أَسُنُّه سَنَّا إذا صَوَّرتُه ، والمسْنُونُ : المُملَّسُ. وفي القاموس : الحَمأُ المسْنُونُ : المنْتنُ ، ورجُل مَسْنُونُ الوجه : مُمَلسُهُ ، حَسنُهُ ، سَهْلُهُ. أو في وَجْهِهِ وأنْفِهِ طُولٌ. وسنن الطين : عمله فخاراً. هـ. وفي ابن عطية : هو من سننت السكين والحجر : إذا أحكمت تلميسه. انطر بقية كلامه. وموضع {من حمأ} : نعت لصلصال ، أي : كائن من حمأ. و (الجان) : منصوب بمحذوف يفسره ما بعده.
(3/550)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد خلقنا الإنسان} ؛ أي : أصله ، وهو آدم ، {من صَلصَالٍ} أي : طين يابس يصلصل. أي : يصوت إذا نقر فيه وهو غير مطبوخ ، فإذا طُبخ فهو فخار ، {من حمأٍ} : من طين أسود {مسنونٍ} : متغير منتن ، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به ؛ فإنَّ ما يسيل بينهما يكون منتناً ، ويسمى سنيناً. أو مسنون : مصور ، أو مصبوب ليتصور ، كالجواهر المذابة تصب في القوالب ، من السن ، وهو الصب ، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غير ذلك طوراً بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه.
{والجانَّ} وهو : إبليس الأول ، ومنه تناسلت الجن {خلقناه من قبلُ} أي : من قبل خلق الأنسان ، {من نار السَّمُوم} : من نار الحر الشديد النافذ في المسام ، ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة ، كما لم يمتنع خلقها في الجواهر المجردة ؛ فضلاً عن الأجساد المؤلفة ، التي الغالب فيها الجزء الناري ، فإنها أقبل منها لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي. وقوله : {من نار} : لاعتبار الغالب ، كقوله : {خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} [فاطر : 11]. ومساق الآية كما هو للدلالة على قدرة الله تعالى ، وبيان بدء خلق الثقلين ، فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر ، وهو قبول المواد للجمع والإحياء. قاله البيضاوي.
(3/551)
الإشارة : اعلم أن الخمرة الأزلية ، حين تجلت في مرائي جمالها ، تلونت في تجليها ، فتجلت نورانية ونارية ، ومائية وترابية ، وسماوية ، وهوائية ، إلى غير ذلك من ألوان تجلياتها ، فكانت الملائكة من النور ، والجن من النار ، والآدمي من التراب ، إلا أن الادمي فيه روح نورانية سماوية ، فاجتمع فيه الضدان : النور الظلمة ؛ فشرف قدره في الجملة ، فاستحق الخلافة ، فإذا غلبت روحانيته على جسمانيته فضل على جميع التجليات ، وما مثاله إلا كالمرآةِ التي خلفها الطلاءُ ، فينطبع فيه الوجود بأسره ، إذا صقلت مرآة قلبه ، فتكون معرفته بالحق أجلى وأنصع من معرفة غيره ؛ لأن المرآة التي خلفها
395
الطلاء يتجلى فيها ما يقابلها أكثر من غيرها. وأيضاً بشرية الآدمي كالياقوتة السوداء إذا صقلت كانت أعظم اليواقيت. وسيأتي بقية الكلام عند قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء : 70] إن شاء الله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 395
قلت : (وإذْ قال) : ظرف لاذكر ، وقوله : {فَقَعُوا} : امرٌ ، من وقَع ، يقع ، قَعْ ، فهو مما حُذفت فاؤه. وقوله : (فسجد) معطوف على محذوف ، أي : فخلقه ، وأمر الملائكة فسجدوا.
يقول الحق جل جلاله : {و} اذكر يا محمد {إذْ قال ربك للملائكة} ، قبل خلق آدم : {إني خالق بشراً من صَلْصَالٍ من حمأٍ مسنونٍ} ، وصفه لهم بذلك ليظهر صدق من يمتثل أمره ، قال تعالى : {فإذا سويتُه} : عدلت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها ، {ونفختُ في من روحي} ؛ حين جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي ، وأصل النفخ : إجراء الروح في تجويف جسد آخر. ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب ، وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسري في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن ، جعل تعلقه بالبدن نفخاً. قاله البيضاوي. وأضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك ، اي : من الروح الذي هو لي ، وخلق من خلقي.
(3/552)
فإذا نفخت فيه {فَقَعوا} : فأسقطوا {له ساجدين فسجد الملائكةُ} حين أكمل خلقته ، وأمرهم بالسجود ، وقيل : اكتفى بالأمر الأول ، {كلُّهم أجمعون} ، أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص ، {إلا إبليس أبى} : امتنع {أن يكون مع الساجدين} ، قال البيضاوي : إن جُعِل الاستثناء منقطعاً اتصل به قوله : {أبَى} ؛ أي : لكن إبليس أبَى أن يسجد ، وإن جُعِل متصلاً كان قوله : {أبَى} : استئنافاً ، على أنه جواب
396
سائل قال : هلا سجد ؟ فقال : أبى.. الخ. قلت : والأحسن : أن يقدر السؤال بعد قوله : {إلا إبليس أبى} أي : وما شأنه ؟ فقال : أبى أن يكون مع الساجدين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 396
قال تعالى : {يا إبليس ما لكَ} ؛ أي شيء عرض لك ، {ألا تكونَ مع الساجدين} لآدم ؟ {قال لم أكن لأسجُدَ} أي : لا يصح مني ، بل ينافي حالي أن أسجد {لبشرٍ} جسماني كثيف ، وأنا روحاني لطيف ، وقد {خلقتَه من صلصالٍ من حمإ مسنونٍ} ، وهو أخس العناصر ، وخلقتني من نار وهي أشرفها. استنقص آدم من جهة الأصل ، وغفل عن الكمالات التي خصه الله بها ، منها : أنه خلقه بيديه بلا واسطة ، أي : بيد القدرة والحكمة ، بخلاف غيره ، ومنها : أنه خصه بالعلوم التي لم توجد عند غيره من الملائكة ، ومنها : أنه نفخ فيه من روحه المضافة إلى نفسه ، ومنها : أنه جعله خليفة في أرضه... إلى غيره ذلك من الخواص التي تشرف بها فاستحق السجود.
(3/553)
قال له تعالى لَمَّا امتنع واستكبر : {فاخرجْ منها} أي : من السماء ، أو من الجنة ، أو من زمرة الملائكة ، {فإنك رجيمٌ} : مطرود من الخير والكرامة ؛ فإنَّ من يُطرد يُرجم بالحجر ، أو شيطان يُرجم بالشهب ، فهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته ، أي : ليس الشرف بالأصل ، إنما الشرف بالطاعة والقرب. {وإن عليك اللعنةَ} : الطرد والإبعاد {إلى يوم الدين} ؛ يوم الجزاء ، ثم يتصل باللعن الدائم. وقيل : إنما حد اللعن لأنه أبعد غاية يضربها الناس ، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن ، فيصير كأنه زال عنه ذلك اللعن.
{قال ربِّ فأنْظِرني} : أخرني {إلى يوم يُبعثون} ، أراد أن يجد فسحة في الإغواء ، ونجاة من الموت ، إذ لا موت بعد وقت البعث ، فأجابه إلى الأول دون الثاني ، {قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} : المعين فيه أجلك عند الله ، وانقراض الناس كلهم ، وهو النفخة الأولى عند الجمهور.
وهذه المخاطبة ، وإن لم تكن بواسطة ، لا تدل على منصب إبليس ؛ لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال. قاله البيضاوي. وجزم ابن العربي ، في سراج المريدين ، بأن كلام الحق تعالى إنما كان بواسطة ، قال : لأن الله لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس ، فكيف يكلم من تولى إضلالهم. هـ. وتردد المازُريُّ في ذلك وقال : لا قاطع في ذلك ، وإنما فيه ظواهر ، والظاهر لا تفيد اليقين. ثم قال : وأما قوله : {ما منعك أن تسجد} : فيحتمل أن يكون بواسطة أو بغيرها ، تقول العرب : كلمت فلاناً مشافهة ، بالكلام ، وتارة بالبعث. هـ. قلت : الظاهر أنه كلمه بلا واسطة من وراء حجاب ، كلامَ عتابٍ وإهانة ، كما يوبخ الكفار يوم القيامة ، مع أن الواسطة محذوفة عند المحققين ، وإن وُجِدَتْ صُورَةً.
ثم قال : {ربِّ بما أغويتني} أي : بسبب إغوائك لي ، {لأُزَيِّنَنَّ لهم في الأرض} ،
397
(3/554)
وقيل : الباء للقسم ، أي : بقدرتك على إغوائي ، لأزينن لهم المعاصي والكفر في الدنيا ، التي هي دار الغرور. قال ابن عطية : قوله : {رَبِّ} : مع كفره ، يُخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق ، وهذا لا يدفع في صدر كفره. وقال ، على قوله : {لم أكن لأسجد} : ليس هذا موضع كفره عند الحذاق ؛ لأن إبايته إنما هي معصية فقط ، أي : وإنما كفره لاعتراضه لأمر الحق واستكباره. وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن آدم مفضول ، وقد أمره أن يسجد لمن هو أفضل منه ، فرأى أن ذلك جور ، فقاس وأخطأ ، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله تعالى المالك للجميع. هـ. مختصراً. وقال المازري : أما كفر إبليس فمقطوع به ؛ لقوله : {وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 34] ثم قال : ويؤكده قوله : {ربِّ بما أغويتني} ، وقوله : {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ...} الآية [ص : 85] ، وغير ذلك من ظواهر ما يدل على كفره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 396
(3/555)
وأما : هَلْ حدث هذا الكفر بعد إيمان سابق ، أو لم يزل كافراً منذ كان ؟ فهذا لا يحصله إلا نص قرآن ، أو خبر متواتر ، أو إجماع أمة ، وهي المحصلة للعلم ، وهذه الثلاثة مفقودة هنا. هـ. قلت : والظاهر أن كفره لم يظهر إلا بعد الأمر بالسجود لآدم ، وإنما سبق به العلم القديم ، وكان قد أظهر الإيمان والعبادة والله تعالى أعلم. وقوله : {ولأغوينّهم أجمعين} ؛ أي : لأحملنهم على الغواية أجمعين ، {إلا عبادكَ منهم المخلَصين} ؛ الذين أخلصتهم لطاعتك ، وطهرتهم من الشهوات ، فلا يعمل فيهم كيدي. ومن قرأ بالكسر فمعناه : الذين أخلصوا دينهم لله ، وتحصنوا بالإخلاص في سائر أعمالهم. {قال} تعالى : {هذا صراطٌ عليَّ مستقيمٌ} ؛ الإشارة إلى نجاة المخلصين ، أو إلى العبادة والإخلاص ، أي : هذا الطريق الذي سلكه أهل الإخلاص في عبوديتهم هو طريق وارد عليَّ ، وموصل إلى جواري ، لا سبيل لك على أهله ؛ لأنه مستقيم لا عوج فيه. وقيل : الإشارة إلى انقسام الناس إلى غاوٍ ومخلص ، أي : هذا أمر إليَّ مصيره ، والنظر فيه لي ، عليَّ أن أراعيه وأبينه ، مستقيم لا انحراف فيه. وقرأ الضحاك ومجاهد والنخعي ، وغيرهم : " عَلِيٌّ ؛ بكسر اللام والتنوين ، من العلو والشرف ، والإشارة حينئذٍ إلى الإخلاص ، أي : هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهلَه يا إبليس.
الإشارة : إنما يصعب الخضوع للجنس أو لمن دونه ، في حق من يغلب حسه على معناه ، وفرقُه على جمعه وأما من غلب معناه على حسه ، حتى رأى الأشياء الحسية أواني حاملة للمعاني ، أي : لمعاني أسرار الربوبية ، بل رآها أنواراً بارزة من بحر الجبروت ، لم يصعب عليه الخضوع لشيء من الأشياء ؛ لأنه يراها قائمة بالله ، ولا وجود لها مع الله ، فلا يخضع حينئذٍ إلا لله ، فالملائكة - عليهم السلام - نفذت بصيرتهم ، فرأوا آدم عليه السلام عليه قبلة للحضرة القدسية ، فغلب عليهم شهود المعاني دون الوقوف مع الأواني ، فخضعوا
398
(3/556)
لآدم صورةً ، ولله حقيقة. وإبليس وقف مع الحس ، وحجب بالفرق عن الجمع ، فلم ير إلا حس آدم معناه ، فامتنع عن السجود ، وفي الحِكَم العطائية : " فمن رأى الكون ، ولم يشهد الحق فيه ، أو عنده ، أو قبله ، أو بعده ، أو معه ، فقد أعوزه وجود الأنوار ، وحجبت عنه شموس المعارف بحب الآثار ". ولهذا المعنى صعب الخضوع للأشباح ؛ لغلبة الفرق على الناس ، إلا من سبقت له العناية ، فإنه يخضع مع الفرق ؛ محبة لله ، حتى يفتح الله عليه في مقام الجمع ، فيخضع لله وحده. والتوفيق لهذا ، والسير على منهاجه ـ أعني الخضوع لمن يوصل إلى الله ـ هو الصراط الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله : {هذا صراط عَلَيَّ مستقيم}. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 396
قلت : (إلا من اتبعك) : يحتمل ان يكون منقطعاً ، ويريد بالعباد : الخصوص من أهل الإيمان والإخلاص ، أي إن عبادي المخلَصين لا تسلط لك عليهم ، لكن من اتبعك من الغاوين فهو من حزبك. ويحتمل الاتصال ، ويريد بالعباد جيمع الناس ، أي : إن عبادي كلهم ليس لك عليهم سلطان ، إلا من اتبعك من أهل الغواية. فإنك تتسلط عليه بالوسوسة والتزيين والتحريض فقط ، فيتبعك ؛ لقوله يوم القيامة {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم : 22]. وعلى الاتصال يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى ، وإلا تناقض مع قوله : {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}. قال أبو المعالي : كون المستثنى أكثر من المستثنى منه ليس معروفاً في كلام العرب. انظر ابن عطية والبيضاوي.
(3/557)
و {منهم} : حال من جزء مقدم ، أي : لكل باب جزء حاصلٌ منهم مقسوم ، أو من المستكن في الظرف لا من مقسوم ، لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها. و {إخواناً} : حال من الضمير المضاف إليه ؛ لأنه جزء ما أضيف إليه ، والعامل فيه : الاستقرار ، أو معنى الإضافة ، وكذا : {على سُرُر متقابلين} ، ويجوز أن يكون صفتين لإخوان ، أو حالين من ضميره.
يقول الحق جل جلاله : {إنَّ عبادي} المتحققين بالعبودية لي ، المخلصين في أعمالهم ، {ليس لك} يا إبليس {عليهم سلطانٌ} أي : غلبة وتسلط بالغواية والإضلال ،
399
{إلا من اتبعك من الغاوين} الذين سبقت لهم الغواية ، وتنكبتهم العناية. {وإنَّ جهنم لموعدهم} : لموضع إبعاد الغاوين أو المتبعين لك {أجمعين} ، {لها سبعة أبواب} يدخلون فيها لكثرتهم ، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة ، وفي كل طبقة باب يسلك منه إليها ، فأعلاها : جهنم ، وهي للمذنبين من الموحدين ، ثم لظى لليهود ، ثم الحُطمة للنصارى ، ثم السعير للصابئين ، ثم سقر للمجوس ، ثم الجحيم للمشركين ، وكبيرهم أبو جهل ، ثم الهاوية ، وهي الدرك الأسفل ، للمنافقين ، وعبَّر في الآية عن النار ؛ جملة ، بجهنم ؛ إذ هي أشهر منازلها وأولها ، وهو موضع العصاة الذين لا يخلدون ، ولهذا رُوي أن جهنم تخرب وتبلى ، يعني : حين يخرج العصاة منها. وقيل : أبواب الطبقات السبع كلها من جهنم ، ثم ينزل من كل باب إلى طبقته التي تفضى إليه. قاله ابن عطية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 399
(3/558)
قال البيضاوي : ولعل تخصيص العدد بالسبعة ، لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات ، ومتابعة القوة الشهوية والغضبية. هـ. فالقوة الشهوية محلها ست وهي : السمع والبصر والشم واللسان والبطن والفرج. والقوة الغضبية في البطش باليد والرجل ، فالمعاصي المهلكات جلها من هذه السبع ، ومَلِكها القلب ، إذا صلح صلحت ، وإذا فسد فسدت. كما تقدمت للطبقات ، قال تعالى : {لكل بابٍ منهم} أي : من الأتباع {جُزْءٌ مَقْسومٌ} أفراد له ، لا يدخل إلا منه ، ولا يسكن إلا في طبقته. وقد تقدم أهل كل طبقة ، من عصاة الموحدين إلى المنافقين.
ثم شفع بضدهم ، على عادته سبحانه وتعالى في كتابه ، فقال : {إنَّ المتقين} للكفر والفواحش ، أو لمتابعة إبليس ، {في جنات وعيون} ، لكل واحد جنة وعين ، أو لكل واحد جنات وعيون ، يقال لهم عند دخولهم : {ادخلُوها} ، وقرأ رويس عن يعقوب : " أدخلُوها " ؛ بضم الهمزة وكسر الخاء ، على البناء للمفعول ، فلا يكسر حينئذٍ التنوين ، أي : تقول الملائكة لهم : ادخلوها ، أو قد أدخلهم الله إياها. {بسلام} أي : سالمين من المكاره والآلام ، أو مسلماً عليكم بالتحية والإكرام ، {آمنين} من الآفة والزوال.
{وَنَزَعْنا ما في صُدُورهم من غلٍّ} أي : من حقد وعداوة كانت في الدنيا ، وعن علي رضي الله عنه : (أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم) ، أو من التحاسد على درجات ومراتبِ القُرْبِ.
قلت : أما التحاسد على مراتب القرب فلا يكون ؛ لاستغناء كل أحد بما لديه ، وأما التأسف والندم على فوات ذلك بالتفريط في الدنيا فيحصل ، ففي الحديث : " ليس يَتَحَسَّرُ أهْلُ الجَنَّةِ على شيء إلاَّ على سَاعَةٍ مَرَّتْ لهم لَمْ يَذْكُرُوا الله فيهَا " ولا يحصل التحسر
400
(3/559)
حتى يرى ما فاته باعتبار وقوفه. قال ابن عطية : ذكر هنا نزع الغل من قلوب أهل الجنة ، ولم يذكر له موطناً ، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط ، وجاء في بعضها : أن ذلك على أبواب الجنة ، وفي بعضها : ان الغل يبقى على أبوابها كمعاطن الإبل. ثم قال : وجاء في بعض الأحاديث : أن نزع الغل إنما يكون بعد استقراهم في الجنة. والذي يقال في هذا : أن الله ينزعه في موطن من قوم وفي موطن من آخرين. هـ.
قلت : والذي جاء في الأحاديث الواردة في أخبار الآخرة : ان أهل الجنة ، إذا قربوا منها وجدوا على بابها عينين ، فيغتسلون في إحداهما ، فتنقلب إجسادهم على صورة آدم عليه السلام ، ثم يشربون من الأخرى فتطهر قلوبهم من الغل والحسد ، وسائر الأمراض ، وهو الشراب الطهور. قاله القشيري في قوله تعالى {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان : 21] : يقال : يُطَهَّرُهم من محبة الأغيار ، ويقالُ : ويُطَهَّرُهم من الغلِّ والغِشِّ والدَّعوى... الخ ما ياتي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم ، وسترى وتعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 399
ثم قال تعالى : {إخواناً} ، أي : لما نزعنا ما في صدورهم من الغل صاروا إخواناً متوددين ، لا تباغض بينهم ولا تحاسد ، {على سُرُرٍ متقابلين} ؛ يقابل بعضهم بعضاً على الأسرة ، لا ينظر أحد في فناء صاحبه. وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : المتجه أن المقابلة معنوية ، وهي عدم إضمار الغل والإعراض ، سواء اتفق ذلك حسّاً أم لا ، ومن أضمر لأخيه غلاً فليس بمقابله ، ولو كان وجهه إلى وجهه ، بل ذلك أخلاقُ نفاقٍ ، ولذلك شواهد بذمه لا بمدحه. هـ. {لا يَمسُّهم فيها نَصَبٌ} أي : تعب ، {وما هم منها بمخْرَجين} ، لأن تمام النعمة لا يكون إلا بالخلود والدوام فيها. أكرمنا الله بتمام نعمته ، ودوام النظر إلى وجهه آمين.
(3/560)
الإشارة : لا ينقطع عن العبد تسلط الشيطان حتى يدخل مقام الشهود والعيان ، حين يكون عبداً خالصاً لله ، حراً مما سواه ، وذلك حين ينخرط في سلك القوم ، ويزول عنه لوث الحدوث والعدم ، فيفنى من لم يكن ، ويبقى من لم يزل ، وذلك بتحقيق مقام الفناء ، ثم الرجوع إلى مقام البقاء. قال الشيخ أبو المواهب رضي الله عنه : من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء ؛ وذلك أن العبد حين يتصل بنور الله ، ويصير نوراً من أنواره ، يحترق به الباطل ويدمغ ، فلا سبيل للأغيار عليه. ولذلك قال بعضهم : نحن قوم لا نعرف الشيطان ، فقال له القائل : فكيف ، وهو مذكور في كتاب الله تعالى ، قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر : 6] ؟ . فقال : نحن قوم اشتغلنا بمحبة الحبيب ، فكفانا عداوة العدو. وحين يتحقق العبد بهذا المقام ينخرط في سلك قوله تعالى : {إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل..} الآية ، وهذا لا ينال إلا بالخضوع لأهل النور ، حتى يوصلوه إلى نور النور ، فيصير قطعة من نور غريقاً في بحر النور.
401
جزء : 3 رقم الصفحة : 399
يقول الحق جل جلاله : {نبِّىءُ} : أخبر ، {عبادي أني أنا الغفور الرحيم} لمن آمن بي ، وصدق رسلي ، {وأنَّ عذابي هو العذابُ الأليم} لمن كفر بي ، وجحد رسلي ، أو بعضهم. قال البيضاوي : هي فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد ، وتقرير له ، وفي ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين متقى الذنوب بأسرها ، كبيرها وصغيرها ، وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب ـ أي : لم يقل وأنا المعذب المؤلم ـ ترجيح الوعد. هـ.
(3/561)
وذكر ابن عطية ان سبب نزولها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه ، عند باب بني شَيْبَةَ في الحرم ، فوجدهم يضحكون ، فزجرهم ووعظهم ، ثم ولى ، فجاءه جبريل عن الله ، فقال : يا محمد أتُقَنِّط عبادي ؟ وتلى عليه الآية ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأعلمهم. هـ. ثم قال : ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها ؛ إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة ، فأكّد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية. هـ.
قيل : وهذه الآية أبلغ ما في القرآن في إثارة الخوف والرجاء من الآي التي لا تشبهها في الإجمال ؛ لما فيها من التصريح ، ثم الرجاء فيها أغلب ؛ لأجل التقديم ، مع ذكره في آية الرجاء ، لصفاته العلية وأسمائه الحسنى ، وذلك يؤذن بالتهمم به وترجيحه ، وهو مذهب الصوفية في حال الحياة والممات.
الإشارة : الخوف والرجاء يتعاقبان على الإنسان ، فتاره يغلب عليه الخوف ، وتارة يغلب عليه الرجاء. هذا قبل الوصول ، وأما بعد الوصول فالغالب عليهم الاعتدال ، قال في التنبيه : أما العارفون الموحدون فإنهم على بساط القرب والمشاهدة ، ناظرون إلى ربهم ، فانون عن أنفسهم ، فإذا وقعوا في ذلة ، أو أصابتهم غفلة ، شهدوا تصريف الحق تعالى لهم ، وجريان قضائه عليهم. كما أنهم إذا صدرت منهم طاعة ، أو لاح منهم لائح من يقظة ، لم يشهدوا في ذلك أنفسهم ، ولم يروا فيها حولهم ولا قوتهم ؛ لأن السابق إلى قلوبهم ذكر ربهم ، فأنفسهم مطمئنة تحت جريان أقداره. وقلوبهم ساكنة بما لاح لهم من أنواره ، ولا فرق عندهم بين الحالين ؛ لأنهم غرقى في بحار التوحيد ، قد استوى خوفهم ورجاؤهم ، فلا ينقص من خوفهم ما يجتنبونه من العصيان ، ولا يزيد في رجائهم ما يأتون من الإحسان. هـ. قلت : بل طرق الرجاء عندهم أرجح كما تقدم ؛ لأن الرجاء ناشئ عن
402
غلبة المحبة ، وهي غالبة. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 402
(3/562)
قلت : (سلاماً) : مفعول بمحذوف ، أي : سلمنا سلاماً ، أو نسلم عليكم سلاماً. والضيف يطلق على الواحد والجماعة ، والمراد هنا : جماعة من الملائكة ، و(تُبشرون) : قرئ بشد النون ؛ بإدغام نون الرفع في نون الوقاية ، وبالتخفيف ؛ بحذف إحدى النونين ، وبالفتح على أنها نون الرفع. و(يقنط) : بالفتح والكسر ، يقال : قنط كضرِب وعلم.
يقول الحق جل جلاله : {ونَبَّئهم} أي : وأخبر عبادي {عن ضيف إبراهيمَ} حين بشروه بالولد ، وأعلموه بعذاب قوم لوط ، لعلهم يعتبرون فيرجون رحمته ويخافون عذابه. أو : ونبئهم أن من اعتمد منهم على كفره وغوايته ، فالعذاب لاحق به في الدنيا ، كحال قوم لوط. ثم ذكر قصتهم من أولها فقال : {ونبئهم عن ضيف إبراهيم} ، وذلك حين {دخلوا عليه} ، وهم أربعة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، {فقالوا سلاماً} أي : نُسلم عليكم سلاماً ، قال : سلام ، ثم أتاهم بعجل حنيذ ، فلما قربه إليهم ، قالوا : إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن ، فقال إبراهيم : إن له ثمناً ، قالوا : وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله ، وتحمدونه على آخره ، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال : حق لهذا ان يتخذه ربه خليلاً ، فلما رأى أنهم لا يأكلون فزع منهم. ومن طريق آخر : أن جبريل مسح بجناحه العجْل ، فقام يدرج حتى لحق بأمه في الدار. هـ. هكذ ذكر القصة المحشي الفاسي عن ابن حجر.
فلما أحس إبراهيم عليه السلام بالخوف منهم {قال إنكم منكم وَجِلُون} : خائفون ؛ إما لامتناعهم من أكل طعامه ، أو لأنهم دخلوا بغير إذن ، أو في غير وقت الدخول. والوجل : اضطراب النفس لتوقع مكروه. {قالوا لا تَوْجَلْ} : لا تخف ، ثم عللوا نهيه عن الخوف فقالوا : {إنا نبشِّرك بغلام} وهو إسحاق ، لقوله {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود : 71] ، {عليمٍ} إذا بلغ أوان العلم. {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىا أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ} أي : أبشرتموني بالولد
403
(3/563)
مع أني قد كبر سني ، وكان حينئذٍ من مائة سنة وأكثر ، {فبِمَ تُبَشِّرونِ} ؟ أي : فبأي أعجوبة تبشرون ؟ أو فبأي شيء تبشرون ؟ فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء. قال ذلك على وجه التعجب من ولادته في كِبَرهِ.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 403
قالوا بشرناك بالحق} : باليقين الثابت الذي لا محالة في وقوعه ، فلا تستبعده ، ولا تشك فيه ، {فلا تكن من القانطين} : من الآيسين ، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق بشراً من غير أبوين ، فكيف من شيخ فانٍ وعجوز عاقرٍ. وكان استعجاب إبراهيم باعتبار العادة ، دون القدرة ؛ ولذلك {قال ومن يَقْنَطُ من رحمة ربه} أي : لا ييأس من رحمة ربه {إلا الضالون} : أي : المخطئون طريق المعرفة ، فلا يعرفون سعة رحمته تعالى ، وكمال قدرته ، قال القشيري : أي : من الذي يقنط من رحمة الله إلا من كان ضالاً ، فكيف أخطأ ظنكم بي ، فتوهمتم أني أقنط من رحمة ربي ؟ . هـ. وفيه دليل على تحريم القنوط ؛ قال تعالى : {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87].
{قال فما خَطْبُكم أيها المرسلون} أي : ما شانكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة ؟ ولعله علم ان كمال المقصود ليس هو البشارة فقط ، لأنهم كانوا عدداً ، والبشارة لا تحتاج إلى عدد ، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم. أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال ؛ لأزالة الوجل ، ولو كانت تمام المقصود لابتدروه بها. ثم أجابوه : {قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} ؛ يعني : قوم لوط ؛ لأن شأنهم الإجرام بفعل الفاحشة ، {إلا آل لوطٍ} أي : لكن آل لوط لم نُرْسَل إلى عذابهم ؛ إذ ليسوا مجرمين : أو أرسلنا إلى قوم أجرموا كلهم ، إلا آل لوط ، لنهلك المجرمين وننجي آل لوط ، ويدل عليه قوله : {إنا لمنجُّوهم أجمعين} من العذاب الذي يهلك به قوم لوط.
(3/564)
قال ابن جزي : قوله : {إلا آل لوط} : يحتمل أن يكون استثناء من قومه ، فيكون منقطعاً ؛ لوصف القوم بالإجرام ، ولم يكن آل لوط مجرمين. ويحتمل أن يكون استثناء من الضمير في {مجرمين} ؛ فيكون متصلاً ، كأنه قال : إلى قوم أجرموا كلهم آل لوط فلم يجرموا ، قوله : {إلا امرأته} ؛ استثناء من آل لوط ، فهو استثناء من استثناء. قيل : وفيه دليل على أن الأزواج من الآل ؛ لأنه استثنى امرأته من آله. وقال الزمخشري : إنما هو استثناء من الضمير المجرور في قوله : {إنا لمنجوهم} ، وذلك هو الذي يقتضيه المعنى. هـ. أي : إنا لمنجوهم من العذاب {إلا امرأته قدَّرنا إنها لمن الغابرين} ؛ الباقين في العذاب مع الكفرة ؛ لتهلك معهم ، وقرأ أبو بكر عن عاصم : " قدرنا " بالتخفيف ، وهما لغتان ، يقال : قدّر الله وكذا وقدره ، قال البيضاوي : وإنما علق ، والتعليق من خواص أفعال القلوب ؛ لتضمنه معنى العلم ، ويجوز أن يكون (قدرنا) : أجرى مجرى قلنا ؛ لأن التقدير بمعنى القضاء قول ، وأصله : جعل الشيء على مقدار غيره ، وإسناد التقدير إلى إنفسهم ،
404
وهو فعل الله تعالى ؛ لما لهم من القرب والاختصاص. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 403
قلت : وفيه إشارة إلى حذف الوسائط ، كما هو توحيد المحققين. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية ، فالوجل والخوف والفرح والحزن والتعجب والاستعظام للأشياء الغريبة ، كل ذلك من وصف البشر ، يقع من الخصوص وغيرهم ، لكن فرق بين خاطر وساكن ، فالخصوص تهجم عليهم ولا تثبت ، بخلاف العموم.
(3/565)
ويؤخذ من الآية : أن صحبة الخصوص لا تنفع إلا مع الاعتقاد والتعظيم ، فإنَّ امرأة نبي الله لوط كانت متصلة به حساً ، ومصاحبة له ، ولم ينفعها ذلك ، حيث لم يكن لها فيه اعتقاد ولا تعظيم. وكذلك صحبة الأولياء : لا تنفع إلا مع صدق والتعظيم. وقول ابن عطاء الله : سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه. ولم يوصل إليهم إلا من اراد أن يوصله إليه " : مقيد بوصول التعظيم والاعتقاد ، والاستماع والاتباع. والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 403
قلت : (وقضينا إليه ذلك الأمر) ، القضاء هنا بمعنى القدر السابق ، وضمَّنه معنى أوحينا ، فعداه بإلى. و(أنَّ دابر) : بدل من الأمر ، وفي ذلك تفخيم الأمر وتعظيم له ، و (مُصبحِين) : حال من " هؤلاء " ، أو من ضمير مقطوع ، وجمعه ؛ للحمل على المعنى ؛ لأن دابر بمعنى دوابر ، أي : قطعنا دوابرهم حال كونهم داخلين في وقت الصباح. و(لعمركَ) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : قسمي ، قال ابن عزيز : عَمْرٌ وعُمْرٌ واحد ، ولا يقال في القسم إلا مفتوحاً ، وإنما فتح في القسم فقط ؛ لكثرة الاستعمال.
405
يقول الحق جل جلاله : {فلما جاء آلَ لوطٍ المرسلين} ، وهم أضياف إبراهيم ، فلما دخلوا عليه ولم يعرفهم ، {قال إنكم قومٌ منكرون} لا نعرفهم. أو تنكركم نفسي ؛ مخافة أن تطرقوني بشيء ، {قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون} أي : ما جئناك بما تنكرنا لأجله ، بل جئناك بما يسرك ، وهو : قطع الفاحشة من بلدك ، وإتيان العذاب لعدوك الذي توعدناهم ، فكانوا يمترون فيه ويشكون في إتيانه ، {وأتيناك بالحق} ؛ باليقين الثابت ، وهو إتيان العذاب لا محالة ، {وإنَّا لصادقون} فيما أخبرناك به.
(3/566)
{فأسرِ بأهلك} : فاذهب بهم {بقطْعٍ من الليل} أي : فاخرح بهم في طائفة من الليل ، قيل : آخره ، {واتَّبع أدبارَهم} أي : كن خلفهم في ساقتهم ، حتى لا يبقى منهم أحد ، أو : أمره بالتأخر عنهم ؛ ليكونوا قدامه ، فلا يشتغل قلبه بهم لو كانوا خلفه ؛ لخوفه عليهم ، أي : ليسرع بهم ، ويطلع على أحوالهم. {ولا يلتفت منكم أحدٌ} خلفه ، لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه ، أو : ولا ينصرف أحد منكم ، ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما أصابهم. وقيل : نهوا عن الالتفاف ليوطنوا أنفسهم على الهجرة. {وامضوا حيث تُؤمرون} أي : إلى حيث أمركم الله ، وهو الشام أو مصر ، وقال بعضهم : " ما من نبي هلك إلا لحق بمكة ، وجاور بها حتى مات ".
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 405
وقضينا} : أوحينا {إليه ذلك الأمر} ، وهو هلاك قومه ، ذكره مبهماً ثمَّ فسره بقوله : {أنَّ دابر هؤلاء مقطوع} وهو كناية عن استئصالهم ، والمعنى : أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد ، حال كونهم وقت العذاب {مُصْبِحين} : داخلين في الصباح.
{وجاء أهلُ المدينة} ، وهي سدوم ، {يستبشرون} بأضياف لوط ؛ طمعاً فيهم في فعل الفاحشة ، والظاهر : أن هذا المجيء إليه ، وما جرى له معهم من المحاورة ، كان قبل الإعلام بهلاكهم ، كما تقدم في هود. وانظر ابن عطية : فلما جاؤوه يراودونه عن ضيفه {قال إنَّ هؤلاء ضيفي فلا تَفْضَحُون} ؛ بهتك حرمة ضيفي ، فإنَّ من فُضح ضيفه فقد فُضح هو ، ومن أًسِيء إلى ضيفه فقد أُسيء إليه ، {واتقوا الله} في ركوب الفاحشة ، {ولا تُخزُون} : ولا تهينوني بإهانتهم. والخزي هو الهوان ، أو : ولا تخجلون فيهم ، من الخزاية وهو الحياء.
(3/567)
{قالوا أو لم ننْهكَ عن العالمين} ؛ عن أن تجير منهم أحداً ، أو تحول بيننا وبينهم ، وكانوا يتعرضون لكل أحد ، وكان لوط عليه السلام يمنعهم ويزجرهم عنه بقدر وسعه. وذكر السدي : إنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة بالغرباء ، ولا يفعلونها بعضهم ببعض ، فكانوا يعترضون الطرق. هـ. أو : أَوْ لم ننهك عن ضيافة العالمين وإنزالهم ؟ {قال هؤلاء بناتي} تُزَوِّجُوهُنَّ إياكم ، وقد كان يمنعهم قبل ذلك لكفرهم ، فأراد أن يقي أضيافه بهن.
406
ولعله لم يكن حراماً في شريعته ، أو يريد بالبنات نساء القوم ؛ فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم ، {إن كنتم فاعلين} قضاء الوطر ، أو : ما أقول لكم من التزويج ، فابوا ، ولجوا في عملهم.
قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : {لَعَمْرُكَ} : لحياتك يا محمد ، أقسم بحياته ـ عليه الصلاة والسلام ـ لشرف منزلته عنده. قال ابن عباس رضي الله عنهما : " ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته ، فقال : {لَعَمْرُكَ إنهم لَفِي سَكْرتهم يَعمهون} قال القرطبي : وإذا أقسم الله بحياة نبيه فإنما أراد التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نخلف بحياته. وقد قال الإمام أحمد فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم : ينعقد به يمينه ، وتجب الكفارة بالحنث ، واحتج بكون النبي صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة. قال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد : هذا إذ استدل من جوّز الحلف به عليه الصلاة والسلام ، بأن أيمان المسلمين جرت من عهده صلى الله عليه وسلم حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا جاء صاحبه قال له : احلف لي بما حوى هذا القبر ، وبحق ساكن هذا القبر ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. هـ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 405
(3/568)
قلت : ومذهب مالك أنه لا ينعقد يمين بغير الله ، وصفاته ، وأسمائه. وقيل : إن قوله تعالى : {لعمركَ} : هو من قول الملائكة للوط ، أو لحياتك يا لوط ، {إنهم لَفَي سَكْرتهم يَعمهون} أي : لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ والصواب ، يتحيرون. والغلمة : شهوة الوقاع. والعمه : الحيرة ، أي : إنهم لفي عماهم يتحيرون ، فكيف يسمعون نصح من نصحهم ؟ والضمائر لقوم لوط ، وقيل : لقريش ، والجملة : اعتراض.
قال تعالى : {فأخذتهم الصيحةُ} ، يعني : صيحة هائلة مهلكة. قال ابن عطية : هذه الصيحة صيحة الرجعة ، وليست كصيحة ثمود. هـ. وقيل : صاح بهم جبريل فأهلكتهم الصيحة ، {مُشْرِقينَ} : داخلين في وقت شروق الشمس ؛ فاتبدئ هلاكهم بعد الفجر مصبحين ، واستوفى هلاكهم مشرقين. {فجعلنا عاليَها} أي : عالي المدينة ، أو قراها ، {سافِلَها} ، فصارت منقلبة بهم.
رُوي أن جبريل عليه السلام اقتلعَ المدينة بجناحيه ورفعها ، حتى سمعت الملائكة صراخ الديكة ونباح الكلاب ، ثم قلبها وأرسل الكل فمن كان داخل المدينة أو القرى مات ، ومن كان خارجاً عنها أرسلت عليه الحجارة ، كما قال تعالى : {وأمطرنا عليهم حجارةً من سجيل} : من طين متحجر مطبوخ بالنار. وقد تقدم في سورة هود مزيد بيان لهذا. {إنَّ في ذلك لآيات للمتوسِّمِين} : المتفكرين المعتبرين المتفرسين في الأمور ، الذين يثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته ، {وإنَّها} أي : المدينة أو
407
القرى ، {لَبِسبِيلٍ مُقيم} : لفي طريق ثابت يسلكه الناس ، ويمرون به ، ويرون آثارها. {إنَّ في ذلك لآيةٌ} : لعبرة {للمؤمنين} بالله ورسله ؛ فإنهم هم المهتدون للتفكر والاعتبار ، دون من غلبت عليه الغفلة والاغترار ، كحال الكفار والفجار. والله تعالى أعلم.
(3/569)
الإشارة : ما بعث الله داعياً يدعو إليه إلا وكان أول ما يدعوهم إليه بعد الإيمان ، الخروج من العوائد والحظوظ النفسانية ، وما هلك من هلك من الأمم إلا بالبقاء معها ، وعدم الخروج عنها ، وما نجى من نجى إلا بالخروج عنها. وكذلك في طريق الخصوصية : ما بعث الله ولياً مربياً إلا وكان أول ما يأمر : بخرق العوايد ؛ لاكتساب الفوائد ، فلا طريق لخصوصية الولاية إلا منها. وفي الحكم : " كيف تخرق لك العوائد ، وأنت لم تخرق من نفسك العوائد ". فمن تربى في الرئاسة والجاه فلا مطمع له في الخصوصية حتى يبدلهما بالخمول والذل ، وكذلك من تعود جمع الدنيا واحتكارها ، فلا بد من الزهد فيها والخروج عنها ، وكذلك سائر العوائد النفسانية ، والحظوظ الجسمانية ، فمن جاور قوماً منهمكين فيها ، ولم يجد من يساعده على خرقها ، فليهاجر منها ، ويقال له : فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ، ولا يلتفت منكم أحد إلى الرجوع ، إلا بعد الرسوخ والتمكين في معرفة الحق تعالى ، ولميض حيث يجد من ينهض معه إلى الله في نقل عوائدها وعوائقها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 405
وقوله تعالى : {وجاء أهل المدينة يستبشرون} : هذه عادة أهل الغفلة ، إن جاءهم من يجدون فيه موافقة هواهم ، هرعوا إليه مستبشرين ، وإن جاء من ينصحهم ويأمرهم بالخروج عن أهوائهم أدبروا عنه ، ومقتوه ، وربما أخرجوه من بلدهم ، قال تعالى في أمثالهم : {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}. وبالله التوفيق
جزء : 3 رقم الصفحة : 405
قلت : " إن " مخففة ، واللام فارقة.
(3/570)
يقول الحق جل جلاله : {وإن كان أصحابُ الأيكة لظالمين} ، وهم قوم شعيب ، كانوا يسكنون غيضة. وهي الأيكة. والأيكة : الشجر الملتف ، قيل : كانت من الدوح ، وقيل : من السدر ، فكانوا يسكنون فيها ، ويرتفقون بها معايشهم ، فبعث الله لهم شعيباً عليه السلام ، فكفروا به ، فسلط الله عليهم الحر سبعة أيام ، ثم رأوا سحابة فخرجوا فاستظلوا تحتها ، فاضطرمت عليهم ناراً ؛ فاحترقوا. قال تعالى : {فانتقمنا منهم} بالهلاك بالحر ، {وإنهما} يعني : سدوم مدينة قوم لوط ، والأيكة قرية شعيب. وقيل : الأيكة ومدين ؛ لأن شعيباً عليه السلام كان مبعوثاً إليهما ، وكان ذكر أحدهما مغن عن الآخر ،
408
{لَبإمامٍ مبينٍ} : لبطريق واضح يسلك منه إلى الشام ، فيعتبر كل من وقف بآثارهم. والإمام : ما يؤتم به ، ويوصل إلى المقصود من طريق أو غيره. وقيل : {وإنهما} أي : لوط وشعيب ، على طريق من الشرع واضح. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما أهلكَ اللهُ قَوماً إلا كانوا عبرة لمن بعدهم ، فالعاقل يبحث عن سبب هلاكهم ، فيعمل جهده في التحرز منه ، والغافل منهمك في غفلته ، لا يلقى لذلك بالاً ، حتى يأتيه ما يوعد. وبالله التوفيق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 408
قلت : (بيوتاً) : مفعول (ينحتون) ، بمعنى : يتخذون ، أو يصنعون. و (آمنين) : حال من فاعل (ينحتون).
(3/571)
يقول الحق جل جلاله : {ولقد كذَّب أصحاب الحجْرِ المرسلين} ؛ هم قوم ثمود ، والحِجْر : واديهم الذي يسكنونه ، وهو بين المدينة والشام ، كذبوا صالحاً عليه السلام ، ومن كذَّب واحداً من الرسل فكأنما كذَّب الجميع ؛ لأنهم جاؤوا بأمر متفق عليه ، وهو التوحيد أو يراد به الجنس ، كما تقول : فلان يركب الخيل ، وإنما يركب فرساً واحداً ، أو يراد به صالح ومن معه من المؤمنين ؛ لموافقتهم له فيما يدعو له. {وآتيناهم آياتنا} يعني : الناقة ، وما كان فيها من العجائب ، كسقيها وشربها ودرها ، أو ما نزل على نبيهم من الكتب ، أو ما نصب لهم من الأدلة. {فكانوا عنها معرضين} : لم ينظروا فيها ، ولم يعتنوا بأمرها.
{وكانوا ينحتون} : يصنعون ، والنحت : النقر بالمعاول في الحجر والعود وشبهه ، فكانوا يتخذون {من الجبالِ} ؛ بالنقر فيها ، {بيوتاً} يسكنونها {آمنين} من الانهدام ، ونقب اللصوص ، وتخريب الأعداء ؛ لوثوقها. أو من العذاب ؛ لفرط غفلتهم ، أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه. {فأخذتهم الصيحةُ مصبحين} : داخلين في وقت الصباح ، {فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} من بناء البيوت الوثيقة ، واستكثار الأموال والعدد.
الإشارة : من علامة الغفلة عن الله : الإنكار على أولياء الله ، والإعراض عما خصهم الله تعالى به من الآيات وخوارق العادات ، كالعلوم اللدنية والمواهب القدسية ، وكمال المعرفة ، والرسوخ في اليقين ، وشهود رب العالمين مع الأشغال بعمارة هذه الدار ، ونسيان دار القرار ؛ كأنه أمن من الموت ؛ من شدة الاغترار. وسبب ذلك : عدم التفكر
409
والاعتبار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 409
(3/572)
يقول الحق جل جلاله : {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما} من الكائنات {إلا بالحقِّ} أي إلا خلقاً ملتبساً بالحق ، وهو الدلالة على كمال قدرتنا وباهر حكمتنا ، فمن كمال القدرة : إهلاك أهل الفساد ، ودفع شرورهم وإبطال فسادهم ، ومن باهر حكمته أنه لم يهلكهم إلا بسبب عتوهم وفسادهم. فالحكمة رداء للقدرة ، وترتيبها على أسباب وشروط يدل على باهر الحكمة. ومن مقتضيات الحكمة : ترتيب الجزاء على العمل ، بحيث لا يهمل عملاً ، فأهل الإكرام يترتب إكرامهم وإنعامهم على عملهم الصالح ، واعتقادهم الصحيح ، وما قاسوه من المجاهدة والمكابدة. وأهل الانتقام يترتب منهم على عملهم الفاسد ، واعتقادهم الباطل ، وعلى ما قالوا في الدنيا ، التي هي مزرعة الآخرة ، من الدعة والحظوظ الفانية ، ولذلك رتَّب عليه قوله :
{وإنَّ الساعة لآتيةٌ} فيجازي فيها من يستحق الإكرام ، ويعاقب من يستحق الانتقام ، وينتقم لك فيها ممن يكذبونك ، {فاصفح} اليوم {الصفحَ الجميل} ولا تعجل بالانتقام ، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. وكان هذا قبل الأمر بالقتال. {أنَّ ربك هو الخلاق} الذي خلقك وخلقهم ، وبيده أمرك وأمرهم ، {العليمُ} بحالك وبحالهم ، فهو الحقيق بأن تنكل عليه حتى يحكم بينك وبينهم. أو : هو الخلاق لأشباحكم وأرواحكم ، العليم بما هو الأصلح لكم في وقت ، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح. والخلاق أبلغ من الخالق باعتبار اللغة ، وأفعال الله تعالى كلها عظيمة كثيرة.
(3/573)
الإشارة : ما نصبت لك الكائنات لتراها بعين الفرق ، بل لترى فيها مولاها بعين الجمع. وما جعل لك هذه الدار لتتخذها دار القرار ، وإنما جعلها قنطرة ومعبراً لدار القرار. إنما جعل لك الدنيا الفانية مزرعة للدار الباقية. وإن الساعة لآتية ، فاصبر في هذه الدار اللمحة اليسيرة على شدائد الزمان ، وجفوة الإخوان ، واصفح الصفح الجميل ، حتى ترد النعيم الباقي ، والجزاء الجزيل. وتخلق بأخلاق الحليم الكريم ، إن ربك هو الخلاق العليم ، فلا قدرة لك على شيء إلا بقدرة السميع العليم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 409
قلت : السبع المثاني : هي الفاتحة عند الجمهور ، و(من المثاني) : للبيان ، وعطفُ القرآن عليها من عطف العام على الخاص. و (أنزلنا) : نعت لمفعول النذير ، أي : أنا النذير عذاباً مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين. وقيل : صفة لمصدر محذوف يدل عليه : (ولقد آتيناك) ؛ فإنه بمعنى أنزلنا إليك إنزالاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين ، وهم ، على هذا ، أهل الكتاب. و(عِضِين) : جمع عضة. وأصله : عِضْوة ، من عَضَوْتَ الشيء : فَرَّقْته ، حُذفت لامه ، وعوض منها هاء التأنيث ، فجمع على عضين ، كعزَةٍ وعزين. وقيل : أصله : عضة ؛ من عضهته : رميته بالبهتان ، قال في الصحاح : عَضَهَهُ عَضْهاَ : رماه بالبهتان. وقد أعْضَهْتَ ، أي : جئت بالبهتان. فهما قولان في أصل عِضة. هل هو واوي أو هائي. والموصول مع صلته نعت للمقتسمين.
(3/574)
يقول الحق جل جلاله : لنبيه عليه الصلاة والسلام : {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} ، وهي فاتحة الكتاب ؛ لأنها سبع آيات ، وتثنى ـ أي تكرر ـ في كل صلاة ، فالمثاني من التثنية ، وقيل : من الثناء ؛ لأن في الثناء على الله تعالى ، وقيل : السبع المثاني هي السبع الطوال ، وهي البقرة وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال مع براءة. ولذلك تركت البسلمة بينهما. وكونها مثاني ؛ لتثنية قصصها ، أو ألفاظها ، وقيل : هي الحواميم السبع. {و} آتيناك {القرآن العظيم} ، ففيه الغنية والكفاية عن كل شيء.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 410
لا تمُدَّن عينيك} : لا تطمح ببصرك طموح راغب {إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} أي : أصنافاً من الكفار ، من زهرة الحياة الدنيا ، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته. وفي حديث أبي بكر : " من أوتي القرآن ، فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي ، فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً ". قال ابن جزي : لا تنظر إلى ما متعنا به في الدنيا ، ومعنى الآية : تزهيد في الدنيا ، كأنه يقول : قد آتيناك السبع المثاني والقرآن العظيم ؛ فلا تنظر إلى الدنيا ، فإن الذي أعطيناك أعظم منها. هـ.
411
(3/575)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم وافى مع أصحابه أذْرِعَات ، فرأى سبع قوافل ليهود بني قُرَيْظَة والنَّضير ، فيها أنواع البُرِّ ، والطيب والجواهر ، وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقربنا بها ، ولأنفقناها في سبيل الله ، فقال لهم ـ عليه الصلاة والسلامـ : " قد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل ". {ولا تحزنْ عليهم} : لا تتأسف على كفرهم ؛ حيث أنذرتهم فلم ينزجروا ولم يؤمنوا. أو : حيث متعناهم بالدنيا فلم ينفعوا بها ، ولم يصرفوها في مرضاة الله ، {وأخفض جناحك للمؤمنين} ؛ أي : تواضع وألن جانبك للمؤمنين ، وارفق بهم. والجناح ، هنا ، استعارة. {وقل إني انا النذيرُ المبين} : البين الإنذار ، أنذرتكم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا. وفي الحديث : " أنا النذير ، وأنذرتكم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا " وفي الحديث : " أنا النذير ، والموت مغير ، والقيامة الموعد " أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، وفي حديث آخر : " أنا النَّذير العُريَانُ " وكانت العرب إذا رأى أحْدهم جيشاً يقصدهم ، تجرد من ثيابه ، ثم أنذر قومه ليصدقوه ، أي : وقل : إني أنذرتكم ان ينزل بكم عذابه.
{كما أنزلنا على المقتسمين} ، أي : مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين ، وهم أهل الكتاب ، الذين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض ، فاقتسموا قسمين. والعذاب الذي نزل بهم هو الذل والهوان وضرب الجزية ، أو تسليط عدوهم عليهم. وقيل : هم كفار قريش ؛ اقتسموا أبواب مكة في الموسم ، فوقف كل واحد منهم على باب ، وكانوا اثني عشر رجلاً ، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام ، يقول أحدهم : هو ساحر ، والآخر : هو شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر. وقيل : هم الرهط الذين اقتسموا ، أي : تقاسموا ليُبيتوا صالحاً ، فأسقط الله عليهم الغار الذي كمنوا فيه ، فشدخهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 410
(3/576)
أو : آتيناك القرآن ، وأنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة على المقتسمين ، وهم اليهود ، {الذين جعلوا القرآن عِضين} ، أي : أجزاء متفرقة ، وقالوا فيه أقوالاً مختلفة ، فقالوا ؛ عناداً وكفراً : بعضه موافق للتوراة والأنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما. وإذا قلنا المقتسمين : هم كفارقريش ، حيث اقتسموا أبواب مكة ، فقد جعلوا القرآن عضين ؛ إجزاء متفرقة ، فقد قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين ، أو جعلوه بهتاناً متعدداً ، على تفسير العضة بالبهت. وفي الحديث : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة " أي : الباهتة ، والمستبهتة : الطالبة له.
قال تعالى في وعيد المقتسمين : {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} من التقسيم والتكذيب ، أو عن كل ما عملوه من الكفر والمعاصي ، وفي البخاري : " لنسألنهم
412
عن لا إله إلا الله ". فإن قيل : كيف يجمع بين هذا وبين قوله {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن : 39] فالجواب : أن السؤال المثبت هو على وجه الحساب والتوبيخ ، والسؤال المنفي هو على وجه الاستفهام المحض ؛ لأن الله تعالى يعلم الأعمال ، فلا يحتاج إلى سؤال. وقيل : في القيامة مواطن وخوارق ، فموطن يقع فيه السؤال ، وموطن يذهب بهم إلى النار بغير سؤال.
(3/577)
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : {فاصدع بما تؤمر} : فاجهر ، وصرح به ، وأنْفِذْه ، من صدع بالحجة : إذا تكلم بها جهاراً. أو : فَرِّقْ بما تؤمر به ، بين الحق والباطل ، وأصله : الشق والإبانة ، و {ما} : مصدرية ، أو موصولة ، والعائد محذوف ، أي : بما تؤمر به من الشرائع. {وأعرضْ عن المشركين} فلا تلتفت إلى ما يقولون ، ولا يمنعك ذلك من تبليغ الوحي والصدع به وإظهاره. {إنا كفيناك المستهزئين} بك ، وبما أنزلنا إليك ، بأن أهلكنا كل واحد منهم بمصيبة تخصه ، من غير سعي من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وكانوا خمسة من أشراف قريش : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن يغوث ، كانوا يبالغون في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ، والاستهزاء به ، فقال جبريلُ للنبي صلى الله عليه وسلم : " أمرتُ بأن أكفيكهم " فأومأ إلى ساق الوليد فمرَّ بنبَّالٍ فتعلق بثوبه سهم ، فلم ينعطف لأخذه ، تعظماً ، فأصاب عرقاً في عقبه فمات. وقيل : خدش بأسفل رجله فمات من تلك الخدشة. وأومأ إلى أخمص العاص ؛ فدخلت فيها شوكة ، فانتفخت حتى صارت كالرحى ، فمات. وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحاً فمات. وأومأ إلى الأسود بن عبد يغوث ، وهو قاعد في أصل شجرة ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات. وقيل : استسقى بطنه فمات ، ولعله جمع بينهما. وأومأ إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي. وفي السيرة ، بدل عدي بن قيس ، الحارث بن الطلاطلة ، وأن جبريل أشار إلى رأسه فامتخط قيحاً فقتله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 410
(3/578)
وقيل : هم الذين قُتلوا ببدر ؛ كأبي جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط. والأول أرجح ؛ لأن الله تعالى كفاه أمرهم بمكة قبل الهجرة. إلا أن يكون عبّر بالماضي عن المستقبل ؛ لتحققه ، أي : إنا سنكفيك المستهزئين {الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر} يعبدونه من دون الله {فسوف يعلمون} عاقبة أمرهم في الدارين.
ثم سلّى نبيه عن أذاهم فقال : {ولقد نعلمُ أنك يضيق صدرُك بما يقولون} في جانبنا ؛ من الشرك والطعن في القرآن ، والاستهزاء بك ، فلا تعبأ بهم ، ولا تلتفت إليهم.
413
{فسِّبح بحمد ربك} أي : فنزه أنت ذاتنا وصفتنا ، مكان مقالتهم فينا ؛ فإن مثلك منزهنا لا غير ، {وكن من الساجدين} ؛ أي : المصلين ، أو : فافرغ إلى الله فيما نابك وضاق منه صدرك بالتسبيح والتحميد. {وكن من الساجدين} ؛ من المصلين ، يكفك ويكشف الغم عنك ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة " ، أو : فنزهه عما يقولون ، حامداً له على أن هداك للحق ، وكن من الساجدين له شكراً.
{واعبدْ ربك حتى يأتيك اليقين} أي : الموت ، فإنه متيقن لحاقه ، وليس اليقين من أسماء الموت ، وإنما العلم به يقين ، لا يمتري فيه ، فسمي يقيناً ؛ تجوزاً. أو : لما كان يحصل اليقين بعده بما كان غيباً سمي يقيناً. والمعنى : فاعبده ما دمت حياً ، ولا تُخِلّ بالعبادة لحظة. وفي بعض الأحاديث عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : " إن الله لم يُوح إليَّ أن أجمع المال ، وأكون من التاجرين ، وإنما أوحى إليَّ أن : سبح بحمد ربك وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
(3/579)
الإشارة : يقال للعايد ، أو الزاهد : ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم ، تتمتع بحلاوته ، وبالتجهد بتلاوته ، ففيه كفايتك وغناك ، فلا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أصنافاً من أهل الدنيا ، الراغبين فيها ، المشتغلين بها عن عبادة خالقها. قيل : لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : " إياكم والنظر في أبناء الدنيا ، فإنه يقسي القلب ويورث حب الدنيا ، ولا تكثروا الجلوس مع أهل الثروة ، فتميلوا لزينة الدنيا ؛ فوالله لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها جرعة ماء " وقال صلى الله عليه وسلم : " من تواضع لغني لأجل غناه اقترب من النار مسيرة سنة ، وذهب ثلثا دينه " هذا إن تواضع بجسمه فقط ، فإن تواضع بجسمه وقلبه ذهب دينه كله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 410
ويقال للعارف : ولقد آتيناك شهود المعاني ، وغيبناك عن حس الأواني ، حتى شهدت المتكلم بالسبع المثاني ، فسمعت القرآن من مُنزله دون واسطة. وذلك بالفناء ، عن الوسائط ، في شهود الموسوط ، حتى يفنى عن نفسه في حال قراءته.
ويقال له : لا تمدن عينيك إلى شهود الحس ، ولا إلى ما متعنا به أصنافاً من أهل الحس ، الواققين مع شهود الحس ؛ فإن ذلك يحجبك عن شهود المعاني القائمة بالأواني ، بل المفنية للأواني عند سطوع المعاني. ولا تحزن عليهم حيث رايتهم منهمكين في الحس ؛ فإن قيام عالم الحكمة لا يكون إلا بوجود أهل الحس ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين بخصوصيتك ، وقل : إني أنا النذير المبين من الاشتغال بالبطالة ،
414
والغفلة ، حتى ينزل بأهلهما ما نزل على المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين ؛ اجزاء متفرقة ؛ فما كان فيه مما يدل على التسهيل لجواز جمع الدنيا واحتكارها والاشتغال بها أخذوا به ، وما كان فيه مما يدل على الزهد فيها ، والانقطاع إلى الله عنها ، والتجريد عن أسبابها ، رفضوه. فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون.
(3/580)
فاصدع ، أيها العارف الواعظ يما تُؤمر ؛ من الأمر بالزهد ، والانقطاع إلى الله ، ولرفض كل ما يشغل عن الله ، ولا تراقب أحداً في ذات الله ، وأعرض عن المشركين ، الذين أشركوا في محبة الله سواه ، وشهدوا الأكوان موجودة مع الله ، وهي ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فلا وجود لها في الحقيقة مع الله. فإن استهزؤوا بك ، وصغروا أمرك ، فسيكفيكهم الله. فاشتغل بالله عنهم ، فلا يضيق صدرك بما فيه يخوضون. (فسبح بحمد ربك) أي : نزهه عن شهود السِّوى معه ، حامداً الله على ما أولاك من نعمة توحيده. (وكن من الساجدين) لله شكراً ، وقياماً برسم العبودية ، أو : كن من الساجدين بقلبك في حضرة القدس ، حتى يأتيك اليقين.
وفي الورتجبي ، في قوله : (ولقد نعلم أنك يضيقُ صدرك) ، قال : واسى الحقُّ حبيبَه بما سمع من أعدائه ، وقال له : أنت بمرأىً منا ، يضيق صدرك ؛ من لطافتك ، بما يقول الجاهلون بنا في حقنا ، مما لا يليق بتنزيهنا ، فنزه أنت صفتنا مكان مقالتهم فينا ، فإنَّ مثلك منزهنا لا غير ، وكن من الساجدين حتى ترانا بوصف ما علمت منا ، وتخرج من ضيق الصدر بما تشاهد من جمالنا ، فإذا كنت تعايننا سقط عنك ضيق صدرك من جهة مقالتهم.هـ.
وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق
415
جزء : 3 رقم الصفحة : 410(3/581)
سورة النحل
جزء : 4 رقم الصفحة : 3
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أتى أمرُ الله} أي : البعث والحساب. وعبّر بالماضي ؛ لتحقق وقوعه ، أو : ثبت أمره وقضاؤه ، وقد جفّ القلم بما يكون لا عن سؤال واستعجال ، وتدبير من الخلق ، ولو كان كذلك لنافى انفراده بتدبير ملكه ، ولذلك نزّه نفسه بقوله : {سبحانه وتعالى عما يشركون}. أو : إهلاك الله إياهم يوم بدر ، وكانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول من قيام الساعة ، وإهلاكهم ونصره عليهم ، استهزاء وتكذيباً ؛ ولذلك قال : {فلا تستعجلوه} ، والمعنى : أن الأمر الموعود به بمنزلة الماضي ، لتحقّق وقوعه من حيث إنه واجب الوقوع ؛ فلا تستعجلوا وقوعه ، فإنه لا خير لكم فيه ، ولا خلاص لكم منه.
ورُوِيَ لمّا نزل قوله : {أتى أمر الله} ، وثب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائماً ، ورفع الناس رؤوسهم ، فلما قال : {فلا تستعجلوه} ، سكن. وكان المشركون يقولون : إن صح ما يقول محمد من قيام الساعة ، فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا ، فقال تعالى : {سبحانه وتعالى عما يشركون} أي : تنزه وجلَّ عن أن يكون له شريك ، فيدفع ما أراد بهم. هـ.
وقرأ الأخوان بالخطاب ، على وفق قوله : {فلا تستعجلوه} ، والباقون بالغيب ، على تلوين الخطاب ، أو على أن الخطاب للمؤمنين ، أي : أتى أمر الله أيها المؤمنون فلا تستعجلوه ، سبحانه وتعالى عما يشركه به المشركون. أو : لهم ولغيرهم. والله تعالى أعلم.
3(4/3)
الإشارة : إذا أشرق نورُ اليقين في صميم القلوب تحقق وقوع ما وعد الله به من أمر الغيوب ، فصار الماضي آتياً ، والمستقبل واقعًا. وفي الحكم : " لو أشرق نور اليقين في قلبك ، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت الدنيا وكسفةُ الفناء ظاهرةٌ عليها ". وكذلك المقادير المستقبلة والمواعيد الغيبية ، كلها عند أهل اليقين محققة الوقوع ، واجبة الحصول ، ينتظرون وقوعها في مواقيتها ، شيئًا فشيئًا ، ويتلقونها بالمعرفة والأدب ؛ فإن كانت جلالية فبالرضى والتسليم ، وإن كانت جمالية فبالحمد والشكر ، هكذا نظرهم دائمًا إلى ما يبرز من عنصر القدرة ، ليس لهم وقت دون ما هم فيه ، ولا أمل دون ما أقامهم الحق تعالى فيه ، ليس لهم عن أنفسهم إخبار ، ولا مع غير الله قرار ، ولا يستعجلون ما تأخر وقوعه من أقداره ، ولا يشركون مع الله في تدبيره واختياره. قد هجم عليهم اليقين ، فهم ، في عموم أوقاتهم ، مستغرقون في شهود المحبوب ، غائبون عن كل مرغوب ومطلوب ، سوى شهود وجه المحبوب ، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. آمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 3
قلت : {أن أنذروا} : مفسرة ، بمعنى أي ؛ لأن الوحي فيه معنى القول. أو مصدرية في موضع الجر ، بدلاً من الروح ، أو النصب بنزع الخافض ، أو مخففة من الثقيلة. وقوله : {لا إله إلا أنا} جرى على المعنى ، ولم يجر على اللفظ ، وإلا لقال : لا إله إلا الله. انظر ابن عطية. قال المحشى الفاسي : وسر ذلك هنا : التصريح بالمقصود ، وأن الإله الواحد هو المتكلم لا غيره ، كما قيل في قوله : {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ} [النّحل : 51] ، أي : ولم يقل : فإياه فارهبوا ، بل نقل الكلام من الغيبة إلى التكلم ؛ مبالغة في الترهيب ، وتصريحًا بالمقصود ، كأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد ، فإياي فارهبون لا غير. هـ.
قلت : وكأنه قال هنا : يُنزل الملائكةَ بالوحي أن أَعلِموا أنه لا يُعبد إلا إله واحد ، وأنا ذلك الواحد.
(4/4)
يقول الحقّ جلّ جلاله : تحقيقًا لِمَا وعدهم به ، وأن ذلك الوعد ، مع دنوه وقربه بالوحي ، فلا خلف فيه ، فقال : {يُنَزِّلُ الملائكةَ} أي : جبريل ، جمعه ؛ تعظيمًا ، أو : لأنه قد ينزل معه غيره من الملائكة ، فيحضرون الوحي ؛ حُرّسا له. أو : لأنه قد ينزل بالوحي غيره من الملائكة ، كما في صحيح مسلم : " إن سورة الحمد نزل بها ملك لم ينزل إلى
4
الأرض قبل ذلك " وقال عليه الصلاة والسلام : " إن إسرافيل وُكِّلَ بي في ثلاث سنين ، فكان يأتيني بالكلمة والكلمتين ، ثم كان جبريل يأتيني بالقرآن في كل وقت " ورُوي أن خالد بن سنان كان نبيًا ، وكان يأتيه بالوحي مالك خازن النار ، وكان بعد عيسى عليه السلام ، ولم يبق في النبوة إلا عشرين يومًا ، ثم مات ، فلقصر مدته لم يُعد نبيًا ، بعد عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما كانت فترة خمسمائة عام. وذكر ابن العربي أن ذا القرنين كان ينزل عليه ملك ، يقال له : رفائيل ، فكان يلقي إليه الوحي ، ويطوي له الأرض. هكذا نقل الشطيبي عنه في اللباب ، فانظره.
وقوله : {بالروح} أي : بالوحي ، أو القرآن ؛ فإنه سبب حياة القلوب والأرواح الميتة بالجهل والحجاب ، أو سبب حياة الدين بعد موته واندراسه بالكفر ؛ فإن الوحي يقوم في الدين مقام الروح من الجسد. يُنزل ذلك {من أمره} أي : من أجل أمره وبيان شأنه ، أو بأمره وإذنه ، {على مَن يشاء من عباده} أن يصطفيه للرسالة ، قائلاً لهم : {أنْ أنذروا} : خوفوا أهل الشرك ، أو أعْلِموا عبادي {أنه} أي : الأمر والشأن ، {لا إله إلا أنا فاتقون} ؛ بترك الكفر والمعاصي ، أي : اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية ، بأن تُوحدوه ، وتطيعوه فيما أمر به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 4
(4/5)
قال البيضاوي : والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة ، وأن حاصله : التنبيه على التوحيد ، الذي هو القوة العلمية ، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمالات القوة العملية. وأن النبوة عطائية - أي : لا كسبية- ، والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته ، من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه ، على وفق الحكمة والمصلحة ، ولو كان له شريك لقَدَرَ على ذلك ، فيلزم التمانع. هـ.
الإشارة : قوله تعالى : {بالروح} : قال الورتجبي : الوحي الإلهي ، سماه بالروح ؛ لأن كلامه صدر من ذاته ، وهو حياة قلوب الصديقين من المكلَّمين والمحدَّثين ، وهو سبب حياة قلوب المؤمنين ، يحييهم بعلمه من موت الجهالة. هـ.
وقال القشيري في قوله : {على مَن يشاء من عباده} : على الأنبياء بالوحي والرسالة ، وعلى أسرار أرباب التوحيد ، وهم المُحَدَّثُون بالتعريف والعلم. فالتعريف للأولياء من حيث الإلهام والخواطر ، أي : الواردات. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير ممنوعٍ ، ولكنهم لا يُؤْمَرُون أن يتكلموا بذلك ، ولا يَحْمِلون الرسالة إلى الخلق. هـ.
قلت : وكأنه ينظر إلى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " ، فهم يشاركون الأنبياء في الوحي الإلهامي ، ولا يبلغون ذلك إلا لمن صدقهم وتبعهم في طريقهم. والله تعالى أعلم.
5
جزء : 4 رقم الصفحة : 4
قلت : {والأنعام} : منصوب بمحذوف ، يفسره : {خَلَقَها} ، أو معطوف على " الإنسان " و {خلقها لكم} : بيان لما خُلقتُ لأجله ، وما بعده تفصيل له. و {منها تأكلون} : إنما قدَّم المعمول ؛ للمحافظة على رؤوس الآي ، أو : لأن الأكل منها هو المعتمد عليه في المعاش ، وأما الأكل من غيرها من سائر الحيوانات المأكولات فعلى سبيل التداوي والتفكه. قاله البيضاوي. قلت : ولعله ، عند مالك ، للاختصاص ، أي : منها تأكلون لا من غيرها ؛ إذ لا يؤكل عنده غيرها من البهائم الإنسية.
(4/6)
وقوله : {لكم} : يحتمل أن يتعلق بما قبلها أو بما بعدها ، ويختلف الوقف باختلاف ذلك. {إلا بشق} : فيه لغتان : الكسر والفتح ، بمعنى التعب والكلفة ، وقيل : المفتوح مصدر شَقَّ الأمرُ عليه ، أي : صَعُبَ ، والمكسور بمعنى : النصف ، كأنه ذهب نصف قُوَّتِهِ بالتعب. {والخيل} : عطف على " الأنعام ". و {زينة} : مفعول من أجله ، عطف على موضع " لتركبوها " : أي : للركوب والزينة ، أو مفعول مطلق ، أي : لتتزينوا بها زينة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {خلق السماوات والأرض} : أوجدهما {بالحق} أي : ملتبسًا بالحق ؛ لتدل على وحدانية الحق ، وكمال قدرته وباهر حكمته ، حيث أوجدهما على مقدار مخصوص ، وشكل بديع ، وأوضاع مختلفة ، وهيئات متعددة. أو : خلقهما بقضائه وتدبيره الحق ، لا بمشاركةِ وتدبيرِ أحد معه ، ولا بمعاونة شريك ولا ظهير ، ولذلك نزه نفسه بقوله : {تعالى عمّا يشركون} ، كما نزه نفسه ، ابتداءً ، لَمَّا نفَى الاستعجال ؛ لأنه من تدبير الخلق أيضًا والصدور عن رأيهم ، وفي معناه : تنزيل الوحي على ما يشاء لا على ما يشاء غيره ؛ لانفراده أيضًا في ملكه. وفي إبرازه ذلك ، على ما يخالف آراء الخلق ، أدل دليل على وحدانيته في ملكه ، وإنما وضع كل شيء ودبره ؛ دلالة على وحدانيته وهدايته لخلقه إليه.
6
ثم شفع بخلق الإنسان فقال : {خلق الإنسان} أي : جنسه {من نُطفة} : من ماء مهين يخرج من مكان مهين ، {فإذا هو خصيم مبين} : مجادل ، كثير الجدل والخصام ، مبين لحجته ، أو : خصيم : مكافح لخالقه ، قائل : {مَن يحيي العظام وهي رميم}. رُوي أن أُبيّ بن خَلَف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بِعَظْمٍ رَمِيم ، فقال : يا محمد ، أترَى الله يُحيِي هذا بعد ما قد رمَّ ؟ فقال : " نعم " فنزلت. فعلى الأول : تكون الآية عامة لكل إنسان ، وعلى الثاني : خاصة بالكافر. والأول أظهر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 6
(4/7)
ولمَّا ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد ، فقال : {والأنعامَ} وهي : الإبل والبقر والغنم ، {خلقها} : أوجدها {لكم فيها دِفءٌ} ؛ ما يُدْفأُ به فيقي البرد ، يعني : ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب ، {و} لكم فيها أيضًا {منافعُ} أُخر ؛ كنسلها وظهورها. وإنما عبَّر بالمنافع ؛ ليتناول عِوضها. {ومنها تأكلون} أي : تأكلون ما يؤكل منها ؛ من اللحوم والشحوم والألبان. {ولكم فيها جَمَالٌ} أي : زينة وبهجة {حين تُريحون} ؛ تردونها من مراعيها إلى مِرَاحِها بالعشي ، {وحين تسرحون} ؛ تخرجونها إلى المرعى بالغداة ؛ فإن الأفنية والمشارعَ والطرق تتزين بها في الذهاب والرواح ، ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها. وقدَّم الإراحة ؛ لأن الجمال فيها أظهر ؛ لأنها تقبل ملأى البطون ، حاملة الضروع ، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
{وتحمل أثقالكم} : أحمالكم عليها من الأمتعة وغيرها {إلى بلدٍ} بعيد ، {لم تكونوا بالغيه} عليها ، فضلاً عن أن تحملوها على ظهوركم ، {إلا بِشِقِّ الأنفس} ؛ إلا بكلفة ومشقة فديحة ، أو : إلا بذهاب شِقها ، أي : نصف قوتها من التعب. {إن ربكم لرؤوف رحيم} ؛ حيث رحمكم بخلقها وذللها للحمل ، والركوب عليها ، وأنعم عليكم بالكل من لحومها وألبانها.
(4/8)
{و} خلق لكم {الخيلَ والبغال والحميرَ لتركبوها} ، {و} تتزينوا بها {زينةً} ، أو للركوب والزينة. قال البيضاوي : وتغيير النظم - أي : حيث لم يقل : وللزينة - ؛ لأن الزينة بفعل الخالق ، والركوب من فعل المخلوق - أي : باعتبار الحكمة - ، ولأن المقصود خلقها للركوب ، وأما التزين بها فحاصل بالعَرَضِ. وقرئ بغير واو ، فيحتمل أن يكون علة لركوبها ، أو مصدرًا في موضع الحال من الضمير ، أي : متزينين ، أو متزينًا بها. واستُدِلَّ به على حرمة لحومها ، ولا دليل فيه ؛ إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يُقصد منه ، غالبًا ، ألا يقصد منه غيره أصلاً ، ويدل عليه أن الآية مكية. وعامة المفسرين والمحدثين أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. هـ. {ويخلق ما لا تعلمون} مما لا يُحيط البشرُ بعلمها ؛ من عجائب المخلوقات ، وضروب المصنوعات ، مما يؤكل ومما لا يؤكل ، وما خلق في الجنة والنار ، مما لا يخطر على قلب بشر.
7
{وعلى الله قصدُ السبيل} أي : وعلى الله بيان السبيل القصد ، أي : الطريق الموصل إلى المقصود. أو : على الله تقويم طريق الهدى ؛ بنصب الأدلة وبعث الرسل ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : السبيل القصد ، أي : القاصد المستقيم الموصل إلى المطلوب ؛ كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه. والمراد من السبيل : الجنس ، ولذلك أضاف إليه المقصد ، وقال : {ومنها جائرٌ} عن القصد ، أو عن الله ، كطريق اليهود والنصارى وغيرهم. والسبيل بمعنى الطريق ، يُذكر ويؤنث ، وأُنِّثَ هنا. وتغيير الأسلوب - أي : حيث لم يقل : قصد السبيل والجائر - ؛ لأنه ليس بحق على الله أن يبين طريق الضلالة ، ولأن المقصود ، بالأصالة ، بيان سبيله ، وتقسيمُ السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. {ولو شاء لهداكم أجمعين} أي : ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل ، هداية مستلزمة للاهتداء. قاله البيضاوي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 6
(4/9)
الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي ، وخلقت من أجله ، السماوات تُظله ، والأرض تُقله ، والحيوانات تخدمه وتنفعه ، يتصرف فيها ؛ خليفة عن الله في ملكه. فالواجب عليه شكر هذه النعم ، وألا يقف معها ، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى ، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال : " يا ابنَ آدم ، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي ، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله " والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها ، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها ؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته ، محصورًا في هيكل ذاته ، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني ، المحيط بالأواني ، والمفني لها ، بصحبة شيخ كامل ، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله : {وعلى الله قصد السبيل} : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه ، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه ، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء ، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح ، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح ، وهو النعيم الأكبر ؛ قال تعالى : {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} [التّوبَة : 72]. فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب ، وهم أهل الشرائع ، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب ، وهم أهل الحقائق ، وهم المقربون ، نفعنا الله بهم ، وخرطنا في سلكهم. آمين.
8
جزء : 4 رقم الصفحة : 6
(4/10)
قلت : {لكم منه شراب} : يحتمل أن يتعلق بأنزل ، أو يكون في موضع خبر {شراب} ، أو صفة لماء ؛ و {مواخر} : جمع ماخرة ، يقال : مخرت السفينة الماء مخرًا : شقّته ، وقيل : المخر : صوت جَرْىِ الفلك في البحر من هبوب الريح. وقيل : معناه : تجيء وتذهب بريح واحدة. و {لتبتغوا} : عطف على " لتأكلوا " ، و {أن تميد} : مفعول من أجله ، أي : كراهة أن تميد بكم. و {أنهارًا وسُبلاً} : مفعول بمحذوف ، أي : وخلق أو وجعل أنهارًا ، وقيل : معطوف على " رواسي " ؛ لأن ألقى ، فيه معنى الجعل ، و {علامات} : عطف على {أنهارًا وسبلاً} ، أو نصب على المصدر ، أي : ألقى ذلك ؛ لعلكم تعتبرون ، وعلامات دالة على وحدانيته.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {هو الذي أنزل من السماء} أي : السحاب ، أو جانب السماء ، {ماء} : مطراً {لكم منه شراب} تشربونه بلا واسطة ، أو بواسطة العيون والأنهار والآبار ؛ لأنه يُحبس فيها ، ثم يشرب منها ، لقوله : {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأَرْضِ} [الزُّمَر : 21] ، وقوله : {فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأَرْضِ} [المؤمنون : 18] ، {ومنه شجرٌ} أي : ومنه يكون شجر ، يعني : الشجر الذي ترعاه المواشي ، وقيل : كل ما نبت على الأرض فهو شجر ، {فيه تُسِيمُون} : ترعون مواشيكم ، من أسام الماشية : رعاها ، وأصلها : السومة ، التي هي العلامة ؛ لأنها تؤثر بالرعي علامات.
{يُنبتُ لكم به الرزعَ} وقرأ أبو بكر بالنون ؛ على التفخيم ، {والزيتونَ والنخيلَ والأعناب ومن كل الثمرات} أي : ومن بعض كل الثمرات ؛ إِذْ لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار. قال البيضاوي : ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه ؛ لأنه سيصير غذاءً حيوانيًّا هو أشرف الأغذية - يعني اللحم - ، ومن هذا : تقديم الزرع ، والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها. هـ.
9
(4/11)
{إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون} ، فيستدلون على وجود الصانع وباهر قدرته ، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض يابسة ، ويصل إليها نداوة تنفذ فيها ، فينشق أعلاها ، ويخرج منه ساق الشجر ، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها ، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار ، والأكمام والثمار ، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع ، مع اتحاد المواد ، عَلِمَ أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار ، مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد ، ولعل وصل الآية به ؛ لذلك. قاله البيضاوي باختصار.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 9
وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ والشمس والقمرَ والنجومَ} ؛ بأن هيأها لمنافعكم ، {مسخراتٍ بأمره} ، أي : مذللات لما يريد منها ، وهو حال من الجميع ، أي : نفعكم بها حال كونها مسخرات لله ، منقادة لحكمه ، أو لما خلقن له ، {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} أي : لأهل العقول السليمة الصافية من ظلمة الغفلة والشهوات ، وإنما جمع هنا ، دون ما قبله وما بعده ؛ لأن الأولى راجعة إلى إنزال المطر ، وهو متحد ، والثالثة راجعة إلى ما ذرأ في الأرض ، وهو متحد في الجنس والهيئة ، بخلاف العوالم العلوية ، فإنها مختلفة في الجنس والهيئة. وقال البيضاوي : جمع الآية وذكر العقل ؛ لأنها تتضمن أنواعًا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة ، غير مُحْوِجَةٍ إلى استيفاء فكر ، كأحوال النبات. هـ.
{وما ذرأ} أي : وسخر لكم ما ذرأ ، فهو عطف على الليل ، أي : سخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوانات ونبات ، {مختلفاً ألوانه} ؛ أبيض وأسود ، أحمر وأصفر ، مع اتحاد المادة ، فالماء واحد والزهر ألوان ، {إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون} ؛ يتذكرون أن اختلافها في الألوان والطبائع ، والهيئات والمناظر ، ليس إلا بصنع صانع حكيم.
(4/12)
{وهو الذي سخَّر البحرَ} : ذلله بحيث هيأه للتمكن من الانتفاع به ؛ بالركوب فيه ، والاصطياد ، والغوص ، {لتأكلوا منه لحمًا طريًّا} هو السمك ، ووصفة بالطراوة ؛ لأنه أرطب اللحوم ، فيسرع إليه الفساد ، فيسارع إلى أكله طريًّا ، ولإظهار قدرته في خلقه ؛ عذبًا طريًّا في ماء زُعاق أُجاج ، واحْتَج به مالك على أن من حلف ألا يأكل لحمًا حنث بأكل السمك ، وأجيب بأن مبني الأيمان على العُرف ، وهو لا يُفهم منه عند الإطلاق ؛ ألا ترى أن الله سمى الكافر دابة ، ولا يحنث من حلف ألا يركب دابة بركوبه. قاله البيضاوي. ويجاب بالاحتياط ؛ فالحنث يقع بأدنى شيء ، بخلاف البِر ، لا يقع إلا بأتم الأشياء.
10
{وتستخرجوا منه حِلْيةً} ؛ كاللؤلؤ والمرجان ، {تلْبسونها} ؛ يلبسها نساؤكم ، وأسند اللباس إليهم ؛ لأن لباس النساء تزين للرجال ، فكأنه مقصودٌ لهم ، {وترى الفلك} : السفن {مواخر فيه} ؛ جواري فيه تمخر الماء ، أي : تشقه ، أو تُصوت من هبوب الريح ، {ولتبتغوا من فضله} : من سعة رزقه ؛ بركوبه للتجارة ، أو : وترى الفلك جواري فيه ؛ لتركبوها ، ولتبتغوا من سعة رزقه. قال ابن عطية : فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح. هـ. {ولعلكم تشكرون} أي : تعرفون نعم الله فتقوموا بشكرها. ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر ؛ لأنه أقوى في باب الإنعام ؛ من حيث جعل المهالك سببًا للانتفاع ، وتحصيل المعاش. قاله البيضاوي.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 9
(4/13)
وألقى في الأرض رواسي} ؛ جبالاً رواسي أرست الأرض ؛ كراهة {أن تميد بكم} ؛ تميل وتضطرب ؛ لأن الأرض قبل أن تُخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة ، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر ، فلما خُلقت الجبال تقاومت جوانبها ؛ بثقلها نحو المركز ، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل : لما خلق الله الأرض جعلت تمور - أي : تتحرك - فقالت الملائكة : ما يستقر أحد على ظهرها ، فأصبحت وقد أرْسيَتْ بالجبال. {وأنهارًا} أي : وجعل فيها أنهارًا تطرد ؛ لسقي الناس والبهائم ، وسائر المنافع ، وذكره بعد الجبال ؛ لأن الغالب انفجارها منها ، {وسُبلاً} أي : وجعل فيها طُرقًا {لعلكم تهتدون} لمقاصدكم ، أو لمعرفة ربكم ، بالنظر في دلالة هذه المصنوعات المتقدمة ، على صانعها. {و} جعل فيها {علاماتٍ} : معالم يَسْتَدِلُّ بها السابلة على معرفة الطرق ؛ من الجبال ، والمناهل ، والرياح ، وغير ذلك ، {وبالنجم هم يهتدون} إلى الطرق بالليل ، في البراري والبحار ، والمراد بالنجم : الجنس ، بدليل قراءة : " وبالنُّجُمِ " ؛ بضمتين ؛ على الجمع. وقيل : المراد : الثريا ، والفرقدان وبنات نعش ، والجَدْي. والضمير لقريش ؛ لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة ، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم ، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب ، وتقديم النجم ، وإقحام الضمير ؛ للتخصيص ، كأنه قيل : وبالنجم خصوصًا ، هؤلاء خصوصًا يهتدون ، يعني : قريشًا ، فالاعتبار بذلك ، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم. هـ. وأصله للزمخشري.
الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء ، أي : علمًا لدنيًا تحيا به القلوب ، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب ، خمرة تحيا بها الأرواح ، وتغيب عن حضرة الأشباح ، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل ، تثمر بالأذواق ، فيه تسيمون ، أي : في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم ، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم ، فمن وقف مع حلاوة العمل ، أو المقامات أو الكرامات ، بقي محجوبًا عن
11
(4/14)
ربه ، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :
وَراعِها ، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ
وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم : " ربما وقفت القلوب مع الأنوار ، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار ".
وقال الششتري :
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما
تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة ، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة ، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة ، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض ، ونهار البسط ؛ لتسكنوا فيه ؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا ، ولتبتغوا من فضله ؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء ، فتشرق حينئذ شمس العرفان ، ويستنير قمر الإيمان ، وتطلع نجوم العلم ، كل مسخر في محله ، لا يستتر أحد بنور غيره ، وهذا مقام أهل التمكين ، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية ، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة ، وهو الذي سخر بحر المعاني ؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا ؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر ، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم ، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 9
وترى الفلك ، أي : سفن الفكرة ، فيه مواخر ؛ عائمة في بحر الوحدة ، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت ؛ لتبتغوا من فضله ، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته ، ولعلكم تشكرون ، فتقيدوا هذه النعم الجسام ؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول ؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى ، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها ، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها ، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام ، ثم إلى قمر توحيد البرهان ، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 9
12
(4/15)
قلت : {وما يشعرون أيان يبعثون} ، الضمير الأول للأصنام ، والثاني للكفار الذين عبدوهم ، وقيل : للأصنام فيهما ، وقيل : للكفار فيهما ، و {لا جرم} : إما أن يكون بمعنى لا شك ، أو لا بدّ ، أو تكون " لا " نفيًا لِمَا تقدم. و " جَرَم " : فعل ، بمعنى وجب ، أو حق ، و {أن الله} : فاعل بجَرَم.
{يقول الحقّ جلّ جلاله} : {أفمن يَخلُقُ} كل شيء ، ويَقدر على كل شيء ، {كمن لا يَخْلُق} شيئًا ، ولا يقدر على شيء ، بل هو أعجز من كل شيء ؟ وهو إنكار على من أشرك مع الله غيره ، بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته ، وباهر حكمته ، بذكر ما تقدم من أنواع المخلوقات وبدائع المصنوعات ، وكان حق الكلام : أفمن لا يخلق كمن يخلق ، لكنه عكس ؛ تنبيهًا على أنهم ، بالإشراك بالله ، جعلوه من جنس المخلوقات العجزة ، شبيهًا بها. والمراد بمن لا يخلق ، كل ما عُبد من دون الله ، وغلب أولي العلم منهم ، فعبَّر بمن ، أو يريد الأصنام ، وأجراها مجرى أولي العلم ؛ لأنهم سموها آلهة ، ومن حق الإله أن يعلم ، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق. {أفلا تذكَّرون} ؛ فتعرفوا فساد ذلك ؛ فإنه لظهوره كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات.
ولما ذكر أنواعًا من المخلوقات على وجه الاستدلال على وحدانيته - وفي ضمنها : تعداد النِعَم على خلقه - أعقبها بقوله : {وإن تعدوا نِعمةَ الله لا تُحصوها} أي : لا تطيقوا عدها ، فضلاً أن تطيقوا القيام بشكرها. ثم أعقبها بقوله : {إنَّ الله لغفور رحيم} ؛ تنبيهًا على أن العبد في محل التقصير ، لولا أن الله يغفر له تقصيره في أداء شكر نعمه ، ويرحمه ببقائها مع تقصيره في شكرها.
(4/16)
{والله يعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون} من عقائدكم وأعمالكم ، وهو وعيد لمن كفر النعم وأشرك مع الله غيره ، سرًا أو علانية ، ثم قال تعالى : {والذين تدعون} أي : والأصنام الذين تعبدونهم {من دون الله لا يَخْلُقون شيئًا} ؛ لظهور عجزهم. لَمَّا نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق ، بيَّن أنها لا تخلق شيئًا ؛ ليتحقق نفي الألوهية عنها ؛ ضرورةً. ثم علل عجزها ، وعدم استحقاقها للألوهية بقوله : {وهم يُخْلقون} أي : وهم مخلوقون مفتقرون في وجودهم إلى التخليق ، والإله لا بدّ أن يكون واجب الوجود.
جزء : 4 رقم الصفحة : 12
وهم ، أيضًا ، {أمواتٌ غير أحياء} أي : لم تكن لهم حياة قط ، ولا تكون ، وذلك أغرق في موتها ممن تقدمت له حياة ، ثم مات. والإله ينبغي أن يكون حيًا بالذات لا يعتريه الممات. {وما يشعرون أيّان يُبعثون} أي : لا يعلمون وقت بعثهم ، أو بعثِ عَبَدَتِهِمْ ، فكيف يكون لهم وقت يجازون فيه من عبدهم ، والإله ينبغي أن يكون عالمًا بالغيوب ، قادرًا على الجزاء لمن عبده ؟ وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف. قاله البيضاوي.
13
قال ابنُ جُزَيْ : نفى عن الأصنام صفة الربوبية ، وأثبت لهم أضدادها ؛ وهي أنهم مخلوقون غير خالقين ، وغير أحياء ، وغير عالمين وقت البعث ، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم ، أثبت الربوبية لله وحده ، فقال : {إلهكم إله واحد}. هـ. وهو تصريح بما أقام عليه الحجج والبراهين بما تقدم.
(4/17)
ثم ذكر سبب إصرارهم على الكفر - وهو إنكار البعث والتكبر - فقال : {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم مُنْكِرةٌ وهم مستكبرون} أي : فالمنكرون للبعث قلوبهم منكرة لوحدانيته تعالى ، وهم مستكبرون عن اتّباع الرسل فيما جاؤوا به ، والخضوع لهم ؛ لأن المؤمن بالآخرة يكون طالبًا للدلائل ، متأملاً فميا يسمع ، فينتفع به ، خاضعًا للحق ، متبعًا لمن جاء به ، بخلاف الكافر ، يكون حاله بالعكس ؛ منهمكًا في الغفلة ، متبعًا للهوى ، يُنكر بقلبه ما لا يعرف إلا بالبرهان ، اتّباعًا للأسلاف ، وتقليدًا لهم ، وركونًا إلى المالوف.
قال تعالى : تهديدًا لمن هذا وصفه : {لا جَرَمَ} : لا بدّ ، أو لا شك ، أو حَقٌّ {أنَّ الله يعلم ما يُسرون وما يعلنون} ، فيجازيهم عليه ؛ {إنه لا يحب المستكبرين} مطلقًا ، فضلاً عن الذين استكبروا عن توحيده واتّباع رسوله. ومفهومه : أنه يحب المتواضعين الخاضعين للحق ، ولمن جاء به ، وهم المؤمنون. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق ، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب ؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء ، قادر على كل شي ، دائم لا يموت ، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف ، لا يقدر على نفع نفسه ، فكيف ينفع غيره ؟ {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} ، {والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء}. وأنشدوا في هذا المعنى :
حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ
وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا
فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً
أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا
جزء : 4 رقم الصفحة : 12
وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها
فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى
(4/18)
والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده ، وتقريبُه وجعله نصب العين ؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية ، والاستعداد والتأهب للدار الباقية ، وبه تلين القلوب ، وتتحقق بعلم الغيوب ، وبه يحصل الخضوع للحق ، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره ، أو استبعده ، قال تعالى : {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون}.
الخصلة الثالثة : التواضع والخضوع لله ، ولمن دعا إلى الله ، وهو سبب المحبة من الله ، ورفع الدرجات عند الله ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله "
14
وقال أيضًا : " مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره ، رَفَعَهُ فوق قَدْره " بخلاف المتكبر ؛ فإنه ممقوت عند الله ، مطرود عن باب الله ؛ قال تعالى : {إنه لا يحب المستكبرين}. وفي الحديث : " لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ " ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، " والتكبر : بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس " ، أي : جحد الحق ، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 12
قلت : {ماذا} ، يجوز أن يكون اسمًا واحدًا مركبًا منصوبًا بـ {أَنزل} ، وأن تكون (ما) : استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، و (ذا) : بمعنى " الذي " : خبر ، وفي أنزل ضميرٌ محذوف ، أي : ما الذي أنزله ربكم ؟ واللام في {ليحملوا} : لام العاقبة والصيرورة ، أي : قالوا : هو أساطير الأولين ؛ فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم ، وقيل : لام الأمر ، و {بغير علم} : حال من المفعول في {يُضلونهم} ، أو من الفاعل ، و {تُشاقُّون} : من قرأه بالكسر ؛ فالمفعول : ضمير المتكلم ، وهو الله تعالى ، ومن قرأه بالفتح ؛ فالمفعول محذوف ، أي : تشاقون المؤمنين من أجلهم. و {ظالمي أنفسهم} : حال من ضمير المفعول في : " تتوفاهم ".
(4/19)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإذا قيل لهم} أي : كفار قريش : {ماذا أنزل ربكم} على رسوله محمد - عليه الصلاة والسلام - ؟ {قالوا} : هو {أساطير الأولين} أي : ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات. وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ ، ويقول : إنما يُحدِّث مُحمدٌ بأساطير الأولين ، وحديثي أجمل من حديثه. والقائل لهم
15
هم المقتسِمُون ، وتسميته ، حينئذ ، مُنزلاً ؛ إما على وجه التهكم ، أو على الفَرض والتقدير ، أي : على تقدير أنه منزل ، فهو أساطير لا تحقيق فيه. ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين ، فلا يحتاج إلى تأويل.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 15
ليحملوا أوزارهَم كاملةً يوم القيامة} أي : قالوا ذلك ؛ ليُضلوا الناس ، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة ، {ومن أوزارِ الذين يُضلونهم} : وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم - وهو حصة التسبب في الوقوع في الضلال - حال كونهم {بغير علم} أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل. وفيه دليل على أن الجاهل في العقائد غير معذور ؛ إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله ، وينظر في دلائله وحُججه.
قال البيضاوي : {بغير علم} : حال من المفعول ؛ أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل ، وفائدتها : الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم ؛ إذ كان عليهم أن يبحثوا ، ويميزوا بين المحق والمبطل. هـ. وقال المحشي : ففيه ذم تقليد المبطل ، وأن مقلده غير معذور ، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة ، أو غير ذلك ، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته. هـ.
قلت : ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل ، أي : يُضِلُّونَ في حال خلوهم من العلم ، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال.
قال تعالى في شأن أهل الإضلال : {ألا سَاءَ ما يَزِرُون} ، أي : بئس شيئًا يزرونه فعلهم هذا.
(4/20)
{قد مكر الذين من قَبلِهم} أي : دبروا أمورًا ليمكروا بها الرسل ، {فأتى اللهُ بُنيانهم من القواعد} أي : قصد ما دبروه من أصله ، فهدمه ، {فخرَّ عليهم السَّقْفُ من فوقهم} ، وصار ما دبروه ، وبنوه من المكر ، سبب هلاكهم ، {وأتاهم العذابُ من حيث لا يشعرون} ؛ لا يحتسبون ولا يتوقعون ، وهو على سبيل التمثيل. وقال ابن عباس وغيره : المراد به نمرود بن كنعان ، بنى الصرح ببابل ، سُمْكُهُ خمسة آلاف ذراع ؛ ليترصّد أمر السماء ، فبعث الله ريحًا فهدمته ، فخرَّ عليه وعلى قومه ، فهلكوا ، وقيل : إن جبريل عليه السلام هدمه ، فألقى أعلاه في البحر ، وانجعف من أسفله.
{ثم يَوْمَ القيامة يُخزيهم} : يذلهم ويعذبهم بالنار ، {ويقول أين شركائِيَ} ، أضافها إلى نفسه ؛ استهزاء ، أو حكاية لإضافتهم إياها إليه في الدنيا ؛ زيادةً في توبيخهم ، أي : أين الشركاء {الذين كنتم تُشاقون فيهم} : تعادون المؤمنين في شأنهم ، أو تشاقونني في شأنهم ؛ فإن مُشاقة المؤمنين كمشاقته ، أو تحاربون وتخارجون ، فتكونون في شق والحق
16
في شق ، {قال الذين أُوتوا العلم} ؛ وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد ، فيشاققونهم ويتكبرون عليهم ، أو الملائكة : {إنّ الخزي اليوم والسُّوءَ} : الذلة والعذاب {على الكافرين}. وفائدة قولهم ذلك لهم : إظهارُ الشماتة وزيادة الإهانة ، وحكايته ، ليكون لطفاً لمن سمعه من المؤمنين ، فيزيد حذرًا وحزمًا في الطاعة ، وقال الواحدي : إن الخزي اليوم والسوء عليهم لا علينا. هـ. أي : فيقولونه ؛ اعترافًا واستبشارًا بإنجاز ما وعدهم الله ، كما قالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذه الهداية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 15
(4/21)
ثم وصفهم بقوله : {الذين تتوفاهم الملائكةُ} ؛ تقبض أرواحهم {ظالمي أنفسِهِم} ؛ بأن عرضوها للعذاب المخلد ، {فألقَوُا السَّلَمَ} أي : استسلموا ، وألقوا القياد من أنفسهم ، حين عاينوا الموت ، قائلين : {ما كنا نعملُ من سُوء} : من كفر وعدوان ، يحتمل أن يكون قولهم ذلك قصدوا به الكذب ؛ اعتصامًا به ، كقولهم : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعَام : 23] ، أو يكونوا أخبروا على حساب اعتقادهم في أنفسهم ، فلم يقصدوا الكذب ، ولكنه كذب في نفس الأمر. قال الحسن : هي مواطن ، فمرة يُقرون على أنفسهم ، كما قال تعالى : {وَشَهِدُواْ عَلَىا أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعَام : 130] ، ومرة يجحدون كهذه الآية ، فتجيبهم الملائكة بقولهم : {بلى} قد كنتم تعملون السوء والعدوان ، {إن الله عليم بما كنتم تعملون} فهو يجازيكم عليه. وقيل : إن قوله : {فألقَوُا السَّلَمَ} إلى آخر الآية ، راجع إلى شرح حالهم يوم القيامة ، فيتصل في المعنى بقوله عزّ وجلّ : {أين شركائي الذين كنتم تُشاقون فيهم} إلخ ، فيكون الرَّادُ عليهم بقوله : {بلى) ، هو الله تعالى ، أو : أولو العلم ، ويُقوي هذا قوله بعده {فادخلوا أبواب جهنم} ؛ لأن دخولها لا يكون إلا بعد البعث والحساب ، لا بعد الموت ؛ إذ لا يكون بعد الموت إلا العرض عليها غُدوًا وعشيًا ، والمراد بدخول أبوابها ، أي : التي تفضي إلى طبقاتها ، التي هي بعضها على بعض ، وأبوابها كذلك ، كل صنف يدخل من بابه المُعَدِّ له ، {خالدين فيها فلبئس مثوى} أي : مقام {المتكبرين} جهنم. الإشارة : وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار : ماذا أنزل ربكم ، على قلوب أولياء زمانكم ؛ من المواهب وأسرار الخصوصية ؟ قالوا : أساطير الأولين ، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم ؛ لتطهير قلوبهم ، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون. ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم ، بل جهلاً وعنادًا(4/22)
وحسدًا ، ألا ساء ما يزرون.
قلت : الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف : علماء السوء ، وفقراء السوء - وهم أهل الزوايا والنسبة - ، وقراء السوء ؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم ، والمنظور إليهم ، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا ، وقصروا في الدين ، تبعوهم على ذلك ؛ فضلوا معهم ، فقد ضلوا وأضلوا ، وإذا أنكروا على أولياء الله ، ومكروا بهم ، اقتدوا بهم في
17
ذلك فيتولى الله حفظ أوليائه ، ويهدم مكرهم ؛ قال تعالى : {فأتى الله بنيانهم من القواعد}... الآية ، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته ، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا ، يقال لهم : {بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون} ، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب ، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 15
قلت : {خيراً} : منصوب بفعل محذوف ، أي : أنزل خيرًا ، فهو مطابق للسؤال ؛ لأن المؤمنين معترفون بالإنزال ، بخلاف قوله : {أساطير الأولين} ؛ فهو مرفوع على الخبر ؛ لأنهم لا يُقرون بالإنزال ، فلا يصح تقدير فعله. وإنما عدلوا بالجواب عن السؤال ؛ لإنكارهم له ، وقالوا : هو أساطير الأولين ولم ينزله الله. و {للذين} : خبر ، و {حسنة} : مبتدأ ، والجملة : بدل من {خيرًا} ، أو تفسير الخير الذي قالوه ، والظاهر أنه استئناف من كلام الحق. {جنات عدن} : يحتمل أن يكون هو المخصوص بالمدح ، فيكون مبتدأ ، وخبره فيما قبله ، أو خبر ابتداء مضمر ، أو مبتدأ ، وخبره : {يدخلونها} ، أو محذوف ، أي : لهم جنات عدن. و {طيبين} : حال من مفعول " توفاهم ".
(4/23)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقيل للذين اتقوا} الشرك ، وهم المؤمنون : {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا} ، أي : أنزل خيرًا ، مقرين بالإنزال ، غير مترددين فيه ولا متلعثمين عنه ، على خلاف الكفرة ؛ لمَّا ذكر الحق تعالى مقالة الكفار الذين قالوا : أساطير الأولين ، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأوجب لكل فريق ما يستحق من العقاب أو الثواب ، رُوي أن العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاء الوفد ، وسأل المقتسمين ، من الكفار ، قالوا له : أساطير الأولين ، وإذا سال المؤمنين : ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا : خيرًا. فنزلت الآية في شأن الفريقين.
ثم ذكر جزاء المؤمنين فقال : {للذين أحسنوا في هذه الدنيا} بالإِيمان والطاعة ، {حسنة} أي : حالة حسنة ؛ من النصر ، والعز ، والتمكين في البلاد ، مع الهداية للمعرفة والاسترشاد. {ولَدارُ الآخرةِ خيرٌ} أي : ولثواب الآخرة خير مما قدَّم لهم في الدنيا ؛ لدوامه ، وصفائه ، وعظيم شأنه ، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله لا يَظْلِمُ
18
المُؤْمِنَ حَسَنةً ، يُثَابُ عَلَيها الرزْقَ فِي الدُّنيَا ، ويُجَازَى بِهَا فِي الآخِرَة " {ولنعم دارُ المتقين} دار الآخرة ، حذفت ، لتقدم ذكرها ، أو هي : {جناتُ عدنٍ يدخلونها} على الأبد ، {تجري من تحتها الأنهارُ لهم فيها ما يشاؤونَ} من أنواع المشتهيات ؛ حسية ومعنوية ، وفي تقديم الظرف في قوله : {فيها} ؛ تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريد إلا في الجنة. قاله البيضاوي.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 18
(4/24)
كذلك يَجزي اللهُ المتقين} الذين قالوا خيرًا وفعلوا خيرًا ، وأحسنوا في دار الدنيا حتى ماتوا على الإحسان ، كما قال : {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} : طاهرين من ظُلم أنفسهم بالكفر والمعاصي ؛ لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم ، وقيل : فرحين ؛ لبشارة الملائكة إياهم بالجنة ، أو طيبين بقبض أرواحهم ؛ لتوجه نفوسهم بالكلية إلى الحضرة القدسية. قاله البيضاوي. وقال ابن عطية : {طيبين} : عبارة عن صلاح حالهم ، واستعدادهم للموت. وهذا بخلاف ما قال في الكفرة : {ظَالِمِيا أَنْفُسِهِم} [النساء : 97 ؛ والنحل : 28] ، والطيب لا خبث معه ، ومنه قوله تعالى : {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا} [الزُّمَر : 73]. هـ.
وقال الترمذي الحكيم : {طيبين} أي : مستعدين للقاء ، يُسلَّم عليهم ، ويقال لهم : ادخلوا الجنة بلا هول ولا حساب ، بخلاف غير المستعد للقاء ، فإنما يسلم عليه ، ويقال له : ادخل الجنة بعد أهوال القبر وأهوال القيامة. هـ. وهذا معنى قوله : {يقولون سلام عليكم} ؛ لا يلحقكم بعدُ مكروهٌ. وهذا لأجل الاستعداد كما تقدم. ثم تقول لهم : {ادخلُوا الجنة} بعد بعثكم ، أو بأرواحكم في عالم البرزخ ، إن كانوا من الشهداء أو الصديقين ، {بما كنتم تعملون} في دار الدنيا.
(4/25)
فإن قلت : كيف التوفيق بين الآية وبين الحديث : " لن يَدْخُل أحدُكُم الجَنَّة بعَمَلِهِ ، قالوا : ولا أَنْتَ ؟ قَالَ : ولا أَنَا ، إِلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِه " ؟ فالجواب : أن الهداية لصالح العمل ، والتوفيق له ، هو برحمة الله أيضًا ، فالعمل الصالح رحمة من رحمات الله ، فما دخل أحد الجنة إلا برحمته ، فرجعت الآية إلى الحديث. ومقصد الحديث : نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل ، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة. وهنا جواب آخر صوفي ؛ وهو الجمع بين الحقيقة والشريعة ، فنسبة العمل إلى العبد شريعة ، ونفيه عنه ، بإجراء الله ذلك عليه ، حقيقة. فالآية سلكت مسلك الشريعة في نسبة العمل للعبد ؛ فضلاً ونعمة ؛ " من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك ". والحديث سلك مسلك الحقيقة ؛ لأن الدين كله دائر بين حقيقة وشريعة ، فإذا شرَّع القرآنُ حققته السُّنة ، وإذا شرَّعت السُّنةُ حققها القرآن. والله تعالى أعلم.
19
الإشارة : وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة : ماذا أنزل ربكم من المقادير ؟ قالوا : خيرًا ، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه ، جلاليًا كان أو جماليًا ، جعلوه خيرًا ، وتلقوه بالرضا والتسليم. يقولون : إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي فافعل ما شئت ، لا يتضعضعون ولا يسأمون ، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم ؛ لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة ، كما قال الشاعر :
جزء : 4 رقم الصفحة : 18
إِنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت منّا
احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو
أين دَعْوَاك في الهَوَى قَل لِيَ أيْنَا ؟
لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانا
لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى
(4/26)
وإنما قالوا ، في كل ما ينزل بهم : خيرًا ، أو جعلوه لطفًا وبرًا ؛ لما يجدون في قلوبهم ، بسببه ، من المزيد والألطاف ، والتقريب وطي مسافة النفس ، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين ؛ لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح ، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم ، وحلاوة القرب من الحبيب ، من أعمال القلوب ، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
وفي الخبر : " إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابْتَلاَهُ ، فَإِنْ صَبَرَ اجْتَبَاهُ ، وإِنْ رَضِيَ اصْطَفَاه " وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عَجَبًا لأمر المُؤْمن ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خَيرٌ ، وليْسَ ذلِكَ لأحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِنِ. إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شكَرَ ، فَكَانَ خَيرًا لََهَ ، وإنْ أصَابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فَكَانَ خَيرًا لَهُ " وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ ، ولا نَصَبٍ ، ولا سَقَمٍ ، ولا حَزَنٍ ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه ، إلا كفّر له من سيئاته " وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ مُسْلِم يُصِيبُهُ أَذىً من مرض فَمَا سَواه ، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا " ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول : لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله ؛ لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه. هـ. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير ، فإذا سئل : ماذا أنزل ربكم ؟ قال خيرًا.
ثم قال تعالى : {للذين أحسنوا في هذه الدنيا} ؛ أي : بالرضا عني في جميع الأحوال ، والاشتغال بذكري في كل حال ، لهم في الدنيا {حسنةٌ} : حلاوة المعرفة ،
20
(4/27)
ودوام المشاهدة ، {ولدارُ الآخرة خيرٌ} ؛ لصفاء المشاهدة فيها ، واتصالها بلا كدر ؛ إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها ، بخلاف الدنيا ؛ لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها ، كغلبة النوم ، وتشويش المرض وغيره ، بخلاف الجنة ، ليس فيها شيء من الكدر ، ولذلك مدحها بقوله : {ولَنِعْمَ دارُ المتقين}.
جزء : 4 رقم الصفحة : 18
ثم قال : {كذلك يجزي الله المتقين} لكل ما يشغل عن الله ؛ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، طاهرين ، مطهرين من شوائب الحس ، ودنس العيوب ، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء ، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة ، وقلوبهم بحسن المراقبة ، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة. تقول لهم الملائكة الكرام : سلام عليكم ، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم ، وجنة الزخارف إثر بعثكم ؛ بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات ، وتطهير قلوبكم من الغفلات ، وتطهير أرواحكم من الفترات. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 18
يقول الحقّ جلّ جلاله : {هل ينظرون} أي : ما ينظر هؤلاء الكفرة ، الذين قالوا فيما أنزل الله من الوحي : هو أساطير الأولين ، {إلا أن تأتيهُم الملائكةُ} ؛ لقبض أرواحهم ، {أو يأتي أمرُ ربك} : قيام الساعة ، أو العذاب المستأصِل لهم في الدنيا ، {كذلك} أي : مثل ذلك التكذيب والشرك ، {فعل الذين من قبلهم} ، فأصابهم ما أصابهم ، {وما ظلمهم الله} بإهلاكهم ، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} ؛ لكفرهم ومعاصيهم ، المؤدية إلى عذابهم. {فأصابهم} جزاء {سيئات ما عملوا} من الكفر والمعاصي ، وهو العذاب ، {وحاقَ} أي : وأحاط {بهم ما كانوا به يستهزئون} أي : نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به. والحيْق لا يكون إلا في الشر.
21
(4/28)
{وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء} ؛ كالبحائر والسوائب والحوامي. قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة ، والاحتجاج على صحة فعلهم ، أي : إنَّ فِعْلَنَا هو بمشيئة الله ، فهو صواب ، ولو شاء الله ألا نفعله ما فعلناه. والجواب : أن الاحتجاج بالقدر لا يصح في دار التكليف ، وقد بعث الله الرسل بالنهي عن الشرك ، وتحريم ما أحل الله ، ونحن مكلفون باتباع الشريعة ، لا بالنظر إلى فعل الحقيقة من غير شريعة ؛ فإنه زندقة ؛ فالشريعة رداء الحقيقة ، فمن خرق رداء الشريعة ، وتمسك بالحقيقة وحدها ، فقد استحق العقاب ، ولذلك قال تعالى : {كذلك فعل الذين من قَبلهم} ؛ فأشركوا بالله ، وحرموا ما أحل الله ، وردوا رسله. {فهل على الرسلِ إلا البلاغُ المبين} أي : الإبلاغ الموضح للحق ؛ فمن تمسك بما جاؤوا به فهو على صواب ، ومن أعرض عنه فهو على ضلال ، ولا ينفعه تمسكه بالحقيقة من غير اتباع الشريعة. والحقيقة هي أنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد ، طاعة كان أو معصية ، كفرًا أو إيمانًا ، لكن الأمر غير تابع للإرادة ، ونحن مكلفون باتباع الأمر فقط.
جزء : 4 رقم الصفحة : 21
(4/29)
ثم بيَّن أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم الماضية ، جعلها سببًا لهدى من أراد اهتداءه ، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله ، كالغذاء الصالح ، فإنه ينفع المزاج السوي - أي : المعتدل - ويقويه ، ويضر المزاج المنحرف ويعييه ، فقال : {ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً} قائلاً : {أن اعبدُوا الله واجتنبوا الطاغوت} ؛ أي : يأمر بعبادة الله وحده واجتناب ما سواه ، {فمنهم من هدى الله} ؛ وفقهم للإيمان وأرشدهم إليه ، {ومنهم من حقتْ عليه الضلالةُ} ؛ فلم يوفقهم ، ولم يُرد إرشادهم ؛ فليس كل من تمسك بشيء وأمْهل فيه يدل أنه على صواب ، كما ظن المشركون ، بل النظر إلى ما جاءت به الرسل من الشرائع ، وكلها متفقة على وجوب التوحيد وإبطال الشرك. ثم أمرهم بالنظر والاعتبار بحال من أشرك وكذب الرسل ، فقال : {فسيروا في الأرض} يا معشر قريش ، {فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} ؛ كعاد وثمود وغيرهم ، لعلكم تعتبرون.
ثم نهى نبيه عن الحرص عليهم فقال : {إنْ تَحرِصْ} يا محمد {على هُداهم فإن الله لا يَهْدي من يُضِلُّ} أي : من يريد إضلاله وقضى بشقائه ؛ وهو الذي حقت عليه الضلالة ، وقرأ غير الكوفيين بالبناء للمفعول ، وهو أبلغ ، أي : فإن الله لا يُهدي من يضله ، أي : لا يهدي غيرُ الله من يريد اللهُ إضلاله. {وما لهم من ناصرين} ؛ ليس لهم من ينصرهم ؛ يدفع العذاب عنهم.
الإشارة : هل ينظر مَن عكف على دنياه ، وأكب على متابعة حظوظه وهواه ، إلا أن تنزل الملائكة لقبض روحه ، فيندم حيث لا ينفع الندم ، وقد زلت به القدم ، فيتمنى ساعة
22
(4/30)
تُزاد في عمره فلا يجدها ، أو يأتي أمر ربك ؛ أمرٌ يحول بينه وبين العمل الصالح كمرض مزمن ، أو فتنة مضلة. كذلك فعل من قبله ، اغتر بدنياه حتى اختطف لأخراه. وما ظلمهم الله ، بل بعث الرسل وأخلفهم بأهل الوعظ والتذكير ، فحادوا عنهم ، فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا من الغفلة والبطالة ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ، من وبال التقصير ، وفوات مقام أهل الجد والتشمير.
وقال الذين أشركوا في محبة الله سواه ؛ من الحظوظ وزهرة الدنيا : لو شاء الله ما فعلنا ذلك ، محتجين بالقدر ، مع الإقامة على البطالة والخذلان. كذلك فعل مَنْ قَبْلَهُمْ من أهل الغفلة ، فهل على الرسل وخلفائهم إلا البلاغ المبين ؟ فقد حذَّروا من متابعة الدنيا ، وبلَّغوا أن الله غيور لا يُحب من أشرك معه غيره في محبته ، فقد بعث في كل أمة وعصر نذيرًا ، يأمر بعبادة الله وحده ، واجتناب كل ما سواه ؛ فمنهم من هداه الله ، فاختاره لحضرته ، فلم يُحب سواه. ومنهم من حقت عليه الضلالة عن مقام الخصوص ، فبقي في مقام البعد ؛ مُكَذِّبًا بطريق الخصوص. فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ؛ كان عاقبتهم الحرمان ولزوم الخذلان. ويقال للعارف المذكِّر لمثل هؤلاء : {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل}... الآية. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 21
قلت : {وأقسموا} : عطف على {وقال الذين أشركوا} ؛ إيذانًا بأنهم ، كما أنكروا التوحيد ، أنكروا البعث ، مقسمين عليه ؛ زيادةً في القطع على فساده ، فرد الله عليهم بأبلغ رد ، فقال : {بلى}.
23
قاله البيضاوي. وتقدم الكلام على " بلى " ، في البقرة والأعراف ، و {وعدًا} : مصدر مؤكد لنفسه ، وهو ما دل عليه {بلى} ؛ فإن {يبعث} وعد ، أي : بلى ، وعدهم ذلك وعدًا حقًا ، ونصب ابن عامر ، فيكون عطفًا على {نقول} ، أو جوابًا للأمر.
(4/31)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وأقسموا} أي : المشركون ، {بالله جَهْدَ أيمانهم} أي : أبلغها وأوكدها ، {لا يبعثُ اللهُ مَن يموت} ، فردَّ الله عليهم بأبلغ رد ، فقال : {بلى} يبعثهم ؛ {وعدًا عليه} إنجازه {حقًّا} ، لا يخلف ؛ لامتناع الخلف في وعده ، أو : لأن البعث مقتضى حكمته ؛ لتنزيه فعله عن العبث ، {ولكنّ أكثرَ الناس لا يعلمون} أنهم يُبعثون ، إما لعدم علمهم بأنه من موجبات الحكمة ، التي جرت عادته بمراعاتها ، وإما لقصور نظرهم باعتبار المألوف ، ووقوفهم مع العوائد ، فتوهموا امتناعه ، وقالوا : {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرّعد : 5] ، ولم ينظروا إلى قدرة الله التي لا يعجزها شيء.
ثم بيَّن حكمة البعث ، فقال : {ليُبيِّن لهم} أي : يبعثهم ؛ ليبين لهم {الذي يختلفون فيه} ؛ وهو الحق من الباطل ؛ فإن الناس مختلفون في أديانهم ومذاهبهم ؛ فيبعثهم الله ؛ ليُبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه ، فيظهر من كان على الحق ممن كان على الباطل ، {ولِيَعْلَم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} فيما كانوا يزعمون ؛ من عدم البعث ، وتمسكهم بالحق ، وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث ، المقتضي له من حيث الحكمة ، وهو التمييز بين الحق والباطل ، والمحق والمبطل.
ثم بيَّن كمال قدرته الموجبة للبعث وغيره فقال : {إنما قولُنا لشيء إذا أردناه أن نقولَ له كن فيكون} ، فأمره بين الكاف والنون ، فإذا كان إيجاد الأشياء من العدم بلفظ " كن " ، فأولى إعادتها. وكون أمره بين الكاف والنون كناية عن السرعة ، وإلاَّ فلا يحتاج إلى لفظ " كن " ، بل مهما أراد شيئًا ، أظهره ؛ أقرب من لحظ العيون ، وإنما جاءت العبارة على قدر ما تفهم العقول ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى ما تَعَسَّفَهُ ابن عطية وغيره ؛ من كون القول في الأزل ، وإظهاره فيما لا يزال - يعني : في وقت إظهاره - ؛ فإن الكلام إنما خرج مخرج الاستعارة أو المجاز ، فلا يتوقف إيجاد الأشياء على " كن ". والله تعالى أعلم.
(4/32)
جزء : 4 رقم الصفحة : 23
الإشارة : ترى بعضَ الجهال يقسمون بالله جهد أيمانهم : أن الله لا يفتح على فلان ، لِمَا يرون فيه من الجهل والغباوة ، أو من الطغيان والمعاصي ، فلا يبعث الله روحه بإحيائها بعد موتها ، وتلفها في عالم الحس ، مع أن القدرة صالحة ؛ قال في الحكم : " من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شيء مقتدرًا ". فإن سبقت له العناية يَقُلِ الحقُّ تعالى في شأنه : بلى ، يبعثه ، ويحيي روحه بالمعرفة واليقين ، وعدًا عليه حقًا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن قدرته عامة. فكم من جاهل غبي يخرج منه عالِمَ ولي ، وكم من خصوص خرجوا من اللصوص ، والله يختص برحمته من يشاء. يبعثهم ؛ ليُبين لهم الذي يختلفون فيه ؛ من نفوذ قدرته تعالى وعموم تعلقها ، وليعلم الذين كفروا بطريق الخصوص أنهم كانوا كاذبين فيما زعموا ؛ {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}.
24
جزء : 4 رقم الصفحة : 23
قلت : {الذين صبروا} : نعت للذين هاجروا ، أو على تقدير : (هم) ، أو نصب على المدح.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {والذين هاجروا في الله} أي : طلب رضا الله ، أو : في نصر دينه ، أو : طلب معرفته ، {من بعد ما ظُلموا} ؛ من بعد ما ظلمهم الكفار بالإيذاء والتضييق ، وهم : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون. ظلمهم قريش وضيقوا عليهم ، فهاجر بعضهم إلى الحبشة ، وبعضهم إلى المدينة. قال ابن عطية : الجمهور أنها نزلت في الذين هاجروا إلى أرض الحبشة ؛ لأن الآية مكية ، وهجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية. هـ.
قلت : والمختار : العموم ، ويكون من جملة الإخبار بما سيقع ، أو : هم المحبوسون المعذبون بمكة ، بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وهم بلال ، وصُهَيب ، وعمَّار ، وخَبَّاب ، وأبو جَنْدَل بن سُهَيل ؛ أو : كل من هاجر من بلده ؛ لإقامة دينه.
(4/33)
{لنبوِّئنَّهم في الدنيا حسنةً} أي : لننزلنهم في الدنيا بقعة حسنة ، وهي المدينة ، أو منزلة حسنة ، وهي العز والتمكين في البلاد ، وكل أمل بَلَغَهُ المهاجرون ، أو حياة حسنة ، وهي الاستقامة والمعرفة. {ولأجرُ الآخرة أكبرُ} مما يُعجل لهم في الدنيا ؛ من سعة الأموال ، وتعظيم الشأن والحال ، وهو النعيم الدائم. وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان ، إذا أَعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه من قسمْ الغنائم ، يقول له : (خذ ، بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل). والضمير في قوله : {لو كانوا يعلمون} لكفار قريش ، أي : لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم. أو للمهاجرين ، أي : لو علموا أن أجر الآخرة خير مما عجل لهم لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
ثم وصفهم بالصبر والتوكل فقال : {الذين صبروا} على الشدائد ، كأذى الكفرة ، ومفارقة الوطن ، ونزول الفاقة ، {وعلى ربهم يتوكلون} فيما نزل بهم ، منقطعين إلى الله ، مفوضين إليه الأمر كله ، فآواهم إليه ، وكفاهم كل مؤونة ، ورزقهم من حيث لا يحتسبون.
الإشارة : والذين هاجروا حظوظهم وهواهم وكل ما نهى الله عنه ؛ ابتغاء مرضات الله ، أو فارقوا أوطانهم وديارهم في طلب معرفة الله ، كما فعل كثير من الصوفية ، فقلَّ أن
25
تجد وليّا إلا وهاجر من بلده ؛ لإقامة دينه وجبر قلبه ، وإفراغ سره لربه ، من بعد ما ظُلموا بإيذاء الخلق - كما هو سنة الله في خواصه - لنبوئنهم في الدنيا حسنة ، وهي معرفة الشهود والعيان في الباطن ، واستقامة الدين والعافية في الظاهر. هذا في الدنيا ، ولأجر الآخرة أكبر وأكبر ؛ إذ فيه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. الذين صبروا على مجاهدة النفوس ، وحط الرؤوس ، ودفع الفلوس ، أو على ضروب الفاقات ، ونزول البليات ، وركوب الأهوال والآفات ، إذ لا يأتي الجمال إلا بعد الجلال ، ولا تأتي الحلاوة إلا بعد المرارة :
(4/34)
جزء : 4 رقم الصفحة : 25
لا تَحْسَب المجْد تمرًا أنت آكلُه
لنْ تبلُغَ المجْدَ حتَّى تلْعَقَ الصبْرا
وعلى ربهم يتوكلون ، أي : مفوضين في أمورهم كلها لله ، ليس لهم مع الله اختيار ، ولا لهم عن أنفسهم إخبار ، بل هم كالميت بين يدي الغاسل. حققنا الله من هذا المقام بالحظ الأوفر... آمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 25
قلت : {بالبينات} : يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية ، على التقديم والتأخير ، أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات ، فاسألوا أهل الذكر ، أو بأرسلنا ؛ مضمرًا ، وكأنه جواب سائل قال : بم أُرسلوا به ؟ فقال : بالبينات ، أو : صفة لرجال ، أي : رجالاً ملتبسين بالبينات ، أو : بيوحى. انظر البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على قريش ، حيث قالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا : وما أرسلنا من قَبْلِكَ يا محمد {إلا رجالاً} بشرًا ، {يوحى إليهم} كما يُوحى إليك. فليس ببدع أن يكون الرسول بشرًا ، بل جرت السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرًا يوحى إليه على ألسنة الملائكة ؛ إذ لا يطيق كل البشر رؤية الملائكة ولا التلقي منهم. فإن شككتم {فاسألوا أهل الذكر} : أهل الكتاب ، أو علماءهم الأحبار ، أي : الذين لم يسلموا ، لأنهم لا يتهمون في شهادتهم ، من حيث إنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنتم إلى تصديق من لم يؤمن من أهل الكتاب أقرب من تصديقكم المؤمنين منهم ، فاسألوهم ؛ ليخبروكم : هل كانت الرسل ملائكة أو بشرًا ، {إن كنتم لا تعلمون} ذلك.
26
(4/35)
قال البيضاوي : وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكًا للدعوة العامة. وأما قوله : {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} [فَاطِر : 1] ؛ فمعناه : رسلاً إلى الأنبياء. وقيل : لم يُبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال. ورُدَّ بما رُوي أنه عليه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين. وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم. هـ. ومفهوم قوله : " الدعوة العامة " أن الدعوة الخاصة ؛ كالأنبياء - عليهم السلام- ، فإن الله يبعث إليهم الملك ليعلمهم أمر دينهم.
ثم قال تعالى : {بالبينات والزُّبر} أي : أرسلناهم بالمعجزات والكتب. {وأنزلنا إليك الذكر} أي : القرآن ؛ لأنه تذكير ووعظ ، {لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم} من الأحكام ، مما أمروا به ونهوا عنه ، ومما تشابه عليهم منه. والتبيين أعم من أن ينص على المقصود ، أو يرشد إلى ما يدل عليه ، كالقياس ودليل العقل. قاله البيضاوي. قال ابن جزي : يحتمل أن يريد : لتبين القرآن بسردك نَصَّهُ وتعليمِهِ ، أو لتُبين معانيه بتفسير مُشكله ، فيدخل في هذا ما سنته السنة من الشريعة. هـ. {ولعلهم يتفكرون} في عجائبه وأسراره ، فيخوضون بسفن أفكارهم في تيار بحر معانيه وأنواره ، فينتبهون للحقائق والشرائع.
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
(4/36)
الإشارة : كما لم يبعث الله في الدعوة العامة - وهي دعوة الرسالة - إلا رجالاً من البشر ، كذلك لم يبعث الله في الدعوة الخاصة - وهي دعوة الولاية إلى سر الخصوصية - إلا رجالاً من البشر أحياء ، يُربون التربية النبوية العرفية ، فلا يصلح للتربية النساء ؛ لقلة عقلهن ، ولا الجن ؛ لانحرافه عن الاعتدال الذي في البشر ، ولا الميت ؛ لعدم وجود بشريته ؛ فإنَّ بشرية الحي تمد البشرية ، والروحانية تمد الروحانية. فلا تتهذب البشرية إلا بشهود بشرية الشيخ ، ولا تصفى الروحانية إلا بالقرب من روحانية الشيخ. ولذلك قالوا : الثدي الميتة لا تُرضع. وقولنا : " التربية العرفية " ؛ أعني : بالصحبة العرفية ، وأما التربية الغيبية ، على وجه خرق العادة ، كطيران الشيخ إلى المريد ، أو المريد إلى الشيخ ، فلا تجد صاحب هذه التربية إلا منحرفًا لإحدى الجهتين ، إما إلى الحقيقة أو إلى الشريعة ، بخلاف التربية العرفية ، فلا يكون صاحبها ، في الغالب ، إلا معتدلاً كاملاً.
وقوله تعالى : {فاسألوا أهل الذكر} ؛ هم العارفون بالله ، فإذا أشكل علينا أمر من أمر القلوب ؛ كأسرار التوحيد ، وأمر الخواطر ، رجعنا إليهم ؛ لأنهم أهل الذوق والكشف ، يُجيبون سائلهم بالهمة والحال ، حتى يقلعوا عروق ما أشكل على السائل ، إن أتاهم متعطشًا لهفانًا ، وكذا ما أشكل في أمر الدنيا ، من فعل تريد أن تفعله أو تتركه ، فينبغي الرجوع إليهم ؛ لأنهم ينظرون بنور الله ، فلا ينطقهم الله إلا بما هو حق سبق به القدر. وأما أمور الدين ، فإن كان له علم بالشريعة الظاهرة فالرجوع إليه ، وإن لم يكن له علم بالظاهر ، فالعلماء قائمون بهذا الأمر.
27
وقوله تعالى : {إن كنتم لا تعلمون} ؛ يُفهم منه أن من كان من أهل الفهم عن الله ، يأخذ العلم عن الله بإلهام أو تجل حقيقي ، فلا يحتاج إلى سؤالهم ، حيث صفت مرآة قلبه ، وقد يكون الولي ذاكرًا ، باعتبار قوم ، وغير ذاكر ، باعتبار آخرين ، الذين هم أنهض منه حالاً ، وأصوب مقالاً. والله تعالى أعلم.
(4/37)
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
قلت : {مكروا السيئات} : صفة لمحذوف ، أي : المكرات السيئات ، والتخوّف ، قيل : معناه : التنقص ، وهو أن تنقصهم شيئًا فشيئًا. رُوي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم توقف في معناها ، فقال على المنبر : ما تقولون فيها ؟ فسكتوا ، فقام شيخ من هذيل ، فقال : هذه لغتنا ، التخوف : التنقص. فقال : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ فقال : نعم. قال شاعرنا أبو كثير يصف ناقته :
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدَاً
كَمَا تَخوَّفَ عُودَ النَّبَْعةِ السفَنُ
فقال عمر : عليكم بديوانكم ؛ لا تضلوا ، قالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية ؛ فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. هـ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أفأمِنَ الذين مَكروا} المكرات السيئات برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ، حيث قصدوا ردّ دينه ، وصدوا الناس عن طريقه ، {أن يَخْسِفَ اللهُ بهم الأرض} كما خسف بقارون ، {أو يأتيهُم العذاب من حيث لا يشعرون} أي : بغتة من حيث لا يظنون ، كما فعل بقوم لوط ، {أو يَأخذهم في تقلبهم} ؛ في متاجرهم ومسايرهم في طلب معاشهم ، {فما هم بمعجزين} ؛ بفائتين قدرتنا حتى نعجز عن أخذهم ، {أو يأخذهم على تَخوُّفٍ} : على تنقص ، بأن ينقص أموالهم وأنفسهم ، شيئًا فشيئًا ، حتى يهلكوا جميعًا ، من غير أن يهلكهم جملة واحدة. وعليه يترتب قوله : {فإن ربكم لرؤوف رحيم} حيث لم يهلكهم دفعة واحدة ، أو : على تخوف : على مخافة بأن يهلك قومًا قبلهم ، فيتخوفوا ، فيأتيهم العذاب وهم متخوفون. وهو قسيم قوله : {وهم لا يشعرون} ، وقوله : {فإن ربكم لرؤوف رحيم} أي : حيث لم يعاجلكم بالعقوبة. والله تعالى أعلم.
28
الإشارة : ما خوف به أهل المكر بالأنبياء والرسل ، يُخوف به أهل المكر بالأولياء والمنتسبين ، وقد تقدم هذا مرارًا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 28
(4/38)
قلت : الاستفهام للإنكار ، و {من شيء} : بيان لـ " ما ". والضمير في {ظلاله} يعود على {ما} ، أو على {شيء}. و {سُجَّدًا} : حال من الظلال ، وكذا جملة : {وهم داخرون} ، وجمعه بالواو ؛ لأنه من صفة العقلاء. وقال الزمخشري : هما حالان من الضمير في {ظلاله} ؛ إذ هو بمعنى الجمع ؛ لأنه يعود على قوله : {من شيء} ، فعلى الأول يكون السجود من صفة الظلال ، وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام. و {من دابة} : يحتمل أن يكون بيانًا لـ {ما في السماوات وما في الأرض} معًا ؛ لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب ، ويحتمل أن يكون بيانًا لـ {ما في الأرض} خاصة ، فعلى الأولى : يكون عطف الملائكة عليه ، من عطف الخاص على العام ؛ تشريفًا لهم ، وعلى الثاني : من عطف المباين.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أوَلَمْ يرَوا} أي : أهل المكر والخدع بالرسل والمؤمنين ، {إلى ما خلق الله من شيء} ؛ من الأجرام والأشكال ؛ كالجبال والأشجار والبحار ؛ ليظهر لهم كمال قدرته وقهره ، فيخافوا سطوته وبطشه ، حتى لا يمكروا بخواصه. حال كون ما خلق من الأجرام {يتفيّؤا} أي : يميل {ظلالُه عن اليمين والشمائل} أي : يرجع الظل من جانب إلى حانب ، أي : يميل عن الأيمان والشمائل ، وذلك أن الظل من وقت طلوع الشمس إلى الزوال يكون إلى جهة ، ومن الزوال إلى الغروب يكون إلى جهة أخرى. ثم يمتد الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس. والتفيؤ : من الفيء ، وهو : الظل الذي يرجع بعكس ما كان غدوة. وقال رُؤبة بن العجاج : يقال بعد الزوال : ظل وفيءٌ ، ولا يقال قبله إلا ظل. ففي لفظ " يتفيأ " ، هنا ، تجوز.
(4/39)
وقال في سلوة الأحزان : فاء الظل : معناه : رجع بعكس ما كان من بكرة إلى الزوال ؛ وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى الزوال ، إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها ، فإذا زالت ، ابتدأ رجوع الظل العام ، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس فيعم. والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله تعالى فيها فيئًا ؛ لأنه لا مُذهِبَ له ، ولا تكون الفيأة إلا بعد ذهاب الظل ، ولا ذهاب لظل الجنة ، فلا يتعقل له فيأة. هـ.
29
واستعمال اليمين والشمال ، في غير الإنسان ، تجوز ؛ فإنهما في الحقيقة خاص بالإنسان. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 29
حال كون تلك الأجرام ، أو الظلال {سُجَّدًا لله} ، قيل : حقيقة. قال الضحاك : إذا زالت الشمس سَجد كل شيء قبلَ القبلة ، من نباتٍ أو شجر ، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت. وقال مجاهد : إنما تسجد الظلال ، لا الأشخاص. وقيل : هو عبارة عن الخضوع والطاعة ، وميلان الظلال ودورانها بالسجود ، كما يقال للمشير برأسه نحو الأرض ، على جهة الخضوع : ساجدًا ، ثم استشهد لذلك. هـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : والمتَّجَهُ : أنه خضوع وطاعة للمشيئة وانقياد ، لا حقيقة ؛ لأنه لا يقال فيه ، كذلك : أو لم يروا ، وإنما يُرَى الانقياد. وخص الظل ؛ لأنه مشهود ذلك فيه ، ولو حاول صاحبه عدمه أو ضده ، لم يستطع ، بخلاف الأفعال الاختيارية ، فإن الجبر فيها غير محسوس ، فظهر سر الإشارة للظلال. والله أعلم. هـ.
(4/40)
قال البيضاوي : المراد من السجود : الاستسلام ، سواء كان بالطبع أو الاختيار ، يقال : سجدت النخلة ، إذا مالت لكثرة الحمل ، وسجد البعير ، إذا طأطأ رأسه ليركب. أو {سُجّدًا} : حال من الظلال {وهم داخرون} : حال من الضمير ، والمعنى : ترجع الظلال ، بارتفاع الشمس وانحدارها ، بتقدير الله تعالى ، من جانب إلى جانب ، منقادة إلى ما قُدِّر لها من التفيؤ ، أو واقعة على الأرض ، ملتصقة بها ، على هيئة الساجد ، والأجرام في أنفسها أيضًا داخرة ، أي : صاغرة منقادة لأفعال الله. هـ.
{ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض} أي : ينقاد لإرادته ، وتأثير قدرته ؛ طبعًا ، ولتكليفه وأمره ؛ طوعًا ؛ ليصح إسناده إلى عامة أهل السماوات والأرض. وقوله : {من دابة} : بيان لهما ؛ لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية ، سواء كان في أرض أو سماء ، {والملائكةُ} ؛ عطف على المبين به ، عطف خاص على عام ، أو عطف المجردات على الجسمانيات ، وبه احتج من قال : إن الملائكة أرواح مجردة. قاله البيضاوي. قلت : وهو خلاف الجمهور. بل الملائكة : أجسام لطيفة نورانية متحيزة ، لها مادة نورانية وتشكيل مخصوص ، غير أن الله تعالى أعطاها قوة التشكيل ؛ لأنها قريبة من أسرار المعاني الأزلية. وعبَّر الحق تعالى بـ " ما " ؛ ليشمل العقلاء وغيرهم.
ثم قال تعالى في وصف الملائكة : {وهم لا يستكبرون} عن عبادته ، {يخافون ربهم من فوقهم} ؛ هو تقرير وبيان ؛ لنفي الاستكبار عنهم ، أي : يخافون عظمة ربهم من فوقهم ؛ إذ هم محاطون بأفلاك أسرار الجبروت ، مقهورون تحت القدرة والمشيئة أو : يخافون عذاب ربهم أن يُرْسَل عليهم من فوقهم ، أو : يخافون ربهم وهو من فوقهم
30
بالقهر والغلبة. والجملة : حال من الضمير في {يستكبرون} ، أو بيان له وتقرير ؛ لأن من خاف ربه لم يستكبر عن عبادته ، {ويفعلون ما يُؤمرون} من الطاعة وتدبير الأمور التي أمرهم بتدبيرها. وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء. قاله البيضاوي.
(4/41)
جزء : 4 رقم الصفحة : 29
الإشارة : كل ما دخل تحت عالم التكوين لزمته العبودية ، وأحاطت به القهرية ، فلا بدّ من الخضوع لأحكام الواحد القهار ، تكليفية كانت أو تعريفية ، فمن لم ينقد لها بملاطفة الإحسان ، قيد بسلاسل الامتحان. وبهذا امتاز الخصوص من العموم ، فالخصوص علموا أن سلسلة الأقدار في عنقهم ، تجرهم إلى مراد ربهم ، فاستسلموا لها ، وانقادوا ، وخضعوا ، وتأدبوا لها ، فاستحقوا التقريب والاصطفائية. والعموم جهلوا هذه السلسلة ، أو علموها ، ولم يقدروا على الاستسلام لها ؛ فاستحقوا البُعد من حضرة الحق ؛ إذ لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتأديب. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 29
قلت : {إلهين اثنين} ، إلهين : مفعول أول ، واثنين : تأكيد ، والثاني : محذوف ، أي : معبودين لكم ، وفائدة التأكيد : التنبيه على أن المقصود هو النهي عن الإثنينية ؛ تنبيهًا على أن الإثنينية تنافي الألوهية ، كما ذكر الواحد في قوله : {إنما هو إله واحد} ؛ إثبات الوحدانية دون الإلهية. قاله البيضاوي. وعبارة صاحب المطول : لفظ إلهين حامل لمعنى الجنسية - أعني : الإلهية - ومعنى العدد - أعني : الإثنينية - وكذا لفظ " الله " حامل لمعنى الجنسية والوحدة ، والغرض المسوق له الكلام في الأول : النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله ؛ لا إثبات جنسه ، فَوَصَفَ الإلهين باثنين وإله بواحد ؛ إيضاحًا لهذا الغرض وتفسيرًا له. هـ. ويحتمل أن يكون " اثنين " مفعولاً أولاً ، و " إلهين " مفعولاً ثانيًا.
(4/42)
وقوله : {فإياي} : مفعول بفعل محذوف ، أي : ارهبوا ، ولا يعمل فيه (ارهبون) ؛ لأنه أخذ مفعوله ، وهو : ياء المتكلم ، و {واصبًا} : حال من {الدين}. و {ما بكم} : إما شرطية ، أو موصولة متضمنة معنى الشرط ؛ باعتبار الإخبار دون الحصول ؛ فإن استقرار النعمة بهم يكون سببًا للإخبار بأنها من الله ، لا سببًا لحصولها منه ؛ لأن جواب الشرط يكون مسببًا عن فعله ، واستقرار النعمة بهم ليس سببًا في حصولها من الله ، وإنما هو
31
سبب في الإخبار بأنها من الله. فتأمله. وأصله للبيضاوي ، والجملة : يحتمل أن تكون استئنافية ، أو حالية ، فيتصل الكلام بما قبله ، أي : كيف تتقون غير الله ، والحال أن ما بكم من نعمة فمنه وحده ؟ واللام في {ليكفروا} : لام الأمر على وجه التهديد ، كقوله بعدُ : {فتمتعوا} فعلى هذا يبتدأ بها ، وقيل : هي لام العاقبة ، فعلى هذا توصف بما قبلها ؛ لأنها في الأصل لام كي ، وهو بعيد.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} ، بأن تعبدوا الله تعالى ، وتعبدوا معه الأصنام ، {إنما هو إله واحد} لا شريك له ولا ظهير ، ولا معين ولا وزير ، {فإياي فارهبون} ، عَدَلَ من الغيبة إلى التكلم ؛ مبالغةً في الترهيب ، وتصريحًا بالمقصود ، كأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد ، فإياي فارهبون ، لا غيري ، {وله ما في السماوات والأرض} ؛ خلقًا وملكًا وعبيدًا ، {وله الدين} أي : الطاعة والانقياد {واصباً} : لازماً ، أو : واجباً وثابتاً ؛ لما تقرر أنه الإله وحده ، والحقيق بأن يرهَبَ منه فلا يُدَان لأحد إلا هو. وقيل : {وله الدِّينُ} أي : الجزاء {واصِبًا} أي : دائمًا ، فلا ينقطع ثوابه لمن آمن ، ولا عقابه لمن كفر. {أفغير الله تتقون} مع أنه ليس بيد غيره نفع ولا ضر ؟ !
جزء : 4 رقم الصفحة : 31
(4/43)
كما قال : {وما بكم من نعمة فمن الله} أيْ : وأيّ شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله وحده ، {ثم إذا مسكم الضرُّ فإليه تجأرون} أي : فلا تتضرعون عند الشدة إلا إليه ، ولا تستغيثون إلا به. والجؤار : رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة ، {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريقٌ منكم بربهم يشركون} وهم : كفاركم ، ففي وقت الشدة ينسون أصنامهم ، وفي الرخاء يرجعون إليها. فعلوا ذلك ؛ {ليكفروا بما آتيناهم} من نعمة الكشف عنهم ، كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة ، أو يكون تهديدًا ، أي : ليكفروا ما شاؤوا فسوف يعلمون ، كقوله : {فتمتعوا} بكفركم {فسوف تعلمون} عاقبة أمركم.
الإشارة : قال في التنوير : أبى المحققون أن يشهدوا غير الله ؛ لما حققهم به من شهود القيومية ، وإحاطة الديمومية. هـ. فمن فتح الله بصيرته ، لم يشهد مع الحق سواه ؛ إذ الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فما حجبك عن الحق وجود موجود معه ؛ إذ لا شيء معه ، وإنما حجبك توهم موجود معه ". فمن غاب عن ثنوية نفسه غاب عن ثنوية الأكوان ، ووقع على عين الشهود والعيان. فما ظهر في الوجود إلا أسرار ذاته وأنوار صفاته. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 31
كما قال : {وما بكم من نعمة فمن الله} أيْ : وأيّ شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله وحده ، {ثم إذا مسكم الضرُّ فإليه تجأرون} أي : فلا تتضرعون عند الشدة إلا إليه ، ولا تستغيثون إلا به. والجؤار : رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة ، {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريقٌ منكم بربهم يشركون} وهم : كفاركم ، ففي وقت الشدة ينسون أصنامهم ، وفي الرخاء يرجعون إليها. فعلوا ذلك ؛ {ليكفروا بما آتيناهم} من نعمة الكشف عنهم ، كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة ، أو يكون تهديدًا ، أي : ليكفروا ما شاؤوا فسوف يعلمون ، كقوله : {فتمتعوا} بكفركم {فسوف تعلمون} عاقبة أمركم.
(4/44)
الإشارة : قال في التنوير : أبى المحققون أن يشهدوا غير الله ؛ لما حققهم به من شهود القيومية ، وإحاطة الديمومية. هـ. فمن فتح الله بصيرته ، لم يشهد مع الحق سواه ؛ إذ الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فما حجبك عن الحق وجود موجود معه ؛ إذ لا شيء معه ، وإنما حجبك توهم موجود معه ". فمن غاب عن ثنوية نفسه غاب عن ثنوية الأكوان ، ووقع على عين الشهود والعيان. فما ظهر في الوجود إلا أسرار ذاته وأنوار صفاته. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 31
كما قال : {وما بكم من نعمة فمن الله} أيْ : وأيّ شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله وحده ، {ثم إذا مسكم الضرُّ فإليه تجأرون} أي : فلا تتضرعون عند الشدة إلا إليه ، ولا تستغيثون إلا به. والجؤار : رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة ، {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريقٌ منكم بربهم يشركون} وهم : كفاركم ، ففي وقت الشدة ينسون أصنامهم ، وفي الرخاء يرجعون إليها. فعلوا ذلك ؛ {ليكفروا بما آتيناهم} من نعمة الكشف عنهم ، كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة ، أو يكون تهديدًا ، أي : ليكفروا ما شاؤوا فسوف يعلمون ، كقوله : {فتمتعوا} بكفركم {فسوف تعلمون} عاقبة أمركم.
الإشارة : قال في التنوير : أبى المحققون أن يشهدوا غير الله ؛ لما حققهم به من شهود القيومية ، وإحاطة الديمومية. هـ. فمن فتح الله بصيرته ، لم يشهد مع الحق سواه ؛ إذ الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فما حجبك عن الحق وجود موجود معه ؛ إذ لا شيء معه ، وإنما حجبك توهم موجود معه ". فمن غاب عن ثنوية نفسه غاب عن ثنوية الأكوان ، ووقع على عين الشهود والعيان. فما ظهر في الوجود إلا أسرار ذاته وأنوار صفاته. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 31
(4/45)
قلت : الضمير في {يجعلون} للكفار ، وفي {يعملون} لهم ، أو للأصنام. و {لهم ما يشتهون} : يجوز أن يكون {ما يشتهون} مبتدأ ، وخبره : {لهم} ، وأن يكون مفعولاً بفعل مضمر ، أي : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون ، وأن يكون معطوفًا على البنات ، وهذا منعه البصريون ؛ لاتحاد الفاعل والمفعول ، وهو الواو ، وضمير لهم في الغيبة ، فلا يقال : زيد ضربه ، وإنما يقال : ضرب نفسه ، ولا يقال : أنا ضربتني ، ويجوز ذلك في أفعال القلوب. وقال البيضاوي : ولا يبعد تجويزه في المعطوف ، كما في الآية.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ويجعلون} أي : كفار العرب {لما لا يعلمون} إلاهيتهم ببرهان ولا حجة ، وهم الأصنام. أو : لِمَا لا علم لهم من الجمادات التي يعبدونها ، {نصيبًا مما رزقناهم} من الزرع والأنعام ، بقولهم : هذا لله وهذا لشركائنا ، {تالله لتُسألُنَّ} ؛ سؤال توبيخ وعتاب {عما كنتم تفترون} من أنها آلهة بالتقرب إليها ، أو عما كنتم تفترون على الله من أنه أَمَرَكم بذلك.
{ويجعلون لله البنات} ؛ من قولهم : الملائكة بنات الله ، وكانت خزاعة وكنانة يقولون ذلك. {سبحانه} ؛ تنزيهًا له عن ذلك ، {ولهم ما يشتهون} أي : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون ، وهم البنون ، والمعنى : أنهم يجعلون لله البنات التي يكرهونها - وهو منزه عن الولد - ، ويختارون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. {وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأنثى} أي : أُخبر بولادتها عنده ، {ظلّ} أي صار {وجههُ مُسودًّا} : متغيرًا تغير مغتم ؛ من الكآبة والحياء من الناس ، {وهو كظيم} : ممتلئ غيظًا ، {يتوارى} ؛ يختفي {من القوم} أي : من قومه ؛ حياء منهم ، {من سوء ما بُشِّرَ به} ؛ من قُبِح المبشر به ، متفكرًا في نفسه ، {أيُمسكُه على هُونٍ} أي : يتركه ، عنده ، على ذل وهوان ، {أم يَدُسه في التراب} أي : يخفيه فيه ويئده ، وهي : الموؤودة ، وتذكير الضمير ؛ للفظ " ما " ، {ألاَ ساءَ} : بئس {ما يحكمُون} حكمهم هذا ؛ حيث نسبوا لله تعالى البنات ، التي هي عندهم بهذا المحل.
{
(4/46)
جزء : 4 رقم الصفحة : 32
للذين لا يؤمنون بالآخرة مَثَلُ السَّوْءِ} أي : صفة السوء ، وهي : الحاجة إلى الولد المنادية بالموت ، واستبقاء الذكور ؛ استظهارًا بهم ، وكراهة البنات ووأدهن خشية الإملاق ، {ولله المثَلُ الأعلى} أي : الصفة العليا ، وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق ، والجود الفائق ، والنزاهة عن صفات المخلوقين ، والوحدانية في الذات والصفات والأفعال. وقال الأزهري : المثل الأعلى ، أي : التوحيد والخلق والأمر ، ونفى كل إله
33
سواه. ويتَرجم عن هذا كله بقول : " لا إله إلا الله ". هـ. {وهو العزيز} في ملكه ، {الحكيم} في صنعه ، أي : المنفرد بكمال القدرة والحكمة ، فالقدرة مُظهرة للأشياء في أوقاتها ، والحكمة تسترها برداء أسبابها وشروطها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي لأهل التوحيد الكامل أن يتنزهوا عن شبهة الشرك في أعمالهم وأموالهم ، فلا يشركون فيما رزقهم الله ، من الأموال ، أحدًا من المخلوقين ، يجعلون لهم نصيبًا في أموالهم ، على قصد الحفظ ، أو إصلاح النتاج ، كما تفعله العامة مع الصالحين ، فإن ذلك مما يقدح في صفاء التوحيد ؛ إذ لا فاعل سواه. وقوله تعالى : {وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى...} الآية ، فيه ذم وتهديد لمن يكره البنات ، وينقبض من زيادتهن ؛ لأن فيه نزغة من فعل الجاهلية ، بل ينبغي إظهار البسط والبرور بهن أكثر من الذكور ، ولا شك أن النفقة عليهن أكثر ثوابًا من الذكور ، وفي الحديث : " مَنِ ابْتُلِيَ بهذه البَنَاتِ ، فأحْسَنَ إليْهِنَّ ، كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار " إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة تُرغب في الإحسان إليهن. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 32
(4/47)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولو يُؤاخذ اللهُ الناسَ بظلمهم} أي : بكفرهم ومعاصيهم الصادرة من بعضهم ، {كما ترك عليها} أي : على الأرض {من دابة} : نسمة تدب عليها ، بشؤم ظلمهم. وعن ابن مسعود : (كاد الجُعَل يهلك في جُحره بذنب ابن آدم). وقيل : لو هلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء ، {ولكن يُؤخرهم إلى أجل مسمى} سماه لأعمارهم ، أو لعذابهم ، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون} عنه {ساعة ولا يستقدمون} عليه ، بل يهلكون ، أو يُعذبون حينئذ لا محالة ، فالحكمة في إمهال أهل الكفر والمعاصي ؛ لئلا يعم العذاب ، كقوله : {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال : 25] ، و (لعل الله تعالى يُخرج من أصلابهم من يُوحد الله}. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إن الله يهم أن ينزل إلى أهل الأرض عذابًا ؛ لما يرى فيهم من كثرة الظلم والفجور ، فإذا رأى حِلَق الذكر ومجالس العلم رفع عنهم العذاب. وفي بعض الأخبار : " لَوْلاَ شُيوخٌ ركع ، وصِبْيَانٌ رُضَّعٌ ، وبَهَائمُ رُتَّعٌ ، لصُبَّ عَليكُمُ العَذَابُ صَبًّا ".
34
جزء : 4 رقم الصفحة : 34
قلت : {أن لهم الحسنى} : بدل من {الكذب} ، ومن قرأ {مفرطون} ؛ بالكسر ، فاسم فاعل من الإفراط ، وهو : تجاوز الحد ، ومن قرأها بالفتح ؛ فاسم مفعول ، من أفرط في طلب الماء ، إذا قدمه. ومن قرأ بالتشديد ؛ فمن التفريط.
(4/48)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ويجعلون لله ما يكرهون} لأنفسهم من البنات ، والشركاء في الرئاسة وأراذل الأموال ، {وتصف ألسنتُهُم الكذبَ} مع ذلك ، وهو {أن لهم الحسنى} عند الله ، وهي الجنة. وهذا كقوله : {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَىا رَبِّيا إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىا} [فُصّلت : 50]. قال تعالى : {لا جَرَمَ أنَّ لهم النارَ} أي : لا شك ، أو حقًا أن لهم النار ، {وأنهم مُفْرَطُون} ؛ مقدّمون إليها ، أو متركون فيها ، أو مفرطون في المعاصي والظلم ، متجاوزون الحد في ذلك. أو مفرطون في الطاعة ؛ من التفريط.
الإشارة : الواجب في حق الأدب أن ما كان من الكمالات ينسب إلى الله تعالى ، كائنًا ما كان ، وما كان من النقائص ينسب إلى العبد ، وإن كان ، في الإيجاد والاختراع ، كل من عند الله ، وهو بهذا الاعتبار في غاية الحسن.
كما قال صاحب العينية رضي الله عنه :
وكُلُّ قَبِيحٍ إِنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِه
أَتَتْكَ مَعَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقْصَانَ القَبِيحِ جَمَالهُ
فَمَا ثَمّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ
جزء : 4 رقم الصفحة : 34
قلت : {وهدى ورحمة} : معطوفتان على " لتبين " ، وانتصبا على المفعولية من أجله ، أي : لأجل البيان والهدى والرحمة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {تالله لقد أرسلنا} رسلاً {إلى أمم من قَبلكَ} يا محمد ، {فزَيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم} السوء ، فرأوها حسنة ، فأسروا على قبائحها ، وكذبوا الرسل ، فصبروا حتى نُصروا. فاصبر كما صبروا ، حتى تنصر كما انتصروا. فكان عاقبة من اتبع الشيطان الهلاك والوقوع في العذاب ، {فهو وليّهم} أي : متولي أمورهم
35
(4/49)
{اليومَ} في الدنيا ، {ولهم عذاب أليم} في الآخرة ، أو : فهو وليهم يوم القيامة ، على أنه حكاية حال آتية ، أي : لا ولي لهم غيره في ذلك اليوم ، وهو عاجز عن نصر نفسه ، فكيف ينصر غيره ؟ {وما أنزلنا عليك الكتاب} : القرآن {إلا لتُبين لهم} : للناس {الذي اختلفوا فيه} ؛ من التوحيد ، والقَدَر ، وأحوال المعاد ، وأحكام الأفعال ، {وهُدًى ورحمةً لقوم يؤمنون} به ، فإنهم المنتفعون بإنزاله.
الإشارة : كل من وقف دون الوصول إلى مشاهدة الحق ، فهو مُزين له في عمله ، مُستدرج به وهو لا يشعر ، وحظه يوم القيامة الندم والأسف. وفي ذلك يقول أبو المواهب :
مَنْ فَاَتَهُ مِنْكَ وَصلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ
وَمَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ
ونَاظِرٌ في سِوَى مَعْنَاكَ حُقَّ لُه
يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِهِ بالدَّمْعِ وهْوَ دَمُ
والسَّمْعُ إنْ جَالَ فِيهِ مَنْ يُحَدِّثهُ
سِوَى حدَيثِك أَمْسَى وَقرَهُ الصَّمَمُ
فهذه علامات الوصول إلى الحق ، بحيث ترتفع همته إلى حضرة الحق ، ويصرف نظره في معاني أسرار التوحيد ، وسمعه فيما يقرب إلى صريح التفريد ، ومن لم يبلغ هذا المقام ، لم ينقطع عنه تزيين الشيطان ، فيُزين له عمله ، فيقف معه. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 35
يقول الحقّ جلّ جلاله : {والله أنزل من السماء ماءً ؛ مطرًا {فأحيا بِهِ الأرض بعد موتها} ؛ أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها ، فكانت هامدة غبْراءٍ ، غير منبتة ، شبيهة بالميت ، فصارت ، بعد إنزال المطر ، مخضرة مهتزة رابية شبيهة بالحي. {إن في ذلك لآيةً لقوم يسمعون} سماع تدبر وإنصاف ؛ فإن هذه الآية ظاهرة ، تُدرك بأدنى تنبيه وسماع ، غير محتاجة إلى كثرة تفكر واعتبار.
الإشارة : والله أنزل من سماء الغيوب ماء العلوم النافعة ، فأحيا به أرض النفوس الميتة بالغفلة والجهل ، فصارت مبتهجة بأنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وفي ذلك يقول الشاعر :
إنَّ عرفَان ذي الجلال لعزٌ
(4/50)
وضياءٌ وبهجة وسُرور
وعلى العارفين أيضًا بَهَاءٌ
وعليهمْ من المحبَّة نُور
فَهنيئًا لمن عرفك إلهي
هو والله دهرَه مسرورُ
36
جزء : 4 رقم الصفحة : 36
قلت : سقى وأسقى : لغتان ، على المشهور. والضمير في {بطونه} : للأنعام ، وذكِّره باعتبار ما ذكر ، كقوله : {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [عَبَسَ : 11 ، 12] ، أو : باعتبار الجنس ، وعَدَّه سيبويه في المفردات المبنية على : أفعال ، كأخلاق وأكباش ، فهو ، عنده ، اسم جمع ، كقولم ورهط ، فلفظه مفرد ومعناه جمع ، فذكَّره هنا ؛ مراعاة للفظه ، وأنثه ، في سورة المؤمنين ؛ مراعاة لمعناه. ومن قال : إنه جمع " نعَم " ، جعل الضمير للبعض ؛ فإن اللبن لبعضها دون جميعها.
و {من} في قوله : " مما " ؛ للتبعيض ، و {من بين فرث} ؛ لابتداء الغاية ، و {من ثمرات} : يتعلق بمحذوف ، أي : ونسقيكم من ثمرات النخيل ، يدل عليه {نُسقيكم} الأول. و {تتخذون} : استئناف لبيان الإسقاء ، أو يكون {ثمرات} : عطفًا على {مما في بطونه} ، أو يتعلق {من ثمرات} بتتخذون ، أي : تتخذون من ثمرات النخيل سَكَرًا. وكرر {منه} للتأكيد ، أو يكون {تتخذون} : صفة لمحذوف ، أي : شيء تتخذون منه سكرًا.
(4/51)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإنّ لكم} أيها الناس ، {في الأنعام} وهي : الإبل والبقر والغنم ، {لعبرةً} ظاهرة تدل على كمال قدرته ، وعجائب حكمته ، وهي أنا {نُّسْقيكم مما في بطونه} أي : بعض ما استقر في بطونه من الغذاء ، {من بين فَرْثٍ} ؛ وهو ما في الكرش من القذر ، {ودمٍ} ؛ وهو ما تولد من لباب الغذاء ، {لبنًا خالصًا} من روائح الفرث ، صافيًا من لون الدم. والمعنى : أن الله يخلق اللبن متوسطًا بين الفرث والدم يكتنِفَانِه ، ومع ذلك فلا يُغير له لونًا ولا طعمًا ولا رائحة. وعن ابن عباس : " إن البهيمة إذا اعتلفت ، وانطبخ العلف في كرشها ، كان أسفله فرثًا ، وأوسطه لبنًا ، وأعلاه دمًا). ثم وصفه بقوله : {سائغًا للشاربين} ؛ سهل المرور في حلقهم ، حتى قيل : لم يغصَّ أحدٌ قَط من اللبن. ورُوِيَ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 37
و} نُسقيكم ، أيضًا ، {من ثمرات النخيلِ والأعنابِ} أي : من عصيرهما. ثم بيَّن كيفية الإسقاء فقال : {تتخذون منه} أي : مما ذكر {سَكَرًا} يعني : الخمر ، سميت بالمصدر ، ونزل قبل تحريم الخمر ، فهي منسوخة بالتحريم. وقيل : هي على وجه المنة
37
(4/52)
بالمنفعة التي في الخمر ، ولا تعرُّض فيها لتحليل الخمر ولا تحريم ، وهذا هو الصحيح. وفي دعوى النسخ نظر ؛ لأن النسخ إنما يكون في الأحكام المشروعة المقررة ، وهنا ليس كذلك ، إنما فيه امتنان واعتبار فقط. {و} تتخذون من ثمراتها {رزقًا حسنًا} ؛ كالتمر ، والزبيب ، والدبْس - وهو ما يسيل من الرطب - ، والخلُّ ، والربُّ ، وقيل : السَّكَرُ : المائع من هاتين الشجرتين ؛ كالخل ، والرُّب ، والرزق الحسن : العنب والتمر. {إنَّ في ذلك لآية} دالة على كمال قدرته تعالى ، {لقوم يعقلون} ؛ يستعملون عقولهم بالتأمل ، والنظر في الآيات. الإشارة : كما استخرج الحق ، جلّ جلاله ، من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين ، استخرج مذهب أهل السنة ، القائلين بالكسب ، من بين مذهب الجبرية ومذهب المعتزلة ، بين قوم أفرطوا ، وقوم فرطوا. واستخرج أيضًا مذهب الصوفية - أعني : المحققين منهم - من بين الواقفين مع ظاهر الشريعة والمتمسكين بمجرد الحقيقة ، بين قوم تفسقوا وقوم تزندقوا ، بين قوم وقفوا مع عالم الحكمة ، وقوم وقفوا مع شهود القدرة من غير حكمة ، وهو ، إن لم يكن عن غلبة سُكْرٍ ، كُفْرٌ. واستخرج ، أيضًا ، مذهب أهل التربية من بين سلوك محض وجذب محض ، فاهل السلوك المحض محجوبون عن الله ، وأهل الجذب المحض غائبون عن طريق الله ، وأهل التربية برزخ بين بحرين ، الجذب في بواطنهم ، والسلوك على ظواهرهم. ولا يعرف هذا إلا من شرب مشربهم ، قد أخذوا من ثمرات نخيل الشرائع وأعناب الحقائق ، سَكَرًا في قلوبهم ، بشهود محبوبهم ، ورزقًا حسنًا ؛ معرفة في أسرارهم ، وعبودية في ظواهرهم ، فصاروا جامعين بين جذب الحقائق وسلوك الشرائع ، كل واحد في محله. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 37
(4/53)
قلت : {أن اتخذي} : مفسرة للوحي الذي أوحي إلى النحل ، أو مصدرية ، أي : بأن اتخذي. و {من} : للتبعيض في الثلاثة مواضع ، {ثم كُلِي} : عطف على {اتخذي}. و {من} : للتبعيض ؛ لأنها لا تأكل من جميع الشجر ، وقيل : من كل الثمرات التي تشتهيها ، فتكون للبيان. و {ذُللاً} : حال من السبل ، أو من الضمير في {اسلكي}.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وأوْحَى ربك إلى النحل} أي : ألهمها ، وقذف في قلوبها ذلك. والوحي على ثلاثة أقسام : وحْيُ إلهام ، ووحيُ منام ووحْيُ أحكام. وقال الراغب :
38
أصل الوحي : الإشارة السريعة ، إما بالكلام ؛ رمزًا ، وإما بصوت مجرد عن التركيب ، أو بإشارة ببعض الجوارح ، والكناية. ويقال للكلمة الإلهية التي تُلقى إلى الأنبياء : وحي ، وذلك أضْرُبٌ ؛ إما برسول مشاهَد ، وإما بسماع كلام من غير معاينة ، كسماع موسى كلام الله ، وإما بإلقاءٍ في الروع ، وإما بإلهام ، نحو : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّ مُوسَىا} [القَصَص : 7] ، وإما تسخير ، كقوله : {وأوحى ربك إلى النحل} ، أو بمنام ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " انقطع الوحي ، وبقي المبشرات ؛ رؤيا المؤمن " ثم بيَّن ما أوحي إليها فقال : {أنِ اتخذي} ، أو بأن اتخذي {من الجبال بيوتًا} تأوين إليها ، كالكهوف ونحوها ، {ومن الشجر} بيوتًا ، كالأجْبَاح ونحوها ، {ومما يَعرِشُون} أي : يهيئون ، أو يبنون لك الناس من الأماكن ، وإلا لم تأو إليها. وذكرها بحرف التبعيض ؛ لأنها لا تُبنى في كل جبل ، وكل شجر ، وكل ما يعرش ؛ من كرْم أو سقف ، ولا في كل مكان منها. وإنما سمي ما تبنيه ، لتتعسل فيه ، بيتًا ؛ تشبيهًا ببناء الإنسان ؛ لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسْمة ، التي لا يقوى عليها حُذَّاق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة. ولعل ذكره : للتنبيه على ذلك. قاله البيضاوي. قلت : وليس للنحل فعل في الحقيقة ، وإنما هو صنع العليم الحكيم في مظاهر النحل.
(4/54)
ثم قال لها : {ثم كُلِي من كل الثمرات} التي تشتهيها ، حلوها ومرها. قيل : إنها ترعى من جميع النوار إلا الدفلة. {فاسْلُكي} أي : ادخلي {سُبل ربك} ؛ طُرقه في طلب المرعى ، أو : فاسلكي ؛ راجعة إلى بيوتك ، سبلَ ربك ، لا تتوعر عليك ولا تلتبس. وأضافها إليه ؛ لأنها خلقه وملْكه. {ذُللاً} : مطيعة منقادة لما يراد منك ، أو اسلكي طرقَه ؛ مذللة مسخرة لكِ ، فلا تعسر عليك وإن توعرت ، ولا تضل عن العْود منها وإن بَعُدت. قال مجاهد : لم يتوعَّر على النحل قط طريق.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 38
يخرجُ من بطونها شرابٌ} وهو العسل ، عَدل عن خطاب النحل إلى خطاب الناس : لأنه محل الإنعام عليهم ، والمقصود من خلق النحل وإلهامه ؛ لأجلهم. وسماه شرابًا ؛ لأنه مما يشرب. وظاهر الآية أن العسل يخرج من بطون النحل ، وهو ظاهر كلام سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تحقيره للدنيا ، قال : (أشرف لباس ابن آدم فيها نفثة دود ، وأشرف شراب فيها رجيع نحلة - أو قيء نحلة- ، وأشرف لذة فيها مَبَال في مبال). وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل. قاله ابن عطية. قلت : والذي ألفيناه ، ممن يتعاطاهم ، أنه يخرج من دبرهم.
39
وقوله : {مختلفٌ ألوانه} أي : أبيض ، وأحمر ، وأسود ، وأصفر ، بحسب اختلاف سن النحل ، ومراعيها. وقد يختلف طعمه ورائحته باختلاف مرعاه. ومنه قول عائشة للنبي - عليه الصلاة والسلام - : (جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ) وهو نبت مُنتن الرائحة ، شُبهت رائحته برائحة المغافير.
(4/55)
ثم قال تعالى : {فيه شفاء للناس} ؛ إما بنفسه ، كما في الأمراض البلغمية ، أو مع غيره ، كما في سائر الأمراض ، إذ قلما ما يكون معجون إلا والعسل جزء منه. قاله البيضاوي. قال السيوطي : قيل : لبعضها ، كما دل عليه تنكير شفاء ، أو لكلها بضميمةٍ إلى غيره - أقول : وبدونها ، بنية - وقد أمر به صلى الله عليه وسلم من استطلق بطنه ، رواه الشيخان. هـ. قال ابن جزي : لأن أكثر الأدوية مستعملة من العسل ؛ كالمعاجن ، والأشربة النافعة من الأمراض. وكان ابن عمر يتداوى به من كل شيء ، فكأنه أخذه من العموم. وعلى ذلك يدل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن رجلاً جاء إليه فقال : أَخي يَشْتَكِي بَطْنَهُ ، فقال : " اسْقِهِ عَسَلاً " ، فَذَهَب ثُمَ رَجَع ، فقال : قَدْ سَقَيْتُهُ فَما نَفعَ ، قال : " فاذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلاً ، فَقَدً صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ " ، فَسَقَاهُ فشفاه الله عزّ وجلّ ".
{إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} ؛ فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر ، عَلِمَ ، قطعًا ، أنه لا بدّ له من قادر مدبر حكيم ، يلهمها ذلك ويحملها عليه ، وهو الحق تعالى.
الإشارة : إنما كان العسل فيه شفاء للناس ؛ لأن النحل ترعى من جميع العشب ، فتأخذ خواص منافعها. وكذلك العارف الكامل يأخذ النصيب من كل شيء ، ويعرف الله في كل شيء ، فإذا كان بهذه المنزلة ، كان فيه شفاء للقلوب ، كل من صحبه ، بصدق ومحبة ، شفاه الله ، وكل من رآه ، بتعظيم وصدق ، أحياه الله. وقد قالوا في صفة العارف : هو الذي يأخذ النصيب من كل شيء ، ولا يأخذ النصيب منه شيئًا ، يصفو به كدر كل شيء ، ولا يكدر صفوه شيء ، قد شغله واحد عن كل شيء ، ولم يشغله عن الواحد شيء... إلى غير ذلك من نعوته. وقال الورتجبي : قال أبو بكر الوراق : النحلة لَمَّا تبعت الأمر ، وسلكت سبيلها على ما أمرت به ، جعل لعابها شفاء للناس ،
40
(4/56)
كذلك المؤمن ، إذا اتبع الأمر ، وحفظ السر ، وأقبل على مولاه ، جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق ، ومن نظر إليه اعتبر ، ومن سمع كلامه اتعظ ، ومن جالسه سعد. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 38
يقول الحقّ جلّ جلاله : {والله خلقكم} : أظهركم إلى عالم الشهادة ، {ثم يتوفاكم} : يردكم إلى عالم الغيب عند انتهاء آجالكم ، {ومنكم مَن يُردُّ إلى أرذَلِ العُمُرِ} أي : أخسه ، يعني : الهِرَم والخرف ، الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة والعقل. وقيل : هو خمس وتسعون سنة ، وقيل : خمس وسبعون سنة ، والتحقيق : أن ذلك لا ينضبط بسن. {لكي لا يَعْلَم بعد عِلْمٍ شيئًا} ؛ ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية ، في نقصان العقل والنسيان وسوء الفهم. وليس المراد نفي العلم بالكلية ، بل عبارة عن قلة العلم ؛ لغلبة النسيان. وقيل : المعنى : لئلا يعلم زيادة على علمه شيئًا. قال عكرمة : (من قرأ القرآن لم يصر بهذه المنزلة).
قلت : جاء في بعض الأحاديث ما يقتضي تخصيص القارئ للقرآن بالمتبع له ، وأنه الذي يُمتعه الله بعقله حتى يموت ، وهو الذي يشهد له الحس ، أي : الوجود في الخارج ، بالصدق ، لوجود الخرف في كثير ممن يحفظه. قاله في الحاشية.
{إن الله عليم قدير} أي : عليم بمقادير الأشياء وأوقاتها ، قدير على إيجاد الأشياء وإعدامها ، عند انتهاء آجالها ، فيميت الشاب النشط عند تمام أجله ، ويبقى الهرم الفاني إلى انقضاء أجله. قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن تفاوت أعمار الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم ، ركب أبنيتهم ، وعدل أمزجتهم ، على قدر معلوم ، ولو كان في ذلك بمقتضى الطبائع لم يقع التفاوت إلى هذا المبلغ. هـ.
(4/57)
الإشارة : الخلق والتوفي هو من جملة الظهور والبطون ، عند أهل التوحيد الخاص ، والرد إلى أرذل العمر لا يلحق العارفين بالله. وقد قيل ، في استثناء قوله : {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [العَصر : 3] من الرد إلى أسفل سافلين : إن الصالح لا يدركه الخَرف وإن أدركه الهرم. وذلك دليل على سعادته ، وعدم تشويه صورته في الآخرة ، والله تعالى قادر على وقاية أوليائه مما يشين به أعداءه عاجلاً. وفي الحديث : " إذا قرأ الرجلُ القرآنَ ، واحتْشَى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي : امتلأ - وكانتْ هناك غزيرةٌ - يعني : فقه نفس ومعرفة - ، كان خليفةً من خلفاء الأنبياء ".
41
جزء : 4 رقم الصفحة : 41
(4/58)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق} ، فمنكم غني ومنكم فقير ، ومنكم ملوك مستغنون عن غيرهم ، ومنكم مماليك محتاجون إلى غيرهم ، {فما الذين فُضِّلوا} ؛ وهم الموالي ، أي : السادات ، {برادِّي رِزقهم} : بمعطي رزقهم {على ما ملكتْ أيمانُهم} : على مماليكهم ، أي : ليس الموالي بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها ، شركة بينهم وبين مماليكهم ، {فهُم} أي : المماليك {فيه سواءٌ} مع ساداتهم. وهو احتجاج على وحدانيته تعالى ، وإنكارٌ ورد على المشركين ، فكأنه يقول : أنتم لا تسَوّون بين أنفسكم وبين مماليككم في الزرق ، ولا تجعلونهم شركاء لكم ، بل تأنفون من ذلك ، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي في ألوهيتي ؟ ! وهذا كقوله : {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الرُّوم : 28]. ويحتمل أن يكون ذمًا وعتابًا لمن لا يحسن إلى مملوكه ، حتى يرد ما رزقه الله عليه ، كما في الحديث : " أطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ". {أفبنعمة الله يجحدون} ، حيث يجعلون له شركاء ، فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم ، ويجحدوا أنه من عند الله ، أو حيث أنكروا هذه الحجج ، بعد ما أنعم الله عليهم بإيضاحها ، أو حيث بخسوا مماليكهم مما يجب لهم من الإنفاق. على التفسير الثاني.
(4/59)
الإشارة : والله فضَّل بعضكم على بعض في أرزاق العلوم ، والأسرار والمواهب ، فمنكم غني بالله ، ومنكم فقير منه في قلبه ، ومنكم عالم به ومنكم جاهل ، ومنكم قوي اليقين ومنكم ضعيف ، فما الذين فُضِّلوا بالعلوم اللدنية والأسرار الربانية برادِّي تلك العلوم على الجهلة وضعفاء اليقين ، بأن يُطلعوهم على أسرار الربوبية قبل استحقاقها - فإن ذلك بخس بحقها - حتى يرونهم أهلاً لها ؛ بأن يبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم ، ويملكون لهم رقابهم يتصرفون فيها تصرف المالك في مملوكه ، فحينئذ يشاركونهم فيما منحهم الله من أرزاق العلوم وأسرار الفهوم ، وقد قيل : لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 42
سأكْتُمُ عِلْمِي عَنْ ذَوِي الجَهْلِ طَاقَتِي
ولا أنْثُرُ الدُرّ النَّفيس على البَهم
42
فإنْ قَدَّر اللهُ الكَريمُ بِلُطْفِهِ
ولاقَيتُ أهلاً للعُلُوم وللحِكَمْ
بَذلْتُ عُلُومِي واستَفَدْتُ عُلومَهُم
وإِلاَّ فمخْزُونٌ لَدَيّ ومُكْتَتمْ
فمَنْ مَنَحَ الجهّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ
ومَنْ مَنَعَ المستوجِبين فَقَد ظَلَمَ
جزء : 4 رقم الصفحة : 42
قلت : الحفدة : جمع حافد ، وهو الخديم المسرع في الخدمة ، والحفْد في اللغة : الخدمة ، ومنه في القنوت : " وإليك نسعى ونحفد " ، أي : نسرع في خدمتك. وسموا أولاد الأولاد حفدة ؛ لأنهم يُسرعون في خدمة جدهم ، حين كبر ولزم الدار ، وقيل : هم البنات ؛ لأنهن يخدمن الدار.
(4/60)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا} ؛ حيث خلق حواء من ضلع آدم ، وسائر النساء من نطفة الرجال ، والنساء خلقهن لكم ، لتتأنسوا بهن ، ولتتمتعوا بهن في الحلال ، وليكون أولادكم مثلكم. {وجعل لكم من أزواجكم بَنين} من صلبكم {وحفَدةً} ؛ أولاد أولادكم أو بناتكم ؛ فإن البنات يخدمن في البيوت أشد الخدمة ، أو الأصهار من قِبل النساء ، أو الخدَم ، {ورزقكم من الطيبات} ؛ من اللذائذ والمشتهيات ؛ كأنواع الثمار والحبوب والفواكه ، والحيوان ؛ أكلاً وركوبًا وزينة ، أو الحلالات ، و " من " : للتبعيض ؛ فإن طيبات الدنيا أنموذج من نعيم الآخرة. {أفَبِالباطل يؤمنون} وهو أن الأصنام تنفعهم ؛ لأن الأصنام باطلة لا حقيقة لوجودها ، وإضافة النفع لها : كفرٌ بنعمة الله ، ولذلك قال : {وبنعمة الله هم يكفرون} ؛ حيث أضافوها إلى أصنامهم ، أو حيث حَرَّموا منها ما أحله الله لهم كالبحائر والسوائب. والله تعالى أعلم.
الإشارة : والله جعل لكم من أنفسكم المطهرة أصنافًا من العلوم اللدنية. قال أبو سليمان الداراني : (إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام ، جالت في الملكوت ، ثم عادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة ، من غير أن يؤدي إليها عالم علمًا). وجعل لكم من تلك العلوم بنين روحانيين ، وهو التلامذة ، يحملون تلك العلوم ، وحفدة : من ينقل ذلك عنهم إلى يوم القيامة ، ورزقكم من الطيبات ، وهي حلاوة المعرفة عند العارفين ، وحلاوة الطاعات عند المجتهدين. أفبالباطل - وهو ما سوى الله - يؤمنون ، فيقفون مع الوسائط والأسباب ، ويغيبون عن مسبب الأسباب ، وبنعمة الله - التي هي شهود الحق بلا وسائط - هم يكفرون.
43
جزء : 4 رقم الصفحة : 43
(4/61)
قلت : {رِزْقًا} : مفعول بيملك ، فيحتمل أن يكون مصدرًا ، أو اسمًا لما يرزق ، فإن كان مصدرًا ، فشيئًا مفعول به ؛ لأن المصدر ينصب المفعول ، وإن كان اسمًا ، فشيئًا بدل منه. وجمع الضمير في {يستطيعون} ، وأفرده في {يمْلك} ؛ لأن {ما} مفردة ؛ لفظًا ، واقعة على الآلهة ، فراعى أولاً اللفظ ، وفي الثاني المعنى.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ويعبدون من دون الله} أي : غيره {ما لا يَملك لهم رزقًا من السماوات} ؛ بالمطر {والأرض} ؛ بالنبات ، فلا يرزقونهم من ذلك {شيئًا ولا يستطيعون} : لا يقدرون على شيء من ذلك ؛ لعجزهم ، وهم الأصنام ، {فلا تضربوا لله الأمثالَ} ؛ لا تجعلوا له أشباهًا تشركونهم به ، أو تقيسونهم عليه ، فإنَّ ضرب المثل تشبيه حال بحال ، {إنَّ الله يعلمُ} ألاَّ مِثلَ لَه ، أو فساد ما يقولون عليه من القياس ، {وأنتم لا تعلمون} ذلك ، ولو علمتموه لما تجرأتم عليه ، فهو تعليل للنهي ، أي : إنه يعلم كنه الأشياء ، وأنتم لا تعلمون ، فدعوا رأيكم ، وقفوا عندما ما حد لكم.
الإشارة : كل من ركن إلى شيء دون الحق تعالى ، أو اعتمد عليه في إيصال المنافع أو دفع المضار ، تصدق عليه الآية ، وتجر ذيلها عليه ، فلا تجعلوا لله أمثالاً تعتمدون عليهم وتركنون إليهم ، فالله يعلم من هو أولى بالاعتماد عليه والركون إليه ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، أو تعلمون ولا تعملون ، ولقد قال من عَلِمَ ذلك وتحقق به :
حَرَامٌ عَلَى مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ
وأَفْرَدَهُ أَن يجتدي أَحَدًا رِفْدا
فَيَا صَاحِبِي قِفْ عَلَى الحَقِّ وَقْفةً
أمُوتُ بِها وَجْدًا وأحْيَا بِها وجَدا
وقُلْ لملوكِ الأرْضِ تَجْهدَ
فَذَا المُلْكُ مُلكٌ لا يُبَاعُ ولا يُهْدَى
(4/62)
قال سهل رضي الله عنه : " ما من قلب ولا نفس إلا والله مطلع عليه في ساعات الليل والنهار ، فايما نفس أو قلب رأى فيه حاجة إلى غَيْرِهِ ، سلط عليه إبليس ". وقال الأستاذ أبو علي الدقاق رضي الله عنه : من علامة المعرفة : ألا تسأل حوائجك ، قلَّتْ أو كثُرت ، إلا من الله سبحانه ، مثل موسى عليه السلام ؛ اشتاق إلى الرؤية ، فقال : رب أرني أنظر إليك ، واحتاج مرة إلى رغيف ، فقال : رب إني لما أنزلتَ إليّ من خير فقير. هـ. وقال في التنوير : اعلم ، رحمك الله ، أن رفع الهمة عن المخلوقين ، وعدم التعرض لهم ، أزين لهم من الحليّ للعروس ، وهم أحوج إليه من الماء لحياة النفوس... الخ كلامه رضي الله عنه.
44
جزء : 4 رقم الصفحة : 44
قلت : {عبدًا} : بدل من {مَثَلاً} ، و {مَن} : نكرة موصوفة ، أي : عبدًا مملوكًا ، وحرًا رزقناه منا رزقًا حسنًا ، وقيل : موصولة. و {سرًّا وجهرًا} : على إسقاط الخافض ، وجمع الضمير في {يستوون} ؛ لأنه للجنسين ، و {رجلين} : بدل من : {مَثَلاً}.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ضَرَبَ اللهُ مثلاً} لضعف العبودية ، وعظمة الربوبية ، ثم بيَّنه فقال : {عبدًا مملوكًا لا يقدرُ على شيءٍ} ، وهذا مثال للعبد ، {ومن رزقناه} أي : وحرًا رزقناه {مِنا رزقًا حسنًا فهو} يتصرف فيه كيف يشاء ، {ينفق منه سرًا وجهرًا} ، وهذا : مثال للرب تبارك وتعالى ، مَثَّلَ ما يشرك به من الأصنام بالمملوك العاجز عن التصرف رأسًا ، ومَثَّل لنفسه بالحر المالك الذي له مال كثير ، فهو يتصرف فيه ، وينفق منه كيف شاء.
(4/63)
وقيل : هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق. وتقييد العبد بالمملوك ؛ للتمييز من الحر ؛ فإنه أيضًا عبدٌ لله. وبسلْب القدرة عن المكاتب والمأذون في التصرف ، فإن الأصنام إنما تشبه العبد الْقِنّ الذي لا شوب حرية فيه ، بل هي أعجز منه بكثير ، فكيف تضاهي الواحد القهار ، الذي لا يعجزه مقدور ؟ ولذلك قال : {هل يستوون} ؟ أي : العبيد العجزة ، والمتصرف بالإطلاق. {الحمد لله} على بيان الحق ووضوحه ؛ لأنها نعمة جليلة يجب الشكر عليها ، أو الحمد كله لله لا يستحقه غيره ، فضلاً عن العبادة ؛ لأنه مولى النعم كلها. {بل أكثرهم لا يعلمون} أي : لا علم لهم : فيضيفون النعم إلى غيره ويعبدونه لأجلها ، أو لا يعلمون ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به.
ثم ضرب الله مثلاً آخر فقال : {وضَرَبَ اللهُ مثَلاً} ، ثم بيًّنه بقوله : {رجلين أحدهما أبْكَمُ} ؛ وُلد أخرس ، لا يَفهم ولا يُفهم ، {لا يقدر على شيء} من الصنائع والتدابير ؛ لنقصان عقله ، {وهو كَلٌّ} أي : ثقيل عيال {على مولاه} الذي يلي أمره ، {أينما يُوجهه} : يُرسله في حاجة أو أمر {لا يأتِ بخير} ؛ بنجح وكفاية مهم. وهذا مثال للأصنام. {هل يستوي هو} أي : الأبكم المذكور ، {ومَن يأمر بالعدل} ؛ ومن هو
45
مِنطيقٌ متكلم بحوائجه ، ذو كفاية ورشد ، ينفع الناس ويحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل ، {وهو على صراط مستقيم} أي : وهو في نفسه على طريق مستقيم ، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويحصله بأقرب سعْي ؟
جزء : 4 رقم الصفحة : 45
وهذا مثال للحق تعالى ، فضرب هذا المثل لإبطال المشاركة بينه وبين الأصنام ، وقيل : للكافر والمؤمن. والأصوب : كون المَثَليْن معًا في الله مع الأصنام ؛ لتكون الآية من معنى ما قبلها وما بعدها في تبيين أمر الله ، والرد على أمر الأصنام. والله تعالى أعلم.
(4/64)
الإشارة : الحق تعالى موصوف بكمالات الربوبية ، منعوت بعظمة الألوهية ، وعبيده موسومون بنقائص العبودية ، وقهرية الملكية. فمن أراد أن يمده الله في باطنه بكمالات الربوبية ؛ من قوة وعلم ، وغنى وعز ، ونصر وملك ، فليتحقق في ظاهره بنقائص العبودية ؛ من ذل ، وفقر ، وضعف ، وعجز ، وجهل. فبقدر ما تجعل في ظاهرك من نقائص العبودية يمدك في باطنك بكمالات الربوبية ؛ " تحقق بوصفك يمدك بوصفه " ، والتحقق بالوصف إنما يكون ظاهرًا بين خلقه ، لا منفردًا وحده ؛ إذ ليس فيه كبير مجاهدة ؛ إذ كل الناس يقدرون عليه ، وإنما التحقق بالوصف - الذي هو ضامن للمدد الإلهي - هو الذي يظهر بين الأقران. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 45
قلت : {أمهات} : جمع أم ، زيدت فيه الهاء ؛ فرقًا بين من يعقل ومن لا يعقل ، قاله ابن جزي. والذي لغيره حتى ابن عطية : إنما زيدت ؛ لمبالغة والتأكيد. وقرئ بضم الهمزة ، وبكسرها ؛ اتباعًا للكسرة قبلها.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولله غيبُ السماواتِ والأرض} أي : يعلم ما غاب فيهما ، كان محسوسًا أو غير محسوس ؛ قد اختص به علمه ، لا يعلمه غيره. ثم برهن على كمال قدرته فقال : {وما أمرُ الساعةِ} أي : قيام القيامة ، في سرعته وسهولته ، {إلا كلمح البصر} ؛ كرد البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها ، {أو هو أقرب} : أو أمرها أقرب منه ؛ بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة ، بل أقل ؛ لأن الحق تعالى يحيي الخلائق دفعة واحدة ، في أقل من رمشة عين ، و " أو " للتخيير ، أو بمعنى بل. {إن الله على كل شيء قدير} ؛ فيقدر على أن يُحيي الخلائق دفعة ، كما قدر أن يوجدهم بالتدريج.
46
(4/65)
ثم دلَّ على قدرته فقال : {والله أخرجكم من بُطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا} ؛ جهالاً ، {وجعل لكم السمعَ} أي : الأسماع {والأبصارَ والأفئدة} أي : القلوب ، فتكتسبون ، بما تُدركون من المحسوسات ، العلوم البديهية ، ثم تتمكنون من العلوم النظرية بالتفكر والاعتبار ، ثم تُدركون معرفة الخالق {لعلكم تشكرون} نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، أظهركم أولاً من العدم ، ثم أمدكم ثانيًا بضروب النعم ، طورًا بعد طور ، حتى قدمتم عليه.
وقدَّم في جميع القرآن نعمة السمع على البصر ؛ لأنه أنفع للقلب من البصر ، وأشد تأثيرًا فيه ، وأعم نفعًا منه في الدين ؛ إذ لو كانت الناس كلهم صمًا ، ثم بُعِثت الرسل ، فمن أين يدخل عليهم الإيمان والعلم ؟ وكيف يدركون آداب العبودية وأحكام الشرائع ؟ إذ الإشارة تتعذر في كثير من الأحكام ، وإنما أفرده ، وجمع الأبصار والأفئدة ؛ لأن متعلق السمع جنس واحد ، وهي الأصوات ، بخلاف متعلق البصر ، فإنه يتعلق بالأجرام والألوان ، والأنوار والظلمات ، وسائر المحسوسات ، وكذلك متعلق القلوب ؛ معاني ومحسوسات ، فكانت دائرة متعلقهما أوسع مع متعلق السمع. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 46
الإشارة : ما غاب في سماوات الأرواح من علوم أسْرار الربوبية ، وفي أرض النفوس من علوم أحكام العبودية ، هو في خزائن الله ، يفتح منهما ما شاء على من يشاء ؛ إذ أمره تعالى بين الكاف والنون. وما أمر الساعة ، التي يفتح الله فيها الفتح على عبده ، بأن يميته عن نفسه ، ثم يحييه بشهود طلعة ذاته ، إلا كلمح البصر أو هو أقرب. لكن حكمته اقتضت الترتيب والتدريج ، فيُخرجه إلى هذا العالم جاهلاً ، ثم يفتح سمعه للتعلم والوعظ ، وبصره للنظر والاعتبار ، وقلبه للشهود والاستبصار ، حتى يصير عالمًا عارفًا بربه ، من الشاكرين الذين يعبدون الله ، شكرًا وقيامًا برسم العبودية. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 46
47
(4/66)
قلت : {مسخرات} : حال من {الطير} ، و {سكنًا} : مصدر وُصف به ، أي : شيئًا سكنًا ، أو : فَعَلٌ ؛ بمعنى مفعول. و {أثاثًا} : مفعول بمحذوف ، أي : وجعل من أوبارها أثاثًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ألم يروا} ، وفي قراءة : {ألم تروا} ؛ بتوجيه الخطاب لعامة الناس ، {إلى الطير مسخراتٍ} : مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية ، {في جو السماء} ؛ في الهواء المتباعد من الأرض. {ما يُمسكهنَّ} فيه {إلا اللهُ} ؛ فإن ثِقلَ جسدها يقتضي سقوطها ، ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها ، {إنَّ في} تسخيره {ذلك} لها {لآيات} ؛ لعبرًا ودلالة على قدرته تعالى ؛ إذ لا فاعل سواه ؛ فإنَّ إمساك الطيران في الهواء هو على خلاف طباعها ، لولا أن القدرة تحملها ، ففيه آيات {لقوم يؤمنون} ؛ لأنهم هم المنتفعون بها.
{والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا} : موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتكم ، كالبيوت المتخذة من الحجر والمدَر. و " مِنْ " للبيان ، أي : جعل لكم سكنًا ، أي : موضعًا تسكنونه ، وهو بيوتكم ، {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا} ، هي القباب المتخذة من الأدم ، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبَر والصوف والشعر ، فإنها ، من حيث إنها نابتة على جلودها ، كأنها من جلودها ، {تستخفونها} أي : تجدونها خفيفة ، يخف عليكم حملها وثقلها {يوم ظعنكم} أي : سفركم ، وفيه لغتان : الفتح والسكون ، {ويوم إقامتكم} : حضوركم ، أو نزولكم ، {و} جعل {من أصوافها} أي : الغنم ، {وأوبارها} أي : الإبل ، {وأشعارها} أي : المعز ، {أثاثًا} : متاعًا لبيوتكم ؛ كالبسُط والأكسية ، {ومتاعًا} تمتعون به {إلى حينٍ} ؛ إلى مدة من الزمان ، فإنها ، لصلابتها ، تبقى مدة مديدة ، أو : إلى مماتكم ، أو : إلى أن تقضوا منها أوطاركم ، أو : إلى أن تبلى.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 47
(4/67)
والله جعل لكم مما خلق} من الشجر والجبال والأبنية ، وغيرها ، {ظِلالاً} تتقون بها حر الشمس ، {وجعل لكم من الجبال أكنانًا} ؛ جمع : كَن ، ما تكنون ، أي : تستترون به من الحر والبرد ، كالكهوف والغيران والبيوت المجوفة فيها ، {وجعل لكم سرابيل} جمع : سربال ؛ ثيابًا من الصوف والكتان والقطن وغيرها ، {تقيكم الحرَّ} والبرد ، وخص الحر بالذكر ، اكتفاء بأحد الضدين ، أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم. {وسرابيل تقيكم بأسكم} : حربكم ، كالطعن والضرب. وهي : الدروع ، وتسمى : الجواشن ، جمع جَوشن ، وهو الدرع ، {كذلك} ؛ كإتمام هذه النعم ؛ بخلق هذه الأشياء المتقدمة ، {يُتم نعمتَه عليكم} في الدنيا ؛ بخلق ما تحتاجون إليه ، {لعلكم} يا أهل مكة {تُسْلمون} أي : تنظرون في نعمه ، فتؤمنون به ، أو تنقادون لحكمه. وفي قراءة : بفتح التاء ، أي : تسلمون من العذاب بالإيمان ، أو تنظرون فيها ، فتوحدون ، وتَسلمون من الشرك ، أو من الجراح ؛ بلبس الدروع.
48
{فإِن تولوا} : أعرضوا ، ولم يقبلوا منك ، أو لم يُسلموا. {فإِنما عليك} يا محمد {البلاغُ المبين} أي : الإبلاغ البين ، فلا يضرك إعْراضهم حيث بلَّغْتَهُمْ.
{يعرفون نِعْمَتَ الله} أي : يُقرون بأنها من عنده ، {ثم يُنكرونها} بإشراكهم وعبادتهم غيرَ المنعِم بها ، وبقولهم : إنها بشفاعة آلهتنا ، أو بسبب كذا ، أو بإعراضهم عن حقوقها. وقيل : نعمة الله : نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، عرفوها بالمعجزات ، ثم أنكروها ؛ عنادًا. {وأكثرهم الكافرون} ؛ الجاحدون ؛ عنادًا. وذكر الأكثر ؛ إمَّا لأن بعضهم لم يعرف الحق ؛ لنقصان عقله ، أو لتفريطه في النظر ، أو لم تقم عليه الحجة ؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف ، أو كان فيهم من داخله الإسلام ، ومن أسلم بعد ذلك. وإما لأنه أقام الأكثر مقام الكل ، كقوله : {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النّحل : 75]. قال بعضه البيضاوي.
(4/68)
الإشارة : قال الورتجبي : بيَّن الحقُّ تعالى قدرته في إمساكه أطيار الأرواح في هواء الملكوت وسماء الجبروت ، حتى ترفرفت بأجنحة العرفان والإيقان ، على سرادق مجده وبساط كبريائه ، مسخرات بأنوار جذبه ، ما يمسكهن إلا الله ، بكشف جماله لها ، أمسكها به عن قهر سلطانه وسُبحات جلاله ، حتى لا تفنى - أي : تتلاشى - في بهائه. هـ.
والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا - وهي العبودية - ، تسكنون فيها وتأوون إليها ، بعد طيران الفكرة في جو أنوار الملكوت ، وميادين أسرار الجبروت. أو الحضرة تسكن فيها قلوبكم ، فتصير مُعَشَّشَ أرواحكم ، إليها تأوون ، وفيها تسكنون. وجعل لكم منازل تنزلون فيها عند السير إلى حضرة ربكم ، وهي المقامات التي يقطعها المريد ، ينزل فيها ويرتحل عنها. وجعل لكم من أردية الأكوان وألوانها واختلاف أصنافها ، تمتعًا بشهود أنوار مكونها فيها ، إلى انطوائها وظهور أضدادها بقيام الساعة ، فتظهر القدرة وتبطن الحكمة ، ويظهر المعنى ويبطن الحس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 47
والله جعل لكم مما خلق من الأكوان ظلالاً ، والظلال لا وجود لها من ذاتها ، فكذلك الأكوان لا وجود لها مع الحق ، وإنما هي ظلال. والظلال ليست بموجودة ولا مفقودة. وجعل لكم من جبال العقل أكنانًا ، تستترون بنوره من جذب الاصطلام ؛ بمواجهة أنوار الحضرة. وجعل لكم سرابيل الشرائع تقيكم حَرَّ الحقيقة ، وسرابيل الحقائق تقيكم بأس سهام الأقدار ، فإنَّ من عرف الله ؛ حقيقة ؛ هان عليه ما يُواجَهُ به من المكاره. وفي هذا المعنى أنشد بعضهم :
نِلْبِسٍ عمَامْ مِنِ الماءْ
وِنْشِدِّهَا شَدِّ مَائِلْ
وِنِلْبِسْ مِنِ الثَّلْجِ بُرْنُسْ
إِذا حِمِتِ الْقَوائِلْ
وِنِشْعِلْ مِنِ الرِّيحْ قَنْدِيلْ
وِمْنِ الضَّبْابْ فَتَائِل
49
(4/69)
والمراد بعمامة الماء : كناية عن الحقيقة ؛ لأنها كالماء لحياة النفوس. وميل شدها : كناية عن قوتها ، وتكبيرها ؛ على الشريعة. والمراد ببرنس الثلج : برد التشريع ، فإذا قويت الحقيقة ، وخاف من الاحتراق ، نزل إلى برد التشريع. والمراد بالريح : هبوب نسيم الواردات الإلهية ، يشعل منها قنديل الفكرة - التي هي سراج القلب - ، فإذا ذهبت فلا إضاءة له ، وهذه حالة السائر ، وأما الواصل فقد سكن النور في قلبه ، فلا يحتاج إلى سراجٍ غيره تعالى. وفي ذلك يقول الشاعر :
كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ
غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلى سُرُجِ
وَجْهُكَ المَحْمُودُ حُجَّتُنَا
يوم يأْتِي الناس بالحجج
والمراد بالضباب : وجود السِّوى ، فإنه يحترق عند اشتعال الفكرة. والله تعالى أعلم. وباقي الآية ظاهر إشارته. ثم ذكر وعيد من أعرض عن هذه النعم ، التي هي دلائل قدرته.
جزء : 4 رقم الصفحة : 47
قلت : {تبيانًا} : حال من الكتاب ، وهو مصدر ، قال في القاموس : والتبيان : مصدر شاذ. وفي ابن عطية : والتبيان : اسم ، لا مصدر. والمصادر في مثله مفتوحة ، كالترداد والتكرار. هـ. وقال في الصحاح : لم يجيء على الكسر إلا هذا ، والتِّلقاء. هـ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر {يومَ نبعثُ من كل أمة} من الأمم {شهيدًا} أي : رسولاً يشهد لها أو عليها ، بالإيمان أو بالكفر ، وهو يوم القيامة ، {ثم لا يُؤْذَنُ للذين كفروا} في الاعتذار ؛ إذ لا عذر لهم. أو : في الرجوع إلى الدنيا. وعبَّر بثم ؛ لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع من الاعتذار ، مع ما فيه من الإقناط الكلي. {ولا هم يُستعتَبون} : لا يطلب منهم العتبى ، أي : الرجوع إلى ما يرضي الله. والمعنى : أنهم لا يؤذن لهم في الاعتذار عما فرطوا فيه مما يرضي الله ، ولا يطلب منهم الرجوع إلى
50
تحصيله. {وإذا رأى الذين ظلموا} : كفروا {العذاب} : جهنم {فلا يُخفف عنهم} العذابُ {ولا هم يُنظرون} ؛ يُمهلون عنه إذا رأوه.
(4/70)
{وإذا رأى الذين أشركوا شركاءَهم} : أوثانهم التي دعوها شركاء الله ، أو الشياطين الذين شاركوهم في الكفر ؛ بالحمل عليه ، {قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعُو من دونك} أي : نعبدهم ونطيعهم من دونك. وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك. {فأَلْقَوا إليهم القولَ} قالوا لهم : {إنكم لكاذبون} أي : أجابوا بالتكذيب في أنهم شركاء الله ، أو أنهم عبدوهم حقيقة ، وإنما عبدوا أهواءهم ؛ كقوله : {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريَم : 82] ، وقوله : {مَا كَانُوااْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القَصَص : 63] ، أو لأنهم ، لما كانوا غير راضين بعبادتهم ، فكأن عبادتهم لم تكن لهم. {وألْقَوا إلى الله يومئذ السَّلم} أي : الاستسلام ، أي : استسلموا لحكمه {يومئذ} ، بعد أن تكبروا عنه في الدنيا ، ولا ينفع يومئذ ، {وضلّ عنهم} أي : غاب وضاع وبطل {ما كانوا يفترون} من أن آلهتهم تنصرهم وتشفع لهم.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
الذين كفروا وصدُّوا} الناس {عن سبيل الله} ؛ بالمنع من الإسلام ، والحمل على الكفر ، {زدناهم عذابًا} ؛ بصدهم ، {فوق العذابِ} المستحق بكفرهم. قال ابن مسعود : " عقارب ، أنيابها كالنخل الطوال ، تلسعهم ". وعن عبيد بن عمير : عقارب كالبغال الدُّلْم - أي : السود جدًا - ، والأدلم : الشديد السواد. وذلك العذاب {بما كانوا يُفسدون} أي : بكونهم مفسدين ؛ بصدهم عما فيه صلاح العالم.
(4/71)
{و} اذكر أيضًا : {يومَ نبعثُ في كل أمةٍ شهيدًا عليهم من أنفسهم} ؛ يعني : نبيهم ؛ فإنَّ نبي كل أمة بعث منها. {وجئنا بك} يا محمد {شهيدًا على هؤلاء} ؛ على أمتك ، أو على هؤلاء الشهداء ، {ونزَّلنا عليك الكتابَ} : القرآن {تبيانًا} ؛ بيانًا بليغًا {لكل شيءٍ} من أمور الدين على التفصيل ، أو الإجمال ؛ بالإحالة على السنة أو القياس. {وهُدىً} من الضلالة ، {ورحمة} بنور الهداية لجميع الخلق. وإنما حُرم المحروم ؛ لتفريطه ، {وبُشرى} بالجنة ، وغيرها ، {للمسلمين} الموحدين خاصة. وبالله التوفيق.
الإشارة : قد بعث الله في كل دهر وعصر شهيدًا يشهد على أهله ، ويكون حجة عليهم يوم القيامة ، وهم صنفان : صنف يشهد على من فرط في أحكام الشريعة ، وهم : العلماء الأتقياء ، وصنف يشهد على من فرط في أسرار الحقيقة ، وهم : الأولياء الكبراء ، أعني : العارفين بالله ، فمن فرط في شيء منهما قامت عليه الحجة ؛ فإذا اعتذر لا ينفه ، وإذا طلب الرجوع لا يجده ، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئًا من دون الله ، تبرأ منه يوم القيامة ، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه ، وصد الناس عنه ؛ تضاعف عذابه ، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
51
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إنَّ الله يأمر بالعدل} أي : التوحيد ، أو الإنصاف ، أو فعل الفرائض ، {والإحسانِ} ، وهو : فعل المندوبات. وذلك في حقوق الله تعالى ، وفي حق عباده ، أو العدل في الأحكام ، كل واحد فيما ولي فيه ؛ " كلكم راع ". والإحسان إلى عباد الله بَرهم وفَاجرهم. قال ابن عطية : العدل : هو فعل كل مفروض ؛ من عقائد وشرائع ، وسير مع الناس في أداء الأمانات ، وترك الظلم ، والإنصاف ، وإعطاء الحق. والإحسان هو : فعل كل مندوب إليه.
(4/72)
وقال البيضاوي : {إن الله يأمر بالعدل} : بالتوسط في الأمور ؛ اعتقادًا ، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك ، والقول بالكسب ، المتوسط بين محض الجبر والقدر ، وعملاً ، كالتعبد بأداء الواجبات ، المتوسط بين البطالة والترهب ، وخُلُقًا ، كالجود المتوسط بين البخل والتبذير ، والإحسان : إحسان الطاعات ، وهو إما بحسب الكمية ، كالتطوع بالنوافل ، أو بحسب الكيفية ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك> " {وإيتاء ذي القربى} : وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه ، وهو تخصيص بعد تعميم ؛ للمبالغة.
{وينهى عن الفحشاء} : عن الإفراط في متابعة القوة الشهوية ، كالزنى ؛ فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها ، {والمنكر} : ما ينكر على متعاطيه في إيثاره القوة الغضبية ، {والبغي} : الاستعلاء والاستيلاء على الناس ، والتجبر عليهم ، فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية ، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام ، صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث ، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه : " هي أجمع آية في القرآن للخير والشر ". وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون ، فلو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء ، وهدى ورحمة للعالمين ، ولعل إيرادها عقب قوله : {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} ؛ للتنبيه عليه. هـ.
وفي القوت : هي قطب القرآن. هـ. وعن عثمان بن مظعون : أنه قال : لَمَّا نزلت هذه الآية ؛ قرأتُها على أبي طالب ، فعجب ، وقال : آلَ غالبٍ ، اتبعوه تُفلحوا ، فوالله إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق. هـ. قال ابن عطية : {وإيتاء ذي القربى} : لفظ يقتضي صلة الرحم ، ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة ، وتركه مبهمًا أبلغ ؛ لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية - وإن علت - يرى أنه مقصر ، وهذا المعنى المأمور به
52
(4/73)
في جانب ذي القربى داخل تحت العدل والإحسان ، لكنه تعالى خصه بالذكر ؛ اهتمامًا به وحضًا عليه. هـ.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
يَعِظُكُم} بما ذكر من التمييز بين الأمر والنهي ، والخير والشر ، {لعلكم تذكَّرون} : تتعظون فتنهضون إلى ما أمرتكم به وندبتكم إليه ، وتنكفوا عما نهيتكم عنه وحذرتكم منه. الإشارة : {إن الله يأمر بالعدل} ؛ بالتوسط في الأمور كلها ، كالتوسط في السير والمجاهدة ؛ فإن الإسراف يوقع في الملل ، قال - عليه الصلاة والسلام- : " لا يكن أحدكم كالمنبت ؛ لا أرضًا قطع ، ولا ظهرًا أبقى " وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا : " إنَّ اللهَ لا يملَ حتى تَملوا " والله ما رأيت أحداً أسرف في الأحوال فوصل إلى ما قصد ، إلا النادر ، وخير الأمور أوسطها. ويأمر بالإحسان ، وهو : مقام الشهود والعيان. {وإيتاء ذي القربى} ؛ قرابة الدين ، وهم : الإخوان في الله ، ما يستحقونه من النصح والإرشاد ، {وينهى عن الفحشاء} : الركون لغير الله ، {والمنكر} : التكبر على عباد الله ، {والبغي} : ظلم أحد من خلق الله ، من الفيل إلى الذرة.
وقال في الإحياء : بين التبذير والإقتار المذمومين وسط ، وهو المحمود المأمور به ، والواجب منه شيئان : واجب بالشرع ، وواجب بالمروءة. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة ، فإن منع واحدًا منهما فهو بخيل ، كالذي يمنع أداء الزكاة ، ويمنع أهله وعياله النفقة ، أو يؤديها لا بطيب نفسه ، بل بتكلف ، ومشقة. وكالذي يتيمم الخبيث من ماله ، ولا يعطي من أطيبه وأوسطه ، فهذا كله بُخل. وأما واجب المروءة فهو : ترك المضايفة والاستقصاء في المحقرات ، وذلك يختلف ؛ فيستقبح من الغني ما لا يستقبح من الفقير ، ويستقبح من الرجل مع أقاربه ما لا يستقبح مع الأجانب ، وكذلك الجار والمماليك والضيف. هـ.
(4/74)
وقال الورتجبي : إن الله تعالى دعا عباده إلى الاتّصاف بصفته ، منها : العدل والإحسان والشفقة والرحمة ، والقدس ، والطهارة عما لا يليق به. فهو العادل والمحسن ، والرحمن الرحيم ، غير ظالم جائر ، وهو مُنزه عن جميع العلل ، فمن كُسِي أنوار هذه الصفات ، بنعت الذوق والمباشرة ، واستحلى تربيتها يخرج عادلاً محسنًا ، رؤوفًا رحيمًا ، طاهرًا مطهرًا ، صادقًا مصدقًا ، وليًا ، حبيبًا محبوبًا ، مريدًا مرادًا ، مُراعَى محفوظًا ، يعدل بنفسه فيدفعها عن الشك والشرك ، ورؤية الغير وطلب العوض في العبودية ، ويأخذ منها الإنصاف بينها وبين عباد الله ، ويحسن إلى من أساء إليه ، ويعبد الله بوصف الرؤية وشهود غيبه ، ويراعي ذوي القرابة ، في المعرفة والمحبة ؛ من المريدين والصادقين ، ويرحم الجهال من المسلمين ، وينهى نفسه عن مباشرة فواحش الأنانية ، ومباشرة الهوى والشهوة ، ويدفعها عن الظلم ؛ باستكباره عن العبودية ، ويأمرها بإذعانها عند تراب أقدام
53
أولياء الله ؛ لتكون مطمئنة في عبودية الحق ، ذاكرة لسلطان ربوبيته ، وقهر جبروته وملكوته وإحاطته بكل ذرة ، وفناء الخليقة في حقيقته. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
قلت : {وقد جعلتم} : حال ، و {أنكاثًا} : حال من الغزل ، وهو : جمع نِكْث - بالكسر - بمعنى منكوث ، أي : منقوض. و {أن تكون} : مفعول من أجله ، و {تتخذون} : جملة حالية من ضمير " تكونوا ".
(4/75)
يقول الحقّ جلّ جلالة : {وأوفوا بعهد الله} ؛ كالبيعة للرسول - عليه الصلاة والسلام - وللأمراء ، والأيمان ، والنذور ، وغيرها ، {إذا عاهدتم} الله على شيء من ذلك ، {ولا تَنقضوا الأيمان} ؛ أيمان البيعة ، أو مطلق الأيمان ، {بعد توكيدها} ؛ بعد توثيقها بذكر الله ، أو صفته ، أو أسمائه ، {وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً} ؛ شاهدًا ورقيبًا ، بتلك البيعة ؛ فإن الكفيل مراع لحال المكفول رقيب عليه ، {إن الله يعلم ما تفعلون} في نقض الأيمان والعهود. وهو تهديد لمن ينقض العهد ، وهذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير ، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ، كما في بها خير ، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ، كما في الحديث.
{ولا تكونوا كالتي نَقَضَتْ غزلها} : أفسدته {من بعد قوة} أي : إبرام وإحكام ؛ {أنكاثًا} أي : طاقات ، أي : صيرته طاقات كما كان قبل الغزل ، بحيث حلت إحكامه وإبرامه ، حتى صار كما كان ، والمراد : تشبيه الناقض بمَن هذا شأنه ، وقيل : هي " ريطة بنت سعد القرشية " ؛ فإنها كانت خرقاء - أي : حمقاء - تغزل طول يومها ثم تنقضه ، فكانت العرب تضرب به المثل لمن قال ولم يُوف ، أو حلف ولم يَبر في يمينه.
54
{تتخذون أيمانكم دخلا بينكم} أي : لا تكونوا متشبهين بامرأة خرقاء ، متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم. وأصل الدخل : ما يدخل الشيء ، ولم يكن منه ، يقال : فيه الدخل والدغل ، وهو قصد الخديعة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 54
(4/76)
تفعلون ذلك النقض ؛ لأجل {أن تكون أُمةٌ هي أربى من أمةٍ} : بأن تكون جماعة أزيد عدداً وأوفر مالاً ، من جماعة أخرى ، فتنقضون عهد الأولى لأجل الثانية ؛ لكثرتها. نزلت في العرب ، كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى ، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها ، غدرت الأولى ، وحالفت الثانية. وقيل : الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش ؛ إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين ، فحذر من بايع على الإسلام أن ينقضه لما يرى من قوة كفار قريش.
{إنما يبلوكم} : يختبركم {اللهُ به} ؛ بما أمر من الوفاء بالعهد ؛ لينظر المطيع منكم والعاصي. أو : بكون أمة هي أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله ، أم تَغْتَرُّونَ بكثرة قريش وشوكتهم ، وقلة المؤمنين وضعفهم ؟ {وليُبَيننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} في الدنيا ؛ حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب. {ولو شاء اللهُ لجعلكم أمةً واحدة} ؛ أهل دين واحد متفقين على الإسلام ، {ولكن يُضل من يشاء} بعدله ، {ويهدي من يشاء} بفضله ، {ولتُسألنَّ يوم القيامة} ؛ سؤال تبكيت ومجازاة ، {عما كنتم تعملون} في الدنيا ؛ لتُجازوا عليه.
{ولا تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بينكم} ، كرره ؛ تأكيدًا ؛ مبالغة في قبح المنهي عنه من نقض العهود ، {فتزِلَّ قدمٌ} عن محجة الإسلام {بعد ثُبوتها} : استقامتها عليه ، والمراد : أقدامهم ، وإنما وُحد ونُكِّر ؛ للدلالة على أن زلل قدم واحد عظيم ، فكيف بأقدام كثيرة ؟ {وتذوقوا السُّوءَ} : العذاب في الدنيا {بما صددتم عن سبيل الله} أي : بصدكم عن الوفاء بعهد الله ، أو بصدكم غيركم عنه ؛ فإن من نقض البيعة ، وارتد ، جعل ذلك سُنَّة لغيره ، {ولكم عذابٌ عظيم} في الآخرة.
(4/77)
{ولا تشتروا بعهد الله} أي : لا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذكم {ثمنًا قليلاً} : عرضًا يسيرًا من الدنيا ، بأن تنقضوا العهد لأجله. قيل : هو ما كانت قريش يعدونه لضعفاء المسلمين ، ويشترطون لهم على الارتداد ، {إِنَّما عند الله} من النصر والعز ، وأخذ الغنائم في الدنيا ، والثواب الجزيل في الآخرة ، {هو خيرٌ لكم} مما يعدونكم ، {إن كنتم تعلمون} ذلك فلا تنقضوا ، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز.
{ما عندكم} من أعْرَاضِ الدنيا {يَنْفَذُ} ؛ ينقضي ويفنى ، {وما عند الله} من خزائن رحمته ، وجزيل نعمته {باقٍ} لا يفنى ، وهو تعليل للنهي عن نقض العهد ؛ طمعًا في العَرَضِ الفاني ، {وليجزين الذين صبروا} على الوفاء بالعهود ، أو على الفاقات وأذى
55
الكفار ، أو مشاق التكاليف ، {أجرهم بأحسنِ ما كانوا يعملون} بما يرجح فعله من أعمالهم ، كالواجبات والمندوبات ، أو بجزاء أحسن من أعمالهم. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 54
(4/78)
الإشارة : الوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، من شأن الصالحين الأبرار ، كالعباد والزهاد ، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شيء ، ولا يعقدون على شيء ، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين ، ليس لهم عن أنفسهم إخبار ، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت ، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم. قال تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن : 29] ، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون ؛ فمن عقد معهم عقدًا ، أو أخذ منهم عهدًا ، فلا يعول على شيء من ذلك ؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم ، بل هي بيد مولاهم. وليس ذلك نقصًا في حقهم ، بل هو كمال ؛ لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم ، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم ، وإلاَّ فحسبه التسليم ، وطرح الميزان عنهم ، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 54
يقول الحقّ جلّ جلاله : {مَن عَمِلَ صالحًا} ؛ بأن صحبه الإخلاص ، وتوفرت فيه شروط القبول ، {من ذَكَرٍ أو أنثى وهو مؤمن} ؛ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب ، وإنما المتوقع عليها تحقيق العقاب ، {فلنحيينَّهُ حياة طيبةً} في الدنيا ، بالقناعة والكفاية مع التوفيق والهداية. قال البيضاوي : يعيش عيشًا طيبًا ، فإنه ، إن كان موسرًا ، فظاهر ، وإن كان معسرًا يطيبُ عيشه بالقناعة ، والرضا بالقسمة ، وتوقع الأجر العظيم ، بخلاف الكافر ، فإنه ، إن كان معسرًا فظاهر ، وإن كان موسرًا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يهنأ بعيشه ، وقيل : في الآخرة ، أي : في الجنة. هـ. {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} من الطاعة ، فيجازيهم على الحسن بجزاء الأحسن. وبالله التوفيق.
(4/79)
الإشارة : الحياة الطيبة إنما تتحقق بكمالها عند أهل التجريد ؛ حيث انقطعت عنهم الشواغل في الظاهر ، والعلائق في الباطن ، فاطمأنت قلوبهم بالله ، وسكنت أرواحهم في حضرة الله ، وتحققت أسرارهم بشهود الله ، فدام سرورهم ، واتصل حبورهم بحلاوة معرفة محبوبهم ، وهذه نتيجة شرب الخمرة الأزلية ، كما قال ابن الفارض في مدحها :
وإنْ خَطَرَتْ يومًا على خاطرِ امرىءٍ
أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ
56
هذا في الخطور ، فما بالك بالسكون ودوام الحضور ؟ وقال أيضًا في شأنها :
فما سكنَتْ والهمّ يومًا بموضع
كذلك لا يسكُنْ مع النَّغَم الغَم
وإنما تحقق لهم هذا الأمر العظيم ؛ لرسوخ قدمهم في مقام الإحسان ، وسكونهم في جنة العرفان ، فَهَبَّ عليهم نسيم الرضا والرضوان ، وترقت أرواحهم إلى مقام الروح والريحان ، فقلوبهم بحار زاخرة لا تكدرها الدلاء ، وأرواحهم أنوار ساطعة لا يؤثر فيها ليل القبض والابتلاء ، وأسرارهم بأنوار المواجهة مشرقة ، فدام سرورها بكل ما يبرز من عنصر القضاء. والحاصل : أن أهل هذا المقام عندهم من الإكسير والقوة ما يقلبون به الأعيان ، فيقلبون الشرِّيات خيريات ، والمعاصي طاعات ، والإساءة إحسانًا ، والجلال جمالاً... وهكذا ، فأَنَّى تغير قلوبَ هؤلاء الأكدارُ ؟ وأنى تنزل بساحتهم الأغيارُ ، وهم في حضرة الكريم الغفار ؟ نفعنا الله بذكرهم ، وخرطنا في سلكهم ، آمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 56
(4/80)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {فإِذا قرأتَ القرآنَ} ؛ أردت قراءته ، كقوله : {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المَائدة : 6] ، {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} أي : فسل الله أن يعيذك من وسواسه ؛ لئلا يوسوسك في القراءة ، فيحرمك حلاوة التلاوة ؛ فإنه عدو لا يحب لابن آدم الربح أبدًا ، والجمهور على أنه مستحق عند التلاوة ، وعن عطاء : أنه واجب. ومذهب مالك : أنه لا يتعوذ في الصلاة. وعند الشافعي وأبي حنيفة : يتعوذ في كل ركعة ؛ تمسكًا بظاهر الآية ؛ لأن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره ، وأخذ مالك بعمل أهل المدينة في ترك التعوذ في الصلاة. وهو تابع للقراءة في السر والجهر ، وعن ابن مسعود : قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال : " قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". ثم قال تعالى : {إِنه ليس له سلطانٌ} أي : تسلط وولاية {على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} أي : لا تسلط له على أولياء الله المؤمنين به ، والمتوكلين عليه ، فإنهم لا يطيعون أوامره ، ولا يصغون إلى وساوسه ، إلا فيما يحتقر ، على ندور وغفلة. {إِنما سلطانه} أي : تَسَلُّطُهُ {على الذين يتولونه} : يحبونه ويطيعونه ،
57
{والذين هم به} أي : بالله ، أو : بسبب الشيطان ، {مشركون} ؛ حيث حملهم على الشرك فأطاعوه.
الإشارة : الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هي : الغيبة عنه في ذكر الله أو شهوده ، فلا ينجح في دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن. قال تعالى : {فَفِرُّوااْ إِلَى اللَّهِ} [الذَّاريات : 50]. فإن الشيطان كالكلب ، كلما اشتغلت بدفعه قوي نبحه عليك ، فإما أن يخرق الثياب ، أو يقطع الإهاب ، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : عداوة العدو حقًا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو ، فاتتك محبة الحبيب ، ونال مراده منك. هـ.
(4/81)
فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر الله باللسان ، ثم بالقلب ، ثم بالروح ، ثم بالسر ، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط ، أو يذعن له ويسلم شيطانه ، فإنما حركه عليك ؛ ليوحشك إليه. وفي الحكم : " إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". فإذا تعلقْتَ بالقوي المتين ، هرب عنك الشيطان اللعين. وسيأتي مزيد كلام إن شاء الله عند قوله تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ...} [فَاطِر : 6] الآية. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 57
قلت : {والله أعلمُ بما يُنزَّل} : معترض بين الشرط ، وهو : {إذا} وجوابه ، وهو : {قالوا} ؛ لتوبيخ الكفار ، والتنبيه على فساد سندهم. و {هدى وبشرى} : عطف على : " ليُثبت ".
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإِذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ} ؛ بأن نسخنا الأولى ؛ لفظًا أو حكمًا ، وجعلنا الثانية مكانها ، {والله أعلم بما يُنزّل} من المصالح ، فلعل ما يكون في وقت ، يصير مفسدة بعده ، فينسخه ، وما لا يكون مصلحة حينئذ ، يكون مصلحة الآن ، فيثبته مكانه. فإذا نسخ ، لهذه المصلحة ، {قالوا} أي : الكفرة : {إِنما أنت مُفتَر} : كذاب مُتَقوِّل على الله ، تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه ، قال تعالى : {بل أكثرهم لا يعلمون} حكمة النسخ ولا حقيقة القرآن ، ولا يميزون الخطأ من الصواب.
58
{قل نزّله روحُ القُدُس} يعني : جبريل. والقدس : الطهر والتنزيه ؛ لأنه روح مُنزه عن لوث البشرية. نزله {من ربك} ملتبسًا {بالحق} : بالحكمة الباهرة ، أو مع الحق في أمره ونهيه وإخباره ، أو أنزله حقًا ، {ليُثَبتَ الذين آمنوا} على الإيمان ؛ لأنه كلام الله ، ولأنهم إذا سمعوا الناسخ والمنسوخ ، وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح ، رسخت عقائدهم ، واطمأنت قلوبهم. {و} أنزله {هدىً وبُشرى للمسلمين} المنقادين لأحكامه ، أي : نزله ؛ تثبيتًا وهداية وبشارة للمسلمين.
(4/82)
{ولقد نعلم أنهم يقولون إِنما يُعلِّمِه بَشَرٌ} يعنون : غلامًا نصرانيًا اسمه : جبَر ، وقيل : يعيش. قيل : كانا غلامين ، اسم أحدهما : جبَر ، والآخر يَسارٌ ، وكانا يصنعان السيوف ، ويقرآن التوراة والإنجيل ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما ، ويدعوهما إلى الإسلام ، فقالت قريش : هذان هما اللذان يعلمان محمدًا ما يقول. قال تعالى في الرد عليهم : {لسانُ الذي يُلحدون إِليه أعجمي} أي : لغة الرجل الذي يُمِيلُون قولَهم عن الاستقامة إليه ، وينسبون إليه تعليم القرآن ، أعجمي ، {وهذا} القرآن {لسانٌ عربي مبين} ؛ ذو بيان وفصاحة. قال البيضاوي : والجملتان مستأنفتان ؛ لإبطال طعنهم ، وتقريره يحتمل وجهين ؛ أحدهما : أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم ، والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل ، فكيف يكون ، - أي : القرآن - ما تلقفه منه ؟ وثانيهما : هب أنه تلقف منه المعنى باستماع كلامه ، لكن لم يتلقف منه اللفظ ؛ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي ، والقرآن ، كما هو معجز باعتبار المعنى ، معجز باعتبار اللفظ ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة ، فكيف يعلم جميع ذلك من غلام سُوقي ، سمع منه ، بعض أوقات ، كليمات عجمية ، لعله لم يعرف معناها ؟ ! فطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 58
الإشارة : كما وقع النسخ في وحي أحكام ، يقع في وحي إلهام ؛ فقد يتجلى في قلب الولي شيء من الأخبار الغيبية ، أو يأمر بشيء يليق ، في الوقت ، بالتربية ، ثم يُخبر أو يأمر بخلافه ؛ لوقوع النسخ أو المحو ، فيظن من لا معرفة له بطريق الولاية أنه كذب ، فيطعن أن يشك ، فيكون ذلك قدحًا في بصيرته ، وإخمادًا لنور سريرته ، إن كان داخلاً تحت تربيته. والله تعالى ىأعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 58
(4/83)
قلت : {من كفر} : شرطية مبتدأ ، وكذلك {من شرح}. و {فعليهم غضب} : جواب عن الأولى والثانية ؛ لأنهما بمعنى واحد ، ويكون جوابًا للثانية ، وجواب الأولى : محذوف يدل عليه جواب الثانية. وقيل : {من كفر} : بدل من {الذين لا يؤمنون} ، أو من المبتدأ في قوله : {أولئك هم الكاذبون} ، أو من الخبر. و {إلا من أكره} : استئناف من قوله : {من كفر}.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِنَّ الذين لا يؤمنون} ؛ لا يُصدِّقون {بآيات الله} ، ويقولون : هي من عند غيره ، {لا يهديهم الله} إلى سبيل النجاة ، أو إلى اتباع الحق ، أو إلى الجنة. {ولهم عذاب أليم} في الآخرة. وهذا في قوم عَلِمَ أَنهم لا يؤمنون ، كقوله : {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس : 96]. وقال ابن عطية : في الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله. ولكنه قدَّم وأخر ؛ تهممًا بتقبيح أفعالهم. هـ.
قال البيضاوي : هددهم على كفرهم ، بعد ما أماط شبهتهم ، ورد طعنهم فيه ، ثم قلب الأمر عليهم ، فقال : {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} ؛ لأنهم لا يخافون عذابًا يردعهم عنه ، {وأولئك هم الكاذبون} على الحقيقة ، أو الكاملون في الكذب ؛ لأن تكذيب آيات الله ، والطعن فيها ، بهذه الخرافات أعظم الكذب. وأولئك الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة. أو الكاذبون في قولهم : {إنما أنت مفتر} ، {إِنما يعلمه بشر}. هـ. والكلام كله مع كفار قريش.
ثم ذكر حكم مَن ارتد عن الإيمان ؛ طوعًا أو كرهًا ، فقال : {من كفر بالله من بعد إِيمانه} فعليهم غضب من الله ، {إِلا مَن أُكْرِه} على التلفظ بالكفر ، أو على الافتراء على الله ، {وقلبُه مطمئن بالإِيمان} ؛ لم تتغير عقيدته ، {ولكن من شرح بالكفر صدرًا} أي : فتحه ووسعه ، فاعتقده ، وطابت به نفسه ، {فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم} ؛ إذ لا أعظم من جرمه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 59
(4/84)
رُوِيَ أن قريشًا أكرهوا عمّارًا وأبويه - وهما ياسر وسمية - على الارتداد ، فربطوا سمية بين بعيرين ، وطعنوها بحربة في قلبها ، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال ، فماتت - رحمة الله عليها - وقتلوا ياسرًا زوجها ، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأعطاهم
60
عمار بلسانه ما أرادوا ؛ مُكرهًا ، فقيل : يا رسول الله ؛ إن عمارًا كفر ، فقال : " كَلا ، إن عَمَّارًا مُلئ إيمَانًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ ، واخْتَلَطَ الإِيمَانُ بلَحْمِهِ ودَمِهِ " فَأَتَى عمَّار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْكي ، فَجَعَلَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَيْنَيْه ، ويقول : " مَا لك ، إِنْ عَادُوا لَك فَعُدْ لَهُمْ بِما قُلْتَ ". وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه. وإن كان الأفضل أن يجتنب عنه ، إعزازًا للدين ، كما فعل أبواه. لما رُوي أنَّ مسيلمة أخذ رجلين ، فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله. وقال : ما تقول فيَّ ؟ فقال : أنت أيضًا ، فخلى سبيله ، وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله ، فقال : ما تقول فيَّ ؟ فقال : أنا أصم ، فأعاد عليه ثلاثًا ، فأعاد جوابه ، فقتله ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : " أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الآخر فقد صدع بالحق ، فهنيئًا له " هـ. قاله البيضاوي.
(4/85)
قال ابن جزي : وهذا الحكم فيمن أكره على النُطق بالكفر ، وأما الإكراه على فعل وهو كفر ، كالسجود للصنم ، فاختلف ؛ هل يجوز الإجابة إليه أو لا ؟ فأجازه الجمهور ، ومنعه قوم. وكذلك قال مالك : لا يلزم المكره يمين ، ولا طلاق ، ولا عتاق ، ولا شيء فيما بينه وبين الله ، ويلزمه ما كان من حقوق الناس ، ولا تجوز له الإجابة إليه ؛ كالإكراه على قتل أحدٍ أو أخذ ماله. هـ. وذكر ابن عطية أنواعًا من الأمور المكره بها ، فذكر عن مالك : أن القيد إكراه ، والسجن إكراه ، والوعيد المخوف إكراه ، وإن لم يقع ، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي ، وإنفاذه فيما يتوعد به. ثم ذكر خلافًا في الحنث في حق من حلف ؛ للدرء عن ماله ، لظالم ، بخلاف الدرء عن النفس والبدن ، فإنه لا يحنث ، قولاً واحدًا ، إلا إذا تبرع باليمين ، ففي لزومه خلاف. وانظر المختصر في الطلاق.
ثم علل نزول العذاب بهم ، فقال : {ذلك} الوعيد {بأنهم استحبُّوا الحياةَ الدنيا على الآخرة} أي : بسبب أنهم آثروها عليها ، {وأنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين} ، الذين سبق لهم الشقاء ، فلا يهديهم إلى ما يوجب ثبات الإيمان في قلوبهم ، ولا يعصمهم من الزيغ. {أولئك الذين طَبَعَ اللهُ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم} ؛ فغابت عن إدراك الحق والتدبر فيه ، {وأولئك هم الغافلون} الكاملون في الغفلة ، حتى أغفلتهم الحالة الزائفة عن التأمل في العواقب. {لا جَرَمَ} : لا شك {أنهم في الآخرة هم الخاسرون} ؛ حيث ضيعوا أعمارهم ، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد. قاله البيضاوي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 59
الإشارة : من سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد ، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففي التحقيق : ما ثَمَّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان في عداد المريدين السالكين ،
61
(4/86)
ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين ، {فمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ، أي : بالتصديق بطريق الخصوص ، وهو مصمم على الرجوع إليها ؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه ، ما يُرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية ، ثم أنهضته العناية ، ففرّ إلى الله ، التحق بأولياء الله ، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم ، وطال مقامه مع العوام ، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص ، والتحق بأقبح العوام ، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء ، فلعله يحشر معهم ، ودرجته مع العوام. قال القشيري : إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه ، وإِخلاصَه في عَقْدِه ، ثم لحقته ضرورة في حاله ، خَفَّفَ عنه حُكْمَه ، ورفع عنه عناءهَ ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر ؛ مُكْرَهًا ، وهو بالتوحيد محقق ، عُذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم ، وتجردوا لسلوك طريق الله ، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ ، فاتفقت لهم أعذارٌ ، فنفذ ما يوجبه الحال ، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم ، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم ، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله. هـ.
قلت : هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ ، ملازمين لهم ، أو واصلين إليهم ، وأما إن تركوا الصحبة ، أو الوصول ، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية.
(4/87)
ثم قال في قوله : {ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا} : من رجع باختياره ، ووضع قدَمًا في غير طريق الله ، بحُكْمِ هواه ، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله ، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله ، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ ، إلى أن تتداركه الرحمة. هـ. قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي ، ما نصه : وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال ، وتراكمت الفتن والهوال ، وتصدعت الأحوال ، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا ، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا ، فيكون معه قصور في جانب الحق ، لا في جانب الحقيقة ، فلا يضر ، إن رجع في ذلك لمولاه ؛ فرارًا ، وإلى ربه ؛ اضطرارًا. {ففروا إلى الله}. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 59
قلت : {إن} الثانية : تأكيد ، والخبر للأول.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ثم إِن ربك للذين هاجروا} من دار الكفر إلى المدينة {من بعد ما فُتنوا} أي : عُذبوا على الإسلام ؛ كعمار بن ياسر ، وأشباهه ؛ من المعذبين
62
على الإسلام. هذا على قراءة الضم. وقرأ ابن عامر : " فتنوا " ؛ بفتح التاء ، أي : فتنوا المسلمين وعذبوهم ، فتكون فيمن عذب المسلمين ، ثم أسلم وهاجر وجاهد ، كعامر بن الحضرمي ، أكره مولاه جبرًا حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا ثم جاهدا ، وصبرا على الجهاد وما أصابهم من المشاق ، {إِن ربك من بعدها} ؛ من بعد الهجرة والجهاد والصبر ، {لغفور رحيم} أي : لغفور لما مضى قبلُ ، رحيم ؛ يجازيهم على ما صنعوا بعدُ.
الإشارة : من نزلت به قهرية ، أو حصلت له فترة ، حتى رجع عن طريق القوم ، ثم تاب وهاجر من موطن حظوظه وهواه ، وجاهد نفسه في ترك شواغل دنياه ، واستعمل السير إلى من كان يدله على الله ؛ {إن ربك من بعدها لغفور رحيم} ؛ يغفر له ما مضى من فترته ، ويلحقه بأصحابه وأبناء جنسه. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 62
قلت : {يوم} : منصوب باذكر ، أو بغفور رحيم.
(4/88)
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر {يوم تأتي كلُّ نفس تُجادِلُ عن نفسها} ؛ عن ذاتها ، وتسعى في خلاصها ، لا يهمها شأن غيرها ؛ {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ} [عَبَسَ : 34-36] ، {وتُوفَّى كلُّ نفس} جزاء {ما عملت} على التمام ، {وهم لا يُظلمون} : لا يُنقصون من أجورهم مثقال ذرة.
الإشارة : النفس التي تجادل عن نفسها ، وتوفى ما عَمِلَتْ من خير أو شر ، إنما هي النفس الأمارة أو اللوامة. وأما النفس المطمئنة بالله ، الفانية في شهود ذات الله ، لا ترى وجودًا مع الله ؛ فلا يتوجه عليها عتاب ، ولا يترتب عليه حساب ؛ إذ لم يبق لها فعل تُحاسب عليه. وعلى تقدير وجوده فقد حاسبت قبل أن تحاسَب ، بل هي في عداد السبعين ألفًا ، الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وهم المتوكلون. أو تقول : هي في عداد من يلقى الله بالله ، فليس لها شيء سوى الله ، فحجته ، يوم تجادل النفوس ، هو الله. كما قال الشاعر :
وجهك المحمود حُجتنا
يوم يأتي الناسُ بالحُجج
وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 62
قلت : {قرية} : بدل من : {مثلاً}.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وضرب اللهُ مثلاً} ، ثم فسره بقوله : {قريةً} : مكة ، وقيل : غيرها. {كانت آمنة} من الغارات ، لا تُهَاجُ ، {مطمئنة} لا تحتاج إلى الانتقال عند الضيق أو الخوف ، {يأتيها رزقها} : أقواتها {رغدًا} : واسعًا {من كل مكان} من نواحيها ، {فكفرتُ بأنعُم الله} ؛ بطرت بها ، أو بنبي الله ، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، {فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوف} ، استعار الذوق لإدراك أثر الضرر ، واللباس لِمَا غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف ، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة ، وأما اللباس فقد يستعيرونه لما يشتمل على الشيء ويستره ؛ يقول الشاعر :
غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا
غَلِقَتْ لِضحكَتِهِ رِقَابُ المَالِ
(4/89)
فقد استعار الرداء للمعروف ، فإنه يصون عِرْضَ صاحبه صون الرداء ؛ لما يلقى عليه ، والمعنى : أنهم لما كفروا النعم أنزل الله بهم النقم ، فأحاط بهم الخوف والجوع إحاطة الثوب بمن يستتر به ، فإن كانت مكة ، فالخوف من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغاراته عليهم ، وإن كان غيرها ، فمن كل عدو ، وذلك بسبب ما كانوا يصنعون من الكفر والتكذيب.
{ولقد جاءهم رسولٌ منهم} ، يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم ، والضمير لأهل مكة. عاد إلى ذكرهم بعد ذكر مثَلِهم. {فكذَّبوه فأخذهم العذاب} : الجوع والقحط ، ووقعة بدر ، {وهم ظالمون} ؛ ملتبسون بالظلم ، غير تائبين منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ضرب الله مثلاً ؛ قلبًا كان آمنًا مطمئنًا بالله ، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان ، فكفر نعمة الشيخ ، وخرج من يده قبل كماله ، فأذاقه الله لباس الفقر بعد الغنى بالله ، والخوف من الخلق ، وفوات الرزق ، بعد اليقين ؛ بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة ، ولو خرج إلى من هو أعلى منه ؛ لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك ، ومن رزق من باب لزمه. وهذا أمر مُجرب عند أهل الذوق بالعيان ، وليس الخبر كالعيان ، هذا إن كان أهلاً للتربية ، مأذونًا له فيها ، جامعًا بين الحقيقة والشريعة ، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها ، وبالله التوفيق.
64
جزء : 4 رقم الصفحة : 63
قلت : {الكذب} : مفعول بتقولوا ، و {هذا حلال وهذا حرام} : بدل منه ، أي : لا تقولوا الكذب ، وهو قولكم : {هذا حلال وهذا حرام} ، و {ما} في قوله : {لما تصف} ؛ ويجوز أن ينتصب الكذب بـ {تصف} ، ويكون " ما " مصدرية. ويكون قوله : {هذا حلال وهذا حرام} معمولاً لتقولوا ، أي : لا تقولوا : هذا كذا وهذا كذا ؛ لأجل وصف ألسنتكم الكذب.
(4/90)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيبًا} ، أمرهم بأكل ما أحل لهم ، وشُكر ما أنعم عليهم ، بعد ما زجرهم عن الكفر ، وهددهم عليه ، بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم ؛ صدًا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. قاله البيضاوي : {واشكروا نعمتَ الله} ؛ لتدوم لكم {إن كنتم إياه تعبدون} فلا تنسبوا نعمه إلى غيره ، كشفاعة الأصنام وغيرها. {إنما حرّم عليكم الميتةَ والدمَ ولحم الخنزيرِ وما أهلّ لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم} ، تقدم تفسيرها في البقرة والمائدة. قال البيضاوي : أمرهم بتناول ما أحل لهم ، وعدد عليهم محرماته ، ليعلم أن ما عداها حل لهم. ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم بقوله : {ولا تقولوا لما تَصفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرام} لما لم يحله الله ولم يحرمه ، كما قالوا : {مَا فِي بُطُونِ هَـاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىا أَزْوَاجِنَا...} [الأنعام : 139] الآية. هـ. تقولون ذلك ؛ {لتفتروا على الله الكذب} بنسبة ذلك إليه. {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} أبدًا ؛ لأنهم تعجلوا فلاح الدنيا بتحصيل أهوائهم ، فحُرموا فلاح الآخرة ، ولذلك قال : {متاع قليل} أي : لهم تمتع في الدنيا قليل ، يفنى ويزول. {ولهم عذاب أليم} في الآخرة.
65
{وعلى الذين هادوا حرّمنا ما قصَصنَا عليك من قبل} في سورة الأنعام بقوله {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام : 146] الآية ، {وما ظلمناهم} بالتحريم ، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} ؛ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. ذكر الحق تعالى ما حرم على المسلمين ، وما حرم على اليهود ؛ ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 65
(4/91)
الإشارة : يقول الحق - جلّ جلاله - ، لمن بقي على العهد ؛ من شكر النعم ؛ بالإقرار بفضل الواسطة : {فكلوا مما رزقكم الله} من قوت اليقين وفواكه العلوم ، {واشكروا نعمة الله} إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة. إنما حرَّم عليكم ما يشغلكم عنه ، كجيفة الدنيا والتهارج عليها ، ونجاسة الغفلة ، وما يورث القساوة والبلادة ، وقلة الغيرة على الحق ، وما قبض من غير يد الله ، أو ما قصد به غير وجه الله ، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 65
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ثم إن ربك للذين عملوا السُّوء} ؛ كالشرك ، والافتراء على الله ، وغير ذلك ، {بجهالةٍ} أي : ملتبسين في حال العمل بجهالة ، كالجهل بالله وبعقابه ، وعدم التدبر في عواقبه ؛ لغلبة الشهوة عليه ، {ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} عملهم ، {إن ربك من بعدها} أي : التوبة ، أو الجهالة ، {لغفور} لذلك السوء ، {رحيمٌ} بهم ؛ يثيبهم على الإنابة.
الإشارة : كل من أساء الأدب ، ثم تاب وأناب ، التحق بالأحباب. قال بعضهم : " كل سوء أدب يثمر أدبًا فهو أدب ". والتوبة تتبع المقامات ؛ فتوبة العوام : من الهفوات ، وتوبة الخواص : من الغفلات ، وتوبة خواص الخواص : من الفترات عن شهود الحضرات. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 65
66
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِنَّ إِبراهيم كان أُمةً} أي : إمامًا قدوة ؛ قال تعالى : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة : 124] ، قال ابن مسعود : " الأُمة : معلّم الناس الخيرَ " ، أو أمة وحده ، اجتمع فيه ما افترق في غيره ، فكان وحده أمة من الأمم ؛ لكماله واستجماعه لخصال الكمال التي لا تكاد تجتمع إلا في أشخاص كثيرة ، كقول الشاعر :
ولَيْسَ عَلَى الله بمُسْتَنْكَرٍ
أنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِد
(4/92)
وهو رئيس الموحدين ، وقدوة المحققين ، جادل فرق المشركين ، وأبطل مذاهبهم الزائفة بالحجج الدامغة. ولذلك عقَّب ذكره بتزييف مذاهب المشركين. أو : لأنه كان وحده مؤمنًا وسائر الناس كفارًا. قاله البيضاوي. وكان {قانتًا لله} ؛ مطيعًا قائمًا بأوامره ، {حنيفًا} ؛ مائلاً عن الباطل ، {ولم يَكُ من المشركين} ، وأنتم يا معشر قريش تزعمون أنكم على دينه ، وأنتم مشركون.
وكان {شاكرًا لأنعُمِه} ، لا يخل بشكر قليل منها ولا كثير. ولذلك ذكرها بلفظ جمع القلة ، {اجتباه} : اختاره للنبوة والرسالة والخلة. {وهداه إلى صراط مستقيم} ؛ التي توصل إلى حضرة النعيم ، ودعا إليها ، {وآتيناه في الدنيا حسنة} ؛ بأن حببناه إلى كافة الخلق ، ورزقناه الثناء الحسن في الملل كلها ، حتى إِنَّ أرباب الملك والجبابرة يتولونه ويثنون عليه. ورزقناه أولادًا طيبة ، وعمرًا طويلاً في الطاعة والمعرفة ، ومالاً حلالاً. {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} لحضرتنا ، المقربين عندنا ، الذين لهم الدرجات العلا ؛ كما سأله ذلك بقوله : {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشُّعَرَاء : 83].
{ثم أوحينا إليك} يا محمد {أن اتبعْ ملةَ إِبراهيم} ؛ دينه ومنهاجه في التوحيد ، والدعوة إليه بالرفق ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، كل واحد بحسب فهمه. وكان {حنيفًا} ؛ مائلاً عما سوى الله ، {وما كان من المشركين} ، بل كان قدوة الموحدين. كرره ؛ ردًا على اليهود والنصارى والمشركين في زعمهم أنهم على دينه مع إشراكهم. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 66
الإشارة : كل من تمسك بطاعة الله ظاهرًا ، أو مال عما سوى الله باطنًا ، وشكر الله دائمًا ، ودعا الناس إلى هذا الأمر العظيم : كان وليًا إبراهيميًا ، محمديًا ، خليلاً حبيبًا ، مقربًا ، قد اجتباه الحق تعالى إلى حضرته ، وهداه إلى صراط مستقيم ، وعاش في الدنيا سعيدًا ، ومات شهيدًا ، وألحق بالصالحين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
67
(4/93)
جزء : 4 رقم الصفحة : 66
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِنما جُعِل السبتُ} أي : فُرض تعظيمه وإفراده للعبادة ، {على الذين اختلفوا فيه} على نبيهم ، وهم : اليهود ؛ أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة ، فأبوا وقالوا : نريد يوم السبت ؛ لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السماوات والأرض ، فألزمهم الله السبت ، وشدَّد عليهم فيه. وقيل : لما أمرهم بيوم الجمعة ، قَبِلَ بعضهم ، وأبى أكثرهم ، فاختلفوا فيه. وقيل : اختلافهم : هو أن منهم من حرَّم الصيد فيه ، ومنهم من أحله ، فعاقبهم الله بالمسخ. والتقدير على هذا : إنما جعل وبال السبت - وهو المسخ - ، {على الذين اختلفوا} ؛ فأحلوا فيه الصيد تارة ، وحرموه أخرى ، أو أحله بعضهم ، وحرمه بعضهم ، وذكرهم هنا ؛ تهديدًا للمشركين ، كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله ، {وإِن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} ؛ فيجازي كل فريق بما يستحقه ، فيثيب المطيع ، ويعاقب العاصي.
الإشارة : الاختلاف على الأكابر ؛ كالشيوخ والعلماء ، والتقدم بين أيديهم بالرأي والكلام ، من أقبح المساوئ ، وسوء الأدب يوجب لصاحبه العطب ؛ كالقطع عن الله ، والبعد من ساحة حضرته. قال بعضهم : إذا جالست الكبراء ؛ فدع ما تعلم لما لا تعلم ؛ لتفوز بالسر المكنون. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 67
(4/94)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ادْعُ} يا محمد الناسَ {إلى سبيل ربك} ؛ إلى طريقه الموصل إليه ، وهو : الإسلام والإيمان ، والإحسان ؛ لمن قدر عليه ، {بالحكمة} ؛ بسياسة النبوة ، أو بالمقالة المحكمة ، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة ، {والموعظة الحسنة} ؛ مواعظ القرآن ورقائقه ، أو الخطابات المقنعة والعبر النافعة ، {وجادلهم} أي : جادل معاندتهم {بالتي هي أحسن} ؛ بالطرق التي هي أحسن طرق المجادلة ؛ من الرفق واللين ، وإيثار الوجه الأيسر ، والمقدمات التي هي أشهر ؛ فإن ذلك أنفع في تليين لهبهم ، وتبيين شغبهم ، فالأولى : لدعوة خواص الأمة الطالبين للحق. والثانية : لدعوة عوامهم ، والثالثة : لدعوة معاندهم.
68
قال ابن جزي : الحكمة هي : الكلام الذي يظهر جوابه ، والموعظة : هي : الترغيب والترهيب. والجدال هو : الرد على الخصم. وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدل ، وهذه الآية تقتضي مهادنة نُسخت بالسيف. وقيل : إن الدعاء بهذه الطريقة ، من التلطف والرفق ، غير منسوخ ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الموعظة من الكفار ، وأما العصاة فهي في حقهم مُحكمة إلى يوم القيامة باتفاق. هـ.
{إِنَّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} أي : إنما عليك البلاغ والدعوة. وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس من شأنك ، بل الله أعلم بالضالين والمهتدين ، وهو المجازي للجميع.
(4/95)
الإشارة : الدعاء بالحكمة هو الدعاء بالهمة والحال ، يكون من أهل الحق والتحقيق ؛ لأهل الصدق والتصديق. والدعاء بالموعظة الحسنة هو الدعاء بالمقال من طريق الترغيب والتشويق ، يكون لأهل التردد في سلوك الطريق. والدعاء بالمجادلة الحسنة هو الدعاء بالوعظ والتذكير. وذِكْرُ بيانِ الطريق ، وفضيلة علم التحقيق ، يكون لأهل الإنكار ؛ إن وصلوا إلى أهل التحقيق. والحاصل : أن الدعاء بالحكمة ؛ لأهل المحبة والتصديق. والدعاء بالموعظة : لأهل التردد في الطريق. والدعاء بالمجادلة : لأهل الإنكار ؛ حتى يعرفوا الحق من الباطل. وإن شئت قلت : الدعاء بالحكمة هو للعارفين الكبار ، والدعاء بالموعظة الحسنة هو لأهل الوعظ والتذكار من الصالحين الأبرار ، والدعاء بالمجادلة الحسنة هو للعلماء الأخيار. وقد تجتمع في واحد ؛ إن جمع بين الظاهر والباطن. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 68
ولما أمره بالدعوة العامة أمره بالصبر العام ؛ لأن الدعوة لا تنفك عن الأذى ، فيحتاج صاحبها إلى صبر كبير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 68
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإِنْ عاقبتم} من آذَاكُمْ {فعَاقِبوا بمثل ما عُوقبتم به} أي : إن صنع بكم صنيع سوء فافعلوا مثله ، ولا تزيدوا عليه. والعقوبة ، في الحقيقة ، إنما هي في الثانية. وسميت الأولى عقوبة ؛ لمشاكلة اللفظ. وقال الجمهور : إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب ، لما بَقَر المشركون بطنه يوم أحد ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لئن أظْفَرَنِي اللهُ بِهمْ لأُمَثِّلَنَّ بسِبْعِينَ منهم " فنزلت
69
الآية ، فكفّر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن يمينه ، وترك ما أراد من المُثْلَةِ. ولا خلاف أن المثلة حرام ، وقد وردت أحاديث بذلك. ومقتضى هذا : أن الآية مدنية. ويحتمل أن تكون الآية عامة ، ويكون ذكرهم حمزة على وجه المثال. وتكون ، على هذا ، مكية كسائر السورة.
(4/96)
واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال ، ثم ائتمن عليه ، هل يجوز خيانته ، في القدر الذي ظلمه فيه ؟ فأجاز ذلك قوم ؛ لظاهر الآية ، ومنعه مالك ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " أَدِّ الأَمَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَك ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ " قاله ابن جزي.
{ولئن صبرتم} ، ولم تعاقبوا من أساء إليكم ، {لهو} أي : الصبر {خيرٌ للصابرين} ؛ فإن العقوبة مباحة ، والصبر أفضل من الانتقام ، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم ، أو يريد المخاطبين ، كأنه قال : فهو خير لكم.
ثم صرح بالأمر لرسوله به ؛ لأنه أولى الناس به ؛ لزيادة علمه بالله ، فقال : {واصبر وما صبرك إِلا بالله} ؛ إلا بتوفيقه وتثبيته. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " أما أنا فأصبر كما أمرت ، فماذا تصنعون ؟ " قالوا : نصبر كما ندبنا. {ولا تحزنْ عليهم} ؛ على الكافرين ؛ حيث لم يؤمنوا ؛ حِرْصًا عليهم. أو على المؤمنين ؛ لأجل ما فعل بهم. {ولا تَكُ في ضيق مما يمكرون} أي : لا يضيق صدرك بمكرهم ، ولا تهتم بشأنم ، فأنا ناصرك عليهم. والضيق - بفتح الضاد مُخَفَّفًا - من ضَيِّقٍ ؛ كَمَيْتِ ومَيِّتٍ. وقرئ بالكسر ، وهو مصدر. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدريْن ، معًا ، لِضاق.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 69
إِنَّ الله مع الذين اتقوا} الكفر والمعاصي ، {والذين هم محسنون} في أعمالهم ، فهو معهم بالولاية والنصر والرعاية والحفظ. أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره. والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. أو مع الذين اتقوا ما يقطعهم عن الله ، والذين هم محسنون بشهود الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " فهو معهم بالمحبة والوداد ؛ " فإذا أحببته كنت له ". والله تعلى أعلم.
(4/97)
الإشارة : من شأن الصوفية : الأخذ بالعزائم ، والتمسك بالأحسن في كل شيء ، متمثلين لقوله تعالى : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزُّمَر : 18]. ولذلك قالوا : الصوفي : دمه هدر ، وماله مباح ؛ لأنه لا ينتصر لنفسه ، بل يدفع بالتي هي أحسن السيئة. فالصبر دأبهم ، والرضى والتسليم خُلقهم.
وحقيقة الصبر هي : حبس القلب على حكم الرب ، من غير جزع ولا شكوى. ومواطنه أربعة : الطاعة ، والمعصية ، والنعمة ، والبلية. فالصبر على الطاعة : بالمبادرة
70
إليها ، وعن المعصية : بتركها ، وعلى النعمة : بشكرها ، وأداء حق الله فيها ، وعلى البلية : بالرضى وعدم الشكوى بها.
وأقسام الصبر ستة : صبر في الله ، وصبر لله ، وصبر مع الله ، وصبر بالله ، وصبر على الله ، وصبر عن الله. أما الصبر في الله : فَهُوَ الصبر في طلب الوصول إلى الله ، بارتكاب مشاق المجاهدات والرياضات. وهو صبر الطالبين والسائرين. وأما الصبر لله : فهو الصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات ، يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله ، لا لطلب أجر ولا نيل حظ. وهو صبر المخلصين. وأما الصبر مع الله : فهو الصبر على حضور القلب مع الله ، على سبيل الدوام ؛ مراقبة أو مشاهدة. فالأول : صبر المحبين ، والثاني : صبر المحبوبين.
(4/98)
وأما الصبر بالله : فهو الصبر على ما ينزل به من المقادير ، لكنه بالله لا بنفسه ، وهو صبر أهل الفناء من العارفين المجذوبين السالكين. وأما الصبر على الله : فهو الصبر على كتمان أسرار الربوبية عن غير أهلها ، أو الصبر على دوام شهود الله. وأما الصبر عن الله : فهو الصبر على الوقوف بالباب عند جفاء الأحباب ، فإذا كان العبد في مقام القرب واجدًا لحلاوة الأنس ، مشاهدًا لأسرار المعاني ، ثم فقد ذلك من قلبه ، وأحس بالبعد والطرد - والعياذ بالله - فليصبر ، وليلزم الباب حتى يَمن الكريم الوهاب ، ولا يتزلزل ، ولا يتضعضع ، ولا يبرح عن مكانه ، مبتهلاً ، داعيًا إلى الله ، راجيًا كرم مولاه ، فإذا استعمل هذا فقد استعمل الصبر ؛ قيامًا بأدب العبودية. وهو أشد الصبر وأصعبه ، لا يطيقه إلا العارفون المتمكنون ، الذين كملت عبوديتهم ، فكانوا عبيدًا لله في جميع الحالات ، قَرَّبهم أو أبعدهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 69
رُوِيَ أن رجلاً دخل على الشبلي رضي الله عنه ، فقال : أي صبر أشد على الصابر ؟ فقال له الشبلي : الصبر في الله ، قال : لا ، قال : الصبر لله ، قال : لا ، قال : الصبر مع الله ، قال : لا ، فقال له : وأي شيء هو ؟ فقال : الصبر عن الله. فصاح الشبلي صيحة عظيمة ، كادت تتلف فيها روحه. هـ. لأن الحبيب لا يصبر عن حبيبه. لكن إذا جفا الحبيب لا يمكن إلا الصبر والوقوف بالباب ، كما قال الشاعر :
إنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت مِنَّا
أحْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
وقال رجل لأبي محمد الحريري رضي الله عنه : كنت على بساط الأنس ، وفتح على طريق البسط ، فزللت زلة ، فحجبت عن مقامي ، فكيف السبيل إليه ؟ دلني على الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد وقال : يا أخي ، الكل في قهر هذه الخطة ، لكني أنشدك أبياتًا لبعضهم ، فأنشأ يقول :
قف بالديار فهذه آثارهم
تبكي الأحبة حسرة وتشوقا
71
كم قد وقفتُ بربعها مستخبرا
عن أهله أو سائلاً أو مشفقا
(4/99)
فأجابني داعي الهوى في رسمها
فارقْتَ من تهوى فعز الملتقى
ومن هذا المعنى قضية الرجل الذي بقي في الحرم أربعين سنة يقول : لبيك. فيقول له الهاتف : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك. فقيل له في ذلك ، فقال : هذه بابه ، وهل ثَمَّ باب أخرى أقصده منها ؟ فقبله الحق تعالى ، ولبى دعوته. وكذلك قضية الرجل الذي قيل له ، من قِبَلِ الوحي : إنك من أهل النار ؛ فزاد في العبادة والاجتهاد. فهذا كله يصدق عليه الصبر عن الله. لكن لا يفهم كماله إلا من كملت معرفته ، وتحقق بمقام الفناء ، فحينئذ قد يسهل عليه أمره ؛ لكمال عبوديته ، كما قال القائل :
وَكُنْتُ قَدِيمًا أَطْلُبُ الوَصْلَ مِنْهُمُ
فلَمَّا أَتَانِي العِلْمُ وارْتَفَع الجَهْلُ
تيقنت أَنَّ العَبْدَ لا طَلَبٌ لَهُ
فَإِنْ قَرُبُوا فَضْلٌ وإِنْ بَعُدُوا عَدْلُ
وإنْ أَظْهَرُوا لَمْ يُظْهِرُوا غَيْرَ وَصْفِهِمْ
وإِنْ سَتَرُوا فالستْرُ مِنْ أَجْلِهِمْ يَحْلُو
وأما من لم تكمل معرفته ، فقد ينكره ويذمه ، كالعباد والزهاد والعشاق ، فإنهم لا يطيقونه ، فإما أن يختل عقلهم ، أو يرجعون إلى الانهماك في البطالة. والله تعالى أعلم. وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
72
جزء : 4 رقم الصفحة : 69(4/100)
سورة الإسراء
جزء : 4 رقم الصفحة : 72
قلت : {سبحان} : مصدر غير متصرف ، منصوب بفعل واجب الحذف ، أي أسبحُ سبحان. وهو بمعنى التسبيح ، أي : التنزيه ، وقد يستعمل عَلَمًا له ، فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف ، كقول الشاعر :
قَدْ أَقُولُ لَمَّا جَاءَني فَخْرُهُ
سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ
و {ليلاً} : منصوب على الظرفية لأسرى. وفائدة ذكره ، مع أن السرى هو السير بالليل ، ليفيد التقليل ، ولذلك نكّره ، كأنه قال : أسرى بعبده مسيرة أربعين ليلة في بعض الليل ، وذلك ابلغ في المعجزة. ويقال : أسرى وسرى ، رباعيًا وثلاثيًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {سبحان الذي أسرى بعبده} وهو : نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أي : تنزيهًا له عن الأماكن والحدود والجهات ، إذ هو أقرب من كل شيء إلى كل شيء. وإنما وقع الإسراء برسوله - عليه الصلاة والسلام - ليقتبس أهلُ العالم العلوي ، كما اقتبس منه أهل العالم السفلي ، فأسرى به {ليلاً من المسجد الحرام} بعينه ؛ لِمَا رُوي أنه - عليه
73
الصلاة والسلام - قال : " بَينَما أَنَا في المسْجِدِ الحَرَامِ في الحِجْر ، عِنْدَ البَيْتِ ، بَيْنَ النَّائِم واليقْظَانِ ، إذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بالبُراقِ ". أو : من الحرم ؛ لِمَا رُوي أنه كان نائمًا في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء ، فأُسْرِيَ به ، وسماه مسجدًا ؛ لأن الحرم كله مسجد. قاله البيضاوي. قلت : والظاهر أنه وقع مرتين : مرة بجسده من البيت ، ومرة بروحه من بيت أم هانئ. والله تعالى أعلم بما كان.(4/101)
قال في المستخْرج من تفسير الغزنوني وغيره : قيل : كان رؤيا صادقة ، وقيل : أسرى بروحه ، وهو خلاف القرآن ، وإن أسند إلى عائشة - رضي الله عنها - ، والجمهور على ما رواه عامة الصحابة ، دخل كلام بعضهم في بعض ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتاني جبريل عليه السلام ، وإذا دابة فوق الحمار ودون البغل ، خطوها مد بصرها ، فمرّ بي بين السماء والأرض إلى بيت المقدس ، فَنُشِرَ لي رَهْطٌ من الأنبياء ، فصليت بهم. وإذا أنا بالمعراج ، وهو أحسن ما رأيت ، فعرج بي ، فرأيت في سماء الدنيا رجلاً أعظم الناس وجهًا وهيكلاً ، فقيل : هذا أبوك آدم ، وفي السماء الثانية شابيْن ، فقيل : هما يحيى وعيسى ، وفي الثالثة رجلاً أفضل الناس حُسنًا ، فقيل : أخوك يوسف ، وفي الرابعة إدريس ، وفي الخامسة هارون ، وفي السادسة موسى ، وفي السابعة إبراهيم - صلوات الله على جميعهم -. فانتهيتُ إلى سِدرة المنتهى ، فَغَشِيَتْهَا ملائكةٌ ، كأنهم جراد من ذهب ، فرأيتُ جبريل عليه السلام يتضاءل كأنه صَعْوة - أي : عصفور - فتخلف ، وقال : وما منا إلا له مقام معلوم ، فجاوزت سبعين حجابًا ، ثم احتملني الرفرف إلى العرش ، فنُوديتُ : حَيِّ ربك. فقلت : لا اُحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ". فلما أخبر بما رأى كذَّبه أهل مكة ، ولو كان في النوم ما أنكره المشركون. وقيل : كانا معراجين ، بمكة والمدينة ، في النوم واليقظة. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 73
(4/102)
قلت : وقوع المعراج بالمدينة غريب. قال المهدوي : مرْتَبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العَلِية خاصة بنبينا ، لم يكن لغيره من الأنبياء. وعدَّه السيوطي من الخصائص. قال ابن جزي : وحجة الجمهور : أنه لو كان منامًا ، لم تُنكره قريش ، ولم يكن في ذلك ما يُكَذَّبُ ، ألا ترى أن أُم هانئ قالت له - عليه الصلاة والسلام- : (لا تُخبر بذلك أحدًا). وحجة من قال إنه كان منامًا : قوله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء : 60] ، وإنما يقال : الرؤيا ، في المنام ، ويقال ، فيما يرى بالعين :
74
رؤية ، وقوله ، في آخر حديث الإسراء : " فاستيقظتُ وأنا في المسجد الحرام " ، ثم قال : وقد يجمع بينهما بأنه وقع مرتين. هـ.
وقوله تعالى : {إلى المسجد الأقصى} هو : بيت المقدس ؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد ، {الذي باركنا حوله} ببركات الدين والدنيا ؛ لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء ، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار. أسرينا به ؛ {لِنُريه من آياتنا} الدالة على عجائب قدرتنا ، ونكشفَ له عن أسرار ذاتنا ، فأَطْلعه الله على عجائب الملكوت ، وأراه سَنَا الجبروت. رَوَى عكرمةُ عن ابن عباس : أنه قال : قد رأى محمدٌ ربه ، قلت : أليس الله يقول : {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعَام : 103] ، قال : ويحك ، ذلك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين. هـ. قلت : معنى كلامه : أنه إذا تجلى بنوره الأصلي ، من غير واسطة ، لا يمكن إدراكه ، وأما إذا تجلى بواسطة المظهر فإنه يُمكن إدراكه ، والحاصل : أن الحق تعالى إنما يتجلى على قدر الرائي ، لا على قدره ؛ إذ لا يطيقه أحد. وسيأتي ، في الإشارة ، بقية الكلام عليه ، إن شاء الله. {إِنه هو السميعُ البصير} أي : السميع لأقوال حبيبه في حال مناجاته ، البصيرُ بأحواله ، فيكرمه ويُقربه على حسب ذلك.
(4/103)
الإشارة : قال بعض الصوفية : إنما قال تعالى : {بعبده} ، ولم يقل : بنبيه : ولا برسوله ؛ ليدل على أن كل من كملت عبوديته كان له نصيب من الإسراء. غير أن الإسراء بالجسد مخصوص به - عليه الصلاة والسلام - ، وأما الإسراء بالروح فيقع للأولياء ؛ على قدر تصفية الروح ، وغيبتها عن هذا العالم الحسي ، فتعرج أفكارهم وأرواحهم إلى ما وراء العرش ، وتخوض في بحار الجبروت ، وأنوار الملكوت ، كلٌّ على قدر تخليته وتحليته. وإنما خص الإسراء بالليل ؛ لكونه محل فراغ المناجاة والمواصلات ، ولذلك رتب بعثه مقامًا محمودًا على التهجد بالليل في هذه السورة. قاله المحشي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 73
وقوله تعالى : {سبحان الذي أسرى} ، قال الورتجبي : أي : تنزه عن إشارة الجهات والأماكن في الفوقية ، وما يتوهم الخلق ؛ من أنه إذ أوْصل عبده إلى وراء الوراء ، أنه كان في مكان ، أي : لا تتوهموا برفع عبده إلى ملكوت السماوات ، أنه رفع إلى مكان ، أو هو في مكان ، فإن الأكوان والمكان أقل من خردلة في وادي قدرته ، أي : في بحر عظمته ؛ ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : " الكون في يمين الرحمن أقل من خردلة " والعندية والفوقية منه ، ونزّه نفسه عن أوهام المشبّهات ، حيث توهموا أنه أسرى به إلى المكان ، أي : سبحان من تنزه عن هذه التهمة. هـ. وقال القشيري : أرسله الحق تعالى ؛ ليتعلم أهلُ الأرض منه العبادة ، ثم رَقَّاه إلى السماء ليتعلّمَ منه الملائكةُ - عليهم السلام - آدابَ العبادة ، قال تعالى : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىا} [النّجْم : 17] ، وما
75
التَفَتَ يمينًا ولا شمالاً ، ما طمع في مقام ، ولا في إكرام ، تحرر عن كلِّ طلبٍ وأرَبٍ ، تلك الليلة. هـ.
(4/104)
قلت : ولذلك أكرمه الله تعالى بالرؤية ، التي مُنِعَ منها نبيه موسى عليه السلام ، حيث وقع منه الطلب " ربما دلهم الأدب على ترك الطلب " ، وقال الورتجبي : أسرى به عن رؤية فعله وآياته ، إلى رؤية صفاته ، ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته ، وأشهده مَشاهد جماله ، فرأى الحق بالحق ، وصار هنالك موصوفًا بوصف الحق ، فكان صورتُه روحَه ، وروحُه عقلَه ، وعقلُه قلبَه ، وقلبُه سره ، فرأى الحق بجميع وجوده ؛ لأن وجوده فانٍ بجميعه ، فصار عينًا من عيون الحق ، فرأى الحق بجميع العيون ، وسمع خطابه بجميع الأسماع ، وعرف الحق بجميع القلوب. هـ.
وقال ، في قوله تعالى : {إِلى المسجد الأقصى} : سبب بداية المعراج بالذهاب إلى المسجد الأقصى ، لأن هناك الآية الكبرى ؛ من بركة أنوار تجليه لأرواح الأنبياء وأشباحهم ، وهناك بقربه طور سيناء ، وطور زيتا ، والمصيصة ، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى ، وفي تلك الجبال مواضع كشوف الحق ، ولذلك قال : {باركنا حوله} ، انظر تمامه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 73
قلت : {ذرية} : منادى ، أي : يا ذرية من حملنا مع نوح ، والمراد : بني إسرائيل. وفي ندائهم بذلك : تلطف وتذكير بالنعم ، وقيل : مفعول أول بتتخذوا ، أي : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً ، فتكون كقوله : {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً} [آل عِمرَان : 80].
(4/105)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وآتينا موسى الكتابَ} التوراة {وجعلناه} أي : التوراة {هُدًى لبني إِسرائيل} ، وقلنا : {ألاّ تتخذوا من دوني وكيلاً} تُفوضون إليه أموركم ، وتُطيعونه فيما يأمركم. بل فوضوا أموركم إلى الله ، واقصدوا بطاعتكم وجه الله ، يا {ذريةَ مَنْ حملنا مع نوح} ، فاذكروا نعمة الإنجاء من الغرق ، وحملَ أسلافكم في سفينة نوح ، {إِنه كان عبدًا شكورًا} ؛ يحمد الله ويشكره في جميع حالاته. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وَحَثٌّ للذرية على الاقتداء به. والله تعالى أعلم.
الإشارة : المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو ، إفراد الوجهة إلى الحق ، ورفعُ الهمة عن الخلق ، حتى لا يبقى الركون إلا إليه ، ولا الاعتماد إلا عليه ، وهو
76
مقتضى التوحيد. قال تعالى {لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المُزمّل : 9]. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 76
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقضينا إلى بني إِسرائيل} أي : أخبرناهم وأوحينا إليهم {في الكتاب} ؛ التوراة ، وقلنا : والله {لتُفسدنَّ في الأرض مرتين} الخ. أو : قضينا عليهم {في الكتاب} ؛ اللوح المحفوظ ، {لتُفسدنَّ في الأرض مرتين} الخ. أو : قضينا عليهم {في الكتاب} : اللوح المحفوظ ، {لتُفسدُنَّ في الأرض مرتين} أي : إفسادتين ، أُولاهُمَا : مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعياء ، وقيل : أرمياء. وثانيتهما : قتل زكريا ويحيى ، وقَصْدُ قتل عيسى عليه السلام ، {ولتَعلُنَّ عُلوًّا كبيرًا} ؛ ولتستكبرن عن طاعة الله ، أو لتظلمن الناس وتستعلون عليهم علوًا كبيرًا.
(4/106)
{فإِذا جاء وعدُ} ؛ عقاب {أُولاهما} أي : أول مرتي الإفساد ؛ بأن أفسدوا في الأرض المرة الأولى {بعثنا عليكم عبادًا لنا} ؛ بختنصر وجنوده {أُولي بأس شديد} ؛ ذوي قوة وبطش في الحرب شديد ، {فجاسوا} ؛ فترددوا لطلبكم {خلال الديار} ؛ وسطه ؛ للقتل أو الغارة ، فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم ، وحرقوا التوراة ، وخربوا المسجد. وفي التذكرة للقرطبي : أنه سلط عليهم في المرة الأولى بخُتنصر ، فسباهم ، ونقل ذخائر بيت المقدس على سبعين ألف عَجَلَة ، وبقوا في يده مائة سنة. ثم رحمهم الله تعالى وأنقذهم من يده ، على يد ملك من ملوك فارس ، ثم عصوا ، فسلط عليهم ملك الروم قيصر. هـ. قال تعالى : {وكان وعدًا مفعولاً} أي : وكان وعد عقابهم وعدًا مقضيًا لا بدّ أن يُفعل.
{ثم رددنا لكم الكرّة} أي : الدولة والغلبة {عليهم} أي : على الذين بُعثوا عليكم ، فرجع المُلك إلى بني إسرائيل ، واستنقذوا أسراهم ، فقيل : على يد " بهْمَن بن إسفنديار " ؛ ملك فارس ، فاستنقذهم ، ورد أسراهم إلى الشام ، وملَّكَ دَانْيال عليهم ، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر ، وقيل : على يد داود عليه السلام حين قتل
77
جالوت. قال تعالى : {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثرَ نفيرًا} أي : عددًا مما كنتم. والنفير : من ينفر مع الرجل من قومه ، وقيل : جمع نَفر ، وهم : المجتمعون للذهاب إلى الغزو.
جزء : 4 رقم الصفحة : 77
(4/107)
ثم قال تعالى لهم : {إِنْ أحسنتم} بفعل الطاعة والعمل الصالح ، {أَحْسَنْتُمْ لأنفسكم} ؛ لأن ثوابه لها ، {وإِن أسأتم فلها} ؛ فإنَّ وبالها عليها. وذكر باللام للازدواج. {فإِذا جاء وعدُ الآخرة} أي : وعد عقوبة المرة الأخيرة ، بأن أفسدوا في المرة الآخرة ، بعثنا عليكم عبادًا لنا آخرين ، أُولي بأس شديد {ليَسُؤوا وجوهكم} ، يجعلوها تظهر فيها آثار السوء والشر ، كالكآبة والحزن ، كقوله : {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [المُلك : 27] {وليدخلوا المسجد} ؛ بيت المقدس {كما دخلوه أول مرة وليُتبروا} ؛ وليُهلكوا {ما عَلوا} عليه {تتبيرًا} ؛ إهلاكًا ، أو مدة علوهم. قال البيضاوي : وذلك بأن الله سلَّط عليهم الفرس مرة أخرى ، فغزاهم ملكُ بابِل ، اسمه " حَرْدُون " ، وقيل : " حَرْدوس " ، قيل : دخل صاحب الجيش مَذبح قرابينهم ، فوجد دمًا يغلي ، فسأل عنه ، فقالوا : دم قربان لم يُقبل منا. فقال : ما صدقتموني ، فقتل عليه ألوفًا منهم ، فلم يهدأَ الدم. ثم قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا ، فقالوا : دم يحيى ، فقال : لِمثل هذا ينتقم منكم ربكم ، ثم قال : يا يحيى ، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك ، فاهدأ بإذن الله ، قبل ألاَّ أُبقي منهم أحدًا ، فهدأ. هـ.
وقال السهيلي في كتاب " التعريف والإعلام " : المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل ، وكان إذ ذاك عليهم " بختنصر " ، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه. وأما في المرة الأخيرة : فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم ، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا. فقيل : بختنصر ، وهذا لا يصح ؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى ، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل. هـ. وقول الجلال السيوطي : وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا ، فبعث عليهم جالوت وجنوده ، ولا يصح ؛ لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا ، وهو باطل.
(4/108)
ثم قال تعالى لبني إسرائيل : {عسى ربُكم أن يرحَمكم} بعد المرة الأخرى ويجبر كسركم ، {وإِن عُدتُم عُدْنَا} إلى عقوبتكم ، وقد عادوا بتكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقصد قتله ، فعاد إليهم بتسليطه عليهم ، فقتل من بني قريظة سبعمائة في يوم واحد ، وسبى ذراريهم ، وباعهم في الأسواق ، وأجلى بني النضير ، وضرب الجزية على الباقين. هذا في الدنيا ، {وجعلنا جهنم للكافرين} منهم ومن غيرهم {حصيرًا} ؛ محبسًا ، لا يقدرون على الخروج منها ، أبدَ الآباد. وقيل : بساطًا كبسط الحصير ، كقوله : {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعرَاف : 41]. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 77
الإشارة : قد قضى الحقُّ جلّ جلاله ما كان وما يكون في سابق علمه ، فما من نفَس تُبديه إلا وله قدر فيك يُمضيه. فالواجب على العبد أن يكون ابن وقته ، إذا أصبح
78
نظر ما يفعل الله به. فأسرار القدر قد استأثر الله بعلمها ، وأبهم على عباده أمرَها ، فلو ظهرت لبطل سر التكليف. ولذلك لما سُئل عنه سيدنا علي - كرم الله وجهه - قال للسائل : (بحر عميق لا تطيقه) ، فأعاد عليه السؤال ، فقال : (طريق مظلم لا تسلكه) ؛ لأنه لا يفهم سر القضاء والقدر ، إلا من دخل مقام الفناء والبقاء ، وفرَّق بين القدرة والحكمة ، وبين العبودية والربوبية ، فإذا تحقق العارف بالوحدة ، عِلَمَ أنَّ الحق تعالى أظهر من خلقه مظاهر أَعدهم للإكرام ، وأظهر خلقًا أعدهم للانتقام ، وأبهم الأمر عليهم ، ثم خلق فيهم كسبًا واختيارًا فيما يظهر لهم ، وكلفهم ؛ لتقوم الحجة عليهم ، وتظهر صورة العدل فيهم. {ولا يظلم ربك أحدًا}. فالقدرة تُبرز ما سبق في الأزل ، والحكمة تستر أسرار القدر. لكن جعل للسعادة علامات كالتوفيق والهداية للإيمان ، وللشقاوة علامات ؛ كالخذلان والكفران. نعوذ بالله من سوء القضاء وحرمان الرضا. آمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 77
(4/109)
قلت : " وأنَّ الذين " : إما عطف على " أن " الأولى ، أو على " ويُبشر " بإضمار يخبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِنَّ هذا القرآن يَهدي للتي} ؛ للطريق التي {هي أقومُ} الطرق وأعدلها ، {ويُبشِّرُ المؤمنين الذين يعملون} الأعمال {الصالحاتِ أنَّ لهم أجرًا كبيرًا} وهو : الخلود في النعيم المقيم ، وزيادة النظر إلى وجهه الكريم. {و} يخبر {أنَّ الذين لا يُؤمنون بالآخرة أعتدنا} أي : أعددنا {لهم عذابًا أليمًا} ، أو : ويُبشر المؤمنين ببشارتين : ثوابهم ، وعقاب أعدائهم.
الإشارة : لا شك أن القرآن يهدي إلى طريق الحق ؛ إما إلى طريق تُوصل إلى نِعم جنانه ، أو إلى طريق تُوصل إلى شهوده ودوام رضوانه ، فالأولى طريق الشرائع والأحكام ، والثانية طريق الحقائق والإلهام ، لكن لا يدرك هذا من القرآن إلا من صفت مرآة قلبه بالمجاهدة والذكر الدائم ، ولذلك أمر شيوخُ التربية المريد بالاشتغال بالذكر المجرد ، حتى يُشرق قلبه بأنوار المعارف ، ويرجع من الفناء إلى البقاء ، ثم بعد ذلك يُمر بالتلاوة ، ليذوق حلاوة القرآن ، ويتمتع بأنواره وأسراره ، وقد أنكر بعضُ من لا معرفة له بطريق التربية على الفقراء هذا الأمر - أعني : ترك التلاوة في بدايتهم - ؛ محتجًا بهذه الآية ، ولا دليل فيها عليهم ، لأن كون القرآن يهدي للتي هي أقوم يعني : التمسك والتدبر في معانيه ،
79
دليل فيها عليهم ؛ لأن كون القرآن يهدي للتي هي أقوم يعني : التمسك والتدبر في معانيه ، ولا يصح ذلك على الكمال إلا بعد تصفية القلوب ، كما هو مجرب ، ولا ينكر هذا إلا من لا ذوق له في علوم القوم ، وربما يُذكر وجود التربية من أصلها ، ويسد البابَ في وجوه الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 79
(4/110)
قلت : {دعاءه} : مفعول مطلق. والإضافة في قوله : {آية الليل} و {آية النهار} : بيانية ، أي : فمحونا الآية التي هي الليل ، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. وإذا أريد بالآيتين السشمس والقمر ؛ تكون للتخصيص ، أي : وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، أو : وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين... الخ ، و {كل شيء} : منصوب بفعل مضمر ، يفسره ما بعده ، وكذا : {وكل إنسان} و {يلقاه منشورًا} : صفتان لكتاب.
يقول الحق جلّ جلاله : {ويدعُ الإنسانُ} على نفسه وولده وماله {بالشرِّ} عند الغضب والقنط. {دعاءَهُ بالخير} ؛ مثل دعائه بالخير. وهو ذم له يدل على عدم صبره ، وربما وافق وقت الإجابة فيهلك ، {وكان الإِنسانُ عَجُولاً} ؛ يُسارع إلى كل ما يخطر بباله ، لا ينظر عاقبته. ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر ، وبالدعاء استعجاله بالعذاب ؛ استهزاء ، كقول النضر بن الحارث : اللهم انصر خير الحزبين ؛ {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} [الأنفال : 32] الآية. وقيل : المراد بالإنسان : آدم عليه السلام ، فإنه لما انتهى الروح إلى سُرَّته ذهب ليقوم ، فسقط ، وهو بعيد. فإذا نزلت بالإنسان قهرية فلا يقنط ولا يستعجل ، فإنَّ وقت الفرج محدود ، فالليل والنهار مطيتان ، يُقربان كل بعيد ، ويبليان كل جديد ، ويأتيان بكل موعود.
ولذا قال تعالى إثره : {وجعلنا الليلَ والنهارَ آيتين} دالتين على كمال قدرتنا ، وباهر حكمتنا ، يتعاقبان على الإنسان ، يُقربان له كل بعيد ، ويأتيان له بكل موعود. {فمحونا آيةَ الليل} أي : فمحونا الآية التي هي الليل ؛ بأن جعلناها مظلمة ، لتسكنوا فيه ، {وجعلنا آية النهار مُبصرةً} أي : مضيئة مشرقة لتبتغوا ؛ من فضله ، أو : وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، وهما : الشمس والقمر ، {فمحونا آية الليل} ، وهو القمر ؛ بأن جعلناه أطلس ، لا
80
(4/111)
نور فيه من ذاته ، بل نوره مستمد من نور الشمس ، {وجعلنا آية النهار} ، وهي الشمس {مبصرةً} للناس ، أو مبصرًا فيها بالضوء الذاتي ، {لتبتغوا فضلاً من ربكم} ؛ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم ، {ولتعلموا} ؛ باختلافهما وبحركتهما ، {عددَ السنينَ والحسابَ} ؛ وحساب الأوقات من الأشهر والأيام ، في معاملتكم وتصرفاتكم ، {وكلَّ شيء} تفتقرون إليه في أمر الدين والدنيا {فصَّلناه تفصيلاً} ؛ بيَّناه تبيينًا لا لبس فيه ، أو : وكل شيء يظهر في الوجود ، فصّلناه وقدّرناه في اللوح المحفوظ تفصيلاً ، فلا يظهر في عالم الشهادة إلا ما فُصل في عالم الغيب.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 80
وكل إِنسانٍ ألزمناه طائره} أي : حظه وما قُدر له من خير وشر ، فهو لازم {في عُنقه} ؛ لا ينفك عنه. ويقال لكل ما لزم الإنسان : قد لزم عنقه. وإنما قيل للحظ المقدر في الأزل من الخير والشر : طائر ؛ لقول العرب : جرى لفلان الطائر بكذا من الخير والشر ، على طريق الفأل والطيرة ، فخاطبهم الله بما يستعملون ، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو ملزم لأعناقهم ، لا محيد لهم عنه ، كالسلسلة اللازمة للعنق ، يُجر بها إلى ما يُراد منه. ومثله : {أَلآا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّه} [الأعرَاف : 131] ، وقال مجاهد : " ما من مولود يولد إلا في عنقه ورقة ، مكتوب فيها شقي أو سعيد ". أو : وكل إنسان ألزمناه عمله ؛ يحمله في عنقه ، {ونُخرج له يوم القيامة كتابًا} مكتوب فيه عمله ، وهو صحيفته. {يلقاه منشورًا} ، ويقال له : {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليومَ عليك حسيبًا} ؛ محاسبًا ، لا تحاسبك إلا نفسك ، أو : رقيبًا وشهيدًا علىعملك ، أو : لا يَعُد عليك أعمالك إلا نفسك. والله تعالى أعلم.
(4/112)
الإشارة : ينبغي للإنسان أن يكون داعيًا بلسانه ، مفوضًا لله في قلبه ، لا يعقد على شيء من الحظوظ والمآرب ، فقد يدعو بالخير في زعمه ، وهو شر في نفس الأمر في حقه ، وقد يدعو بالشر وهو خير. وقد تأْتيه المضار من حيث يرتقب المسار ، وقد تأتيه المسار من حيث يخاف الضرر ؛ {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. فالتأني والسكون من علامة العقل ، والشَّرَّةُ والعَجَلَة من علامة الحمق. فما كان من قسمتك لا بدّ يأتيك في وقته المقدر له ، وما ليس من قسمتك لا يأتيك ، ولو حرصت كل الحرص. فكل شيء سبق تفصيله وتقديره ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 80
81
يقول الحقّ جلّ جلاله : {مَن اهتدى} وآمن بالله وبما جاءت به الرسل {فإِنما يهتدي لنفسه} ؛ لأن ثواب اهتدائه له ، لا يُنجي اهتداؤه غيره ، {ومن ضلَّ} عن طريق الله {فإِنما يضلُّ عليها} ؛ لأن إثم إضلاله على نفسه ، لا يضر به غيره في الآخرة ، {ولا تزر} أي : لا تحمل نفس {وازرةٌ} ؛ آثمة {وِزرَ} نفس {أخرى} أي : ذنوب نفس أخرى ، بل إنما تحمل وزرها ، إلا من كان إمامًا في الضلالة ، فيحمل وزره ووزر مَن تبعه ، على ما يأتي في آية أخرى : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت : 13].
ومن كمال عدله تعالى : أنه لا يُعذِّب حتى يُنذر ويُعذر على ألسنة الرسل ، كما قال تعالى : {وما كنا مُعذبين} أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة {حتى نبعث رسولاً} يُبين الحجج ويمهد الشرائع ، ويلزمهم الحجة.
(4/113)
وفيه دليل على أن لا حُكم قبل الشرع ، بل الأمر موقوف إلى وروده ، فمن بلغته دعوته ، وخالف أمره ، واستكبر عن أتباعه ، عذبناه بما يستحقه. وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام - عليهم السلام - في جميع الأمم ، قال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} [النحل : 36] ، {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر : 24] ، فإن دعوتهم إلى الله قد انتشرت ، وعمت الأقطار ، واشتهرت ، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام : {مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [ص : 7] ؛ فإنه يُفهم منه أنهم سمعوه في الملة الأولى ، فمن بلغته دعوة أحد منهم ، بوجه من الوجوه فقصَّر ، فهو كافر مستحق للعذاب. فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة ، مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن آباءهم ، الذين مضوا في الجاهلية ، في النار ، وأن ما يدحرج من الجُعَل ، خير منهم ، إلى غير ذلك من الأخبار. قاله البقاعي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي - أحد أجلاء الشافعية ، وعظماء أئمة الإسلام - في أول منهاجه ، في باب : " من لم تبلغه الدعوة " : وإنما قلنا : إن من كان منهم عاقلاً مميزًا إذا رأى ونظر ، إلا أنه لا يعتقد دينًا فهو كافر ؛ لأنه ، وإن لم يكن سمع دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء قبله ، على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ، ووفور مُددِ الذين آمنوا واتبعوهم ، والذين كفروا بهم وخالفوهم ، فإنَّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف ، كما يبلغ على لسان الموافق ، وإذا سمع آيَّةَ دعوة كانت إلى الله تعالى ، فترك أن يستدل بعقله ، كان مُعْرِضًا عن الدعوة فكفر ، والله أعلم. وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ، ولا بدعوة نبي ، ولا عرف أن في العالم من يُثبت إلهًا ،
82
(4/114)
وما نرى أن ذلك يكون ، فأمره على الاختلاف ، يعني : عند من يُوجب الإيمان بمجرد العقل ، ومن لا يُوجبه إلا بانضمام النقل. هـ.
وقال الزركشي ، في آخر باب النيات ، من شرحه على المنهاج : وقد أشار الشافعي إلى عسر تصور عدم بلوغ الدعوة ، حيث قال : وما أظن أحدًا إلا بلغته الدعوة ، إلا أن يكون قوم من وراء النهر. وقال الدميري : وقال الشافعي : ولم يبق أحد لم تبلغه الدعوة. انتهى ؛ على نقل شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه.
ثم قال تعالى : {وإِذا أردنا أن نُهلك قريةً} أي : تعلقت إرادتنا بإهلاكها ؛ لإنفاذ قضائنا السابق ، ودنا وقتُ إهلاكها ، {أمرنا مُتْرفيها} ؛ منعميها ، بمعنى رؤسائها ؛ بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده ، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة ، لقوله : {ففسقُوا فيها} ؛ خرجوا عن أمرنا. وقيل : أمرناهم : ألهمناهم الفسق وحملناهم عليه ، أو : جعلنا لهم أسباب حملهم على الفسق ؛ بأن صببنا عليهم من النعم ما أبطرهم ، وأفضى بهم إلى الفسوق ، {فحقَّ عليها القولُ} ؛ وجب عليها كلمة العذاب السابق بحلوله ، أو بظهور معاصيهم. {فدمرناها تدميرًا} ؛ أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها. {وكم أهلكنا} أي : كثيرًا أهلكنا {من القُرون} أي : الأمم {من بعد نوح} ؛ كعاد وثمود وأصحاب الأيكة ، {وكفى بربك بذنوب عباده خبيرًا بصيرًا} ؛ عالمًا ببواطنها وظواهرها ، فيعاقب عليها أو يعفو. وبالله التوفيق.
(4/115)
الإشارة : من اهتدى إلى حضرة قدسنا فإنما يهتدي لينعم نفسه بأسرار قدسنا ، ومن ضل عنها فإنما يضل عليها ؛ حيث حرمها لذيذ المعرفة. فإن كان في رفقة السائرين ، ثم غلبه القضاء ، فلا يتعدى وبال رجوعه إلى غيره ، بل ما كان يصل إليه من المدد يرجع إلى أصحابه ، وما كنا معذبين أحدًا ؛ بإسدال الحجاب بيننا وبينه ، حتى نبعث من يُعَرِّف بنا ، ويكشف الحجاب بيننا وبين من يريد حضرتنا. والمراد بالحجاب : حجاب الوهم ؛ بإثبات حس الكائنات ، فلو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان ، ولو أشرق نورُ الإيقان لغطى وجودَ الأكوان. وإذا أردنا أن نتلف قلوبًا أمرنا أربابها بالتنعم بالحظوظ والشهوات ، فخرجوا عن طريق المجاهدة والرياضة ، فحق عليها القول بغم الحجاب ، فدمرناها تدميرًا ، أي : تركناها تجول في أودية الخواطر والشكوك ، فتلفت وهلكت ، نعوذ بالله من شر الفتن ودرك المحن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
قلت : {لمن نُريد} : بدل من ضمير {له} ؛ بدل بعض من كل. و {كُلاًّ} : مفعول {نُمد} ، و {هؤلاء} : بدل منه. و {كيف} : حال ، و {درجات} و {تفضيلاً} : تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {مَن كان يُريد} بعمله الدنيا {العاجلةَ} ، مقصورًا عليها همه ، {عجَّلنا له فيها ما نشاء لمن نُريد} التعجيل له. قيَّد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة ؛ لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه ، ولا كل واحد جميع ما يهواه. قاله البيضاوي : {ثم جعلنا له} في الآخرة {جهنم يصلاها} ؛ يدخلها ويحترق بها ، حال كونه {مذمومًا مدحورًا} ؛ مطرودًا من رحمة الله. والآية في الكفار ، وقيل : في المنافقين ، الذين يغزون مع المسلمين لقصد الغنائم. والأصح : أنها تعم كل من اتصف بهذا الوصف.
(4/116)
{ومَن أراد الآخرةَ وسعى لها سعيها} ؛ عمل لها عملها اللائق بها ، وهو : الإتيان بما أمر به ، والانتهاء عما نهى عنه ، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة اللام في قوله : " لها " : اعتبار النية والإخلاص. والحال أن العامل {مؤمن} إيمانًا صحيحًا لا شرك معه ولا تكذيب ، فإنه العمدة ، {فأولئك} الجامعون للشروط الثلاثة {كان سعيهم مشكورًا} عند الله ، مقبولاً مثابًا عليه ؛ فإن شُكر الله هو الثواب على الطاعة.
{كُلاًّ نُّمدُّ} أي : كل واحد من الفريقين نُمد بالعطاء مرة بعد أخرى ، {هؤلاء} المريدين للدنيا ، {وهؤلاء} المريدين للآخرة ، نُمد كلا {من عطاء ربك} في الدنيا ، {وما كان عطاءُ ربك} فيها {محظورًا} ؛ ممنوعًا من أحد ، لا يمنعه في الدنيا مؤمن ولا كافر ، تفضلاً منه تعالى. {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} في الرزق والجاه ، {وللآخِرةُ أكبرُ درجاتٍ وأكبرُ تفضيلاً} من الدنيا ، فينبغي الاعتناء بها دونها ، والتفاوت في الآخرة حاصل للفريقين ، فكما تفاوتت الدرجات في الجنة تفاوتت الدركات في النار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
وسبب التفاوت : زيادة اليقين ، والترقي في أسرار التوحيد لأهل الإيمان ، أو الانهماك في الكفر والشرك لأهل الكفران. ولذلك قال تعالى : {لا تجعلْ مع الله إِلهًا آخر} تعبده. والخطاب لكل سامع ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمته ، {فتقعد} ؛ فتصير حينئذ {مذمومًا مخذولاً} ؛ جامعًا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين ، والخذلان من الله. ومفهومه : أن الموحد يكون ممدوحًا منصورًا في الدارين.
84
(4/117)
الإشارة : قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ ، وجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَلَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلاَّ مَا قُسِمَ لَهُ. وَمَنْ كَانَتِ الآخِرةُ نِيَّتَهُ ، جَمَعَ الله عليه أَمْرَهُ ، وجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِه ، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ صَاغِرَةٌ " ، واعلم أن الناس على قسمين ؛ قوم أقامهم الحق لخدمته ، وهم : العباد والزهاد ، وقوم اختصهم بمحبته ، وهم : العارفون بالله ؛ أهل الفناء والبقاء ، قال تعالى : {كلا نُمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} ؛ في الكرامات والأنوار ، وفي المعارف والأسرار. وفضلُ العارفين على غيرهم كفضلِ الشمس على سائر الكواكب ، هذا في الدنيا ، {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} ، يقع ذلك بالترقي في معارج أسرار التوحيد ، وبتفاوت اليقين في معرفة رب العالمين. وقال القشيري في تفسير الآية : منهم من لا يغيب عن الحضرة لحظة ، ثم يجتمعون في الرؤية ، ويتفاوتون في النصيبِ لكلٍّ. وليس كلُّ أحد يراه بالعين الذي يراه به صاحبه. وأنشدوا :
لو يَسْمَعُون كما سمعتُ حديثها
خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودا
وقال الورتجبي : فضَّل العابدين بعضهم على بعض في الدنيا بالطاعات ، وفضَّل العارفين بعضهم على بعض بالمعارف والمشاهدات ، فالعباد في الآخرة في درجات الجنان متفاوتون ، والعارفون في درجات وصال الرحمن متفاوتون. وقال القشيري أيضًا : من كانت مشاهدته اليوم على الدوام ، كانت رؤيته غدًا على الدوام ، ومن لا فلا. هـ. وقد تقدم تفاوت الناس في الرؤية بأبسط من هذا ، عند قوله تعالى : {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام : 103]. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
85
(4/118)
قلت : {قضى} ، هنا ، بمعنى حكم وأوجب وأمر ، لا بمعنى القضاء ؛ إذ لو كان كذلك لما عُبد غير الله. وفي مصحف ابن مسعود : " ووصى ربك ألا تعبدوا ". و (أن) : مفسرة ، أو مصدرية ، أي : بأن لا تعبدوا ، و {إما} : إن الشرطية دخلت علهيا " ما " المؤكدة. و {فلا تقل} : جوابها. وتوحيد ضمير الخطاب في {عندك} ، وفيما سبق - مع أن ما سبق ضمير الجمع - ؛ للاحتراز عن التباس المراد ، فإنَّ المقصود نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما. ولو قوبل الجمع بالجمع ، أو بالتثنية ، لم يحصل هذا المرام.
و " أفُّ " : اسم فعل ، معناها : قول مكروهُ ، يقال عند الضجر ونحوه. قال الهروي : أي : لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم ، ويقال لكل ما يضجر منه ويستثقل : أُفّ لَهُ. وقال في القاموس : أَفّ ، يَؤُفُّ ، ويَئِفُّ : تأففَ من كَرْبٍ أوْ ضَجَر. وأُفّ : كلمة تكره ، وأفف تأفِيفًا ، وتَأَفَّفَ ، قالها ، ولغتها أربعون ، ثم ذكرها. وحركتها للبناء ، وتنوينها للتنكير.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقضى ربُّك} ؛ أَمر أمْرًا مقطوعًا به ، بـ {ألاَّ تعبدوا إِلا إِياه} ؛ لأن غاية التعظيم لا يكون إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام ، وهو الله وحده ، {و} أحسنوا {بالوالدين إِحسانًا} ؛ لأنهما السبب الظاهر في وجود العبد ، وبهما قامت نعمة الإمداد من التربية والحفظ في مظاهر الحكمة ، وإلاَّ فما ثَمَّ إلا تربية الحق تعالى ، ظهرت في مظاهر الوالدين ، لكن أمر بشكر الواسطة ؛ " من لم يشكر الناس لم يشكر الله ".
(4/119)
ثم أمر ببرهما ، فقال : {إِما يبلغنَّ عندك الكبَرَ أحدُهما أو كلاهما} أي : مهما بلغ زمن الكِبَرِ ، وهما عندك في كفالتك ، هما أو أحدهما ، {فلا تقلْ لهما أُفٍّ} أي : فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما ، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما ، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك. فالنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء ؛ قياسًا بطريق الأخرى. وقال في الإحياء : الأُفّ : وسخ الظفر ، والتف : وسخ الأذن ، أي : لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ ، فأحرى غيره ، وقيل : لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر. هـ.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 85
ولا تنهرهما} ؛ ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظٍ ، فإن كان لإرشاد ديني فبرفق ولين. {وقل لهما قولاً كريمًا} ؛ جميلاً لينًا لا غلظ فيه ، {واخفض لهما جناحَ الذل} ؛ أَلِنْ لهما جانبك الذليل ، وتذلل لهما وتواضع. استعار للذل جناحًا ، وأضافه إليه ؛ مبالغة ؛ فإنَّ الطير إذا تذلل أرخى جناحه إلى الأرض ، كذلك الولد ، ينبغي أن يخضع لأبويه ، ويلين جانبه ، ويتذلل لهما غاية جهده. وذلك {مِنَ الرحمة} أي : من إفراط الرحمة لهما والرقة والشفقة عليهما. {وقل ربِّ ارحمهما} أي : وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية ، ولا تكتف برحمتك الفانية ، وإن كانا كافرين ؛ لأن من الرحمة
86
أن يهديهما للإسلام ، فقل اللهم ارحمهما {كما ربياني صغيرًا} أي : رحمة مثل رحمتهما عليّ وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري ، وفاء بعهدك للراحمين. فالكاف في محل نصب ؛ على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : رحمة مثل تربيتهما ، أو مثل رحمتهما لي ، على أن التربية رحمة. ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معًا ، وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر ، كما يلوح له التعرض لعنوان الربوبية ، كأنه قيل : رب ارحمهما ، ورَبِّهِمَا كما ربياني صغيرا. ويجوز أن يكون الكاف للتعليل ، كقوله : {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة : 198].
(4/120)
ولقد بالغ الحق تعالى في التوصية بالوالدين ؛ حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ، ونظمهما في سلك القضاء بعبادته ، ثم ضيق في برهما حتى لم يُرخص في أدنى كلمة تتفلت من المتضجر ، وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كلَّ شيء مشبهة بتربيتهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رِضَا اللهِ في الوَالِدَين ، وَسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا " ورُوي : أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبَويَّ بَلَغَا مِنْ الكِبَر إلى أنِّي ألي منهما ما وَلَيَا مِنِّي في الصغر ، فهل قضيتهما حقهما ؟ قال : " لا ؛ فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك ، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما " ورُوي أن شيخًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابني هذا له مال كثير ، ولا ينفق عليّ من ماله شيئًا ، فنزل جبريل وقال : إن هذا الشيخ أنشأ في ابنه أبياتًا ، ما قُرعَ سَمْعٌ بمثلها ، فاستنشدها ، فأنشدها الشيخ ، فقال :
غَذَوْتُك مَوْلُودًا ومُنْتُك يَافعًا
تُعلُّ بما أُجْرِي عليك وتَنْهَلُ
إذَا لَيْلةٌ ضَافَتْك بالسُّقْمِ لَم أَبِتْ
لسُقْمِكَ إلا باكِيًا أَتَملْمَلُ
جزء : 4 رقم الصفحة : 85
كَأَنِّي أنا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بالذي
طُرِقتَ به دُونى وعَيْنِيَ تمْهَلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغَايَةَ الَّتي
إليْها مَدَى مَا كُنْتُ فِيك أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جزَائي غلْظَةً وفَظَاظَةً
كأَنّك أنتَ المُنْعمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إذ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبوَّتي
فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المجاورُ يَفْعَلُ
(4/121)
ومن تمام برهما : زيارتهما بعد موتهما ، والدعاء لهما ، والتصدق عليهما ، ففي الحديث : " إنما الميت في قبره كالغريق ، ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه ، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها " وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال : (كان يقال : إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده ، وأشار بيده نحو السماء) ، وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم : من طريق أبي هريرة قال : " إن الله ليرفع العبد
87
الدرجة ، فيقول : يا رب ، أنَّى لي بها ؟ ! فيقول : باستغفار ابنك لك " ، وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم : هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما به ، بعد موتهما ؟ فقال : " نعم... الصلاة عليهما - أي : الترحم والاستغفار لهما - ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما ". قال تعالى : {ربكم أعلمُ بما في نفوسكم} من قصد البر إليهما ، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير. وكأنه تهديد على أن يُضمر لهما كراهة واستثقالاً ، {إِن تكونوا صالحين} ؛ قاصدين للصلاح ، أو طائعين لله ، {فإِنه كان للأوابين} : التوابين ، أو الرجّاعين إلى طاعته ، {غفورًا} لما فرط منهم عند حرج الصدر ؛ من إذاية ظاهرة أو باطنة ، أو تقصير في حقهما. ويجوز أن يكون عامًا لكل تائب ، ويندرج فيه الجاني على أبويه اندراجًا أوليًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل ما أوحى الله تعالى به في حق والدي البشرية ، يجري مثله في والد الروحانية ، وهو الشيخ ، ويزيد ؛ لأنه أوكد منه ؛ لأنَّ أب البشرية كان السبب في خروجه إلى دار الدنيا ، معرضًا للعطب أو السلامة ، وأب الروحانية كان سببًا في خروجه من ظلمة الجهل إلى نور العلم والوصلة ، وهما السبب في التخليد في النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد. وقد تقدم في سورة النساء تمام هذه الإشارة. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 85
(4/122)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وآتِ ذا القُربى حقه} أي : أعط ذا القربة حقه ؛ من البر ، وصلة الرحم ، وحسن المعاشرة. وقال أبو حنيفة : إذا كانوا محاويج فقراء : أن ينفق عليهم. وقيل : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أن يُؤتى قرابته من بيت المال ، {و} آت {المسكينَ} حقه {وابنَ السبيل} ؛ الغريب ، من برهما والإحسان إليهما ، {ولا تبذرْ تبذيرًا} ؛ بصرف المال فيما لا ينبغي ، وإنفاقه على وجه السرف. قال ابن عزيز : التبذير
88
في النفقة : الإسراف فيها ، وتفريقها في غير ما أحل الله. هـ. وأصل التبذير : التفريق. رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد ، وهو يتوضأ : " مَا هذَا السَّرَفُ " ؟ فقال : أَو فِي الوُضُوءِ سَرَفٌ ؟ فقال : " نَعَمْ ، وإِنْ كنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ ". {إِنَّ المبذّرين كانوا إِخوانَ الشياطين} أي : أمثالهم في الشر ؛ فإن التضييع والإتلاف شر. أو : على طريقتهم ، أو : أصدقاؤهم وأتباعهم ؛ لأنهم يطيعونهم في الإسراف ، رُوي أنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها - أي : يتقامرون - من الميسر ، وهو القمار - ويُبذرون أموالهم - في السمعة ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، وأمرهم بالإنفاق في القرابات. {وكان الشيطانُ لربِّه كفورًا} ؛ مبالغاً في الكفر ، فينبغي ألا يطاع.
{وإِما تُعْرِضنَّ عنهم} أي : وإن أعرضت عما ذكر من ذوي القربى والمسكين وابن السبيل ؛ حياء من الرد ، حيث لم تجد ما تُعطيهم ، {ابتغاءَ رحمةٍ من ربك ترجوها} أي : لطلب رزق تنتظره يأتيك لتعطيهم منه ، {فقلْ لهم قولاً ميسورًا} ؛ فقل لهم قولاً لينًا سهلاً ، بأن تعدهم بالعطاء عند مجيء الرزق ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد ، ولم يجد ما يعطيه ، أعرض عنه ، حياء منه. فَأُمِرَ بحسن القول مع ذلك ، مثل : رزقنا الله وإياكم ، والله يُغنيكم من فضله ، وشبه ذلك
جزء : 4 رقم الصفحة : 88
(4/123)
ثم أمره بالتوسط في العطاء ، فقال : {ولا تجعل يدكَ مغلولةً إِلى عُنقك} أي : لا تمسكها عن الإنفاق كل الإمساك ، {ولا تبسطها كل البسط} ، وهو استعارة لغاية الجود ، فنهى الحقُّ تعالى عن الطرفين ، وأمر بالتوسط فيهما ، كقوله : {إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ...} [الفُرقان : 67] الآية. {فتقعُدَ ملومًا محسورًا} أي : فتصير ، إذا أسرفت ، ملومًا عند الله وعند الناس ؛ بالإسراف وسوء التبذير ، محسورًا : منقطعًا بك ، لا شيء عندك. وهو من قولهم : حسر السفر بالبعير : إذا أتعبه ، ولم يُبْقِ له قوة. وعن جابر رضي الله عنه : بينا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ ، أتاهُ صبي ، فقال له : إن أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ الدِّرْعَ الذي عَليْكَ ، فَدَخَلَ دَارَهُ ونَزَعَ قَمِيصَهُ وأعْطَاهُ ، وقَعَدَ عُرْيَانًا ، وأذَّن بلالٌ ، وانتظره للصلاة ، فلم يخرُجْ ، فأنزل الله : {ولا تجعل يدك} الآية. ثم سلاَّه بقوله : {إِنَّ ربك يبسط الرزق} ؛ يوسعه {لمن يشاءُ ويَقْدِرُ} ؛ يضيقه على من يشاء. فكل ما يصيبك من الضيق فإنما هو لمصلحة باطنية ، {إِنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا} ؛ يعلم سرهم وعلانيتهم ، فيعلم مِنْ مصالحهم ما يخفى عليهم ؛ فيرزقهم على حسب مصالحهم ، ويضيق عليهم على قدر صبرهم. والحاصل : أنه يُعطي كل واحد ما يَصلح به ، والله أعلم.
89
(4/124)
الإشارة : أمر الحق - جلّ جلاله - رسوله صلى الله عليه وسلم ، وخلفاءه ممن كان على قدمه ، أن يعطوا حق الواردين عليهم من قرابة الدين والنسب ، والمساكين والغرباء ، من البر والإحسان حسًا ومعنى ؛ كتعظيم ملاقاته ، وإرشادهم إلى ما ينفع بواطنهم ، والإنفاق عليهم ، من أحسن ما يجد ، حسًا ومعنى ، وخصوصًا الإخوان في الله. فكل ما يُنفق عليهم فهو قليل في حقهم ، ولا يُعد سرفًا ، ولو أنفق ملء الأرض ذهبًا. قال في القوت : دعا إبراهيمُ بن أدهم الثوريَّ وأصحابَه إلى طعام ، فأكثر منه ، فقال له سفيانُ : يا أبا إسحاق ؛ أما تخاف أن يكون هذا سرفًا ؟ فقال إبراهيم : ليس في الطعام سرف. هـ. قلت : هذا إن قدَّمه إلى الإخوان الذاكرين الله ؛ قاصدًا وجه الله ، وأما إن قدمه ؛ مفاخرة ومباهاة دخله السرف. قاله في الحاشية الفاسية ، ومثله في تفسير القشيري ، وأنه لا سَرف فيما كان لله ، ولو أنفق ما أنفق. بخلاف ما كان لدواعي النفس ولو فلسًا. هـ. وأما الخروج عن المال كله فمذموم ، إلا من قوي يقينه ، كالصدِّيق ، ومن كان على قدمه. وكذلك الاستقراض على الله ، واشتراؤه بالدَّين من غير مادة معلومة ، إن كان قوي اليقين ، وجرّب معاملته مع الحق ، فلا بأس بفعل ذلك ؛ وإلاَّ فليكف ؛ لئلا يتعرض لإتلاف أموال الناس فيتلفه الله. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 88
(4/125)
قلت : {خشية} : مفعول من أجله ؛ لأن الخشية قلبية ، بخلاف الإملاق ، فإنه حسي ؛ فَجُرَّ بمن في سورة الأنعام. وهذه الآية في أغنياء العرب ، الذين كانوا يخشون وقوع الفقر ، وما في " الأنعام ". وهذه الآية في أغنياء العرب ، الذين كانوا يخشون وقوع الفقر ، وما في " الأنعام " نزلت في فقرائهم ، الذين كان الفقر واقعًا بهم ، ولذلك قدَّم هناك كاف الخطاب ، وأخَّره هنا ، فتأمله. و " خِطًا " يقال : خطئ خطأ ، كأثم إثمًا. وقرأ ابن عامر : " خَطأً " ، بفتحتين ، فهو إما اسم مصدر أخطأ ، أو لغة في خطئ ، كمِثل ومَثل ، وحِذر وحَذر. وقرأ ابن كثير : " خِطاء " ؛ بالمد ، إما لغة ، أو مصدر خاطأ. انظر البيضاوي.
90
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولا تقتلوا أولادكم} مخافة الفاقة المستقبلة ، وقد كانوا يقتلون البنات - وهو الوأد - مخافة الفقر ، فنهاهم ، عن ذلك ، وضمن لهم أرزاقهم ، فقال : {نحن نرزقهم وإِياكم إِنَّ قتلهم كان خِطأً} ؛ إثمًا {كبيرًا} ؛ لما فيه من قطع التناسل وانقطاع النوع وإيلام الروح. {ولا تقربوا الزنا} ، نهى عن مقاربته بالمقدمات. كالعزم والنظر وشبهه ، فأحرى مباشرته ، {إِنه كان فاحشةً} أي : فعلة ظاهرًا فُحشها وقُبحها ، {وساء سبيلاً} ؛ قبح طريقًا طريقُهُ ، وهو غصب الأبْضاع ؛ لما فيه من اختلاط الأنساب وهتك محارم الناس ، وتهييج الفتن.
(4/126)
{ولا تقتلوا النفسَ التي حرَّم اللهُ إِلا بالحق} ؛ إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنى بعد إحصان ، وقتل مؤمن معصوم ؛ عمدًا ، كما في الحديث. ويلحق بها أشياء في معناها : كالحِرَابَةِ ، وترك الصلاة ، ومنع الزكاة. {ومن قُتل مظلومًا} أي : غير مستوجب للقتل {فقد جعلنا لوَليِّه} أي : الذي يلي أمره بعد وفاته ، وهو الوارث ، {سُلطانًا} ؛ تسلطًا بالمؤاخذة بمقتضى القتل بأخذ الدية ، أو القصاص ، وقوله : {مظلومًا} : يدل على أن القتل عمد ؛ لأن الخطأ لا يُسمى ظلمًا. أو : جعلنا له حجة غالبة ، {فلا يُسرفْ في القتل} ؛ بأن يقتل من لا يحق قتله ، أو بالمثلة ، أو قتل غير القاتل ، {إِنه} أي : الولي {كان منصورًا} ؛ حيث وجب القصاص له ، وأمر الولاة بمعونته. أو : إنه ، أي : المقتول ، كان منصورًا في الدنيا ؛ بثبوت القصاص ممن قتله ، وفي الآخرة بالثواب.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 90
ولا تقربُوا مالَ اليتيم} فضلاً عن أن تتصرفوا فيه {إِلا بالتي هي أحسنُ} ؛ إلا بالطريقة التي هي أحسن ، كالحفظ والتنمية ، {حتى يبلغ أشُدَّه} ؛ حتى يتم رشده ، ثم يدفع له ، فإن دفعه لمن يتصرف فيه بالمصلحة فلا بأس ، {وأوفُوا بالعهد} إذا عاهدتم الله أو الناس ، {إِن العهد كان مسؤولاً} أي : مطلوبًا الوفاء به ، فيطلب من المعاهد ألا يُضيعه ، أو : مسؤولاً عنه ، فيُسأل عنه الناكث ويُعاتب عليه ، أو : يُسأل العهد نفسُه لِمَ نكثْتَ ، تبكيتًا للناكث ، {وأوفوا الكيل إِذا كِلْتُم} ولا تبخسوا فيه ، {وزِنُوا بالقسطاس المستقيم} ؛ بالميزان السّوي. والقسطاس : لغة رومية ، ولا يقدح ذلك في عربية القرآن ؛ لأن غير العربي ، إذا استعملته العرب ، فأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف
91
والتنكير ، صار عربيًا. قاله البيضاوي. {ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً} أي : أحسن عاقبة ومآلاً. والله تعالى أعلم.
(4/127)
الإشارة : ولا تقتلوا ما أنتجته الأفكار الصافية من العلوم ؛ بإهمال القلوب في طلب رزق الأشباح ، خشية لحوق الفقر ، فإنَّ الله ضامن لرزق الأشباح والأرواح. ولا تميلوا إلى الحظوظ ، التي تُخرجكم عن حضرة الحق ؛ فإن ذلك من أقبح الفواحش. ولا تقتلوا النفس بتوالي الغفلة والجهل ، التي حرَّم الله قتلها وإهمالها ، وأمر بإحيائها بالذكر والعلم ، ومن قُتل بذلك مظلومًا ؛ بحيث غلبته نفسه ، ولم تساعده الأقدار ، فقد جعلنا لعقله سلطانًا ، أي : تسلطًا عليها ؛ بمجاهدتها وقتلها وردها إلى مولاها ، فلا يُسرف في قتلها ، بل بسياسة وحيلة ، كما قال القائل :
واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فرُبَّ حِيلَهْ
أَنْفَعُ فِي النُّصْرِ منْ قَبِيلهْ
إنه كان منصورًا ، إن انتصر بمولاه ، وآوى بها إلى شيخ كامل ، قد فرغ من تأديب نفسه وهواه. وقد تقدم باقي الإشارة في سورة الأنعام وغيرها. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 90
قلت : قفا الشيء يقفوه : تبعه. والضمير في " عنه " : يجوز أن يعود لمصدر " لا تَقْفُ " ، أو لصاحب السمع والبصر. وقيل : إن " مسؤولاً " مسند إلى " عنه " كقوله تعالى : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ} [الفَاتِحَة : 7] ، والمعنى : يسأل صاحبه عنه ، وهو خطأ ؛ لأن الفاعل وما يَقوم مقامه لا يتقدم. قاله البيضاوي.
قال ابن جزي : الإشارة في " أولئك " : إلى السمع والبصر والفؤاد ، وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك ؛ لأنها حواس لها إدراك ، والضمير في " عنه " : يعود على " كل " ، ويتعلق " عنه " بمسؤُولاً. هـ. وضمير الغائب يعود على المصدر المفهوم من " مسؤولاً ". و {مَرَحًا} : مصدر في موضع الحال. و {مكروهًا} : نعت لسيئة ، أو بدل منها ، أو خبر ثان لكان.
92
(4/128)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولا تَقْفُ} ؛ تتبع {ما ليس لك به علمٌ} ، فلا تقل ما لا تحقيق لك به ؛ من ذم الناس ورميهم بالغيب. فإذا قلت : سمعتُ كذا ، أو رأيت كذا ، أو تحقق عندي كذا ، مما فيه نقص لأحد ، فإنك تُسأل يوم القيامة عن سند ذلك وتحقيقه. وهذا معنى قوله : {إِنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً}. قال البيضاوي : ولا تتبع ما لم يتعلق علمك به ؛ تقليدًا ، أو رجمًا بالغيب. واحتج به من منع اتباع الظن ، وجوابه : أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند ، سواء كان قطعيًا أو ظنيًا ؛ إذ استعماله بهذا المعنى شائع. وقيل : إنه مخصوص بالعقائد. وقيل : بالرمي وشهادة الزور ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : " من قَفَا مُؤْمنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ ، حَبَسَهُ اللهُ فِي رَدْغَةِ الخَبَالِ ، حَتَّى يَأتِيَ بِالمَخْرَجِ " {إِن السمعَ والبصرَ والفؤاد كلُّ أولئك} أي : كل هذه الأعضاء الثلاثة {كان عنه مسؤولاً} ؛ كل واحد منها مسؤول عن نفسه ، يعني : عما فعل به صاحبه. هـ. مختصرًا.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 92
(4/129)
ولا تمشِ في الأرض مرحًا} أي : ذا مرح ، وهو : التكبر والاختيال ، {إِنك لن تخرق الأرضَ} ؛ لن تجعل فيها خرقًا ؛ لشدة وطأتك {ولن تبلغ الجبال طُولاً} ؛ تتطاول عليها ؛ عزّا وعلوا ، وهو تهكم بالمختال ، وتعليل للنهي ، أي : إذا كنت لا تقدر على هذا ، فلا يناسبك إلا التواضع والتذلل بين يدي خالقك ، {كلُّ ذلك} المذكور ، من قوله : {لا تجعل مع الله إلهًا آخر} إلى هنا ، وهي : خَمْسٌ وعشرون خصلة ، قال ابن عباس : (إنها المكتوبة في ألواح موسى) ، فكل ما ذكر {كان سَيّئة عند ربك} أي : خصلة قبيحة {مكروهًا} أي : مذمومًا مبغوضًا. والمراد بما ذكر : من المنهيات دون المأمورات. {ذلك مما أَوحى إِليك ربُّك من الحكمة} ؛ التي هي علم الشرائع ، أو معرفة الحق لذاته ، والعلم للعمل به. {ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر} ، كرره ، للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه ، وأنه رأس الحكمة وملاكها ، ومن عُدِمَهُ لم تَنْفَعْهُ علومه وحِكمه ، ولو جمع أساطير الحكماء ، ولو بلغت عنان السماء. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد : غيره ممن يتصور منه ذلك. ورتب عليه ، أولاً : ما هو عاقبة الشرك في الدنيا ، وهو : الذم والخذلان ، وثانيًا : ما هو نتيجته في العقبى. فقال : {فتُلقى في جهنم ملومًا} ؛ تلوم نفسك ، وتلومك الملائكة والناس ، {مدحورًا} ؛ مطرودًا من رحمة الله.
ثم قبَّح رأيهم في الشرك ، فقال : {أفأصفاكُم رَبُّكم بالبنين} ، وهو خطاب لمن قال : الملائكة بنات الله. والهمزة للإنكار ، أي : أفخصَّكم ربكُم بأفضل الأولاد ، وهم
93
(4/130)
البنون ، {واتخذَ من الملائكة إِناثًا} ؛ بناتٍ لنفسه ، {إِنكم لتقولون قولاً عظيمًا} أي : عظيم النكر والشناعة ، لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ في إيجاب العقوبة ؛ لخرمه لقضايا العقول ، بحيث لا يجترئ عليه أحد ؛ حيث تجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال ، ثم تضيفون إليه ما تكرهونه ، وتُفضلون عليه أنفسكم بالبنين ، ثم جعلتم الملائكة ، الذين هم أشرف الخلق ، أدونهم ، تعالى الله عن قولكم علوًا كبيرًا.
الإشارة : ينبغي للإنسان الكامل أن يكون في أموره كلها على بينة من ربه ، فَيُحَكِّمُ على ظاهره الشريعة المحمدية ، وعلى باطنه الحقيقة القدسية ، فإذا تجلى في باطنه شيء من الواردات أو الخواطر فليعرضه على الكتاب والسُنَّة ، فإن قبلاه أظهره وفعله ، وإلاَّ رده وكتمه ، كان ذلك الأمر قوليًا أو فعليًا ، أو تركًا او عقدًا ؛ فقد انعقد الإجماع على أنه لا يحل لامرئٍ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ، وإليه الإشارة بقوله : {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم} ، فإن لم يجد نصًا في الكتاب أو السنة فليستفت قلبه ، إن صفا من خوض الحس ، وإن لم يَصْفُ فليرجع إلى أهل الصفاء ، وهم أهل الذكر. قال تعالى : {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النّحل : 43] ، ولا يستفت أهل الظنون ، وهم أهل الظاهر ، قال تعالى : {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يُونس : 36].
جزء : 4 رقم الصفحة : 92
(4/131)
وقال القشيري في تفسير الآية هنا : {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم} أي : جانب محاذاة الظنون ، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه ، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت ، فارجعْ إلى الله ، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من التحقيق فكن مع ما أريد ، وإن بقي الحال على حدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله ، وقِفْ حيثما وقفت. ويقال : الفرق بين من قام بالعلم ، ومن قام بالحق : أنَّ العلماء يعرفون الشيء أولاً ، ثم يعملون بعلمهم ، وأصحابُ الحقائق يجْرِي ، بحكم التصريف عليهم ، شيءٌ ، ولا عِلمَ لهم به على التفصيل ، وبعد ذلك يُكْشَف لهم وجههُ ، فربما يجري على لسانهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه ، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه من شواهد العلم ؛ إذ يتحقق ذلك بجريان الحال في ثاني الوقت. انتهى. قلت : وإلى هذا المعنى أشار في الحكم العطائية بقوله : " الحقائق ترد في حال التجلي مُجْمَلَةً ، وبعد الوعي يكون البيان ، {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} ".
قوله تعالى : {ولا تمشِ في الأرض مرحًا} ، ورد في بعض الأخبار ، في صفة مشي الصوفية : أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل ، متواضعين خاشعين ، ليس فيه إسراع مُخل بالمروءة ، ولا اختيال مُخل بالتواضع. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 92
94
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولقد صَرَّفنا} ؛ بيَّنا {في هذا القرآن} من الأمثال والعبر ، والوعد والوعيد ؛ {ليذَّكروا} ؛ ليتعظوا به ، {وما يزيدُهم} ذلك {إِلا نفورًا} عن الحق وعنادًا له.
الإشارة : من شأن القلوب الصافية : إذا سمعت كلام الحبيب فرحت واهْتَزت ، أو خشعت واقشعرت من هيبة المتكلم ، كلٌّ على ما يليق بمقامه ، ومن شأن القلوب الخبيثة المكدرة : نفورها من كلام الحق ؛ إذ الباطل لا يُقاوم الحق ، ولا يطيق مواجهته. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
(4/132)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قلْ} يا محمد : {لو كان معه} في الوجود {آلهةٌ} تستحق أن تُعبد ، {كما تقولون} أيها المشركون ، أو كما يقول المشركون أيها الرسول ، {إِذًا لابتَغَوا} ؛ لطلبوا {إلى ذي العرش سبيلاً} ؛ طريقًا يقاتلونه. وهذا جواب عن مقالتهم الشنعاء. والمعنى : لطلبوا إلى من هو ملك الملك طريقًا بالمعاداة ، كما تفعل الملوك بعضهم مع بعض. وهذا كقوله : {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ} [المؤمنون : 91]. وقيل : لابتغوا إليه سبيلاً بالتقرب إليه والطاعة ؛ لعلمهم بقدرته ، وتحققهم بعجزهم ، كقوله : {أُولَـائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىا رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسرَاء : 57]. ثم نزّه نفسه عن ذلك فقال : {سبحانه} ؛ تنزيهًا له {وتعالى} ؛ ترافع {عمّا يقولون} من الشركاء ، {عُلوًا} ؛ تعاليًا {كبيرًا} لا غاية وراءه. كيف لا ؛ وهو تعالى في أقصى غاية الوجود! وهو الوجوب الذاتي ، وما يقولونه ؛ من أنَّ له تعالى شركاء وأولادًا ، في أبعد مراتب العدم ، أعني : الامتناع ؛ لأنه من خواص المحدثات الفانية.
{يسبح له السماواتُ السبعُ} أي : تنزهه ، {والأرضُ ومَن فيهن} كلها تدل على تنزيهه عن الشريك والولد ، {وإِنْ من شيء إِلا يُسبح بحمده} ؛ ينزهه عما هو من لوازم الإمكان ، وتوابع الحدوث ، بلسان الحال ، حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم ، الواجب لذاته. قاله البيضاوي. وظاهره : أن تسبيح الأشياء حَالِيُّ لا مقالي ، والراجح أنه مقالي. ثم مع كونه مقالياً لا يختص بقول مخصوص ، كما قال الجلال السيوطي ، أي : تقول : سبحان الله وبحمده. بل كل أحد يُسبح بما يناسب حاله. وإلى
95
(4/133)
هذا يرشد كلام أهل الكاشف ، حتى ذكر الحاتمي : أن من لم يسمعها مختلفة التسبيح لم يسمعها ، وإنما سمع الحالة الغالبة عليه. وورد في الحديث : " ما اصطيد حوت في البحر ، ولا طائر يطير ، إلاَّ بما ضيع من تسبيح الله تعالى " وفي الحديث أيضًا : " ما تطلع الشمس فيبقى خلق من خلق الله ، إلا يسبح الله بحمده ، إلا ما كان من الشيطان وأعتى بني آدم ". ومذهب أهل السنة : عدم اشتراط البِنية للعلم والحياة ، فيصح الخشوع من الجماد ، والخشية لله والتسبيح منه له. وقد قال ابن حجر على حديث حنين الجذع : فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان ، بل كأشرف الحيوان ، وفيه تأييد لمن يحمل قوله : {وإِن من شيء إِلا يُسبح بحمده} على ظاهره. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
وقال ابن عطية : اختلف أهلُ العلم في هذا التسبيح ؛ فقالت فرقة : هو تجوز ، ومعناه : أن كل شيء تبدو فيه صفة الصانع الدالة عليه ، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر. وقالت فرقة : قوله : {من شيء} : لفظه عموم ، ومعناه الخصوص في كل حي ونام ، وليس ذلك في الجمادات الميتة. فمن هذا قول عكرمة : الشجرة تُسبح ، والاسطوانة لا تُسبح. قال يزيد الرقاشي للحسن - وهما في طعام ، وقد قدّم الخِوان- : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال : قد كان يُسبح مدة. يريد أن الشجرة ، في زمان نموها واغتذائها ، تُسَبح. وقد صارت خوانًا أو نحوه ، أي : صارت جمادًا. وقالت فرقة : هذا التسبيح حقيقة ، وكل شيء ، على العموم ، يُسبح تسبيحًا لا يسمعه البشر ولا يفقهه ، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون ؛ من أنه أثر الصنعة ، لكان أمرًا مفهومًا ، والآية تنطق بأنه لا يُفقه ، وينفصل عنه ؛ بأن يريد بقوله : {لا تفقهون} : الكفار والغفلة ، أي : أنهم يُعرضون عن الاعتبار ؛ فلا يفقهون حكمة الله في الأشياء. هـ.
(4/134)
قال شيخ شيوخنا ؛ سيدي عبد الرحمن العارف : وربما يدل للعموم تسبيح الحصى في يده - عليه الصلاة والسلام - ، وكذا حنين الجذع ومحبة أُحد ، وكذا تسبيح الطعام. وأما التخصيص بالناميات ؛ من نبات غير يابس ، وحجر متصل بموضعه ، فهو خصوص تسبيح بالاستمداد إلى الحياة ، ولا ينتفي مطلق الاستمداد ؛ لأن الجماد يستمد الوجود وبقاءه من الله ، فهو عام ، وقد قال تعالى : {ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سَبَأ : 10] ، وتدبر حنين الجذع. هـ. وسيأتي في الإشارة بقية كلام عليه ، وقال البيضاوي أيضًا في قوله : {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} أيها المشركون ؛ لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم التسبيح. ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك من اللفظ والدلالة ؛ لإسناده إلى ما يتصور منه
96
اللفظ ، وإلى ما لا يتصور منه ، وعليهما ، أي : ويحمل - عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه. هـ.
{إِنه كان حليمًا} ؛ حيث لم يُعاجلكم بالعقوبة ، مع ما أنتم عليه من موجباتها ؛ من الإعراض عن النظر في الدلائل الواضحة ، الدالة على التوحيد ، والانهماك في الكفر والإشراك ، {غفورًا} لمن تاب منكم. وبالله التوفيق.
الإشارة : كل ما دخل عالم التكوين من العرش إلى الفرش ، أو ما قُدر وجوده من غيرهما ؛ كله قائم بين حس ومعنى ، بين عبودية وربوبية ، بين قدرة وحكمة. فالحس محل العبودية ، فيه تظهر قهرية الربوبية ، والمعنى هو أسرار الربوبية القائمة بالأشياء ، فالأشياء كلها تنادي بلسان معناها ، وتقول : سبحانه ما أعظم شأنه ، ولكن لا يفقه هذا التسبيح إلا من خاض بحار التوحيد ، وغاص في أسرار التفريد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
(4/135)
فالأشياء ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، قائمة من حيث حسها ، ممحوة من حيث معناها ، ولا وجود للحس من ذاته ، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته. وفي الحديث ، في وصف أهل الجنة : " وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " فمن خرق حجاب الوهم ، وفنى عن دائرة الحس في دار الدنيا ، لم يحتجب الحق تعالى عنه في الدارين طرفة عين. فتحصل أن الأشياء كلها تُسبح من جهة معناها بلسان المقال ، ومن جهة حسها بلسان الحال ، وتسبيحها كما ذكرنا. ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار ، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكون. وحسب من لم يصحبهم التسليم ، كما قال القائل :
إذا لَمْ تَرَ الْهِلاَلَ فَسَلِّمْ
لأُناسٍ رَأَوْهُ بِالأبْصارِ
والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
97
قلت : {أن يفقهوه} : مفعول من أجله ، أي كراهة أن يفقهوه ، و {نفورًا} : مصدر في موضع الحال. والضمير في {به} : يعود على " ما " ، أي : نحن أعلم بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء والسخرية.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإِذا قرأتَ القرآنَ} الناطق بالتنزيه والتسبيح ، ودعوتهم إلى العمل بما فيه ؛ من التوحيد ، ورفض الشرك ، وغير ذلك من الشرائع ، {جعلنا} بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على دواعي الحِكَمِ الخفية {بينَك وبين الذين لا يُؤمنون بالآخرة} ، خَصَّ الآخرة بالذكر من بين سائر ما كفروا به ؛ دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به ، وتمهيدًا لما سينقل عنهم من إنكار البعث ، أي : جعلنا بينك وبينهم {حجابًا} يمنعهم عن فهمه والتدبر فيه ، {مستورًا} عن الحس ، خفيًا ، معنويًا ، وهو الران الذي يَسْبَحُ على قلوبهم من الكفر ، والانهماك في الغفلة. أو : ذا ستر ، كقوله : {وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريَم : 61] ، أي : آتيًا ، فهو ساتر لقلوبهم عن الفهم والتدبر.
(4/136)
نَفَى عنهم فقه الآيات ، بعد ما نفى عنهم فقه الدلالات المنصوبة في الأشياء ؛ بيانًا لكونهم مطبوعين على الضلالة ، كما صرح به في قوله : {وجعلنا على قلوبهم أَكِنَّةً} ؛ أغطيةً تكنها ، وتحول بينها وبين إدراك الحق وقبوله. فعلنا ذلك بهم ؛ كراهة {أنْ يفقهوه} ، {و} جعلنا {في آذانهم وقرًا} ؛ ثقلاً وصممًا يمنعهم من استماعه. ولمَّا كان القرآن معجزًا من حيث اللفظ والمعنى ، أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ. قاله البيضاوي.
{وإِذ ذكرتَ ربك في القرآن وحده} أي : واحدًا غير مشفوع به آلهتهم ، {وَلَّوْا على أدبارهم نُفورًا} ؛ هَرَبا من استماع التوحيد ، والمعنى : وإذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى ، فرَّ المشركون عن ذلك ؛ لما في ذلك من رفض آلهتهم وذمها. قال تعالى : {نحن أعلم بما يستمعون به} أي : بالأمر الذي يستمعون به ؛ من الاستهزاء ، وكانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء ، {وإِذْ هم نجوى} أي : ونحن أعلم بغرضهم ، حين همَّ جماعة ذات نجوى ، يتناجون بينهم ويخفون ذلك. ثم فسر نجواهم بقوله : {إذْ يقول الظالمون} ، وضع الظالمين موضع الضمير ؛ للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا محض ظلم ، أي : إذ يقولون : {إِن تتبعون إِلا رجلاً مسحورًا} ؛ مجنونًا قد سُحر حتى زال عقله.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 97
انظر كيف ضربوا لك الأمثال} ، مثلوك بالساحر ، والشاعر ، والكاهن ، والمجنون ، {فضلُّوا} عن الحق في جميع ذلك ، {فلا يستطيعون سبيلاً} إلى الهدى ، أو إلى الطعن فيما جئتَ به بوجه ؛ فهم يتهافتون ، ويخبطون ، كالمتحير في أمره لا يدري ما يفعل. ونزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه من الكفار.
98
(4/137)
{وقالوا أئذا كنا عظامًا ورُفاتًا أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا} ، أنكروا البعث ، واستبعدوا أن يجعلهم خلقًا جديدًا ، بعد فنائهم وجعلهم ترابًا. والرفات : الذي بلي ، حتى صار غبارًا وفتاتًا. و " أئذا " : ظرف ، والعامل فيه : ما دل عليه قوله : {لمبعوثون} ، لا نفسه ؛ لأن ما بعد " إن " والهمزة ، لا يعمل فيما قبله ، أي : أنُبعث إذا كنا عظامًا... الخ. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد تقدم في سورة " الأنعام " تفسير الأكنة التي تمنع من فهم القرآن والتدبر فيه ، والتي تمنع من الشهود والعيان ، فراجعه ، إن شئت. وفي الآية تسلية لمن أوذي من الصوفية فرُمِيَ بالسحر أو غيره. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 97
قلت : {قريباً} : خبر كان ، أو ظرف له ؛ على أن " كان " تامة ، أي : عسى أن يقع في زمن قريب. و {أن يكون} : إما : اسم " عسى " وهي تامة ، أو خبرها ، والاسم مضمر ، أي : عسى أن يكون البعث قريبًا ، أو : عسى أن يقع في زمن قريب. و {يوم يدعوكم} : منصوب بمحذوف ؛ اذكروا يوم يدعوكم. أو : بدل من " قريب " ؛ على أنه ظرف. انظر أبا السعود. و {بحمده} : حال من ضمير {تستجيبون} ، أي : منقادين له ، حامدين له ، لما فعل بكم.
(4/138)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قلْ} يا محمد لمن أنكر البعث : {كُونوا حجارة أو حديدًا أو خلقًا} آخر {ممَا يكْبُرُ} أي : يعظم {في صدوركم} عن قبول الحياة ، فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة ، أي : لو كنتم حجارة أو حديدًا ، أو شيئًا أكبر عندكم من ذلك ، وأبعد من الحياة ، لقدرنا على بعثكم ؛ إذ القدرة صالحة لكل ممكن. ومعنى الأمر هنا : التقدير ، وليس للتعجيز ، كما قال بعضهم. انظر ابن جزي ، {فسيقولون مَن يُعيدنا} إلى الحياة مرة أخرى ، مع ما بيننا وبين الإعادة ، من مثل هذه المباعدة ؟ {قل الذي فطركم أول مرةٍ} ولم تكونوا شيئًا ؛ لأن القادر على البدء قادر على الإعادة ، بل هي أهون ، {فسيُنْغِضُون} ؛ يُحركون {إِليك رؤوسَهم} ؛ تعجبًا واستهزاءً ، {ويقولون} ؛ استهزاء : {متى هو} أي : البعث ، {قل عسى أن يكون قريبًا} ، فإنَّ كل ما هو آتٍ قريب.
99
واذكروا {يومَ يدعوكم} ؛ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل ، {فتستجيبونَ} أي : فتبعثون من القبور {بحمده} ؛ بأمره ، أو ملتبسين بحمده ، حامدين له على كمال قدرته ، عند مشاهدة آثارها ، ومعاينة أحكامها ، كما قيل : إنم يقومون ينفضون التراب عن رؤوسهم ، ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، {وتظنون إِن لبثتم} ؛ ما لبثتم في الدنيا {إِلا قليلاً} ؛ لما ترون من الهول ، أو تستقصرون مدة لبثكم في القبور ، كالذي مرَّ على قرية. والله تعالى أعلم.
(4/139)
الإشارة : مَن كان قلبه أقسى من الحجارة والحديد ، واستغرب أن يُنقذه الله من شهوته ، وأن يخرجه من وجود جهالته وغفلته ، فقُل لهم : كونوا حجارة أو حديدًا ، أو خلقًا أكبر من ذلك ، فإن الله قادر على أن يُحيي قلوبكم بمعرفته ، ويُلينها بعد القساوة ، بسبب شرب خمرته. فسيقولون : من يُعيدنا إلى هذه الحالة ؟ قل : الذي فطركم على توحيده أول مرة ، حين أقررتم بربوبيته ، يوم أخذ الميثاق. فسَيُنْغضون إليك رؤوسهم ؛ تعجبًا واستغرابًا ، ويقولون : متى هو هذا الفتح ؟ ! قل : عسى أن يكون قريبًا ؛ يوم يدعوكم إلى حضرته بشوق مقلق ، أو خوف مزعج ، بواسطة شيخ عارف ، أو بغير واسطة ، فتستجيبون بحمده ومنته ، وتظنون إن لبثتم في أيام الغفلة إلا قليلاً ؛ فتلين قلوبكم ، وتطمئن نفوسكم ، وتنشرح صدوركم ، وتحسن أخلاقكم ، فلا تخاطبون العباد إلا بالتي هي أحسن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 99
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقل لعبادي} المؤمنين : {يقولوا} للمشركين الكلمة {التي هي أحسنُ} ولا تخاشنوهم ، {إِن الشيطان يَنْزَغُ بينهم} ؛ يهيج بينهم الجدال والشر ، فلعل المخاشنة لهم تُفضي إلى العناد وازدياد الفساد. وكان هذا بمكة ، قبل الأمر بالقتال ، ثم نُسخ. وقيل : في الخطاب من المؤمنين بعضهم لبعض ، أمرهم أن يقولوا ، فيما بينهم ، كلامًا لينًا حسنًا. {إِن الشيطانَ ينزَغ بينهم} العداوة والبغضاء ؛ {إِنَّ الشيطان كان للإِنسان عدوًا مبينًا} ؛ ظاهر العداوة.
يقولون لهم في المخاطبة الحسنة : {ربكم أعلمُ إِن يشأ يرحمْكُم} بالتوبة والإيمان ، {أو إِن يشأ يُعذِّبكُم} بالموت على الكفر. وهذا تفسير للكلمة التي هي أحسن ، وما بينهما اعتراض ، أي : قولوا هذه الكلمة ونحوها ، ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار ؛ فإنه يثير الشر ، مع أن ختام أمرهم غيب. {وما أرسلناك عليهم وكيلاً} ؛
100
(4/140)
موكولاً إليك أمرهم ، فتجبرهم على الإيمان ، وإنما أَرْسلْنَاكَ مبشرًا ونذيرًا ، فَدارهِم ، ومُر أصحابك باحتمال الأذى منهم. رُوي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم ؛ فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ، وقيل : شتم رجل عمر رضي الله عنه ، فهمَّ به ، فأمره الله بالعفو.
{وربك أعلمُ بمن في السماوات والأرض} وبأحوالهم ، فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء. وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيًا ، وأن يكون العُراة الجياع أصحابه. {ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض} بالفضائل النفسانية ، والتفرغ من العلائق الجسمانية ، لا بكثرة الأموال والأتباع ، حتى يستبعدوا نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لقلة ماله ، وضعف أصحابه ؛ فإن سيدنا داود عليه السلام كان مثله في قلة ماله وأتباعه ، ثم قواه بالملك والنبوة. ولذا قال : {وآتينا داود زبورًا} ؛ وقيل : هو إشارة إلى تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه مذكور في الزبور ، وهو أنه خاتم الأنبياء ، وأمته خير الأمم ، وأنهم يرثون الأرض بالفتح عليهم ؛ قال تعالى : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء : 105]. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 100
الإشارة : من أوصاف الصوفية - رضي الله عنهم - أنهم هينون لينون كلَّفة حرير ، لا ينطقون إلا بالكلام الحسن ، ولا يفعلون إلا ما هو حسن ، ويفرحون ولا يحزنون وينبسطون ولا ينقبضون. من رأوه مقبوضًا بسطوه ، ومن رأوه حزينًا فرّحوه ، ومن رأوه جاهلاً أرشدوه بالتي هي أحسن. وهم متفاوتون في هذا الأمر ، مفضل بعضهم على بعض في الأخلاق والولاية ، فكل من زاد في الأخلاق الحسنة زاد تفضيله عند الله. وفي الحديث : " إنَّ الرَّجلُ لَيُدرِكُ ؛ بحُسْن الخلُق ، دَرَجََة الصَائِم النهار ، القَائِمِ اللَّيْل " وبالله التوفيق.
(4/141)
جزء : 4 رقم الصفحة : 100
قلت : {أولئك} : مبتدأ ، و {الذين يدعون} : صفته ، و {يبتغون} : خبره. وضمير " يدعون " : للكفار ، وفي " يبتغون " : للآلهة المعْبُودين ، وقيل : الضمير في " يدعون " و " يبتغون " : للأنبياء المذكورين قبلُ في قوله : {فضَّلنا بعض النبيين على بعض} ، والوسيلة : ما يتوسل به ويتقرب إلى الله ، و {أيهم} : بدل من فاعل {يبتغون} ، و " أيّ " :
101
والوسيلة : ما يتوسل به ويتقرب إلى اللهِ ، و {أيهم} : بدل من فاعل {يبتغون} ، و " أيّ " : موصولة ، أي : يبتغي من هو أقرب إليه تعالى -الوسيلة - ، فكيف بمن دونه ؟ أو ضمَّنَ معنى يبتغون : يحرصون ، أي : يحرصون أيهم يكون إليه تعالى أقرب ؟
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قلْ} لهم : {ادعوا الذين زعمتم} أنهم آلهة تعبدونهم {من دونه} كالملائكة والمسيح وعُزير ، أو كالأصنام والأوثان ، {فلا يملكون} ؛ لا يستطيعون {كشف الضر عنكم} ، كالمرض والفقر والقحطِ ، {ولا تحويلاً} لذلك عنكم إلى غيركم ، قال تعالى : {أولئك الذين يدعون} أنهم آلهة ، هم في غاية الافتقار إلى الله والتوسل إليه ، كلهم {يبتغون إِلى ربهم الوسيلةَ} أي : التقرب بالطاعة ، ويحرصون {أيهم أقربُ} إلى الله من غيره ، فكيف يكونون آلهة ؟ أو : أولئك الذين يدعونهم آلهة ، يطلبون إلى ربهم الوسيلة بالطاعة ، يطلبها أيهم أقرب ، أي : الذي هو أقرب ، فكيف بغير الأقرب ؟ {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} كسائر العباد ، فكيف يزعمون أنهم آلهة ؟ {إن عذاب ربك كان محذورًا} ؛ مخوفًا ، أي : حقيقًا بأن يحذره كل أحد ، حتى الرسل والملائكة. أعاذنا الله من جميعه. رمين.
(4/142)
الإشارة : كل ما دخل عالم التكوين لزمته القهرية والعبودية ، فهو عاجز عن إصلاح نفسه ، فكيف يصلح غيره ؟ ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، فكيف يدفع عن غيره ؟ فارفع همتك ، أيها العبد ، إلى مولاك ، وأنزل حوائجك كلها به دون أحد سواه ، فكل ما سواه مفتقر إليه ، والفقير المضطر لا ينفع نفسه ، فكيف ينفع غيره ؟ والله يتولى هداك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 101
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإِن من قرية} أي : أهلها ، {إلا نحن مُهلكوها قبلَ يوم القيامة} ؛ بالموت والاستئصال ، {أو مُعذبوها عذابًا شديدًا} ؛ بالقتل وغيره ، {كان ذلك في الكتاب} ؛ في اللوح المحفوظ {مسطورًا} ؛ مكتوبًا. وقال في المستخرج : وإن من قرية إلا نحن مهلكوها ؛ الصالحة بالإفناء ، والطالحةُ بالبلاء ، أو معذبوها بالسيف ؛ إذا ظهر فيهم الزنى والربا. هـ. قال ابن جزي : رُوي أن هلاك مكة بالحبشة ، والمدينة بالجوع ، والكوفة بالترك ، والأندلس بالخيل. ثم قال : وأما هلاك قرطبة وأشبيلية وطُليطلة وغيرها ، فبأخذ الروم لها. هـ. قلت : قد استولى العدو على الأندلس كلها فهو خرابها. أعاد الله عمارتها بالإسلام. آمين.
وقال في حُسْن المحاضرة : وأخرج الحاكم في المستدرك عن كعب قال : الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية - والجزيرة أرض بالبصرة ، وموضع باليمامة ، لا جزيرة الأندلس - ثم قال : ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة : والكوفة آمنة من
102
(4/143)
الخراب حتى تخرب مصر ، ولا تكون الملحمة حتى تخرب الكوفة ، ولا تفتح مدينة الكفر حتى تكون الملحمة ، ولا يخرج الدجال حتى تُفتح مدينة الكفر. قال : وأخرج الديلمي في مسند الفردوس ، وأورده القرطبي في التذكرة من حديث حذيفة مرفوعًا : يبدو الخراب في أطراف الأرض ، حتى تخرب مصر ، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب البصرة ، وخراب البصرة من العراق ، وخراب مصر من جفاف النيل ، وخراب مكة من الحبشة ، وخراب المدينة من الجوع ، وخراب اليمن من الجراد ، وخراب الأُبُلَّةِ من الحِصار ، وخراب فارس من الصعاليك ، وخراب الترك من الديلم ، وخراب الديلم من الأرمن ، وخراب الأرمن من الخَرز ، وخراب الخرز من الترك ، وخراب الترك من الصواعق ، وخراب السند من الهند ، وخراب الهند من الصين ، وخراب الصين من الرمل ، وخراب الحبشة من الرجفة ، وخراب العراق من القحط. هـ.
قلت : وسكت عن المغرب ، ولعله المعنِيُّ بقوله عليه الصلاة والسلام : " لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأتِي أمْرُ اللهِ " زاد في رواية : وهم أهل المغرب ، ورجحه صاحب المدخل ، قال : لأنهم متمسكُون بالسنة أكثر من المشرق. والله تعالى أعلم بغيبه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 102
الإشارة : القرية محل تقرر السر ، وهو القلب ، فإما أن يُهلكه الله بالتلف والضلال ، وإما أن يُعذبه عذابًا شديدًا ؛ بالمجاهدات والمكابدات ، ثم ينعمه نعيمًا كبيرًا بالمشاهدات والمناجاة. كان ذلك في الكتاب مسطورًا ، فريق في الجنة وفريق في السعير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 102
(4/144)
قلت : {أنْ نرسل} : مفعول " منعنا " ، و {إلا أن كَذَّب} : فاعل. يقول الحق جلّ جلاله : وما صَرَفَنَا عن إرسال الآيات التي اقْتَرَحَتْهَا قريش بقولهم : اجعل لنا الصّفَا ذَهَبًا ، إلا تكذيب الأولين بها ، فهلكوا ، وهم أمثالهم في الطبع ، كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوها ، فيهلكوا أمثالهم ، كما مضت به سنتُنا ، وقد قضينا في أزلنا ألا نستأصلهم ؛ لأن فيهم من يُؤمن ، أو يلد من يؤمن.
103
ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال : {وآتينا ثمودَ الناقةَ} بسبب سؤالهم ، {مُبصرةً} ؛ بينة ذات إبصار ، أو بصائر واضحة الدلالة ، يُدركها كلُّ من يبصرها. {فظلموا بها} ؛ فكفروا بها ، أو : فظلموا أنفسهم بسبب عقرها ، فهلكوا ، {وما نُرسل بالآياتِ} المقترحة {إِلا تخويفًا} من نزول العذاب المستأصِلِ ، فإن لم يخافوا نزل بهم ، أو : وما نرسل بالآيات غير المقترحة ، كالمعجزات وآيات القرآن ، إلا تخويفًا بعذاب الآخرة ؛ فإن أمر من بعث إليهم مؤخر إلى يوم القيامة. قاله البيضاوي.
قال في الحاشية : ومقتضى حديث الكسوف ، وقوله فيه : " ذلك يُخوف بهما عبادة " : أن التخويف لا يختص بالخوارق ، بل يعم غيرها ، مما هو معتاد نفيه ، ويأتي غِبا. وفي الوجيز : (بالآيات) أي : العبر والدلالات. وفي الورتجبي : الآيات هي : الشباب والكهولة والشيبة ، وتقلب الأحوال بك ، لعلك تعتبر بحال ، أو تتعظ بوقت. هـ.
الإشارة : إمساك الكرامات عن المريد السائر أو الولي : رحمة واعتناء به ، فلعله ؛ حين تظهر له ، يقف معها ويستحسن حاله ، أو يزكي نفسه ويرفع عنها عصا التأديب ، فيقف عن السير ، ويُحرم الوصول إلى غاية الكمال ، وفي الحكم : " ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها ، إلاّ نادته هواتف الحقيقة : الذي تطلب أمامك ". وقال الششتري رضي الله عنه :
ومهما ترى كلَّ المراتِبِ تجتلي
عليْكَ فحُلْ عنها فعَن مِثْلها حُلْنا
وقُلْ ليْس لي في غَيْر ذاتِكَ مَطْلبٌ
فلا صورةٌ تُجْلى ولا طُرْفَةٌ تُجْنى
(4/145)
ولما نزّه تعالى نفسه في أول السورة عن الجهة ، التي تُوهمها قضيةُ الإسراء ، صَرَّحَ هنا بأنه محيط بكل مكان وزمان ، لا يختص بمكان دون مكان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 103
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإِذْ قلنا لك} فيما أوحينا إليك {إِنَّ ربك أحَاطَ بالناس} علماً وقدرة ، وأسراراً وأنواراً ، كما يليق بجلاله وتجليه ، فلا يختص بمكان ولا زمان ، بل هو مظهر الزمان والمكان ، وقد كان ولا زمان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان ، {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} في قضية الإسراء ، قال ابن عباس : " هي رؤيا عين " حيث رأى أنوار جبروته في أعلى عليين ، وشاهد أسرار ذاته أريناك ذلك في ذلك المكان {إلا فتنةً للناس} ؛ اختباراً لهم ، من يصدق بذلك ولا يكيف ، ومن يجحده من الكفرة. ومن يقف مع ظاهره ، فيقع في التجسيم والتحييز ، ومن تنهضه السابقة إلى
104
التعشق ؛ فيجاهد نفسه حتى تعرج روحه إلى عالم الملكوت ، فتكاشف بإحاطة أسرار الذات بكل شيء.
وإنما خص الحق تعالى إحاطته بالناس ، مع أنه محيط بكل شيء ، كما في الآية الأخرى : {أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} [فُصِّلَت : 54] ؛ لأنهم المقصودون بالذات من هذا العالم ، وما خلق إلا لأجلهم. فاكتفى بالإحاطة بهم عن إحاطته بكل شيء.
(4/146)
ثم قال تعالى : {والشجرة الملعونة في القرآن} وهي : شجرة الزقوم ، أي : ما جعلناها إلا فتنة للناس. وذلك أن قريشاً لما سمعوا أن في جهنم شجرة الزقوم ، سخروا من ذلك ، فافتتنوا بها ، حيث أنكروها ، وكفروا بالقرآن ، وقالوا : كيف تكون شجرة في النار ، والنار تحرق الشجر ؟ ! وقفوا مع الإلف والعادة ، ولم ينفذوا إلى عموم تعلق القدرة. ومن قدر على حفظ وبر السَّمَنْدَل منها ، وهو يمشي فيها ، قدر على أن يخلق في النار شجرة ، ولم تحرقها. وقال أبو جهل : ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد. فإن قيل : أين لُعِنت شجرة الزقوم في القرآن ؟ فالجواب : أن المراد لعنة آكلها ، وقيل : إن اللعنة هنا بمعنى الإبعاد ، وهي في أصل الجحيم.
قال تعالى : {ونُخوِّفهم} بأنواع التخويف ، أو بالزقوم ، {فما يزيدُهُم إِلا طغيانًا كبيرًا} ؛ عنوًا مجاوزاً للحد.
الإشارة : الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته. فإذا انمحت الأكوان ثبتت وحدة المكون. " كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما كان عليه " ، من قامت به الأشياء ، وهو وجودها ونور ذاتها ، ومحيط بها ، كيف تحصره ، أو تحيزه ، أو تحول بينه وبين موجوداته ؟ قيل لسيدنا علي - كرم الله وجهه - : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين كان ربنا قبل خلق الأشياء ؟ فتغير وجهه ، وسكت ، ثم قال : قولكم : أين ؟ يقتضي المكان ، وكان الله ولا زمان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 104
وقال الشيخ الشاذلي : (قيل لي : يا عليّ ؛ بي قُلْ ، وعليّ دُل ، وأنا الكل). وفي الحديث : " لاَ تَسُبُّوا الدَهْرَ ، فَإنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ ، بِيَده الليْلُ والنَّهَار " ، ولا يفهم هذا على التحقيق إلا أهل الذوق ، بصحبة أهل الذوق. وإلا فسلِّم تسلم ، واعتقد التنزيه وبطلان التشبيه. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 104
(4/147)
قلت : {طينًاً} : منصوب على إسقاط الخافض ، أو : حال من الراجع إلى الموصول ، و {أرأيتك} : الكاف للخطاب ، لا موضع لها. وتقدم الكلام عليه في سورة الأنعام. و {هذا} : مفعول " أرأيت " ، و {جزاء} : مصدر ، والعامل فيه : " جزاؤكم " ، فإنَّ المصدر ينصب بمثله أو فعله أو وصفه ، وقيل : حال موطئة لقوله : " موفورًا ".
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر {إِذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إِلا إِبليسَ} امتنع ، و {قال أأسجدُ لمن خلقتَ طينًا} أي : من طين ؛ فهو أصله من الطين ، وأنا أصلي من النار ، فكيف أسجد له وأنا خير منه ؟ ! ثم {قال} إبليس : {أَرَأيْتكَ هذا الذي كرمتَ عليَّ} أي : أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ ؛ بأمري بالسجود له ، لِمَ كرمتَه عليّ ؟ {لئن أخرتنِ} أي : والله لئن أخرتنِ {إِلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنّ} ؛ لأستأصلن ؛ من احتنكت السَّنةُ أموالَهم ؛ أي : استأصلتها. أي : لأهلكن {ذريتَه} ؛ بالإغواء والإضلال ، {إِلا قليلاً} ؛ أو : لأميلنهم وأَقُودَنَّهُمْ ، مأخوذ من تحنيك الدابة ، وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد. أي : لأقودنهم إلى عصيانك ، إلا قليلاً ، فلا أقدر أن أقاوم شكيمتهم ؛ لمَا سبق لهم من العناية.
قال ابن عطية : وحَكَمَ إبليس على ذرية آدم بهذا الحكم ؛ من حيث رأى الخِلْقَةَ مجوفةً مختلفةَ الأجزاءِ ، وما اقترن بها من الشهوات والعوارض ؛ كالغضب ونحوه ، ثم استثنى القليل ؛ لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله. هـ. قلت : إنما يحتاج إلى هذا : من وقف مع ظاهر الحكمة في عالم الحس ، وأما من نفذ إلى شهود القدرة في عالم المعاني : فلا.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 105
(4/148)
قال} تعالى : {اذهبْ} ؛ امض لما قصدته ، وهو طرد وتخلية لما بينه وبين ما سولت له نفسه. {فمن تبعك منهم فإِنَّ جهنم جزاؤكم} ؛ التفت إلى الخطاب ، وكان الأصل أن يقال : جزاؤهم ، بضمير الغيبة ؛ ليرجع إلى {من تبعك} ، لكنه غلب المخاطب ؛ ليدخل إبليس معهم ، فتُجازون على ما فعلتم {جزاء موفورًا} ؛ وافرًا مكملاً ، لا نقص فيه. {واستفزز} ؛ استخفف ، أو اخدع {مَن استطعتَ منهم} أن تستفز {بصوتك} ؛ بدعائك إلى الفساد ، {وأَجْلِبْ عليهم} أي : صِحْ عليهم ، من الجلبة ، وهي : الصياح ، {بخَيْلكَ ورَجِلكَ} ؛ أي : بأعوانك ؛ من راكب وراجل ، قيل : هو مجاز ، أي : افعل بهم جهدك. وقيل : إن له من الشياطين خيلاً ورجالاً. وقيل : المراد : بيان الراكبين في طلب المعاصي ، والماشين إليها بأرجلهم. {وشارِكْهمْ في الأموال} ؛
106
بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام ، والتصرف فيها على ما لا ينبغي ، كإنفاقها في المعاصي ، {والأولادِ} ؛ بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب الحرام ، كالزنى وشبهه من فساد الأنكحة ، وكتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وعبد العُزّى. وقال في الإحياء : قال يونس بن زيد : بلغنا أنه يُولد مع أبناء الإنس من أبناء الجن ، ثم ينشأون معهم. قال ابن عطية : وما أدخله النّقَّاشُ ؛ من وطء الجن ، وأنه يحبل المرأة من الإنس ، فضعيف كله. هـ. قال في الحاشية : وضَعْفُهُ ظاهر ، والآية مشيرة لرده ؛ لأنها إنما أثبتت المشاركة في الولد ، لا في الإيلاء ، فإنه لم يرد ، ولو قيل به لكان ذريعة لفساد كبير ، ولكان شبهة يُدْرَأُ بها الحد ، ولا قائل بذلك. وانظر الثعالبي الجزائري ؛ فقد ذكر حكاية في المشاركة في الوطء عمن اتفق له ذلك ، فالله أعلم. وأما عكس ذلك ؛ إيلاء الإنسي الجنية ، فأمر لا يحيله العقل ، وقد جاء الخبر به في أمر بلقيس. قاله المحشي الفاسي.
(4/149)
{وعِدْهُمْ} بأن لا بعث ولا حساب ، أو المواعد الباطلة ؛ كشافعة الآلهة. والاتّكال على كرامة الآباء ، وتأخير التوبة ، وطول الأمل ، {وما يعدُهم الشيطانُ إِلا غرورًا} وباطلاً. والغرور : تزيين الخطأ بما يُوهم أنه صواب. قاله البيضاوي.
الإشارة : ينبغي لك أيها الإنسان أن تكون مضادًا للشيطان ، فإذا امتنع من الخضوع لآدم فاخضع أنت لأولاد آدم ؛ بالتواضع واللين ، وإذا كان هو مجتهدًا في إغواء بني آدم بما يقدر عليه ، فاجتهد أنت في نصحهم وإرشادهم ، وتعليمهم ووعظهم وتذكيرهم ، بقدر ما يمكنك ، واستعمل السير إليهم بخيلك ورجلك ، حتى تنقذهم من غروره وكيده. وإذا كان هو يدلهم على الشرك الجلي والخفي ، في أموالهم وأولادهم ، فدُلَّهم أنت على التوحيد ، والإخلاص ، في اعتقادهم وأعمالهم وأموالهم. وإذا كان يعدهم بالمواعد الكاذبة ، فعدهم أنت بالمواعد الصادقة ؛ كحسن الظن بالله ، إن صحبه العمل بما يرضيه. فإن فعلت هذا كنت من عباد الله الذين ليس له عليهم سلطان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 105
107
قلت : {أفأمنتم} : الهمزة للتوبيخ ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أنجوتم من البحر فأمنتم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِنَّ عبادي} المخلصين ، الذين يتوكلون عليَّ في جميع أمورهم ، {ليس لك عليهم سلطانٌ} أي : تسلط وقدرة على إغوائهم ؛ حيث التجأوا إليَّ ، واتخذوني وكيلاً ؛ {وكفى بربك وكيلاً} ؛ حافظاً لمن توكل عليه ، فيحفظهم منك ومن أتباعك.
ثم ذكر ما يحث على التعلق به ، والتوكل عليه في جميع الأحوال الدينية والدنيوية ، فقال : {ربكم الذي يُزجي} ؛ يجري {لكم الفلك} ويسيرها {في البحر لتبتغوا من فضله} بالتجارة والربح ، وجَلْبِ أنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم ، {إِنه كان بكم رحيمًا} في تسخيرها لكم ؛ حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه في سيرها ، وسهل عليكم ما يعسر من أسباب معاشكم ومعادكم.
(4/150)
{وإِذا مسَّكم الضرُّ في البحر} يعني : خوف الغرق ، {ضَلَّ} ؛ غاب عنكم {من تَدْعُون} ؛ من تعبدون من الآلهة. أو : من تستغيثون به في حوادثكم ، {إِلا إِيَّاه} وحده ، فإنكم حينئذ لا يخطرُ ببالكم سواه ، ولا تدعون ، لكشفه ، إلا إياه ، فكيف تعبدون غيره ، وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه ؟ {فلما نجَّاكم} من الغرق {إِلى البر أعرضتم} عن التوحيد ، أو عن شكر النعمة ، {وكان الإِنسانُ كفورًا} بالنعم ، جحودًا لها ، إلا القليل ، وهو كالتعليل للإعراض.
{أفأمِنْتُم} أي : أنجوتم من البحر ، وأمنتم {أن يَخْسف بكم جانبَ البرِّ} ؛ بأن يقلبه عليكم وأنتم عليه ، أو يخسف بكم في جوفه ، كما فعل بقارون ، {أو يُرسلَ عليكم حاصبًا} أي : ريحًا حاصبًا ، يرميكم بحصباء كقوم لوط ، {ثم لا تجدوا لكم وكيلاً} ؛ حافظاً لكم منه ، فإنه لا رادّ لفعله. {أم أمنتم أن يُعيدكم فيه تارةً أخرى} ؛ بأن يخلق فيكم دواعي تحملكم إلى أن ترجعوا لتركبوا فيه ؛ {فيُرسلَ عليكم قاصِفًا من الريح} أي : ريحًا شديدة ، لا تمر بشيء إلا قصفته ، أي : كسرته ، {فيُغرقكم} ، وعن يعقوب : " فتغرقكم " ؛ على إسناده إلى ضمير الريح. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بنون التكلم في الخمسة. يفعل ذلك بكم {بما كفرتم} ؛ بكفركم ، أي : بسبب إشراككم ، أو كفرانكم نعمة الإنجاء ، {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا} ؛ مطالبًا يتبعنا بثأركم ، كقوله : {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس : 15] ، أو : لا تجدوا نصيرًا ينصركم منه. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
الإشارة : العباد الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، هم الذين أضافهم إلى نفسه ؛ بأن اصطفاهم لحضرة قدسه ، وشغلهم بذكره وأُنسه ، لم يركنوا إلى شيء سواه ، ولم يلتجئوا إلاَّ إلى حماه. فلا جرم أنه يحفظهم برعايته ، ويكلؤهم بسابق عنايته. فظواهرهم قائمة بآداب العبودية ، وبواطنهم مستغرقة في شهود عظمة الربوبية. فلمَّا قاموا بخدمة
108
(4/151)
الرحمن ، حال بينهم وبين كيد الشيطان ، وقال لهم : ربكم الذي يُزجي لكم فلك الفكرة في بحر الوحدة ؛ لتبتغوا الوصول إلى حضرة الأحدية ، إنه كان بكم رحيمًا. ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة ، وغرقتم في تيار الذات ، غاب عنكم كل ما سواه ، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة ، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى ، وجحدتم وجوده ، لكن القلوب بيد الرحمن ، يُقلبها كيف شاء ؛ فلا يأمن العارف من المكر ، ولو بلغ ما بلغ ، ولذلك قال : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ؛ فتغرقون في الحس ، وتشتغلون بعبادة الحس ، أو يُرسل عليكم حاصباً : وارداً قَهَّارِيًّا ، يُخرجكم عن حد الاعتدال ، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة ، تارة أخرى ، بعد الرجوع للبقاء ، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال ، ويحطكم عن ذروة الكمال ، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولقد كرَّمنا بني آدم} قاطبة ، برهم وفاجرهم ، أي : كرمناهم بالصورة الحسنة ، والقامة المعتدلة ، والتمييز بالعقل ، والإفهام بالكلام ، والإشارة والخط ، والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد ، والتسلط على ما في الأرض ، والتمتع به ، والتمكن من الصناعات ، وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نطاق العبارة. ومن جملته : ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه ؛ من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه ، إلا الإنسان يرفعه إليه بيده ، وأما القرد فيده بمنزلة رجله ؛ لأنه يطأ بها القاذورات ؛ فسقطت حرمتها.
(4/152)
{وحملناهم} أي : بني آدم ، {في البر والبحر} ؛ على الدواب والسفن ؛ فيمشون محمولين في البر والبحر. يقال : حملته حملاً : إذا جعلت له ما يركب. {ورزقناهم من الطيبات} ؛ من فنون النعم ، وضروب المستلذات ممَّا يحصل بصُنعهم وبغير صنعهم ، {وفضلناهم} بالعلوم والإدراكات ، مما رَكَّبْنَا فيهم {على كثير ممن خلقنا} وهم : من عدا الملائكة - عليهم السلام -. {تفضيلاً} عظيمًا ، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها ، ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحَقِّيَّةِ ، ويرفضوا ما هم عليه من الشرك ، الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تمييز ، فضلاً عمن فُضّل على من عدا الملأ الأعلى ، والمستثنى جنس الملائكة ، أو الخواص منهم ، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس ؛ عدم تفضيل جنس بني آدم على الملائكة ، عدم تفضيل بعض أجزائه ؛ كالأنبياء والرسل ، فإنهم أفضل من خواص الملائكة ، وخواص الملائكة - كالمقربين
109
مثلاً - أفضل من خواص بني آدم ، كالأولياء ، والأولياء أفضل من عوام الملائكة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد كرَّم الله هذا الآدمي ، وشرفه على خلقه ؛ بخصائص جعلها فيه ، منها : أنه جعله نسخة من الوجود ، فيه ما في الوجود ، وزيادة ، قد انطوت فيه العوالم بأسرها ، من عرشها إلى فرشها ، وإلى هذا المعنى أشار ابن البنا ، في مباحثه ، حيث قال :
يا سابقًا في مَوْكب الإِبْداع
ولاحِقًا في جَيْش الاخْتِراع
اعْقِل فَاَنْتَ نُسْخَةُ الوُجُود
لله ما أعلاَك مِن مَوْجُود
أَلَيْس فِيك العرشُ والكرسِيُّ
والعالم العُلْويُّ والسُّفْلِيُّ
جزء : 4 رقم الصفحة : 109
ما الكونُ إِلا رَجلٌ كبيرُ
وأنتْ كونٌ مِثْلُه صَغِيرُ
وقال آخر :
إذا كنتَ كُرْسِيًّا وعَرْشًا وَجنَّةً
وَنارًا وأَفْلاَكًا تدَوُر وأَمْلاَكا
وكُنْتَ من السِّرِّ المَصُون حَقِيقة
وأَدْرَكْتَ هذا بالحقِيقَةِ إِدْرَاكا
فَفِيمَ التَّأَنِّي فِي الحَضِيضِ تُثَبُّطًا
(4/153)
مُقِيمًا معَ الأسْرَى أمَا آن إِسْرَاكَا
ومنها : أنه جعله خليفة في ملكه ، وجعل الوجود بأسره خادمًا له ، ومنتفعًا به ، الأرض تُقله ، والسماء تُظله ، والجهات تكتنفه ، والحيوانات تخدمه ، والملائكة تستغفر له ، إلى غير ذلك مما لا يعلمه الخلق. قال تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} [الجاثية : 13].
ومنها : أن جعل ذاته مشتملة على الضدين : النور والظلمة ، الكثافة واللطافة ، الروحانية والبشرية ، الحس والمعنى ، القدرة والحكمة ، العبودية وأسرار الربوبية ، إلى غير ذلك. ولذلك خصه بحمل الأمانة.
ومنها : أنه جعله قلب الوجود ، هو المنظور إليه من هذا العالم ، وهو المقصود الأعظم من إيجاد هذا الكون ، فهو المنعَّم دون غيره ، إن أطاع الله ، ألا ترى قوله تعالى : {وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزُّمَر : 75] ، فنعيم الجنان خاص بهذا الإنسان ، أو : من التحق به من مؤمني الجان. وقال الورتجبي : كرامة الله تعالى لبني آدم سابقة على كون الخلق جميعًا ؛ لأنها من صفاته ، واختياره ، ومشيئته الأولية. أوجد الخلق برحمته ، وخلق آدم وذريته بكرامته ، الخلق كلهم في حيزِ الرحمة ، وآدم وذريته في حيز الكرامة. الرحمة للعموم ، والكرامة للخصوص. خلق الكلَّ لآدم وذريته ، وخلق آدم وذريته لنفسه ، ولذلك قال : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه : 41] ، جعل آدم خليفته ، وجعل ذريته خلفاء أبيهم ، الملائكة والجن في خدمتهم ، والأمر والنهي والخطاب معهم ، والكتاب أُنزل إليهم ، والجنة والنار والسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم ،
110
(4/154)
وجميع الآيات ، خُلِقَ لهم. والخلق كلهم طُفيل لهم ، ألا ترى الله يقول لحبيبه صلى الله عليه وسلم : " لولاك ما خلقت الكون " ؟ ولهم كرامة الظاهر ، وهي : تسوية خلقهم ، وظرافة صورهم ، وحسن نظرتهم ، وجمال وجوههم ، حيث خلق فيها السمع والأبصار والألسنة ، واستواء القامة ، وحسن المشي ، والبطش ، وإسماع الكلام ، والتكلم باللسان ، والنظر بالبصر ، وجميع ذلك ميراث فطرة آدم ، التي صدرت من حسن اصطناع صورته. الذي قال : {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص : 75] ، فنور وجوههم من معادن نور الصفة ، وأنوار الصفات نوَّرت آدم وذريته ، فتكون نورًا من حيث الصفات والهيئات ، والحسن والجمال ، متصفون متخلقون بالصفات الأزلية ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : " خلَقَ آدَم على صُورَتِهِ " ، من حيث التخلق لا من حيث التشبيه. انظر تمامه. والحاصل أنه فضلهم بالخلْق والخلُق ، وذلك يجمع محاسن الصورة الظاهرة والباطنة. هـ. قاله المحشي الفاسي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 109
قلت : يجوز في {أعمى} - الثاني - : أن يكون وصفًا كالأول ، وأن يكون من أفعل التفضيل ، وهو أرجح ؛ لعطف " وأضل " عليه ، الذي هو للتفضيل. وقال سيبويه : لا يجوز أن يقال : هو أعمى من كذا ، وإنما يقال : هو أشد عمى ، لكن إنما يمتنع ذلك في عمى البصر ، لا في عمى القلب. قاله ابن جزي.
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر {يوم ندعو كلَّ أناس بإِمامهم} ؛ بنبيهم. فيقال : يا أُمَّةَ فلان ، يا أمة فلان ، احضروا للحساب. أو : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا صاحب الخير ويا صاحب الشر ، فهو مناسب لقوله : {فمن أُوتي...} الخ.
(4/155)
وقال محمد بن كعب القرظي : بأسماء أمهاتهم ، فيكون جمع " أم " ، كخف وخفاف ، لكن في الحديث : " إِنكُم تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسمَائِكُمْ وأسمَاءِ آبَائِكًمْ " ، ولعل ما قاله القرظي مخصوص بأولاد الزنا. وفي البيضاوي : قيل : بأمهاتهم ، والحكمة في ذلك : إجلال عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين ، وألا يُفتضح أولاد الزنى. هـ.
وقال أبو الحسن الصغير : قيل لأبي عمران : هل يدعى الناس بأمهاتهم يوم القيامة أو بآبائهم ؟ قال : قد جاء في ذلك شيء أنهم يدعون بأمهاتهم فلا يفتضحوا. وفي
111
البخاري - باب يدعى الناس بآبائهم - ، وساق حديث ابن عمر : " يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ ابنُ فُلاَن " ، فظاهر الحديث أنهم يدعون بآبائهم ، وهو الراجح ، إلا فيمن لا أب له. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى : {فمن أوتي كتابه بيمينه} أي : فمن أوتي صحيفة أعماله ، يومئذ ، من أولئك المدعوين بيمينه ؛ إظهارًا لخطر الكتاب ، وتشريفًا لصاحبه ، وتبشيرًا له من أول الأمر ، {فأولئك يقرؤون كتابهم} المؤتى لهم. والإشارة إلى " مَن " : باعتبار معناها ؛ لأنها واقعة على الجمع ؛ إيذانًا بأنهم حزب مجتمعون على شأنٍ جليل ، وإشعارًا بأن قراءتهم لكتبهم يكون على وجه الاجتماع ، لا على وجه الانفراد ؛ كما في حال الدنيا. وأتى بإشارة البعيد ؛ إشعارًا برفع درجاتهم ، أي : أولئك المختصون بتلك الكرامة ، التي يُشْعِرُ بها الإيتاء المذكور ، يقرأون كتابهم {ولا يُظلمون فتيلاً} ؛ ولا ينقصون من أجور أعمالهم المرسومة في صحيفتهم أدنى شيء ، فإن الفتيل - وهو : قشر النواة - مَثلٌ في القلة والحقارة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 111
(4/156)
ثم ذكر أهل الأخذ بالشمال فقال : {ومَن كان في هذه} الدنيا ، التي فَعَل بهم ما فعل من فنون التكريم والتفضيل ، {أعمى} ؛ فاقد البصيرة ، لا يهتدي إلى رشده ، ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل ، فضلاً عن شكرها والقيام بحقوقها ، ولا يستعمل ما أودعنا فيه ؛ من العقل والقوى ، فيما خلق له من العلوم والمعارف ، {فهو في الآخرة أعمى} كذلك ، لا يهتدي إلى ما ينجيه مما يرديه ؛ لأن النجاة من العذاب والتنعم بأنواع النعم الأخروية مرتب على العمل في الدنيا ، ومعرفة الحق ، ومن عمي عنه في الدنيا فهو في الآخرة أشد عمى عما ينجيه ، {وأضلُّ سبيلاً} عنه ؛ لزوال الاستعداد الممكن لسلوك طريق النجاة. وهذا بعينه هو الذي أخذ كتابه بشماله ، بدلالة ما سبق من القبيل المقابل ، ولعل العدول عن التصريح به إلى ذكره بهذا العنوان ؛ للإشعار بالعلة الموجبة له ، فإنَّ العمى عن الحق والضلال هو السبب في الأخذ بالشمال ، وهذا كقوله في الواقعة : {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ} [الواقِعَة : 92] ، بعد قوله : {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقِعَة : 90]. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يدعو الحق تعالى ، يوم القيامة ، الأمم إلى الحساب بأنبيائها ورسلها ، ثم يدعوهم ، ثانيًا ، للكرامة بأشياخها وأئمتها التي كانت تدعوهم إلى الحق على الهَدْي المحمدي. فيقال : يا أصحاب فلان ، ويا أصحاب فلان ، اذهبوا إلى الجنة ، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. وهذا في حق أهل الحق والتحقيق ، الدالين على سلوك
112
(4/157)
الشريعة ، والتمسك بأنوار الحقيقة ؛ ذوقًا وكشفًا ، فكل من تبعهم وسلك منهاجهم ، كان من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وهم : أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأما من لم يكن من حزبهم ، ولم يدخل تحت تربيتهم ، فإن استعمل عقله وقُواه فيما يُنجيه يوم القيامة ؛ كان من الذين يُؤتون كتابهم بيمينهم ، ولا يظلمون فتيلاً. ومن أهمل عقله واستعمل قواه في البطالة والهوى ، كان من القبيل الذي عاش في الدنيا أعمى ، ويكون في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً ، والعياذ بالله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 111
قلت : {وإن} : مخففة من الثقيلة في الموضعين ، واسمها : ضمير الشأن ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، أي : إن الشأن قاربوا أن يفتنوك. و {سُنَّة} : مفعول مطلق ، أي : سنَّ الله ذلك سنة.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإِن كادُوا} أي : كفار العرب ، {ليَفتنونُك عن الذي أوحينا إِليك} ؛ من أمرنا ونهينا ، ووعدنا ووعيدنا ، {لتفتريَ علينا غيره} ؛ لتقول ما لم أقل لك ، مما اقترحوا عليك. نزلت في ثقيف ، إذ قالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم : لا نَدْخُلُ في أَمْركَ حتى تُعْطِينَا خِصَالاً نَفْتَخِرُ بها على العَرَبِ : لا نُعشَّرُ ، وَلا نُحشَّرُ ، وَلاَ نَحْنِي في صَلاَتِنَا ، وكُلُّ رِبًا لنَا فهُو لنَا ، وكلُّ رِبًا عَلَيْنَا فهو مَوْضُوعٌ ، وأنْ تُمَتِّعنا باللات سَنَةً ، وأن تُحَرِّمَ وَادِيَنا كما حرمت مكة ، فإذا قالت العَرَبُ : لِمَ فَعَلْتَ ؟ فقُل : الله أَمَرَنِي بذلك. فأبى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وخيب سعيهم. فالآية ، على هذا ، مدنية. وقيل : في قريش ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لا نُمكنك من استلام الحجر ، حتى تلمّ بآلهتنا ، وتمسّها بيدك. وقيل : قالوا : اقبل بعض أمرنا ، نقبل بعض أمرك ، والآية ، حينئذ ، مكية كجميع السورة.
(4/158)
{وإِذًا لاتخذوكَ خليلاً} أي : لو فعلت ما أرادوا منك لصرت لهم وليًا وحبيبًا ، ولخرجت من ولايتي ، {ولولا أن ثبتناك} على ما أنت عليه من الحق ؛ بعصمتنا لك ، {لقد كِدتَ تركنُ إليهم شيئًا قليلاً} من الركون ، الذي هو أدنى ميل ، أي : لولا أن
113
عصمناك ، لقاربت أن تميل إليهم ؛ لقوة خدعهم ، وشدة احتيالهم. لكن عصمتنا منعتك من المقاربة. وهو صريح في أنه - عليه الصلاة والسلام - ما هَمَّ بإجابتهم ، مع قوة الداعي إليها ، ولا قارب ذلك. وهو دليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه ، قاله البيضاوي. وفيه رد على ابن عطية ، حيث قال : قيل : إنه هَمَّ بموافقتهم ، لكن كان ذلك خطرة ، والصواب : عدم ذلك ؛ لأن التثبيت والعصمة مانعٌ من ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
وقد أجاد القشيري في ذلك ، ونصه : ضربنا عليكَ سرادقات العصمة ، وآويناكَ في كنف الرعاية ، وحفظناك عن خطر اتباع هواك ، فالزَّلَلُ منك محال ، والافتراءُ في نعتك غير موهوم ، ولو جَنَحْتَ لحظةً إلى جانب الخلاف لَتَضَاعَفَتْ عليكَ شدائدُ البلاء ؛ لكمالِ قَدْرِك وعُلُوِّ شأنك ؛ فإنَّ كل مَنْ هو أعلى درجةً فَذَنْبُه - لو حصل - أشدُّ تأثيرًا. {ولولا أن ثبتناك...} الآية : لو وكلناك ونَفسَكَ ، ورفعنا عنك ظِلَّ العصمة ، لقاربت الإلمام بشيء مما لا يجوز من مخالفة أمرنا ، ولكِنَّا أفردناك بالحفظ ، بما لا تتقاصر عنكَ آثاره ، ولا تَغْرُبُ عن ساحتك أنواره. {إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وضَعْف الممات} ، هبوط الأكابر على قدر صعودهم. هـ.
(4/159)
{إِذًا} أي : لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركون {لأذقناك ضِعف} عذاب {الحياة} {وضِعْفَ} عذاب {الممات} ، أي : مِثْلِيْ ما يُعَذِّبُ غيرك في الدنيا والآخرة ؛ لأن خطأ الخطير أخطر. وكأن أصل الكلام : عذابًا ضعفًا في الحياة ، وعذابًا ضعفًا في الممات ، أي : مضاعفًا ، ثم حذف الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه ، ثم أضيفت إضافة موصوفها. وقيل : الضعف من أسماء العذاب. وقيل : المراد بضعف الحياة : عذاب الآخرة ؛ لأن حياته دائمة ، وبضعف الممات : عذاب القبر. {ثم لا تجدُ لك علينا نصيرًا} يدفع عنك العذاب.
{وإِن كادوا} أي : كاد أهل مكة {لَيَسْتفزُّونك} ؛ ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم {من الأرض} التي أنت فيها. وهي : أرض مكة ، {ليُخرِجوك منها وإِذًا لا يلبثون خِلافَكَ إِلاَّ قليلاً} ؛ إلا زمنًا قليلاً. وقد كان كذلك ، فإنهم أُهلكوا ببدر بعد هجرته صلى الله عليه وسلم ، وقيل : نزلت في اليهود ؛ فإنهم حَسَدوا مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقالوا : الشام مقام الأنبياء ، فإن كنت نبيًا فالحَقْ بها حتى نؤمن بك. فوقع ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقالوا : الشام مقام الأنبياء ، فإن كنت نبيًا فالحَقْ بها حتى نؤمن بك. فوقع ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم ، فخرج من مرحلة ، فَنَزَلت ، فرَجَعَ صلى الله عليه وسلم ، ثم قتل منهم بني قريظة ، وأجلى بني النضير بقليل ، {سُنَّة مَن قد أرسلنا قَبلك من رُسلنا} أي : عادته تعالى : أن يُهلك من أُخْرِجَتْ رسلهم من بين أظهرهم ، فقد سنَّ ذلك في خلقه ، وأضافها إلى الرسل ؛ لأنها سُنت لأجلهم. {ولا تجد لسُنَّتنا تحويلاً} أي : تغييرًا وتبديلاً.
114
(4/160)
الإشارة : من شأن العارف الكامل أن يأخذ بالعزائم ، ويأمر بما يقتل النفوس ، ويوصل إلى حضرة القدوس ، وهو كل ما يثقل على النفوس ، فإن أتاه من يفتنه ويرده إلى الهوى ، حفظته العناية ، واكتنفته الرعاية ، فيقال له : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ؛ وحي إلهام ، لتفتري علينا غيره ، فتأمر بالنزول إلى الرخص والتأويلات وإذًا لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك ؛ بالحفظ والرعاية ، لقد كدت تركنُ إليهم شيئًا قليلاً ، وهي : خواطر تخطر ولا تثبت. إذًا لأذقناك ضعف الحياة ، وهو : الذل والحرص والطمع. وضعف الممات ، وهو : السقوط عن مقام المقربين ، أهل الرَّوح والريحان. وإن كادوا ليستفزونك من أرض العبودية ، ليخرجوك منها إلى إظهار الحرية ؛ من العز والجاه ، وإذًا لا يلبثون خلافك ممن اتبعك إلا قليلاً ؛ لأن من رجع إلى مباشرة الدنيا والحس قلَّ مدده ، فيقل انتفاعه ، فلا يتبعه إلا القليل. هذه سُنة الله في أوليائه ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
قلت : الدلوك : الميل. واشتقاقه من الدَّلْك ؛ لأن من نظر إليها حينئذ يدلك عينه. واللام للتأقيت بمعنى : عند. و {قرآن} : عطف على {الصلاة} ، أو منصوب بفعل مضمر ، أي : اقرأ قرآن لفجر ، أو على الإغراء.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أقم الصلاةَ لدلُوكِ} أي : عند زوال {الشمس} ، وهو إشارة إلى إقامة الصلوات الخمس ، فدلوك الشمس : زوالها ؛ وهو إشارة إلى الظهر والعصر ، وغسق الليل : ظلمته ، وهو إشارة إلى المغرب والعشاء ، {وقرآنَ الفجر} ؛ صلاة الصبح ، وإنما عبَّر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر ؛ لأن القرآن يُقرأ فيها أكثر من غيرها ؛ لأنها تُصلي بسورتين طويلتين ، ثم مدحها بقوله : {إِنَّ قرآن الفجر كان مشهودًا} ؛ تشهده ملائكةُ الليل وملائكة النهار ، أو : يشهده الجم الغفير من المصلين ، أو فيه شواهد القدرة ؛ من تبدل الظلمة بالضياء ، والنوم ، الذي هو آخو الموت ، بالانتباه.
(4/161)
ثم أمر بقيام الليل فقال : {ومن الليل} أي : بعض الليل {فتهجدْ به} أي : اترك الهجود ، الذي هو النوم فيه ، للصلاة بالقرآن ، {نافلةً لك} أي : فريضة زائدة لك على الصلوات الخمس ، أو فريضة زائدة لك ؛ لاختصاص وجوبها بك ، أو نافلة زائدة لك على الفرائض ؛ غير واجبة. وكأنه ، لما أمر بالفرائض ، أمر بعدها بالنوافل. وتطوعه - عليه الصلاة والسلام - ؛ لزيادة الدرجات ، لا لجبر خلل أو تكفير ذنب ؛ لأنه مغفور
115
له ما تقدم وما تأخر. و " من " : للتبعيض ، والضمير في " به " : للقرآن. والتهجد : السهر ، وهو : ترك الهجود ، أي : النوم. فالتفعل هنا للإزالة ؛ كالتأثم والتحرج ، لإزالة الإثم والحرج.
ثم ذكر ثوابه في حقه - عليه الصلاة والسلام - فقال : {عسى أنْ يبعثك ربك مقامًا محمودًا} عندك وعند جميع الناس ، وهي : الشفاعة العظمى. وفيه تهوين لمشقة قيام الليل. رَوى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المَقَام المحمُود هُوَ المَقَامُ الذي أَشْفَعُ فِيهِ لأمَّتِي " وقال ابن عباس رضي الله عنه : مقامًا محمودًا يحمده فيه الأولون والآخرون ، ويشرف فيه على جميع الخلائق ، يسأل فيُعطى ، ويشفع فيُشَفَّع. وعن حذيفة : يُجْمع الناس في صعيد واحد ، فلا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه ، فأول مدعو محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، فيقول : " لبيك وسعديك. والشر ليس إليك ، والمَهدي من هديت ، وعبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت " ثم يأذن له في الشفاعة. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 115
(4/162)
وقال ابن العربي المعافري في أحكامه : واخْتُلِفَ في وجه كون قيام الليل سببًا للمقام المحمود على قولين ، فقيل : إن البارئ تعالى يجعل ما يشاء من فضله سببًا لفضله ، من غير معرفة منا بوجه الحكمة. وقيل : إن قيام الليل فيه الخلوة به تعالى ، والمناجاة معه دون الناس ، فيعطي الخلوة به والمناجاة في القيامة ، فيكون مقامًا محمودًا ، ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم. وأجلُّهم فيه ؛ درجةً : نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فيعطى من المحامد ما لم يُعط قبل ، ويُشَفَّع فيَشْفَع. هـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : وقد يقال : إن ذلك مرتب على قوله : {أقم الصلاة...} الآية ، ولا يخص بقيام الليل ، والصلاةُ ، مطلقًا مفاتحةٌ للدخول على الله ومناجاةٌ له ، ولذلك جاء في حديث الشفاعة افتتاحه بأن " يخر ساجدًا حامدًا ، فيؤذن حينئذ بالشفاعة ". ومن تواضع رفعه الله. هـ.
الإشارة : قوم اعتنوا بإقامة صلاة الجوارح ، وهم : الصالحون الأبرار ، وقوم اعتنوا بإقامة صلاة القلوب ، التي هي الصلاة الدائمة ، وهم العارفون الكبار ، وقوم اعتنوا بسهر الليل في الركوع والسجود ، وهم العباد والزهاد والصالحون ، أولو الجد والاجتهاد. وقوم اعتنوا بسهره في فكرة العيان والشهود ، وهم المقربون عند الملك الودود. الأولون يُوفون أجرهم على التمام بالحور والولدان ، والآخرون يُكشف لهم الحجاب ويتمتعون بالنظر على الدوام ، الأولون محبون ، والآخرون محبوبون ، الأولون يشفعون في أقاربهم ومن تعلق بهم ، والآخرون قد يشفع واحد منهم في أهل عصره. وما ذلك على الله بعزيز.
116
جزء : 4 رقم الصفحة : 115
(4/163)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقل} يا محمد : {ربِّ أَدْخلني} في الأمور كلها {مُدْخلَ صدقٍ} ؛ بأن أدخل فيها بك لا بنفسي ، {وأَخرجني} منها {مُخرجَ صدقٍ} كذلك ، مصحوبًا بالفهم عنك ، والإذن منك في إدخالي وإخراجي. وقيل : أدخلني قبري مدخل صدق راضيًا مرضيًا ، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق ، أي : إخراجًا مرضيًا مُلقى بالكرامة. فيكون تلقينًا للدعاء بما وعده من البعث ، المقرون بالإقامة للمقام المحمود ، التي لا كرامة فوقها. وقيل : المراد : إدخال المدينة ، والإخراج من مكة. وقيل : إدخاله - عليه الصلاة والسلام - مكة ؛ ظاهرًا عليها ، وإخراجه منها ؛ آمنًا من المشركين. وقيل : إدخاله الغار ، وإخراجه منه سالمًا. وقيل : إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة ، وإخراجه منه مؤديًا حقه. وقيل : إدخاله في كل ما يلائمه من مكان أو أمر ، وإخراجه منه بالحفظ والرعاية ، بحيث يدخل بالله ويخرج بالله. وهو الراجح كما قدمناه.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 117
(4/164)
واجعل لي من لدنك} أي : من مستبْطَن أمورك ، {سُلطانًا نصيرًا} أي حجة ظاهرة ، تنصرني على من يخالفني ويعاديني ، أو : عزًا ناصرًا للإسلام ، مظهرًا له على الكفر. فأجيبتْ دعوته - عليه الصلاة والسلام - بقوله : {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة : 56] ، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التّوبَة : 33] ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ...} [النُّور : 55] الآية ، وبقوله : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصَّافات : 171 ، 172] الآية. وذلك حين يظهر الحق ، ويزهق الباطل ، كما قال : {وقل جاء الحق} أي : الإسلام أو الوحي ، {وزهق الباطلُ} ؛ ذهب ، وهلك الكفر والشرك ، وتسويلات الشيطان ؛ {إِنَّ الباطلَ} كائنًا ما {كان زهوقًا} أي : شأنه أن يكون مضمحلاً غير ثابت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْح ، وحَوْلَ البَيْتِ ثَلاثُمِائةٍ وَسِتُّون صَنَمًا ، فَجَعَل يَطْعَنُ بمخْصَرةٍ كانت بيَده في عين كُل واحد ، ويقول : " جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ " ، فَيَنْكَبُّ لِوَجْهِهِ ، حَتَّى أَلْقَى جمِيعها ، وَبَقِيَ صَنَمُ خُزَاعَة فوْقَ الكَعْبَةِ ، وكَانَ من صُفْرٍ ، فقال : " يا عَلِيُّ ، ارْمِ بِهِ " ؛ فصعَدَ إليه ، ورَمَى به ، فَكَسَرَهُ. هـ.
117
(4/165)
الإشارة : إذا تمكن العارفون من شهود حضرة القدس ومحل الأنس ، وصارت معشش قلوبهم ؛ كان نزولهم إلى سماء الحقوق وأرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين. فلم ينزلوا إلى سماء الحقوق بسوء الأدب والغفلة ، ولا إلى أرض الحظوظ بالشهوة والمتعة ، بل دخلوا في ذلك بالله ولله ، ومن الله وإلى الله ، كما في الحكم. ثم قال : {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} ؛ ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني ، وانقيادي إليك إذا أخرجتني. {واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا} ينصرني ولا ينصر عليّ ، ينصرني على شهود نفسي ، حتى أغيب عنها وعن متعتها وهواها ، ويفنيني عن دائرة حسي ، حتى تتسع عليّ دائرة المعاني عندي ، وأفضي إلى فضاء الشهود والعيان ، فحينئذ يَزهق الباطل ، وهو ما سوى الله ، ويجيء الحق ، وهو وجود الحق وحده ، فأقول حينئذ : {وقل جاء الحق وزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كان زهوقًا} ، وإنما أثبته الوهم والجهل ، وإلا فلا ثبوت له ؛ ابتداء وانتهاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 117
قلت : {من} : للبيان ، قدمت على المُبيّن ؛ اعتناء ، فالقرآن كله شفاء. وقيل : للتبعيض ، والمعنى : أن منه ما يشفي من المرض الحسي ، كالفاتحة وآية الشفاء ، ومن المرض المعنوي ، كآيات كثيرة.
(4/166)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ونُنزِّلُ من القرآنِ ما هو شفاءٌ} لما في الصدور ، ومن سقام الريب والجهل ، وأدواء الأوهام والشكوك ، {ورحمة للمؤمنين} به ، العالِمين بما احتوى عليه من عجائب الأسرار وغرائب العلوم ، المستعملين أفكارهم وقرائحهم في الغوص على درره ويواقيته ، أي : وننزل ما هو تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم ، ورفع الأوهام والشكوك عنهم ، كالدواء الشافي للمرض ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يستشف بالقرآن لا شفاه الله " {ولا يزيدُ الظالمين} ؛ الكافرين المكذبين ، الواضعين الأشياء في غير محلها ، مع كونه في نفسه شفاء من الأسقام ، {إلا خسارًا} ؛ إلا هلاكًا بكفرهم وتكذيبهم به. ولا يفسر الخسران هنا بالنقصان ؛ فإن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يُعبّر عنه بالهلاك ، لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام ، فهم في الزيادة في مراتب الهلاك ، من حيث إنهم ، كلما جدّدوا الكفر والتكذيب بالآيات النازلة ازدادوا بذلك هلاكًا.
118
وفيه إيماء إلى أن ما بالمؤمنين من الشُّبَه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد ، بمنزلة الأمراض ، وما بالكفرة ؛ من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك ، وإسناد زيادة الخسران إلى القرآن ، مع أنهم هم المزدادون في ذلك بسوء صنيعهم ؛ باعتبار كونه سببًا لذلك ، حيث كذَّبوا به ، وفيه تعجيب من أمره ؛ حيث جعله مدار الشفاء والهلاك. قاله أبو السعود.
(4/167)
الإشارة : لا يحصل الاستشفاء بالقرآن إلا بعد التصفية والتطهير للقلب ، بالتخلية والتحلية ، على يد شيخ كامل ، عارف بأدواء النفوس ، حتى يتفرغ القلب من الأغيار والأكدار ، ويذهب عنه وساوس النفوس وخواطر القلوب ؛ ليتفرغ لسماع القرآن والتدبر في معانيه. وأما إن كان القلب محشوًا بصور الأكوان ، مصروفًا إلى الخواطر والأغيار ، لا يذوق له حلاوة ، ولا يدري ما يقول ، فلا يهتدي لما فيه من الشفاء ، إذ لا يستشفي بالقرآن إلا من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولأجل ذلك كان من شأن شيوخ التربية أن يأمروا المريد بالذكر المجرد ، حتى تُشرق عليه أنواره ، وتذهب به عنه أغياره. وحينئذ يأمره بتلاوة القرآن ؛ ليذوق حلاوته ، فإذا كمل تطهيره ، تمتع بحلاوة شهود المتكلم ، فيسمعه من الحق بلا واسطة ، وهو المراد بالرحمة المذكورة بعد الشفاء. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 118
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإٍذا أنعمنا على الإِنسان} : بالصحة والعافية والنعمة ، {أعرضَ} عن ذكرنا ، فضلاً عن القيام بالشكر ، {ونَأى} أي : تباعد {بجانبه} ؛ لوى عطفه وبعد بنفسه. فالنأي بالجانب : أن يلوي عن الشيء عِطفَه ويوليه عُرض وجهه ، فهو تأكيد للإعراض. أو عبارة عن التكبر ؛ لأنه من ديدن المستكبرين ، {وإِذا مسَّه الشرُّ} ؛ من فقر ، أو مرض ، أو نازلة من النوازل ، {كان يؤوسًا} ؛ شديد اليأس من روحنا وفرجنا. وفي إسناد المسِّ إلى الشر ، بعد إسناد الإنعام إلى ضمير الجلالة ؛ إيذان بأن الخير مراد بالذات ، والشر ليس كذلك. وهذا الوصف المذكور هنا هو وصف للإنسان باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذا الوصف ، ولا ينافيه قوله تعالى : {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} [فُصّلَت : 51] ، ونظائره ؛ فإن ذلك في نوع آخر من جنس الإنسان. وقيل : أريد به الوليد بن المغيرة.
119
(4/168)
قال تعالى : {قُل كلٌّ} أي : كل واحد منكم وممن هو على خلافكم {يعملُ على شاكلته} ؛ على طريقته التي تُشاكل حاله من الهُدى والضلالة ، {فربُّكم أعلم بمن هو أَهدى سبيلاً} أي : فربكم ، الذي يراكم على هذه الأحوال والطرق ، أعلم بمن هو أسَدْ طريقًا وأبين منهاجًا. وقد فسرت الشاكلة أيضًا بالطبيعة والعادة والدين والنية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي للمؤمن المشفق على نفسه أن يمعن النظر في كلام سيده ، فإذا وجده مدَحَ قومًا بعمل ، بادر إلى فعله ، أو بوصف ، بادر إلى التخلق به ، وإذا وجده ذم قومًا ، بسبب عمل ، تباعد عنه جهده ، أو بوصف تطهر منه بالكلية. وقد ذم الحق تعالى هنا من بطر بالنعمة وغفل عن القيام بشكرها ، ومن جزع عند المصيبة وأيس من ذهابها ، فليكن المؤمن على عكس هذا ، فإذا أصابته مصيبة أو بلية تضرع إلى مولاه ، ورجى فضله ونواله ، وإذا أصابته نعمة دنيوية أو دينية أكثر من شكرها ، وشهد المنعم بها في أخذها وصرفها ، ولا سيما نعمة الإيمان والمعرفة ، وتصفية الروح من غبش الحس والوهم ، حتى ترجع لأصلها ، الذي هو سر من أسرار الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 119
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ويسألونك عن الروح} أي : عن حقيقة الروح ، الذي هو مدبر البدن الإنساني ، ومبدأ حياته. رُوي أن اليهود قالوا لقريش : سلوه عن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن أجاب عنها كلها أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي. فبيَّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح ، وهو مبهم في التوراة ، فقال : {قل الروح من أمر ربي} ، أظهر في مقام الإضمار ؛ إظهارًا لكمال الاعتناء بشرفه ، أي : هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية ، التي لا يكاد يحوم حولها عقولُ البشر. {وما أُوتيتم من العلم إِلا قليلاً} لا يمكن تعلقه بأمثال هذه الأسرار.
(4/169)
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك ، قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب ، قال عليه الصلاة والسلام : " بل نحن وأنتم ". فقالوا : ما أعجب شأنك ، ساعة تقول : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البَقَرَة : 269] ، وتارة تقول هذا ، فنزلت : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف : 109] الآية. {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ...} [لقمان : 27] الآية. وهذا من ركاكة عقولهم ؛ فإن من الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية ، بل ما نيط به المعاش والمعاد ، وذلك بالإضافة إلى ما لا نهاية له من متعلقات علمه سبحانه ، قليل ينال به خير : كثير في نفسه.
120
وقال ابن حجر : أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا : أخبرنا عن الروح ، وكيف تُعذب الروح في الجسد ، وإنما الروح من الله ؟ . هـ. قلت : يُجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية ، وأحاطت به القهرية. وقال القشيري : أرادوا أن يُغالطُوه فيما به يجيب ، فأمَرَه أن ينطق بأمرٍ يُفْصِحُ عن أقسامِ الروح ، لأنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظ " الروح " يدخل تحت قوله : {قل الروح من أمر ربي} ، ثم قال : وفي الجملة : الروح مخلوقة ، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد ، ما دام الروح في جسده ، والروح لطيفة تَقرب للكثافة في طهارتها ولطافتها. وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين. وقيل : إن أدركها التكليف ، كان للروح صفاء التسبيح ، ضياء المواصلة ، ويُمن التعريف بالحق. هـ. وقيل : المراد بالروح خلق عظيم روحاني من أعظم الملائكة ، وقيل جبريل عليه السلام ، وقيل : القرآن. ومعنى {من أمر ربي} ؛ من وحيه وكلامه ، لا من كلام البشر. والله تعالى أعلم بمراده.
جزء : 4 رقم الصفحة : 120
(4/170)
الإشارة : قد أكثر الناسُ الكلام في شأن الروح ، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى ؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يجب عنها. وبيَّن الحق تعالى أنها من أمر الله وسر من أسراره. ورأى بعضهم أن النهي لم يرد عن الخوض فيها صريحًا ، فتكلم على قدر فهمه. فقال بعضهم : حقيقة الروح : جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب ، وقال صاحب (الرموز في فتح الكنوز) على حديث : " من عرف نفسه فقد عرف ربّه " قد ظهر لي من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه ، وهو : أن الله ، سبحانه ، وضع هذا الروح في هذه الجثة الجثمانية ، لطيفة لاهوتية ، في كثيفة ناسوتية ، دالة على وحدانيته تعالى وربانيته ، ووجه الاستدلال من عشرة أوجه :
الأول : أن هذا الهيكل الإنساني لَمَّا كان مفتقرًا إلى محرك ومدبر ، وهذا الروح هو الذي يدبره ويحركه ، علمنا أن هذا العالم لا بد له من محرك ومدبر. الثاني : لَمَّا كان مدبر الجسد واحدًا ؛ علمنا أن مدبر هذا العالم واحد لا شريك له في تدبيره وتقديره. قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء : 22] ، الثالث : لَمَّا كان لا يتحرك هذا الجسم إلا بتحريك الروح وإرادته ؛ علمنا أنه لا يتحرك بخير أو شر إلا بتحريك الله وقدرته وإرادته. الرابع : لَمَّا كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها ، لا يخفي على الروح من حركة الجسد شيء ، علمنا أنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. الخامس : لَمَّا كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء ؛ علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شيء ، ليس شيء أقرب إليه من شيء ، ولا شيء أبعد إليه من شيء ، لا بمعنى قرب المسافة ؛ لأنه منزه عن ذلك. السادس : لَمَّا كان الروح موجودًا قبل الجسد ، ويكون موجودًا بعد عدمه ؛ علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه ، ويكون موجودًا بعد عدمهم ، ما زال ، ولا يزال ، وتقدس عن الزوال. السابع : لَمَّا
121
(4/171)
كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية ؛ علمنا أنه تعالى مقدس عن الكيفية. الثامن : لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية ولا أينية ، بل الروح موجود في سائر الجسد ، ما خلا منه شيء في الجسد. كذلك الحق سبحانه موجود في كل مكان ، وتنزه عن المكان والزمان التاسع : لَمَّا كان الروح في الجسد لا يحس ولا يجس ولا يُمس ، علمنا أنه تعالى منزه عن الحس والجس والمس. العاشر : لَمَّا كان الروح في الجسد لا يُدرك بالبصر ، ولا يمثل بالصور ، علمنا أنه تعالى لا تُدركه الأبصار ، ولا يمثل بالصور والآثار ، ولا يشبه بالشموس والأقمار ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى : 11]. هـ. وحديث : " من عرف نفسه... " الخ ، قال النووي : غير ثابت ، وقال السمعاني : هو من كلام يحيى بن معاذ الرازي. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 120
(4/172)
وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح ، أمخلوقة هي ؟ قال : نعم. ولولا ذلك لما أقرت بالربوبية حتى قالت : " بلى ". قلت : لما انفصلت عن الأصل كستها أردية العبودية ، فأقرت بالربوبية. وقال الورتجبي : الروح : شعاع الحقيقة ، يختلف آثارها في الأجساد. قال : ومن خاصيتها أنها تميل إلى كل حسن ومستحسن ، وكل صوت طيب ، وكل رائحة طيبة ؛ لحسن جوهرها وروح وجودها ، ظاهرها غيب الله ، وباطنها سر الله ، مصورة بصورة آدم. فإذا أراد الله خلق آدمي أحضر روحه ، فصور صورته بصورة الروح ؛ فلذلك قال عليه الصلاة والسلام ؛ إشارة وإبهامًا : " خلق الله آدم على صورته " هـ. قلت : يعني : أن إظهار الروح من بحر الجبروت ، في التجلي الأول ، كان على صورة آدم ، ثم خلق آدم على صورة الروح الأعظم ، وهو التجلي الأول من بحر المعاني ، فكانت أول التجليات من ذات الرحمن ، فقال في حديث آخر : " إن الله خلق آدم على صورة الرحمن " والله تعالى أعلم. وقيل : الصوت الطيب روحاني ، ولتشاكله مع الروح ، صار يهيج الروح ويحثها للرجوع لأصلها ، إذا كان صاحبها له ذوق سليم ، يسمع من صوت طيب كريم. سمع أبو يزيد نغمة ، فقال : أجد النغم نداء منه تعالى. وقيل : إن الروح لم تدخل في جسد آدم إلا بالسماع ، فصارت لا تخرج من سجنه إلا بالسماع. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 120
122
قلت : قال ابن جزي : هذه الآية متصلة المعنى بقوله : {وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً} أي : في قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك ، فلا يبقى عندكم شيء من العلم. هـ. {إلا رحمة} : يحتمل أن يكون متصلاً ، أي : لا تجد من يتوكل برده إلا رحمة ربك. أو منقطعًا ، أي : لو شئنا لذهبنا بالقرآن ، لكن رحمة من ربك تمسكه من الذهاب ، و {لا يأتون} : جواب القسم ؛ الدال عليه اللام الموطئة ، وسد مسد جواب الشرط. ولولا اللام لكان جوابًا للشرط ، ولم يُجزَمْ ؛ لكون الشرط ماضيًا ، كقول زهير :
فإن أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسألَةٍ
(4/173)
يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَا لي وَلاَ حَرَمُ
و {إلا كفورًا} : استثناء مفرغ منصوب بأَبَى ؛ لأنه في معنى النفي ، أي : ما رضي أكثرهم إلا الكفر به.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولئنْ شئنا لنَذْهَبَنَّ بالذي أوْحَينا إِليك} أي : بالقرآن الذي هو منبع العلوم التي أُوتيتموها ، ومقتبس الأنوار ، فلا يبقى عندكم من العلم إلا قليلاً. والمراد بالإذهاب : المحو من المصاحف والصدور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : (أول ما تفقدون من دينكم : الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ، وليصلين قوم ولا دين لهم. وإن هذا القرآن تصبحون يومًا وما فيكم منه شيء. فقال رجل : كيف ذلك ، وقد أثبتناه في قلوبنا ، ودونّاه في مصاحفنا ، وعلمناه أبناءنا ، وأبناؤنا يعلمه أبناءهم ؟ ! فقال : يسري عليه ، ليلاً ، فيُصبح الناس منه فقراء ، ترفع المصاحف ، وينزع ما في القلوب). {ثم} إن رفعناه {لا تجدُ لك به} أي : القرآن {علينا وكيلاً} أي : من يتوكل علينا استرداده مسطورًا محفوظًا ، {إلا رحمةً من ربك} ؛ فإنها إن تأتك لعلها تسترده ، أو : لكن رحمة من ربك أمسكته ؛ فلم يذهب. {إِنَّ فضله كان عليك كبيرًا} ، كإرْسالك للناس كافة ، وإنزال الكتاب عليك ، وإنعامه في حفظك ، وغير ذلك مما لا يحصى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 122
ثم نوّه بقدر الكتاب الذي أنزله فقال : {قل لئن اجتمعت الإِنسُ والجِنُّ} ، واتفقوا {على أن يأتوا بمثْلِ هذا القرآنِ} المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة في البلاغة ، وحسن النظم ، وكمال المعنى ، {لا يأتون بِمثله} أبدًا ؛ لما تضمنه من العلوم الإلهية ، والبراهين الواضحة ، والمعاني العجيبة ، التي لم يكن لأحد بها علم ، ثم جاءت فيه على الكمال ، ولذلك عجزوا عن معارضته. وقال أكثر الناس : إنما عجزوا عنه ؛ لفصاحته ، وبراعته ، وحسن نظمه. ووجوه إعجازه كثيرة. وإنما خص الثقلين بالذكر ، لأن
123
(4/174)
المنكر كونه من عند الله منهما ، لا لأنَّ غيرهما قادر على المعارضة. وإنما أظهر في محل الإضمار ، ولم يقل : لا يأتون به ؛ لئلا يتوهم أن له مثلاً معينًا ، وإيذانًا بأن المراد نفي الإتيان بمثَلٍ مَّا ، أي : لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات البديعة ، وفيهم العرب العاربة ، أرباب البراعة والبيان. فلا يقدرون على الإتيان بمثله {ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيرًا} أي : ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان بمثله ما قدروا. وهو عطف على مقدر ، أي : لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرًا لبعض ، ولو كان... الخ. ومحله النصب على الحالية ، أي : لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ، ولو على هذه الحالة.
ثم قال تعالى : {ولقد صَرَّفنا} أي : كررنا ورددنا على أنحاء مختلفة ، توجب زيادة تقرير وبيان ، ووكادة رسوخ واطمئنان ، {للناس في هذا القرآن} المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة ، {من كل مَثَلٍ} ؛ من كل معنى بديع ، هو ، في الحسن والغرابة واستجلاب الأنفس ، كالمثل ؛ ليتلقوه بالقبول ، أو بيَّنَّا لهم كل شيء محتاجون إليه من العلوم النافعة ، والبراهين القاطعة ، والحجج الواضحة. وهذا يدل على أن إعجاز القرآن هو بما فيه من المعاني والعلوم ، {فَأَبَى أكثرُ الناس إِلا كُفورًا} ؛ إلا جحودًا وامتناعًا من قبوله. وفيه من المبالغة ما ليس في نفي مطلق الإيمان ؛ لأن فيه دلالة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفور والجحود ، وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء. وبالله التوفيق.
الإشارة : كما وقع التخويف بإذهاب خصوصية النبوة والرسالة ، يقع التخويف بإذهاب خصوصية الولاية والمعرفة العيانية ، فإن القلوب بيد الله ، يُقلبها كيف يشاء. والخصوصية أمانة مودعة في القلوب ، فإذا شاء رفعها رفَعها ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره. وما زالت الأكابر يخافون من السلب بعد العطاء ، ويشدون أيديهم على الأدب ؛ لأن سوء الأدب هو سبب رفع الخصوصية ، والعياذ بالله.
(4/175)
جزء : 4 رقم الصفحة : 122
قال القشيري : سُنَّةُ الحقِّ مع خيار خواصه ؛ أن يُدِيم هم شهود افتقارهم إليه ؛ ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين بجريانِ حُكْمِه ، ثم قال : والمرادُ والمقصودُ : إدامة تَفَرُّدِ سِرِّ حبيبه به ، دونَ غيره. هـ. وأما سلب الأولياء بعضهم لبعض فلا يكون في خصوصية المعرفة بعد التمكين ، إذ لا مانع لما أعطى الكريم ، وإنما يكون في خصوصية التصريف وسر الأسماء ، إذا كان أحدهما متمكنًا فيه ، وقابل من لم يتمكن ، قد ينجذب إلى القوى بإذن الله ، وقد يُزال منه إذا طغى به. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 122
قلت : من قرأ " كسفًا " ؛ بالتحريك : فهو جمع. ومن قرأ بالسكون : فمفرد. و {قبيلاً} : حال من " الله ". وحذف حال الملائكة ؛ لدلالة الأول عليه. و {أن يؤمنوا} : مفعول ثان لمنَع. و {إلا أن قالوا} : فاعل " منع ".
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقالوا} أي : كفار قريش ، عند ظهور عجزهم ، ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي ، وغيره من المعجزات الباهرة ، معلِّلين بما لا يمكن في العادة وجوده ، ولا تقتضي الحكمة وقوعه ، من الأمور الخارقة للعادة ، كما هو ديدن المبهوت المحجوج ، قالوا للنبي - عليه الصلاة والسلام - في جمع من أشرافهم : إن مكة قليلة الماء ، ففجر لنا فيها عينًا من ماء ، وهو معنى قوله تعالى : {لن نُؤمن لك حتى تَفْجُرَ لنا من الأرض} ؛ أرض مكة {يَنْبوعًا} ؛ عينًا لا ينشف ماؤها. وينبوع : يفعول ، من نبع الماء إذا خرج.
(4/176)
{أو تكون لك جنَّةٌ} أي : بستان يستر أشجاره ما تحتها من العرصة ، {من نخيلٍ وعِنَبٍ فتفجرَ الأنهارَ} أي : تجريها بقوة ، {خلالها} ؛ في وسطها {تفجيرًا} كثيرًا ، والمراد : إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها ، أو إدامة إجرائها ، كما ينبئ عنه " الفاء " ، {أو تُسْقِطَ السماء كما زعمتَ علينا كِسَفًا} ؛ قطعًا متعددة ، أو قطعًا واحدًا ، و {كما زعمت} : يعنون بذلك قوله تعالى : {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ} [سبأ : 9] ، {أو تأتي بالله والملائكة قَبيلاً} أي : مقابلاً ؛ نُعاينه جهرًا ، أو ضامنًا وكفيلاً يشهد بصحة ما تدعيه ، {أو يكون لك بيتٌ من زُخرفٍ} أي : ذهب. وقرئ به. وأصل الزخرفة : الزينة ، {أو تَرْقَى في السماء} أي : في معارجها ؛ فحذف المضاف. {ولن نُؤمن لرُقيك} أي : لأجل رُقيك فيها وحده {حتى تنزل} منها {علينا كتابًا} فيه تصديقك ، {نقرؤه} نحن ، من غير أن يتلقى من قبلك. وعن ابن عباس رضي الله عنه : قال عَبْدُ اللهِ بنُ أُميَّة لرسول صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عمته - : لن أؤمن لكَ حَتَّى تتَّخذَ إلى السماء سُلَّمًا ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر ، حتَّى تأتيها ، وتأتي معك بصك منشور ، معه أربعة من الملائِكَةِ يَشْهَدُونَ أنك كما تقول. هـ. ثم أسلم عبد الله بعد ذلك. ولم يقصدوا بتلك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج. ولو أنهم أوتوا أضعاف ما اقترحوا من
125
الآيات ، ما زادهم ذلك إلا مكابرة. وإلا فقد يكفيهم بعض ما شهدوا من المعجزات ، التي تخر لها صُم الجبال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 124
(4/177)
قال تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : {قلْ} ؛ تعجبًا من شدة شكيمتهم. وفي رواية " قال " : {سبحان ربي} ؛ تنزيهًا له من أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد في قدرته. أو تنزيهًا لساحته - سبحانه - عما لا يليق بها ، من مِثل هذه الاقتراحات الشنيعة ، التي تكاد السماوات يتفطرن منها ، أو عن طلب ذلك ، تنبيهًا على بطلان ما قالوه ، {هل كنتُ إِلا بشرًا} لا مَلَكًا ، حتى يتصور مني الرقي في السماء ونحوه ، {رسولاً} ؛ مأمورًا من قِبل ربي بتبليغ الرسالة ، كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم ، حسبما يلائم حال قومهم ، ولم يكن أمر الآيات إليهم ، ولا لهم أن يتحكموا على ربهم بشيء منها.
{وما مَنَعَ الناسَ} أي : الذين حكِيتْ أباطيلهم ، {أنْ يُؤمنوا إِذ جاءهم الهُدى} أي : الوحي ، وهو ظرف لمنع ، أو يؤمنوا ، أي : وما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان ، أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك ، {إلا أن قالوا} أي : إلا قولهم : {أَبَعثَ اللهُ بشرًا رسولاً} ، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر. وليس المراد أن هذا القول صدر من بعضهم ؛ فمنع بعضًا آخر منهم ، بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل ، المستتبع بهذا المقول منهم. وإنما عبَّر عنه بالقول ؛ إيذانًا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير روية ، ولا مصداق له في الخارج. وقصر المانع من الإيمان فيما ذكر ، مع أن لهم موانع شتى ، إما لأنه معظمها ، أو لأنه المانع بحسب الحال ، أعني : عند سماع الجواب بقوله تعالى : {هل كنتُ إِلا بشرًا رسولاً} ؛ إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ ، من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية.
(4/178)
{قلْ} لهم من قِبَلنا ؛ تثبيتًا للحكمة ، وتحقيقًا للحق المزيح للريب : {لو كان} أي : لو وُجد واستقر {في الأرض} ؛ بدل البشر {ملائكةً يمشونَ مطمئنين} قارين ساكنين فيها ، {لنزَّلنا عليهم من السماء مَلكًا رسولاً} يهديهم إلى الحق ؛ لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه. وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة مع الملائكة ؛ لأنها منوطة بالتناسُب والتجانس ، فبعث الملائكة إليهم مناقض للحكمة التي يدور عليها أمر التكوين والتشريع. وإنما يبعث الملك إلى الخواص ، المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيدة بالقوة القدسية ، فيتلقون منهم ويُبلغون إلى البشر.
{قل كفى بالله} وحده {شهيدًا} على أني أديتُ ما عليَّ من مواجب الرسالة ، وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد. فهو شهيد {بيني وبينكم} ، وكفى به شهيدًا ، ولم يقل : بيننا ؛ تحقيقًا للمفارقة ، وإبانة للمباينة ، {إِنه كان بعباده} من الرسل والمرسل إليهم ، {خبيرًا بصيرًا} ؛ محيطًا بظواهر أعمالهم وبواطنها ، فيجازيهم على ذلك. وهو
126
تعليل للكفاية. وفيه تسلية للرسول - عليه الصلاة والسلام - وتهديد للكفار ، والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 124
الإشارة : طلب الكرامات من الأولياء جهل بطريق الولاية ، وسوء الظن بهم ، إذ لا يشترط في تحقيق الولاية ظهور الكرامة ، وأيُّ كرامة أعظم من كشف الحجاب بينهم وبين محبوبهم ، حتى عاينوه وشاهدوه حقًا ، وارتفعت عنهم الشكوك والأوهام ، وصار شهود الحق عندهم ضروريًا ، ووجود السِّوَى محالاً ضروريًا ، فلا كرامة أعظم من هذه ؟ وكلامنا مع العارفين ، وأما الصالحون والعباد والزهاد فهم محتاجون إلى الكرامة ؛ ليزداد إيقانهم ، وتطمئن نفوسهم ؛ إذ لم يرتفع عنهم الحجاب ، ولم تنقشع عنهم سحابة الأثر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 124
(4/179)
قلت : {على وجوههم} : حال من ضمير " نحشرهم ". و {عُميًا} الخ : حال أيضًا من ضمير " وجوههم ". و {مأواهم} : استئناف ، وكذا : {كلما} الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ومَن يَهدِ اللهُ} إلى الحق الذي جاء من قبله على أيدي الرسل ، {فهو المهتد} إليه ، وإلى ما يؤدي إليه من الثواب ، أو فهو المهتدي إلى كل مطلوب ، {ومن يُضلل} أي : يخلق فيه الضلال ، كهؤلاء المعاندين ، {فلن تجد لهم أولياء من دونه} ينصرونهم من عذابه ، أو يُهدونهم إلى طريقه ، ويُوصلونهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية. ووحد الضمير أولاً في قوله : {فهو المهتد} : مراعاة للفظ " من " ، وجمع ثانيًا في {لهم} ؛ مراعاة لمعناها : تلويحًا بوحدة طريق الحق ، وتعدد طرق الضلال.
{ونحشرُهم} ، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم ؛ إيذانًا بكمال الاعتناء بأمر الحشر ، أي : ونسوقهم {يوم القيامة على وجوههم} أي : كابين عليها ؛ سَحْبًا ، كقوله {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىا وُجُوهِهِمْ} [القمر : 48] ، أو : مشيًا إلى المحشر بعد القيام ، فقد رُوي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : " الذِي أمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ " حال كونهم {عُمْيًا وبُكمًا وصُمًّا} ؛ لا يُبصرون
127
ما يقر أعينهم ، ولا ينطقون بما يُقبل منهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ، لمَّا كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر ، ولا ينطقون بالحق ولا يستمعونه. ويجوز أن يُحشروا ، بعد الحساب ، من الموقف إلى النار ، مَؤُوفي القوى والحواس. وأن يُحشروا كذلك ، ثم تعاد إليهم قواهم وحواسهم ، فإنَّ إدراكاتهم بهذه المشاعر في بعض المواطن مما لا ريب فيه.
(4/180)
{مأواهم جهنم} ؛ هي مسكنهم ، {كلما خَبَتْ} ؛ خمدت {زدناهم سعيرًا} ؛ توقدًا ، أي : كلما سكن لهبها ، وأكلت جلودهم ولحومهم ، ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار وتحرقه ، زدناهم توقدًا ؛ بأن بدلناهم جلودًا غيرها فعادت ملتهبة ومسعرة. ولعل ذلك عقوبة على إنكارهم البعث مرة بعد مرة ، ليروها عيانًا ، حيث لم يعلموها برهانًا ، كما يُفصح عنه قوله : {ذلك} أي ذلك العذاب {جزاؤهم بأنهم} ؛ بسبب أنهم {كفروا بآياتنا} العقلية والنقلية ، الدالة على وقوع الإعادة دلالة واضحة. {وقالوا} ؛ منكرين البعث أشد الإنكار : {أئذا كُنَّا عظامًا ورُفاتًا أَئِنا لمبعوثون خَلقًا جديدًا} أي : أنوجدُ خلقًا جديدًا بعد أن صِرنا ترابًا ؟ و " خلقًا " : إما مصدر مؤكد من غير لفظه ، أي : لمبعوثون مبعثًا جديدًا ، أو حال ، أي : مخلوقين مستأنفين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 127
الإشارة : من يهده الله إلى صريح المعرفة وسر الخصوصية فهو المهتد إليها ، يهديه أولاً إلى صحبة أهلها ، فإذا تربى وتهذب أشرقت عليه أنوارها. ومن يُضلله عنها ، فلا ينظر ولا يهتدي إلى صحبة أهلها ، فيُحشر يوم القيامة محجوبًا عن الله ، كما عاش محجوبًا. يموت المرء على ما عاش عليه ، ويُبعث على ما مات عليه ، لا يُبصر أسرار الذات في مظاهر النعيم ، ولا ينطق بالمكالمة مع الرحمن الرحيم ، ولا يسمع مكالمة الحق مع المقربين ؛ وذلك بسبب إنكاره لأهل التربية في زمانه ، وقال : لا يمكن أن يبعث الله من يحيي الأرواح الميتة بالجهل ؛ بالمعرفة الكاملة. وفيه إنكار لعموم القدرة الأزلية ، وتحجير على الحق. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 127
128
قلت : {وجعل} : عطف على " قادر " ؛ لأنه في قوة قدر ، أو استئناف. و {لو أنتم} : الضمير : فاعل بفعل يفسره ما بعده ، كقول حاتم :
لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْني
(4/181)
وفائدة ذلك الحذف والتفسير ؛ للدلالة على الاختصاص والمبالغة. وقيل في إعرابه غير هذا.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أوَ لم يَروا} أي : أوَ لم يتفكروا ولم يعلموا {أنَّ الله الذي خلق السماواتِ والأرضَ} من غير مادة ، مع عِظمها ، {قادرٌ على أن يخلق مثلهم} في الصِّغر والحقارة. على أن المثل مقحم ، أي : على أن يخلقهم خلقًا جديدًا ؛ فإنهم ليسوا أشد خلقًا منهم ، ولا الإعادة بأصعب من الإبداء ، {وجعل لهم} أي : لموتهم وبعثهم {أجلاً} محققًا {لا ريب فيه} وهو : القيامة. {فأبى الظالمون إِلا كفورًا} ؛ إلا جحودًا ، وضع الظاهر موضع الضمير ؛ تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه.
{قلْ} لهم : {لو أنتم تملكونَ خزائنَ رحمةِ ربي} ؛ خزائن رزقه وسائر نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات ، {إِذًا لأمْسَكْتُم} ؛ لبخلتم ، {خشيةَ الإِنفاق} ؛ مخافة النفاد بالإِنفاق ، إذ ليس في الدنيا أحد إلا وهو يختار النفع لنفسه ، ولو آثر غيره بشيء فإنما يُؤثره لغرض يفوقه ، فهو إذًا بخيل بالإضافة إلى وجود الله سبحانه ، إلا من تخلق بخلق الرحمن ؛ من الأنبياء وأكابر الصوفية. {وكان الإِنسانُ قَتورًا} ؛ مبالغًا في البخل ؛ لأن مبني أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه ، وملاحظة العوض فيما يبذل. يعني : أن طبع الإنسان ومنتهى نظره : أن الأشياء تتناهى وتفنى ، وهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر ، وكذلك يظن أن قدرة الله تقف دون البعث ، والأمر ليس كذلك ، بل قدرته لا تتناهى ، فهو يخترع من الخلق ما يشاء ، ويخترع من الأرزاق ما يريد ، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته. وبهذا النظر تتصل الآية بما قبلها. انظر ابن عطية.
(4/182)
قلت : ويمكن أن تتصل في المعنى بقوله : {أَبعثَ اللهُ بشرًا رسولاً} ، فكأنَّ الحق تعالى يقول لهم : لو كانت بيدكم خزائن رحمته ، لخصصتم بالنبوة من تريدون ، لكن ليست بيدكم ، ولو كانت بيدكم ؛ تقديرًا ، لأمسكتم خشية الإنفاق ؛ لأن طبع الإنسان البخل وخوف الفقر ، فهو كقوله تعالى : {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص : 9] ، بعد قوله : {وَعَجِبُوااْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ} [ص : 4]. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
الإشارة : الحق تعالى قادر على أن يخلق ألف عالمَ في لحظة ، وأن يفنى ألف عالم في لحظة ، فلا يعجزه شيء من الممكنات. وكما قدر أن يحيي الإنسان بعد موته
129
الحسي ؛ هو قادر على أن يحييه بعد موته المعنوي بالجهل والغفلة ، على حسب ما سبق له في المشيئة ، وجعل لذلك أجلاً لا ريب فيه ، فلا يجحد هذا إلا من كان ظالمًا كفورًا. قل لمن يخصص الولاية بنفسه ، أو بأسلافه ، ويُنكر أن يفتح الله على قوم كانوا جُهالاً : لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم الخصوصية عندكم ؛ خشية أن ينفد ما عندكم ، وكان الإنسان قتورًا ، لا يُحب الخير إلا لنفسه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
الإشارة : الحق تعالى قادر على أن يخلق ألف عالمَ في لحظة ، وأن يفنى ألف عالم في لحظة ، فلا يعجزه شيء من الممكنات. وكما قدر أن يحيي الإنسان بعد موته
129
الحسي ؛ هو قادر على أن يحييه بعد موته المعنوي بالجهل والغفلة ، على حسب ما سبق له في المشيئة ، وجعل لذلك أجلاً لا ريب فيه ، فلا يجحد هذا إلا من كان ظالمًا كفورًا. قل لمن يخصص الولاية بنفسه ، أو بأسلافه ، ويُنكر أن يفتح الله على قوم كانوا جُهالاً : لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم الخصوصية عندكم ؛ خشية أن ينفد ما عندكم ، وكان الإنسان قتورًا ، لا يُحب الخير إلا لنفسه.
(4/183)
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
قلت : قال في الأساس : ثبره الله : أهلكه هلاكًا دائمًا ، لا ينتعش بعده ، ومن ثَم يدعو أهلُ النار : واثبوراه. وما ثبرك عن حاجتك : ما ثبطك عنها. وهذا مثبَرُ فلانة : لمكان ولادتها ، حيث يثبرها النفاس. وفي القاموس : الثبر : الحبْسُ والمنع ، كالتثبير والصرف عن الأمر وعن الحبيب ، واللعن والطرد. والثبور : الهلاك والويل والإهلاك. هـ. و {إذا جاءهم} : إما متعلق بآياتنا ، أو بقلنا محذوف.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولقد آتينا موسى تسع آيات بيناتٍ} ؛ واضحات الدلالة على نبوته ، وصحة ما جاء به من عند الله. وهي : العصا ، واليد ، والجراد ، والقُمل ، والضفادع ، والدم ، والطوفان ، والسنون ، ونقص الثمرات. وقيل : انفجار الماء من الحجر ، ونتق الطور ، وانفلاق البحر ، بدل الثلاث. وفيه نظر ؛ فإن هذه الثلاث لم تكن لفرعون ، وإنما كانت بعد خروج سيدنا موسى عليه السلام. وعن صفوان بْن عسال : أن يهوديًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال : " ألاَّ تُشْرِكُوا به شَيْئًا ، ولا تَسْرقُوا ، ولا تَزْنُوا ، ولا تَقْتُلُوا النَّفس التِي حَرَّم اللهُ إلاَّ بالحَقِّ ، ولا تَسْحُروا ، ولا تأكُلُوا الرِّبَا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سُلْطَانٍ ليَقْتُلَهُ ، ولا تَقذفُوا المُحْصَنَة ، ولا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ ، وعليكم ، خاصَّة اليهود ، ألاَّ تَعْدُوا في السَّبْتِ " فقبَّل اليهوديُ يَدَه ورجْلَه - عليه الصلاة والسلام.
130
(4/184)
قلت : ولعل الحق تعالى أظهر لهم تسعًا ، وكلفهم بتسع ، شكرًا لما أظهر لهم ، فأخبر - عليه الصلاة والسلام - السائل عما كلفهم به ؛ لأنه أهم ، وسكت عما أظهر لهم ؛ لأنه معلوم. وإنما قبَّل السائلُ يده ؛ لموافقته لما في التوراة ، وقد علم أنه ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " وعليكم ، خاصة اليهود ، ألا تعدوا " ، حكم مستأنف زائد على الجواب ، ولذلك غيَّر فيه سياق الكلام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 130
قال تعالى : {فسلْ بني إسرائيل} أي : سل ، يا محمد ، بني إسرائيل المعاصرين لك عما ذكرنا من قصة موسى ؛ لتزداد يقينا وطمأنينة ، أو : ليظهر صدقك لعامة الناس ، أو : قلنا لموسى : سل بني إسرائيل مِن فرعون ، أي : اطلبهم منه ؛ ليرسلَهم معك ، أو سل بني إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك. ويؤيد هذا : قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم " فَسَال " ؛ على صيغة الماضي ، بغير همز ، وهي لغة قريش. {إِذْ جاءهم} أي : آتينا موسى تسع آيات حين جاءهم بالرسالة ، أو قلنا له : سل بني إسرائيل حين جاءهم بالوحي. {فقال له فرعونُ} حين أظهر له ما آتيناه من الآيات ، وبلغة ما أرسل به : {إِني لأظنك يا موسى مسحورًا} أي : سُحرت فتخبط عقلك.
{قال} له موسى : {لقد علمتَ} يا فرعون ، {ما أنزل هؤلاء} الآيات التي ظهرت على يدي {إِلا ربُّ السماوات والأرض} ؛ خالقهما ومدبرهما ، ولا يقدر عليها غيره ، حال كونها {بصائرَ} ؛ بينات تبصرك صدقي ، ولكنك تعاند وتكابر ، وقد استيقنتها أنفسكم ، فجحدتم ؛ ظلمًا وعلوًا ، {وإِني لأظنك يا فرعونُ مثبورًا} أي : مهلكًا مقطوعًا دابرك ، أو مغلوبًا مقهورًا ، أو مصروفًا عن الخير. قابل موسى عليه السلام قول فرعون : {إِني لأظنك يا موسى مسحورًا} بقوله : {وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا} ؛ وشتان ما بين الظنين ؛ ظنُّ فرعون إفك مبين ، وظن موسى حق اليقين ؛ لأنه بوحي من رب العالمين ، أو من تظاهر أماراته.
(4/185)
{فأراد فرعون أن يستفزهم} أي : يستخفهم ويزعجهم {من الأرض} ؛ أرض مصر ، {فأغرقناه ومَنْ معه جميعًا} ؛ فعكسنا عليه علمه ومكره ، فاستفززناه وقومه من بلده بالإغراق. {وقلنا من بعده} من بعد إغراقه {لبني إسرائيل اسكنُوا الأرضَ} التي أراد أن يستفزكم هو منها. أو أرض الشام. وهو الأظهر ، إذ لم يصح أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بالسكنى. وانظر عند قوله : {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيا إِسْرَائِيلَ} [الشُّعَرَاء : 59] {فإِذا جاء وعد الآخرة} أي : الحياة الآخرة ، أو الدار الآخرة ، أي : قيام الآخرة ، {جئنا بكم لفيفًا} ؛ مختلطين إياكم وإياهم ، ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم. واللفيف : الجماعات من قبائل شتى. والله تعالى أعلم.
131
الإشارة : لا ينفع في أهل الحسد والعناد ظهور معجزة ولا آية ، ولا يتوقف عليها من سبقت له العناية ، لكنها تزيد تأييدًا ، وطمأنينة لأهل اليقين ، وتزيد نفورًا وعنادًا ، لأهل الحسد من المعاندين. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 130
قلت : تقديم المعمول ، هو {بالحق} : يُؤذن بالحصر. و {قرآنًا} : مفعول بمحذوف يُفسره ما بعده.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن القرآن : {وبالحقِّ أنزلناه وبالحق نَزَل} أي : ما أنزلنا القرآن إلا ملتبسًا بالحق ، المقتضي لإنزاله ، وما نزل إلا بالحق الذي اشتمل عليه من الأمر والنهي ، والمعنى : أنزلناه حقًا مشتملاً على الحق. أو : ما أنزلناه من السماء إلا محفوظًا بالرصَد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظًا من تخليط الشياطين. ولعل المراد : عدم اعتراء البطلان له أولاً وآخرًا. {وما أرسلناك إِلا مبشرًا} للمطيعين بالثواب ، {ونذيرًا} للعاصين بالعقاب ، وهو تحقيق لحقية بعثه - عليه الصلاة والسلام - إثر تحقيق حقية إنزال القرآن.
(4/186)
{وقرآنًا فَرَقْنَاهُ} أي : أنزلناه مفرقًا منجمًا في عشرين سنة ، أو ثلاث وعشرين. قال القشيري : فرَق القرآن ؛ ليهون حفظه ، ويكثر تردد الرسول عليه من ربه ، وليكون نزوله في كل وقت ، وفي كل حادثة وواقعة ؛ دليلاً على أنه ليس مما أعانه عليه غيره. هـ. {لتقرأه على الناس على مُكْثٍ} ؛ على مهلٍ وتؤدة وتثبتٍ ؛ فإنه أيسر للحفظ ، وأعون على الفهم ، {ونزلناه تنزيلاً} على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، والحوادث الواقعة.
{قل} للذين كفروا : {آمِنُوا به أو لا تُؤمنوا} ، فإنَّ إيمانكم لا يزيده كمالاً ، وامتناعكم منه لا يزيده نقصانًا. أو : أُمِرَ باحتقارهم وعدم الاكتراث بهم ، كأنه يقول : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا ؛ لأنكم لستم بحجة ، وإنما الحجة لأهل العلم ، وهم : المؤمنون من أهل الكتاب ، الذين أشار إليهم بقوله : {إِن الذين أُوتوا العلم من قَبْلِهِ} أي : العلماء الذين قرأوا الكتب السالفة من قبل تنزيله ، وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة ، وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل ، والمحق والمبطل ، {إِذا يُتلى عليهم}
132
القرآن {يَخرُّون للأذقانِ} أي : يسقطون على وجوههم {سُجَّدًا} ؛ تعظيمًا لأمر الله ، أو شكرًا لإنجازه ما وعد في تلك الكتب ؛ من نعتك ، وإظهارك ، وإنزال القرآن عليك. والأذقان : جمع ذقن ، وهو : أسفل الوجه حيث اللحية. وخصها بالذكر ؛ لأنها أول ما تلقى في الأرض من وجه الساجد. والجملة : تعليل لما قبلها من قوله : {آمِنُوا به أو لا تؤمنوا} ؛ من عدم المبالاة. والمعنى : إن لم تؤمنوا فقد آمن منْ هو أعلى منكم وأحسن إيمانًا منكم. ويجوز أن يكون تعليلاً لقُل ، على سبيل التسلية للرسول - عليه الصلاة والسلام - ، كأنه يقول : تسلّ بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ، ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 132
(4/187)
ويقولون} في سجودهم : {سبحان ربِّنا} عن خلْف وعده ؛ {إِن كان وعْدُ ربنا لمفعولاً} أي : إن الأمر والشأن كان وعد ربنا مفعولاً لا محالة ، {ويَخِرُّون للأذقانِ} كرره ؛ لاختلاف السبب ، فإن الأول : لتعظيم الله وشكر إنجاز وعده. والثاني : لِمَا أثر فيهم من مواعظ القرآن ، {يَبْكُونَ} : حال ، أي : حال كونهم باكين من خشية الله ، {ويزيدهم} القرآنُ {خشوعًا} ، كما يزيدهم علمًا بالله تعالى.
الإشارة : وبالحق أنزلناه ، أي بالتعريف بأسرار الربوبية ، وبالحق نزل ؛ لتعليم آداب العبودية. أو : بالحق أنزلناه ، يعني : علم الحقيقة ، وبالحق نزل علم الشريعة والطريقة. وما أرسلناك إلا مبشرًا لأهل الإخلاص بالوصول والاختصاص ، ونذيرًا لأهل الخوض بالطرد والبعد. وقرآنا فرقناه ، لتقرأه نيابة عنا ، كي يسمعوه منا بلا واسطة ، عند فناء الرسوم والأشكال ، ونزّلناه ، للتعريف بنا تنزيلاً ، قل آمنوا به ؛ لتدخلوا حضرتنا ، أو لا تؤمنوا ، فإن أهل العلم بنا قائمون بحقه ، خاشعون عند تلاوته ، متنعمون بشهودنا عند سماعه منا. وبالله التوفيق.
ولما كان القرآن مشتملاً على أسماء كثيرة من أسماء الله الحسنى ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه : " يا الله ، يا رحمن " ، قالوا : إنه ينهانا عن عبادة إليهن ، وهو يدعو إلهًا آخر. وقالت اليهود : إنك لتُقل ذكر الرحمن ، وقد أكثر الله تعالى ذكره في التوراة ، فأنزل الله ردًا على الفريقين.
{قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـانَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَىا...} قلت : " أي " شرطية ، و {ما} : زائدة ؛ تأكيدًا لما في " أيًّا " من الإبهام ، وتقدير المضاف : أيَّ الأسماء تدعو به فأنت مُصيب.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قُلْ} يا ممد للمؤمنين : {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} ؛ نادوه بأيهما شئتم ، أو سموه بأيهما أردتم. والمراد : إما التسوية بين
133
(4/188)
اللفظين ؛ فإنهما عبارتان عن ذاتِ واحد ، وإن اختلف الاعتبار ، والتوحيد إنما هو للذات ، الذي هو المعبود بالحق ، وإما أنهما سيان في حسن الإطلاق والوصول إلى المقصود ، فلذلك قال : {أَيَّا مَا تدعو} ؛ أيَّ اسم تدعو به تصب ، {فله الأسماءُ الحسنى} فيكون الجواب محذوفًا ، دلَّ عليه الكلام. وقيل : التقدير أيًّا ما تدعو به فهو حسن ، فوضع موضعه : {فله الأسماء الحسنى} ؛ للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه ؛ إذ حسن جميع الأسماء يستدعي حسن ذَيْنِك الاسمين ، وكونها حسنى ؛ لدلالتها على صفات الكمال من الجلال والجمال ؛ إذ كلها راجعة إلى حسن ذاتها ، وكمالها ؛ جمالاً وجلالاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 132
(4/189)
قال في شرح المواقف : ورد في الصحيحين : " إنَّ للهِ تِسْعَةً وتَسْعِينَ اسْمًا ، مائةً إلاَّ وَاحِدًا ، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ " ، وليس فيها تعيين تلك الأسماء. لكن الترمذي والبيهقي عيَّناها. وهي الطريقة المشهورة ، ورواية الترمذي : " الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ المصور ، الغفار القهار ، الوهاب الرزاق ، الفتاح العليم ، القابض الباسط ، الخافض الرافع ، المعز المذل ، السميع البصير ، الحكم العدل ، اللطيف الخبير ، الحليم العظيم ، الغفور الشكور ، العلي الكبير ، الحفيظ المقيت ، الحسيب الجليل ، الكريم الرقيب ، المجيب ، الواسع الحكيم ، الودود المجيد ، الباعث الشهيد ، الحق الوكيل ، القوي المتين ، الولي الحميد ، المحصي المبدئ المعيد ، المحيي المميت ، الحي القيوم ، الواجد الماجد ، الواحد ، الأحد الصمد ، القادر المقتدر ، المقدم المؤخر ، الأول الآخر ، الظاهر الباطن ، الوالي المتعالي ، البر التواب ، المنتقم العفو الرؤوف ، مالك الملك ذو الجلال والإكرام ، المقسط الجامع ، الغني المغني المانع ، الضار النافع ، النور الهادي ، البديع الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور ". وقد ورد التوقيف بغيرها ، أمَّا في القرآن ؛ فكالمولى ، والنصير والغالب ، والقاهر والقريب ، والرب والأعلى ، والناصر والأكرم ، وأحسن الخالقين ، وأرحم الراحمين ، وذي الطول ، وذي القوة ، وذي المعارج ، وغير ذلك. وأما في الحديث ، فكالمنان ، والحنان ، وقد ورد في رواية ابن ماجة أسماء ليست في الرواية المشهورة ؛ كالقائم ، والقديم ، والوتر ، والشديد ، والكافي ، وغيرها.
وإحصاؤها : إما حفظها ؛ لأنه إما يحصل بتكرار مجموعها وتعدادها مرارًا ، وإما ضبطها ؛ حصرًا وعلمًا وإيمانًا وقيامًا بحقوقها ، وإما تعلقًا وتخلقًا وتحققًا. وقد ذكرنا في
134
(4/190)
شرح الفاتحة الكبير كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها. وفي ابن حجر : أن أسماء الله مائة ، استأثر الله بواحد ، وهو الاسم الأعظم ، فلم يُطلع عليه أحدًا ، فكأنه قيل : مائة لكن واحد منها عند الله. وقال غيره : ليس الاسم الذي يكمل الماءة مخفيًا ، بل هو الجلالة. وممن جزم بذلك البيهقي ، فقال : الأسماء الحسنى مائة ، على عدد درجات الجنة ، والذي يكمل المائة : " الله " ، ويؤيده قوله تعالى : {وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} [الأعرَاف : 180]. فالتسعة والتسعون لله ؛ فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 132
قلت : ولعله ذكر اسمًا آخر يكمل التسعة والتسعين. وإلا فهو مذكور في الرواية المتقدمة من التسعة والتسعين. والله تعالى أعلم.
الإشارة : {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} ، قال الورتجبي : إن الله سبحانه دعا عباده إلى معرفة الاسمين الخاصين ، الذين فيهما أسرار جميع الأسماء والصفات والذات ، والنعوت والأفعال ؛ فالله اسمُهُ ، وهو اسمُ عَيْنِ جَمْعِ الجَمعِ ، والرحمن اسم عين الجمع ؛ فالرحمن مندرج تحت اسمه : " الله " ؛ لأَنه عين الكل ، وإذا قلت : الله ؛ ذكرت عين الكل. ثم قال : وإذا قال " الله " ؛ يفنى الكل ، وإذا قال : " الرحمن " ؛ يبقى الكل ، من حيث الاتصاف والاتحاد ، فالاتصاف بالرحمانية يكون ، والاتحاد بالألوهية يكون. ثم قال : عن الأستاذ : من عظيم نعمه سبحانه على أوليائه : أنه يُنزههم بأسرارهم في رياض ذكره ؛ بتعداد أسمائه الحسنى ، فيتنقلون من روضة إلى روضة ، ومن مأنس إلى مأنس ، ويقال : الأغنياء تنزههم في بساتينهم ، وتنزههم في منابت رياحِينهم. والفقراء تنزههم في مشاهد تسبيحهم ، ويستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله. هـ. قلت : والعارفون تنزههم في مشاهدة أسرار محبوبهم ، وما يكشف لهم من روض جماله وجلاله. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 132
(4/191)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولا تجهرْ} بقراءة صلاتك ، بحيث تُسمع المشركين ، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها ، {ولا تُخافت} أي : تُسر {بها} ؛ حتى لا تُسمع من خلفك من المؤمنين ، {وابتغ بين ذلك سبيلاً} ؛ واطلب بين المخافتة والإجهار طريقًا قصدًا ، فإنَّ خير الأمور أوسطها. والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه طريق يتوجه إليه المتوجهون ، ويؤمه المقتدون ليوصلهم إلى المطلوب. رُوي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت ، ويقول : أُنَاجِي ربِّي ، وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي. وعُمَرُ رضي الله عنه كان يجهر ،
135
ويقول : أطردُ الشَّيْطَانَ وأُوقِظُ الوَسْنَانَ. فلما نزلت ، أَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بَكْرٍ أَنْ يَجْهَر قليلاً ، وعمر أن يَخْفِض قليلاً.
(4/192)
وقيل : المعنى : {ولا تجهر بصلاتك} كلها ، {ولا تُخافت بها} بأسرها ، {وابتغِ بين ذلك سبيلاً} ؛ بالمخافتة نهارًا والجهر ليلاً. وقيل : {بصلاتك} ؛ بدعائك. وذهب قوم إلى أنها منسوخة ؛ لزوال علة السب واللغو ؛ بإظهار الدين وإخفاء الشرك وبطلانه ؛ فالحمد لله على ذلك كما قال تعالى : {وقل الحمدُ لله الذي لم يتخذ ولدًا} كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مدلج ؛ حيث قالوا : عُزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، والملائكة بنات الله. تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا ، {ولم يكن له شريك في الملك} ؛ في الألوهية ؛ كما تقول الثنوية القائلون بتعدد الآلهة. {ولم يكن له وَلِيٌّ من الذُّلِّ} أي : لم يكن له ناصر ينصره {من الذُّل} أي : لم يذل فيحتاج إلى ولي يُواليه ؛ ليدفع ذلك عنه. وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة ؛ إيذان بأن المستحق للحمد من هذه نعوته ، دون غيره ؛ إذ بذلك يتم الكمال ، وما عداه ناقص حقير ، ولذلك عطف عليه : {وكبِّره تكبيرًا} عظيمًا ، وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد ، واجتهد في العبادة والتحميد ، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك. رُوي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علَّمه هذه الآية : (وقل الحمد لله...) الخ. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 135
(4/193)
الإشارة : الإجهار بالذكر والقراءة والدعاء ، مباح لأهل البدايات ، لمن وجد قلبه في ذلك ، وأما النهي الذي في الآية فمنسوخ ؛ لأن الصحابة ، حين هاجروا من مكة ، رفعوا أصواتهم بالقراءة والتكبير. لكن المداومة عليه من شأن أهل البُعد عن الحضرة ، وأما أهل القُرب فالغالب عليهم السكوت أو المخافتة ؛ قال تعالى : {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه : 108]. وأما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر رضي الله عنه بالإجهار قليلاً ، وعمر بالخفض قليلاً ؛ فإخراج لهم عن مرادهم ؛ تربيةً لهم. وختم السورة بآية العز ؛ إشارة إلى أن من أسرى بروحه ، أو بجسده إلى الملأ الأعلى كان عاقبته العز والرفعة في الدارين.
136
جزء : 4 رقم الصفحة : 135(4/194)
سورة الكهف
جزء : 4 رقم الصفحة : 136
قلت : {قَيّمًا} : حال من الكتاب ، والعامل فيه : " أنزل " ، ومنعه الزمخشري ؛ للفصل بين الحال وذي الحال ، واختار أن العامل فيه مضمر ، تقديره : جعله قيّمًا ، و " لينذر " : يتعلق بأنزل ، أو بقيّمًا. والفاعل : ضمير الكتاب ، أو النبي صلى الله عليه وسلم ، و " بأسًا " : مفعول ثان ، وحذف الأول ، أي : لينذر الناس بأسًا ، كما حذف الثاني من قوله : {ويُنذر الذين قالوا...} الخ ؛ لدلالة هذا عليه ، و {مِن عِلْم} : مبتدأ مجرور بحرف زائد ، أو فاعل بالمجرور ؛ لاعتماده على النفي ، و " كلمة " : تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {الحمدُ لله} أي : الثناء الجميل حاصل لله ، والمراد : الإعلام بذلك ؛ للإيمان به ، أو الثناء على نفسه ، أو هما معًا. ثم ذكر وجه استحقاقه له ، فقال : {الذي أَنزل على عبده الكتابَ} أي : الكتاب الكامل المعروف بذلك من بين سائر الكتب ، الحقيق باختصاص اسم الكتاب ، وهو جميع القرآن. رتَّب استحقاق الحمد على إنزاله ؛ تنبيهًا على أنه أعظم نعمائه ، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد ، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد.
137
وفي التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد ، مضافًا إلى ضمير الجلالة تنبيه على بلوغه صلى الله عليه وسلم إلى معاريج العبادة وكمال العبودية أقصى غاية الكمال ، حيث كان فانيًا عن حظوظه ، قائمًا بحقوقه ، خالصًا في عبوديته لربه.
{ولم يجعلْ له} أي : للكتاب {عِوَجًا} ؛ شيئًا من العوج ، باختلافٍ في اللفظ ، وتناقض في المعنى ، وانحراف في الدعوة. قال القشيري : صانه عن التناقض والتعارض ، فهو كتابٌ عزيزٌ من ربِّ عزيز ، ينزل على عَبْدٍ عزيز.
قَيّمًا : مستقيمًا متناهيًا في الاستقامة ، معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط ، فهو تأكيد لما دل عليه نفي العوج ، مع إفادته كون ذلك من صفاته الذاتية ، حسبما تُنبئ عنه الصيغة. أو قَيّمًا بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد ، على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشير ، فيكون وصفًا له بالتكميل ، بعد وصفه بالكمال ، أو : قَيّمًا على ما قبله من الكتب السماوية ، وشاهدًا بصحتها ومهيمنًا عليها. {ليُنذر} : ليُخوّف اللهُ تعالى به ، أو الكتاب ، والأول أوْلى ؛ لتناسب المعطوفين بعده ، أي : أنزل الكتاب لينذر بما فيه الذين كفروا {بأسًا} : عذابًا {شديداً من لدنه} أي : صادرًا من عنده ، نازلاً من قِبَله ، في مقابلة كفرهم وتكذيبهم.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 137(4/195)
ويُبشِّر} بالتشديد والتخفيف ، {المؤمنين} : المصدقين به ، {الذين يعملون} أي : العُمال {الصالحاتِ} التي تَنْبَثُّ في تضاعيفه {أنَّ لهم} أي : بأن لهم في مقابلة إيمانهم وأعمالهم {أجرًا حسنًا} ، هو الجنة وما فيها من المثوبات الحسنى ، {ماكثين فيه} أي : في ذلك الأجر {أبدًا} على سبيل الخلود. والتعبير بالمضارع في الصلة - أعني : الذين يعملون - ؛ للإشعار بتجدد الأعمال الصالحات واستمرارها ، وإجراء الموصول على الموصوف بالإيمان ؛ إيماءً بأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.
وتقديم الإنذار على التبشير ؛ لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه ، مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية. وتكرير الإنذار بقوله تعالى : {ويُنذرَ الذين قالوا اتخذ اللهُ ولدًا} : متعلق بفرقة خاصة ، ممن عمَّهُ الإنذار السابق ، من مستحقي البأس الشديد ؛ للإيذان بكمال فظاعة حالهم ، لغاية شناعة كفرهم وضلالهم ، أي : وينذر ، من بين سائر الكفرة ، هؤلاء المتفوهين بمثل هذه القولة العظيمة ، وهم كفار العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، واليهود القائلون : عزير ابن الله ، والنصارى القائلون : المسيح ابن الله.
{ما لهم به من عِلْمٍ} أي : ما لهم باتخاذه الولد شيء من علم أصلاً ؛ لضلالهم وإضلالهم ، {ولا لآبائهم} الذين قلدوهم ، فتاهوا جميعًا في تيه الجهالة والضلالة ، أو : ما لهم علم بما قالوا ، أصواب أم خطأ ، بل إنما قالوه ؛ رميًا بقولٍ عن عمى وجهالة ، من غير فكر ولا روية ، كقوله تعالى : {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعَام : 100].
138
(4/196)
أو : ما لهم علم بحقيقة ما قالوا ، وبعِظَم رتبته في الشناعة ، كقوله تعالى : {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريَم : 88-90] ، وهو الأنسب لقوله : {كَبُرتْ كلمةٌ} أي : عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء ؛ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائه ؛ لما فيه من التشبيه والتشريك ، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يُعينه ويخلفه. فما أقبحها مقالة {تخرج من أفواههم} أي : يتفوهون بها من غير حقيقة ولا تحقيق لمعناها ، {إن يقولون إِلا كذبًا} : ما يقولون في ذلك إلا قولاً كذبًا ، لا يكاد يدخل فيه إمكان الصدق أصلاً.
الإشارة : من كملت عبوديته لله ، وصار حُرًّا مما سواه ، بحيث تحرر من رق الأكوان ، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان ، أنزل الله على قلبه علم التحقيق ، وسلك به منهاج أهل التوفيق ، منهاجًا قيمًا ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد ، وفي ظاهره من الفساد والعناد ، قد تولى الله أمره وأخذه عنه ، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارتُه ، وجليت إليهم إشارته ، فبَشَّر وأنذر ، ورغّب وحذّر ، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان ، وبالنظر إلى وجه الرحمن ، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران ، وبالذل والهوان ، نعوذ بالله من موارد الفتن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 137
قلت : {أسفًا} : مفعول من أجله لباخع ، أو حال ، أي : متأسفًا ، وجواب " إن " : محذوف ، أي : إن لم يؤمنوا فعلك باخع نفسك.
(4/197)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {فلعلك} يا محمد {باخعٌ} : مهلك {نفسَك} وقاتلها بالغم والأسف على تخلف قومك عن الإيمان وفراقهم عنك ، {على آثارهم} إذا تولوا عنك ، عندما تدعوهم إلى الله. شبهه ، لأجل ما تداخله من الوجد على توليتهم ، بمن فارقته أعزته ، وهو يتحسر على آثارهم ، ويبخع نفسه وجدًا عليهم. {إِن لم يُؤمنوا بهذا الحديث} أي : القرآن الذي عبّر عنه في صدر السورة بالكتاب ، صدر ذلك منك {أسفًا} أي : بفرط الحزن والتأسف عليهم.
139
ثم علّل وجه إدبارهم عن الإيمان ، وهو اغترارهم بزهرة الدنيا ، فقال : {إِنا جعلنا ما على الأرض} ؛ من الأشجار والأزهار والثمار ، وما اشتملت عليه من المعادن ، وأنواع الملابس والمطاعم ، والمراكب والمناكح ، {زينةً لها} أي : مبهجة لها ، يستمتع بها الناظرون ، وينتفعون بها مأكلاً وملبسًا ، ونظرًا واعتبارًا ، حتى إن الحيّات والعقارب ؛ من حيث تذكيرها بعذاب الآخرة ، من قبيل المنافع ، بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيثُ دلالته على الصانع ، وكذلك الأزواج والأولاد ، بل هم من أعظم زينتها ، داخلون تحت الابتلاء. جعلنا ذلك {لنبلوهم} : لنختبرهم ، حتى يظهر ذلك للعيان ، {أيُّهم أحسنُ عملاً} ، أيهم أزهد فيها ، وأقبلهم على الله بالعمل الصالح ؛ إذ لا عمل أحسن من الزهد في الدنيا ؛ إذ هو سبب للتفرغ لأنواع العبادة ، بدنية وقلبية.
قال أبو السعود : وحسن العمل : الزهد فيها ، وعدم الاكتراث بها ، والقناعة باليسير منها ، وصرفها على ما ينبغي ، والتأمل في شأنها ، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها ، والتمتع بها حسبما أذن الشرع ، وأداء حقوقها ، والشكر على نعمها ، لا جعْلها وسيلة إلى الشهوات ، والأغراض الفاسدة ، كما يفعله الكفرة وأهل الأهواء... انظر بقية كلامه.
(4/198)
{وإِنا لجاعلون ما عليها} ؛ عند تناهي الدنيا ؛ {صعيدًا جُرُزًا} أي : ترابًا يابسًا ، لا نبات فيه ، بعدما كان يَتَعجب من بهجته النظارُ ، ويتشرف بمشاهدته الأبصار ، فلا يغتر بما يذهب ويفنى إلا من لا عقل له ، فلا تستغرب إدبارهم ، إذ لا عقل لهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
ويحتمل أن يكون تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ من حيث إنه أرشده إلى شهود تدبير الحق ، فيسلو ، بذلك عن إعراضهم ؛ لغيبته في المصور المدبر عن الصور ، وعن الزينة في المُزَيِّن فالكون مظهر الصفات ومرآتها ، ويغيب في الذات - التي هي معدنها - بإفناء الظاهر ، وإفناء الأفعال ، كما نبّه عليه بقوله : {وإِنا لجاعلون...} الخ.
الإشارة : الخصوصية - من حيث هي - لها بداية ونهاية ، فمن شأن أهل بدايتها : الحرص على الخير لهم ولعباد الله ، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون ، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم ، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم ، زيادة في الهداية لعباد الله ، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها ، وحصل لهم الفناء الأكبر ، لم يحرصوا على شيء ، ولم يتأسفوا من فوات شيء ، لهم ولغيرهم. وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص في بدايتهم ؛ تكميلاً لهم ، وترقية إلى المقام الأكمل.
وقوله تعالى : {إنا جعلنا ما على الأرض...} الخ ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية ، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها ، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها ، فاتته الخصوصية ، وبقي من عوام الناس ، ومن أعرض عنها وعن بهجتها ، وتوجه بقلبه إلى الله ، كان من المخصوصين بها ، المقربين عند الله.
140
وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر الله به عباده بقوله : {لنبلوهم أيهم أحسن عملاً} ، وفي الحديث : " الدنيا مال مَنْ لاَ مَالَ لَه ، لَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَه. وعليها يُعَادِي مَنْ لاَ عِلْمَ عِنْدَه " وفي الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف ، وبالله التوفيق.
(4/199)
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
قلت : {أم} : منقطعة مقدرة ببل ، التي هي للانتقال من حديث إلى حديث ، لا للإبطال ، والهمزة : للاستفهام عند الجمهور ، وبمعنى " بل " ، فقط ، عند غيرهم ، و {عجبًا} : خبر كان ، و {من آياتنا} : حال منه ، و {إذ أوى} : ظرف لعجبًا ، لا لحَسِبَْتَ ، أو مفعول اذكر ، أي : اذكر هذا الوقت العجيب ، وهو حين التجأ الفتية إلى الكهف ، و {لنا} و {مِنْ أمرنا} : يتعلق بـ {هيئ} ، و {أيّ الحزبين} : معلق لنعلم عن المفعولين ؛ لما فيه من معنى الاستفهام ، وهو مبتدأ ، و " أحصى " : خبره ، وهو فعل ماضٍ ، و {أمدًا} : مفعوله.
و {لِما لبثوا} : حال منه ، أو مفعول " أحصى " ، واللام زائدة ، و {ما} : موصولة ، و {أمدًا} : تمييز ، وقيل : {أحصى} : اسم تفضيل ، من الإحصاء بحذف الزوائد ، و {أمدًا} : منصوب بفعل دل عليه أحصى ، أي : يحصى كقوله :
وَأَضْرَبَ مِنَّا بالسُّيُوفِ القَوَانِسَا
لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به ، إجماعًا ، ويجوز أن يكون تمييزًا بعد اسم التفضيل.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أم حَسِبْتَ} أي : ظننت يا محمد ، والمراد : حسبان أمته {أنَّ أصحابَ الكهف} ، وهو الغار الواسع في الجبل. واختُلف في موضعه ؛ فقيل :
141
بقرب فلسطين ، وقيل : بالأندلس بمقربة من لوشة في جهة غرناطة. وذكر ابن عطية أنه دخل كهفهم ، وفيه موتى ، ومعهم كلبهم ، وعليهم مسجد ، وقريب منه بناء يقال له الرَّقِيم ، قد بقي موضع جدرانه ، وفي تلك الجهة آثار يقال لها : مدينة " دقيوس " ، والله أعلم. وقال ابن جزي : ومما يُبعد ذلك ما رُوي أن معاوية مرَّ عليهم ، وأراد الدخول إليهم ولم يدخل ، هيبةً ، ومعاوية لم يدخل الأندلس قط ، وأيضًأ : فإن الموتى في لَوْشة يراهم الناس ، ولا يدرك أحد الرعب الذي ذكر الله في أهل الكهف. هـ.
(4/200)
والمشهور : أن الرقيم هو اللوح المكتوب فيه أسماؤهم وأنسابهم ، وكان جُعِل ذلك الكتاب في خزانة الملك ، وهو لوح من رصاص أو حجر ، أمر بكتب أسمائهم فيه لما شكا قومُهم فقْدَهم. وقيل : اسم كلبهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 141
أي : أظننت أنهم {كانوا} في قصتهم {من} بين {آياتنا عَجَبًا} أي : كانوا عجبًا دون باقي آياتنا ، ليس الأمر كذلك. والمعنى : أن قصتهم ، وإن كانت خارقة للعادة ، ليست بعجيبة ، بالنسبة إلى سائر الآيات التي من تعاجيبها ما ذكر من خلق الله تعالى على الأرض ، من الأجناس والأنواع الفائتة الحصر من مادة واحدة ، بل هي عندها كالنزر الحقير. وقال القشيري : أزال موضع الأعجوبة من أوصافهم ، بما أضاف إلى نفسه بقوله : {من آياتنا} ، وقَلْبُ العادةِ مِنْ قِبَلِ اللهِ غيرُ مُسْتَنْكَرٍ ولا مُبْتَدَعٍ. هـ.
ثم ذكر أول قصتهم ، فقال : {إِذْ أوى الفتيةُ} : جمع فتى ، وهو الشاب الكامل ، أي : اذكر حين التجأ الفتية إلى الكهف ، هاربين بدينهم ، خائفين على إيمانهم من كفار قومهم ، ورأسهم " دقيانوس " ، على ما يأتي في قصتهم. {فقالوا} ؛ حين دخلوا الغار : {ربَّنا آتنا من لدُنك} ؛ من مستبطن أمورك وخزائن رحمتك الخاصة المكنونة عن أعين العادات ، {رحمةً} خاصة تستوجب الرفق والأمن من الأعداء ، {وَهَيِّئ} : أصلح {لنا من أمرنا} الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ومهاجرتهم ، {رَشَدًا} : هداية نصير بها راشدين مهتدين ، أو : اجعل أمرنا كله رشدًا وصوابًا ، كقولك : لقيت منك أسدًا ، فتكون من باب التجريد ، أو : إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب ، وأصل التهيئة : إحداث هيئة الشيء.
(4/201)
{فَضَرَبْنَا على آذانهم} أي : أَنَمْنَاهُمْ ، شبَّه الإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها ، وتخصيص الآذان بالذكر مع اشتراك سائر المشاعر لها في الحَجْب عن الشعور عند النوم ؛ لأنها تحتاج إلى الحجب أكثر ، إذ هي الطريقة للتيقظ غالبًا. والفاء في {فضربنا} : مثلها في قوله : {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء : 90] ، بعد قوله : {إِذ نادى} ، فإنَّ الضرب المذكور ، وما ترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال ، والبعث ، وغير ذلك ، إيتاءُ رحمةٍ لَدُنِّيَّةٍ خفيةٍ عن أبصار المستمسكين بالأسباب العادية ؛ استجابة لدعوتهم ، أي : فاستجبنا لهم وأَنَمْناهم ، {في الكهف
142
سنينَ عددًا} أي : ذوات عدد ، أو تُعَدُّ عددًا ، أو معدودة ، ووصْف السنين بذلك : إمَّا للتكثير ، وهو الأنسب بكمال القدرة ، أو التقليل ، وهو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبًا من سائر الآيات العجيبة ؛ فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده تعالى.
{ثم بعثناهم} ؛ أيقظناهم من تلك النومة الشبيهة بالموت ، {لنعْلَمَ} علم مشاهدة ، أي : ليتعلق علمنا تعلقًا حاليًّا كتعلقة أولاً تعلقًا استقباليًّا ، {أيُّ الحزبين} : الفريقين المختلفين في مدة لبثهم المذكور في قوله : {قالوا لبثنا يومًا...} الخ ، {أحْصَى} أي : أضبط {لِما لَبِثُوا} : للبثهم ، {أمدًا} أي : غاية ، فيظهر بذلك عجزهم ، ويُفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ، ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، من حفظ أبدانهم وأديانهم ، فيزدادوا يقينًا بكمال قدرته وعلمه ، وليتيقنوا به أمر البعث ، ويكون ذلك لطفًا بمؤمني زمانهم ، وآية بينة لكفارهم ، وعبرةً لمن يأتي بعدهم ، فهذه حِكَمُ إيقاظهم بعد نومهم ، والله عليم حكيم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 141
(4/202)
الإشارة : عادته تعالى فيمن انقطع إليه بكليته ، وآوى إلى كهف رعايته ، وآيس من رفق مخلوقاته ، أن يكلأه بعين عنايته ، ويرعاه بحفظ رعايته ، ويُغَيِّبَ سمع قلبه عن صوت الأكدار ، ويصون عين بصيرته عن رؤية الأغيار ، حين انحاشوا إلى حِمى رحمته المانع ، وتظللوا تحت ظل رشده الواسع. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 141
قلت : {بالحق} : إما صفة لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير " نَقُصُّ " ، أو من " نبأهم " ، أو صفة له ، على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته ، أي : نَقُصُّ قصصًا ملتبسًا بالحق ، أو نقصه متلبسين بالحق ، أو نقص نبأهم ملتبسًا بالحق ، أو نبأهم الذي هو ملتبس بالحق. و {إذ قاموا} : ظرف لربطنا ، {وشططًا} : صفة لمحذوف ، أي : قولاً شططًا ، أي : ذا شطط ، وُصِف به ؛ للمبالغة. و {هؤلاء} : مبتدأ ، وفي اسم الإشارة تحقير لهم ، و {قومنا} : عَطْفُ بيانٍ له. و {اتخذوا} : خبر ، و {ما يعبدون} : موصول ، عطف على الضمير المنصوب ، أو مصدرية ، أي : وإذ اعتزلتموهم ومَعْبُودِيهِمْ إلا الله ، أو عبادتهم إلا عبادة الله ، وعلى التقديرين : فالاستثناء متصل على تقدير أنهم كانوا مشركين
143
يعبدون الله والأصنام. ومنقطع ؛ على تقدير تمحضهم بعبادة الأوثان ، ويجوز أن تكون {ما} نافية ؛ على أنه إخبار من الله - تعالى - عن الفتية بالتوحيد ، معترض بين " إذ " وجوابه العامل فيها.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {نحن نقصُّ عليك نبأَهم} ، والنبأ : الخبر الذي له شأن وخطر ، قصصًا ملتبسًا {بالحق} : بالصدق الذي لا يطرقه كذب ولا ريبة.
(4/203)
وخبرهم ، حسبما ذكر محمد بن إسحاق : أنه قد مرج أهل الإنجيل ، وظهرت فيهم الخطايا ، وطغت ملوكهم ، فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وكان مَنْ بَالَغَ في ذلك وعتا عتوًا كبيرًا : " دقيانوس " ؛ فإنه غلا فيه غلوًا كبيرًا ، فجاس خلال الديار والبلاد ؛ بالعبث والفساد ، وقتل من خالفه ممن تمسك بدين المسيح ، وكان يتتبع الناس فيُخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فمن رغب في الحياة الدنيا الدنية : تبعه وصنع ما يصنع ، ومن آثر عليها الحياة الأبدية : قتله وقطع آرابه ، وعلّقها بسور المدينة وأبوابها. فلما رأى الفتيةُ ذلك ، وكانوا عظماء مدينتهم ، وكانوا بني الملوك ، قاموا فتضرعوا إلى الله تعالى ، واشتغلوا بالصلاة والدعاء ، فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار ، فأحضروهم بين يديه ، فقال لهم ما قال ، فخيَّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فقالوا : إن لنا إلهًا ملأ السماواتِ والأرض عظمةً وجبروتًا ، لن ندعو من دونه أحدًا ، ولن نُقر بما تدعونا إليه أبدًا ، فاقض ما أنت قاض ، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة ، وأخرجهم من عنده. زاد في رواية : وضمنهم أهلهم ، وخرج إلى مدينة (نينوى) ؛ لبعض شأنه ، وأمهلهم إلى رجوعه ؛ ليتأملوا في أمرهم ، وإلاَّ فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 143
(4/204)
فأجمعت الفتيةُ على الفرار والالتجاء إلى الكهف الحصين ، فأخذ كلٍّ منهم من بيت أبيه شيئًا ، فتصدقوا ببعضه ، وتزودوا بالباقي ، فأَوَوْا إلى الكهف. وفي رواية : أنهم مروا بكلب فتبعهم ، على ما يأتي في شأنه ، فجعلوا يُصَلُّون في ذلك الكهف آناء الليل وأطراف النهار ، ويبتهلون إلى الله - سبحانه - بالأنين والجُؤَار ، ففوضوا أمر نفقتهم إلى " يمليخا " ، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان ، ويلبس ثياب المساكين ، ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ، ويتحسس ما فيها من الأخبار ، ويعود إلى أصحابه ، فلبثوا على ذلك إلى أن قَدِم الجبارُ المدينةَ فطلبهم ، وأحضر آباءهم ، فاعتذروا بأنهم عَصَوْهم ونهبوا أموالهم ، وبذروها في الأسواق ، وفروا إلى الجبل. فلما رأى " يمليخا " ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي ، ومعه قليل من الزاد ، فأخبرهم بما شهد من الهول ، ففزعوا إلى الله - عزّ وجلّ - وخروا له سُجدًا ، ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم ، فبينما هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم فناموا ، ونفقتُهم عند رؤوسهم. فخرج " دقيانوس " في طلبهم بخيله ورَجله ، فوجدهم قد دخلوا الكهف ، فأمر بإخراجهم فلم يُطق أحدٌ منهم أن يَدخله ، فلما ضاق بهم ذرعًا ،
144
قال قائل منهم : أليس لو كنتَ قدرتَ عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى. قال : فابْنِ عليهم باب الكهف وَدَعْهم يموتوا ؛ جُوعًا وعَطَشًا ، ففعل فكان شأنهم ما قص الله تعالى ، إذ قال :
(4/205)
{إِنهم فتيةٌ} ، استئناف بياني ، كأن سائلاً سأل عن حالهم ، فقال : إنهم فتية شبان كاملون في الفتوة {آمنوا بربهم} ، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم ، {وزدناهم هُدىً} ؛ بأن ثبَّتناهم على ما كانوا عليه ، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء. وفيه التفات إلى التكلم ؛ لزيادة الاعتناء بشأنهم ، {وربطنا على قلوبهم} أي : قويناهم ، حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان ، والنعيم والإخوان ، واجترأوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر ، والرد على دقيانوس الجبار ؛ {إِذْ قاموا} أي : انتصبوا لإظهار شعار الدين ، قال مجاهد : خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد. فقال أكبرهم : إني لأجد في نفسي شيئًا ، إن ربي هو رب السماوات والأرض ، فقالوا : نحن أيضًا كذلك ، فقاموا جميعًا {فقالوا ربُنا ربُّ السماواتِ والأرضِ} ، وعزموا على التصميم بذلك. وقيل : قاموا بين يدي الجبار من غير مبالاة به ، حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام ، فحينئذ يكون ما سيأتي من قوله تعالى : {هؤلاء...} الخ : منقطعًا صادرًا عنهم ، بعد خروجهم من عنده.
جزء : 4 رقم الصفحة : 143
ثم قالوا : {لن ندعوَ من دونه إِلهًا} ، لا استقلالاً ولا اشتراكًا ، ولم يقولوا : ربًا ؛ للتصميم على الرد على المخالفين ، حيث كانوا يُسمون أصنامهم آلهة ، وللإشعار بأن مدار العبودية على وصف الألوهية. {لقد قُلنا إِذًا شَطَطًا} : قولاً ذا شطط ، وهو الجور والتعدي ، أي : لقد جُرنا وأفرطنا في الكفر ، وقلنا قولاً خارجًا عن حد المعقول ، إنْ دعونا إلهًا غير الله جَزْمًا. {هؤلاء قومُنَا} قد {اتخذوا من دون آلهةً} ، فيه معنى الإنكار ، {لولا} : هلا {يأتونَ عليهم} : على ألوهيتهم {بسلطان بَيِّن} : بحجة ظاهرة ، {فمن أظلمُ} أي : لا أحد أظلم {ممن افترى على الله كذبًا} بنسبة الشريك إليه ؛ فإنه أظلم من كل ظالم.
(4/206)
{وإذ اعتزلتموهم} أي : فارقتموهم {و} فارقتم {ما يعبدون إِلا الله فَأْووا إِلى الكهف} : فالتجئوا إليه ، والمعنى : وإذا اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقاديًا فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانيًا ، {ينشرْ لكم ربٌُّكم} : يبسط لكم ويوسع عليكم {من رحمته} في الدارين ، {ويهيئْ لكم من أمركم} الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين ، {مِرْفَقًا} : ما ترتفقون به ، أي : تنتفعون ، وجزمهم بذلك ؛ لنصوع يقينهم ، وقوة وثوقهم بفضل الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد وصف الله - تعالى - أهلَ الكهف بخمسة أوصاف هي من شعار الصوفية ؛ الإيمان ، الذي هو الأساس ، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول إلى
145
صريح العرفان ، وربط القلب في حضرة الرب ، والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد ، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق.
وقال الورتجبي في قوله تعالى : {وزدناهم هُدىً} : أي : زدناهم نورًا من جمالي ، فاهتدوا به طرق معارف ذاتي وصفاتي ، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد ؛ لأن نوري لا نهاية له. وقال عند قوله : {إِذ قاموا} : قد استدل بهذه الآية بعضُ المشايخ على حركة الواجدين في وقت السماع والذكر ؛ لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرَّكها أنواعُ الأذكار وما يَرِد عليها من فنون السماع. والأصل قوله : {وربطنا على قلوبهم إِذ قاموا} ، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قيامًا بالصورة ، أي : الحسية في القيام الحسي ، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية ، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين ، فالاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن ، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة. هـ.
(4/207)
قلت : الحاصل : أنا إذا حملنا القيام على الحسي ففيه دليل لأهل البداية على القيام في الذكر والسماع. وإذا حملناه على القيام المعنوي ، وهو النهوض في الشيء ، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك ، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد في بدايته ونهايته. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 143
وقال ابن لب : قد اشتهر الخلاف بين العلماء في القيام لذكر الله - تعالى - وقد أباحته الصوفية ، وفعلته ودامت عليه ، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله - عزّ وجلّ - في أصحاب الكهف : {إِذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السماوات والأرض} ، وإن كانت الآية لها محامل أخرى سوى هذا. هـ. قلت : وقوله تعالى : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً} [آل عمران : 191] : صريح في الجواز.
وقال في القوت : وقد روينا أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يظهر التأوه والوجد ، فقال مَنْ كان معه : أتراه يا رسولَ الله مُرائيًا ؟ فقال : " لا ، بل أوّاه منيب " ، وقال لآخر : أظهر صوته بالآية : " أِسْمِع الله عزَّ وجّل ولا تُسَمِّع " ، فأنكر عليه بما شهد فيه ، ولم ينكر على أبي موسى قوله : (لو علمتُ أنك تَسمع لحبَّرته لك تحبيرًا) ؛ لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به ، ولذا كل من كان له حسن قصد ، ونية خير ، في إظهار عمل ، فليس من السمعة والرياء في شيء ؛ لتجرده من الآفة الدنيوية ، وهي الطمع والمدح. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 143
(4/208)
قلت : {تزاور} أصله : تتزاور ، فأُدغمت التاء في الزاي. وقرأ الكوفيون بحذفها ، وابن عامر ويعقوب : " تَزَوَّرُ " كتَمرد ، كلها من الزَّوْر بمعنى الميل. و {ذات اليمين} : ظرف بمعنى الجهة. وجملة : {وهم في فجوة} : حال ، و {ذراعيه} : مفعول " باسط " ؛ لأنه حكاية حال ، أي : يبسط ، و {فرارًا} : مصدر ؛ لأنه عبارة عن معنى التولية ، أو حال ، أي : لوليت فارًا ، و {رُعْبًا} : مفعول ثان لملئت ، أو تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في بيان حالهم بعدما أووا إلى الكهف : {وترى الشمسَ إِذا طلعت تزَاورُ} أي : تنتحي وتميل {عن كهفهم} الذي أووا إليه ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقًا ، بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم {ذاتَ اليمين} أي : جهة ذات يمين الكهف ، عند الداخل إلى قعره ، {وإِذا غَرَبَت} أي : وتراها إذا غربت {تَقْرِضُهم} أي : تقطعهم وتتعدى عنهم {ذاتَ الشمال} أي : جهته وجانبه الذي يلي المشرق. وكان ذلك بتصريف الله تعالى على منهاج خرق العادة ؛ كرامة لهم. وقيل : كان باب الكهف شماليًا يستقبل بنات نعش ، {وهم في فجوةٍ منه} : في موضع واسع منه ، وذلك موقع لإصابة الشمس ، ومع ذلك يُنحيها الله عنهم.
{ذلك من آيات الله} أي : ما صنع الله بهم من ميل الشمس عنهم عند طلوعها وغروبها ، من آيات الله العجيبة الدالة على كمال علمه وقدرته ، وفضيلة التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه. قال بعضهم : هذا قبل سد دقيانوس باب الكهف ، قلت : كان قبل السد وبعد هدم السد ؛ لأنه هُدم بعدُ ، فما قام أهل الكهف حتى وجدوه مهدومًا. وظاهر الآية يُرجح من قال : إنه من باب خرق العادة.
(4/209)
{مَن يَهدِ الله فهو المهتدِ} الذي أصاب الفلاح. والمراد : إما الثناء عليهم ، والشهادة بإصابة المطلوب ، والإخبار بتحقيق ما أمَّلُوه من نشر الرحمة وتهيئة المرافق ، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة ، ولكن المنتفع بها هو مَنْ وفقه الله وهداه للاستبصار بها ، {ومن يُضلل} أي : يخلق فيه الضلال ؛ بصرف اختياره إليه ، {فلن تجد له} ، ولو بالغت في التتبع والاستقصاء ، {وليًّا} : ناصرًا {مُرشدًا} ، يهديه إلى ما ذكر من الفلاح. والجملة معترضة بين أجزاء القصة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 146
ثم قال : {وتحسبُهُم} بالفتح والكسر ، أي : تظنهم {أيقاظًا} ، لانفتاح أعينهم ، أو لكثرة تقلبهم ، وهو جمع " يقظ " ؛ بظم القاف وكسرها ، {وهم رقود} أي : نيام ،
147
{ونُقلِّبهم} في رقودهم {ذاتَ اليمين} أي : جهة تلي أيمانهم ، {وذات الشمال} أي : جهة تلي شمائلهم ؛ لكي لا تأكل الأرضُ ما يليها من أبدانهم. قال ابن عباس رضي الله عنه : لو لم يتقلبوا لأكلتهم الأرض. قيل : كانوا يتقلبون مرتين في السنة. وقيل : مرة يوم عاشوراء. وقيل : في تسع سنين.
{وكلبهم باسطٌ ذراعيه} ، حكاية حال ماضية أي : يبسط ذراعيه ، وهو من المرفق إلى رأس الأصابع. {بالوصيد} أي : بموضع من الكهف ، وقيل : بالفِناء من الكهف ، وقيل : العَتَبة. وهذا الكلب ، قيل : هو كلبٌ مَروا به فتبعهم ، فطردوه مرارًا ، فلم يرجع ، فأنطقه الله ، فقال : يا أولياء الله لا تخشوا إصابتي ؛ فإني أُحب أحباء الله ، فناموا حتى أحرُسَكم. وقيل : هو كلبُ راعٍ مروا به فتبعهم على دينهم ، ومر معه كلبه ، ويؤيده قراءة : (وَكَالِبُهُمْ) أي : وصاحب كلبهم ، وقيل : هو كلب صيد لهم أو زرع ، واختُلف في لونه ؛ قيل أحمر ، وقيل : أصفر ، وقيل : أصهب.
(4/210)
{لو اطّلعتَ عليهم} أي : لو عاينتهم وشاهدتهم. والاطلاع : الإشراف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة ، {لولَّيت منهم فرارًا} : هربًا بما شاهدت منهم ، {ولمُلئتَ منهم رُعْبًا} ، أي : خوفًا يملأ الصدور برُعبه ، لِمَا ألبسهم الله من الرهبة ، أو لعظم أجرامهم وانفتاح أعينهم ، وكانت منفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم. وعن معاوية : أنه غزا الروم فمرّ بالكهف ، فقال : لو كُشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال ابن عباس رضي الله عنه : ليس لك ذلك ؛ قد منع الله تعالى مَنْ هو خير منك ، حيث قال : {لو اطلعت عليهم...} الآية ، فلم يسمع ، وقال : ما أنتهي حتى أعْلَم علمهم ، فبعث ناسًا ، وقال : اذهبوا فانظروا ، ففعلوا ، فلما دخلوا بعث الله ريحًا فأحرقتهم. هـ.
الإشارة : للصوفية - رضي الله عنهم - تشبه قويّ بأهل الكهف ، في الانقطاع إلى الله ، والتجرد عن كل ما سواه ، والانحياش إلى الله ، والفرار من كل ما يشغل عن الله ، والتماس الرحمة الخاصة من الله ، وطلب التهيئة لكل رشد وصواب ، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دَعَوْا به ، حين أووا إلى كهف الإيواء ؛ تَشَبُّهًا بهم في مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس. ولذلك لَمَّا تشبهوا بهم حفظهم الله - أي : الصوفية - ممن رام أذاهم ، وغيّبهم عن حس أنفسهم ، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته ، ومن تمام التشبه بهم : أنك قلَّ أن تجد فرقة تُسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم ، حتى شهدتُ ذلك في جُل أسفارنا مع الفقراء ؛ تحقيقًا لكمال التشبيه. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 146
(4/211)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وكذلك} أي : وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلاء والتحلل ، وكان ذلك آية دالة على كمال قدرتنا ، {بعثناهم} من النوم {ليتساءلوا بينهم} أي : ليسأل بعضُهم بعضًا ، فيترتب عليه ما فصّل من الحِكَم البالغة ، أو : ليتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيزدادوا يقينًا على كمال قدرة الله ، ويستبصروا أمر البعث ، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم.
{قال قائلٌ منهم} هو رئيسهم ، واسمه : " مكْسلَيمنيا " : {كم لبثتمْ} في منامكم ؟ لعله قال ذلك ؛ لِمَا رأى من مخالفة حالهم ، لِمَا هو المعتاد في الجملة ، {قالوا} أي : بعضهم : {لبثنا يومًا أو بعض يوم} ، قيل : إنما قالوا ذلك ؛ لأنهم دخلوا الكهف غُدوة ، وكان انتباههم آخر النهار ، فقالوا : {لبثنا يومًا} ، فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعدُ قالوا : {أو بعض يوم} ، وكان ذلك إخبارًا عن ظنِّ غالب ، فلم يُعْزَوْا إلى الكذب.
{قالوا} أي : بعضٌ آخر منهم ، بما سنح له من الأدلة ، ولِمَا رأى من طول أظافرهم وشعورهم : {ربكُم أعلمُ بما لبثتم} أي : أنتم لا تعلمون مدة لبثكم ، وإنما يعلمها الله - سبحانه - ، وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من حسن الأدب ، {فابعثوا أحَدكم بورقكم هذه إِلى المدينة} ، أعرضوا عن البحث عن المدة ، وأقبلوا على ما يهم في الوقت ، والورق : الفضة ، مضروبة أو غير مضروبة ، ووصْفُها باسم الإشارة يقتضي أنها كانت معينة ليشتري بها قوت ذلك اليوم ، وحملها دليل على أن التزود لا ينافي التوكل ، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتزود لغار حراء ليتعبد فيه. ثم قالوا : {فلينظر أيُّها} أي : أيُّ أهلها {أزكى طعامًا} أي : أحل وأطيب ، أو أكثر وأرخص ، {فليأتِكُمْ برزقٍ منه} أي : من ذلك الأزكى طعامًا ، {وليتلطف} : وليتكلف اللطفَ في دخول المدينة وشراء الطعام ، لئلا يُعرف ، {ولا يُشْعِرَنَّ بكم أحدًا} ؛ ولا يخبر بكم ولا بمكانكم أحدًا من أهل المدينة ، أو : لا يفعل ما يؤدي إلى ذلك.
(4/212)
جزء : 4 رقم الصفحة : 148
ثم علل النهي بقوله : {إِنهم إِن يَظْهَرُوا عليكم} : يطلعوا عليكم ، أو يظفروا بكم ، والضمير : للأهل المقدر في " أيها " ، أي : إنَّ أهل المدينة إن يظفروا بكم {يَرجُموكم} إن ثبتم على ما أنتم عليه ، {أو يُعيدوكم في مِلَّتهمْ} أي : يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها ؛ كرهًا ، كقوله تعالى : {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم : 13] ، وقيل : كانوا على ملتهم ثم خالفوهم للحق. {ولن تُفلحوا إِذًا} ؛ إن دخلتم فيها ، ولو بالكره والجبر ، {أبدًا} ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وفيه من التشديد والتحذير ما لا يخفى.
149
الإشارة : وكذلك بعثنا مَنْ توجه إلينا من نوم الغفلة والجهالة ليتساءلوا بينهم ؛ ليتعرفوا ما أنعم الله به عليهم من اليقظة والنجاة من البطالة ، فإذا انتبهوا من نوم الغفلة ، استصغروا أيام البطالة ؛ لأن أيام الغفلة قليلة أمدادها ، وإن كثرت آمادها ، وفي الحِكَم : " رب عمر اتسعت آماده ، وقَلَّْتْ أمداده " ، بخلاف زمان اليقظة ، فإنه كثيرة أمداده ، وإن قلّتْ آماده ، فهو طويل ؛ معنىً ، وإن قلَّ ؛ حسًا ، ولذلك قال في الحِكَم أيضًا : " ورب عمر قليلةٌ آماده ، كثيرةٌ أمداده ". وقال أيضًا : " من بورك له في عمره : أدرك في يسيرٍ من الزمان مِنْ مِنَن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة ".
فإن توقفوا على قوت أشباحهم التمسوا أطيبه وأزكاه وأحله ، فإنَّ أكل الحلال يُنور القلوب وينشط الأعضاء للطاعة ، وتلطفوا في أخذه من غير مزاحمة ولا حرص ولا تعب ، فإنْ أطلعهم الله على سره المكنون من أسرار ذاته بالغوا في إخفائه ، حتى لا يُشْعروا به أحدًا من خلقه ، غير من هو أهلٌ له ؛ لأنهم ، إن أظهروه لغيرهم ، رجموهم أو أعادوهم إلى ملتهم ، بأن يقهروهم إلى الرجوع عن طريق القوم ، ولن يفلحوا إذًا أبدًا. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 148
(4/213)
قلت : {إذ يتنازعون} : ظرف لقوله : {أعثرنا} ، لا ليعلموا ، أي : أعثرنا هم عليهم حين يتنازعون بينهم... الخ ، و {رجمًا} : حال ، أي : راجمين بالغيب ، أو مفعول مُطلق ، أي : يرجمون رجمًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وكذلك} أي : وكما أنمناهم وبعثناهم لازدياد يقينهم {أعْثَرْنا عليهم} : أطلعنا الناس عليهم {ليَعْلموا} أي : ليعلم القوم الذين كانوا في ذلك الوقت {أنَّ وعد الله} أي : وعده بالبعث والثواب والعقاب {حقٌّ} صادق لا خُلْف فيه ، أو : ثابت لا مرد له ؛ لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يُبعث ، {وأنَّ الساعة} أي : القيامة ، التي هي عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعًا ؛ للحساب والجزاء ، {لا ريبَ فيها} : لا شك في قيامها ، فإنَّ مَنْ شاهد أنه جلّ وعلا تَوفَّى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر ، حافظًا لأبدانها من التحلل والفساد ، ثم أرسلها كما كانت ، لا يبقى معه
150
ريب ، ولا يختلجه شك ، في أن وعده تعالى حق ، وأنه يبعث مَنْ في القبور ، ويجازيهم بأعمالهم.
وكان ذلك الإعثار {إِذْ يتنازعون} : حين كانوا يتنازعون {بينهم أمْرَهُم} ، في أمر البعث مختلفين فيه ؛ ففرقة أقرّت ، وفرقة جَحَدّتْ ، وقائل يقول : تُبعث الأرواح فقط ، وآخر يقول : تُبعث جميعُ الأجسام بالأرواح ، قيل : كان ملك المدينة حينئذ رجلاً صالحًا ، ملَكها ثمانيًا وعشرين سنة ، ثم اختلف أهلُ مملكته في البعث كما تقدم ، فدخل الملِكُ بيته وغلق الباب ، ولبس مسحًا وجلس على رماد ، وسأل ربه أن يظهر الحق ، فألقى الله - عزّ وجلّ - في نفس رجل من ذلك البلد الذي فيه الكهف ، أن يهدم بنيان فم الكهف ، فهدم ما سدَّ به " دقيانوس " بابَ الكهفِ ؛ ليتخذه حظيرة لغنمه ، فعند ذلك بعثهم الله - تعالى - فجرى بينهم من التقاول ما جرى.
(4/214)
رُوِيَ أنَّ المبعوث لمَّا دخل المدينة ؛ ليشتري الطعام ، أخرج دراهمه ، وكانت على ضرب (دقيانوس) ، فاتهموه أنه وجد كنزاً ، فذهبوا به إلى الملك ، فقص عليه القصة ، فقال بعضهم : إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من (دقيانوس) ، فلعلهم هؤلاء ، فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة ؛ من مسلم وكافر ، فدخلوا عليهم وكلموهم ، ثم قالت الفتية للملك : نُودعك الله ونعيذك به من الإنس والجن ، ثم رجعوا إلى مضاجعهم ، فماتوا ، فألقى المَلِكُ عليهم ثيابه ، وجعل لكل منهم تابوتًا من ذهب ، فرآهم في المنام كارهين للذهب ، فجعلها من الساج ، وبنى على باب الكهف مسجدًا. وقيل : لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى : مكانَكَم حتى أدخل أولاً ؛ لئلا يفزعوا ، فدخل ، فَعُمِّي عليهم المدخل ، فبنوا ثَمَّةَ مسجدًا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 150
وقيل : المتنازَع فيه : أمر الفتية قبل بعثهم ، أي : أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرهم ، وما جرى بينهم وبين دقيانوس من الأحوال والأهوال ، ويتلقون ذلك من الأساطير وأفواه الرجال. وعلى التقديرين : فالفاء في قوله : {فقالوا ابنُوا} فصيحة ، أي : أعثرنا عليهم فرأوا ما رأوا ، ثم ماتوا ، فقال بعضهم : {ابنوا عليهم} : على باب كهفهم {بُنيانًا} ؛ لئلا يتطرق إليهم الناس ، ففعلوا ذلك ؛ ضنًا بمقامهم ومحافظة عليهم.
ثم قالوا : {ربهم أعلمُ بهم} ، كأنهم لما عجزوا عن إدراك حقيقة حالهم ؛ من حيث النسبة ، ومن حيث العدد ، ومن حيث بُعد اللبث في الكهف ، قالوا ذلك ؛ تفويضًا إلى علام الغيوب. أو : يكون من كلامه سبحانه ؛ ردًا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ، {قال الذين غلبوا على أمرهم} ، وهو الملك والمسلمون ، وكانوا غالبين في ذلك الوقت : {لنَتَّخِذَنَّ عليهم مسجدًا} ، فذكر في القصة أنه جعل على باب الكهف مسجدًا يصلي فيه.
151
(4/215)
ثم وقع الخوض في عهد نبينا - عليه الصلاة والسلام - بين نصارى نجران حين قدموا المدينة ، فجرى بينهم ذكر أهل الكهف وبين المسلمين في عددهم ، كما قال تعالى : {سيقولون ثلاثةٌ رابعُهُم كلبهم} ، وهو قول اليعقوبية من النصارى ، وكبيرهم السيد ، وقيل : قالته اليهود ، {ويقولون خمسة سادِسُهم كلبهُم} ، هو قول النسطورية منهم ، وكبيرهم العاقب ، {رجمًا بالغيب} : رميًا بالخبر من غير اطلاع على حقيقة الأمر ، أو ظنًا بالغيب من غير تحقيق ، {ويقولون سبعة وثامنهمْ كلبهم} ، وهو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي ، وعدم نظمه في سلك الرجم بالغيب ، وتغيير سبكه ؛ بزيادة الواو المفيدة لزيادةِ تأكيد النسبة فيما بين طرفيها ، يَقضي بصحته.
قال تعالى : {قل} يا محمد ؛ تحقيقًا للحق ، وردًا على الأولين : {ربي أعلم بعدَّتهم} أي : ربي أقوى علمًا بعدتهم ، {ما يعلمهم} أي : ما يعلم عددهم {إِلا قليلٌ} من الناس ، قد وفقهم الله تعالى للاطلاع عليهم بالدلائل أو بالإلهام. قال ابن عباس رضي الله عنه : " أنا من ذلك القليل " ، قال : حين وقعت الواو انقطعت العدة ، وأيضًا حين سكت عنه تعالى ولم يقل : رجمًا بالغيب ، علم أنه حق. وعن علي - كرم الله وجهه - : أنهم سبعة ، أسماؤهم : يمليخا ، وهو الذي ذهب بورقهم ، ومكسيلمينيا ، وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومشلينا ، وفي رواية الطبري : ومجْسَيْسِيا بدله ، وهؤلاء أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره : مرنوش ودبرنوش وجشاذنوس ، وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره ، و السابع : الراعي الذي تبعهم حين هربوا من دقيانوس ، واسمه : كفشططيوش. وذكر ابن عطية عن الطبري غير هؤلاء ، وكلهم عجميون ، قال : والسندُ في معرفتهم واهْ. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 150
(4/216)
الإشارة : عادة الحق تعالى في أوليائه أن يُخْفِيهم أولاً عن أعين الناس ، رحمةً بهم ؛ إذ لو أظهرهم في البدايات ؛ لفتنوهم وردوهم إلى ما كانوا عليه ، حتى إذا تخلصوا من البقايا ، وتمكنوا من معرفة الحق وشهوده ، أعثر عليهم من أراد سعادته ووصوله إلى حضرته ؛ ليعلموا أن وعد الله بإبقاء العدد الذين يحفظ الله بهم نظام العالم في كل زمان حق ، وأنّ خراب العالم بانقراضهم ، وقيام الساعة لا ريب فيه. وفي الآية تنبيه على ذم الخوض بما لا علم للعبد به ، ومدح من رد العلم إلى الله في كل شيء. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 150
قلت : {إلا أن يشاء} : استثناء مفرغ من النهي ، أي : لا تقولن في حال من الأحوال ، إلا حال ملابسةٍ بمشيئته تعالى على الوجه المعتاد ، وهو أن تقول : إن شاء الله ، أو : في وقت من الأوقات ، إلا وقت إن شاء الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {فلا تُمَارِ} أي : لا تجادل {فيهم} ؛ في شأن أهل الكهف {إِلا مِراءً ظاهرًا} قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم ، من غير زيادة عليه ، مع تفويض العلم إلى الله ، فلا تُصرح بجهلهم ، ولا تفضح خطأهم ، فإنه يُخل بمكارم الأخلاق ، {ولا تَسْتَفْتِ فيهم} : في شأنهم {منهم} ؛ من الخائضين {أحدًا} ؛ فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن ذلك ، مع أنهم لا علم لهم بذلك.
(4/217)
{ولا تقولنّ لشيء} أي : لأجل شيء تعزم عليه : {إِني فاعلٌ ذلك} الشيء {غدًا} : فيما يستقبل من الزمان مطلقًا ، فيصدق بالغد وما بعده ؛ لأنه نزل حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين. فسألوه صلى الله عليه وسلم فقال : " غدًا أخبركم " ، ولم يستثن ، فأبطأ عليه الوحي ، حتى شقَّ عليه ، وكذبته قريشٌ ، ثم نزلت السورة بعد أربعة عشر يومًا ، أو قريبًا منها ، على ما ذكره أهل السِّيَر ، أي : لا تَقُلْ إني فاعل شيئًا في حال من الأحوال إلا متلبسًا بمشيئته على الوجه المعتاد ، وهو أن تقول : إن شاء الله ، أو في وقت من الأوقات ، إن شاء الله أن تقوله ، بمعنى : أن يأذن لك فيه ، فإن النسيان بمشيئته تعالى.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 152
واذكر ربكَ} بقولك : إلا أن يشاء الله ؛ مستدركًا له ، {إِذا نسيتَ} : إذا فرط منك نسيان ثم ذكرته. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه : ولو بعد سنة ما لم يحنث. ولذلك جوَّز تأخير الاستثناء. وعامة الفقهاء على خلافه ، إذ لو صح ذلك لما تقرر طلاق ولا عتاق ، ولم يعلم صدق ولا كذب ، وقال القرطبي : هذا في تدارك الترك والتخلص من الإثم ، وأما الاستثناء المغير للحكم فلا يكون إلا متصلاً به ، ويجوز أن يكون المعنى : واذكر ربك ؛ بالتسبيح والاستغفار ؛ إذا نسيت الاستثناء ؛ مبالغة في الحث عليه ، أو : اذكر ربك إذا اعتراك نسيان ؛ لتستدرك ما فات ، وحُمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. وسيأتي في الإشارة بقية الكلام عليها.
153
(4/218)
{وقل عسى أن يَهْديَنِ ربي} : يوفقني {لأقربَ من هذا} أي : لنبأ أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف ، من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي ، {رَشَدًا} أي : إرشادًا للناس ودلالة على ذلك. وقد فعل عزّ وجلّ ذلك ؛ حيث آتاه من البينات ما هو أعظم وأبين لقصص الأنبياء ، المتباعدة أيامهم ، والإخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعمار المستقبلة إلى قيام الساعة. أو : لأقرب رشدًا وأدنى خيرًا من المَنْسِي ، أي : عسى أن يدلني على ما هو أصلح لي من الذي نسيته ؛ إذ يجوز أن يكون نسيانه خيرًا له من ذكره ؛ إذ فيه إظهار قهريته تعالى ، وغناه عن خلقه ، وعدم مبالاته بإدبار من أدبر وإقبال من أقبل ، أو : الطريق الأقرب من هذا الذي هدى إليه أهل الكهف ؛ رشدًا وصوابًا ، وقد فعل ذلك حيث هداه إلى الدين القيِّم الذي أظهره على الأديان كلها ، ولو كره المشركون.
{ولَبِثُوا في كهفهم} ؛ أحياءً ، مضروبًا على آذانهم ، {ثلاث مائةٍ سنينَ وازدادوا تسعًا} ، رُوي عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال : عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية ، والله تعالى ذكر السنة القمرية ، والتفاوت بينهما في كل مائة ثلاثُ سنين ، فيكون ثلاث مائة سنة وتسع سنين. هـ. {قُلِ الله أعلم بما لَبِثُوا} أي : الزمان الذي لبثوا فيه. {له غيبُ السماوات والأرض} أي : ما غاب فيهما ، وخفي من أحوال أهلها ، {أبصِرْ به وأسمعْ} أي : ما أسمعه وما أبصره. دل بصيغة التعجب على أن سمعه تعالى وبصره خارج عما عليه إدراك المدركين ؛ لأنه تعالى لا يحجبه شيء ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيف والكثيف ، والصغير والكبير ، والخفي والجلي. والتعجب في حقه تعالى مجاز ؛ لأنه إنما يكون مما خفي سببه ، ولأنه دهشة وروعة تلحق المتعجب عند معاينة ما لم يعتَدْه ، وهو تعالى منزَّه عن ذلك ، فيُؤَوَّل بأنه مبالغة في إحاطة سمعه وبصره بكل شيء ، كما تقدم.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 152
(4/219)
ما لهم من دونه من وليٍّ} أي : ما لأهل السماوات والأرض من دونه تعالى من ولي ؛ يتولى أمورهم وينصرهم إلا هو سبحانه ، {ولا يُشرِكُ في حُكمِهِ} : في قضائه في علم الغيب {أحدًا} منهم ، ولا يجعل له فيه مدخلاً ، وقرئ بالخطاب لكل أحد ، أي : ولا تشرك أيها السامع في حكمه وتدبيره أحدًا من خلقه ، فإنه لا فعل له ولا تدبير. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية :
الأولى : ترك المراء والجدال ، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة في استخراج الحق أو تحقيقه ، من غير ملاججة ولا مخاصمة ، في سهولة وليونة وسلامة القلوب.
الثانية : استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور ؛ قال صلى الله عليه وسلم " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ ، وإنْ أفتاك المفْتونَ وأفتَوْك ، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه ، والإثم ما حاك في الصدر
154
وتردد " ، والمراد بالقلوب التي تُسْتَفْتَى. القلوب الصافية المنورة بذكر الله ، الزاهدة فيما سوى الله ، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق ، ولا تسكن إلا إلى الحق ، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى ، فلا تفتي إلا بما يوافق هواها. الثالثة : التفويض إلى مشيئة الله وتدبيره ، والرضا بما يبرز به القضاء ، بحيث لا يعقد على شيء ، ولا يجزم بفعل شيء ، إلا ملتبسًا بمشيئة الله ، فينظر ما يفعل الله ، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل الله به ، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه ، كما قال صاحب الحِكم.
الرابعة : الاشتغال بالذكر والفكر ، حتى يغيب عما سوى المذكور ؛ قال تعالى : {واذكر ربك إذا نسيت} أي : إذا نسيت ما سواه ، حينئذ تكون ذاكرًا حقيقة ، فالذكر الحقيقي : هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه ، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه ؛ لشدة غيبته فيه ، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته.
(4/220)
الخامسة : التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين ، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه ، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته ، {وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا} ، وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 152
يقول الحقّ جلّ جلاله : {واتلُ ما أُوحي إليك من كتاب ربك} أي : أسرده على ما نزل ، ولا تسمع لقولهم {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ} [يونس : 15] ، أو اتبع أحكامه ، {لا مُبدِّل لكلماته} : لا قادر على تبديله غيره ، أو : لا مغير لما وعد بكلماته للمخالفين له ، {ولن تجدَ} أبدًا {من دونه مُلتحدًا} أي : ملجأ ، تعدل إليه عند إلمام مُلمة ، أو : لن تجد ، إن بدلت ؛ تقديرًا ، وخالفت ما أنزل إليك ، ملتحدًا : ملجأ تميل إليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : القرآن شفاء لكل داء فمن نزلت به شدة حسية أو معنوية ، دنيوية أو دينية ، ففزع إليه بالتلاوة أو الصلاة به ، رأى فَرَجًا ، وقريبًا ، فالالتجاء إلى كلام الله هو الالتجاء
155
إلى الله ، فإنَّ الحق تعالى يتجلى في كلامه للقلوب على قدر صفائها ، وأما من التجأ إلى غير الله فقد خاب رجاؤه وبطل سعيه ؛ قال تعالى : {ولن تجد من دونه ملتحدًا} تميل إليه فيأويك. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 155
قلت : {ولا تعد} : نهي مجزوم بحذف الواو ، و {عيناك} : فاعل ، و {تريد} : حال من الكاف ، أو من فاعل {تَعْدُ}.
(4/221)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {واصبرْ نفسك} أي : احبسها {مع الذين يدعون ربهم} أي : يعبدونه {بالغداةِ والعَشِيِّ} ، قيل : الصلوات الخمس ، فالغداة : الصبح ، والعَشِيِّ : الظهر وما بعده ، وقيل : الصبح والعصر ، قلت : والأظهر أنها الصلاة التي كانوا يُصلونها قبل فرض الصلاة ، وهي ركعتان بالغداة والعشي. قال ابن عطية : ويدخل في الآية مَنْ يدعو في غير صلاة ، ومن يجمع لمذاكرة علم ، وقد رَوى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَذِكْرُ اللهِ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ أَفْضَلُ مِنْ حَطْمِ السُّيُوف فِي سَبيل اللهِ ، ومِنْ إعْطَاءِ المَال سحا " وقيل : {يدعون ربهم} في جميع الأوقات ، وفي طرفَيْ النهار ، والمراد بهم فقراء المؤمنين ؛ كعمار وصهيب وخباب وبلال ، رُوي أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، وقالوا : إن ريح جِبَابِهم تؤذينا ، فنزلت الآية. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت خرج إليهم وجلس بينهم ، وقال : " الحمدُ لله الذي جَعَلَ في أمتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبرْ نَفْسِي معه " وقيل : نزلت في بيان أهل الصُّفَّة ، وكانوا نحو سبعمائة ، فتكون الآية مدنية.
ثم وصفهم بالإخلاص ، فقال : {يُريدون وجهه} أي : معرفة ذاته ، لا جنة ولا نجاة من نار ، {ولا تَعْدُ عيناك عنهم} أي : لا تجاوزهم بنظرك إلى غيرهم ، من عداه : إذا جاوزه ، وفي الوجيز : ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة ، {تُريد زينةَ الحياةِ الدنيا} أي : تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا.
156
(4/222)
{ولا تُطِعْ} في تنحية الفقراء عن مجلسك {مَن أغفلنا قلبَه عن ذِكْرِنا} أي : جعلناه غافلاً عن الذكر وعن الاستعداد له ، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك ، فإنهم غافلون عن ذكرنا ، على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات ، وفيه تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله - سبحانه - حتى خفي عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل ، لا بتحلية الجسد بالملابس والمآكل. {واتَّبَعَ هواه} : ما تهواه نفسه ، {وكان أمره فُُرطًا} : ضياعًا وهلاكًا ، وهو من التفريط والتضييع ، أو من الإفراط والإسراف ، فإن الغفلة عن ذكر الله - تعالى - تُؤدي إلى اتباع الهوى المؤدي إلى التجاوز والتباعد عن الحق والصواب. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 156
الإشارة : في الآية حثٌّ على صحبة الفقراء والمُكْث معهم ، وفي صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة ، إذ بصحبتهم يَكتسبُ الفقير آداب الطريق ، وبصحبتهم يقع التهذيب والتأديب ، حتى يتأهل لحضرة التقريب ، وبصحبتهم تدوم حياة الطريق ، ويصل العبد إلى معالم التحقيق ، وفي ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه :
مَا لَذّةُ العَيْشِ إلا صُحبة الفُقرا
هُمُ السَّلاَطِينُ والسَّادَاتُ والأُمَرَا
فاصْحَبْهُمُ وتَأَدَّبْ فِي مَجَالِسِهِم
وَخَلِّ حظَّكَ مَهْمَا خَلَّفُوكَ وَرَا
إلى آخر كلامه.
وقوله تعالى : {واصبر نفسك} قال القشيري : لم يقل : واصبر قلبك ؛ لأن قلبه كان مع الحق تعالى ، فأمره بصحبة الفقراء جَهْرًا بجهر ، واستخلص قلبه لنفسه سِرًا بِسرٍّ. هـ. قال الورتجبي : اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء ، العاشقين لجمالي ، المشتاقين إلى جلالي ، الذين هم في جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهي الكريم ، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وَصْلي ، حتى يكونوا مُتسلين بصحبتك عن مقام الوصال ، وفي رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال. هـ.
(4/223)
وقوله تعالى : {يريدون وجهه} ، بيَّن أن دعاءهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه ، شوقًا إليه ومحبة فيه ، من غير تعلق بغيره ، أو شُغل بسواه ، بل همتهم الله لا غيره ، وإِلاَّ لَمَا صدق قصر إرادتم عليه. قال في الإحياء : من يعمل اتقاء من النار خوفًا ، أو رغبة في الجنة رجاء ، فهو من جملة النيات الصحيحة ؛ لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة ، وإن كان نازلاً بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله ، لا لأمرٍ سواه. ثم قال : وقول رويم : الإخلاص : ألا يريد صاحبه عليه عوضًا في الدارين ، هو إشارة لإخلاص الصدِّيقين ، وهو الإخلاص المطلق ، وغيره إخلاص بالإضافة إلى حظوظ العاجلة. هـ. من الحاشية.
157
جزء : 4 رقم الصفحة : 156
قلت : {الحق} : خبر ، أي : هذا الذي أُوحي إليَّ الحقُّ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقل} : يا محمد لأولئك الغافلين المتبعين أهواءهم ، أو : لمن جاءك من الناس : هذا الذي جئتكم به من عند ربي هو {الحقُّ من ربكم} أي : من جهة ربكم ، لا من جهتي ، حتى يتصور فيه التبديل ، أو يمكن التردد في اتباعه. {فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفرْ} ، وهو تهديد ، أي : فمن شاء أن يؤمن فليؤمن كسائر المؤمنين ، ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعليل ، ومن شاء أن يكفر فليفعل ، وفيه مع التهديد الاستغناء عن متابعتهم ، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم.
(4/224)
ثم أوعدهم على الكفر ، فقال : {إِنا أعْتَدْنا للظالمين} أي : هيأنا للكافرين بالحق ، بعد ما جاء من الله سبحانه ، والتعبير عنهم بالظالمين ؛ للتنبيه على أن اختيارهم الكفر ظلمٌ وتجاوزٌ عن الحد ، ووضعٌ للشيء في غير محله ، أي : هيأنا لهم {نارًا} عظيمة {أحاط بهم} أي : محيطُ بهم {سُرادِقُها} أي : سورها المحيط بها ، والتعبير بالماضي ؛ لتحقق وقوعه ، والسرادق : ما يحيط بالشيء ، كالجدار ونحوه. قيل : هو حائط من نار ، وقيل : دخانها. {وإِن يستغيثوا} ؛ من العطش {يُغَاثوا بماء كالمهل} : كَمُذَاب الحديد والرصاص في الحرارة. وقيل : كرديء الزيت في اللون ، {يشوي الوجوه} إذا قُدم ليشرب ؛ بحرارته. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هو كَعَكِرِ الزَّيْتِ ، فَإِذَا قُرّبَ مِن الكافر سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ ، فإذَا شَرِبَهُ تقَطَّعَت أَمْعَاؤُه " {بئسَ الشرابُ} ذلك ، {وساءت} ؛ النار {مُرتفقًا} : مُتَّكًا ، وأصل الارتفاق : نصب المِرفق تحت الخد ليتكئ عليه ، وأنى ذلك في النار ، وإنما هو بمقابلة قوله في المؤمنين : {وحسنت مرتفقًا}.
الإشارة : ينبغي للواعظ ، أو المُذكر ، أو العالم ، ألا يحرص على الناس ، بل يستغني بالله في أموره كلها ، وإنما يُبين الحق من الباطل ، ويقول : هذا الحق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ومن يشاء فليكفر. هذا إذا كان لعامة الناس ، وأما إن كان لخاصتهم ؛ كأهل الرئاسة والجاه ، فاختلف فيه ؛ فقال بعضهم : يسلك هذا المنهاج يُبين الحق ولا يبالي ، محتجًا بالآية ، قال : نحن أمة محمدية ، قال تعالى له : {وقل الحق من
158
ربكم...} الآية ، وقال بعضهم : ينبغي أن يلين لهم القول ؛ لقوله تعالى : {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىا} [طه : 44] ، وهو الأليق بطريق السياسة ، فمن أعرض عن الوعظ ، وبقي على ظلمه ، فالآية تجر ذيلها عليه. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 158
(4/225)
قلت : جملة : {إنّا لا نضيع} : خبر " إن " ، والعائد محذوف ، أي : أحسن عملاً ، أو : وقع الظاهر موقعه ؛ فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذي آمن وعمل صالحًا. و {أولئك} : استئناف ؛ لبيان الأجر ، أو : خبر " إن " ، وما بينهما اعتراض ، أو خبر بعد خبر. و {من أساور} : ابتدائية ، و {من ذهب} : بيانية ، و {أساور} : جمع أسورة ، أو أسوار جمع سوار ، فهو جمع الجمع.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِن الذين آمنوا} أي : اختاروا الإيمان ، من قوله : {فمن شاء فليؤمن} ، وكأنه في المعنى عطف على قوله : {أعتدنا للظالمين} ، أي : والذين آمنوا هيأنا لهم كذا وكذا ، ولعل تغيير سبكه : للإيذان بكمال تنافي مآلَيْ الفريقين ، أي : إن الذين آمنوا بالحق الذي أُوحي إليك {وعَمِلُوا} الأعمال {الصالحات} ، حسبما بيَّن فيما أوحي إليك ، {إِنا لا نُضِيعُ أجرَ من أحسن عملاً} ، وأتقنه على ما تقتضيه الشريعة.
{أولئك} ؛ المنعوتون بهذه النعوت الجليلة {لهم جناتُ عدن تجري} من تحت قصورهم {الأنهار} ؛ من ماء ولبن وخمر وعسل ، {يُحلَّون فيها من أساورَ من ذهب}
أي : كل واحد يُحلَّى بسوارين من ذهب. وكانت الأساور عند العرب من زينة الملوك ، {ويَلْبَسُون ثيابًا خُضْرًا} ، وخصت الخضرة بثيابهم ؛ لأنها أحسن الألوان وأكثرها طراوة. وتلك الثياب {من سُنْدُسٍ وإِستبرقٍ} ، السندس : ما رقَّ من الديباج ، والإستبرق : ما غلظ منه ، جمع النوعين ؛ للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، {متكئين فيها على الأرائك} جمع أريكة ، وهو السرير في الحجَال ، أي : متكئين على الأسرة المُزينة بالستور الرفيعة ، كحال العرائس المتنعمين. {نِعْمَ الثوابُ} ذلك ، {وحَسُنَتْ مُرتفقًا} : متَّكأ. والآية عامة وإن نزلت في خصوص الصحابة رضي الله عنهم ، وأماتنا على منهاجهم. آمين.
الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، وعملوا الأعمال التي تقرب إلى حضرة القدوس ؛ وهي تحملُ ما يثقل على النفوس ، أولئك لهم جنات المعارف ، تجري من
159
(4/226)
تحت قلوبهم أنهار العلوم والمواهب ، يُحلَّون فيها بمقامات اليقين ، ويلبسون ثياب العز والنصر والتمكين ، متكئين على سرر الهنا والسرور ، قد انقضت عنهم أيام المحن والشرور ، جعلنا الله فيهم بمنّه وكرمه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 159
قلت : {رجلين} : بدل من " مثلاً " ، وجملة {جعلنا...} بتمامها : بيان للتمثيل ، أو صفة لرجلين ، و {ما شاء الله} : خبر ، أي : هذا ما شاء الله ، أو الأمر ما شاء الله ، أو مبتدأ حُذف الخبر ، أي : الذي شاء الله كائن ، أو شرطية ، والجواب محذوف ، أيْ : أيّ شيء شاء الله كان ، و {هنالك} : ظرف مقدم ، و {الولاية} : مبتدأ ، والظرف : إشارة إلى الآخرة ، وهذا أحسن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 160
يقول الحقّ جلّ جلاله : {واضربْ لهم} أي : للفريقين ؛ فريق المؤمنين والكافرين المتقدمين ، {مَّثَلاً} ؛ من حيث عصيان الكافر ، مع تقلبه في النعيم ، وطاعة المؤمن ، مع مكابدته مَشَاقَّ الفقر ، وما كان مآلهما ، لا من حيث ما ذكر من أن للكافر في الآخرة كذا وللمؤمن كذا ، أي : واضرب لهم حالي {رجُلَيْن} مقدرين أو محققين ، هما أخوان من بني إسرائيل ، أو شريكان : كافر ، واسمه قُطروس ، ومؤمن ، اسمه يهوذا ، اقتسما ثمانية آلاف دينار ، أو ورثَاها من أبيهما ، فاشترى الكافر بنصيبه ضياعًا وعقارًا ، وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه البر.
160
(4/227)
رُوِيَ : أن الكافر اشترى أرضًا بألف دينار ، فقال صاحبه المؤمن : اللهم إن فلانًا اشترى أرضًا بألف ، وإني أشتري منك أرضًا في الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم إن صاحبي بنى دارًا بألف ، وإني أشتري منك دارًا في الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه تزوج امرأة بألف دينار ، فقال : اللهم ، إن فلانًا تزوج بألف دينار ، وإني أخطب منك من نساء الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه اشترى خادمًا ومتاعًا بألف دينار ، فقال : اللهم إن فلاناً اشترى خادماً ومتاعاً بألف ، وإني أشتري منك خادماً ومتاعاً من الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم أصابته حاجة ، فقال : لعل صاحبي يُناولني معروفه ، فأتاه ، فقال : ما فعل مالك ؟ فأخبره قصته ، فقال : أو إنك لمن المصدقين بهذا ؟ والله لا أعطيك شيئًا ، فلما تُوفيا آل أمرهما إلى ما ذكر الله في سورة الصافات بقوله : {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات : 51 ، 52] الآية.
وبيَّن حالهما في الدنيا بقوله : {جعلنا لأحدهما} وهو الكافر ، {جنتين} : بساتين {من أعنابٍ} : من كروم متنوعة ، {وحفَفناهما بنَخْلٍ} أي : جعلنا النخل محيطة بهما محفوظًا بها كرومهما ، {وجعلنا بينهما} : وسطهما {زرعًا} ؛ ليكون كل منهما جامعًا للأقوات والفواكه ، متواصل العمارة ، على الهيئة الرائقة ، والوضع الأنيق. {كلتا الجنتين آتت أُكُلَها} : ثمرها وبلغ مبلغًا صالحًا للأكل ، {ولم تَظْلِم منه شيئًا} أي : لم تنقص من أكلها شيئًا في كل سنة ، بخلاف سائر البساتين ، فإن الثمار غالبًا تكثر في عام وتقل في عام ، {وفجَّرْنا خِلالهما} : فيما بين كل من الجنتين {نَهَرًا} على حدةٍ ، وقرئ بالسكون. والنهر : الماء الكثير ، وكان لكل بستان نهر ؛ ليدوم شربها ويدوم بهاؤها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 160
(4/228)
ولعل تأخير تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل ، مع أن الترتيب الخارجي العكس ؛ للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين ، كما في قصة البقرة ونحوها ، ولو عكس لأوهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مرتب على بعض.
{وكان له ثمرٌ} أي : وكان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين ، من ثَمُرَ مالُه : إذا كثر. قال ابن عباس : الثمر : جميع المال ؛ من الذهب ، والفضة والحيوان ، وغير ذلك. وقال مجاهد : هو الذهب والفضة خاصة. {فقال لصاحبه} المؤمن ، أخيه أو شريكه ، {وهو يُحاوره} : يراجعه في الكلام ، من حَار إذا رجع ، وذلك أنه سأله عن ماله فيما أنفقه ، فقال : قدمتُه بين يدي ، لأقدم عليه ، فقال له : {أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُ نفرًا} : حَشمًا وأعوانًا وأولادًا ذكورًا ؛ لأنهم الذين ينفرون معه.
{ودخل جَنَّتَهُ} : بستانه الذي تقدم وصفه ، وإنما وحده ؛ إما لعدم تعلق الغرض بتعدده ، أو لاتصال أحدهما بالآخر ، أو لأن الدخول يكون في واحدٍ واحد. فدخله
161
{وهو ظالمٌ لنفسه} ؛ ضارُّ لها بعُجْبه وكفره ، {قال} حين دخوله : {ما أظنُ أن تَبِيدَ هذه} الجنة ، أي : تفنى {أبدًا} ؛ لطول أمده وتمادي غفلته ، وإنكارًا لفناء الدنيا وقيام الساعة ، ولذلك قال : {وما أظنُّ الساعة قائمةً} أي : كائنة فيما سيأتي ، {ولئن رُدِدتُ إِلى ربي} ؛ بالبعث عند قيامها ، كما تقول ، {لأجدنَّ} حينئذ {خيرًا منها} : من الجنتين {مُنقلبًا} أي : مرجعًا وعاقبة ، أي : كما أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني أفضل منه في الآخرة ، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة : اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا ؛ لاستحقاقه لذاتِهِ ، وكرامته عليه ، ولم يَدْرِ أن ذلك استدراج.
(4/229)
{قال له صاحبه} ؛ أخوه المسلم {وهو يُحاوره أكفرتَ بالذي خلقك} أي : أصلك {من ترابٍ} ، فإن خلق آدم عليه السلام من تراب متضمن لخلق أولاده منه ؛ إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس ، انطواءً مجانسًا مُستتْبعًا لجريان آثارها على الكل ، فكان خلْقُه عليه السلام من تراب خلقًا للكل منه ، {ثم من نطفة} هي مادتك القريبة ، {ثم سَوَّاك رجلاً} أي : عدلك وكملك إنسانًا ذكرًا ، أو صيرك رجلاً ، وفي التعبير بالموصول مع صلته : تلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى : {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحَجّ : 5].
جزء : 4 رقم الصفحة : 160
قال البيضاوي : جعل كفره بالبعث كفرًا بالله ؛ لأنه منشأ الشك في كمال قدرة الله ، ولذلك رتَّب الإنكار على خلقه إياه من التراب ، فإن مَنْ قدر على إبداء خلقه منه قدر أن يعيده منه. هـ.
ثم قال أخوه المسلم : {لَكِنَّا} أصله : لكن أنا ، وقُرئ به ، فحُذفت الهمزة ، فالتقت النونان فوقع الإدغام ، {هو الله ربِّي} ، " هو " : ضمير الشأن ، مبتدأ ، خبره : " هو الله ربي " ، وتلك الجملة : خبر " أنا " ، والعائد منها : الضمير ، وقرئ بإثبات " أنا " في الوصل والوقف ، وفي الوقف خاصة ، ومدار الاستدراك قوله تعالى : {أكفرت} ، كأنه قال : أنت كافر ، لكني مؤمن موحد ، {ولا أُشركُ بربي أحدًا} ، وفيه تنبيه على أن كفره كان بالإشراك. قاله أبو السعود.
(4/230)
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : والذي يظهر من قوله : {ولولا إذ دخلت...} الآية ، ومن قوله : {يا ليتني لم أشرك...} الآية ، أنه إشراك بالله في عدم صرف المشيئة إليه ، ودعوى الاستقلال بنفسه دونه ، وقد قال وهب بن منبه : (قرأت في تسعين كتابًا من كتب الله أن من وَكل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر) ، ثم شكه في البعث تكذيب بوعد الله ، وهو كفر صراح. هـ.
{ولولا إِذْ دخلتَ جنتك} : بستانك ، {قلتَ ما شاء الله} أي : هلاَّ قُلتَ عند دخولها : {ما شاء الله} أي : الأمر ما شاء الله ، أو ما شاء الله يكون ، والمراد : تحضيضه
162
على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى ، إن شاء أبقاها ، وإن شاء أخفاها ، {لا قوة إِلا بالله} أي : لا قوة لي على عمارتها وتدبير أمرها إلا بمعونة الله وإقداره.
(4/231)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رَأَى شَيْئًا فأعْجَبه فَقَالَ : مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بالله ، لَمْ يضُرّهُ شَيءٌ " وقال لأبي هريرة : " أَلاَ أَدُلُك عَلى كَلِمَةٍ مِن كُنُوزِ الْجَنَّة " ؟ قَال بَلَى يا رسُول الله ، قال : " لاَ قوةَ إلاَّ بالله ، إن قالها العبد قال اللهُ عَزّ وجلّ : أسْلم عبدي واسْتَسْلم " وقال لعبْدِ اللهِ بْنَ قَيْسٍ : " ألاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَِّةِ " ؟ قال : بَلَى ، يا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاَّ بالله ". ثم قال له أخوه المسلم : {إِن ترنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولدًا} في الدنيا ، وفيه تقوية لمن فسر النفر بالولد ، {فعسى ربي أن يُؤتين} في الآخرة أو في الدنيا {خيرًا من جنتك} والمعنى : إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صُنع الله سبحانه أن يقلب ما بي وبك من الفقر والغنى ، فيرزقني جنة خيرًا من جنتك ، ويسلبك ؛ لكفرك نعمته ، ويخرب جنتك ، {ويُرسلَ عليها حُسْبانًا} : عذابًا {من السماء} يُذهبها ، من بَرَدٍ أو صاعقة ، وهو جمع : حُسْبَانة ، وهي : المرامي من هذه الأنواع المذكورة ، وتطلق أيضًا ، في اللغة ، على سهام تُرمى دفعة واحدة ، {فتُصبح صعيدًا زَلقًا} أي : أرضًا ملساء ، يزلق عليها ؛ الاستئصال ما عليها من النبات والشجر والبناء ، {أو يُصبح ماؤُها} أي : النهر الذي خِلالَها {غَوْرًا} : غائرًا ذاهبًا في الأرض ، و " زلقًا " و " غورًا " : مصدران ، عبَّر بهما عن الوصف ؛ مبالغةً. {فلن تستطيعَ له طَلَبًا} أي : لن تستطيع أبدًا للماء الغائر طلبًا ، بحيث لا يبقى له أثر يطلبه به ، فضلاً عن وجدانه ورده.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 160
(4/232)
وأُحِيطَ بثَمَرِه} أي : هلكت أشجاره المثمرة ، وأمواله المعهودة ، وأصله : من إحاطة العدو ، وهو عطف على مُقدر ، كأنه قيل : فوقع بعض ما وقع من المحذور ، وأهلكت أمواله ، رُوي أن الله تعالى أرسل عليها نارًا فأحرقتها وغار ماؤها. {فأصبح يُقلَّب كفَّيه} ظهرًا لبطن ، أو يضرب يديه واحدة على أخرى ، يصفق بهما ، وهو كناية عن الندم ، كأنه قال : فأصبح يندم {على ما أنفق فيها} أي : في عمارتها من الأموال. وجعل تخصيص الندم بها دون ما هلك الآن من الجنة ؛ لأنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية. انظر أبا السعود.
{وهي} أي : الجنة {خاويةً} : ساقطة {على عُرُوشها} أي : دعائمها المصنوعة للكروم ، فسقطت العروش أولاً ثم سقطت الكروم عليها. وتخصيص حالها بالذكر ، دون
163
الزرع والنخل ، إِمَّا لأنها العمدة وهما من متمماتها ، وإِمَّا لأن ذكر هلاكها مُغْن عن ذكر هلاك الباقي ؛ لأنها حيث هلكت ، وهي مشتدة بعروشها فهلاك ما عداها أولى ، وإِمَا لأن الإنفاق في عمارتها أكثر. {ويقولُ} أي : يقلب وهو يقول : {يا ليتني لم أشركْ بربي أحدًا} ، كأنه تذكر موعظة أخيه ، وعَلِمَ أنه إنما أُتِيَ من قِبَلِ شِرْكِهِ ، فتمنى أنْ لم يكن مشركًا فلم يصبه ما أصابه.
{ولم تكن له فئةٌ} : جماعة {ينصرونه} : يقدرون على نصره ؛ بدفع الهلاك عن أمواله ، {من دون الله} ، فإنه القادر على ذلك وحده ، {وما كان منتصرًا} أي : وما كان في نفسه ممنوعًا بقوته من انتقامه سبحانه منه.
(4/233)
{هنالك} ؛ في ذلك المقام ، وفي تلك الحال {الولاَيةُ لله الحقّ} أي : النصرة له وحده ، لا يقدر عليها أحد غيره ، وقُرئ : " الحقِ " ؛ بالكسر ، صفة لله ، وبالرفع ، نعت للولاية. ويُحتمل أن يكون : {هنالك} ظرفًا لمنتصرًا ، أي : وما كان ممتنعًا من انتقام الله منه في ذلك الوقت ، ففيه تنبيه على أن قوله : {يا ليتني لم أشرك} : كان عن اضطرار وجزع مما دهاه ، فلذلك لم ينفعه ، كقوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر : 85]. وحينئذ استأنف تعالى الإخبار عن كمال حفظه لأوليائه فقال : {الولايةُ لله الحق} أي : الحفظ والرعاية والنصرة إنما هي من الله لأوليائه في الدنيا والآخرة ، لا يخذلهم في حال من الأحوال ، بل يتولى سياستهم ونصرهم وهدايتهم ، كما هو شأن من اعتز بالله ، دون من اعتز بغيره ، فقوله : {ولم تكن له فئة} : رد لقوله : {وأعزُّ نفرًا} ؛ أي : بل النصرة لله لأوليائه ، دون من تولى غيره. والحاصل : أن من تولى الله فعاقبته النصرة ، ومن تولى غيره فعاقبتُه الخذلان. والعياذ بالله. ويحتمل أن يكون قد تَم الكلام على القصة ، ثم أعاد الكلام إلى ما قبل القصة ، فقال : {هنالك} عند ذلك ، يعني : يوم القيامة {الولايةُ لله الحق} ؛ يتولون الله ويُؤمنون به ، ويتبرأون مما كانوا يعبدون ، {هو خيرٌ ثوابًا} أي : خير من يرجى ثوابه ، {وخيرُ عُقبًا} أي : عاقبة لأوليائه. والعُقب : العاقبة ، يقال : عاقبة كذا وعُقْبَاهُ وعقبه ، أي : آخره. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 160
الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه ، وقصر همته على زخارف دنياه ، ولمن توجه بهمته إلى مولاه ، وقدَّم دنياه لأخراه ، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران ، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان ، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه ، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
(4/234)
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك ، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل ، فأخبر الله عنه بقوله : {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا...} الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك ، وقل كما رَضي لك :
164
{ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله} ، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم : " لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " وفي رواية أخرى : " كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز ، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة ، والرجوع إلى حول الله وقوته.
جزء : 4 رقم الصفحة : 160
قلت : {كماءٍ} : خبر عن مضمر ، أي : هي كماء ، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانيًا لاضْربْ ، على أنه بمعنى " صيِّر ".
يقول الحقّ جلّ جلاله : {واضربْ لهم مَثَل الحياة الدنيا} أي : واذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها ، وسرعة انقراضها وفنائها ؛ لئلا يطمئنوا إليها ويغفُلوا عن الآخرة ، هي {كماءٍ أنزلناه من السماء} وهو المطر ، {فاختلط به} أي : بسببه {نباتُ الأرض} بحيث التف وخالط بعضُه بعضًا ؛ من كثرته وتكاثفه ، ثم مرت مدة قليلة {فأصبح هشيمًا} أي : مهشومًا مكسورًا ، {تذروه الرياحُ} أي : تُفرقه وتطيره ، كأن لم يَغْنَ بالأمس ، {وكان الله على كل شيء مقتدرًا} : قادرًا ، ومن جملة الأشياء : الإفناء والإنشاء.
(4/235)
{المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا} أي : مما تذروه رياح الأقدار ، ويلحقه الفناء والبوار ، ويدخل في الزينة : الجاهُ ، وجميعُ ما فيه للنفس حظ ؛ فإنه يفنى ويبيد ، ثم ذكر ما لا يفنى فقال : {والباقياتُ الصالحاتُ} ؛ وهي أعمال الخير بأسرها ، أو : الصلوات الخمس ، أو : " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر " ، زاد بعضهم : " ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". قال عليه الصلاة والسلام : " هي من كنز الجنة ، وصفايا الكلام ، وهن الباقيات الصالحات ، يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ". أو : الهمات العالية والنيات الصالحة ؛ إذ بها ترفع الأعمال وتُقبل. أو : كل ما أريد به وجه الله ، وسميت باقيةً : لبقاء ثوابها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا وزينتها الفانية.
165
قال في الإحياء : كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا ، كالمال والجاه مما ينقضي على القرب ، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات ، كالعلم والحرية ؛ لبقائهما ؛ كمالاً فيه ، ووسيلة إلى القرب من الله تعالى ، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير الله ، وتجرده عن سواه ، وأما العلم الحقيقي فيفرده بالله ويجمعه عليه. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 165
(4/236)
وهي ، أي : الباقيات الصالحات {خيرٌ عند ربك} أي : في الآخرة {ثوابًا} أي : عائدة تعود على صاحبها ، بخلاف ما شأنه الفناء من المال والبنين ؛ فإنه يفنى ويبيد. وهذا كقوله تعالى : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل : 96]. وقوله : {عند ربك} : بيان لما يظهر فيه خيريتها ، لا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركتها لها في الخيرية ؛ إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة. ثم قال تعالى : {وخيرٌ أملاً} أي : ما يُؤمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى ؛ حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يُؤمله في الدنيا ، وأما ما مرّ من المال والبنين فليس لصاحبه فيه أمل يناله. وتكرير " خير " ؛ للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة فيه. الإشارة : قد تقدم ، مرارًا ، التحذير من الوقوف مع بهجة الدنيا وزخارفها الغرارة ؛ لسرعة ذهابها وانقراضها. رَوى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا هريرة تريد أن أريك الدنيا " ؟ قلت : نعم ، فأخذ بيدي ، وانطلق ، حتى وقف بي على مزبلة ، رؤوس الآدميين ملقاة ، وبقايا عظام نخرة ، وخِرَق بالية قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين ، فقال : " يا أبا هريرة ؛ هذه رؤوس الآدميين التي تراها ، كانت مثل رؤوسكم ، مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا ، وكانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون ، وكانوا يَجِدُّون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تَجِدُّون ، فاليوم قد تعرّت عظامهم ، وتلاشت أجسامهم كما ترى ، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها ، وقت التجمل ووقت الرعونة والتزين ، فاليوم قد ألقتها الرياح في النجاسات ، وهذه عظام دوابهم التي كانوا يطوفون أقطار الأرض على ظهورها ، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها ، وينهبها بعضُهم من بعض ، قد ألقوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد ؛ من نتنها ، فهذه جملة أحوال الدنيا كما تُشاهد وترى ، فمن أراد أن يبكي(4/237)
على الدنيا فليبك ، فإنها موضع البكاء " قال أبو هريرة رضي الله عنه : فبكى جماعة الحاضرين ".
166
جزء : 4 رقم الصفحة : 165
قلت : {ويوم} : معمول لمحذوف ، أي : واذكر ، أو عطف على قوله : " عند ربك " ، أي : والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة ، و {حشرناهم} : عطف على {نُسيّر} ؛ للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون ، وعليه يدور أمر الجزاء ، وكذا الكلام فيما عطف عليه ، منفيًا وموجبًا ، وقيل : هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ؛ ليعاينوا تلك الأهوال ، كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك. و {نغادر} : نترك ، يقال : غادره وأغدره : إذا تركه ، ومنه : الغدير ؛ لما يتركه السيل في الأرض من الماء ، و {صفًّا} : حال ، أي : مصْطفين.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر {يوم نُسيِّرُ الجبالَ} أي : حين نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو ، على هيئتها ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل : 88] أو : نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورًا ، والمراد من ذكره : تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال ، وقرئ : " تُسَيَّر " ؛ بالبناء للمفعول ؛ جريًا على سَنَن الكبرياء ، وإيذانًا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل ؛ لظهور تعينه ، ثم قال : {وترى الأرضَ} أي : جميع جوانبها ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يسمع ، {بارزةً} : ظاهرة ، ليس عليها جبل ولا غيره. بل تكون {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَىا فِيهَا عِوَجاً وَلاا أَمْتاً} [طه : 106 ، 107]. {وحشرناهم} : جمعناهم إلى الموقف من كل حدب ، مؤمنين وكافرين ، {فلم نُغادرْ} أي : لم نترك {منهم أحدًا}.
(4/238)
{وعُرِضُوا على ربك} ، شبهت حالتهم بحال جُنْدٍ عُرِضَ على السلطان ، ليأمر فيهم بما يأمر. وفي الالتفات إلى الغيبة ، وبناء الفعل للمفعول ، مع التعرض لعنوان الربوبية ، والإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - من تربية المهابة ، والجري على سَنَن الكبراء ، وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم - ما لا يخفى. قاله أبو السعود. {صَفًّا} أي : مصْطَفِّينَ غير متفرقين ولا مختلطين ، كل أمة صَفٌّ ، وفي الحديث الصحيح : " يَجْمَعُ اللهُ الأولين والآخرين في صَعِيدٍ واحِد ، صفوفًا ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيِ وَيَنْفُذُهُم البَصَرُ... " الحديث
167
بطوله. وفي حديث آخر : " أهل الجنة ، يوم القيامة ، مائة وعشرون صفًا ، أنتم منها ثمانون صفًا ". يقال لهم - أي : للكفرة منهم : {لقد جئتمونا كما خلقناكم أولَ مرة} ، وتركتم ما خولناكم وما أعطيناكم من الأموال وراء ظهوركم. أو : حفاة عراة غُرْلاً ، كما في الحديث.
جزء : 4 رقم الصفحة : 167
وهذه المخاطبة ، بهذا التقريع ، إنما هي للكفار المنكرين للبعث ، وأما المؤمنون المُقِرون بالبعث فلا تتوجه إليهم هذه المخاطبة ، ويدل عليه ما بعده من قوله : {بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدًا} أي : زعمتم في الدنيا أنه ، أي : الأمر والشأن ، لن نجعل لكم وقتًا يَتَنَجَّزُ فيه ما وعدته من البعث وما يتبعه. وهو إضراب وانتقال من كلام ، إلى كلام ، كلاهما ؛ للتوبيخ والتقريع.
(4/239)
{ووضع الكتاب} أي : كتاب كل أحد ، إما في يمينه أو شماله ، وهو عطف على : {عُرِضوا} ، داخلٌ تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكرها تذكير وقتها ، وأورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي ؛ لتحقق وقوعه ، وإيثار الإفراد ؛ للاكتفاء بالجنس ، والمراد : صحائف أعمال العباد. ووضعها إما في أيدي أصحابها يمينًا وشمالاً ، أو في الميزان. {فترى المجرمين} قاطبة ، المنكرون للبعث وغيرهم ، {مشفقين} : خائفين {مما فيه} من الجرائم والذنوب ، {ويقولون} ، عند وقوفهم على ما في تضاعيفه ؛ نقيرًا أو قطميرًا : {يا ويلتنا} أي : ينادون بتهلكتهم التي هُلكوها من بين التهلكات ، ومستدعين لها ؛ ليهلكوا ، ولا يرون تلك الأهوال ، أي : يا ويلتنا احضري ؛ فهذا أوان حضورك ، يقولون : {ما لهذا الكتاب لا يُغادرُ} : لا يترك {صغيرةً ولا كبيرةً} من ذنوبنا {إلا أحصاها} أي : حواها وضبطها ، وجملة {لا يغادر} : حال محققة ؛ لِمَا في الاستفهام من التعجب ، أو استئنافية مبنية على سؤال مقدر ، كأنه قيل : ما شأنه حتى يتعجب منه ؟ فقال : لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، {ووجدوا ما عملوا} في الدنيا من السيئات ، أو جزاء ما عملوا {حاضرًا} : مسطورًا عتيدًا ، {ولا يظلم ربُّك أحدًا} ، فيكتب ما لم يعمل من السيئات ، أو يزيد في عقابه المستحق له. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ويوم نُسير جبال الحس ، أو الوهم ، عن بساط المعاني ، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تخفى على أحد ، إلا على أَكْمَهَ لا يُبصر القمر في حال كماله ، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية ، فلم نغادر منهم ، أي : ممن ذهب عنه الحس والوهم ، أحدًا ، وعُرضوا على ربك ؛ لشهود أنوار جماله وجلاله ، صفًا ، للقيام بين يديه ، فيقول
168
(4/240)
لهم : لقد جئتمونا من باب التجريد ، كما خلقناكم أول مرة ، مُطَهَّرِينَ من الدنس الحسي ، غائبين عن العلائق والعوائق ، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون في الدنيا ، وإنما موعده الجنة ، ومن مات عن شهود حسه ، وعن حظوظه ، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسي ، ووضع الكتاب في حق أهل الحجاب ، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه ، ووجود العبد : ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب ، فَنَصْبُ الموازين ، ومناقشةُ الحسابِ ؛ إنما هو لأهل الحجاب ، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم ، الباقون بربهم ، لم يبق لهم ما يُحاسبون عليه ؛ إذ لا يشهدون لهم فعلاً ، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 167
ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب ، ذكر وبالَهُ بإثر الحشر والحساب ، أو تقول : لمَّا ذكر قصة الرجلين ذكر قُبح صنيع من افتخر بنفسه ، وأنه شبيه بإبليس ، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين كان داخلاً في حزبه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 167
قلت : {إلا إبليس} : استثناء منقطع ، إذا قلنا : إن إبليس لم يكن من الملائكة ، وإذا قلنا : إنه منهم يكون متصلاً ، ويكون معنى " كان " صار ، أي : إلا إبليس صار من الجن لمَّا امتنع من السجود ، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن ، وهم الذين خُلقوا من النار. وجملة {كان من الجن} : استئنافية سيقت مساق التعليل ، كأنه قيل : ما له لم يسجد ؟ فقيل : كان أَصْلُهُ جنِّيًا.
(4/241)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر {إِذْ قلنا للملائكةِ} أي : وقت قوْلنا لهم : {اسجدوا لآدمَ} سجود تحية وتكريم ، {فسجدوا} جميعًا ؛ امتثالاً للأمر ، {إِلا إِبليسَ} أبى واستكبر ؛ لأنه {كان من الجنِّ} ، وكان رئيسهم في الأرض ، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم جندًا من الملائكة ، فغزوهم ، فهربوا في أقطار الأرض ، وأُخذ إبليس أسيرًا ، فعرجوا به إلى السماء ، فأسلم وتعبد في أقطار السماوات ، فلما أُمرت الملائكة بالسجود امتنع ونزع لأصله ، {ففسقَ} أي : خرج {عن أمر ربه} أي : عن طاعته ، أو صار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله تعالى ؛ إذ لولا ذلك لَمَا أبى ، والتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق ؛ لبيان كمال قُبح ما فعله.
169
قال تعالى : {أفتتخذونه وذريَّتَه} أي : أولاده ، أو أتباعه ، وهم الشياطين ، جُعلوا ذريةً ؛ مجازًا. وقال قتادة : إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وقيل : يُدْخِل ذنَبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين. والهمزة للإنكار والتعجب ، والفاء للتعقيب ، أي : أَعقبَ عِلْمكُم بصدور تلك القبائح منه ، تتخذونه وذريته {أولياءَ} ؛ أحبار {من دوني} ؛ فتستبدلونهم ، وتطيعونهم بدل طاعتي ، والحال أنهم ، أي : إبليس وذريته {لكم عدو} أي : أعداء. وأُفرد ؛ تشبيهًا له بالمصدر ، كالقبول والولوع ، {بئس للظالمين} : الواضعين للشيء في غير محله ، {بدلاً} استبدلوه من الله تعالى ، وهو إبليس وذريته. وفي الالتفات إلى الغيبة ، مع وضع الظاهر موضع الضمير ، من الإيذان بكمال السخط ، والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ، ما لا يخفى.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 169
ما أشهدتُهم} أي : ما أحضرت إبليس وذريته ، أو : جميع الكفار {خلْقَ السماواتِ والأرضِ} ، حيث خلقتهما قبل خلقهم ، {ولا خلقَ أنفسهم} : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض : كقوله : {وَلاَ تَقْتُلُوااْ أَنْفُسَكُمْ} [النِّساء : 29]. قاله البيضاوي.
(4/242)
قلت : الظاهر إبقاء الأنفس على ظاهرها ، أي : ما أحضرتهم خلق أنفسهم ، أي : ما كانوا حاضرين حين خلقت أنفسهم ، بل هم مُحْدَثُونَ في غاية العجز والجهل ، فكيف تتخذونهم أولياء من دوني ؟ وفي الآية رد على المنجِّمين الذين يخوضون في أسرار غيب السماوات بالتخمين ، وعلى الطبائعيين من الأطباء ومن سواهم ، من كل متخوض في هذه الأشياء ، وعلى الكُهَّان وكل من يتطلع على الغيب بطريق الحدس ، والمصدقين لهم. انظر ابن عطية.
قال تعالى : {وما كنت مُتَّخِذَ المضلِّينِ} من الشياطين {عَضُدًا} أي : أعوانًا في شأن الخلق ، أو في شأن من شؤوني ، حتى تتخذوهم أولياء وتُشركوهم في عبادتي ، وكان الأصل أن يقول : وما كنت متخذهم ، فوقع المظهر موقع الضمير ؛ ذمًا لهم ، وتسجيلاًً عليهم بالإضلال ، وتأكيدًا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء ، وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم ؛ حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على أبلدِ الصبيان ، فيحتاجون إلى التصريح به. انظر أبا السعود.
الإشارة : في الآية تنفيرٌ من الاستكبار والترفع على عباد الله تشبهًا بإبليس ، وحثٌ على التواضع والخضوع لله في خلقه وتجلياته كيفما كانت ، وفيها أيضًا الحض على إفراد الوجهة والمحبة لله ، والتبري من كل ما سواه مما يشغل عن الله ، وفيها أيضًا : النهي عن التطلع إلى ما لم يَرِدْ به من أسرار القدر نصٌ صريح في كتاب الله ولا في سنة رسول الله من أسرار القدر ، وفيها أيضًا : النهي عن الاستعانة بأعداء الله في شأن كان. وبالله التوفيق.
170
جزء : 4 رقم الصفحة : 169
قلت : {موبقًا} : اسم مكان ، أو مصدر ، من : وَبَقَ وبوقًا ، كوثب وثوبًا ، ووَبِقَ وبَقًا ، كفرح فرحًا.
(4/243)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر {يومَ يقولُ} الحق تعالى للكفار ؛ توبيخًا وتعجيزًا لهم : {نادُوا شركائِيَ الذين زعمتم} أنهم شفعاؤكم ؛ ليشفعوا لكم ، والمراد بهم كل ما عُبد من دون الله ، أو إبليس وذريته ، {فَدَعَوْهم} أي : نادوهم للإغاثة ، {فلم يستجيبوا لهم} : فلم يُغيثوهم ، {وجعلنا بينهم} أي : بين الداعين والمدعوين {مَّوبقًا} أي : مهلكًا يهلكون فيه جميعًا ، وهو النار ، وقيل : العداوة ، وهي نوع من الهلاك ، لقول عمر رضي الله عنه : " لا يكن حُبك كَلَفًا ، ولا بُغْضك تلفًا ". وقيل : المراد بالبيْن : الوصل ، أي : وجعلنا وصلهم في الدنيا هلاكًا في الآخرة ، كقوله : {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعَام : 94] ، وقيل : المراد بالشركاء : الملائكة ، وعُزير ، وعيسى - عليهم السلام - ، ويراد حينئذ بالموبق : البرزخ البعيد ، أي : وجعلنا بينهم وبين من عبدوهم برزخًا بعيدًا ؛ لأنهم في قعر جهنم ، وهم في أعلى عليين.
{ورأى المجرمون النارَ} ، وضع المُظْهَرَ موضع المُضْمَرِ ؛ تصريحًا بإجرامهم ، وذمًا لهم ، أي : ورأوا النار {فظنوا} أي : أيقنوا {أنهم مُّواقعوها} ؛ مخالطوها وواقعون فيها ، {ولم يجدوا عنها مَصْرِفًا} أي : انصرافًا ومعدلاً ينصرفون إليه ، نسأل الله السلامة من مواقع الهلاك.
الإشارة : من اتخذ الله وليًا ، بموالاة طاعته وإفراد محبته ، كان الله له وليًا ونصيرًا عند احتياجه وفاقته ، ومجيبًا له عند دعائه واستغاثته ، ومن اتخذ وليًا غير الله خاب ظنه ومناه ، فإذا استغاث به جعل بينه وبين المستغيث به موبقًا وبرزخًا بعيدًا ، ومن وَالَى أولياء الله فإنما والى الله ، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفَتْح : 10]. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 170
(4/244)
قلت : {جَدَلاً} : تمييز ، و {ربك} : مبتدأ و {الغفور} : خبره ، و {ذو الرحمة} : خبر بعد خبر ، وقيل : الخبر : {لو يؤاخذهم} ، و {الغفور ذو الرحمة} : صفتان للمبتدأ ، وإيراد المغفرة على جهة المبالغة دون الرحمة ؛ للتنبيه على كثرة الذنوب ، وأيضًا : المغفرة ترك المؤاخذة ، وهي غير متناهية ، والرحمة فعل ، وهو متناهي ، وتقديم الوصف الأول ؛ لأن التخلية قبل التحلية ، و (المُهْلَك) ؛ بضم الميم وفتح اللام : اسم مصدر ، من أهلك ، فالمصدر ، على هذا ، مضاف للمفعول ؛ لأن الفعل متعد ، وقرئ بفتح الميم ، من هلك ، فالمصدر ، على هذا ، مضاف للفاعل.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ولقد صرَّفنا} أي : كررنا وأوردنا على وجوهٍ كثيرة من النظر العجيب ، {في هذا القرآنِ للناس} ؛ لمصلحتهم ومنفعتهم ، {من كل مَثَلٍ} ؛ من كل خبر يحتاجون إليه ، أو : من كل مثل مضروب يعتبرون به ، ومن جملته ما مر من مثل الرجلين ، ومثل الحياة الدنيا. أو : من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان ، التي هي ، في الغرابة والحسن واستجلاب القلوب ، كالمثل المضروب ، ليتلقوه بالقبول ، فلم يفعلوا. {وكان الإنسانُ} بحسب جِبلَّته {أكثرَ شيءٍ جدلاً} أي : أكثر الأشياء ، التي يتأتى منها الجدل ، جدلاً ، وهو هنا شدة الخصومة بالباطل ، والمعنى : أن جدله أكثر من جدل كل مجادل ، وفيها ذم الجدل. وسببها : مجادلة النضر بن الحارث كما قيل ، وهي عامة.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 171
(4/245)
وما منع الناسَ} أي : أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم ، من {أن يؤمنوا} بالله تعالى ، ويتركوا ما هم فيه من الإشراك ، {إِذْ جاءهُم الهُدَى} أي : حين جاءهم القرآن الهادي إلى الإيمان ، بسبب ما فيه من فنون العلوم وأنواع الإعجاز ، فيؤمنوا ، {ويستغفروا ربهم} عما فرط منهم من أنواع الذنوب ، التي من جملتها : مجادلتهم للحق بالباطل ، {إِلا أن تأتيهم سُنَّةُ الأولين} أي : ما منعهم إلا إتيان سنة الأولين ، وهو نزول العذاب المستأصل أو انتظاره ، فيكون على حذف مضاف ، أي : انتظار سنة الأولين ، وهو الهلاك. قال ابن جزي : معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار
172
هو القضاء عليهم بأن تأتيهم سُنَّة الأمم المتقدمة ، وهي الإهلاك في الدنيا ، أو يأتيهم العذاب أي : عذاب الآخرة. هـ. قلت : والظاهر أن معنى الآية : ما منعهم من الإيمان إلا انتظار آية يرونها عيانًا ، كعادة الأمم الماضية ، فيهلكوا كما هي سُنَّة الله في خلقه ، أو : عذاب ينزل بهم جهرًا ، وهو معنى قوله : {أو يأتيهم العذابُ قُبُلاً} أي : مقابلة وعيانًا.
قال تعالى : {وما نُرسل المرسلين} إلى الأمم {إِلا مبشرين ومنذرين} أي : مبشرين للمؤمنين بالثواب ، ومنذرين للكافرين بالعقاب ، دون إظهار الآيات واقتراح المعجزات ، {ويُجادل الذين كفروا بالباطل} ؛ باقتراح الآيات ؛ كالسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها. يفعلون ذلك {ليُدْحِضُوا به} أي : بالجدال {الحقَّ} ، أي : يزيلونه عن مركزه ويبطلونه ، من إدحاض القدم وهو إزلاقها. وجدالهم : قولهم لرسلهم عليهم السلام : {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ} [يس : 15] ، {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} [المؤمنون : 24] ، ونحوها. {واتخذوا آياتي} التي تخرّ لها صُمُّ الجبال ، وهو القرآن ، {وما أنذروا} أي : وإنذاري لهم ، أو : الذي أنذروا به من العذاب والعقاب ، {هُزُوًا} ؛ مهزوءًا به ، أو محل استهزاء.
(4/246)
{ومَن أظلمُ ممّن ذُكِّرَ بآياتِ ربه} وهو القرآن العظيم ، {فأعْرَضَ عنها} ؛ فلم يتدبرها ولم يؤمن بها ، أي : لا أحد أظلم منه ؛ لأنه أظلم من كل ظالم ؛ حيث ضم إلى المجادلة التكذيب والإعراضَ ، {ونَسِيَ ما قدمت يداه} من الكفر والمعاصي ، ولم يتفكر في عاقبتها ، {إِنا جعلنا على قلوبهم أكِنَّةً} : أغطية كثيرة تمنعهم من التدبر في الآيات ، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم ، فعل ذلك بهم كراهة {أن يفقهوه} ، أو : منعناهم أن يقفوا على كنهه. {و} جعلنا {في آذانهم وَقْرًا} أي : ثِقلاً يمنعهم من استماعه ، {وإِن تَدْعُهُمْ إِلى الهدى فلن يهتدوا إِذًا أبدًا} أي : فلن يكون منهم اهتداء الْبتةَ مدة التكليف ؛ للطبع المتقدم على قلوبهم ، وهذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 171
و " إذًا " : حرف جزاء وجواب ، وهو ، هنا ، عن سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم ، كأنه قال صلى الله عليه وسلم : " ما لي لا أدعوهم " ؟ فقال : إن تدعهم... الخ. وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه ، كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار اللفظ.
{وربُّك الغفور} : البليغ المغفرة {ذو الرحمة} الموصوف بها ، {لو يُؤاخذهم بما كسبوا} من المعاصي ، التي من جملتها : ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل ، وإعراضهم عن آيات ربهم ، وعدم مبالاتهم بما اجترحوا من الموبقات ، {لعجَّلَ لهم العذابَ} قبل يوم القيامة ؛ لاستجلاب أعمالهم لذلك ، والمراد : إمهال قريش ، مع
173
إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، {بل لهم موعدٌ} وهو يوم القيامة ، أو يوم بدر ، والمعطوف عليه ببل : محذوف ، أي : لكنهم ليسوا بمؤاخذين ، {بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً} أي : ملجأ يلتجئون إليه ، أو مَنْجىً ينجون به ، يقال : وأَلَ : أي : نجا ، ووأل إليه : أي : التجأ إليه.
(4/247)
{وتلك القرى} ؛ أي : قرى عاد وثمود وأضرابها ، أي : وأهل تلك القرى {أهلكناهم} بالعذاب {لمَّا ظلموا} أي : وقت ظلمهم ، كما فعلت قريش بما حكى عنهم ، {وجعلنا لمهلكهم} أي : عَيَّنَّا لهلاكهم {موعدًا} أي : وقتًا مُعَينًا ، لا محيدَ لهم عن ذلك ، فلتعتبر قريش بذلك ولا تغتر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد ، من علم الظاهر والباطن ، لكن خوض القلوب فيما لا يعني ، وكثرة مجادلتها بالباطل ، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه. وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء ، وهم العارفون بالله ، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله ، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم ، ونزول العذاب على من آذاهم ، وهو جهل بطريق الولاية ؛ لأنهم رحمة للعباد ، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان ، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير ، وبملاطفة الوعظ والتذكير ، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا ، حيث حادوا عن تذكيرهم ، ونفروا عن صحبتهم ، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار ، سَبَبُ ذلك : جَعْلُ الأكنة على القلوب ، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب ، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا ، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا ، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى ، فلن يهتدوا إذًا أبدًا ؛ لِمَا سبق لهم في سابق القضاء ، فلولا مغفرته العامة ، ورحمته التامة ، لعجل لهم العذاب ، لكن له وقت معلوم ، وأجل محتوم ، لا محيد عنه إذا جاء ، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 171
174
(4/248)
ولمَّا ذكر الحق جلّ جلاله قصة أهل الكهف ، وكان وقع فيها عتاب للرسول - عليه الصلاة والسلام - حيث لم يستثن بتأخير الوحي ، وبقوله : {ولا تقولن لشيء...} الخ ، ذكر هنا قصة موسى مع الخضر - عليهما السلام - وكان سَبَبُها عتابَ الحق لموسى عليه السلام ؛ حيث لم يردَّ العلم إليه ، حين قال له القائل : هل تعلم أحدًا أعلم منك ؟ فقال : لا ، فذكر الحق تعالى قصتهما ؛ تسليةً لنبينا عليه الصلاة والسلام بمشاركة العتاب.
قلت : {لا أبرح} : ناقصة ، وخبرها : محذوف : اعتمادًا على قرينة الحال ؛ إذ كان ذلك عن التوجه إلى السفر ، أي : لا أبرح أسير في سفري هذا ، ويجوز أن تكون تامة ، من زال يزول ، أي : لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ... الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {و} اذكر {إذ قال موسى لفتاه} يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام ، وكان ابن أخته ، سُمي فتاه ؛ إذ كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه العلم. والفتى في لغة العرب : الشاب ، ولمَّا كانت الخدمة أكثر ما تكون من الفتيان ، قيل للخادم : فتى ، ويقال للتلميذ : فتى ، وإن كان شيخًا ، إذا كان في خدمة شيخه ، فقال موسى عليه السلام : {لا أبرحُ} : لا أزال أسير في طلب هذا الرجل ، يعني : الخضر عليه السلام ، {حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرين} ، وهو ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق ، وهذا مذهب الأكثر. وقال ابن جزي : مجمع البحرين : عند " طنجة " ؛ حيث يتجمع البحر المحيط والبحر الخارج منه ، وهو بحر الأندلس. قلت : وهو قول كعب بن محمد القرضي. {أو أَمْضِيَ حُقُبًا} أي : زمنًا طويلاً أتيقن معه فوات الطلب. والحقب : الدهر ، أو ثمانون سنة ، أو سبعون.
(4/249)
وسب هذا السفر : أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر ، بعد هلاك القبط ، أمره الله تعالى أن يُذّكر قومه هذه النعمة ، فقام فيهم خطيبًا بخطبة بليغة ، رقَّت بها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقالوا له : من أعلم الناس ؟ فقال : أنا. وفي رواية : هل تعلم أحدًا أعلم منك ؟ فقال : لا. فعَتَب الله عليه ؛ إذ لم يَرُدَّ العلم إليه عزّ وجلّ ، فأوحى الله إليه : " أعلم منك عبدٌ لي بمجمع البحرين ، وهو الخضر " ، وكان قبل موسى عليه السلام ، وكان في مُقَدَّمَةِ ذي القرنين ، فبقي إلى زمن موسى عليه السلام ، وسيأتي ذكر التعريف به في محله ، إن شاء الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
وقال ابن عباس رضي الله عنه : إن موسى عليه السلام سأل ربه : أيُّ عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني ، قال : فأي عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : فأي عبادك أعلم ؟ قال : الذي يستقي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى ، أو ترده عن ردى ، قال : يا رب إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه ؟ قال : أعلم منك الخضر ، قال : أين أطلبه ؟ قال : على ساحل البحر عند الصخرة. قال : يا رب ، كيف لي به ؟ قال : خُذ حُوتًا في مِكْتَلٍ ، فحيثما فقدتَه فهو هناك ، فأخذ حُوتًا مشويًا ، فجعله في مِكْتَلٍ ، فقال لفتاه : إذا فقدتَّ الحوت فأخبرني ، وذهبا يمشيان إلى أن اتصلا بالخضر ، على ما يأتي تمامه ، إن شاء الله
175
تعالى. وحديث الخطبة هو الذي في صحيح البخاري وغيره. والله تعالى أعلم أيُّ ذلك كان.
(4/250)
الإشارة : قصة سيدنا موسى مع الخضر - عليهما السلام - هي السبب في ظهور التمييز بين أهل الظاهر وأهل الباطن ، فأهل الظاهر قائمون بإصلاح الظواهر ، وأهل الباطن قائمون بتحقيق البواطن. أهل الظاهر مغترفون من بحر الشرائع ، وأهل الباطن مغترفون من بحر الحقائق. قيل : هو المراد بمجمع البحرين ، حيث اجتمع سيدنا موسى ، الذي هو بحر الشرائع ، والخضر عليه السلام ، الذي هو بحر الحقائق ، ولا يُفهم أن سيدنا موسى عليه السلام خال من بحر الحقائق ، بل كان جامعًا كاملاً ، وإنما أراد الحق تعالى أن يُنزله إلى كمال الشرف ، بالتواضع في طلب زيادة العلم ؛ تأديبًا له وتربية ، حيث ادعى القوة في نسبته العلم إلى نفسه ، وفي الحِكَم : " منعك أن تدعي ما ليس لك مما للمخلوقين ، أَفَيُبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين! ".
وهذه عادة الله تعالى مع خواصِّ أحبائه ، إذا أظهروا شيئًا من القوة ، أو خرجوا عن حد العبودية ، ولو أنملة ، أدبهم بأصغر منهم علمًا وحالاً ؛ عناية بهم ، وتشريفًا لهم ؛ لئلا يقفوا دون ذروة الكمال ، كقضية الشاذلي مع المرأة التي قالت له : تَمُنُّ على ربك بجوع ثمانين يومًا ، وأنا لي تسعة أشهر ما ذقت شيئًا. وكقضية الجنيد والسَّرِي في جماعة من الصوفية ، حيث تكلموا في المحبة ، وفاض كل واحد على قدر اتساع بحره فيها ، فقامت امرأة بالباب ، عليها جُبة صوف ، فردت على كل واحد ما قال ، حيث أظهروا قوة علمهم ، فأدبهم بامرأة.
ويؤخذ من طلب موسى الخضر - عليهما السلام - والسفر إليه : الترغيب في العلم ، ولا سيما علم الباطن ، فطلبه أمر مؤكد. قال الغزالي رضي الله عنه : هو فرض عين ؛ إذ لا يخلو أحد من عيب إو إصرار على ذنب ، إلا الأنبياء - عليهم السلام - وقد قال الشاذلي رضي الله عنه : من لم يغلغل في علمنا هذا مات مُصرًا على الكبائر وهو لا يشعر. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
176
(4/251)
قلت : {بينهما} : ظرف مضاف إليه ؛ اتساعًا ، أو بمعنى الوصل ، و {سَرَبًا} : مفعول ثان لاتخذ ، و {إذ أوينا} : متعلق بمحذوف ، أي : أخبرني ما دهاني حين أويتُ إلى الصخرة حتى لم أخبرك بأمر الحوت ، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره. و {أن أذكره} : بدل من الهاء في {أنسانيه} ؛ بدل اشتمال ؛ للمبالغة ، و {عجبًا} : مفعول ثان لاتخذ ، وقيل : إن الكلام قد تم عند قوله : {في البحر} ، ثم ابتدأ التعجب فقال : {عجبًا} أي : أَعْجَبُ عَجَبًا ، وهو بعيد. قاله ابن جزي. قلت : وهذا البعيد هو الذي ارتكب الهبطي. و {قصصًا} : مصدر ، أي : يقصان قصصًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ثم إن موسى ويوشع - عليهما السلام - حملا حوتًا مشويًا وخُبزًا ، وسارا يلتمسان الخضر ، {فلما بلغا مَجْمَعَ بينهما} ؛ بين البحرين ، أو مجمع وصل بعضهما ببعض ، وجدا صخرة هناك ، وعندها عين الحياة ، لا يصيب ذلك الماءُ شيئًا إلا حَيِيَ بإذن الله ، وكانا وَصَلاَ إليها ليلاً ، فناما ، فلما أصاب السمكة رَوْحُ الماء وبردُه اضطرب في المِكْتَلِ ، ودخل البحر ، وقد كانا أَكَلاَ منه ، وكان ذلك بعد استيقاظ يوشع ، وقيل : توضأ عليه السلام من تلك العين ، فانتضح الماء على الحوت ، فحيى ودخل البحر ، فاستيقظ موسى ، وذهبا ، و {نَسِيَا حوتَهما} أي : نسيا تفقد أمره وما يكون منه ، أو نسي يوشع أن يعلمه ، وموسى عليه السلام أن يأمر فيه بشيء ، {فاتخذ} الحوت {سبيله} أي : طريقه {في البحر سَرَبًا} ؛ مسلكًا كالطّاق ، قيل : أمسك الله جرية الماء على الحوت فجمد ، حتى صار كالطاق في الماء ؛ معجزة لموسى أو الخضر - عليهما السلام -.
(4/252)
فلما جاوزا مجمع البحرين ، الذي جُعل موعدًا للملاقاة ، وسارا بقية ليلتهما ويومهما إلى الظهر ، وجد موسى عليه السلام حَرَّ الجوع ، فـ {قال لفتاه آتنا غداءنا} أي : ما نتغدى به ، وهو الحوت ، كما يُنبئ عنه الجواب ، {لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصبًا} : تعبًا وإعياء. قيل : لم يَنْصَبْ موسى ولم يَجُعْ قبل ذلك ، ويدل عليه الإتيان بالإشارة ، وجملة {لقد لقينا} : تعليل للأمر بإيتاء الغذاء ، إما باعتبار أن النَّصَب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع ، وإمَّا باعتبار ما في أثناء التغذي من استراحة مَّا.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 176
قال} فتاه عليه السلام : {أرأيت إذ أوينا إِلى الصخرة} أي : التجأنا إليها ونِمنا عندها ، {فإني نسيتُ الحوت} أي : أخبرني ما دهاني حتى لم أذكر لك أمر الحوت ، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره ، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه من النسيان ، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى ، {وما أنسانيهُ إِلا الشيطانُ} بوسوسته الشاغلة له عن ذلك ، {أن أذكره} ، ونسبته للشيطان ؛ هضمًا لنفسه ، واستعمال الأدب في نسبة النقائص إلى الشيطان ، وإن كان الكل من عند الله. وهذه الحالة ، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها ، لكنه قد تعَوَدَّ بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع
177
موسى عليه السلام ، وأَلِفَهَا قبل اهتمامه بالمحافظة عليها ، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس ، حتى غاب عن الإخبار بها.
{قلت} : والظاهر أن نسيانه كان أمرًا إلهياً قهريًا بلا سبب ، وحكمتُه ما لقي من النصب ؛ لتعظُم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السلام ، فإن المُساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب ، ولذلك : " حفت الجنة بالمكاره ".
(4/253)
ثم قال : {واتخذ} الحوتُ {سبيلَه في البحر عَجَبًا} ، فيه حذف ، أي فحيى الحوت ، واضطرب ، ووقع في البحر ، واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجبًا ، أو اتخاذًا عجبًا يُتعجب منه ، وهو كون مسلكه كالطاق ، {قال} موسى عليه السلام : {ذلك ما كنا نبغ} أي : ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كُنا نطلبه ؛ لكونه أمارة للفوز بالمرام ، {فارتدَّا} أي : رجعا {على} طريقهما الذي جاءا منه ، يَقُصَّان. يتبعان {آثارِهما قَصَصًا} ، حتى أتيا الصخرة {فوجدا عبدًا من عبادنا} ، التنكير ؛ للتفخيم والإضافة ؛ للتعظيم ، وهو الخضر عليه السلام عند الجمهور ، واسمه : بَلْيَا بن مَلْكَان يُعْصوا ، والخضر لقب له ؛ لأنه جلس على فروةٍ بيضاء فاهتزّت تحته خضراء ، كما في حديث أبي هريرة - عنه - صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد : سمي خضرًا ؛ لأنه كان إذا صلى خضر ما حوله ، ثم قال : وهو ابن عابر بن شالِخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وكان أبوه ملكًا. هـ. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة الخضر ، فقال : " كان ابن ملك من الملوك ، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده ، فأبى وهرب ، ولحق بجزائر البحر ، فلم يقدر عليه " قيل إنه شرب من عين الحياة ؛ فمُتع بطول الحياة.
(4/254)
رُوِيَ أن موسى عليه السلام حين انتهى إلى الصخرة رأى الخضر عليه السلام على طنْفَسَةٍ - أي : بساط - على وجه الماء ، فسلم عليه. وعنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " انتهى موسى إلى الخضر ، وهو نائم مُسَجى عليه ثوب ، فسلَّمَ عليه فاستوى جالسًا ، وقال : عليك السلام يا نبي بني إسرائيل ، فقال موسى : من أخبرك أني نبي بني إسرائيل ؟ قال : الذي أدراكَ بي ، وذلك عليَّ " قال تعالى في حق الخضر : {آتيناه رحمةً من عندنا} ، هي الوحي والنبوة ، كما يُشعر به تنكير الرحمة ، وإضافتها إلى جناب الكبرياء ، وقيل : هي سر الخصوصية ، وهي الولاية. {وعلَّمناه من لَّدُنَّا عِلْمًا} خاصًا ، لا يكتنه كُنْهه ، ولا يُقدر قدره ، وهو علم الغيوب ، أو أسرار الحقيقة ، أو علم الذات والصفات ، علمًا حقيقيًا. فالخضر عليه السلام قيل : إنه نبي ؛ بدليل قوله فيما يأتي : {وما فعلته عن أمري} ، وقيل : وَلِيٌّ ، واخْتلف :
178
هل مات ، أو هو حي ؟ وجمهور الأولياء : أنه حي ، وقد لقيه كثيرٌ من الصلحاء والأولياء ، حتى تواتر عنهم حياته. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 176
الإشارة : إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه ، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة ، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله ، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه ، ويخرق عوائد نفسه ، ويفنى عن بشريته ، ويبقى بربه ، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه ، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه ، ويَظهر منه خرق العوائد ، كما ظهر من الحوت ، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق ، وذلك اقتدار ، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر ، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة. قاله في الحاشية بمعناه.
(4/255)
وقال قبل ذلك في قوله : واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا : أي اتخذ الحوتُ ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ (اتخذ) : موسى ، أي : اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ ؛ بأن مشى على الماء في طريق الحوت ، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال : وعلى الجملة : فالقضية تشير من جهة الخضر : للاقتدار وإسقاط الأسباب ، ومن جهة موسى : لإثبات الأسباب ؛ حكمة ، وحالة الاقتدار أشرف ، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام ، بخلاف الآخر ، فإن نفعه خاص. هـ.
وقوله تعالى : {وعلّمناه من لدُنَّا علمًا} ، العلم اللدني : هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم ، قال عليه الصلاة والسلام : " من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل ، وتفرغه من العلائق والشواغل ، فإذا كمل تطهير القلب ، وانجذب إلى حضرة الرب ، فاضت عليه العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول ، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول ، بل تُسلم لأربابها ، من غير أن يقتدى بهم في أمرها ، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب ؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة ، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام ، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء ، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 176
179
قلت : {رُشْدًا} : مفعول ثاني لعلمت ، أو : علة لأتبعك ، أو : مصدر بإضمار فعله ، أو : حال من كاف {أتبعك} ، أو : على إسقاط الخافض ، أي : من الرشد ، وفيه لغتان : ضم الراء وسكون الشين ، وفتحهما ، وهو : إصابة الخير ، و {خُبْرًا} : تمييز محول عن الفاعل ، أي : لم يحط به خبرك. و {لا أعصي} : عُطِفَ على : {صابرًا}.
(4/256)
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولما اتصل موسى بالخضر - عليهما السلام - استأذنه في صحبته ليتعلم منه ، ملاطفة وأدباً وتواضعاً ، وكذلك ينبغي لمن يريد التعلم من المشايخ : أن يتأدب ويتواضع معهم. {قال له موسى هل أتبعك على أن تُعلّمَنِ رُشدًا} أي : مما علمك الله من العلم الذي يدل على الرشد وإصابة الصواب ، لعلي أرشد به في ديني. ولا ينافي كونه نبيًا ذا شريعة أن يتعلم من غيره من أسرار العلوم الخفية ؛ إذ لا نهاية لعلمه تعالى ، وقد قال له تعالى فيما تقدم : أعلم الناس من يبتغي علم غيره إلى علمه. رُوي أنهما لما التقيا جلسا يتحدثان ، فجاءت خُطافة أو عصفور فنقر في البحر نقرة أو نقرتين ، فقال الخضر : يا موسى خطر ببالك أنك أعلم أهل الأرض ؟ ما علمك وعلمي وعلم الأولين والآخرين في جنب علم الله إلا أقل من الماء الذي حمله هذا العصفور.
ولَمَّا سأله صُحْبَتَهُ {قال} له : {إِنك لن تستطيع معيَ صبرًا} ؛ لأنك رسول مكلف بحفظ ظواهر الشرائع ، وأنا أطلعني الله تعالى على أمور خفية ، لا تتمالك أن تصبر عنها ؛ لمخالفة ظاهرها للشريعة. وفي صحيح البخاري : " قال له الخضر : يا موسى ، إني على علم من علم الله عَلَّمَنِيهِ ، لا تعلمه أنت ، وأنتَ على علمٍ من علم الله علَّمكَه الله ، لا أعلمه " ثم علّل عدم صبره بقوله : {وكيف تصبرُ على ما لم تُحط به خُبْرًا} ؟ لأني أتولى أموراً خفية لا خُبر لك بها ، وصاحب الشريعة لا يُسلم لصاحب الحقيقة العارية من الشريعة ، {قال} له موسى عليه السلام : {ستجدني إِن شاء الله صابرًا} معك ، غير مُعترض عليك. وتوسيط الاستثناء بين مفعولي الوجدان لكمال الاعتناء بالتيمن ، ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر ، {ولا أعصي لك أمرًا} ، هو داخل في الاستثناء ، أي : ستجدني إن شاء الله صابرًا وغير عاص.
جزء : 4 رقم الصفحة : 179
(4/257)
وقال القشيري : وَعَدَ من نفسه شيئين : الصبر ، وألاَّ يعصيه فيما يأمره به. فأما الصبر فَقَرنَه بالمشيئة ، حتى وجده صابرًا ، فلم يقبضْ على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل. والثاني قال : {ولا أعصي لك أمراً} ، فأطلق ولم يستثن ، فعصى ، حيث قال له الخضر : {فلا تسألني عن شيء} ، فكان يسأله ، فبالاستثناء لم يخالف ، وبالإطلاق خالف. هـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : وفيه نظر ؛ للحديث
180
الصحيح : " يرحم الله موسى ، لو صبر... " مع أن قوله : " ولا أعصي... " الخ ، غير خارج عن الاستثناء ، كما تقدم ، وإن احتمل خروجه ، والظاهر : أن الاستثناء ، كالدعاء ، إنما ينفع إذا صادف القدر ، وهو هنا لم يصادف ، مع أنه هنا عارضه علم الخضر بكونه لم يصبر من قوله : {لن تستطيع معي صبرًا} ، وقد أراد الله نفوذ علم الخضر. هـ.
وقال ابن البنا : أن العهد إنما هو على قدر الاستطاعة ، وإن الوفاء بالملتزم إنما يكون فيما لا يخالف الشرع ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؛ لأن موسى عليه السلام لم يلتزم إلا ذلك. ولمّا رأى ما هو محرم تكلم... فافهم. هـ.
ثم شرط عليه التسليم لِمَا يرى ، فقال : {فإِن اتبعتني فلا تسالني عن شيء} تشاهده من أفعالي ، فهمْتَه أم لا ، أي : لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته ، فضلاً عن مناقشته واعتراضه ، {حتى أُحْدِثَ لك منه ذكرًا} ؛ حتى أبتدي بيانه لك وحكمته ، وفيه إيذان بأن ما يصدر منه له حكمة خفية ، وعاقبة صالحة. وهذا من أدب المتعلم مع العالم ، والتابع مع المتبوع ، أنه لا يعترض على شيخه بل يسأل ؛ مُسترشدًا بملاطفةٍ وأدب ، وهذا في العلم الظاهر. وسيأتي في الإشارة ما يتعلق بعلم الباطن.
(4/258)
الإشارة : قد أخذ الصوفية - رضي الله عنهم - آداب المريد مع الشيخ من قضية الخضر مع موسى - عليهما السلام - ؛ فطريقتهم مبنية على السكوت والتسليم ، حتى لو قال لشيخه : لِمَ ؟ لَمْ يفلح أبدًا ، سواء رأى من شيخه منكرًا أو غيره ، ولعله اختبار له في صدقه ، أو اطلع على باطن الأمر فيه ، فأحوالهم خضرية ، فالمريد الصادق يُسلم لشيخه في كل ما يرى ، ويمتثل أمره في كل شيء ، فَهِم وجه الشريعة فيه أم لا ، هذا في علم الباطن ، وأما علم الظاهر فمبني على البحث والتفتيش ، مع ملاطفة وتعظيم.
قال الورتجبي : امتحن الحق تعالى موسى عليه السلام بصحبة الخضر ؛ لاستقامة الطريقة ولتقويم السنة في متابعة المشايخ ، ويكون أسوة للمريدين والقاصدين في خدمتهم أشياخ الطريقة. هـ. قال القشيري في قوله : {فلا تسالن عن شيء} : قال : ليس للمريد أن يقول لشيخه : لِمَ ، ولا للمتعلم أن يقول لأستاذه ، ولا للعامي أن يقول للمفتي فيما يفتي ويحكم : لِمَ. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 179
وقال ابن البنا في تفسيره : يُؤخذ من هذه القصة : ترك الاعتراض على أولياء الله إذا ظهر منهم شيء مخالف للظاهر ؛ لأنهم فيه على دليل غير ظاهر لغيرهم ، اللهم إلا أن يدعوك إلى اتباعه ، فلا تتبعه إلا عن دليل ، ويُسلم له في حاله ، ولا تعترض عليه ، ولا يمنعك ذلك من طلب العلم والتعلم منه ، وإن كنت لا تعمل بعمله ؛ لأنه لا يجب عليك تقليده إلا عن دليل ، فلا تعمل مثل عمله ، وأنت ترى أنه مخالف لك في ظنك ، ولا علم لك بحقيقة باطن الأمر ، فلا تقفُ ما ليس لك به علم. والله الموفق والمرشد. هـ.
181
قلت : ما ذكره إنما هو في حق من لم يدخل تحت تربيته ، فإنما هو طالب علم أو تبرك ، وأما من التزم صحبته على طريق التربية فلا يتأخر عن امتثال ما أمره به ، كيفما كان ، نعم ، إن لم ينبغ التوقف والتأني في الاقتداء به.
(4/259)
وقال في القوت في قوله : {فلا تسألن عن شيء} : الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم ، الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه ، لا يصلح أن يسأل عنه ، من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية ، لا يوكل إلى العقول ، بل يخص به المراد المحمول. هـ.
قال المحشي الفاسي : وهو - أي : المحمول - ما يرشَقْ فيهم من وصف الحق وقدرته ، فيتصرفون ، وهم في الحقيقة مُصرِّفُون ، وهؤلاء هم أهل القبضة ، الذين علَّمهم سِرَّ الحقيقة ، فلهم قدرة لنفوذ شعاعها فيهم ، فتتكوّن لهم الأشياء ، وتنفعل لحملهم سر الحقيقة وظهورها لهم وفيهم ، وهم كما قال : مرادون محمولون ، فما يجري عليهم : قدر {وما رميت…} الآية. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 179
قلت : ضمَّن ركوب السفينة معنى الدخول فيها ، فعداه بفي ، وقد تركه على أصله في قوله : {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النّحل : 8].
يقول الحقّ جلّ جلاله : {فانطلقا} أي : موسى والخضر ، وسكت عن الخادم ؛ لكونه تبعًا ، وقيل : إن يوشع لم يصحبهما ، بل رجع ، فصارا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت بهم سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نَوْل ، فلما لَجَّجُوا البَحْرَ أخذ الخضرُ فأسًا فخرق السفينة ، فقلع لوحًا أو لوحين مما يلي الماء ، فحشاها موسى بثوبه ، و {قال أخرقتها لتُغرق أهلَها} أو : ليَغرَق أهلُها ، {لقد جئتَ} أي : أتيتَ وفعلت ، {شيئًا إِمْرًا} أي : عظيمًا هائلاً ، يقال : أَمِر الأمرُ : عظم ، {قال} الخضر : {ألم أقل إِنك لن تستطيع معي صبرًا} ؛ تذكيرًا لما قاله له من قبلُ ، وإنكارًا
182
(4/260)
لِعدم الوفاء بالعهد ، {قال} موسى عليه السلام : {لا تُؤاخذني بما نسيتُ} أي : بنسياني ، أو بالذي نسيته ، وهو وصيته بأن لا يسأله عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفية الأسباب قبل بيانه ، أراد : نسي وصيته ، ولا مؤاخذة على الناسي ، وفي الحديث : " كانت الأولى مِن مُوسى نسيانًا " أو : أراد بالنسيان الترك ، أي : لا تُؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة. {ولا تُرهقني} أي : لا تُغْشِنِي ولا تُحَمِّلْنِي {من أمري} ، وهو اتباعك ، {عُسرًا} أي : لا تعَسِّرْ عليّ في متابعتك ، بل يسرها عليّ ؛ بالإغضاء والمسامحة.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 182
فانطلقا} أي : فقبل عذره ؛ فخرجا من السفينة فانطلقا {حتى إذا لقيا غلامًا فقتله} قيل : كان يلعب مع الغلمان ففتَلَ عنقه ، وقيل : ضرب رأسه بحجر ، وقيل : ذبحه ، والأول أصح ؛ لوروده في الصحيح ، رُوي أن اسم الغلام " جيسور " بالجيم ، وقيل : بالحاء المهملة ، فإِن قلت : لِمَ قال {خرقها} ؛ بغير فاءٍ ، وقال : {فقتله} بالفاء ؟ فالجواب : أن " خَرَقَها " : جواب الشرط ، و {قتله} : من جملة الشرط ، معطوفًا عليه ، والجزاء هو قوله : {قال أقتلت} ، فإن قلت : لِمَ خولف بينهما ؟ فالجواب : أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب ، وقد تعقب القتل لِقاء الغلام. هـ. وأصله للزمخشري. وقال البيضاوي : ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء ، واعتراض موسى عليه السلام مستأنفًا في الأولى ، وفي الثانية {فقتله} من جملة الشرط ، واعتراضه جزاء ؛ لأن القتل أقبح ، والاعتراض عليه أدخل ، فكان جديرًا بأن يجعل عمدة الكلام ، ولذلك وصله بقوله : {لقد جئت شيئًا نُكرًا} أي : منكرًا. هـ. وناقشه أبو السعود بما يطول ذكره.
(4/261)
{قال} موسى عليه السلام في اعتراضه : {أقتلتَ نفسًا زكية} : طاهرة من الذنوب ، وقرئ بغير ألف ؛ مبالغةً ، {بغير نَفْسٍ} أي : بغير قتلِ نفسٍ محرمةٍ ، فيكون قصاصًا. وتخصيص نفي هذا القبيح بالذكر من بين سائر القبيحات من الكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد إحصان ؛ لأنه أقرب إلى الوقوع ؛ نظرًا لحال الغلام. {لقد جئتَ شيئًا نُكْرًا} أي : مُنكرًا ، قيل : أنكرُ من الأول ، إذ لا يمكن تداركه ، كما يمكن تدارك الأول ؛ بالسد ونحوه. وقيل : " الإمْر " أعظم ؛ لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة.
{قال} له الخضرُ عليه السلام : {ألم أقل لك إِنك لن تستطيعَ معي صبرًا} ، زاد " لك " ؛ لزيادة تأكيد المكافحة ؛ بالعتاب على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر ، لما تكرر منه الإنكار ، ولم يَرْعَوِ بالتذكير ، حتى زاد في النكير في المرة الثانية بذكر المنكر. {قال} موسى عليه السلام : {إِنْ سألتك عن شيء بعدها} ؛ بعد هذه المرة {فلا تُصاحبني} إن سألتُ صُحبتَكَ ، وقرأ يعقوب : " فلا تصحبني " ؛ رباعيًا ، أي : لا تجعلني صاحبًا لك ، {قد بلغتَ من لدُنِّي عُذْرًا} أي : قد أعذرتَ ووجدت مِنْ قِبَلِي عذرًا في
183
مفارقتي ، حيث خالفتك ثلاث مرات. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أَخِي مُوسَى ، استحيا ، فقال ذلك ، لو لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأبْصرَ أَعْجَبَ الأعَاجِيب " وفي البخاري : " وددنا لو صبر موسى ، حتى يقص الله علينا من أمرهما ". {فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قريةٍ} ، هي أنطاكية ، وقيل : أَيْلة ، وقيل الأبُلة ، وهي أبعد أرض الله من السماء ، وقيل : برقة ، وقال أبو هريرة وغيره : هي بالأندلس. ويُذكر أنها الجزيرة الخضراء. قلت : وهي التي تسمى اليوم طريفة ، وأصلها بالظاء المشالة. وذلك على قول إن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " كانوا أهل قرية لِئامًا " وقال قتادة : شر القرى التي لا يُضاف فيها الضيف ، ولا يعرف لابن السبيل حقه.
(4/262)
جزء : 4 رقم الصفحة : 182
ثم وصف القرية بقوله : {استطعما أهلها} أي : طلبا منهم طعامًا ، ولم يقل : استطعماهم ، على أن يكون صفة لأهل ؛ لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم ، فإن الإباء من الضيافة ، مع كونهم أهلها قاطنين بها ، أشنع وأقبح.
رُوي أنهما طافا بالقرية يطلبان الطعام ، فلم يطعموهما. واستضافاهم {فأَبَوا أن يُضيفوهما} بالتشديد ، وقرئ بالتخفيف. يقال : ضافه : إذا كان له ضيفًا ، أضافه وضيّفه : أنزله ضيفًا. وأصل الإضافة : الميل ، من : ضاف السهمُ عن الغرض : مال ، ونظيره : زاره ، من الازْوِرَار ، أي : الميل. فبينما هما يمشيان ، {فوجدا فيها جدارًا} ، قال وهب : كان طوله مائة ذراع ، {يُريد أن ينقضَّ} أي : يسقط ، استعار الإرادة للمشارفة ؛ للدلالة على المبالغة في ذلك ، والانقضاض : الإسراع في السقوط ، وهو انفعال ، من القض ، يقال : قضضته فانقض ، ومنه : انقضاض الطير والكوكب ؛ لسقوطه بسرعة. وقرئ : أن ينقاض ، من انقاضت السنُّ : إذا سقطت طولاً. {فأقامه} قيل : مسحه بيده فقام ، وقيل : نقضه وبناه ، وهو بعيد. {قال} له موسى : {لو شئتَ لاتخذتَ عليه أجرًا} نتعشى به ، وهو تحريض له على أخذ الجُعل ، أو تعريض بأنه فُضول ، وكأنه لَمَّا رأى الحِرمَان ومساس الحاجة كان اشتغاله بذلك في ذلك الوقت مما لا يعني ، فلم يتمالك الصبر عليه. قال ابن التين : إن الثالثة كانت نسيانًا ؛ لأنه يبعد الإنكار لأمر مشروع ، وهو الإحسان لمن أساء. هـ. وفيه نظر ؛ فقد قال القشيري في تفسير الآية : لم يقل موسى : إنك ألْمَمْتَ بمحظور ، ولكن قال : لو شئتَ ، أي : فإن لم تأخذ بسببك فهلا أخذت بسببنا ، فكان أخْذُ الأجر خيرًا من الترك ، ولئن وَجَبَ حقُّهم فَلِمَ أخللت بحقنا ؟ ويقال : إنَّ سَفَرَه ذلك كان سفرَ تأديب ، فَرُدَّ إلى تَحَمُّلِ المشقة ، وإلاَّ فهو نسي ، حيث سقى
184
(4/263)
لبنات شعيب ، وكان ما أصابه من التعب والجوع أكثر ، ولكنه كان في ذلك الوقت محمولاً ، وفي هذا الوقت مُتَحَمِّلا. هـ.
قلت : لأن الحق تعالى أراد تأديبه فلم يحمل عنه ، فكان سالكًا محضًا ، وفي وقت السقي : كان مجذوبًا محمولاً عنه.
ثم قال القشيري : وكما أن موسى كان يُحب صحبة الخضر ؛ لما له فيه من غرض استزادةٍ من العلم ، كان الخضر يحب ترك صحبته ؛ إيثارًا للخلوة بالله عنه. هـ. قاله في الحاشية الفاسية.
الإشارة : يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه ، ويعيب سفينة وجوده ، بتخريب ظاهره ، حتى لا يقبله أحد ، ولا يُقبل عليه أحد ، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه ، وأما ما دام ظاهره متزينًا بلباس العوائد ، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 182
ويُؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى ، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها ، وما يخف عليها فتحجزها عنه ، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق. ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع ؛ قيامًا بآداب العبودية ، وصونًا لكنز أسرار الربوبية. ويؤخذُ منه أيضًا : الإحسان لمن أساء إليه ، فإن أهل القرية أساؤوا ؛ بترك ضيافة الخضر ، فقابلهم بالإحسان ؛ حيث أقام جدارهم. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 182
قلت : {هذا} ، الإشارة إما إلى نفس الفراق ، كقولك : هذا أخوك ، أو إلى الوقت الحاضر ، أي : هذا وقت الفراق. أو إلى السؤال الثالث. و {بيني} : ظرف مضاف إليه المصدر ؛ مجازًا ، وقرئ بالنصب ، على الأصل ، و {غَصْبًا} : مصدر نوعي ليأخذ.
185
(4/264)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قال} الخضر عليه السلام : {هذا فراقُ بيني وبينك} فلا تصحبني بعد هذا ، {سأنبئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا} أي : سأخبرك بالخبر الباطن ، فيما لم تستطع عليه صبرًا ؛ لكونه منكرًا في الظاهر ، فالتأويل : رجوع الشيء إلى مآله ، والمراد هنا : المآل والعاقبة ، وهو خلاص السفينة من اليد العادية ، وخلاص أَبَوَيْ الغلام من شره ، مع الفوز بالبدل الأحسن ، واستخراج اليتيمين للكنز ، وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعته ، ولم يقل : " بتأويل ما رأيت " ؛ نوعُ تعريضٍ به ، وعناية عليه السلام.
ثم جعل يفسر له ، فقال : {أما السفينة} التي خرقتُها ، {فكانت لمساكين} : ضُعفاء ، لا يقدرون على مدافعة الظلمة ، فسماهم مساكين ؛ لذلهم وضعفهم ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وأمتْنِي مِسْكِينًا ، واحْشُرْنِي في زُمرةِ المَسَاكِينِ " فلم يُرد مسكنة الفقر ، وإنما أراد التواضع والخضوع ، أي : احشرني مخبتًا متواضعًا ، غير جبار ولا متكبر ، وقيل : كانت السفينة لعشرة إخوة : خمسة زَمْنَى ، وخمسة {يعملون في البحر}. وإسناد العمل إلى الكل ، حينئذ ، بطريق التغليب ، ولأن عمل الوكيل بمنزلة الموكل. {فأردت أن أعيبها} : أجعلها ذات عيب ، {وكان ورائهم ملكٌ} أي : أمامهم ، وقرئ به ، أو خلفهم ، وكان رجوعهم عليه لا محالة ، وكان اسمه : " جلندي بن كركر " وقيل : " هُدَدُ بن بُدَد " ، قال ابن عطية : وهذا كله غير ثابت ، يعني : تسمية الملك. {يأخذُ كلَّ سفينة} صالحة ، وقرئ به ، {غَصْبًا} من أصحابها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 185
(4/265)
وكان حق النظم أن يتأخر بيانُ إرادةِ التعيُّبِ عن خوف الغصب ، فيقول : فكانت لمساكين ، وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة ، فأردت أن أعيبها ؛ لأن إرادة التعيب مُسَبَّبٌ عن خوف الغصب ، وإنما قدّم ؛ للاعتناء بشأنها ؛ إذ هي المحتاجة إلى التأويل ، ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرها ، مع توهم رجوعه إلى الأقرب قال البيضاوي : ومبني ذلك - أي : التعيب وخوف الغصب - على أنه متى تعارض ضرران يجب حمل أهونهما بدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد ، غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. هـ.
{وأما الغلامُ} الذي قتلتُه {فكان أبواه مؤمنين} وقد طُبع هو كافرًا ، وإنما لم يصرح بكفره ؛ لعدم الحاجة إليه ؛ لظهوره من قوله : {فخشينا أن يُرهقهما} : فخفنا أن يغشى الوالدَيْنِ المؤمنَيْنِ {طغيانًا} عليهما {وكفرًا} بنعمتهما ؛ لعقوقه وسوء صنيعه ، فَيُلْحِقُهُمَا شرًا ، أو لشدة محبتهما له فيحملهما على طاعته ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره ، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر ، فلعله يميلهما إلى رأيه فيرتدا. وإنما
186
خشي الخضر عليه السلام منه ذلك ؛ لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على عاقبة أمره ، وقرئ : " فخاف ربك " ، أي : كره سبحانه كراهية من خاف سوء عاقبة الأمر. ويجوز أن تكون القراءة المشهورة من قول الله سبحانه على الحكاية ، أي فكرهنا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا ؛ {فأردنا أن يُبدلهما ربُّهما خيرًا منه} ؛ بأن يرزقهما بدله ولدًا {خيرًا منه زكاةً} : طهارة من الذنوب والأخلاق الردية ، {وأقربَ رُحْمًا} أي : رحمة وعطفًا ، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى ؛ من الدلالة على وصول الخير إليهما ، فلذلك قيل : ولدت لهما جارية ، تزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيًا ، هدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم ، وقيل : ولدت سبعين نبيًا ، وقيل : أبدلهما ابنًا مؤمنًا مثلهما.
(4/266)
{وأما الجدارُ} الذي أقمتُ {فكان لغلامين يتيمين في المدينة} أي : القرية المذكورة فيما سبق ، ولعل التعبير عنها بالمدينة ؛ لإظهار نوع اعتداد بها ، باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالح ، قيل : اسم اليتيمين أصرم وصريم. {وكان تحته كنزٌ لهما} من فضة وذهب ، كما في الحديث ، والذم على كنزهما إنما هو لمن لم يؤد زكاته ، مع أن هذه شريعة أخرى. قال ابن عباس : (كان لوحًا من ذهب ، مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ؟ وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ؟ وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ؟ وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله). وقيل : كانت صحفًا فيها علم مدفون.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 185
وكان أبوهما صالحًا} ، فيه تنبيه على أن سَعْيَهُ في ذلك كان لصلاح أبيهما ، وفيه دليل على أن الله تعالى يحفظ أولياءه في ذريتهم ، قيل : كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة أجداد. قال محمد بن المنكدر : (إن الله تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده ، ومَسربته التي هو فيها ، والدويرات التي حولها ، فلا يزالون في حفظ الله وستره). وكان سعيد بن المسيب يقول لولده : إني لأزيد في صلاتي من أجلك ، رجاء أن أُحْفَظَ فيك ، ويتلو هذه الآية. ويتلو هذه الآية. وفي الحديث : " ما أحسن أحدٌ الخلافة في ماله إلا أحسن الله الخلافة في تركته " ويؤخذ من الآية : القيام بحق أولاد الصالحين ؛ إذ قام الخضر عليه السلام بذلك.
{فأراد ربك} أي : مالكك ومُدبر أمرك. وفي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السلام ، دون ضميرهما ، تنبيه له عليه السلام على تحتم كمال الانقياد ، والاستسلام
187
(4/267)
لإرادته سبحانه ، وَوُجوب الاحتراز عن المناقشة فيما برز من القدرة في الأمور المذكورة وغيرها. أراد {أن يبلغا أشُدَّهما} : حُلُمَهُمَا وكمالَ رأيِهِمَا ، {ويستخرجا كنزهما} من تحت الجدار ، ولولا أني أقمته لانقض ، وخرج الكنز من تحته ، قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته ، وضاع بالكلية ؛ {رحمةً من ربك} مصدر في موضع الحال ، أي : يستخرجا كنزهما مَرْحُومَيْنِ به من الله تعالى. أو : يتعلق بمضمر ، أي : فعلت ما فعلت من الأمور التي شاهدتها ، {رحمة من ربك} ؛ بمن فُعل له أو به.
وقد استعمل الخضر عليه السلام غاية الأدب في هذه المخاطبة ؛ فنسب ما كان عيبًا لنفسه ، وما كان ممتزجًا له ولله تعالى ؛ فإن القتل بلا سبب ظاهرهُ عيبٌ ، وإبداله بخير منه خير ، فأتى بضمير المشاركة ، وما كان كمالاً محضًا ، وهو إقامة الجدار ، نسبه لله تعالى.
ثم قال : {وما فعلته} أي : ما رَأَيْتَ من الخوارق {عن أمري} أي : عن رأيي واجتهادي ، بل بوحي إلهي مَلَكي ، أو إلهامي ، على اختلافٍ في نبوته أو ولايته ، {ذلك} أي : ما تقدم ذكره من التأويلات ، {تأويلُ} أي : مآل وعاقبة {ما لم تَسْطِع عليه صبرًا} أي : تفسير ما لم تستطع عليه صبرًا ، فحذف التاء ؛ تخفيفًا ، وهو فذلكة لِمَا تقدم ، وفي جعل الصلة غير ما مرَّ تكرير للتنكير عليه وتشديد للعتاب. قيل : كل ما أنكر سيدنا موسى عليه السلام على الخضر قد جرى له مثله ، ففي هذه الأمثلة حجة عليه ، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة ، نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت مطروح في اليم ؟ فلما أنكر قتل الغلام وقيل له : أين إنكارك من وكْزك القبطي وقضائك عليه ؟ فلما أنكر إقامة الجدار ، نودي : أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجر ؟ والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 185
(4/268)
رُوِيَ أنه قال له : لو صبرتَ لأتيتُ بك على ألفي عجيبة ، كلها مما رأيت. ولما أراد موسى عليه السلام أن يفارقه ، قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به ، واطلبه لتعمل به. هـ.
وفي رواية : قال له : اجعل همتك في معادك ، ولا تخض فيما لا يعنيك ، ولا تأمن الخوفَ ، ولا تيأس الأمْن ، وتدبر الأمور في علانيتك ، ولا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له : زدني يا ولي الله ، فقال : يا موسى إياك واللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك ، من غير عَجَب ، ولا تُعير أحدًا بخطيئة بعد الندم ، وابك على خطيئَتك يا ابن عمران ، وإياك والإعجاب بنفسك ، والتفريط فيما بقي من عمرك ، فقال له موسى : قد أبلغت في الوصية ، أتم الله عليك نعمته ، وغمرك في رحمته ، وكلأك من عدوه. فقال الخضر : آمين. فأوصني أنت يا نبي الله ، فقال له موسى : إياك والغضب إلا في الله ، ولا ترضى عن أحد إلا في الله ، ولا تحب لدنيا ولا تبغض لدنيا ، فإنك تخرج من الإيمان
188
وتدخل في الكفر ، فقال له الخضر : قد أبلغت في الوصية يا ابن عمران ، أعانك الله على طاعته ، وأراك السرور في أمرك ، وحببك إلى خلقه ، وأوسع عليك من فضله ، قال موسى : آمين. تنبيه : قد تقدم أن الجمهور على حياة الخضر عليه السلام. وسبب تعميره أنه كان على مقدمة ذي القرنين ، فلما دخل الظلمات أصاب الخضر عين الحياة ، فنزل فاغتسل منها ، وشرب من مائها ، فأخطأ ذو القرنين الطريق ، فعاد ، فلم يصادفها ، قالوا : وإلياس أيضًا في الحياة ، يلتقيان في كل سنة بالموسم ، واحتج من قال بموت الخضر بقوله - عليه الصلاة والسلام- ، كما في الصحيح ، بعد صلاة العشاء : " أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ ، فَإِنَّه عَلَى رأسِ مِائَةِ سَنَةِ ، لا يَبْقَى ممَنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدًا " ، ويجاب بأن الخضر عليه السلام كان في ذلك الوقت في السحاب ، أو يخصص الحديث به ؛ كما يخص بإبليس ومن عَمَّر من غيره. والله تعالى أعلم.
(4/269)
الإشارة : الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم ، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله ، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام ؛ " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " ؛ كما في الحِكَم. فالواجب على المريد ، إذا كان بين يدي الشيخ ، السكوت والتسليم والاحترام والتعظيم ، إلا أن يأمره بالكلام ، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت ، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له ، ويطلب تأويله ، فإن الشريعة واسعة ، لها ظاهر وباطن ، فلعله اطلع على ما لم يفهمه المريد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 185
وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه ، ولا تأويل فيه ، كالزنا بالمعينة أو اللواط ، وأما ما اختلف فيه ، ولو خارج المذهب ، فلا ينكر عليه ، وكذلك ما فيه تأويل. هذا إن صحت عدالته ، فقد قالوا : إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل. وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه ، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه ، وكذلك غيره من أرباب الأحوال ، يُلتمس لهم أحسن المخارج ، فإن أحوالهم خضرية ، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 185
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ويسألونك} أي اليهود ، سألوه على وجه الامتحان ، أو قريش ، بتلقينهم. والتعبير بالمضارع ؛ للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجواب ، والمراد : ذو القرنين الأكبر ، وكان على عهد إبراهيم عليه السلام ، ويقال : إنه الذي قضى لإبراهيم حين تحاكم إليه في بئر السبع بالشام ، واسمه تبرس ، وقيل : هرديس ، وأما ذو القرنين الأصغر ، بالقرب من زمن عيسى عليه السلام ، واسمه الإسكندر ، وهو صاحب أرسطو الفيلسوف ، وقيل : المراد به هنا الأصغر ، واقتصر عليه المحلِّي.
(4/270)
قال الإمام الرازي : والأول أظهر ؛ لأن من بلغ مُلكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الأكبر ، كما شهدت به كتب التواريخ. قلت : كلاهما بلغا الغاية القصوى ، وملكا المشارق والمغارب ، أما ذو القرنين الأكبر ، فقيل : إنه كان ملِكًا عادلاً صالحًا ، ملك الأقاليم ، وقهر أهلها من الملوك ، ودانت له البلاد ، وإنه كان داعيًا إلى الله تعالى ، سائرًا في الخَلْق بالمعونة التامة والسلطان المؤيد المنصور ، وكان الخضر على مقدمة جيشه ، بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير. وقيل : كان ابن خالته. وذكر الأزرقي وغيره أنه أسلم على يد إبراهيم عليه السلام ، فطاف معه بالكعبة مع إسماعيل. ورُوي أنه حج ماشيًا ، فلما سمع إبراهيم عليه السلام بقدومه تلقاه ودعا له ، وأوصاه بوصايا. ويقال : إنه أُتي بفرس ليركب ، فقال : لا أركب في بلد فيه الخليل ، فعند ذلك سخّر له السحاب ، وطوى له الأسفار ، فكانت السحاب تحمله وعساكيره وجميع آلاتهم ، إذا ارادوا غزو قوم. وسئل عنه عليّ رضي الله عنه : أكان نبيًا أو ملَكًا - بالفتح - ؟ فقال : لم يكن نبيًا ولا ملَكًا ، ولكن كان عبدًا أحبَّ الله فأحبه الله ، وناصَحَ الله فناصحه ، فسخر له السحاب ، ومدَّ له الأسباب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 189
وقال مجاهد : ملك الأرض أربعةٌ : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان وذو القرنين ، والكافران : نمرود وبختنصر. هـ.
وأما ذو القرنين الأصغر ، وهو الإسكندر اليوناني ، فرُوِيَ انه لما مات أبوه جمع مُلْكَ الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم ، ثم مضى حتى أتى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر ، فبنى الإسكندرية وسماها باسمه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل ، وورد بيت المقدس وذبح في مذبحةٍ ، ثم انعطف إلى أرمينية وباب
190
(4/271)
الأبواب ، ودان له العراقيون والقبط والبربر ، واستولى على ملوك الفرس ، وقصد السند وفتحه ، وبنى مدينة سرنديب وغيرها ، ثم قصد الصين ، وغزا الأمم البعيدة ، ورجع إلى العراق ومرض ومات.
(4/272)
رُوِيَ أن أهل النجوم : قالوا له : إنك تموت على أرض من حديد ، وتحت سماء من خشب ، فبلغ بابل ، ورعُف ، وسقط عن دابته ، فبسطت له دروع من حديد ، فنام عليها ، فآذته الشمس ، فأظلوه بترس من خشب ، فنظر ، فقال : هذه أرض من حديد وسماء من خشب ، فمات ، وهو ابن ألف وستمائة سنة ، وقيل : ثلاثة آلاف ، قال ابن كثير : وهو غريب. قلت : والذي لابن عساكر : أنه عاش ستًا وثلاثين سنة ، وأنه كان بعد داود وسليمان - عليهما السلام - ثم قال ابن عساكر بعد كلام : وإنما بينّا هذا ؛ لأن كثيرًا من الناس يعتقدون أنهما واحد ، وأن المذكور في القرآن العظيم هو المتأخر ، فيقع بذلك خطأ كبير. كيف لا ، والأول كان عبدًا صالحًا مؤمنًا ، ملكًا عادلاً ، وزيره الخضر عليه السلام ، وقد قيل : إنه كان نبيًا ، وأما الثاني فقد كان كافرًا ، وزيره أرسْطَاطَاليس الفيلسوف ، وقد كان بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة ، فأين هذا من ذلك ؟ !. هـ. فتأمله مع ما ذكر في اللُباب من تعزيته أمه ، مما يدل على إسلامه ، قال فيه : لما علم ذو القرنين أن الموت استعجله ، دعا بكاتبه ، فقال له : اكتب تعزيتي لأمي ، بسم الله الرحمن الرحيم ، من الإسكندر بن قيصر ، رفيق أهل الأرض بجسده وأهل السماء بروحه ، إلى أمي رومية ذات الصفا ، التي لم تتمتع بثمرتها في دار الفناء ، وعما قريب تجاوره في دار البقاء ، يا أماه ؛ أسألك بودك لي وودي لك ، هل رأيت لِحَيِّ قرارًا في الدار الدنيا ؟ وانظري إلى الشجر والنبات يخضر ويبتهج ، ثم يهشم ويتناثر ، كأن لم يغنَ بالأمس ، وإني قد قرأت في بعض الكتب فيما أنزل الله : يا دنياي ارحلي بأهلِكِ ، فإنكِ لستِ لهم بدار ، إنما الدنيا واهبة الموت ، موروثة الأحزان ، مفرقة الأحباب ، مخربة العمران ، وكل مخلوق في دار الأغيار ليس له قرار. انظر بقية كلامه فيه. ولا يلزم من صحبته أرسطاطاليس أن يكون على دينه. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 189
(4/273)
واختُلِفَ في ذي القرنين المذكور في القرآن : هل كان نبيًا أو ملَكًا - بفتح اللام - أو ملِكًا - بالكسر - وهو الصحيح ، واختلف في وجه تسميته بذي القرنين ؛ فقيل : كان في رأسه أو تاجه ما يشبه القرنين ، وقيل : لأنه كان له ذؤابتان ، وقيل : لأنه دعا الناس إلى الله عزّ وجلّ ، فضُرب بقرنه الأيمن ، ثم دعا إلى الله فضرب بقرنه الأيسر ، وقيل : لأنه رأى في منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرني الشمس ، وقيل : لأنه انقرض في عهده قرنان ، وقيل : لأنه سخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه ، وتحوطه الظلمة من ورائه. هـ.
191
ثم ذكر الحق تعالى الجواب ، فقال : {قل سأتلو عليكم} أي : سأذكر لكم {منه ذكرًا} أي : خبرًا مذكورًا ، أو قرآنا يخبركم بشأنه ، والسين ؛ للتأكيد ، والدلالة على التحقق المناسب لمقام تأييده صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه بإنجاز وعده ، لا للدلالة على أن التلاوة ستقع في المستقبل ؛ لأن هذه الآية نزلت موصولة بما قبلها ، حين سألوه صلى الله عليه وسلم عنه ، وعن الروح ، وعن أهل الكهف ، فقال : غدًا أُخبركم ، فتأخر الوحي كما تقدم ، ثم نزلت السورة مفصلة. ثم شرع في تلاوة ذلك الذكر ، فقال : {إِنا مكنَّا له في الأرض} أي : مكنا له فيها قوة يتصرف فيها كيف يشاء ، بتيسير الأسباب وقوة الاقتدار ، حيث سخر له السحاب ، ومدّ له في الأسباب ، وبسط له النور ، فكان الليل والنهار عليه سواء ، وسهل له السير في الأرض وذللت له طرقها ، {وآتيناه من كل شيء} أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه {سببًا} أي : طريقًا يُوصله إليه ؛ من علم ، أو قدرة ، أو آلة ، فأراد الوصول إلى الغرب {فأتْبَع سببًا} : طريقًا يوصله إليه.
(4/274)
{حتى إذا بلغ مَغْرِب الشمس} أي : منتهى الأرض من جهة المغرب ، بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي ، الذي فيه الجزاير المسماة بالخالدات ، التي هي مبدأ الأطوال على أحد القولين. {وجدَها} أي : الشمس ، {تغربُ في عينٍ حَمِئَةٍ} أي : ذات حمأ ، وهو الطين الأسود ، وقرئ : حامية ، أي : حارة ، رُوي أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية ، وعنده ابن عباس ، فقال ابن عباس : حمئة ، فقال : معاوية لعبد الله بن عمرو بن العاص : كيف تقرأ ؟ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب ؟ قال : في ماء وطين ، كذا نجده في التوراة ، فوافق قول ابن عباس رضي الله عنه.
وليس بينهما تنافٍ ، لجواز كون العين جامعة بين الوصفين ، وأما رجوع معاوية إلى قول ابن عباس بما سمعه من كعب الأحبار ، مع أن قراءته أيضًا متواترة ، فلكون قراءة ابن عباس قطعية في مدلولها ، وقراءته محتملة ، ولعله لَمَّا بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك ، إذ ليس في مطمح نظره غير الماء ، كما يلوح به قوله تعالى : {وجدها تغرب} ، ولم يقل : كانت تغرب ؛ فإن الشمس في السماء لا تغرب في الأرض.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 189
ووجد عندها} أي : تلك العين {قومًا} ؛ قيل : كان لباسهم جلود الوحش ، وطعامهم ما لفظه البحر ، وكانوا كفارًا ، فخيّره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل ، وأن يدعوهم إلى الإيمان ، فقال : {قلنا يا ذا القرنين إِما أن تُعَذَّبَ} بالقتل من أول الأمر ، {وإِمّا أن تتخذ فيهم حُسْنًا} ؛ أمرًا ذا حُسْنٍ ، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ، واستدل بهذا على نبوته ، ومن لم يقل بها قال : كان بواسطة نبي كان معه في
192
(4/275)
ذلك العصر ، أو إلهامًا ، بعد أن كان التخيير موافقًا لشريعة ذلك النبي ، {قال} ذو القرنين ، لمن كان عنده : مختارًا للشق الأخير ، وهو الدعاء إلى الإسلام : {أمّا من ظَلَم} في نفسه ، وأصرّ على الكفران ، ولم يقبل الإيمان {فسوف نُعذِبُه} بالقتل. وعن قتادة : أنه كان يطبخ من كفر في القدور ، {ثم يُرَدُّ إلى ربه} في الآخرة {نُعَذِّبُهُ} فيها {عذابًا نُكْرًا} ؛ منكرٌ فظيعًا ، لم يُعهد مثله ، وهو عذاب النار. وفيه دلالة ظاهرة على أن الخطاب لم يكن بطريق الوحي إليه ، أي : حيث لم يقل : " ثم يرد إليك " ، وأن مقاولته كانت مع النبي ، أو مع من عنده من أهل مشورته.
{وأما مَنْ آمن} بموجب دعوته {وعَمِلَ} عملاً {صالحًا} حسبما يقتضيه الإيمان {فله} في الدارين {جزاء الحُسنى} ، أي : المثوبة الحسنى ، أو الفعلة الحسنى جزاء ، على قراءة النصب ، على أنه مصدر مؤكد للجملة ، قُدِّم عليه المبتدأ ؛ اعتناءً ، أو حال ، أو تمييز. {وسنقول له من أمرنا} أي : مما نأمر به {يُسْرًا} : سهلاً ميسرًا ، غير شاق عليه. والله تعالى أعلم.
(4/276)
الإشارة : ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه ، ودعا إلى الله ، ونصح لله ، مكّنه الله تعالى من الأرض ، ويسر له أموره ، حتى قطع مشارقها ومغاربها ، وكذلك من انقطع إلى الله ، ورفع همته إلى مولاه ، وأرشد الخلق إلى الله ، تكون همته قاطعة ، يقول للشيء كن فيكون ، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره ، يكون عند أمره ونهيه " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك " ، يقول الله تعالى ، في بعض كلامه : " يا عبدي كن لي كما أريد ، أكن لك كما تريد ". قال القشيري : ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا ، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها ، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها ، ويحظر أقطارها ومناكبها ، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء ؛ فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة ، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب ، أو غيره من قطع مسافة ، أو استتار عن أبصار ، وتصديق مأمول ، وتحقيق سؤال ، وإجابة دعاء ، وكشف بلاء ، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره ، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قومًا بما شاؤوا ، ويمنع قومًا عما شاؤوا ، فلهم من الحق تحقيق أمل ، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات ، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ ، فالله يحقق فيهم همتهم. هـ. قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته ، في كل وقت وحين ، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا ، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا ، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين. والله تعالى أعلم.
193
جزء : 4 رقم الصفحة : 189
(4/277)
قلت : {مَطْلِعَ} فيه لغتان : الكسر والفتح ، و {كذلك} : خبر عن مضمر ، أي : أمر ذي القرنين كما وصفنا لك ، أو صفة مصدر محذوف لِوَجَد ، أو {نجعل} أي : وجدا أو جعلا كذلك ، أو صفة لقوم ، أي : على قوم مثل ذلك القبيل ، الذي تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم ، أو صفة لستر ، أي : سترًا مثل
194
ستركم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ثم أَتْبَع} ذو القرنين {سببًا} : طريقًا راجعًا من مغرب الشمس ، موصلاً إلى مشرقها ، {حتى إِذا بلغ مَطْلِعَ الشمس} أي : الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً من معمورة الأرض ، قيل : بلغه في اثنتي عشرة سنة ، وقيل : في أقل من ذلك.
{وجدها تطْلُع على قوم} عراة {لم نجعلْ لهم من دونها سترًا} من اللباس والبنيان ، قيل : هم الزنج ، وفي اللباب : قيل : إنهم بنو كليب ، وقيل : إن بني كليب طائفة منهم ، وهم قوم بآخر صين الصين ، على صور بني آدم ، إلاّ أنهم لهم أذناب كأذناب الكلاب ، ووجوه كوجوه الكلاب ، وأكثر قُوتِهم الحوت ، ومَن مات منهم أكلوه ، وملأوا موضع دماغه مسكًا وعنبرًا ، وحبسوه عندهم ؛ تبركًا بآبائهم وأبنائهم. ثم قال : وليس لهم لباس إلا الجلود على عورتهم. هـ.
(4/278)
وعن كعب : أن أرضهم لا تمسك الأبنية ، وبها أسراب ، فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر ، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم ، يتراعون فيها كما ترعى البهائم. قال رجل من سمَرْقَنْد : خرجت حتى جاوزت الصين ، فقالوا لي : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة ، فاستأجرت رجلاً حتى بلغتهم ، فإذا أحدهم يفرش أذنه ، ويلبس الأخرى ، وكان صاحبي يُحسن لسانهم ، فسألهم فقالوا : جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس. قال : فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة ، فغشي عليَّ ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن ، فلما طلَعت الشمس على الماء ، إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت ، فأدخلونا سربًا لهم ، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك فيطرحونه في الشمس فينضج. هـ. وعن مجاهد : من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض. هـ.
(4/279)
وقوله تعالى : {كذلك} : أي : أمر ذي القرنين كما وصفنا ، في رفعة المحل وبسط الملك ، أو أمره فيهم كأمره في أهل مغرب الشمس ، من التخيير والاختيار ، أو وجد قومًا عند مطلع الشمس كذلك ، وحكم فيهم ، بحكم أولئك. أو : {لم نجعل لهم} سترًا مثل ستركم من اللباس والأكنان والجبال. قال الحسن : كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر ، ولا تحمل البناء ، فإذا طلعت الشمس هربوا إلى البحر. هـ. قال تعالى : {وقد أحطْنا بما لديه} من الأسباب والعُدَد ، وما صدر عنه وما لاقاه {خُبْرًا} : علمًا تعلق بظواهره ، وخفايا أمره ، يعني : أن ذلك بلغ من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير. الإشارة : كان ذو القرنين في الظاهر يلتمس مطلع الشمس الحسية ، وفي الباطن يلتمس مطلع الشمس المعنوية ، وهي شمس القلوب ، التي تكشف أستار الغيوب ، ثم أتبع سبَبًا يُوصل إلى شمس العيان ، فوجدها تطلع على قلوب أهل العرفان ، لم يجعل لهم من دونها سِتْرًا على الدوام ، لما أتحفهم به من غاية الوصال والإكرام ، حتى قال قائلهم : لو حجب عني الحق تعالى طرفة عين ما أعددت نفسي من المسلمين ، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يقول : وجدها تطلع على أهل التجريد ، الخائضين في بحار التوحيد ، وأسرار التفريد ، وفيهم قال المجذوب رضي الله عنه :
جزء : 4 رقم الصفحة : 194
أقَارِئينَ عِلْمَ التَّوْحِيدِ
هُنَا البُحورُ إلَيَّ تُنْبِي
هَذَا مَقَامُ أَهْلِ التَّجْرِيد
الْوَاقفِينَ مَع ربِّي
قد تجرّدوا من لباس الزينة والافتخار ، ولبسوا لباس المسكنة والافتقار ، فعوضهم الله تعالى في قلوبهم لباس الغنى والعز والاقتدار ، صبروا قليلاً ، واستراحوا زمنًا طويلاً ، تذللوا قليلاً ، وعزّوا عزًا طويلاً ، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 194
قلت : {بين السدين} : مفعول ، لا ظرف ؛ لأنه يستعمل متصرفًا.
(4/280)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ثم أتْبَعَ} ذو القرنين {سببًا} : طريقًا ثالثًا بين المشرق والمغرب ، سالكًا من الجنوب إلى الشمال ، {حتى إذا بلغ بين السدين} : بين الجبلين ،
195
اللذين سُدَّ ما بينهما ، وهو منقطع أرض الترك ، مما يلي المشرق ، لا جبال أرمينية وأذربيجان ، كما توهم ، وفيه لغتان : الضم والفتح ، وقيل : ما كان من فعل الله فهو مضموم ، وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح. {وجد من دونهما} أي : من ورائهما : مما يلي بر الترك ، {قومًا} : أمة من الناس {لا يكادون يفقهون} : يفهمون {قولاً} ؛ لغرابة لغتهم ، وقلة فطنتهم ، وقرئ بالضم ؛ رباعيًا ، أي : لا يُفصحون بكلامهم ، واختلف فيهم ، قيل : هم جيل من الترك ؛ قال السدي : الترك سُرْبة من يأجوج ومأجوج ، خرجت ، فضرب ذو القرنين السد ، فبقيت خارجة. قلت : ولعلهم طلبوا منه ذلك ، حين اعتزلوا قومهم ، ثم قال : فجميع الترك منهم. وعن قتادة : أنهم ، - أي : يأجوج ومأجوج - اثنتان وعشرون قبيلة ، سد ذو القرنين على إحدى وعشرين ، وبقيت واحدة ، فسُموا الترك ؛ لأنهم تُرِكُوا خارجين. قال أهل التاريخ : أولاد نوح عليه السلام ثلاثة : سام وحام ويافث ، فسام أَبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخرز والصقالبة ويأجوج ومأجوج. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 195
وقُرِئ بالهمز فيهما ؛ لأنه من أجيج النار ، أي : ضوؤها وشررها ، شُبهوا به في كثرتهم وشدتهم ، وهو غير منصرف ؛ للعجمة والعلَمية.
(4/281)
{قالوا يا ذا القرنين} ، إما أن يكون قالوه بواسطة ترجمان ، أو يكون فَهم كلامهم ، فيكون من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب ، فقالوا له : {إِن يأجوج ومأجوج} ، قد تقدم أنهم من أولاد يافث. وما يقال : إنهم من نطفة احتلام آدم لم يصح ، واختلف في صفاتهم ، فقيل : في غاية صغر الجثة وقصر القامة ، لا يزيد قدمهم على شبر ، وقيل : في نهاية عِظم الجسم وطول القامة ، تبلغ قدودهم نحو مائة وعشرين ذراعًا ، وفيهم من عرضه كذلك.
قال عبد الله بن مسعود : سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج ، فقال : " هم أمم ، كل أمة أربع مائة ألف ، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذَكَر من صلبه ، كلهم قد حمل السلاح " ، قيل : يا رسول الله صفهم لنا ، قال : " هم ثلاثة أصناف : صنف منهم أمثال الأرز - وهو شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وصنف يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مُقَدَّمَتُهُمْ بالشام ، وسَاقَتُهُمْ بخراسان ، يشربون أنهار المشرق ، وبحيرة طبرية ". فقالوا له : {إِنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض} أي : في أرضنا ، بالقتل ، والتخريب ، وإتلاف الزرع ، قيل : كانوا يخرجون أيام الربيع ، فلا يتركون أخضر إلا
196
أكلوه ، ولا يابسًا إلا احتملوه ، وكانوا يأكلون الناس أيضًا. {فهل نجعلُ لك خَرْجًا} أي : جُعْلاً من أموالنا {على أن تجعلَ بيننا وبينهم سدًّا} ؛ بالفتح وبالضم ، أي : حاجزًا يمنعهم منا ؟
(4/282)
{قال ما مكَّني} - بالفك وبالإدغام - أي : ما مكنني {فيه ربي} ، وجعلني في مكينًا قادرًا من الملك والمال وسائر الأسباب ، {خيرٌ} من جُعْلِكم ، فلا حاجة لي به ، {فأَعينوني بقوة} الأبدان وعمل الأيدي ، كصُنَّاع يحسنون البناء والعمل ، وبآلاتٍ لا بد منها في البناء ، {أجعلْ بينكم وبينهم رَدْمًا} أي : حاجزًا حصينًا ، وبرزخًا مكينًا ، وهو أكبر من السد وأوثق ، يقال : ثوب مُردم ؛ إذا كان ذا رقاع فوق رقاع ، وهذا إسعاف لهم فوق ما يرجون. {آتُوني زُبَرَ الحديد} : جمع زبرة ، وهي القطعة الكبيرة ، وهذا لا ينافي رد خراجهم ؛ لأن المأمور الإيتاء بالثمن أو المناولة ، كما ينبئ عنه قراءة : " ائتوني " ؛ بوصل الهمزة ، أي : جيئوني بزبر الحديد ، على حذف الباء ، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة ، دون الخراج على العمل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 195
قال القشيري : استعان بهم في الذي احتاج إليه منهم ، ولم يأخذ منهم عُمالة ؛ لما رأى أن من الواجب عليه حق الحماية على حسب المُكنة. هـ.
ولعل تخصيص الأمر بالإتيان بها دون سائر الآلات ؛ من الفحم والحَطب وغيرهما ؛ لأن الحاجة إليها أمسُّ ؛ لأنها الركن في السد ، ووجودها أعز. قيل : حفر الأساس حتى بلغ الماء ، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب ، والبنيان من زبر الحديد ، وجعل بيْنهما الفحم والحطب ، حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، وكان بينهما مائة فرسخ ، وذلك قوله تعالى : {حتى إذا ساوى بين الصَّدَفَينِ} ، وقرئ بضمهما ، أي : ما زال يبني شيئًا فشيئًا حتى إذا جعل ما بين ناصيتي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في السُّمْك. قيل : كان ارتفاعه : مائتي ذراع ، وعرضه : خمسون ذراعًا. وقرئ {سوَّى} ؛ بالتشديد ، من التسوية.
(4/283)
فلما سوّى بين الجبلين بالبناء ، {قال} للعَمَلة : {انفخوا} النيران في الحديد المبني ، ففعلوا {حتى إذا جعله} أي : المنفوخ فيه {نارًا} أي : كالنار في الحرارة والهيئة. وإسناد الجعل إلى ذي القرنين ، مع أنه من فعل العملة ؛ للتنبيه على أنه العمدة في ذلك ، وهم بمنزلة الآلة. {قال} للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها : {آتُوني أُفرغ عليه قِطْرًا} أي : آتوني نحاسًا مُذابًا أُفرغه عليه ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه ، لِمَا تقدم.
{فما اسطاعوا} أي : استطاعوا {أن يَظْهَرُوه} أيْ : يعلوه بالصعود لارتفاعه ، والفاء فصيحة ، أي : ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر ، فأفرغوه عليه ، فاختلط والتصق بعضه ببعض ، فصار جبلاً صلَدًا ، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه {فما
197
اسطاعوا أن يَظْهَرُوه} ؛ لارتفاعه وملاسته ، {وما استطاعوا له نَقْبًا} ؛ لصلابته ، وهذه معجزة له ؛ لأن تلك الزُبَر الكبيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر أحد أن يجول حولها ، فضلاً عن إفراغ القطر عليها ، فكأنه تعالى صرف النار عن أبدان المباشرين للأعمال. والله على كل شيء قدير.
{قال} ذو القرنين ، لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم : {هذا} أي : السد ، أو تمكينه منه ، {رحمةً} عظيمة {من ربي} على كافة العباد ، لا سيما على مجاوريه ، وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق ، بل هو إحسان إلهي محض ، وإن ظهر بمباشرتي. والتعرض لوصف الربوبية ؛ لتربية معنى الرحمة.
{فإذا جاء وعدُ ربي} : وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج ، أو بقيام الساعة ؛ بأن شارف قيامُها ، {جعله} أي : السد المذكور ، مع متانته ورصانته ، {دكّاءَ} : مدكوكًا مبسوطًا مستويًا بالأرض ، وفيه بيان عظمة قدرته تعالى ، بعد بيان سعة رحمته ، {وكان وعد ربي حقًا} : كائنًا لا محالة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 195
(4/284)
رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ يأجُوجَ ومأجُوجَ يَحْفِرُون السد ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ : ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرونه غَدًا ، فيُعِيدُهُ اللهُ كأشَدّ مَا كَانَ ، حَتَّى إِذَا بَلَغتْ مُدَّتُهُمْ ، حَفَرُوا ، حَتَّى إِذَا بَلَغتْ مُدَّتُهُمْ ، حَفَرُوا ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ ، قَالَ الذِي عَلَيْهم : ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ الله ، فَيَعُودُونَ إِلَيْه ، وهُوَ على هَيْئَتِهِ كما تَرَكُوهُ ، فَيَحْفِرُونَهُ فيخْرُجُونَ عَلَى النَّاس " وسيأتي في الأنبياء تمام قصة خروجهم ، إن شاء الله ، وهذا آخر كلام ذي القرنين. قال تعالى : {وتركنا بعضهم يومئذ} : يوم مجيء الوعد ، ويخرجون ، {يموجُ في بعض} ؛ يزدحمون في البلاد ، أو : يموج بعض الخلق في بعض ، فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم ، حيارى من شدة الهول. رُوي أنهم يأتون البحر فيشربونه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الشجر وما ظفروا به ، ممن لم يتحصن منهم من الناس ، ولا يقدرون على دخول مكة والمدينة وبيت المقدس ، ثم يبعث الله عليهم مرضًا في رقابهم ، فيموتون مرة واحدة ، فيرسل الله طيرًا فترميهم في البحر ، ثم يرسل مطرًا تغسل الأرضَ منهم ، ثم تُوضع فيها البركة ، وهذا بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام ، ثم تنقرض الدنيا كما قال تعالى :
{ونُفخ في الصُّور} ؛ لقيام الساعة ، {فجمعناهم جمعًا} ، وسكت الحق تعالى عن النفخة الأولى ؛ اكتفاء بذكرها في موضع آخر ، أي : جمعنا الخلائق بعدما تفرقت أوصالهم ، وتمزقت أجسادهم ، في صعيد واحد ؛ للحساب والجزاء ، جمعًا عجيبًا لا يُكْتَنَهُ
198
(4/285)
كُنْهُهُ ، {وعرَضْنَا جهنم} ؛ أظهرناها وأبرزناها {يومئذ} أي : يوم إذ جمعنا الخلائق كافة ، {للكافرين} منهم ، بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا ، {عَرضًا} فظيعًا هائلاً لا يقدر قدره ، وخص العَرض بهم ، وإن كان بمرْأى من أهل الموقف قاطبة ؛ لأن ذلك لأجلهم. ثم ذكر وصفهم بقوله : {الذين كانت أعينهم} وهم في الدنيا {في غطاءٍ} كثيف وغشاوة غليظة {عن ذكري} : عن سماع القرآن وتدبره ، أو : عن ذكري بالتوحيد والتمجيد ، أو كانت أعين بصائرهم في غطاء عن ذكري على وجه يليق بشأني ، {وكانوا لا يستطيعون سمعًا} أي : وكانوا مع ذلك ؛ لفرط تصامُمِهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، لا يستطيعون استماعًا منه لذكري وكلامي ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية ، كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 195
الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد ، أقلها سبع سنين ، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد ، منها : زيارة الإخوان ، والمذاكرة معهم ، وهي ركن في الطريق ، ومنها : نفع عباد الله ، إن كان أهلاً لتذكيرهم ، (فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته ، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا ، وتلوينًا غريبًا ، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد ، فالمريد كالماء ، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر ، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه ، أو يزيد به إلى ربه.
(4/286)
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب ، وليس عليهم أُمراء ، وليس بينهم قضاة ، ولا يختلفون ولا يتنازعون ، ولا يقتتلون ، ولا يضحكون ولا يحزنون ، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس ، أطول الناس أعمارًا ، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ ، فعجب منهم ، وقال : خبِّروني بأمركم ، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم ، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا ، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم ، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر ، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال : أخبروني من أين
199
(4/287)
تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد ، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع ، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية. قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله ، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم ، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويُواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويُحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمن جهل عليهم ، ويَصلُون أرحامهم ، ويُؤدون أمانتهم ، ويحفظون وقت صلاتهم ، ويُوفون بعهدهم ، ويَصدُقون في مواعدهم ، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم ، ما كانوا أحياءًا ، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم ، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 195
وقال في القوت : قوله تعالى ، في صفة أعدائه المحجوبين : {كانت أعينهم في غطاء عن ذكري} : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره ، ناظرون إلى غيبه ، قال تعالى في ضده : {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هُود : 20] ، وقال : {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ...} [هُود : 24] الآية. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 195
قلت : {أن يتخذوا} : سد مسد المفعولين ، أو حذف الثاني ، أي : أَحَسِبُوا اتخاذهم نافعَهم و {نزلاً} : حال من جهنم.
(4/288)
يقول الحقّ جلّ جلاله : منكرًا على الكفار المتقدمين : {أفَحَسِبَ الذين كفروا} حين أعرضوا عن ذكري ، وكانت أعينهم في غطاء عن رؤية دلائل توحيدي ، {أن يتخذوا عبادي} كالملائكة والمسيح وعزير ، أو الشياطين ؛ لأنهم عباد ، {من دُونِي أولياءَ} أي : معبودين من دوني ، يُوالونهِم بالعبادة ، أن ذلك ينفعهم ، أو : ألا نعذبهم على ذلك ، بل نعذبهم على ذلك ، {إِنا أَعتدنا} ؛ يَسَّرنا وهيأنا {جهنمَ للكافرين نُزُلاً} أي : شيئًا يتمتعون به أول ورودهم القيامة. والنزُل : ما يقدم للنزيل أي : الضيف ، وعدل عن الإضمار ؛ ذمًا لهم على كفرهم ، وإشعارًا بأن ذلك الإعتاد بسبب كفرهم ، وعبَّر بالإعْتادِ ؛
200
تهكمًا بهم ، وتخطئة لهم ، حيث كان اتخاذهم أولياء من قبيل العتاد ، وإعداد الزاد ليوم المعاد ، فكأنه قيل : إنا أعتدنا لهم ، مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذُّخْرِ ، جهنم ؛ عدة لهم. وفي ذكر النُزل : إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له ، وتستحقر دونه ، وقيل : النزل : موضع النزول ، أي : أعتدناها لهم منزلاً يقيمون فيه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما أحببتَ شيئًا إلا وكنتَ له عبدًا ، وهو لا يُحب أن تكون لغيره عبدًا ، فأَفْرد قلبك لله ، وأَخْرِج منه كلَّ ما سواه ، فحينئذ تكونُ عبدًا لله ، حرًا مما سواه ، فكل ما سوى الله باطلٌ ، وظل آفل ، فكن إبراهيميًا ، حيث قال : {لاا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعَام : 76] ، فارفع أيها العبد همتك عن الخلق ، وعلقها بالملك الحق ، فلا تُحب إلا الله ، ولا تطلب شيئًا سواه ، كائنًا ما كان ، من جنس الأشخاص ، أو من جنس الأحوال أو المقامات أو الكرامات ؛ لئلا تنخرط في سلك من اتخذ من دون الله أولياء ، فتكون كاذبًا في العبودية.(4/289)
رُوِيَ عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال : قرأتُ الفاتحة ، فقلت : الحمد لله رب العالمين. فقال لي الهاتف مِنْ قِبَل الله تعالى : صدقت ، فقلت : الرحمن الرحيم ، فقال : صدقت. فقلت : مالك يوم الدين ، فقال : صدقت. فلما قلتُ : إياك نعبد ، قال كذبتَ ؛ لأنك تعبد الكرامات ، قال : ثم أدبني ، وتبت لله تعالى. ذكره ابن الصباغ مُطولاً. قلت : ولعله قبل ملاقاة الشيخ ، ولذلك عاتبه بقوله : يا أبا الحسن عِوَضُ ما تقول : " سَخِّر لي خلقك " ، قل : يا رب كن لي ، أرأيت إن كان لك أيفوتك شيء ؟ نفعنا الله بجميعهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 200
قلت : {أعمالاً} : تمييز ، و {في الحياة} : متعلق بسعيهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قل} يا محمد : {هل نُنبئُكم} يا معشر الكفرة {بالأخسرين أعمالاً} أي : بالذين خسروا من جهة أعمالهم ؛ كصدقةٍ ، وعتق ، وصلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، حيث عملوها في حال كفرهم فلم تُقبل منهم ، وهم : {الذين ضلَّ سعيُهُم} أي : بطل بالكلية {في الحياة الدنيا} أي : بطل ما سَعْوا فيه في الحياة
201
الدنيا وعملوه ، {وهم يَحسبون} : يظنون {أنهم يُحسنُون صُنعًا} أي : يأتون بها على الوجه الأكمل ، وقد تركوا شرط صحتها وكمالها ، وهو الإيمان ، واختلف في المراد بهم ، فقيل : مشركو العرب ، وقيل : أهل الكتابين ، ويدخل في الأعمال ما عملوه في الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات. وقيل : الرهبان الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحْملونَها على الرياضات الشاقة.
(4/290)
والمختار : العموم في كل من عمل عملاً فاسدًا ، يظن أنه صحيح من الكفرة ، بدليل قوله : {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم} : بدلائل التوحيد ، عقلاً ونقلاً ، {ولقائه} : البعث وما يتبعه من أمور الآخرة ، {فحَبِطَتْ} لذلك {أعمالُهم} المعهودة حبوطًا كليًا ، {فلا نُقيم لهم} أي : لأولئك الموصوفين بحبوط الأعمال ، {يومَ القيامة وزنًا} أي : فنُهينُهم ، ولا نجعل لهم مقدارًا واعتبارًا ؛ لأن مدار التكريم : الأعمالُ الصالحة ، وقد حبطت بالمرة ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " يُؤتى بالرَّجُل السَّمِين العَظِيم يَوْمَ القِيَامَةِ ، فلاَ يَزنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " ؛ اقْرَأوا إن شِئْتُمْ : {فلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا}. أو : لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانًا ؛ لأن الكفر أحبطها. أو : لا نقيم لهم وزنًا نافعًا. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : يأتي أناسٌ بأعمالهم يوم القيامة ، هي عندهم في العِظَم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لا تزن شيئًا ، فذلك قوله : {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا}.
جزء : 4 رقم الصفحة : 201
ثم بيَّن مآل كفرهم بعد أن بيَّن مآل أعمالهم ، فقال : {ذلك} الصنف الذين حبطت أعمالهم {جزاؤُهم جهنمُ} ، أو الأمر ذلك ، ثم استأنف بقوله : {جزاؤُهم جهنمُ بما كفروا} أي : بسبب كفرهم المتضمن لسائر القبائح ، التي من جملتها ما تضمنه قوله : {واتَّخذُوا آياتي} الدالة على توحيدي أو كلامي ، أو معجزاتي ، {ورسلي هُزُوًا} أي : مهزوًا بهم ، فلم يقتنعوا بمجرد الكفر ، بل ارتكبوا ما هو أعظم ، وهو الاستهزاء بالآيات والرسل. عائذًا بالله من ذلك.
(4/291)
الإشارة : كل آية في الكفار تجر ذيلها على الغافلين ، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان ، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه ، وهو يحسب أنه يُحسن صُنعًا ، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع ، فتنسحب الآية على طوائف ، منها : منْ عَبَدَ اللهَ لطلب المنزلة عند الناس ، وهذا عين الرياء ؛ رُوي عن عثمان أنه قال على المنبر : (الرياء سبعون بابًا ، أهونها مثل نكاح الرجل أمه). ومنها : من عَبَدَ الله لطلب العوض والجزاء عند الخواصِّ ، ومنها : من عبد الله لطلب الكرامات وظهور الآيات ، ومنها : من عبد الله بالجوارح الظاهرة ، وحجب عن الجوارح الباطنة ، وهي عبادة القلوب ، فإن الذرة منها
202
تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح ، ومنها : من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم ، وغفل عن علم القلوب ، وهو بطالة وغفلة عند المحققين ، ومنها من قنع بعبادة القلوب ، كالتفكر والاعتبار ، وغفل عن عبادة الأسرار ، كفكرة الشهود والاستبصار ، والحاصل : أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال ، وإنْ كان لا يشعر ، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده ، وسيأتي عند قوله تعالى : {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزُّمَر : 47] ، زيادة بيان على هذا إن شاء الله. فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند أخرين ؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 201
(4/292)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِن الذين آمنوا} بآيات ربهم ولقائه ، {وعملوا} الأعمال {الصالحات كانت لهم} ؛ فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده ، {جنَّاتُ الفردوسِ} ، وهي أعلى الجنان. وعن كعب : أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس ، وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، أي : أهل الوعظ والتذكير من العارفين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في الجَنَِّ مِائَةُ دَرَجَةٍ ، ما بَيْنَ كُل دَرَجتين كما بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْض ، أَعلاها الفِرْدَوس ، ومِنْها تَفَجَّرُ أنْهَارُ الجنَّةِ ، فَوْقَها عَرْشُ الرحمن ، فإذَا سَأَلْتُمُ اللهُ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ " وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم : " جنان الفردوس أربع : جنتان من فِضَّةٍ ، أبنيتهما وآنيتُهُما ، وجنَّتان من ذهب ، أبنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظُرُوا إلى ربهمْ إلا رِدَاءُ الكبْرياءِ على وَجْهِه " وقال قتادة : الفردوس : ربوة الجنة. وقال أبو أمامة : هي سرة الجنة. وقال مجاهد : الفردوس : البستان بالرومية. وقال الضحاك : هي الجنة الملتفة الأشجار.
203
كانت لهم {نُزُلاً} أي : مقدمة لهم عند ورودهم عليه ، على حذف مضاف ، أي : كانت لهم ثمار جنة الفردوس نُزلاً ، أو جعلنا نفس الجنة نُزلاً ، مبالغةً في الإكرام ، وفيه إيذان بأن ما أعدَّ الله لهم على ما نطق به الوحي على لسان النبوة بقوله : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خَطَرَ على قلب بشر " هو بمنزلة النُزُل بالنسبة إلى الضيافة وما بعدها ، وإن جُعِلَ النُزل بمعنى المنزل ؛ فظاهر. {خالدين فيَبْغُون عنها حِوَلاً} أي : لا يطلبون تحولاً عنها ؛ إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم ، وأرفع منها ، حتى تنزع إليه أنفسهم ، أو تطمح نحوه أبصارهم. ونعيمهم مجدد بتجدد أنفاسهم ، لا نفادَ له ولا نهاية ؛ لأنه مكون بكلمة " كن " ، وهي لا تتناهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 203
(4/293)
قال تعالى : {قل لو كان البحرُ} أي : جنس البحر {مِدَادًا} ، وهو ما تمد به الدواة من الحِبْر ، {لِكلماتِ ربي} وهي ما يقوله سبحانه لأهل الجنة ، من اللطف والإكرام ، مما لا تكيفُه الأوهام ، ولا تحيط به الأفكار ، فلو كانت البحار مدادًا والأشجار أقلامًا لنفدت ، ولم يبق منها شيء ، {قبل أن تنفد كلماتُ ربّي} ؛ لأن البحار متناهية ، وكلمات الله غير متناهية. ثم أكّده بقوله : {ولو جئنا بمثله مدَدًا} أي : لنفد البحر من غير نفاد كلماته تعالى ، هذا لو لم يجيء بمثله مددًا ، بل ولو جئنا بمثله {مددًا} ؛ عونًا وزيادة ؛ لأن ما دخل عالم التكوين كله متناهٍ.
{قل} لهم : {إِنما أنا بشرٌ مثلكم} يتناهى كلامي ، وينقضي أجلي ، وإنما خُصصت عنكم بالوحي والرسالة ؛ {يُوحى إِليَّ} من تلك الكلمات : {أنما إِلهكم إِله واحد} لا شريك له في الخلق ، ولا في سائر أحكام الألوهية ، {فمن كان يرجو لقاء ربه} : يتوقعه وينتظره ، أو يخافه ، فالرجاء : توقع وصول الخير في المستقبل ، فمن جعل الرجاء على بابه ، فالمعنى : يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضى وقبول. ومن حمله على معنى الخوف ، فالمعنى : يخاف سوء لقائه. قال القشيري : حَمْلُه على ظاهره أَوْلى ؛ لأن المؤمنين قاطبةً يرجون لقاءَ الله ، فالعارفون بالله يرجون لقاءه والنظر إليه والمؤمنون يرجون لقاءه وكرامته بالنعيم المقيم. هـ. بالمعنى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 203
(4/294)
والتعبير بالمضارع في {يرجو} ؛ للدلالة على أن اللائق بحال المؤمنين : الاستمرار والاستدامة على رجاء اللقاء ، أي : فمن استمر على رجاء لقاء كرامة الله ورضوانه {فليعملْ} ؛ لتحصيل تلك الطلبة العزيزة {عملاً صالحًا} ، وهو الذي توفرت شروط صحته وقبوله ، ومدارها على الإتقان ؛ ظاهرًا ، والإخلاص ؛ باطنًا. وقال سهل : العمل الصالح : المقيد بالسُنَّة ، وقيل : هو اعتقاد جواز الرؤية وانتظار وقتها. {ولا يُشرك بعبادةِ ربه أحدًا} إشراكًا جليًا ، كما فعل الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا ؛ حيث كفروا بآيات ربهم ولقائه ، أو إشراكًا خفيًا ، كما يفعله أهل الرياء ، ومن يطلب به عوضًا أو ثناءً حسنًا.
204
(4/295)
قال شهر بنُ حَوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت ، فقال : أرأيت رجلاً يُصلي يبتغي وجه الله ، ويحب أن يُحمد عليه ، ويتصدق يبتغي وجه الله ويُحب أن يُحمد عليه ، ويحج كذلك ؟ قال عبادة : ليس له شيء ، إن الله تعالى يقول : " أنا خيرُ شريك ، فمن كان له شريك فهو له " ورُوي أن جُنْدبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَال لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : إِنِّي لأعْمَلُ العَمَلَ للهِ تَعَالى ، فإذا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سرَّني ، فقال له عليه الصلاة والسلام : " لَكَ أَجْرَان : أجْرُ السِّرِّ ، وأَجْرُ العَلاَنِيَةِ " وذلك إذا قصد أن يُقْتَدَى به ، وكان مُخْلصًا في عمله. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اتقوا الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء ". وقال صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية - : " إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي ، وإياكم وشرك السرائر ، فإنَّ الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء " ، فشق ذلك على القوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يذهب الله عنكم صغير الشرك وكبيره " ؟ قالوا : بلى ، قال : " قولوا : " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك من كل ما لا أعلم ". وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ قَرَأ آخرَ سورة الكَهف - يعني : {إن الذين آمنوا} إلى آخره - كَانَتْ لَهُ نُورًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ ، وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّها كانَتْ له نُورًا من الأرْضِ إلى السَّمَاءِ " وعنه صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأَ عِنْدَ مَضْجِعِهِ : {قل إنما أنا بشر مثلكم} الخ ، كَانَ لَهُ مِنْ مَضْجَعِهِ نُورًا يَتَلألأ إلى مَكّةَ ، حَشْوُ ذلِكَ النُّور مَلائِكَةٌ يُصَلُون حَتَّى يَقُومَ ، وإنْ كَانَ بِمَكَةَ كانَ لَهُ نُورًا إلى البيتِ المَعْمُور " قلت : ومما جُرِّب أن من قرأ هذه الآية ، {إن الذين آمنوا} الخ ، ونوى أن يقوم في أي ساعة شاء ، فإن الله تعالى يُوقظه بقدرته.(4/296)
وانظر الثعلبي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 203
الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، وعملوا عمل الخصوص - وهو العمل الذي يقرب إلى الحضرة - كانت لهم جنة المعارف نُزلاً ، خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً ؛ لأنَّ من تمكن من المعرفة لا يُعزل عنها ، بفضل الله وكرمه ، كما قال القائل :
مُذْ تَجَمَّعْتْ مَا خَشيتُ افْتِراقًا
فأَنّا اليَوْمَ وَاصلٌ مَجْمُوعُ
ثم يترقون في معاريج التوحيد ، وأسرار التفريد ، أبدًا سرمدًا ، لا نهاية ؛ لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية ، وهي كلمة التكوين ، التي لا تنفد ؛ {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي...} الآية. هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم ، فلا يلزم
205
من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ وحي إلهام ، ويلقى في رُوعي أنما إلهكم إله واحد ، لا ثاني له في ذاته ولا في أفعاله ، فمن كان يرجو لقاء ربه في الدنيا لقاء الشهود والعيان ، ولقاء الوصول إلى صريح العرفان ؛ فليعمل عملاً صالحًا ، الذي لا حظ فيه للنفس ؛ عاجلاً ولا آجلاً ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا ، فلا يقصد بعبادته إلا تعظيم الربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
206
جزء : 4 رقم الصفحة : 203(4/297)
سورة مريم
جزء : 4 رقم الصفحة : 206
قيل : هي مختصرة من أسماء الله تعالى ، فالكاف من كافٍ ، والهاء من هادٍ ، والياء من يمين ، والعين من عليم أو عزيز ، والصاد من صادق. قاله الهروي عن ابن جبير.
قال أبو الهيثم : جعل الياء من يمين ، من قولك : يَمَن الله الإنسانَ يَيْمنُهُ يمنًا فهو ميْمون. هـ. ولذا ورد الدعاء بها ، فقد رُوي عن عليّ - كرم الله وجهه - أنه كان يقول : (يا كهيعص ؛ أعوذ بك من الذنوب التي تُوجب النقم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تغير النعم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تهتِك العِصَم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تحبس غيث السماء ، وأعوذ بك من الذنوب التي تُديل الأعداء ، انصرنا على من ظلمنا). كان يقدم هذه الكلمات بين يدي كل شدة. فيحتمل أن يكون توسل بالأسماء المختصرة من هذه الحروف ، أو تكون الجملة ، عنده ، اسمًا واحدًا من أسماء الله تعالى ، وقيل : هو اسم الله الأعظم. ويحتمل أن يشير بهذه الرموز إلى معاملته تعالى مع أحبائه ، فالكاف كفايته لهم ، والهاء هدايته إياهم إلى طريق الوصول إلى حضرته ، والياء يُمنه وبركته عليهم وعلى من تعلق بهم ، والعين عنايته بهم في سابق علمه ، والصاد صدقه فيما وعدهم به من الإتحاف والإكرام. والله تعالى أعلم.
وقيل : هي مختصرة من أسماء الرسول - عليه الصلاة والسلام - أي : يا كافي ، يا هادي ، يا ميمون ، يا عين العيون ، أنت صادق مصدق. وعن ماضي بن سلطان تلميذ أبي
207(4/298)
الحسن الشاذلي - رضي الله عنهما - : [أنه رأى في منامه أنه اختلف مع بعض الفقهاء في تفسير قوله : (كهيعص. حم. عسق) ، فقلت : هي أسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكأنه قال : " كاف " ؛ أنت كهف الوجود ، الذي يؤم إليه كلُّ موجود ، " ها " ؛ هبنا لك الملك ، وهيأنا لك الملكوت ، " يَعَ " ؛ يا عين العيون ، " ص " ؛ صفات الله {مَن يُطع الرسولَ فقد أطاع الله} ، " حاء " ؛ حببناك ، " ميم " ملَّكناك ، " عين " علمناك ، " سين " ؛ ساررناك ، " قاف " ؛ قربناك. فنازعوني في ذلك ولم يقبلوه ، فقلت : نسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفصل بيننا ، فسرنا إليه ، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لنا : " الذي قال محمد بن سلطان هو الحق " ]. وكأنه يشير إلى أنها صفات أفعال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 207
قلت : {ذكر} : خبر عن مضمر ، أي : هذا ذكر ، والإشارة للمتلو في هذه السورة ؛ لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر في حكم الحاضر الشاهد. وقيل : مبتدأ حُذف خبره ، أي : فيما يُتلى عليك ذكر رحمت ربك. وقيل : خبر عن {كهيعص} ، إذا قلنا ؛ هي اسم للسورة ، أي : المسمى بهذه الحروف ذكر رحمة ربك ، و {عبده} : مفعول لرحمة ربك ، على أنها مفعول لما أضيف إليها ، أو لذكر ، على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع. ومعنى (ذكر الرحمة) : بلوغها إليه ، و {زكريا} : بدل منه ، أو عطف بيان ، و {إذ نادى} : ظرف لرحمة ، وقيل : فذكْر ، على أنه مضاف إلى فاعله ، وقيل : بدل اشتمال من زكريا ، كما في قوله : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ....} [مريَم : 16] ، و {مِنّي} : حال من العَظْم ، أي : كائنًا مني ، و {شيئًا} : تمييز.
(4/299)
يقول الحقّ جلّ جلاله : هذا الذي نتلوه عليك في هذه السورة هو {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} >. قال الثعلبي : [فيه تقديم وتأخير]. أي : ذكر ربك عبده زكريا برحمته ، {إِذْ نادى ربه} وهو في محرابه في طلب الولد {نداءً خفيًّا} : سرًا من قومه ، أو في جوف الليل ، أو مخلصًا فيه لم يطلع عليه إلا الله. ولقد راعى عليه السلام حسن الأدب في إخفاء دعائه فإنه أَدْخَلُ في الإخلاص وأَبَْعَدُ من الرياء ، وأقرب إلى الخلاص من كلام الناس ، حيث طلب الولد في غير إِبَّانِهِ ومن غائلة مواليه الذين كان يخافهم.
{قال} في دعائه : {ربِّ إِني وَهَنَ العظمُ مني} أي : ضعف بدني وذهبت قوتي. وإسناد الوهن إلى العَظْم ؛ لأنه عماد البدن ودعامة الجسد ، فإذا أصابه الضعف والرخاوة
208
أصاب كله ، وإفراده للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهن إلى كل فرد من أفراده. ووهن بدنه عليه السلام : لكبر سنه ، قيل : كان ابن سبعين ، أو خمسًا وسبعين ، وقيل : مائة ، وقيل : أكثر.
{واشتعل الرأسُ شيبًا} أي : ابيضَّ شَمَطًا. شبه عليه السلام الشيب من جهة البياض والإنارة بشواظ النار ، وانتشاره في الشعر وفُشوِّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرجه مخرج التمييز ، ففيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة ما لا يخفى ، حيث كان الأصل : واشتعل شيب رأسي ، فأسند الاشتعال إلى الرأس ؛ لإفادة شموله لكلها ، فإن وِزَانَهُ : اشتعل بيته نارًا بالنسبة إلى اشتعلت النار في بيته ، ولزيادة تقريره بالإجمال أولاً ، والتفصيل ثانيًا ، ولمزيد تفخيمه بالتكثير من جهة التنكير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 208
(4/300)
ثم قال : {ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا} أي : لم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل ، بل كنت كلما دعوتك استجبتَ لي. توسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه ، لعله يشفع له ذلك بمثله ، إثر تمهيد ما يستدعي ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال. والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع ، ولذلك قيل : من أراد أن يُستجاب له فليدعُ الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته.
ثم قال : {وإِني خفتُ الموالي} أي : الأقارب ، وهم : بنو عمه ، وكانوا أشرار بني إسرائيل ، فخاف ألا يحسنوا خلافته في أمته ، فسأل الله تعالى ولدًا صالحًا يأمنه على أمته. وقوله : {من ورائي} : متعلق بمحذوف ، أي : جور الموالي ، أو مما في الموالي من معنى الولاية ، أي : خفت أن يلوا الأمر من ورائي ، {وكانت امرأتي عاقرًا} : لا تلد من حين شبابها ، {فهبْ لي من لدنك} أي : أعطني من محض فضلك الواسع ، وقدرتك الباهرة ، بطريق الاختراع ، لا بواسطة الأسباب العادية ؛ لأن التعبير بِلَدُنَ يدل على شدة الاتصال والالتصاق ، {وليًّا} : ولدًا من صُلبي ، يلي الأمر من بعدي.
والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن ما ذكره عليه السلام من كبر السن وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عن الولد بتوسط الأسباب ، فاستوهبه على الوجه الخارق للعادة ، ولا يقدح في ذلك أن يكون هنالك داعٍ آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور ، من مشاهدته للخوارق الظاهرة عند مريم ، كما يعرب عنه قوله تعالى : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عِمرَان : 38]. وعدم ذكره هنا اكتفاء بما تقدم ، فإن الاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من النكتة التنزيلية. وقوله : {يرثني} : صفة لوليًّا ، وقرئ بالجزم هو وما عطف عليه جوابًا للدعاء ، أي : يرثني من حيث العلم والدين والنبوة ، فإن الأنبياء - عليه السلام - لا يورثون من جهة
209
(4/301)
المال. قال صلى الله عليه وسلم : " نحن مَعاشر الأنبيَاءِ لا نُورَثُ " وقيل : يرثني في الحبورة ، وكان عليه السلام حَبْرًا.
{ويرثُ من آل يعقوب} النبوة والمُلك والمال. قيل : هو يعقوب بن إسحاق. وقال الكلبي ومقاتل : هو يعقوب بن ماثان ، أخو عمران بن ماثان ، أبي مريم ، وكانت زوجة زكريا أخت أم مريم ، وماثان من نسل سليمان عليه السلام ، فكان آل يعقوب أخوال يحيى. قال الكلبي : كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم ، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ ، فأراد أن يرث ولده حبُورته ، ويرث من بني ماثان ملكهم. هـ.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 208
واجعله ربِّ رَضيًّا} أي : مرضيًا ، فعيل بمعنى مفعول ، أي : ترضى عنه فيكون مرضيًا لك ، ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل ، أي : راضيًا بتقديرك وأحكامك التعريفية والتكليفية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : طلب الوارث الروحاني- وهو وارث العلم والحال - جائز ليبقى الانتفاع به بعد موته. وقيل : السكوت والاكتفاء بالله أولى ، ففي الحديث : " يرحَم اللهُ أخانا زَكَرِيَّا ، وَمَا كَان عَلَيْه مَنْ يَرِثُه " وقوله تعالى : {نداء خفيًا}. الإخفاء عند الصوفية أولى في الدعاء والذكر وسائر الأعمال ، إلا لأهل الاقتداء من الكَمَلَة ، فهم بحسب ما يبرز في الوقت.
وقوله تعالى : {ولم أكن بدعائك ربّ شقيًّا}. فيه قياس الباقي على الماضي ، فالذي أحسن في الماضي يحسن في الباقي ، فهذا أحد الأسباب في تقوية حسن الظن بالله ؛ وأعظم منه من حسَّن الظن بالله ؛ لما هو متصف به تعالى من كمال القدرة والكرم ، والجود والرأفة والرحمة ، فإن الأول ملاحظ للتجربة ، والثاني ناظر لعين المِنَّة. قال في الحكم : " إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه ، حسّن ظنك به لوجود معاملته معك ، فهل عَوَّدَكَ إلا حَسَنًا ؟ وهل أسدى إليك إلا مننًا ؟ ".
جزء : 4 رقم الصفحة : 208
(4/302)
قلت : {عِتيًّا} : مصدر ، من عتا يعتو ، وأصله : عتوو ، فاستثقل توالي الضمتين والواوين ، فكسرت التاء ، فقلبت الأولى ياء ؛ لسكونها وانكسار ما قبلها ، ثم قُلبت الثانية أيضّا ؛ لاجتماع الواو والياء ، وسبق إحداهما بالسكون. {قال كذلك} : خبر ، أي : الأمر كذلك ، فيوقف عليه ، ثم يقول : {قال ربك} ، أو مصدر لقال الثانية ، أي : مثل ذاك القول قال ربك. و {سويًّا} : حال من فاعل {تكلم}.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {يا زكريا} ، كلمهُ بواسطة المَلك : {إِنا نبشركَ} ونجيب دعوتك {بغُلامٍ اسمه يَحيى} ؛ لأنه حيى به عُقْمُ أمه. أجاب نداءه في الجملة ، لا من كل وجه ، بل على حسب المشيئة ، فإنه طلب ولدًا يرثُه ، فأجيب في الولد دون الإرث ؛ فإن الجمهور على أن يحيى مات قبل موت أبيه - عليهما السلام - وقيل : بقي بعده برهة ، فلا إشكال حينئذ. وفي تعيين اسمه تأكيد للوعد وتشريف له ، وفي تخصيصه به - كما قال تعالى : {لم نجعل له من قبلُ سَميًّا} أي : شريكًا في الاسم ، حيث لم يتسم به أحد قبله - مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام ؛ فإن التسمية بالأسماء البديعة الممتازة عن أسماء الناس تنويه بالمسمى لا محالة. وقيل : {سَميًّا} : شبيهًا في الفضل والكمال ، كما قال تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم : 65] فإنه عليه السلام لم يكن قبله أحد مثله في بعض أوصافه ، لأنه لم يهم بمعصية قط ، وأنه ولد لشيخ فانٍ ، وعجوز عاقر ، وأنه كان حصورًا ، ولم تكن هذه الخصال لغيره.
(4/303)
{قال ربِّ أنّى يكونُ لي غلامٌ} أي : من أين وكيف يحدث لي غلام ، {وكانت امرأتي عاقرًا} : عقيمة ، {وقد بلغتُ من الكِبَر عتيًّا} : يبسًا في الأعضاء والمفاصل ، ونحولاً في البدن ، لِكِبَرِهِ ، وكان سنُّه إذ ذاك مائة وعشرين ، وامرأته ثمان وتسعين. وتقدم الخلاف فيه. وإنما قاله عليه السلام مع سبق دعائه وقوة يقينه ، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في آل عمران ؛ استعظامًا لقدرة الله تعالى ، وتعجيبًا منها ، واعتدادًا بنعمته تعالى عليه في ذلك ، بإظهار أنه من محض فضل الله وكرمه ، مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة. وقيل : كان دهشًا من ثمرة الفرح ، وقيل : كان ذلك منه استفهامًا عن كيفية حدوثه. وقيل : بل كان ذلك بطريق الاستبعاد ، حيث كان بين الدعاء والبشارة سِتُّون سنة ، وكان قد نسي دعاءه ، وهو بعيد.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 210
قال كذلك} أي : الأمر كما ذكر من كبر السن وعقم المرأة ، لكن هو على قدرتنا هين ، ولذلك قال : {قال ربك هو عليّ هيِّنٌ} ، أو مثل ذلك القول البديع قال ربك ، ثم
211
فسَره بقوله : {هو عليّ هيِّن} ، أو " مثل " مقحمة ، أي : ذلك قال ربك. والإشارة إلى مصدره ، الذي هو عبارة عن إيجاد الولد السابق ، أو كذلك قضى ربك. ثم قال : {هو عليَّ هيِّن وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تكُ شيئًا} أي : وقد أوجدت أصلك " آدم " من العدم ، ثم نشأتَ أنت من صلبه ، ولم تك شيئًا ، فإن نشأة آدم عليه السلام وتصويره منطوية على نشأة أولاده ، ولذلك قال في آية أخرى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعرَاف : 11] الآية. انظر تفسير أبي السعود.
(4/304)
{قال ربِّ اجعلْ لي آية} أي : علامة تدلني على تحقق المسؤول ، وبلوغ المأمول ، وهو حمل المرأة بذلك الولد ، لأتلقى تلك النعمة العظيمة بالشكر حين حدوثها ، ولا أؤخر الشكر إلى وقت ظهورها ، وينبغي أن يكون سؤاله الآية بعد البشارة ببرهة من الزمان ؛ لما يُروى أن (يحيى كان أكبر من عيسى - عليهما السلام - بستة أشهر ، أو بثلاث سنين) ، ولا ريب في أن دعاء زكريا عليه لسلام كان في صغر مريم ، لقوله تعالى : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران : 38] ، وهي إنما ولدت عيسى عليه السلام وهي بنت عشر سنين ، أو ثلاث عشرة سنة ، أو يكون تأخر ظهورُ الآية إلى قرب بلوغ مريم - عليها السلام -.
{قال} له تعالى : {آيتك ألاّ تُكَلّم الناس} أي : أن لا تقدر على أن تُكلم الناسَ مع القدرة على الذكر ، {ثلاث ليالٍ} بأيامهن ، للتصريح بها في آل عمران ، حال كونك {سويًّا} أي : سَوِيّ الخَلْقِ سليم الجوارح ، ما بك شائبَةُ بَكَمٍ ولا خَرَس ، وإنما مُنعت بطريق الاضطرار مع كمال الأعضاء. وحكمة منعه ؛ لينحصر كلامه في الشكر والذكر في تلك الأيام.
{فخرج على قومِهِ من المحراب} : من المصلّى ، وكان مغلقًا عليه ، فالمحراب مكان التعبد ، أو من الغرفة ، وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب ، ليدخلوا ويُصلوا ، إن خرج عليهم متغيرًا لونه ، فأنكروه ، وقالوا له : ما لك " فأوحى إليهم أي : أوْمَأ إليهم ، وقيل كتب في الأرض {أن سبِّحُوا} أي صلوا {بُكرةً وعَشِيًا} : صلاة الفجر وصلاة العصر ، ولعلها كانت صلاتهم. أو : نزهوا ربكم طرفي النهار ، ولعله أُمِر أن يُسبح فيها شكرًا ، ويأمر قومه بذلك. والله تعالى أعلم.
(4/305)
الإشارة : إجابة الدعاء مشروطة بالاضطرار ، قال تعالى : {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النَّمل : 62] وفي الحِكَم : " ما طلَبَ لك شيءٌ مثلُ الاضطرار ، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار. فإذا اضطررت إلى مولاك ، فلا محالة يجيب دعاك ، لكن فيما يريد لا فيما تريد ، وفي الوقت الذي يريد ، لا في الوقت الذي تريد. فلا تيأس ولا
212
تستعجل {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 216]. فإذا رأيت مولاك أجابك فيما سألته ، فاجعل كلامك كله في شكره وذكره ، واستفرغ أوقاتك ، إلا من شهود إحسانه وبره. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 210
قلت : {صبيًا} : حال من مفعول {آتيناه} ، و {حنانًا} و {زكاة} : عطف على {الحُكْم}. و {من لدنا} : متعلق بمحذوف ، صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية ، أي : وآتيناه الحكم وتحنُّنًا عظيمًا واقعًا من جنابنا ، أو شفقة في قلبه ورحمة على أبويه وغيرهما. قال ابن عباس : (ما أدري ما حنانًا إلا أن يكون تعطف رحمة الله على عباده). ومنه قولهم : " حَنَانَيْكَ " ، مثل سعديْك ، وأصله : من حنين الناقة على ولدها ، و {برًّا} : عطف على {تقيًّا}.
(4/306)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {يا يحيى} أي : قلنا يا يحيى ، وهذا استئناف طُوي قبله جمل كثيرة ، مما يدل على ولادته ونشأته ، حتى أوحي إليه ، ثم قال له : {يا يحيى خُذِ الكتابَ} أي : التوراة ، وقيل : كتاب خُص به ، فدلت الآية على رسالته. وفي تفسير ابن عرفة : أن يحيى رسول كعيسى. هـ. وقوله : {بقوةٍ} أي : بجد واجتهاد ، وقيل : بالعمل به ، {وآتيناه الحُكم صبيًا} ، قال ابن عباس : (الحكم هنا النبوة ، استنبأهُ وهو ابن ثلاث سنين) ، قلت : كون الصبي نبيًا جائز عقلاً ، واقع عند الجمهور ، وأما بعثه رسولاً فجائز عقلاً ، وظاهر كلام الفخر هنا أنه واقع ، وأن يحيى وعيسى بُعثا صغيرين. وقال ابن مرزوق في شرح البخاري ما نصه : (الأعم : بعث الأنبياء بعد الأربعين) ؛ لأنه بلوغ الأشد ، وقيل : أرسل يحيى وعيسى - عليهما السلام - صبيين. وقال ابن العربي : يجوز ، ولم يقع.
وقول عيسى عليه السلام : (إني عبد الله) إخبار عما وجب في المستقبل ، لا عما حصل. واستُشْكِلَ جواز بعث الصبي بأنه تكليف ، وشرطُه : البلوغُ ، إن كانت الشرائع فيه سواء. انظر المحشي الفاسي. قلت : والذي يظهر أن يحيى وعيسى - عليهما السلام - تنبئا صغيرين ، وأرسلا بعد البلوغ. والله تعالى أعلم. وقيل : الحكم : الحكمة وفهم التوراة والفقه في الدين. رُوي أنه دعاه الصبيان إلى اللعب ، فقال : ما لِلَعِبٍ خُلقت.
{و} آتيناه {حنانًا} أي : تحنُّنًا عظيمًا {من لَدُنَّا} : من جناب قدسنا ، أو تحننًا من الناس عليه. قال عوف : الحنان المحبّب ، {وزكاة} : طهارة من العيوب والذنوب ، أو
213
(4/307)
صدقة تصدقنا به على أبويه ، أو : وفّقناه للتصدق على الناس. {وكان تقيًّا} ؛ مطيعًا لله ، متجنبًا للمعاصي ، {وبرًا بوالديه} : لطيفًا بهما محسنًا إليهما ، {ولم يكن جبارًا عصيًّا} ؛ متكبرًا عاقًا ، فالجبّار : هو المتكبر ، لأنه يجبر الناس على أخلاقه. وقيل : من لا يقبل النصيحة ، أو عاصيًا الله تعالى. {وسلامٌ عليه} أي : سلامة من الله تعالى عليه ، {يوم وُلِدَ} من أن يناله الشيطان بما ينال بني آدم ، {ويومَ يموتُ} من عذاب القبر ، {ويوم يُبعث حيَّا} من هول القيامة وعذاب النار. رُوِيَ أن يحيى وعيسى - عليهما السلام - التقيا ، فقال له يحيى : استغفر لي ، فأنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني ، أنا سلمت على نفسي وأنت سلم الله عليك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 213
الإشارة : أخذ الكتاب بالقوة - وهو الجد والاجتهاد في قراءته - هو أن يكون متجردًا لتلاوته ، منصرف الهمة إليه عن غيره ، فلا يصدق على العبد أن يأخذ كتاب ربه بقوة ، حتى يكون هكذا عند تلاوته. قال الورتجبي : {خُذ الكتابَ بقوة} أي : خذ كتابنا بنا لا بك ، والكتاب كلام الحق الأزلي ، أي : خذ الكتاب الأزلي بالقوة الأزلية. هـ. ومعناه أن يكون التالي فانيًا عن نفسه ، متكلمًا بربه ، ويسمعه من ربه ، فهذا حال المقربين. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 213
(4/308)
قلت : {إذ انتبذت} : بدل اشتمال من مريم ، على أن المراد بها نبؤها ، فإن الظرف مشتمل على ما فيها ، وقيل : بدل الكل ، على أن المراد بالظرف ما وقع فيه. وقيل : " إذ " ظرف لنبأ المقدر ، أي : اذكر نبأ مريم حين انتبذت ؛ لأن الذكر لا يتعلق بالأعيان ، لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبأها عند انتباذها فقط ، بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستثناء داخل في حيز الظرف متمم للنبأ. و {مكانًا} : مفعول بانتبذت ، باعتبار ما فيه من معنى الإتيان ، أي : اعتزلت وأتَتْ مكانًا شرقيًا ، أو ظرف له ، أي : اعتزلت في مكان شرقي. و {بَشرًا} : حال. وجواب {إن كنت} : محذوف ، أي : إن كنت تقيًا فإني عائذة بالرحمن منك. و {بَغِيًّا} أصله : بغوي ، على وزن فعول ، فأدغمت الواو - بعد قلبها ياء - في الياء ، وكسرت الغين للياء ، و {لنجعله} : متعلق بمحذوف ،
214
أي : ولنجعله آية فعلنا ذلك ، أو معطوف على محذوف ، أي : لنُبين لهم كمال قدرتنا ولنجعله... الخ. أو على جملة : {هو عليّ هين} ؛ لأنها في معنى العلة ، أي : كذلك قال ربك ؛ لقدرتنا على ذلك ؛ ولنجعله... الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {واذكرْ} يا محمد {في الكتابِ} : القرآن ، والمراد هذه السورة الكريمة ؛ لأنها هي التي صُدرت بذكر زكريا ، واستتبعت بذكر قصة مريم ؛ لما بينهما من الاشتباك. أي : اذكر في الكتاب نبأ {مريم إِذ انتبذتْ} ؛ حين اعتزلت {من أهلها} وأتت {مكانًا شرقيًا} من بيت المقدس ، أو من دارها لتتخلى فيه للعبادة ، ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة. وقيل : قعدت في مشربة لتغتسل من الحيْض ، محتجبة بشيء يسترها ، وذلك قوله تعالى : {فاتخذتْ من دونهم حجابًا} ، وكان موضعها المسجد ، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، وإذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هي تغتسل من الحيض ، متحجبةً دونهم ، أتاها جبريل عليه السلام في صورة آدمي ، شاب أمرد ، وضيء الوجه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 214
(4/309)
قال تعالى : {فأرسلنا إِليها رُوحنا} : جبريل عليه السلام ، عبَّر عنه بذلك ؛ توفية للمقام حقه. وقرئ بفتح الراء ؛ لكونه سببًا لِمَا فيه روح العباد ، يعني اتباعه والاهتداء به ، الذي هو عدة المقربين في قوله : {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقِعَة : 88 ، 89]. {فتمثَّل لها بشرًا سويًّا} : سَويّ الخَلق ، كامل البنية ، لم يفقد من حِسان نعوت الآدمية شيئًا ، وقيل : تمثل لها في صورة شاب تِرْبٍ لها ، اسمه يوسف ، مِنْ خدَم بيت المقدس ، وإنما تمثل لها في تلك الصورة الجميلة لتستأنس به ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلامه تعالى ؛ إذ لو ظهر لها على صورة الملَكية ، لنفرت منه ولم تستطع مقاومته. وأما ما قيل من أن ذلك لتَهيج شهوتُها ، فتنحدر نطفتها إلى رحمها ، فغلط فاحش ، ينحو إلى مذهب الفلاسفة ، ولعلها نزعة مسروقة من مطالعة كتبهم ، يُكذبه قوله تعالى : {قالت إِني أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقيًا} ، فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها ميل إليه ، فضلاً عن ما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة. نعم يمكن أن يكون ظهر على ذلك الحُسن الفائق والجمال اللائق ؛ لابتلائها واختبار عِفّتها ، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه. وذِكْرُ عنوان الرحمانية ؛ للمبالغة في العِيَاذ به تعالى ، واستجلاب آثر الرحمة الخاصة ، التي هي العصمة مما دهمها. قاله أبو السعود. وقولها : {إِن كنتَ تَقيًّا} أي : تتقي الله فتُبَالى بالاستعاذة به.
{قال إِنما أنا رسولُ ربك} أي : لستُ ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر ، وإنما أنا رسول من استعذت برحمانيته ؛ {لأهَبَ لك غُلامًا} أي : لأكون سببًا في هبة الغلام ، أو : ليهب لك ربُك غُلامًا - في قراءة الياء -. والتعرض لعنون الربوبية مع الإضافة إلى
215
(4/310)
ضميرها ؛ لتشريفها وتسليتها ، والإشعار بعلية الحكم ؛ فإن هبة الغلام لها من أحكام تربيتها. وقوله : {زكيًّا} أي : طاهرًا من العيوب صالحًا ، أو تزكو أحواله وتنمو في الخير ، من سن الطفولية إلى الكبر.
{قالت أنَّى يكونُ لي غلامٌ} كما وصفتَ ، {و} الحال أنه {لم يَمْسَسني بشرٌ} بالنكاح ، {ولم أكُ بغيًا} ؛ زانية فاجرة تبتغي الرجال ؟ {قال} لها الملك : {كذلك} أي : الأمر كما قلتُ لك {قال ربكِ هو عليَّ هيِّنٌ} أي : هبة الغلام من غير أن يمسسك بشرٌ هين سهل على قدرتنا ، وإن كان مستحيلاً عادة ؛ لأني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط ، بل أمرنا بين الكاف والنون ، {و} إنما فعلنا ذلك {لنجعله آيةً للناس} يستدلون به على كمال قدرتنا. والالتفات إلى نون العظمة ؛ لإظهار كمال الجلالة ، {و} لنجعله {رحمةً} عظيمة كائنة {منا} عليهم ، ليهتدوا بهدايته ، ويُرشدوا بإرشاده. {وكان} ذلك {أمرًا مقضيًا} في الأزل ، قد تعلق به قضاء الله وقدره ، وسُطِّر في اللوح المحفوظ ، فلا بُدّ من جريانه عليك ، أو : كان أمرًا حقيقيًا بأن يقضى ويفعل ؛ لتضمنه حِكَمًا بالغة وأسرارًا عجيبة. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 214
الإشارة : لا تظهر النتائج والأسرار إلا بعد الانتباذ عن الفجار ، وعن كل ما يشغل القلب عن التذكار ، أو عن الشهود والاستبصار ، فإذا اعتزل مكانًا شرقيًا ، أي : قريبًا من شروق الأنوار والأسرار ، بحيث يكون قريبًا من أهل الأنوار ، أو بإذنهم ، أرسل الله إليه روحًا قدسيًا ، وهو وارد رباني تحيا به روحُه وسرُه وقلبُه وقالبُه ، فيهب له عِلمًا لدنيا ، وسرًا ربانيًا ، يكون آية لمن بعده ، ورحمة لمن اقتدى به وتبعه. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 214
216
قلت : {رُطبًا} : تمييز ، فيمن أثبت التاءين ، أو حذف إحداهما ، ومفعول به ، فيمن قرأ بتاء واحدة مع كسر القاف.
(4/311)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {فحملَتْهُ} بأن نفخ جبريل في درعها ، فدخلت النفخة في جوفها. قيل : إن جبريل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه ، وقيل : نفخ عن بُعد ، فوصل الريح إليها فحملت في الحال ، وقيل : إن النفخة كانت في فيها ، وكانت مدة حملها سبعة أشهر ، وقيل : ثمانية. ولم يعش ولد من ثمانية. وفي ابن عطية : تظاهرت الروايات أنها ولدت لثمانية أشهر ، ولذلك لا يعيش ابن ثمانية أشهر ؛ حفظًا لخاصية عيسى ، فتكون معجزة له. هـ. وقيل : تسعة أشهر. وقيل : ثلاث ساعات ، حملته في ساعة ، وصُور في ساعة ، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس. وقيل : ساعة ، ما هو إلا أن حملت فوضعت ، وسنها حينئذ ثلاث عشرة سنة ، وقيل : عشر سنين ، وقد حاضت حيضتين.
{فانتبذت به} أي : فاعتزلت ملتبسة به حين أحست بقرب وضعها ، {مكانًا قَصيًّا} : بعيدًا من أهلها وراء الجبل ، وقيل : أقصى الدار. {فأجاءها المخاضُ} ؛ فألجأها المخاض. وقرئ بكسر الميم. وكلاهما مصدر ، مَحَضتِ المرأة : إذا تحرك الولد في بطنها للخروج ، {إِلى جِذْعِ النخلةِ} لتستتر به ، أو لتعتمد عليه عند الولادة ، وهو ما بين العِرق والغصن. وكانت نخلة يابسة ، لا رأس لها ولا قعدة ، قد جيء بها لبناء بيت ، وكان الوقت شتاء ، والتعريف في النخلة إما للجنس أو للعهد ، إذ لم يكن ثَمَّ غيرها ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها ، وليطعمها الرطب ، الذي هو من طعام النفساء الموافق لها.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 216
(4/312)
قالت} حين أخذها وجع الطلق : {يا ليتني متُّ} بكسر الميم ، من مات يُمَاتُ ، وبالضم ، من مات يموت ، {قبل هذا} الوقت الذي لقيتُ فيه ما لقيت ، وإنما قالته ، مع أنها كانت تعلم ما جرى لها مع جبريل عليه السلام من الوعد الكريم ؛ استحياء من الناس ، وخوفًا من لائمتهم ، أو جريًا على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر ، كما رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنَةً من الأرض ، فقال : ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئًا ". وقال بلال : (ليت بلالاً لم تلده أمه). ثم قالت : {وكنتُ نسْيًا} أي : شيئًا تافهًا شأنه أن يُنسى ولا يُعتد به ، {منسيًّا} لا يخطر ببال أحد من الناس. وقُرئ بفتح النون ، وهما لغتان ؛ نِسي ونَسْي ، كالوَتْر والوِتْر. وقيل : بالكسر : اسم ما ينسى ، وبالفتح : مصدر.
{فناداها} أي : جبريل عليه السلام {مِنْ تحتِها} ، قيل : إنه كان يقبل الولد من تحتها ، أي : من مكان أسفل منها ، وقيل : من تحت النخلة ، وقيل : ناداها عيسى عليه السلام ، ويرجحه قراءة من قرأ بفتح الميم ، أي : فخاطبها الذي تحتها : {أن لا تحزني} ،
217
أو : بألا تحزني ، على أنَّ " أنْ " مفسرة ، أو مصدرية ، حذف عنها الجار. {قد جعل ربك تحتكِ} أي : بمكان أسفل منك {سَرِيًا} أي : نهرًا صغيرًا ، حسبما رُوي مرفوعًا. قال ابن عباس رضي الله عنهما : (إن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض ، فظهرت عين ماء عذب ، فجرى جدولاً). وقيل : فعله عيسى ، أي : ضرب برجله فجرى ، وقيل : كان هناك نهر يابس - أجرى الله تعالى فيه الماء - ، كما فعل مثله بالنخلة ، فإنها كانت يابسة لا رأس لها ، فأخرج لها رأسًا وخُوصًا وتمرًا. وقيل : كان هناك نهرُ ماء. والأول أظهر ؛ لأنه الموافق لبيان إظهار الخوارق ، والمتبادر من النظم الكريم.
(4/313)
وقيل : {سريًا} أي : سيدًا نبيلاً رفيعَ الشأن جليلاً ، وهو عيسى عليه السلام ، والتنوين حينئذ للتفخيم. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها ؛ لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.
ثم قال : {وهُزّي إِليك} أي : حركي النخلة إليك ، أي : جاذبة لها إلى جهتك. فهَزُّ الشيء : تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكًا عنيفًا ، والمراد هنا ما كان بطريق الجذب والدفع. والباء في قوله : {بجذع النخلة} : صلة للتأكيد ، لقول العرب : هزَّ الشيء وهز به ، أو للإلصاق. فإذا هززت النخلة {تَسَّاقَط} أي : تتساقط. وقُرئ : تساقِطَ ، وتُسْقِط ، أي : النخلة عليك إسقاطًا متواترًا بحسب تواتر الهز {رُطبًا جنيًا} أي : طريًّا ، وهو ما قطع قبل يبسه. فعيل بمعنى مفعول ، أي : مجنيًا صالحًا للاجتناء. {فكُلي} من ذلك الرطب {واشربي} من ذلك السري ، {وقَرّي عينًا} ؛ وطيبي نفسًا وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك ، فإنه تعالى قد نزه ساحتك عن التُهم ، بما يفصح به لسان ولدك من التبرئة. أو : وقري عينًا بحفظ الله ورعايته في أمورك كلها. وقرة العين : برودتها ، مأخوذ من القرّ ، وهو البرد ؛ لأن دمع الفرح بارد ، ودمع الحزن سُخن ، ولذلك يقال : قرة العين للمحبوب ، وسُخنة العين للمكروه.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 216
(4/314)
فإِما تَرَينَّ من البشر أحدًا} آدميًا كائنًا من كان {فقولي} له إن استنطقكِ أو لامك : {إِني نذرتُ للرحمن صومًا} أي : صمتًا ، وقُرئ كذلك ، وكان صيامهم السكوت ، فكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الطعام. وذكر ابن العربي في الأحوذي : أن نبينا - عليه الصلاة والسلام - اختص بإباحة الكلام لأمته في الصوم ، وكان محرمًا على من قبلنا ، عكس الصلاة. هـ. قالت : {فلن أُكلِّمَ اليوم إِنسيًّا} أي : بعد أن أخبرتكم بنذري ، وإنما أكلم الملائكة أو أناجي ربي. وقيل : أُمرت بأن تُخبر عن نذرها بالإشارة. قال الفراء : العرب تُسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلامًا ، ما لم يُؤكّد بالمصدر ، فإذا أُكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. هـ. وإنما أُمرت بذلك ونذرته ؛ لكراهة مجادلة السفهاء ومقاولتهم ، وللاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام ؛ فإنه نص قاطع في قطع الطعن.
218
{فأتت به قومًها} عندما طَهُرت من نفاسها ، {تحملُه} أي : حاملة له. قال الكلبي : احتمل يوسف النجار - وكان ابن عمها - مريمَ وابنها عيسى ، فأدخلهما غارًا أربعين يومًا ، حتى تَعَلّتْ من نفاسها ، ثم جاءت به تحمله بعد أربعين يومًا ، وكلمها عيسى في الطريق ، فقال : يا أمه ، أبشري ، فإني عبد الله ومسِيحُه. فلما رآها أهلُها ، بَكَوا وحزنوا ، وكانوا قومًا صالحين. {قالوا يا مريمُ لقد جئتِ} أي : فعلت {شيئًا فَرِيًّا} : عظيمًا بديعًا منكرًا ، من فَرَى الجلد : قطعه. قال أبو عبيدة : (كل فائق من عَجَب أو عمل فهو فَرِيّ). قال النبي صلى الله عليه وسلم : في حق عمر رضي الله عنه : " فلم أرَ عَبْقَرِيًا من النَّاس يَفْرِي فَرِيَّة " ، أي : يعمل عمله.
(4/315)
{يا أخت هارون} ، عنوا هارون أخا موسى ؛ لأنها كانت من نسله ، أي : كانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة ، وكان بينها وبينه ألفُ سنة. أو يا أخت هارون في الصلاح والنسك ، وكان رجلاً صالحًا في زمانهم اسمه هارون ، فشبهوها به. ذُكِرَ لما مات تبع جنازته أربعون ألفًا ، كلهم يسمي هارون من بني إسرائيل. وقيل : إن هارون الذي شبهوها به كان أفسق بني إسرائيل ، فشتموها بتشبيهها به. {ما كان أبوك} عمران {امْرأَ سَوْءٍ وما كانت أُمك بغيًا} ، فمن أين لك هذا الولد من غير زوج ؟ . هذا تقرير لكون ما جاءت به فريًا منكرًا ، أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش الفواحش.
{فأشارتْ إِليه} أي : إلى عيسى أن كلموه ، ولم تكلمهم وفاء بنذرها ، وإشارتها إليه من باب الإدلال ، رجوعًا لقوله لها : {وقرّي عينًا} ، ولا تقر عينها إلا بالوفاء بما وعُدت به ، من العناية بأمرها والكفاية لشأنها ، وذلك يقتضي انفرادها بالله وغناها به ، فتدل بالإشارة. وكان ذلك طوعَ يدها ، وتذكّر قضية جريج. قاله في الحاشية. {قالوا} منكرين لجوابها : {كيف نُكلم من كان في المهد صبيًّا} ، ولم يُعهد فيما سلف صبي يكلمه عاقل. و {كان} هنا : تامة. و {صبيًّا} : حال. وقيل : زائدة ، أي : من هو في المهد.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 216
قال} عيسى عليه السلام : {إِني عبد الله} ، أنطقه الله تعالى بذلك تحقيقًا للحق ، وردًا على من يزعم ربوبيته. قيل كان المستنطق لعيسى زكريا - عليهما السلام - وعن السدي : (لما أشارت إليه ، غضبوا ، وقالوا : لَسُخْرِيَتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت). رُوي أنه عليه السلام كان يرضع ، فلما سمع ذلك ترك الرضاع واقبل عليهم بوجهه ،
219
واتكأ على يساره ، وأشار بسبابته ، فقال ما قال. وقيل : كلمهم بذلك ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان.
(4/316)
ثم قال في كلامه : {آتاني الكتابَ} : الإنجيل : {وجعلني} مع ذلك {نبيًّا وجعلني مباركًا} : نفَّاعًا للناس ، معلمًا للخير {أينما كنتُ} أي : حيثما كنت ، {وأوصاني بالصلاة} : أمرني بها أمرًا مؤكدًا ، {والزكاة} ؛ زكاة الأموال ، أو بتطهير النفس من الرذائل {ما دمت حيًا} في الدنيا. {و} جعلني {برًّا بوالدتي} فهو عطف على {مباركًا}. وقرئ بالكسر ، على أنه مصدرٌ وُصف به مبالغةً ، وعبّر بالفعل الماضي في الأفعال الثلاثة ؛ إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم ، أو بجعل ما سَيَقَع واقعًا لتحققه. ثم قال : {ولم يجعلني جبارًا شقيًّا} عند الله تعالى ، بل متواضعًا لينًا ، سعيدًا مقربًا ، فكان يقول : سلوني ، فإن قلبي لين ، وإني في نفسي صغير ، لما أعطاه الله من التواضع.
ثم قال : {والسلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعث حيًّا} ، كما تقدم على يحيى. وفيه تعريض بمن خالفه ، فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده ، كما في قوله تعالى : {وَالسَّلاَمُ عَلَىا مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىا} [طه : 47] ؛ فإنه تعريض بأن العذاب على من كذّب وتولى.
(4/317)
فهذا آخر كلام عيسى عليه السلام ، وهو أحد من تكلم في المهد ، وقد تقدم ذكرهم في سورة يوسف نظمًا ونثرًا. وكلهم معروفون ، غير أن ماشطة ابنة فرعون لم تشتهر حكايتها. وسأذكرها كما ذكرها الثعلبي. قال : قال ابن عباس : (لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم مرت به ريح طيبة فقال : يا جبريل ما هذه الرائحة ؟ قال : رائحة ماشطةِ بنتِ فرعون ، كانت تمشطها ، فوقع المشط من يدها ، فقالت : بسم الله ، فقالت ابنته : أبى ؟ فقالت : لا ، بل ربي وربك ورب أبيك. فقالت : أُخبر بذلك أبي ؟ قالت : نعم ، فأخبرته فدعاها ، وقال : من ربك ؟ قالت : ربي وربك في السماء ، فأمر فرعون ببقرة - أي : آنية عظيمة من نحاس - فَأُحْمِيَتْ ، ودعاها بولدها ، فقالت : إن لي إليك لحاجةً ، قال : وما حاجتك ؟ قالت : تجمع عظامي وعظامَ ولدي فتدفنها جميعًا ، قال : وذلك لك علينا من الحقّ ، سأفعل ذلك لك ، فأمر بأولادها واحدًا واحدًا ، حتى إذا كان آخر ولدها ، وكان صبيًا مرضَعًا ، قال : اصبري يا أمه... فألقاها في البقرة مع ولدها. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 216
الإشارة : يؤخذ من الآية أمور صوفية ، منها : أن الإنسان يُباح له أن يستتر في الأمور التي تهتك عرضه ، ويهرب إلى مكان يُصان فيه عرضه ، إلا أن يكون في مقام الرياضة والمجاهدة ، فإنه يتعاطى ما تموت به نفسه ، ومنها : أنه لا بأس أن يلجأ الإنسان
220
إلى ما يخفف آلامه ويسهل شدته ، ولا ينافي توكله. ومنها : أن لا بأس أن يتمنى الموت إذا خاف ذهاب دينه أو عرضه ، أو فتنة تحول بينه وبين قلبه. ويُؤخذ أيضًا من الآية : أن فزع القلب عند الصدمة الأولى لا ينافي الصبر والرضا ؛ لأنه من طبع البشر ، وإنما ينافيه تماديه على الجزع.
(4/318)
ومنها : أن تحريك الأسباب الشرعية لا ينافي التوكل ، لقوله تعالى : {وهُزي إليك}. لكن إذا كانت خفيفة مصحوبة بإقامة الدين ، غير معتمد عليها بقلبه ، فإن كان متجردًا فلا يرجع إليها حتى يكمل يقينه ، ويتمكن في معرفة الحق تعالى. وقد كانت في بدايتها تأتي إليها الأرزاق بغير سبب كما في سورة آل عمران ، وفي نهايتها قال لها : {وهُزي إليك}. قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : كانت في بدايتها متعرفًا إليها بخرق العادات وسقوط الأسباب ، فلما تكمل يقينها رجعت إلى الأسباب ، والحالة الثانية أتم من الحالة الأولى ، وأما من قال : إن حبها أولاً كان لله وحده ، فلما ولدت انقسم حبها ، فهو تأويل لا يرضى ولا ينبغي أن يلتفت إليه ، لأنها صدّيقة ، والصدّيق والصدّيقة لا ينتقلان من حالة إلا إلى أكمل منها.
ومنها : أن الإنسان لا بأس أن يوجب على نفسه عبادة ، إذا كان يتحصن بها من الناس ، أو من نفسه ، كالصوم أو الصمت أو غيرهما ، مما يحجزه عن العوام ، أو عن الانتصار للنفس.
وقوله تعالى : {والسلام عليّ يوم وُلدتُ...} الآية : قال الورتجبي : سلام يحيى سلام تخصيص الربوبية على العبودية. ثم قال : وسلام عيسى من عين الجمع ، سلام فيه مزية ظهور الربوبية في معدن العبودية. وأرفع المقامين سلام الحق على سيد المرسلين كفاحًا في وصاله وكشف جماله ، ولو سَلّم عليه بلسانه كان بلسان الحدث ، ولا يبلغ رتبة سلامه بوصف قِدَمه. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 216
221
(4/319)
قلت : {وإن الله} : عطف على قوله : {إني عبد الله} فيمن كسر ، وعلى حذف اللام فيمن فتح ، أي : ولأن الله ربي وربكم. وقال الواحدي وأبو محمد مكي : عطف على قوله : {بالصلاة} أي : أوصاني بالصلاة وبأن الله... الخ : وقال المحلي : بالفتح ، بتقدير اذكر ، وبالكسر بتقدير " قل ". و {قول الحق} : مصدر مؤكد لقال ، فيمن نصب ، وخبر عن مضمر ، فيمن رفع ، أي : هو ، أو هذا. و {إذا قضى} : بدل من {يوم الحسرة} ، أو ظرف للحسرة. و {هم في غفلة وهم لا يؤمنون} : جملتان حاليتان من الضمير المستقر في الظرف في قوله : {في ضلال مبين} أي : مستقرين في الضلال وهم في تينك الحالتين.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ذلك} المنعوت بتلك النعوت الجليلة ، والأوصاف الحميدة هو {عيسى ابنُ مريم} ، لا ما يصفه النصارى به من وصف الألوهية ، فهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني ، حيث جعله موصوفًا بأضداد ما يصفونه به. وأتى بإشارة البعيد ؛ للدلالة على علو رُتبته وبُعد منزلته ، وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ، ونزوله منزلة المشاهد المحسوس.
هذا {قولُ الحق} ، أو قال عيسى {قولَ الحق} الذي لا ريب فيه ، وأنه عبد الله ورسوله ، {الذي فيه يمترون} أي : يشكون أو يتنازعون ، فيقول اليهود : ساحر كذاب ، ويقول النصارى : إله ، أو ابن الله. {ما كان لله أن يتخذ من ولد} أي : ما صح ، أو ما استقام له أن يتخذ ولدًا ، {سبحانه} وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ، فهو تنزيه عما بهتوه ، ونطقوا به من البهتان ، وكيف يصح أن يتخذ الله ولدًا ، وهو يحتاج إلى أسباب ومعالجة ، وأمره تعالى أسرع من لحظ العيون ، {إِذا قضى أمرًا فإِنما يقول له كن فيكون}.
جزء : 4 رقم الصفحة : 221
(4/320)
ثم قال لهم عيسى عليه السلام : {وإنَّ الله ربي وربكم فاعبدوه} ، فهو من تمام ما نطق به في المهد ، وما بينهما اعتراض ، للمبادرة للرد على من غلط فيه ، أي : فإني عبد ، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه وحده ولا تُشركوا معه غيره ، {هذا} الذي ذكرت لكم الذي ذكرت لكم من التوحيد {صراط مستقيم} لا يضل سالكه ولا يزيغ متبعه.
قال تعالى : {فاختلف الأحزابُ من بينهم} ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، تنبيهًا على سوء صنيعهم ، بجعلهم ما يُوجب الاتفاق منشأ للاختلاف ، فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السلام ، مع كونها نصوصًا قاطعة في كونه عبده تعالى ورسوله ، قد اختلفت اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط ، وفرّق النصارى ، فقالت النسطورية : هو ابن الله ، وقالت اليعقوبية : هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وقالت المِلْكَانية : هو ثالث ثلاثة. {فويلٌ للذين كفروا} وهم : المختلفون فيه بأنواع الضلالات. وأظهر الموصول في موضع الإضمار ؛ إيذانًا بكفرهم جميعًا ، وإشعارًا بِعِلِّيَّةِ الحكم ، {من مَشْهَدِ
222
يوم عظيم} أي : ويل لهم من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة ، أو : من وقت شهوده أو مكانه ، أو من شهادة اليوم عليهم ، وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - وألسنتُهم وأيديهم وأرجلهم ، بالكفر والفسوق.
(4/321)
{أسمِعْ بهم وأبصرْ} أي : ما أسمعهم وما أبصرهم ، تعجب من حدة سمعهم وإبصارهم يومئذ. والمعنى : أن أسماعهم وأبصارهم {يوم يأتوننا} للحساب والجزاء جدير أن يُتعجب منها ، بعد أن كانوا في الدنيا صمًا عميًا. أو : ما أسمعهم وأطوعهم لما أبصروا من الهدى ، ولكن لا ينفعهم يومئذ مع ضلالهم عنه اليوم ، فقد سمعوا وأبصروا ، حين لم ينفعهم ذلك. قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر ، حين يقول الله لعيسى : {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} [المَائدة : 116]. هـ. ويحتمل أن يكون أمر تهديد لا تعجب ، أي : أسمعهم وأبصرهم مواعيد ذلك اليوم ، وما يحيق بهم فيه ، فالجار والمجرور ، على الأول ، في موضع رفع ، وعلى الثاني : نصب. {لكن الظالمون اليومَ} أي : في الدنيا ، {في ضلال مبين} أي : لا يدرك غايته ، حيث غفلوا عن الاستماع والنظر بالكلية. ووضع الظالمين موضع الضمير ؛ للإيذان بأنهم في ذلك ظلمون لأنفسهم حيث تركوا النظر.
{وأنذرهم يوم الحسرة} يوم يتحسر الناس قاطبة ، أما المسيء فعلى إساءته ، وأما المحسن فعلى قلة إحسانه ، {إِذ قُضيَ الأمر} أي : فرغ من يوم الحساب ، وتميز الفريقان ، إلى الجنة وإلى النار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 221
(4/322)
رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك ، فقال : " حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح ، فيُذبح ، والفريقان ينظرون ، فينادي ؛ يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم ، وأهل النار غمًا إلى غمهم ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم : {وأنذرهم يوم الحسرة إِذْ قُضي الأمر وهم في غفلة} ، وأشار بيده إلى الدنيا " قال مقاتل : (لولا ما قضى الله من تعميرهم فيها ، وخلودهم ؛ لماتوا حسرة حين رأوا ذلك). {وهم} في هذا اليوم {في غفلة} عما يراد بهم في الآخرة ، {وهم لا يُؤمنون} بهذا ؛ لاغترارهم ببهجة الدنيا ، فلا بد أن تنهد دعائمها ، وتمحى بهجتها ، ويفنى كل ما عليها ، قال تعالى : {إِنا نحن نرث الأرضَ ومَنْ عليها} لا ينبغي لأحد غيرنا أن يكون له عليها وعليكم ملك ولا تصرف ، أو : إنا نحن نتوفى الأرض ومن عليها ، بالإفناء والإهلاك ، توفي الوارث لإرثه ، {وإِلينا يُرجعون} ؛ يُردون إلى الجزاء ، لا إلى غيرنا ، استقلالاً أو اشتراكًا. والله تعالى أعلم.
223
الإشارة : ينبغي للعبد المعتني بشأن نفسه أن يحصِّن عقائده بالدلائل القاطعة ، والبراهين الساطعة ، على وفاق أهل السُنَّة ، ثم يجتهد في صحبة أهل العرفان ، أهل الذوق والوجدان ، حتى يُطلعوه على مقام الإحسان ، مقام أهل الشهود والعيان. فإذا فرط في هذا ، لحقه الندم والحسرة ، في يوم لا ينفع فيه ذلك. فكل من تخلف عن مقام الذوق والوجدان ؛ فهو ظالم لنفسه باخس لها ، يلحقه شيء من الخسران ، ولا بد أنْ تبقى فيه بقية من الضلال ، حيث فرط عن اللحوق بطريق الرجال ، قال تعالى : {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين}.
(4/323)
{وأنذرهم يوم الحسرة} أي : يوم يرفع المقربون ويسقط المدعون. فأهل الذوق والوجدان حصل لهم اللقاء في هذه الدار ، ثم استمر لهم في دار القرار. رُوي أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال يومًا بين يدي أستاذه : (اللهم اغفر لي يوم لقائك). فقال له شيخه - القطب ابن مشيش - رضي الله عنهما : هو أقرب إليك من ليلك ونهارك ، ولكن الظلم أوجب الضلال ، وسبقُ القضاء حَكَمَ بالزوال عن درجة الأُنْس ومنازل الوصال ، وللظالم يومٌ لا يرتاب فيه ولا يخاتل ، والسابق قد وصل في الحال ، " أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ". هـ. كلامه رضي الله عنه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 221
قلت : {إذ قال} : بدل اشتمال من {إبراهيم} ، وما بينهما : اعتراض ، أو متعلق بكان.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {واذكر في الكتاب} ؛ القرآن أو السورة ، {إِبراهيم} أي : اتل على الناس نبأه وبلغه إياهم ، كقوله : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء : 69] ؛ لأنهم ينتسبون إليه عليه السلام ، فلعلهم باستماع قصته يقلعون عما هم عليه من الشرك والعصيان. {إِنه كان صدّيقًا} ؛ ملازمًا للصدق في كل ما يأتي ويذر ، أو كثير التصديق ؛ لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله ، فالصدِّيق مبالغة في الصدق ، يقال : كل من صدق بتوحيد الله وأنبيائه وفرائضه ، وعمل بما صدق به فهو صدّيق ، وبذلك سُمي أبو بكر الصدّيق ، وسيأتي في الإشارة تحقيقه عند الصوفية ، إن شاء الله.
224
والجملة : استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر ؛ فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره ، وكان أيضًا {نبيًّا} ، أي : كان جامعًا بين الصديقية والنبوة ، إذ كل نبي صِدِّيق ، ولا عكس. ولم يقل : نبيًا صديقًا ؛ لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة.
(4/324)
{إِذْ قال لأبيه} آزر ، متلطفًا في الدعوة مستميلاً له : {يا أبتِ} ، التاء بدل من ياء الإضافة ، أي : يا أبي ، {لِمَ تعبدُ ما لا يسمع} ثناءك عليه حين تعبده ، ولا جُؤَارك إليه حين تدعوه ، {ولا يُبْصِرُ} خضوعك وخشوعك بين يديه ، أو : لا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات ، فيدخل في ذلك ما ذكر دخولاً أوليًا ، {ولا يُغْنِي عنك شيئًا} أي : لا يقدر أن ينفعك بشيء في طلب نفع أو دفع ضرر.
انظر ؛ لقد سلك عليه السلام في دعوته وموعظته أحسن منهاج وأقوم سبيل ، واحتج عليه بأبدع احتجاج ، بحسن أدب ، وخلق جميل ، لكن وقع ذلك لسائرٍ ركب متن المكابرة والعناد ، وانتكب بالكلية عن محجة الصواب والرشاد ، أي : فإنَّ من كان بهذه النقائص يأبى مَن له عقل التمييز من الركون إليه ، فضلاً عن عبادته التي هي أقصى غاية التعظيم ، فإنها لا تحِقُ إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام ، الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المثيب المعاقب ، والشيء لو كان مميزًا سميعًا بصيرًا قادرًا على النفع والضر ، لكنه ممكن ، لاستنكف العقل السليم عن عبادته ، فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 224
(4/325)
ثم دعاء إلى اتباعه ؛ لأنه على المنهاج القويم ، مُصدّرًا للدعوة بما مرَّ من الاستعطاف والاستمالة ، حيث قال : {يا أبتِ إِني قد جاءني من العلم ما لم يأتِكَ} ، لم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط ، وإن كان في أقصاه ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، وإن كان في أعلاه ، بل أبرز نفسه في صورة رفيق له ، أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق ، فاستماله برفق ، حيث قال : {فاتّبِعْنِي أَهدِكَ صراطًا سوِيًّا} أي : مستقيمًا موصلاً إلى أسمى المطالب ، منجيًا من الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب. ثم ثبّطه عما كان عليه من عبادة الأصنام ، فقال : {يا أبتِ لا تعبدِ الشيطانَ} ، فإن عبادتك للأصنام عبادة له ، إذ هو الذي يُسولُها لك ويغريك عليها ، ثم علل نهيه فقال : {إِن الشيطان كان للرحمن عَصِيًّا} ، فهو تعليل لموجب النهي ، وتأكيد له ببيان أنه مستعصٍ على ربك ، الذي أنعم عليك بفنون النعم ، وسينتقم منه فكيف تعبده ؟ .
والإظهار في موضع الإضمار ؛ لزيادة التقرير ، والاقتصارُ على ذكر عصيانه بترك السجود من بين سائر جناياته ؛ لأنه ملاكها ، أو لأنه نتيجة معاداته لآدم وذريته ، فتذكيره به داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته. والتعرض لعنوان الرحمانية ؛ لإظهار كمال شناعة عصيانه.
225
وقوله : {يا أبتِ إِني أخاف أن يمسّك عذابٌ من الرحمن} تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان ، وهو اقترانه معه في الهوان الفظيع. و {من الرحمن} : صفة لعذاب ، أي : عذاب واقع من الرحمن ، وإظهار {الرحمن} ؛ للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب ، كما في قوله تعالى : {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار : 6] ، {فتكون للشيطان وليًّا} أي : فإذا قرنت معه في العذاب تكون قرينًا له في اللعن المخلد. فهذه موعظة الخليل لأبيه ، وقد استعمل معه الأدب من خمسة أوجه :
الأول : ندائه : بيا أبت ، ولم يقل يا آزر ، أو يا أبي.
الثاني : قوله {ما لا يسمع...} الخ ، ولم يقل : لِمَ تعبد الخشب والحجر.
(4/326)
الثالث : قوله : {إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك} ، ولم يقل له : أنك جاهل ضال.
الرابع : قوله : {إني أخاف} ، حيث عبَّر له بالخوف ولم يجزم له بالعذاب.
الخامس : في قوله : {أن يمسك} ، حيث عبَّر بالمس ولم يُعبر باللحوق أو النزول. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 224
الإشارة : قد جمع الحق تبارك وتعالى لخليله مقام الصدّيقة والنبوة مع الرسالة والخلة ، وقدَّم الصديقية لتقدمها في الوجود في حال الترقي ، فالصديقية تلي مرتبة النبوة ، كما تقدم في سورة النساء. فالصدّيق عند الصوفية هو الذي يَعْظُمْ صدقه وتصديقه ، فيصدِّق بوجود الحق وبمواعده ، حتى يكون ذلك نصب عينيه ، من غير تردد ولا تلجلج ، ولا توقف على آية ولا دليل. ثم يبذل مهجته وماله في مرضاة مولاه ، كما فعل الخليل ، حيث قدم بدنه للنيران وطعامه للضيفان وولده للقربان. وكما فعل الصدِّيق ، حيث واسى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في الغار ، وخرج عن ماله خمس مرار. وكما فعل الغزالي حيث قدم نفسه للخِرَابِ ، حين اتصل بالشيخ وخرج عن ماله وجاهه في طلب مولاه. ولذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : في حقه : " إنا لنشهد له بالصدِّيقية العظمى " ، وناهيك بمن شهد له الشاذلي بالصدِّيقية. ومن أوصاف الصدّيق أنه لا يتعجب من شيء من خوارق العادة ، مما تبرزه القدرة الأزلية ، ولا يتعاظم شيئًا ولا يستغربه ، ولذلك وصف الحق تعالى مريم بالصديقية دون سارة ، حيث تعجبت ، وقالت : {أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـاذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـاذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هُود : 72] ؛ وأما مريم فإنما سألت عن وجه ذلك ، هل يكون بنكاح أم لا ، والله تعالى أعلم.
(4/327)
وفي الآية إشارة إلى حسن الملاطفة في الوعظ والتذكير ، لا سيما لمن كان معظمًا كالوالدين ، أو كبيرًا في نفسه. فينبغي لمن يذكره أن يأخذه بملاطفة وسياسة ، فيقر له المقام الذي أقامه الله تعالى فيه ، ثم يُذكره بما يناسبه في ذلك المقام ، ويشوقه إلى مقام
226
أحسن منه ، وأما إن أنكر له مقامه من أول مرة ، فإنه يفرّ عنه ولم يستمع إلى وعظه ، كما هو مجرب. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 224
قلت : هذا استئناف بياني ، مبني على سؤال نشأ عن صدر الكلام ، كأنه قيل : فماذا قال أبوه عندما سمع هذه النصائح الواجبة القبول ؟ فقال مصرًا على عناده : أراغب... الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قال} له أبوه في جوابه : {أراغبٌ أنتَ عن آلهتي} أي : أمعرض ومنصرف أنت عنها فوجّه الإنكار إلى نفس الرغبة ، مع ضرب من التعجب ، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل ، فضلاً عن ترغيب الغير عنها ، ثم هدده فقال : {لئن لم تَنْتَهِ} عن وعظك {لأرجُمنَّكَ} بالحجارة ، أي : والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجمنك بالحجر ، وقيل باللسان ، {واهجرني} أي : واتركني {مَلِيًّا} أي : زمنًا طويلاً ، أو ما دام الأبد ، ويسمى الليل والنهار مَلَوان ، وهو عطف على محذوف ، أي : احذرني واهجرني.
(4/328)
{قال} له إبراهيم عليه السلام : {سلامٌ عليك} مني ، لا أصيبك بمكروه ، وهو توديع ومُتاركة على طريق مقابلة السيئة بالحسنة ، أي : لا أشافهك بما يؤذيك ، ولكن {سأستغفر لك ربي} أي : أستدعيه أن يغفر لك. وقد وفى عليه السلام بقوله في سورة الشعراء : {وَاغْفِرْ لأَبِيا إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} [الشُّعَرَاء : 86]. أو : بأن يوفقك للتوبة ويهديك للإيمان. والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه ، وإنما المحظور استدعاء المغفرة مع بيان شقائه بالوحي ، وأما الاستغفار له بعد موته فالعقل لا يحيله. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب : " لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنك " ثم نهاه عنه كما تقدم في التوبة. فالنهي من طريق السمع ، ولا اشتباه أن هذا الوعد من إبراهيم ، وكذا قوله : {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [المُمتَحنَة : 4] ، وقوله : {وَاغْفِرْ لأَبِيا إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} [الشُّعَرَاء : 86] ، إنما كان قبل انقطاع رجائه من إيمانه ، بدليل قوله : {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأ} [التّوبَة : 114].
وقوله تعالى : {إِنه كان بي حَفيًّا} أي : بليغًا في البر والألطاف ، رحيمًا بي في أموري ، قد عوَّدني الإجابة. أو عالمًا بي يستجيب لي إن دعوتُه ، وفي القاموس : حَفِيَ
227
كَرَضِيَ ، حَفَاوةً. ثم قال : واحتفًا : بالَغَ في إكْرامِه وأظْهَرَ السُّرُورَ والفَرَحَ به ، وأكَثَر السُؤَالَ عن أحواله ، فهو حافٍ وحفي. هـ.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 227
(4/329)
وأعتزلُكم} أي : أتباعد عنك وعن قومك ، {وما تَدْعُونَ من دونِ الله} بالمهاجرة بديني ، حيث لم تؤثر فيكم نصائحي ، {وأدعو ربي} : أعبده وحده ، أو أدعوه بطلب المغفرة لك - أي قبل النهي - أو : أدعوه بطلب الولد ، كقوله : {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينِ} [الصَّافات : 100] ، {عسى ألا أكون بدعاءِ ربي شقيًّا} أي : عسى ألا أشقى بعبادته ، أو : لا أخيب في طلبه ، كما شقيتم أنتم في عبادة آلهتكم وخبتم. ففيه تعريض بهم ، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع وحسن الأدب ، والتنبيه على أن الإجابة من طريق الفضل والكرم ، لا من طريق الوجوب ، وأن العبرة بالخاتمة والسعادة ، وفي ذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى. الإشارة : انظر كيف رفض آزرُ مَن رغب عن آلهته ، وإن كان أقرب الناس إليه ، فكيف بك أيها المؤمن ألاَّ ترفض من يرغب عن إلهك ويعبد معه غيره ، أو يجحد نبيه ورسوله ، بل الواجب عليك أن ترفض كل ما يشغلك عنه ، غيرةً منك على محبوبك ، وإذا نظرت بعين الحقيقة لم تجد الغيرة إلا على الحق ، إذ ليس في الوجود إلا الحق ، وكل ما سواه باطل على التحقيق.
فمن اعتزل كل ما سوى الله ، وأفرد وجهته إلى مولاه ، لم يَشْق في مَطلبه ومسْعاه ، بل يطلعه الله على أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، حتى لا يرى في الوجود إلا الواحد الأحد الفرد الصمد. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 227
قلت : {وكُلاًّ} : مفعول أول لجعلنا ، و {عَلِيًّا} : حال من اللسان.
(4/330)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {فلما اعتزلهم} أي : اعتزل إبراهيمُ قومَه {وما يعبدون من دون الله} بأن خرج من " كوثى " بأرض العراق ، مهاجرًا إلى الشام واستقر بها ، {وهبنا له إسحاق} ولده {ويعقوبَ} حفيده ، بعد أن وهب له إسماعيل من أمَته هاجر ، التي وُهبت لزوجه سارة ، ثم وهبتها له ، فوُلد له منها إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة ، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة ، فكان سبب عمارتها. ثم حملت سارة بإسحاق ، ثم نشأ عنه يعقوب ، وإنما خصمها بالذكر لأنهما كانا معه في بلده ، وإسحاق كان متصِلاً به يسعى معه في مآربه ، فكانت النعمة بهما أعظم.
228
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله ها هنا لبيان كمال عِظم النعمة التي أعطاها الله تعالى إياهُ ، في مقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب ، فإنهما شجرة الأنبياء ، لهما أولاد وأحفاد ، لكل واحد منهم شأن خطير وعدد كثير. {وكُلاًّ جعلنا نبيًّا} أي : وكل واحد منهما أو منهم جعلناه نبيًا ورسولاً.
{ووهبنا لهم من رحمتنا} هي النبوة ، وذكرها بعد ذكر جعلهم أنبياء ؛ للإيذان بأنها من باب الرحمة والفضل. وقيل : الرحمة : المال والأولاد ، وما بسط لهم من سعة الرزق ، وقيل : إنزال الكتاب ، والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي. {وجعلنا لهم لسانَ صدقٍ عليًّا} : رفيعًا في أهل الأديان ، فكل أهل دين يتلونهم ، ويثنُون عليهم ، ويفتخرون بهم ؛ استجابة لدعوته بقوله : {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشُّعَرَاء : 84].
والمراد باللسان : ما يوجد به الكلام في لسان العرب ولغتهم ، وإضافته إلى الصدق ، ووصفه بالعلو ؛ للدلالة على أنهم أحقاء لما يثنون عليهم ، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار ، وتبدل الدول ، وتحول الملل والنحل. والله تعالى أعلم.
(4/331)
الإشارة : كل من اعتزل عن الخلق وانفرد بالملك الحق ، طلبًا في الوصول إلى مشاهدة الحق ، لا بد أن تفيض عليه المواهب القدسية والأسرار الوهبية والعلوم اللدنية ، وهي نتائج فكرة القلوب الصافية ، وفي الحكم : " ما نفع القلب شيءٌ مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة ". قال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : (ثمار العزلة : الظفر بمواهب المنة ، وهي أربعة : كشف الغِطاء ، وتنزل الرحمة ، وتحقق المحبة ، ولسان الصدق في الكلمة ، قال الله تعالى : {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له} الآية). وقال بعض الحكماء : من خالط الناس داراهم ، ومن داراهم راءاهم ، ومن راءاهم وقع فيما وقعوا ، فهلك كما هلكوا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 228
وقال بعض الصوفية : قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله : كيف الطريق إلى التحقيق ؟ قال : لا تنظر إلى الخلق ، فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لي ، قال : لا تسمع كلامهم ، فإن كلامهم قسوة ، قلت : لا بد لي ، قال : لا تعاملهم ، فإن معاملتهم خسران ووحشة ، قلت : أنا بين أظهرهم ، لا بد لي من معاملتهم ، قال : لا تسكن إليهم ، فإن السكون إليهم هلكة ، قلت : هذا لعله يكون ، قال : يا هذا أتنظر إلى اللاعبين ، وتسمع كلام الجاهلين ، وتعامل البطالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع الله ؟ ! هيهات... هذا لا يكون أبدًا ، ثم غاب عني.
وقال القشيري رضي الله عنه : فأرباب المجاهدات ، إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المستحسنات - أي : من الدنيا -. قال : وهذا أصل كبير لهم
229
في المجاهدات في أحوال الرياضة. هـ. وقال في " القوت " : ولا يكون المريد صادقًا حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية ، وحتى يكون أُنسه في الوحدة ، وروحه في الخلوة ، وأحسن أعماله في السر. هـ.
(4/332)
قلت : العزلة عن الخلق والفرار منهم شرط في بداية المريد ، فإذا تمكن من الشهود ، وأَنس قلبه بالملك الودود ، واتصل بحلاوة المعاني ، ينبغي له أن يختلط بالخلق ويربي فكرته ؛ لأنهم حينئذ يزيدون في معرفته ويتسع بهم ؛ لأنه يراهم حينئذ أنوارًا من تجليات الحق ، ونوارًا يرعى فيهم ، فيجتني حلاوة الشهود ، وفي ذلك يقول شيخ شيوخنا المجذوب :
الخَلْقُ نَوارٌ وَأَنا رَعَيْتُ فِيهِمُ
هُمُ الحجَابُ الأكْبَرُ والمَدْخَلُ فيهِمُ
وفي مقطعات الششتري :
عين الزحام
هم الوصول لحيِّنا
وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 228
قلت : {نَجِيًّا} : حال من أحد الضميرين في {ناديناه} أو {قربناه} ، وهو أحسن. و {هارون} : عطف بيان.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {واذكر في الكتاب موسى} ، قدَّم ذكره على ذكر إسماعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب ؛ لأنه من نسله ، {إِنه كان مُخْلِصًا} : موحدًا ، أخلص عبادته من الشرك والرياء ، وأسلم وجهه لله تعالى ، وأخلص نفسه عما سواه. وقرئ بالفتح ، على أن الله تعالى أخلصه من الدنس. قال القشيري أي : خلصًا لله ، لم يكن لغيره بوجهٍ. ثم قال : ولم يُغْضِ في اللهِ على شيءٍ. هـ.
{وكان رسولاً نبيًّا} أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه ، ولذلك قدَّم رسولاً مع كونه أخص وأعلى ، {وناديناه من جانب الطور الأيمن} ، الطور : جبل بين مصر ومدين ، أي : ناديناه من ناحيته اليمنى ، وهي التي تلي يمين موسى عليه السلام ، فكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى ، أو من أيمن ، أي : من جانبه الميمون ، ومعنى ندائه منه : أنه سمع الكلام من تلك الناحية ، {وقربناه نجيًّا} أي : مناجيًا لنا نُكلمه بلا واسطة ، فالتقريب : تقريبُ تكرمة وتشريف ، مَثَّلَ حاله عليه السلام بحال من قرّبه الملك
230
لمناجاته واصطفاه لمصاحبته. وقيل : {نجيًا} من النجو ، وهو العلو والارتفاع ، أي : رفعناه من سماء إلى سماء ، حتى سمع صريف القلم يكتب له في الألواح.
(4/333)
{ووهبنا له من رحمتنا} أي : من أجل رحمتنا ورأفتنا به ، أو من بعض رحمتنا {أخاه هارون} ، أي : وهبنا له مؤازرة أخيه ومعاضدته ، إجابةً لدعوته : {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} [طه : 29 ، 30] لا نفسه ؛ لأنه كان أكبر منه ، وُجد قبله ، حَال كونه {نبيًّا} : رسولاً مُشْركًا معه في الرسالة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كما وصف الحق تعالى خليله بالصديقية وصف كليمه بالإخلاص ، وكلاهما شرط في حصول سر الخصوصية ، سواء كانت خصوصية النبوة أو الولاية ، فمن لا تصديق عنده لا سير له ، ومن لا إخلاص له لا وصول له. وحقيقة الإخلاص : إخراج الخلق من معاملة الحق ، وهي ثلاث طبقات ؛ سفلى ، ووسطى ، وعليا.
فالسفلى : أن يفعل العبادة لله تعالى ، طالبًا لعوض دنيوي ، كسعة الأرزاق ، وحفظ الأموال والبدن ، فهذا إخلاص العوام ، وإنما كان إخلاصًا لأنهم لم يلاحظوا مخلوقًا في عملهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
والوسطى : أن يعبد الله مخلصًا ، طالبًا لعوض أخروي ، كالحور والقصور.
والعليا : أن يفعل العبادة قيامًا برسم العبودية ، وأدبًا مع عظمة الربوبية ، غير ملتفت لجنة ولا نار ، ولا دنيا ولا آخرة ، مع تعظيم نعيم الجنان ، لأنه محل اتصال الرؤية ؛ كما قال ابن الفارض رضي الله عنه :
ليس شوقي من الجنان نعيمًا
غير أني أُريدها لأراكَ
فإذا تحقق للعبد مقام الإخلاص الكامل ، صار مقربًا نجيًا في محل المشاهدة والمكالمة. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
يقول الحقّ جلّ جلاله : {واذكر في الكتاب إِسماعيل} ، فصل ذكره عن أبيه وأخيه ؛ لإبراز كمال الاعتناء بأمره ، لإيراده مستقلاً بترجمته ، {إِنه كان صادق الوعد} ، هذا تعليل لموجب الأمر بذكره. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف ؛ لكمال شهوته به.
(4/334)
رُوِيَ أنه واعد رجلاً أن يلقاه في موضع ، فجاء إسماعيل ، وانتظر الرجلَ يومه وليلته - وقيل : ثلاثة أيام - فلما كان في اليوم الآخر ، جاء الرجل ، فقال له إسماعيل :
231
ما زلتُ هنا من أمس. وقال الكلبي : انتظره سنة ، وهو بعيد. قال ابن عطية : وقد فعل مثل هذا نبيُنا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، ذكره النقاش وأخرجه الترمذي وغيره ، وذلك في مبايعة وتجارة هـ. وقال القشيري : وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه ، فصبر على ذلك ، إلى أن ظهر الفداء ، وصِدق الوعد دلالة حفظ العهد. هـ.
وقال ابن عطاء : وعد لأبيه من نفسه الصبر ، فوفى به ، في قوله : {سَتَجِدُنِيا إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصَّافات : 102]. هـ. وهذا مبني على أنه الذبيح ، وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله.
{وكان رسولاً نبيًّا} أي : رسولاً لجرْهُم ومن والاهم ، مخبرًا لهم بغيب الوحي ، وكان أولاده على شريعته ، حتى غيرها عَمرو بن لحي الخزاعي ، فأدخل الأصنام مكة. فما زالت تُعبَد حتى محاها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بشريعته المطهرة.
{وكان} إسماعيل {يأمر أهله بالصلاة والزكاة} ، قدَّم الأهل اشتغالاً بالأهم ، وهو أن يُقبل بالتكميل على نفسه ، ومن هو أقرب الناس إليه ، قال تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشُّعَرَاء : 214] ، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ} [طه : 132] ، {قُوااْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التّحْريم : 6] ، وقصد إلى تكميل الكل بتكميلهم ؛ لأنهم قدوة يُؤتَسى بهم. وقيل : أهله : أمته ؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - آباء الأمم. {وكان عند ربه مَرْضِيًّا} ؛ لاتصافه بالنعوت الجليلة التي من جملتها ما ذكر من الخصال الحميدة. والله تعالى أعلم.
(4/335)
الإشارة : قد وصف الحق - جل جلاله - نبيه إسماعيل بثلاث خصال ، بها كان عند ربه مرضيًا ، فمن اتصف بها كان مرضيًا مقربًا : الوفاء بالوعد ، والصدق في الحديث ؛ لأنه مستلزم له ، وأمر الناس بالخير. أما الوفاء بالعهد فهو من شيم الأبرار ، قد مدح الله تعالى أهله ، ورغَّب فيه وأمر به ، قال تعالى : {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} [البَقَرَة : 177]. وقال تعالى : {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النّحل : 91] ، فإخلاف الوعد من علامة النفاق ، قال صلى الله عليه وسلم : " آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " وخلف الوعد إنما يضر إذا كان نيته ذلك عند عقده ، أو فرط فيه ، وأما إن كان نيته الوفاء ، ثم غلبته المقادير ، فلا يضر ، لا سيما في حق أهل الفناء ، فإنهم لا حكم لهم على أنفسهم في عقد ولا حل ، بل هم مفعول بهم ، زمامهم بيد غيرهم ، كل ساعة ينظرون ما يفعل الله بهم ، فمثل هؤلاء لا ميزان عليهم في عقد ولا حل. فمثلهم مع الحق كمثل الأطفال المحجر عليهم في التصرف ، ولذلك قالوا : (الصوفية أطفال في تربية الحق تعالى). فإياك أن تطعن على أولياء الله إذا رأيت منهم شيئًا من ذلك ، والتمس أحسن المخارج ، وهو ما ذكرته لك ، فإنه عن تجربة وذوق. والله تعالى أعلم.
232
جزء : 4 رقم الصفحة : 231
يقول الحقّ جلّ جلاله : {واذكر في الكتاب إِدريس} وهو سبط شيث ، وجَدّ أبي نوح ، فإنه نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس عليه السلام ، واشتقاقه من الدرس ؛ لكثرة دراسته لما أوحي إليه ، وكثرة ذكره لله تعالى.
(4/336)
رُوِيَ أنه كان خياطًا فكان لا يدخله الإبرة ولا يخرجها إلا بذكر الله. ورُوي أنه جاء إليه الشيطان يفتنه بفستق ، فقال له : هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في هذه الفُسْتقة ؟ فقال له عليه السلام : (الله قادر على أن يدخل الدنيا كلها في سم هذه الإبرة ، ونخس عينه) ، ذكره السنوسي في شرح مقرئه. قال ابن وهب : إنه دعا قومه إلى لا إله إلا الله ، فامتنعوا فهلكوا. وفي حديث أبي ذر : أنه رسول ، وجمع بينه وبين حديث الشفاعة ، وقولهم لنوح : إنك أول رسول ، بأن تكون رسالته لقومه خاصة ، كهود وصالح ، وكذا آدم وشيث ، فإنه أرسل لبنيه لتعليم الشرائع والإيمان ، ولم يكونوا كفارًا ، وخلفه في ذلك شيث ، قال المحشي الفاسي : والأظهر عندي في نوح أنه أول رسول من أهل العزم ، لا مطلقًا.
قال ابن عطية : والأشهر أن إدريس عليه السلام لم يرسل ، وإنما هو نبي فقط ، وذهب إلى ذلك ابن بطال ، ليسلم من المعارضة ، وهي مدفوعة بما ذكرنا. هـ. فالمشهور أن إدريس رسول إلى قومه. رُوي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة ، وأنه أول من خط بالقلم ، ونظر في علم النجوم والحساب ، وخاط الثياب. قيل : وهو أول نبي بُعث إلى أهل الأرض.
قال تعالى في وصفه : {إِنه كان صدِّيقًا نبيًّا} : خبران لكان ، والثاني مخصص للأول ؛ إذ ليس كل صديق نبي. {ورفعناه مكانًا عليًّا} ، هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى. وقيل : علو الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا ، كما قال تعالى في حق نبينا : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشّرح : 4] ، وقيل : الجنة ، وقيل : السماء الرابعة ، وهو الصحيح.
(4/337)
رُوِيَ عن كعب وغيره في سبب رفعه أنه مشى ذات يوم في حاجته ، فأصابه وهج الشمس وحرها ، فقال : يا رب أنا مشيت يومًا ، فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهمَّ خَفِّفْ عنه من ثقلها ، واحمل عنه حرها ، فلما أصبح الملَك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف ، فقال : يا رب كلفتني بحمل الشمس ، فما الذي قضيت فيه ؟ فقال : إن عبدي إدريس سألني أن أُخفف عنك حملها وحرّها فأجبته ، قال : يا رب اجعل بيني وبينه خُلَّة ، فأذن له ، حتى أتى إدريس ، فقال له إدريس : أخبرت أنك
233
أكرم الملائكة عند مَلَك الموت ، فاشفع لي ليؤخر أجلي ، لأزداد شكرًا وعبادة ، فقال له الملك : لا يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها ، فقال : قد علمت ذلك ، ولكنه أطيب لنفسي ، قال : نعم ، ثم حمله ملك الشمس على جناحه فرفعه إلى السماء. رُوي أنه مات هناك وردت إليه روحه بعد ساعة ، فهو في السماء الرابعة حي. وهذه قصص الله أعلم بصحتها. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 233
الإشارة : ارتفاع المكان والشأن يكون على قدر صفاء الجنان ، والإقبال على الكريم المنان ، فبقدر التوجه والإقبال يكون الارتفاع والوصال.
بقدر الكد تكسب المعالي
وَمَنَ رَامَ العُلا سَهِرَ الليالي
أتبغي العز ثم تنام ليلاً
يَغُوصُ البحر منَ طلب اللآلي
قال بعضهم : من عامل الله على بساط الأنس : رفع ، لا محالة ، إلى حضرة القدس. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 233
(4/338)
قلت : {أولئك} : مبتدأ ، و {الذين} : خبره ، أو {الذين} : صفته ، و {إذا تتلى} : خبره. والإشارة إلى المذكورين في السورة ، وما فيه من معنى البُعد ؛ للإشعار بعلو رتبتهم وبُعد منزلتهم في الفضل ، و {من النبيين} : بيان للموصول ، و {من ذرية} : بدل منه بإعادة الجار ، و {سُجدًا وبُكيًّا} : حالان من الواو ، و {بكيًّا} : جمع باك ، كمساجد وسجود ، وأصله : بكوى ، فاجتمع الواو والياء ، وسُبق إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وحركت الكاف بالكسر المجانس للياء.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {أولئك} المذكورون في السورة الكريمة هم {الذين أنعم الله عليهم} بفنون النعم الدينية والدنيوية ، {من النبيين من ذرية آدم} ، وهو إدريس عليه السلام ونوح ، {ومن حملنا مع نوحٍ} أي : ومن ذرية من حملناهم في السفينة ، وهو إبراهيم ؛ لأنه من ذرية سام بن نوح ، {ومن ذرية إبراهيم} ، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وقوله : {وإِسرائيلَ} أي : ومن ذرية إسرائيل ، وهو يعقوب ، وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية. {وممن هدينا} أي : ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم إلى النبوة من غير هؤلاء.
234
(4/339)
{إِذا تُتلى عليهم آياتُ الرحمن خَرُّوا سُجدًا وبُكيًّا} ، هذا استئناف ؛ لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له ، مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب ، وكمال النفس والزلفى من الله عزّ وجلّ ، أي : إذا تتلى عليهم ، آيات الرحمن ، إما عند نزولها عليهم ، أو بسماعها من غيرهم ، لحديث : " أحب أن أسمعه من غيري " ثم بكى صلى الله عليه وسلم عند قوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىا هَـاؤُلااءِ شَهِيداً} [النِّساء : 41] فكان الأنبياء عليهم السلام مثله ، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا ساجدين وباكين. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اتْلُوا القُرْآنَ وابْكُوا ، فَإِنْ لمْ تَبْكُوا فَتَباكَوْا " وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم ، فسجد فيها ، فقال : (هذا السجود ، فأين البكاء) ؟
جزء : 4 رقم الصفحة : 234
قال بعضهم : ينبغي أن يدعو الساجد في سجوده بما يليق بآيتها ، فهاهنا يقول : اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم ، المهديين الساجدين لك ، الباكين عند تلاوة آياتك. وفي الإسراء يقول : اللهم اجعلني من الخاضعين لوجهك ، المسبحين بحمدك ، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك ، وهكذا. والذي ورد في الخبر : يقول : " سَجَدَ وَجْهِي للذي خَلَقَه وصوَّره ، وشقَّ سمعَه وَبَصَرَه ، بحوله وقُوته ، اللهم اكتب لي بها أجرًا ، وضع عني بها وزرًا ، واجعلها لي عندك ذخرًا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام ". والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد أثنى الله تعالى على هؤلاء السادات المُنعَم عليهم بكونهم إذا سمعوا كلام الحبيب خضعوا ورقَّت قلوبهم ، وهو أول درجة المحبة ، وفوقه الفرح بكلام الحبيب من مكان قريب ، وفوقه الفرح بشهود المتكلم ، وهنا ينقطع البكاء ؛ لدخول صاحب هذا المقام جنة المعارف ، وليس في الجنة بكاء.
(4/340)
وأيضًا : من شأن القلب في أول أمره الرطوبة ، يتأثر بالواردات والأحوال ، فإذا استمر عليها اشتد وصلُب بحيث لا يؤثر فيه شيء من الواردات الإلهية. وفي هذا المعنى قال أبو بكر رضي الله عنه ، حين رأى قومًا يبكون عند سماع القرآن : (كذلك كنا ثم قست القلوب) ، فعبَّر عن تمكنه بالقسوة ، تواضعًا واستتارًا ، وإنما أثنى على هؤلاء السادات بهذه الخصلة ؛ لأنها سُلّم لما فوقها. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 234
قلت : {جنات عدن} : بدل من الجنة ، بدل بعض ؛ لاشتمالها عليها ، وما بينهما اعتراض ، أو نصب على المدح. و {إلا سلامًا} : منقطع ، أي : لكن يسمعون سلامًا ، ويجوز اتصاله ، على أن المراد بالسلام الدعاء بالسلامة ، فإن أهل الجنة أغنياء عنه ، فهو داخل في اللغو. و {بالغيب} : حال من عائد الموصول ، أي : وعدها ، أو من العباد ، و {مأتِيًا} : أصله مأتوي ، فأبدل وأدغم كما تقدم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {فخَلَفَ من بعدهم} أي : جاء بعد أولئك الأكابر ، {خَلْفٌ} أي : عقب سوء ، يقال لعقب الخير " خَلَفٌ " بفتح اللام ، ولعقب الشر " خلْف " بسكون اللام ، أي : فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء ، {أضاعوا الصلاة} أي : تركوها وأخروها عن وقتها ، {واتبعوا الشهواتِ} ؛ من شرب الخمر ، واستحلال نكاح الأخت ، من الأب ، والانهماك في فنون المعاصي ، وعن علي رضي الله عنه : هم من بَني المُشيد ، وركب المنضود ، ولبس المشهور. قلت : ولعل المنضود : السُرج المرصعة بالجواهر والذهب. وقال مجاهد : هذا عند اقتراب الساعة ، وذهاب صالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقة. هـ. {فسوف يلقون غيًّا} : شرًا ، فكل شر عند العرب غيٌ ، وكل خير رشاد. قال ابن عباس : الغيُّ : واد في جهنم ، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حرِّه ، أُعد للزاني المصرِّ ، ولشارب الخمر المدمن ، ولأهل الرياء والعقوق والزور ، ولمن أدخلت على زوجها ولدًا من غيره. هـ.
(4/341)
{إِلا مَن تاب وآمن وعمل صالحًا} ، هذا يدل على أن الآية في الكفار. {فأولئك} المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح ، {يدخلون الجنة} بموجب الوعد المحتوم ، أو يُدخلهم الله الجنة ، {ولا يُظلمون شيئًا} : لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئًا ، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ، ولا ينقص أجورهم ، إذا صححوا المعاملة مع ربهم.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 235
جنات عدنٍ} أي : إقامة ، لإقامة داخلها فيها على الأبد ، {التي وعد الرحمن عبادَه بالغيب} أي : ملتبسين بالغيب عنها لم يروها ، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار ، أو ملتبسة بالغيب ، أي : غائبة عنهم غير حاضرة. والتعرض لعنوان الرحمانية ؛ للإيذان بأن وعده وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى ، {إِنه كان وعده مَأْتِيًّا} ؛ يأتيه من وعُد به لا محالة ، وقيل : هو مفعول بمعنى فاعل ، أي : آتيًا لا محالة ، وقيل : مأتيًا : منجزًا ، من أتى إليه إحسانًا ، أي : فعله.
236
{لا يسمعون فيها لغوًا} أي : فضول كلام لا طائل تحته ، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. وفيه تنبيه على أن اللغو ينبغي للعبد أن يجتنبه في هذه الدار ما أمكنه. وفي الحديث : " مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المرْءِ تَرَكُهُ ما لا يَعْنِيهِ " وهو عَامٌّ في الكلام وغيره. {إِلا سلامًا} ، أي : لا يسمعون لغوًا ، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم ، أو تسليم بعضهم على بعض ، {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًّا} أي : على قدرهما في الدنيا ، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل ، بل ضوء ونور أبدًا. قال القرطبي : ليلهم إرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، أي : ونهارهم رفع الحجب وفتح الأبواب.
قال القشيري : الآية ضرب مثل لما عهد في الدنيا لأهل اليسار ، والقصد : أنهم أغنياء مياسير في كل وقت. هـ. وسيأتي عند قوله : {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} [الزّخرُف : 71] كيفية أرزاقهم.
(4/342)
قال تعالى : {تلك الجنة} : مبتدأ وخبر ، جيء بهذه الجملة ؛ لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها ، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد ؛ للإيذان ببُعد منزلتها وعلو رتبتها ، أي : تلك الجنة التي وُصفت بتلك الأوصاف العظيمة هي {التي نُورث} أي : نورثها {مِنْ عبادنا من كان تقيًّا} لله بطاعته واجتناب معاصيه ، أي : نُديمها عليهم بتقواهم ، ونمتعهم بها ، كما يبقى عند الوارث مال مورثه يتمتع به ، والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ ؛ من حيث إنها لا يعقبها فسخ ولا استرجاع ولا إبطال. وقيل : يرث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار ، لو آمنوا وأطاعوا ، زيادة في كرامتهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : {فخلف من بعدهم خلف...} الآية تنسحب على من كان أسلافه صالحين ، فتنكب عن طريقهم ، فضيّع الدين ، وتكبر على ضعفاء المسلمين ، واتبع الحظوظ والشهوات ، وتعاطى الأمور العلويات ، فإن ضم إلى ذلك الافتخار بأسلافه ، أو بالجاه والمال ، كان أغرق في الغي والضلال ، يصدق عليه قول القائل :
جزء : 4 رقم الصفحة : 235
إن عاهدوك على الإحسان أو وعدُوا
خانوا العهود ولكن بعد ما حلفوا
بل يفخرون بأجداد لهم سلفت
نِعم الجدود ولكن بئس ما خلَّفوا
إلا من تاب ورجع إلى ما كان عليه أسلافه ، من العلم النافع والعمل الصالح ، والتواضع للصالح والطالح ، فيرافقهم في جنة الزخارف أو المعارف ، التي وعد الرحمن عباده المخصوصين بالغيب ، ثم صارت عندهم شهادة ، إنه كان وعده مأتيًا ، لا يسمعون فيها لغوًا ؛ لأن الحضرة مقدسة عن اللغو ، {إلا سلامًا} ؛ لسلامة صدورهم ، ولهم رزقهم
237
فيها من العلوم والأسرار والمواهب ، في كل ساعة وحين ، لا يرث هذه الجنة إلا من اتقى ما سوى الله ، وانقطع بكليته إلى مولاه. وبالله التوفيق
ولما أبطأ الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يَمنعُكَ أن تزورنَا أكثرَ مما تَزورنا ؟ ".
(4/343)
جزء : 4 رقم الصفحة : 235
قلت : وجه المناسبة لما قبله - والله أعلم - : أن الحق جلّ جلاله لما سرد قصص الأنبياء وما نشأ بعدهم ، وكان جبريل هو صاحب وحيهم الذي ينزل به عليهم ، ذكر هنا أن نزوله ليس باختياره ، فقال : {وما نتنزل...} الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكيًا لقول جبريل عليه السلام : {وما نتنزَّلُ} عليك يا محمد {إِلا بأمرِ ربك} ، وذلك حين أبطأ الوحي عنه صلى الله عليه وسلم ، لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، فلم يدر كيف يجيب ، ورجا أن يوحي إليه فيه ، فأبطأ عليه أربعين يومًا. قاله عكرمة. وقال مجاهد : ثنتي عشرة ليلة ، أو خمس عشرة. فشقَّ على النبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة. وقال : " يا جبريل قد اشتقت إليك ، فقال جبريل : إني كنت أَشْوَق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بُعثتُ نزلت ، وإذا حُبست احتَبَستُ ، فأنزل الله هذه الآية وسورة الضحى " ، والتنزل : النزول على مَهَل ، وقد يُطلق على مطلق النزول ، والمعنى : وما نتنزل وقتًا غِبّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى ، على ما تقتضيه حكمته.
وقيل : هو إخبار عن أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها مخاطبين بعضهم لبعض بطريق التبجح والابتهاج ، أي : ما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر الله تعالى ولطفه ، وهو مالك المور كلها ، سالفها ومُتَرَقَّبُهَا وحاضرها ، فما وجدناه وما نجده هو من لطفه وفضله. هـ. قلت : ولا يخفى حينئذ مناسبته.
ثم قال : {له ما بين أيدينا وما خَلْفَنا وما بين ذلك} أي : وما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ، فلا ننتقل من مكان إلى مكان ، ولا ننزل في زمان دون زمان ، إلا بأمره ومشيئته ، وعن مقاتل : {له ما بين أيدينا} من أمر الدنيا ؟ {وما خلفنا} من أمر الآخرة ، {وما بين ذلك} مما بين النفختين ، وهو أربعين سنة. أو ما بين أيدينا بعد الموت ،
238
(4/344)
وما خلفنا قبل أن يخلقنا ، وما بين ذلك مدة حياتنا ، أي : له علم ذلك كله ؟ {وما كان ربك نَسِيًّا} : تاركًا لك ومهملاً شأنك ، أو : ذَاهِلاً عنك حتى ينسى أمر الوحي إليك ؛ لأنه مُحال ، يعني : أن عدم نزول جبريل لم يكن إلا لعدم الأمر به ؛ لحكمة بالغة فيه ، ولم يكن تركه تعالى لك إهمالاً وتوديعًا ، كما زعمت الكفرة. وفي إعادة اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعار بعلية الحكم ما لا يخفى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 238
وقوله تعالى : {ربُّ السماوات والأرض وما بينهما} بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى ؛ فإن من بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة والنسيان. والفاء في قوله : {فاعبُده واصطَبِرْ لعبادته} لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، من كونه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما. أو من كونه تعالى غير تارك له عليه السلام ، أو غير ناسٍ لأعمال العاملين ، والمعنى على الأول : فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده ، أو حين عرفته تعالى لا ينساك ، أو : ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ، ولا تحزن بإبطاء الوحي وهزْءِ الكفرة ، فإنه يراقبك ويلطف بك في الدنيا والآخرة ، {هل تعلم له سَمِيًّا} أي : شبيهًا ونظيرًا ، أو هل تعلم أحدًا تسمى بهذا الاسم غير الله العالي ، والتسمية تقتضي التسوية بين المتشابهين ، ولا مثل له ، لا موجودًا ولا موهومًا ، مع أن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلاً ، ولم يتجاسر أحد أن يسمي بهذا الاسم ، ولو تجاسر أحدٌ لهلك.
وقيل : إن أحدًا من الجبابرة أراد أن يسمي ولده بهذا الاسم ، فخف به وبتلك البلدة. ذكره القشيري في التحبير. والله تعالى أعلم.
(4/345)
الإشارة : ما قاله جبريل عليه السلام من كونه لا ينزل إلا بأمر ربه ليس خاصًا به ؛ بل كل أحد لا حركة له ولا سكون إلا بالله وبمشيئته ، فلا يصدر عن أحد من عبيده قول ولا فعل ، ولا حركة ولا سكون ، إلا وقد سبق في علمه وقضائه كيف يكون ، فلا انتقال ولا نزول إلا بقدر سابق وتحريك لاحق ؛ " ما من نفَس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه ". وقال الشاعر :
مشيناها خطى كُتبت علينا
ومن كُتبت عليه خطى مشاها
ومن قسمت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها
فراحة الإنسان أن يكون ابن وقته ، كل وقت ينظر ما يفعل الله به ، فبهذا ينجو من التعب ، ويتحقق له الأدب. وبالله التوفيق.
239
جزء : 4 رقم الصفحة : 238
قلت : {أئذا} : ظرف ، والعامل فيه محذوف ، أي : أأُخرج إذا مت ، لا المتأخر عن اللام لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، إلا أن يرخص في الظروف. واللام في {لَسَوْفَ} ليست للتأكيد ، فإنه مُنْكِرٌ ، وكيف يحقق ما ينكر ، وإنما كلامه حكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، كأنه الذي قال : والله إن الإنسان إذا مات لسوف يُخرج حيًّا ، فأنكر الكافر ذلك وحكى قوله ، فنُزلت الآية على ذلك ، قاله الجرجاني : و {الشياطين} : عطف على ضمير المنصوب ، أو مفعول معه. و {جثيًّا} : حال من ضمير {لنحضرنهم} البارز ، أي : لنحضرنهم جاثين ، جمع جاث ، من جثى إذا قعد على ركبتيه ، وأصله : " جثوو " بواوين ، فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين ، فكسرت الثاء تخفيفًا ، وانقلبت الواو الأولى ياء ؛ لانكسار ما قبلها ، فاجتمعت واو وياء ، وسبقت إحداهما بسكون ، فقُلبت الواو ياء ، وأدغمت الأولى في الثانية ، ومن قرأ بكسر الجيم : فعلى الإتْبَاعِ.
(4/346)
و {أَيُّهُم} : مبني على الضم عند سيبويه ، لأنه موصول ، فحقه البناء كسائر الموصولات ، لكنه أعرب في بعض التراكيب للزوم الإضافة ، فإذا حذف صَدْرُ صِلَتِهِ زاد نقصُه فقوي شبه الحرف فيه ، وهو منصوب المحل بلننزعن ، وقرئ منصوبًا على الإعراب ، ومرفوعًا عند الخليل وغيره بالابتداء ، وخبره : {أشد} ، والجملة محكية ، والتقدير : لننزعن من كل شيعة الذين يُقال لهم أيهم أشد... الخ. وقال يونس : علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء ، و {عتيًّا} و {صليًّا} أصلهما : عتوى وصلوى ، من عتى وصلى ، بالكسر والفتح ، فاعلاً بما تقدم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ويقول الإِنسانُ} أي : جنس الإنسان ، والمراد الكفرة ، وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم ، وإن لم يقله الجميع ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانًا ، وإنما القاتل واحد ، وقيل : القائل : أُبيُّ بن خَلَف ، فإنه أخذ عظامًا بالية ، ففتتها ، وقال : يزعم محمد أنا نُبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذا الحال ، فنزلت. أي : يقول بطريق الإنكار والاستبعاد : {أئذا ما متُّ لسوف أُخرج حيًّا} أي : أأبعث من الأرض بعد ما مِتُّ وأُخرج حيًا ؟ قال تعالى : {أولا يَذكُرُ الإِنسانُ} ، من الذِّكر الذي يُراد به التفكر ، ولذلك قُرئ بالتشديد من التذكير. والإظهارُ في موضع الإضمار ؛ لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليها من شؤون التكوين ، فإذا
240
ترك التفكر التحق بالبهائم ، فهلاّ يذكر أصله! وهو {أنا خلقناه من قبلُ} أي : من قبل الحالة التي فيها ، وهي حالة حياته ، {ولم يكُ شيئًا} أي : والحال أنه لم يك شيئًا أصلاً ، وحيث خلقناه وهو في تلك الحال فلأن نبعث الجمع بتفرقاته أولى وأظهر ؛ لأن الإعادة أسهل من البدء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 240
(4/347)
قال تعالى : {فوربّك لنحشرنهم} أي : لنجمعنهم بالسّوق إلى المحشر بعدما أخرجتهم من الأرض. وإقسامه سبحانه بربوبيته مضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ؛ لتحقيق الأمر ، والإشعار بِعِلِّيَّتِهِ ، وتفخيم شأنه ، ورفع منزلته صلى الله عليه وسلم ، وفيه إثبات البعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده ، كأنه أمر واضح غني عن التصريح به ، وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال ، أي : حيث ذكر الحشر وما بعده. ولم يصرح بنفس البعث ؛ لتحقق وضوحه ، وإنما قال : {فوربّك لنحشرنهم} أي : نجمعهم {والشياطينَ} المغوين لهم ، إلى المحشر ، وقيل : إن الكفرة يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم ، كل منهم مع شيطانه في سلسلة ، {ثم لنحضِرَنَّهم حول جهنم جثيًّا} : باركين على ركَبِهم ؛ لما يدهمُهم من هول المطلع ، والجثو : جلسة الذليل الخائف.
والآية كما ترى ، صريحة في الكفرة ، فهم الذين يُساقون من الموقف إلى شاطئ جهنم ، جُثاة ؛ إهانة بهم ، أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من شدة الخوف. وأما قوله تعالى : {وَتَرَىا كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجَاثيَة : 28] فهي عامة للناس في حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ، فإن أهل الموقف جاثون على الرُّكب ، كما هو المعتاد في مقام التفاؤل والخصام ، قلت : ولعل هذا فيمن يُناقش الحساب ، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه ، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم ، كما في الحديث.
(4/348)
{ثم لنَنْزِعَنَّ من كل شيعةٍ} أي : من كل أمة تشيعت دينًا من الأديان ، {أيُهم أشدُّ على الرحمن عِتيًّا} أي : من كان منهم أعصى وأعتى ، فيطرحهم فيها. قال ابن عباس : أي : أيهم أشد جرأة ، وقال مجاهد : فجورًا وكذبًا ، وقال مقاتل : علوًا ، أو غلوًا في الكفر ، أو كبرًا ، وقال الكلبي : قائدهم ورأسهم ، أي : فيبدأ بالأكابر فالأكابر بالعذاب ، ثم الذي يليهم جرمًا. وفي ذكر الأشدية تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض أهل العصيان من غير الكفرة ، إذا قلنا بعموم الآية ، وأما إذا خصصناها بالكفرة ، فالأشدية باعتبار التقديم للعذاب.
قال تعالى : {ثم لنَحنُ أعلمُ بالذين هم أولى بها صِليًّا} أي : أولى بصليها وأحق بدخولها ، وهم المنتزعون الذين هم أشدهم عتوًا ، أو رؤوسهم ، فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم.
241
{وإِن منكم إِلا وارِدُها} ، فيه التفات لإظهار مزيد الاعتناء ، وقرئ : " وإن منهم ". ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الخلق ، أي : وإن منكم أيها الناس {إلا واردها} أي : واصلها وحاضرها ، يمرُ بها المؤمنون وهي خامدة ، وتنهار بغيرهم. وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك فقال : " إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : أَليْسَ قَدْ وعدنَا ربُّنا أَنْ نَرِدَ النَّارَ ؟ فَيُقالُ لَهُمْ : قَدْ وَرَدْتُمُوهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ " وأما قوله تعالى : {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فالمراد به الإبعاد عن عذابها ، وقيل : ورودها : الجواز على الصراط بالمرور عليها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 240
(4/349)
وعن ابن مسعود : الضمير في {واردها} للقيامة ، وحينئذ فلا يعارض : {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [الأنبياء : 102] ، ولا ما جاء فيمن يدخل الجنة بغير حساب ، ولا مرور على الصراط ، فضلاً عن الدخول فيها ، على أنه اختلف في الورود ، فقيل : الدخول وتكون بردًا وسلامًا على المؤمن. وقيل : المرور كما تقدم ، وقيل : الإشراف عليها والاطّلاع. قال القشيري : كلٌّ يَرِدُ النارَ ، ولكن لا ضيْرَ منها ولا إحساس لأحدٍ إلا بمقدار ما عليه من السيئات ، والزلل ، فأشدُّهم فيها انهماكًا : أشدهم فيها بالنار اشتعالاً واحتراقًا ، وأما بريء الساحة ، نقي الجانب بعيد الذنوب ، فكما في الخبر : " إن النار عند مرورهم ربوة كربوة اللَّبَن - أي : جامدة كجمود اللبن حين يسخن - فيدخلونها ولا يحسون بها ، فإذا عبروها قالوا : أليس قد وعدنا جهنم على الطريق ؟ فيقال لهم : عبرتم وما شعرتم ". هـ.
{كان على ربك حتمًا مقضيًّا} أي : كان وُرودهم إياها أمرًا محتومًا أوجبه الله تعالى على ذاته ، وقضى أنه لا بد من وقوعه. وقيل : أقسم عليه ، ويشهد له : " إلا تحلة القسم ".
{ثم نُنَجِّي الذين اتقوا} الكفرَ والمعاصي ، بأن تكون النار عليهم بردًا وسلامًا ، على تفسير الورود بالدخول ، وعن جابر أنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الوُرودُ الدُّخولُ ، لا يَبْقَى بَرٌّ ولا فَاجِرٌ إِلاَّ دخَلَهَا ، فَتَكُونُ عَلَى المُؤْمِنِينَ بَرْدًا وسَلاَمًا ، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيم ، حَتَّى إنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ " وإن فسرنا الورود بالمرور ، فنجاتهم بالمرور عليها والسلامة من الوقوع فيها ، {ونذَرُ الظالمين فيها جِثيًّا} : باركين على ركبهم ، قال ابن زيد : الجثي شر الجلوس ، لا يجلس الرجل جاثيًا إلا عند كرب ينزل به. هـ.
242
(4/350)
الإشارة : من أراد كرامة الآخرة فَلْيُرَبِّ يقينه فيها ، حتى تكون نصب عينيه ، فإنه يرد على الله كريمًا. ومن أراد السلامة من أهوالها فليخفف من أوساخها وأشغالها ، ويلازم طاعة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن أراد سرعة المرور على الصراط ، فليلزم اليوم اتباع الصراطِ المستقيم ، فبقدر ما يستقيم عليها تستقيم أقدامه على الصراط ، وبقدر ما يزل عنها يزلُّ عن الصراط.
قال في الإحياء ، لما تكلم على العدل في الكيل والوزن ، قال بعد كلامه : وكل مكلف فهو صاحب موازين في أفعاله وأقواله وخطراته ، فالويل له إن عدل عن العدل ، ومال عن الاستقامة ، ولولا تعذُّر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى : {وإن منكم إلا واردها...} الآية ، فلا ينفك عبدٌ ليس معصومًا عن الميل عن الاستقامة ، إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتًا عظيمًا ، فبذلك تتفاوت مدة إقامتهم في النار إلى أوان الخلاص ، حتى لا يبقى بعضُهم إلا بقدر تحلة القسم ، ويبقى بعضهم ألفًا وألوف سنين ، نسأل الله تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل ، فإن الاستداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه ؛ فإنه أدق من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، ولولاه لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار ، الذي من صفته أنه أدق من الشعر ، وأحدّ من السيف ، وبقدر الاستقامة على الصراط المستقيم يخِف مرور العبد يوم القيامة على الصراط. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 240
(4/351)
وقال الترمذي الحكيم : يجوز الأولياء والصديقون وهم لا يشعرون بالنار ، قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَىا أُوْلَـائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء : 101] ، وإنما بَعُدوا عنها لأن النور احتملهم واحتوشهم ، فهم يمضون في النار ، حتى إذا خرجوا منها قال بعضهم لبعض : أليس قد وُعدنا النار ، فذكر ما تقدم. ثم قال : فأما ضجة النار فمن بردهم ، وذلك أن الرحمة باردة تطفئ غضب الرب ، فبالرحمة نالوا النور ، حتى أشرق في قلوبهم وصدورهم ، فكان نوره في قلوبهم ، والرحمة مظلة عليهم ، فخمدت النار من بردهم عندما لقُوهَا ، فضجت من أجل أنها خلقت منتقمة ، فخافت أن تضعف عن الانتقام. ولذلك رُوي أنها تقول : " جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورُك لهبي ". هـ.
وقال الورتجبي : إذا كان جمال الحق مصحوبهم ، فلا بأس بالوقوف في النيران ، فإن هناك أهل الجنان.
إذا نزلت سلمى بواد فماؤها
زلال وسَلسال وسيحانها وِرْدُ
.. هـ.
243
وقال جعفر الصادق : لولا مقاربة النفوس ما دخل أحد النار ، فلما فارقتهم نفوسهم أوردهم النار بأجمعهم ، فمَنْ كان أشد إعراضًا عن خبث النفس كان أسرع نجاة من النار ، ألا ترى الله يقول : {ثم نُنجي الذين اتقوا}. هـ. قلت : وقد تقدم أن من لا حساب عليهم - وهم المقربون - يمرون على الصراط ولا يحسون به ، وهم الذين يمرون عليه كالطير أو كالبرق ، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه ، وبجاه خير الخلق مولانا محمد نبيه وحبه ، آمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 240
قلت : {هم أحسن} : صفة لِكَمْ.
(4/352)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وإِذا تُتلى عليهم} ؛ على الكفرة {آياتُنا} الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم ، والناطقة بحسن عاقبة المؤمنين ، حال كونها {بيناتٍ} : واضحات في نفسها ، أو بينات الإعجاز ، أو بينات المعاني ، {قال الذين كفروا} أي : قالوا ، ووضع الموصول موضع الضمير ؛ للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يُتلى عليهم رادين له ، أو : قال الذين تمرَّدوا في الكفر والعتو ؛ وهم النضر بن الحارث وأتباعه ، قالوا {للذين آمنوا} ، اللام للتبليغ ، أي : قالوا مبلغين الكلام لهم ، وقيل : لام الأجل ، كقوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف : 11] أي : لأجلهم وفي حقهم ، والأول أولى ؛ لأن الكلام هنا كان معهم بدليل قوله : {أيُّ الفريقين} أي : المؤمنين والكفار ، {خيرٌ} كأنهم قالوا : أينا {خيرٌ مقامًا} أي : مكانًا : نحن أو أنتم ، وقرئ بالضم ، أي : موضع إقامة ومنزل ، {وأحسنُ نَدِيًّا} ؛ مجلسًا ومجتمعًا ، أو : أينا خير منزلاً ومسكنًا ، وأحسن مجلسًا ؟
يُروَى أنهم كانوا يُرجلون شعورهم ويدهنونها ، ويتزينون بالزينة الفاخرة ، ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين ، يريدون بذلك أن خيريتهم ، حالاً ، وأحسنيتهم ، مقالاً ، مما لا يقبل الإنكار ، وأنَّ ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزلفاهم عنده ، وأنَّ الحال التي عليها المؤمنون ، من الضرورة والفاقة ورَثَاثَةِ الحال ؛ لقصور حظهم عند الله. وما هذا القياس العقيم والرأي السقيم إلا لكونهم جَهلةً لا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا ، وذلك مبلغهم من العلم ، فردَّ عليهم بقوله : {وكم أهلكنا قبلهم من قَرْنٍ هم أحسنُ أثاثًا} : مالاً ومتاعًا {ورِءْيًا} ؛ منظرًا ، أي : كثيرًا من القرون التي كانوا أفضل منهم ، فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية ، كعاد وثمود وأضرابهم العاتية قبل هؤلاء ، أهلكناهم بفنون العذاب ،
244
(4/353)
ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا ، لما فعلنا بهم ما فعلنا ، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى ، كأنه قيل : فلينتظر هؤلاء أيضًا مثل ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 244
و {أثاثًا} : تمييز ، وهو متاع البيت ، أو ما جد منه ، و {رِءْيًا} : كذلك ، فِعْل من الرؤية بمعنى المنظر ، قال ابن عزيز : " رءيا " بهمزة ساكنة : ما رأيت عليه من شارة حسنة وهيئة ، وبغير همز : يجوز أن يكون على معنى الأول ، ويجوز أن يكون من الريّ. أي : منظرهم مُرتو من النعمة. وَزِيًّا ، بالزاي المعجمة ، في قراءة ابن عباس ، يعني هيئة ومنظرًا. هـ.
الإشارة : رفعة القدر والمقام لا تكون بالتظاهر بمفاخر اللباس والطعام ، ولا بحسن الهيئة ومنظر الأجسام ، وإنما يكون باحتظاء القلوب بمعرفة الله ، وتمكين اليقين من القلوب ، واطلاعها على أسرار الغيوب ، مع القيام بوظائف العبودية ، أدبًا مع عظمة الربوبية ، ونسيان النفوس والاشتغال عنها بالعكوف في حضرة القدوس ، فأهل القلوب لا يعبأُون بظواهر الأشباح ، وإنما يعتنون بحياة الأرواح. كمل حقيقتك التي لم تَكْمُلِ
والجسم دعه في الحضيض الأسفل
فقوت قلوبهم التواجد والأذكار ، وحياة أرواحهم العلوم والأسرار ، وأنشدوا :
بالقوت إحياءُ الجسوم وذكره
تحيا به الألباب والأرواح
هو عيشهم ووجودهم وحياتهم
حقًا ورَوْح نفوسهم والرَّاح
وأما من عَظُمَ جهلُه ، وكَثُفَ حجابه ، فإنما ينظر إلى بهجة الظواهر وتزيينها بأنواع المفاخر ، أو إلى من عظم جاهه وكثرت أتباعه ، وهذه نزعة جاهلية ، حيث قالوا حين يُتلى عليهم الوعظ والتذكير : (أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًا) ، {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الرُّوم : 7]. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 244
(4/354)
قلت : {ويزيد} : عطف على {فليَمدُد} ؛ لأنه في معنى الخبر ، أي : من كان في الضلالة يمده الله فيها ، ويزيد في هداية الذين اهتدوا مددًا لهدايتهم ، أو عطف على {فسيعلمون} ، وجمع الضمير في {رَأَوا} وما بعدها ؛ باعتبار معنى {مَنْ} ، وأفرد أولاً باعتبار لفظها.
245
يقول الحقّ جلّ جلاله : {قُلْ} يا محمد {مَنْ كان} مستقرًا {في الضلالة} مغمورًا في الجهل والغفلة عن عواقب الأمور ، مشتغلاً بالحظوظ الفانية ، {فليَمْدُدْ له الرحمنُ مَدَّا} أي : يمد له بطول العمر وتيسير الحظوظ ، إما استدراجًا ، كما نطق به قوله تعالى : {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوااْ إِثْمَاً} [آل عِمرَان : 178] ، أو قطعًا للمعاذير كما نطق به قوله تعالى : {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّر} [فاطر : 37] ، أو : {فليمدد له} : يدعه في ضلاله ، ويمهله في كفره وطغيانه ، كقوله تعالى : {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام : 110]. والتعرّض لعنوان الرحمانية ؛ لبيان أن أفعالهم من مقتضيات الرحمة مع استحقاقهم تعجيل الهلاك.
وكأنه جلّ جلاله لما بيَّن عاقبة الأمم المهلَكة ، مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لَهُم من الحظوظ بمآل أمر الفريقين ، وهو استدراج أهل الضلالة ثم أخذهم ، وزيادة هداية أهل الإيمان ثم إكرامهم ، كما بيَّن ذلك بقوله : {حتى إِذا رَأوا ما يُوعدون} ، فهو غاية للحد الممتد ، أي : نمد لهم في الحياة وفنون الحظوظ حتى ينزل بهم ما يوعدون ؛ {إِمَّا العذاب} الدنيوي بالقتل ، والأسر ، وغلبة أهل الإيمان عليهم ، {وإِمَّا الساعةَ} ، وهو يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والهوان ، و " إما " هنا : لمنع الخُلو ، لا لمنع الجمع ؛ فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال.
(4/355)
{فسيعلمون} حينئذ {مَن هو شرٌّ مكانًا} من الفريقين ، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يُقدّرون ، فيعلمون أنهم شر مكانًا ، لا خير مقامًا ، {و} يعلمون أنهم {أضعفُ جندًا} أي : جماعة وأنصارًا ، لا أحسن نَدِيًّا ، كما كانوا يدعونه ، وليس المراد أن لهم يوم القيامة جندًا سيَضعف ، وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وإنما ذكر ذلك ردًّا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانًا وأنصارًا ، يفتخرون في الأندية والمحافل ، فردَّ ذلك بأنه باطل وظل آفل ، ليس تحته طائل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 245
ثم ذكر فريق أهل الإيمان فقال : {ويزيدُ اللهُ الذينَ اهتدوا هُدَىً} أي : كما يمد لأهل الضلالة ؛ زيادة في ضلالهم ، كذلك يزاد في هداية أهل الهداية ؛ ثوابًا على طاعتهم ؛ لأن كلا يجزي بوصفه ، فلا تزال الهداية تنمو في قلوبهم حتى يردوا موارد الكرم ، أمَّا في الدنيا فبكشف الحجاب وانقشاع السحاب حتى يشاهدوا رب الأرباب ، فما كانوا يؤمنون به غيبًا صار عيانًا ، وأمَّا في الآخرة فبنعيم الحور والقصور ، ورؤية الحليم الغفور. فقد بيَّن الحق تعالى حال المهتدين إثر بيان حال الضالين ، وأن إمهال الكافر وتمتيعه بالحظوظ ليس لفضله ، وإن منع المؤمن من تلك الحظوظ ليس لنقصه ، بل قوم
246
عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا الفانية ، وقوم ادخرت لهم طيباتهم للحياة الباقية ، قال تعالى : {والباقياتُ الصالحاتُ} ؛ كأنواع الطاعات ، {خيرٌ عند ربك} ؛ لبقاء فوائدها ودوام عوائدها... وقد تقدم تفسيرها.
(4/356)
والتعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه ، أي : فهي أفضل {ثوابًا} أي : عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية ، التي يفتخرون بها ؛ لأن مآلها الحسرة السرمدية والعذاب الأليم ، ومآل الباقيات الصالحات النعيم المقيم في دار الدوام ، كما أشير إليه بقوله : {وخيرٌ مَرَدًّا} أي : مرجعًا وعاقبة ، وتكرير الخير لمزيد الاعتناء بشأن الخيرية وتأكيد لها في التفضيل ، مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية في العاقبة ، ففيه نوع تهكم بهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - يرزق العبد على قدر نيته ، ويمده على قدر همته ، فمن كانت همته في الحظوظ العاجلة والشهوات الفانية ، أمده الله فيها ، ومتعه بها ما شاء ، على حسب القسمة ، ثم أعقبه الندم والحسرة ، ومن كانت همته الآخرة ، أمده سبحانه في الأعمال التي تُوصله إلى نعيمها ، كصلاة وصيام وصدقة وتدريس علم ، وأذاقه من حلاوتها ما يُهون عليه مرارتها ، ثم أعقبه النعيم الدائم من القصور والحور ، وأنواع الطيبات ، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ومن كانت همته الله - أي : الوصول إلى حضرته دون شيء سواه - أمده الله في الأعمال التي توصله إليه ، وهي أعمال القلوب ؛ من التخلية والتحلية ، كالتخلية من الرزائل والتحلية بالفضائل ، وكقطع المقامات بأنواع المجاهدات ، ورأس ذلك أن يُوصله إلى شيخ كامل جامع بين الحقيقة والشريعة ، بين الجذب والسلوك ، قد سلك الطريق على شيخ كامل ، فإذا وصله إليه وكشف له عن سر خصوصيته فليستبشر بحصول المطلب وبلوغ الأمل. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 245
(4/357)
يقول الحقّ جلّ جلاله : في حق العاص بن وائل : {أفرأيت الذي كفر بآياتنا} : القرآن المشتمل على البعث والحساب قال خبَّاب بن الأرَت : كان لي على العَاصِ بن وَائِل دِيْنٌ ، فاقْتَضيتُه ، فقَالَ : لاَ ، والله لا أَقْضيكَ حتى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ ، فَقُلْتُ : لا والله لا
247
أَكْفُرُ بمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثم تُبعثَ ، قال العاص : فإذا مِتُّ ثم بُعثتُ ، جئتني وسيكون لي ثمَّ مالٌ وولدٌ ، فأعطيك ، لأنكم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة - استهزاء واستخفافًا - وفي رواية البخاري : " كُنت قَيْنَا في الجاهلية ، فصنعتُ للعاصي سيفًا فجئتُ أتَقَاضَاهُ... " فذكر الحديث. فالهمزة للتعجيب من حاله ، للإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يقضي منها العجب ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي من حقها أن يؤمن بها كل من شاهدها
{وقال} مستهزءًا بها ، مصدّرًا باليمين الفاجرة : والله {لأُوتَينَّ} في الآخرة {مالاً وولدًا} أي : انظر إلى حاله فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة ، {أَطَّلَع الغيبَ} أي : أبلغ من عظمة الشأن إلى أن يرتقي إلى علم الغيب ، الذي استأثر به العليم الخبير ، حتى ادعى أن يُؤتى في الآخرة مالاً وولدًا ، وأقسم عليه ، {أم اتخذ عند الرحمن عَهْدًا} بذلك ، فإنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا بأحد هذين الطريقين ، وهذا رد لكلمته الشنعاء ، وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إلى التعجب منها.
(4/358)
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بِعِلِّية الرحمة للإيتاء ، فإن الرحمة تقتضي الإعطاء على الدوام. والعهد : قيل : كلمة الشهادة ، أو العمل الصالح ، فإن وعده تعالى بالثواب عليها كالعهد ، قال القشيري : {أَطَّلَع الغيبَ} فقال بتعريف له منا ، {أم اتخذ عند الرحمن عهدًا} أي : ليس الأمر كذلك. ثم قال : ودليل الخطاب يقتضي أن المؤمن إذا أمَّلَ من الله شيئًا جميلاً ، فالله تعالى يحققه له ؛ لأنه على عهد مع الله تعالى ، والله لا يُخلف الميعاد. هـ.
ثم أبطل ما أمله الكافر فقال : {كلا} أي : انزجر عن هذه المقالة الشنيعة ، فهو ردع له عن التفوه بتلك العظيمة ، وتنبيه على خطئه ، قال تعالى : {سنكتبُ ما يقول} أي : سنظهر ما كتبنا عليه ، فهو كقول الشاعر :
جزء : 4 رقم الصفحة : 247
إذَا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ
248
أي : تبين أني لم تلدني لَئِيمَةٌ ، أو : سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه عليه في الآخرة ، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمةً في الحال ويجازى عليها في المآل ، فإن نفس الكتابة لم تتأخر عن القول لقوله تعالى : {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق : 18] ، قال ابن جزي : إنما جعله مستقبلاً ؛ لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل. هـ.
قلت : والظاهر إنما أبرزه بصورة المستقبل ، تنبيهًا على عدم نسخه ، وأنه ماض نافذ. قاله في الحاشية.
{ونَمُدُّ له من العذاب مَدًّا} ، مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والأولاد ، أي : نطول له من العذاب ونمد له فيه ما يستحقه ، أو نزيد في مضاعفة عذابه ، لكفره وافترائه على الله سبحانه ، واستهزائه بآياته العظام ، ولذلك أكده بالمصدر ، دلالةً على فرط الغضب والسخط.
(4/359)
{ونَرِثُه ما يقولُ} ، قال مكي : حرف الجر محذوف ، أي : نرث منه ما يقول. هـ. والظاهر أن {ما} : بدل من الضمير ، وهو الهاء ، أي : نرث ما يقول وما يدعيه لنفسه اليوم من المال والولد. وفيه إيذان بأنه ليس لما يقول مصداق موجود سوى القول ، أي : ننزع منه ما آتيناه ، {ويأتينا} يوم القيامة {فرْدًا} لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا ، فضلاً أن يؤتى ثمَّةَ مالاً وولدًا زائدًا. وقال القشيري : فردًا بلا حجة على قوله وقَسَمِه : {لأوتين مالاً وولدًا} ، وذلك منه استهزاء ومحض كفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يُفهم من الآية أن الإنسان إذا آمن بآيات الله وعمل بما أمره الله يكون له عهد عند الله ، فإذا تمنى شيئًا أو منَّاه غيره لا يخيبه الله ، ويتفاوت الناس في العهد عند الله ، على قدر تفاوتهم في طاعته ومعرفته ، وسيأتي في قوله : {لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـانِ عَهْداً} [مريَم : 87] زيادة بيانه. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 247
يقول الحقّ جلّ جلاله : واتخذ المشركون الأصنام {آلهةً} يعبدونها من دون الله {ليكونوا لهم عِزًّا} يوم القيامة ، ووصلة عنده يشفعون لهم ، {كلا} لا يكون ذلك أبدًا ، فهو ردع لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل ، وإنكارٌ لوقوع ما علَّقوا به أطماعَهم ، {سيكفرون بعبادتهم} أي : تجحد الآلهة عبادتَهم لها ، بأن يُنطقهم الله تعالى وتقول ما عبدتمونا ، أو : سيكفر الكفرة عبادتهم لها حين شاهدوا سوء عاقبة عبادتهم لها ، كقوله : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعَام : 23] ، {ويكونون عليهم ضِدًا} أي : تكون الآلهة ،
249
(4/360)
التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزًا ، ضدًا للعز ، أي : ذلاً وهوانًا ؛ لأنهم تعززوا بمخلوق بسخط الخالق ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من طلب رضا المخلوق بمعصية الخالق عاد حامده من الناس ذامًّا " وتكون عونًا عليهم ، وآلة لعذابهم ، حيث تجعل وقود النار وحَصَب جهنم ، أو تكون الكفرة ضدًا وأعداء للآلهة ، كافرين بها ، بعد أن كانوا يُحبونها كحب الله ، ويعبدونها من دون الله ، وتوحيد الضد ؛ لتوحيد المعنى الذي عليه تدور مضادتهم ، فإنهم بذلك كشيء واحد ، كقوله عليه الصلاة والسلام : " وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ". وسب عبادتهم للأصنام تزيين الشيطان ، وَفَاء بقوله : {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحِجر : 39] ، كما قال تعالى : {ألم تَرَ أنا أرسلنا الشياطينَ على الكافرين} أي : سلطهم عليهم ومكنهم من إغوائهم ، بقوله تعالى : {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسرَاء : 64] الآية.
(4/361)
وهذا تعجيب لرسوله صلى الله عليه وسلم مما نطقت به الآيات الكريمة عن هؤلاء الكفرة ، العتاة المردة ، من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل ، والتمادي في الغي ، والانهماك في الضلال ، والتصميم على الكفر ، من غير صارف يلويهم ، ولا عاطف يثنيهم ، وإجماعهم على مدافعة الحق بعد اتّضاحه ، وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم ، لا أن له مسوغًا في الجملة ، أي : ألم تر ما فعلت الشياطين بالكفرة حتى صدر منهم ما صدر من تلك القبائح والعظائم ، وليس المراد تعجيبه عليه السلام من مطلق إرسال الشياطين عليهم ، كما يوهمه تقليل الرؤية ، بل عما صدر عنهم من حيث إنها من آثار إغواء الشياطين ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : {تَؤُزهُم أزًّا} أي : تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجًا شديدًا ، بأنواع الوساوس والتسويلات. فالأز والاستفزاز أخوان ، معناهما : شدة الانزعاج ، وجملة {تؤزّهم} : حال مقدرة من الشياطين ، أو استئناف وقع جوابًا عن صدر الكلام ، كأنه قيل : ماذا تفعل بهم الشياطين ؟ قال : {تؤزّهم أزًّا}.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 249
فلا تعجل عليهم} بأن يهلكوا حسبما تقتضي جناياتهم ويبيدوا عن آخرهم ، وتطهرُ الأرض من فسادهم ، {إِنما نعدّ لهم عَدًّا} أي : لا تستعجل بهلاكهم ، فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قلائل نعدها عدًا ، ثم نأخذهم أخذًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من اتخذ شيئًا يتعزز به من دون الله وطاعته انقلب عليه ذُلاً وهوانًا ، ولذلك قيل : " من تعزز بمخلوق مات عزه ". فإن أردت عزًا لا يفنى فلا تتعزز بعز يفنى ، وهو التعزز بالمال أو الجاه ، أو غير ذلك مما يفنى ، وسيأتي عند قوله : {مَن كَانَ يُرِيدُ
250
(4/362)
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر : 10]. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنَافِقون : 8] زيادة بيان. وكما أرسل الحق تعالى الشياطين على الكافرين تزعجهم إلى المعاصي أرسل الملائكة والواردات الإلهية إلى المؤمنين تنهضهم إلى طاعة الله ، وتزعجهم إلى السير لمعرفة الله. فالملائكة تحرك العبد إلى الطاعة ، والواردات تزعجه إلى الحضرة ، تخرجه عن عوائده وتدمغ له مِن علائقه ، وعوائقه ، حتى ينفرد لحضرة الحق : وفي الحكم : " الوارد يأتي من حضرة قهار ، لأجل ذلك لا يصادمه شيء إلا دمغه ؛ {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}. وقال أيضًا : " متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك ؛ " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ".
وقال القشيري على قوله : {تؤزهم أزًّا} : أي : تزعجهم إزعاجًا ، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وظلمة ، وخاطر الحقِّ يكون بَروْحٍ وسكون ، وهذه إحدى الفوارق بينهما. هـ. قلت : ومن الفوارق أيضًا : أن خاطر الحق لا يأمر إلا بالخير مع برودة وانشراح في القلب وسكون وأناة... وفي الحديث : " العجلة من الشيطان ، والأناة من الرحمن " هـ. بخلاف خاطر الشيطان ؛ فإنه لا يأمر إلا بالشر ، وقد يأمر بالخير إذا كان يجرُّ به إلى الشر ، وعلامته أن يكون فيه ظلمة ودَخن وعجلة وبطش ، وقد استوفى الكلام عليهم في النصيحة الكافية. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 249
قلت : {يوم نحشر} : إما ظرف لفعل مؤخر ؛ للإشعار بضيق العبارة عن حصره ؛ لكمال جماله أو فظاعته ، والتقدير : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن ، ونسوق المجرمين ، نفعل بالفريقين ما لا يفي به نطاق المقال ، أو ظرف لاذكر ، و {وفْدًا} و {وِرْدًا} : حالان.
(4/363)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {يوم نحشرُ المتقين} : نجمعهم {إلى الرحمن} أي : إلى ربهم يغمرهم برحمته الواسعة ، {وَفْدًا} : وافدين عليه ، كما يفد الوفود على الملوك ، منتظرين لكرامتهم وإنعامهم. وعن عليّ كرم الله وجهه : (لما نزلت هذه الآية ، قلت : يا رسول الله ، إني قد رأيت الملوك ووفودهم ، فلم أر وفدًا إلا راكبًا ، فما وفد الله ؟ قال : " يا عليّ ؛ إذا حان المنصَرَفُ من بين يدي الله ، تلقت الملائكة المؤمنين بنُوقٍ بيض ، رِحالُهَا وأزِمَّتُها الذَهَبُ ، على كل مركب حُلة لا تُساويها الدنيا ، فيلبس كل مؤمن حلّة ،
251
ثم يستوون على مراكبهم ، فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} ". {ونَسُوقُ المجرمين} كما تُساق البهائم {إِلى جهنم وِرْدًا} : عطاشًا ، فإن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش ، أو كالدواب التي ترد الماء ، أي : يوم نحشر الفريقين نفعل ما نفعل مما لا يفي به نطاق العبارة ، لما يقع فيه من الدواهي الطامة ، أو الكرائم العامة ، أو : اذكر يوم نحشر الفريقين ، على طريق الترغيب والترهيب.
وقوله تعالى : {لا يملكون الشفاعة} : استئناف مبين لما فيه من الأمور الدالة على هوله ، وضمير الواو : إما لجميع العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيها ، أو إلى المتقين فقط ، أو إلى المجرمين.
و {مَن اتخذ} : منصوب على الاستثناء ، أو بدل من الواو ، أي : لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى ، ففيه ترغيب للعباد في تحصيل الإيمان والتقوى ، المؤدي إلى نيل هذه الرتبة العليا. أو لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام والعمل الصالح ، أو لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلمًا ، فيشفع في مثله. فَمَن ، على هذا الثالث ، بدل من الواو فقط. والأول أحسن ؛ لعمومه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 251
(4/364)
قال ابن مسعود رضي الله عنه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أما يَعْجزُ أَحدكُمْ أَنْ يتَّخِذَ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَساءٍ عَهدًا عِند اللهِ ، يَقُولُ كُلَّ صَبَاحٍ ومَساءٍ : اللهُمَّ فَاطِرَ السماوَاتِ والأرْض ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادةِ ، إنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ في هذهِ الحياةَ الدنيا ، بأَنِي أشْهَدُ أنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ أنتَ ، وَحْدكَ لا شَرِيكَ لَكَ ، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ ورَسُولُكَ ، فلا تكلني إلى نفسي ، فإِنَكَ إنْ تَكلْنِي إلى نَفسْي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشرِّ وتُبَاعِدْنِي مِنَ الخَيْرِ ، وإنّي لاَ أَثِقُ إلاَّ بِرَحْمَتِكَ ، فاجَْلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوفِّينِيه يَوْمَ القِيامَةِ ، إنَّكَ لا تُخْلفُ المِيعادَ. فإذا قالَ ذَلِكَ طُبعَ عَلَيْهِ طابَع ووُضِعَ تَحْتَ العَرْشِ ، فَإذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَىَ مُنَادٍ : أَيْنَ الذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ فَيَدْخُلُونَ الجنَّة " هـ.
الإشارة : ورود العباد على الله يوم القيامة يكون على قدر ورودهم إليه اليوم في الدنيا ، فبقدر التوجه إليه اليوم تعظم كرامة وروده في الآخرة ، فمن ورد على الله تعالى من باب الطاعة الظاهرة حملته صور الطاعات إلى الآخرة ، ومن ورد من باب الطاعات القلبية حملته الأنوار إلى الفراديس العالية ، ومن ورد من باب الطاعات السرية - كالفكرة والنظرة في مقام المشاهدة - حمله الحق إلى الحضرة القدسية ، فيكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر. قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن العارف في قوله تعالى : {وفدًا} : قيل : ركبانًا على نجائب طاعتهم ، وهم مختلفون ، فمن راكب على صور الطاعات ، ومن راكب على نجائب الهمم ، ومن راكب على نجائب الأنوار ، ومن
252
محمول يحمله الحق في عقباه ، كما يحمله اليوم في دنياه ، وليس محمول الحق كمحمول الخلق. هـ.
(4/365)
وقوله تعالى : {لا يملكون الشفاعة...} الآية ، اعلم أن العهد الذي تكون به الشفاعة يوم القيامة هو الطاعة وتربية اليقين والمعرفة ، فتقع الشفاعة لأهل الطاعات على قدر طاعتهم وإخلاصهم ، وتقع لأهل اليقين على قدر يقينهم ، وهم أعظم من أهل المقام الأول ، وتقع لأهل المعرفة على قدر عرفانهم ، وهم أعظم من القسمين ، حتى إن منهم من يشفع في أهل عصره كلهم ، وقد سَمِعْتُ من شيخنا الفقيه ، شيخ الجماعة سيدي التاودي بن سودة ، أن بعض الأولياء قال عند موته : يا رب شفعني في أهل زماني ، فقال له الحق تعالى - من جهة الهاتف - : لم يبلغ قدرك هذا ، فقال : يا رب إن كان ذلك من جهة عملي واجتهادي فَلَعَمْرِي إنه لم يبلغ ذلك ، وإن كان من جهة كرمك وجودك فوعزتك وجلالك لهو أعظم من هذا ، فقال له : إني شفعتك في أهل عصرك. هـ. بالمعنى. فمن رجع إلى كرم الله وجوده ، ودخل من هذا الباب ، وجد الإجابة أقرب إليه من كل شيء. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 251
قلت : {هَدًّا} : مصدر مؤكد لمحذوف ، هو حال من الجبال ، أي : تهد هدًا. و {أن دعوا} : على حذف اللام ، أي : لأن دعوا ، وفيه احتمالات أُخر.
(4/366)
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وقالوا اتخذ الرحمنُ ولدًا} هذه المقالة صدرت من اليهود والنصارى ، ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله ، لعن الله جميعهم ، فسبحان الله وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا ، فحكى جنايتهم إثر جناية عَبَده الأصنام ، وعطف القصة على القصة لاشتراكهم في الضلالة ، قال تعالى في شأنهم : {لقد جئتم شيئًا إِدًّا} أي : فعلتم أمرًا منكرًا شديدًا ، لا يقادر قدره ، فهو رد لمقالتهم الباطلة ، وتهويل لأمرها بطريق الالتفات المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب ، المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح ، وتسجيل عليهم بغاية الوقاحة والجهل. و {جاء} يستعمل بمعنى فعل ، فيتعدى تعديته ، والإد - بكسر الهمزة وفتحها ، وقُرئ بهما في الشاذ - : العظيم المنكر ، الإدُّ : الشدة ، قيل : الأدُّ : في كلام العرب : أعظم الدواهي.
253
ثم وصفه وبيّن هوله فقال : {تكادُ السماواتُ يتفطّرنَ منه} : يتشققن مرة بعد أخرى ، من عظم ذلك الأمر وشدة هوله ، وهو أبلغ من " ينفطرن " كما قرئ به ، {وتنشقُّ الأرضُ} أي : وتكاد تنشق وتذهب ، {وتخرُّ الجبالُ} أي : تسقط وتنهدم {هَدًّا} بحيث لا يبقى لها أثر. والمعنى : أن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها ، بحيث لو تصورت بصورة محسوسة ، لم يُطق سمعها تلك الأجرام العظام ، ولتفتتت من شدة قبحها ، أو : إن فظاعتها واستجلاب الغضب والسخط بها بحيث لولا حلمه تعالى ، لخر العالم وتبددت قوائمه ، غضبًا على من تفوه بها. قال محمد بن كعب : كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة ، يعني : لأن ما ذكر أوصاف الساعة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 253
(4/367)
وذلك {أن دَعَوا للرحمنِ ولدًا} أي : تكاد تنفطر السماوات وتنشق الأرض ، وتنهدم الجبال ؛ لأجل أن دعوا ، أي : نسبوا أو سموا للرحمن ولدًا ، {وما ينبغي للرحمنِ أن يتخِذَ ولدًا} أي : قالوا اتخذ الرحمن ولدًا ، أو دعوا له ولدًا ، والحال أنه مما لا يليق به تعالى اتخاذ الولد ؛ لاستحالته عليه تعالى. ووضع الرحمن موضع الضمير ؛ للإشعار بعلية الحكم ؛ لأن كل ما سواه تعالى منعَّم عليه برحمته ، أو نعمة من أثر الرحمة ، فكيف يتصور أن يجانس من هو مبدأ النعم ومولى أصولها وفروعها ، حتى يتَوهم أن يتخذه ولدًا ، وقد صرح به قوله عزّ قائلاً : {إِن كل من في السماوات والأرض} أي : ما منهم من أحد من الملائكة أو الثقلين {إِلا آتي الرحمنِ عبدًا} ؛ مملوكًا لله في الحال بالانقياد وقهرية العبودية. {لقد أحصاهم} أي : حصرهم وأحاط بهم ، بحيث لا يخرج أحد من حيطة علمه ، وقبضة قدرته وقهريته ، ما وجد منهم وما سيوجد ، وما يقدر وجوده لو وجد ، كل ذلك في علمه وقضائه وقدره وتدبيره ، لا خروج لشيء عنه ، وفي ذلك تصوير لقيام ربوبيته على كل شيء ، وأنه عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً ، {وكلهم آتيه يومَ القيامةِ فردًا} أي : وكل واحد منهم يأتي يوم القيامة فردًا من الأموال والأنصار والأتباع ، متفردًا بعمله ، فإذا كان شأنه تعالى وشأنهم كذلك فأنى يتوهم احتمال أن يتخذ شيئًا منهم ولدًا ؟ !. وفي الحديث القدسي : " قال الله تعالى : كذَّبني عبدي ، ولم يكن له ذلك ، وشَتمني عبدي ولم يكن له ذلك ، أما تكذيبُهُ إيايَ ؛ فأن يقولَ : من يُعيدُنا كما بَدأنا ؟ وأما شَتمُه إياي ؛ فأن يقول : اتخذ الله ولدًا ، وأنا الأحدُ الصمدُ ، لم أَلِد ولم أُولدَ ، ولم يكن لي كُفوًا أحد " وهو في البخاري. وفي صيغة اسم الفاعل في قوله : {آتيه} من الدلالة على إتيانهم كذلك ألبتة ما ليس في صيغة المضارع لو قيل يأتيه. والله تعالى أعلم.
254
(4/368)
الإشارة : إذا علمت أيها المؤمن أن الحق جلّ جلاله يغضب هذا الغضب الكلي على من أشرك مع الله ، أو اعتقد فيه ما ليس هو عليه من التنزيه وكمال الكمال ، فينبغي لك أن تخلص مَشربَ توحيدك من الشرك الجلي والخفي ، علمًا وعقدًا وحالاً وذوقًا ، حتى لا يبقى في قلبك محبة لشيء من الأشياء ولا خوف من شيء ، ولا تعلق بشيء ، ولا ركون لشيء ، إلا لمولاك ، وحينئذ يصفي مشرب توحيدك ، وتكون عبدًا لله خالصًا حرًا مما سواه ، ومهما بقي فيك شيء من محبة الهوى نقص توحيدك بقدره ، ولم تصل إليه ما دمت تميل إلى شيء سواه. وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه :
جزء : 4 رقم الصفحة : 253
إنْ تُرِدَ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ
لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه
فكن عبدًا لله حقيقة ، وانخرط في سلك قوله : {إِن كل من في السماوات والأرض إِلا آتي الرحمن عبدًا}. فحينئذ تكون حرًا مما سواه ، وَيملكك الوجود بأسره ، يكون عند أمرك ونهيك. وفي ذلك يقول القائل :
دَعَوْني لملكهم فلما أجبتهم
قالوا دعوناك للمُلك لا للمِلك
وإذا فتحت عين القدرة وعين الحكمة وضعت كل شيء في محله ، فتتنزه بعين القدرة في رياض الملكوت وبحار الجبروت ، وتتنزه بعين الحكمة في بهجة الملك وأسرار الحكمة. فعين القدرة تقول : كل من في السماوات والأرض عبد مملوك تحت قهرية ذاته ، فاعرف الضدين ، وأنزل كل واحد في محله ، تكنْ عارفًا بالله ، فإن أردت أن تعرفه بضد واحد بقيت جاهلاً به. فالحكمة تثبت العبودية صورة ؛ صونًا لكنز الربوبية ، والقدرة تغيبك عنها بشهود أسرار الربوبية ، وفي الحكم : " سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية ".
فالعبودية لازمة من حيث العبد ، والغيبة عنها واجبة من حيث الرب ، فإثبات العبودية ، حكمةً ، فرق ، والغيبة عنها في شهود أنوار الربوبية : جمع ، فالعارف مجموع في فرقه ، مفروق في جمعه.
(4/369)
جزء : 4 رقم الصفحة : 253
قلت : لما استحقر الكفرةُ أحوالَ المؤمنين حتى قالوا : {أينا خير مقامًا وأحسن نديًّا} ، أخبر الله تعالى المؤمنين وبشرهم أنهم سيعزهم ويلقى مودتهم في قلوب عباده.
255
يقول الحقّ جلّ جلاله : {إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعلُ لهم الرحمن} في قلوب الناس مودة وعطفًا ، حتى يحبهم كل من سمع بهم ، فيحبهم ويحببهم إلى عباده من أهل السماوات والأرض ، أي : سيحدث لهم في القلوب مودةً من غير تعرض لأسبابها ، سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح ، أو {وُدًّا} فيما بينهم ، فيتحابون ويتواددون ويحبهم الله.
(4/370)
قال القشيري : يجعل في قلوبهم ودًّا لله ، وهو نتيجة أعمالهم الخالصة ، وفي الخبر : " لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى يحبني وأحبه ". والتعرض لعنوان الرحمانية ؛ لِمَا أنَّ الموعود من آثارها ، وأن مودتهم رحمة بهم وبمن أحبهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعليّ رضي الله عنه : " قل اللهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدكَ عَهْدًا ، واجعل لِي في صُدُورِ المؤمِنِينَ مَوَدَّةً " فنزلت الآية. وفي حديث البخاري وغيره : " إِذا أحَبَّ اللهُ عبدًا قال لجبْريل : إني أُحبُ فُلانًا فأَحِبَّهُ ، فَيُحِبُّهُ جَبْرِيلُ ، ثُمَّ يُنَادي في أَهْلِ السَّماءِ إنَّ اللهَ قَدْ أحَبَّ فُلانًا فأَحبُّوهُ ، فَيُحبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يَضع لَهُ المحبة فِي الأرْض ". وقال قتادة : {سيجعل لهم الرحمن ودًا} قال : أي والله ودًا في قلوب أهل الإيمان. وإن هرم بن حيان يقول : ما أقبل عبدٌ بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. قلت : ولفظ الحديث : " ما أقْبَلَ عبدٌ بقلْبهِ إلى اللهِ عزّ وجلّ إلا جَعلَ الله قلوبَ المؤمنينَ تَفِدُ إليه بالودِّ والرحمَةِ ، وكان الله إليه بكل خيرٍ أسرَعَ " نقله في الترغيب. وفي حديث آخر : " يُعطي المؤمنُ ودًّا في صدور الأبرار ، ومهابة في سدور الفجار " فَتَوَدُّد الناس للعبد دليل على قبوله عند مولاه. أنتم شهداء الله في أرضه. وفي بعض الأثر : " لا يموت العبد الصالح حتى يملأ مسامعه مما يُحب ، ولا يموت الفاجر حتى يملأ مسامعه مما يكره ". بالمعنى.
(4/371)
وأتى الحقّ جلّ جلاله بالسين ؛ لأن السورة مكية ، وكانوا إذ ذلك ممقوتين عند الكفرة ، فوعدهم ذلك ، ثم أنجزه لهم حين جاء الإسلام ، فعَزوا وانتصروا ، وتعشقت إليهم قلوب الخلق من كل جانب ، كما هو مسطر في تواريخهم. وقيل : الموعود في القيامة ، حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد كأنها أنوار الشمس الضاحية ، ولعل إفراد هذا بالوعد من بين ما لهم من الكرامات السنية ؛ لأن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تقاطع وتباغض وتضاد. والله تعالى أعلم.
256
الإشارة : سُنَّة الله تعالى في أوليائه ، في حال بدايتهم ، أن يُسلط عليهم الخلق ، وينزل عليهم الخمول والذل بين عباده ، حتى يمقتهم أقرب الناس إليهم ، رحمة بهم واعتناء بقلوبهم ؛ لئلا تسكن إلى غيره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا... الخ. فإذا تطهروا من البقايا وكملت فيهم المزايا ، وتمكنوا من معرفة الحق ، أعزهم وألقى مودتهم في قلوب عباده ، هذا دأبه معهم في الغالب ، وقد يحكم على بعضهم بالخمول حتى يلقاه على ذلك ، ولا يكون ذلك نقصًا في حقه بل كمالاً ، وهم شهداء الملكوت ، لم يأخذوا من أجرهم شيئًا. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 255
قلت : الفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم ، كأنه قيل - بعد إيحاء السورة الكريمة - : بلغ هذا المنزّل عليك ، وبشر به ، وأنذر ؛ فإنما يسرناه... الخ ، قاله أبو السعود.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {فإِنما يسرناه} أي : القرآن {بلسانك} بأن أنزلناه على لغتك ، والباء بمعنى " على " وقيل : ضَمَّنَ التيسيرَ معنى الإنزال ، أي : يسرنا القرآن وأنزلناه بلغتك {لتُبشّر به المتقين} أي : السائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي ، {وتُنذرَ به} أي : تخوف به {قومًا لُدًّا} لا يؤمنون به ، لجاجًا وعنادًا ، واللُّدُّ : جمع أَلَد ، وهو الشديد الخصومة ، اللجوج المعاند.
(4/372)
{وكم أهلكنا قَبْلَهم من قَرنٍ} أي : كثيرًا من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين ، فهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على الكفرة ووعيد لهم بالهلاك ، وحث له صلى الله عليه وسلم على الإنذار ، أي : دُم على إنذارك لهم ، فسيهلكون كما أهلكنا من قبلهم من القرون ، {هل تُحِسُّ منهم أحدٍ} أي : هل تشعر بأحد منهم ، وترى له من باقية {أو تَسْمَعُ لهم رِكْزًا} أي : صوتًا خفيًا ، هيهات قد انقطع دابرهم وهدأت أصواتهم ، وخربت قصورهم وديارهم ، وكذلك نفعل بغيرهم ، والمعنى : أهلكناهم بالكلية ، واستأصلناهم بحيث لا يُرى منهم أحد ، ولا يسمع لهم صوت خفي ولا جلي. وجملة : {هل تحس} : استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، وأصل الرِّكز : الخفاء ، ومنه : رَكَزَ الرمحَ ؛ إذا غيب طَرفه في الأرض ، والرِّكاز : المال المدفون المخفي. والله تعالى أعلم.
257
الإشارة : ما أنزل الله القرآن وسهله على عباده إلا ليقع به الوعظ والتذكير ، فأمر اللهُ رسوله في حياته بالبشارة والإنذار به ، وبقي الأمر لخلفائه ، فالواجب على العلماء والأولياء أن يتصدوا للوعظ والتذكير ، ولا يكفي عنه تعليم رسوم الشريعة ، فإن الوعظ إنما هو التخويف والتبشير ، كما قال تعالى : {لتُبشر به المتقين وتُنذر به قومًا لُدًّا}.
لكن لا يتصدى للوعظ إلا من له نور يمشي به في الناس ، فيسبقه نورُ قلبه إلى القلوب المستمعة ، فيقع كلامهم في قلوب السامعين. قال في الحكم : " تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم ، فحيثما صار التنوير وصل التعبير ". هذا النور هو نور المعرفة الذي هي مقام الفناء ، ويشترط فيه أيضًا : أن يكن مأذونًا له في الكلام من شيخ كامل ، أو وحي إلهامي حقيقي ، فحينئذ يقع كلامه في مسامع الخلق. وفي الحكم : " من أُذن له في التعبير حسنت في مسامع الخلق عبارته ، وجُليت إليهم إشارته ".
جزء : 4 رقم الصفحة : 257
وقال أيضًا : " ربما برزت الحقائق مكسوفة الأنوار ، إذا لم يؤذن لك فيها بالإظهار ". وفي أمثال هؤلاء المتصدين للوعظ والتذكير ورد الخبر القدسي : " إنَّ أودَّ الأوِدَّاءِ إليّ من يُحببني إلى عبادي ، ويُحبب عبادي إليّ ، ويمشون في الأرض بالنصيحة " .. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه آمين. وصلَّى اللهُ على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلَّم تسليمًا.
258
جزء : 4 رقم الصفحة : 257(4/373)
سورة طه
جزء : 4 رقم الصفحة : 258
قلت : عن ابن عباس أن " طه " من أسماء الله تعالى ، وقيل : معناه : طوبى لمن هدى ، وقيل : يا طاهر يا هادي ، فالطاء تشير إلى طهارته صلى الله عليه وسلم وتطهيره من دنس الحس ، والهاء تشير إلى هدايته في نفسه ، وهدايته غيره إلى حضرة القدس.
ورُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لي عشرة أسماء... " فذكر أن منها " طه ويس " ، وقيل : معناه : طِئ الأرض بقدمك ؛ لأنه كان يرفع رِجْلاً في الصلاة ويضع أخرى في طول تهجده ، فأبدل الهمزة ألفًا ، والضمير للأرض ، ورُد بأنه لو كان كذلك لكُتبت بالألف ، فإنَّ الكتابة بصورة الحرف مع التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم. وقيل : معناه : يا رجل. وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم ، وهو عندهم على اللغة النبطية ، أو السريانية. قيل : من جعل معنى " طه " يا رجل ، لم يقل على طه ، وكذا من جعله اسمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النداء تنبيه على ما بعده ، ومن جعلها افتتاحًا ، أو على وجه من الوجوه المذكورة في البقرة ، وقف عليها ، إلا في قول من جعلها قَسَمًا ، فإنه لا يقف عليها ؛ لأن قوله : {ما أنزلنا...} الخ جواب قسم.
قلت : المتبادر من سبب نزولها ومن قوله : {ما أنزلنا} : إما القسم أو النداء ، فالقَسَم على أن ذلك من أسماء الله ، والنداء على كون ذلك بمعنى يا رجل ، أو من
259(4/374)
أسمائه صلى الله عليه وسلم. وأمَّا غير ذلك فبعيد ، إلا أن يكون ما بعد ذلك استئنافًا بعد الوقف على " طه ". قاله في الحاشية.
و {إلاَّ تذكرة} : مفعول لأجله. والاستثناء منقطع ، أي : ما أنزلناه لتتعب به ، لكن أنزلناه للتذكرة والوعظ ، و {تنزيلاً} : مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله ، أي : أنزل تنزيلاً ، والأصح : أنه بدل من اللفظ بفعله الناصب له ، فلا يجمع بينه وبين المبدل منه ، وفيه معنى التأكيد لما قبله ، أو هو نص في معناه ، وإنما تلون الكلام بالالتفات ، أو منصوب على المدح والاختصاص ، أو مفعول بيخشى ، أو حال من " القرآن " ، و {الرحمن} : رفع على المدح ، وقد عرفت أن المرفوع مدحًا ، في حكم الصفة الجارية على ما قبلها ، وإن لم يكن تابعًا له في الإعراب ، ولذلك ألزموا حذف المبتدأ ؛ ليكون في صورة متعلقٍ من متعلقاته. وقرئ بالجر ؛ صفةً للموصول ، وما قيل من أن الموصولات لا تُوصف إلا بالذي وحده فمذهب كوفي ، أو {الرحمن} : مبتدأ ، و {على العرش} : خبره. و {على} : متعلقة باستوى ، قُدمت للفواصل. و {إن تجهر} : شرط ، والجواب محذوف دل عليه {فإنه... } الخ ، أي : فالله غني عن جهرك ، فإنه... الخ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 259
يقول الحقّ جلّ جلاله : تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أو ترويحًا له من التعب : يا محمد {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} أي : لتتعب نفسك بالمجاهدة في العبادة.
(4/375)
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُومُ باللّيل حَتَّى تَوَرّمَتْ قَدَمَاهُ ، فقَالَ لهُ جِبْرِيلُ عليه السلام : " أبْق عَلى نَفْسِكَ ، فإِنَّ لَها عَلَيْكَ حَقًا ". أي : ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضَات الشاقة ، و الشدائد الفادحة ، وما بعثتَ إلا بالحنيفية السمحة. أو : ما أنزلناه لتتعب نفسك في تبليغه بمكابدة الشدائد في مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة ، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم ، كقوله : {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاء : 3] ، بل للتبليغ ، وقد فعلت. وإطلاق الشقاء في هذا المعنى شائع ، ومنه قولهم : أشقى من رائض مُهر ، وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك شقي ، حيث تركت دين آباءك ، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى ، فردَّ اللهُ ذلك عليهم. والأول أظهر ، والعموم أحسن ، فإنه نفى عنه جميع الشقاء في الدنيا والآخرة.
{إِلا تذكرةً لمن يخشى} أي : ما أنزلناه لتتعب ، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله - عزّ وجلّ - ، ليتأثر بالإنذار ، لرقة قلبه ولين عريكته ، أو لمن عَلِمَ الله أنه يخشى بالتخويف ، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ ؛ لأنهم المنتفعون بها.
{تنزيلاً} أي : أنزل تنزيلاً ، أو حالَ كَوْنِ القرآن تنزيلاً ، أي : منزلاً {ممّن خلق الأرض والسماوات العلى} ، ونسبة التنزيل إلى الموصول بعد نسبته إلى نون العظمة بقوله : {ما أنزلنا} ؛ لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات ، إثر بيانها بحسب
260
(4/376)
الذات بطريق الإبهام ، ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير. وتخصيص خلقهما بالذكر ؛ لتضادهما. وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس ، ووصف السماوات بالعُلى ، وهو جمع " عليا " ؛ لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل. وكل ذلك إلى قوله : {له الأسماء الحسنى} ، مسوق لتعظيم المنزل - عزّ وجلّ - المستتبع بتعظيم المنزَّل عليه ، الداعي إلى تربية المهابة وإدخال الروعة ، المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان ، واستمالتهم إلى الخشية ، المفضية إلى التذكير والإيمان.
ثم قال تعالى : {الرحمنُ} أي : هو الرحمن ، ووصف تعالى بالرحمانية إثر وصفه بالخالقية ؛ للإيذان بأن ربوبيته تعالى ، وقيامَه بالأشياء ، من طريق الرحمة والإحسان ، لا بالإيجاب ، وفيه إشارة إلى أن تنزيله القرآن أيضًا من رحمته - تعالى - ، كما ينبئ عنه قوله عزّ من قائل : {الرَّحْمَـانُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرَّحمن : 1 ، 2]. أو : {الرحمن على العرش استوى} : مبتدأ وخبر ، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب ؛ للإيذان بأن ذلك أمر بيِّن لا خفاء فيه ، غني عن الإخبار صريحًا. والاستواء على العرش مجاز عن المُلك والسلطان ، يقال : استوى فلان على سرير الملك ؛ مرادًا به مَلَك الملك والتصرف ، وإن لم يقعد على سرير أصلاً ، والمراد : تعلق قدرته وقهريته في جميع الكائنات بالتدبير والتصرف التام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 259
وسُئل أحمد بن حنبل عن الاستواء ، فقال : استواء مَنْ غَلَبَ وقهر ، لا استواء كما يتوهم البشر. وسئل عنه مالك والشافعي - رضي الله عنهما - فقالا : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن هذا بدعة وضلالة ، آمنوا بلا تشبيه ، وصدّقوا بلا تمثيل ، وأمسكوا عن الخوض في هذا كل الإمساك.
(4/377)
وقال الجنيد رضي الله عنه : خلق الله العرش فوق سبع سماوات ، وجعله قبلة لدعاء المخلوقات ، وقابله بقلب عبده المؤمن ، ليكون محلاً للتجليات والتنزلات والمخاطبات. هـ. وقد تقدم الكلام عليها في الأعراف مستوفيًا.
{له ما في السماوات وما في الأرضِ} ، سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما ، {وما بينهما} من الموجودات الكائنة في الجو دائمًا ، كالهواء والسحاب ، أو أكثريًا ؛ كالطير ، أي : له ذلك وحده دون غيره ، لا شركةً ولا استقلالاً ، كل ما ذكر هو له ؛ ملكًا وتصرفًا ، وإحياء وإماتة ، وإيجادًا وإعدامًا ، {وما تحت الثرى} : وما وراء التراب المتصل بالهوى السفلى. وعن محمد بن كعب : أنه ما تحت الأرضين السبع. وعن السدي : أن الثرى هو الصخرة التي عليها الأرض السابعة ، وذكره مع دخوله تحت
261
ما في الأرض ؛ لزيادةِ التقرير. {وإِن تجهر بالقول} أي : وإن تجهر بذكره تعالى - أو دعائه - ، فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك ؛ {فإِنه يعلمُ السرَّ وأخْفَى} أي : ما أسررته إلى غيرك ، وشيئًا أخفى من ذلك ، وهو ما أخطرته ببالك ، من غير أن تتفوه به أصلاً أو : : السر : ما أسررته في نفسك ، وأخفى منه : ما ستُسره في المستقبل. وهو إمّا نهي عن الحركة ، كقوله تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعرَاف : 205] ، وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى ؛ بل لغرض آخر من تأنيس النفس بالذكر وتثبيته فيها ، ومنعها من الاشتغال بغيره ، وقطع الوسوسة عنها ، وهضمها بالتضرع والجؤار. هذا والغرض من الآية : بيان إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء ، إثر بيان سعة سلطانه وشمول قدرته بجميع الكائنات.
(4/378)
ثم بيَّن الموصوف بتلك الكمالات ، فقال : {الله} أي : ما ذكر من صفات الكمال ، موصوفها الله المعبود بالحق ، {لا إِله إِلا هو} أي : لا معبود بحق إلا هو ، ولا مستحق للعبادة إلا هو. وهو تصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه ، فإنَّ ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات ، ومن الرحمانية والمالكية للكل ، والعلم الشامل ، يقتضي اختصاصه تعالى بالألوهية والربوبية ، وقوله تعالى : {له الأسماء الحسنى} بيان لكون ما ذكر من الخالقِية والرحمانية والمالكية والعالِمِية أسماءه تعالى وصفاته ، من غير تعدد في ذاته تعالى ؛ فالأسماء والصفات كثيرة ، والمسمى والموصوف واحد. و {الحسنى} : تأنيث الأحسن ، فُعلى ، يُوصف به الواحد المؤنث ، والجمع المذكر والمؤنث ، كـ {مَآرِبُ أُخْرَىا} [طه : 18] ، و {آيَاتِنَا الْكُبْرَىا} [طه : 23]. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 259
الإشارة : من تأمل القرآن العظيم ، وما جاء به الرسول - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - وجده يدل على ما يُفضي إلى الراحة دون التعب ، وإلى السعادة العظمى دون الشقاء ، لكن لا يتوَصل إلى الراحة إلا بعد التعب ، ولا يُفضي العبد إلى السعادة الكبرى إلا بعد الطلب ، فإذا اجتهد العبد في طلب ربه ، وكله إلى شيخ ينقله من عمل الجوارح إلى عمل القلوب ، فإذا وصل العمل إلى القلب استراحت الجوارح ، وأفضى حينئذ إلى رَوْح وريحان ، وجنة ورضوان ، أعني جنة العرفان. ولذلك قال الشيخ أبو الحسن : " ليس شيخك من يدلك على تعبك ، إنما شيخك من يريحك من تعبك " ، كما في لطائف المنن.
(4/379)
وقال شيخنا القطب ابن مشيش : وقد سُئل عن قوله صلى الله عليه وسلم : " يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا " فقال : دلوهم على الله ، ولا تدلوهم على غيره ، فإن من دَلَّك على الدنيا فقد غشك ، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك ، ومن دلَّك على الله فقد نصحك. هـ. فإذا دلك على الله غَيَّبك عن وجود نفسك بشهود ربك ، وهي السعادة العظمى ، كما تقدم في سورة
262
هود. فمن اتخذ شيخًا ثم لم ينقله من مقام التعب ، ولم يُرحله من مقام إلى مقام ، فاعلم أنه غير صالح للتربية.
وقوله تعالى : {إِلا تذكرة لمن يخشى} ، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف : قيل : أنزل اللهُ القرآنَ لتذكير سابق الوصال ؛ لأن الأرواح لمّا دخلت الأشباح اكتسبت خشية ووحشة وفرقة عن معادنها ، فأنزل الله القرآن تأنيسًا ؛ لأن المحب يأنس بكتاب حبيبه وكلامه. وقال جعفر الصادق : أنزل اللهُ القرآنَ موعظةً للخائفين ، ورحمة للمؤمنين ، وأنسًا للمحبين. وايضًا : القرآن يُذَكّر عظمة الله الموجبة خشيته ، فهو مُذهب للغفلة. ثم قال : وفي الشهود الحاصل بالتذكير رفعُ المشقة ، ووجدان الراحة بالطاعة ، لكونه يصير محمولاً ، وقد قال : {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِيا} [طه : 14] ، أي : لشهودي فيها ، وفي ذلك قرة عين ، وراحةً ، وأنس ، وتشابه حال المصلي بحال موسى ، بجامع النجوى ، فلذلك ذكر في سياقه. والله أعلم. هـ.
(4/380)
وقوله تعالى : {الرحمنُ على العرش استوى} ، تفسيرها هو الذي قصد ابن عطاء الله في الحِكَم بقوله : " يا من استوى برحمانيته على عرشه ، فصار العرش غيبًا في رحمانيته ، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه ، مَحَقْتَ الآثار بالآثار ، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار. وأنت خبير بأن الرحمانية وصف لازم للذات ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فإذا استوت الرحمانية على العرش وغمرته ؛ فقد استوت عليه أسرار الذات وغمرته ، وهي أفلاك الأنوار التي أحاطت بالعرش والآثار ، ومحت كل شيء ، حتى لم يبق إلا الذي ليس كمثله شيء ، وليس معه شيء ، وهو السميع البصير. وما نسبة حس الآثار بالنسبة إلى أفلاك الأسرار التي استوت عليه إلا كالهباء في الهواء. والله تعالى أعلم وأعظم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 259
قلت : قال القشيري : أجرى الله سنته في كتابه أن يذكر قصة موسى في أكثر المواضع التي يذكر فيها حديث نبينا - عليه الصلاة والسلام - يتبعه بذكر موسى ، تنبيهًا على علو شأنه ، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور ، فالتكرير في
263
التفصيل يوجب التفضيل ، في الوصف ؛ لأن القضية الواحدة إذا أعيدت مرارًا كثيرة كانت في باب البلاغة أتم ، ولا سيما في كل مرة فائدة زائدة. هـ.
قلت : ولعل وجه تناسقهما في الذكر قرب المنزلة ، ومشاركة الصفة ، وذلك باعتبار المعالجة وهداية الأمة ، فإن أمة موسى عليه السلام كانت انتشرت فلم يقع لنبي هداية على يديه لقومه مثله ، إلا لنبينا - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - فإن أمته انتشرت وشاعت مسير الشمس والقمر ، وفي حديث البخاري ما يدل على هذا ، حين عرضت عليه الأمم صلى الله عليه وسلم مرة ، فرأى أمة موسى عليه السلام كثيرة ، ثم رأى أمته قد سدت الأفق. فانظر لفظه فيه.
(4/381)
وقال أبو السعود : المناسبة إنما هي تقرير أمر التوحيد الذي إليه انتهى مَسَاق الحديث ، وبيان أنه مستمر فيما بين الأنبياء ، كابرًا عن كابر ، وقد خوطب به موسى عليه السلام ، حيث قيل له : {إِنني أنا الله لا إِله إِلا أنا فاعبدني} ، وبه ختم عليه السلام مقاله ، حيث قال : {إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ} [طه : 98] ، ثم ردَّ مناسبة التسلية بأن مساق النظم الكريم إنما هو لصرفه عليه السلام عن اقتحام المشاق. فانظره. و {هل} : لفظة استفهام ، والمراد به التشويق لما يخبره به ، أو التنبيه. و {إذ رأى} : ظرف للحديث ؛ لأن فيه معنى الفعل ، أو لمضمر مؤخر ، أي : حين رأى كان كيت وكيت ، أو : لاذكر ، أي : اذكر وقت رؤيته... الخ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 263
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وهل أتاك حديثُ موسى} : أي : قصته في معالجة فرعون ، فإنا سنذكرها لك تسلية وتقريرًا لأمر التوحيد ، {إِذْ راى نارًا} تلمع في الوادي ، وذلك أنه عليه السلام استأذن شعيبًا عليه السلام في الخروج إلى أمه وأخيه ، فخرج بأهله ، وأخذ على غير الطريق ، مخافةً من ملوك الشام ، فلما وافى وادي طُوى ، وهو بالجانب الغربي من الطور ، وُلد له ولد في ليلة مظلمة شاتية مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة ، وقد ضل عن الطريق ، وتفرقت ماشيته ، ولا ماء عنده ، فقدحَ النار فلم تُورِ المِقْدَحة.
فبينما هو في ذلك {إِذْ رأى نارًا} على يسار الطريق من جانب الطور ، {فقال لأهله امكثوا} أي : أقيموا مكانكم. أمرهم عليه السلام بذلك ؛ لئلا يتبعوه ، كما هو المعتاد من النساء. والخطاب للمرأة والخادم والولد ، وقيل : لها وحدها ، والجمع للتعظيم ، {إِني آنستُ} أي : أبصرت {نارًا} ، وقيل : الإيناس خاص بإبصار ما يُؤنس به. {لعلّي آتيكم منها بقَبَس} أي : بشعلة مقتبسة من معظم النار ، وهو المراد بالجذوة في سورة القصص ، وبالشهاب
264
(4/382)
القبس ، {أو أجدُ على النار هُدىً} ؛ هاديًا يدلني إلى الطريق ، فهو مصدر بمعنى الفاعل ، و {أوْ} في الموضعين : لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع ؛ إذ يمكن أن يقتبس من النار ويجد هاديًا. ومعنى الاستعلاء في قوله : {على النار} ؛ لأن أهلها يستعلون عليها عند الاصطلاء ، ولما كان الإيتاء بها غير محقق ، صدَّر الجملة بكلمة الترجي.
{فلما أتاها} أي : النار التي آنسها. قال ابن عباس رضي الله عنه : رأى شجرة خضراء ، حفت بها ، من أسفلها إلى أعلاها ، نارٌ بيضاء ، تتَقِدُ كأضوء ما يكون ، فوقف متعجبًا من شدة ضوئها ، رُوي أن الشجرة كانت عوسجة ، وقيل : سَمُرَة... بينما هو ينظر ، {نُودي} فقيل : {يا موسى إِني أنا ربك} ، أو بأني أنا ربك ، وتكرير الضمير ؛ لتأكيد الدلالة ، وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. يروى أنه لما نودي يا موسى ، قال عليه السلام : مَن المتكلم ؟ فقال الله عزّ وجلّ : {أنا ربك} ، فوسوس إليه الخاطر : لعلك تسمع كلام شيطان ، قال : فلما قال : {إنني أنا} ، عرفت أنه كلام الله عزّ وجلّ. قيل : إنه سمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء.
ثم قال له : {فاخلع نعليك} ؛ لأنه أليق بحسن الأدب ، ومنه أخذ الصوفية - رضي الله عنهم - خلع نعالهم بين يدي المشايخ والأكابر ، وقيل : ليباشر الوادي المقدس بقدميه ، ومنه يؤخذ تعظيم المساجد ، بخلعها ولو طاهرة ، وقيل : إن نعليه كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل : النعلين : الكونين ، أي : فرغ قلبك من الكونين إن أردت دخول حضرتنا. وقوله تعالى : {إِنك بالوادِ المقدَّس} : تعليل لوجوب الخلع ، وبيان لسبب ورود الأمر بذلك. رُوي أنه عليه السلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي ، و {طُوى} : بدل من الوادي ، وهو اسم له. وقُرئ منونًا ؛ لتأوله بالمكان ، وغير المنون ؛ لتأوله بالبقعة.
{
جزء : 4 رقم الصفحة : 263
(4/383)
وأنا اخترتُك} أي : اصطفيتُكَ للنبوة والرسالة ، وقرأ حمزة : {وإنَّا اخترناك} بنون العظمة ، {فاستمع لما يُوحى} أي : للذي يُوحى إليك ، أو لوحينا إليك ، وهو : {إِنني أنا الله لا إِله إِلا أنا} ، فالجملة بدلَ من " ما ". {فاعبدني} ؛ أَفردني بالعبادة والخضوع ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن اختصاص الألوهية به سبحانه من موجبات تخصيص العبادة به تعالى. {وأقم الصلاة لذكري} : لتذكرني فيها ؛ لاشتمالها على الأذكار ، وأُفردت بالذكر ، مع اندراجها في الأمر بالعبادة ؛ لفضلها على سائر العبادات ؛ لما نيطت به من ذكر المعبود ، وشغل القلب واللسان بذكره ، فإنَّ الذكر كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة.
أو {لذكري} : لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي ، بحيث لا تُرائي بها غيري. وقيل : لذكري إياها ، وأمري بها في الكتب ، أو لأن أذكرك فيها بالمدح والثناء ، وقيل : لأوقات
265
ذكري ، وهي مواقيت الصلوات ، وقيل : لذكر صلاتي إذا نسيتها ، لما رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام قال : " مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَة ، أَوْ نَسِيَها ، فَلْيُصلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ؛ لأنَّ الله تَعالى يَقُول : " وأقم الصلاة لذكري " قال بعضهم : أصول العمل ثلاثة : أقوال وأفعال وأحوال ، فأفضل الأقوال : لا إله إلا الله ، وأفضل الأفعال : الصلاة لله أو بالله ، وأفضل الأحوال : الطمأنينة بشهود الله.
{إِن الساعة آتيةٌ} : كائنة لا محالة ، وهو تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة ، وإنما عبَّر بالإتيان ؛ تحقيقًا لحصولها ، بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين. {أكادُ أُخفيها} أي : لا أظهرها ، بأن أقول : آتية فقط ، فلا تأتي إلا بغتة ، أو أكاد أظهرها بإيقاعها ، مِنْ أخفاه ، إذا أظهره ، فأخفى - على هذا - من الأضداد. وردّه ابن عطية ، فإن الذي بمعنى الظهور هو : " خفى " ؛ الثلاثي ، لا " أخفى ". وقال الزمخشري : قد جاء في بعض اللغات : أخفى بمعنى خفى ، أي : ظهر ، فلا اعتراض.
(4/384)
ونقل الثعلبي عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن المعنى : أكاد أخفيها عن نفسي ، فكيف عن غيري ؟ وكذلك هو في مصحف أُبي ، وفي مصحف عبد الله : فكيف يعلمها مخلوق ، وفي بعض القراءات : وكيف أظهرها لكم ؟ قال قطرب : فإن قيل : كيف يُخفي الله تعالى عن نفسه ، وهو خَلَق الأشياء ؟ قلنا : إن الله تعالى كلم العرب بكلامهم الذي يعرفونه. انظر بقية كلامه.
وظهور علاماتها لا يزيل إخفاءها. قال ابن عرفة في تفسيره : وإذا ظهرت عند وقوع الأشراط لم ينسلخ عنها معنى الخفاء المتقدم ، غاية الأمر أنها بذكر الأشراط وسط بين الإخفاء والإظهار ، فتكون مقاربة لكل واحد منهما. هـ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 263
وقوله تعالى : {لتُجزى كُلُّ نفس بما تسعى} متعلق بآتية ، أو بأُخفيها - على معنى : أظهرها - ، لتُجزى كل نفس بسعيها ، أي : بعملها خيرًا كان أو شرًا. {فلا يَصُدَّنك عنها} أي : عن ذكر الساعة ومراقبتها والاستعداد لها {مَن لا يؤمن بها} حتى تكسَل عن التزود لها. والنهي - وإن كان بحسب الظاهر متوجهًا للكافر عن صدر موسى عليه السلام - لكنه في الحقيقة نهى له عليه السلام عن الانصداد عنها ، على أبلغ وجه ، فإنَّ النهي عن أسباب الشيء المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني ، كقوله تعالى : {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيا} [هُود : 89] ، أي : لا تتبع في الصد عنها من لا يؤمن بها {واتَّبعَ هواه} أي : ما تهواه
266
نفسه من اللذات الفانية ، {فَتَرْدَى} : فتهلك ؛ فإنَّ الإغفال عنها ، وعن تحصيل ما يُنجي من أهوالها ، مستتبع للهلاك لا محالة. وبالله التوفيق.
(4/385)
الإشارة : وهل أتاك أيها العارف حديث موسى ، كيف سار إلى نور الحبيب ، ومناجاة القريب ، إذ رأى نارًا في مرأى العين ، وهو نورُ تَجَلِّي الحبيب بلا بين ، فقال لأهله ومن تعلق به : امكثوا ، أقيموا في مقام الطلب ، واصبروا وصابروا ورابطوا على قلوبكم ، في نيل المُطَّلَبِ ، إني آنست نارًا ، وهو نور وجه الحبيب في مرائي تجلياته ، وهذا مقام الفناء ، لعلي آتيكم منها بقبس ، تقتبسون منه أنوارًا لقلوبكم وأسراركم. أو أجد على النار هدى يهديني إلى مقام البقاء والتمكين ، فلما أتاها ، وتمكن من شهودها ، نودي يا موسى : إني أنا ربك ، فلا نار ولا أثر ، وإنما وجه الحبيب قد تجلى وظهر ، في مرأى الأثر ، فاخلع نعليك ، أي : اخرج عن الكونين إن أردت شهود حضرة المكون ، كما قال القائل :
واخلع النعلين إن جئتَ إلى
ذلك الحي ففيه قدسنا
وعن الكونين كن منخلعا
وأزل ما بيننا من بَيْنِنَا
إنك بالواد المقدس ، أي : بحر حضرة القدس ومحل الأنس ، قد طويت عنك الأكوان ، وأبصرت نور الشهود والعيان ، وأنا اخترتك لحضرتي ، واصطفيتك لمناجاتي ، فاستمع لما يوحى إليك مني ، فأنا الله لا إله إلا أنا وحدي ، فإذا تمكنت من شهودي ، فانزل لمقام العبودية ؛ شكرًا ، وأقم الصلاة لذكري ، إن الساعة آتية لا محالة ، فأُكرم مثواك ، وأُجل منصبك ، وأرفعك مع المقربين ، فلا يصدنك عن مقام الشهود أهلُ العناد والجحود ، فتسقط عن مقام القرب والأنس ، وتصير في جوار أهل حجاب الحس ، ولعل هذا المنزع هو الذي انتحى ابنُ الفارض ، حيث قال في كلام له :
جزء : 4 رقم الصفحة : 263
آنسْتُ في الحَيّ نارًا
لَيْلاً فَبَشّرْتُ أهلي
قُلْتُ امْكُثُوا فلَعلّي
أجِدْ هُدايَ لَعَلّي
دَنَوْتُ مِنها فكانَتْ
نار التكلم قبلي
نودِيتُ منها كفاحًا
رُدّوا لَياليَ وَصْلي
حتى إذا مال تَدانَى الـ
ـميقاتُ في جَمْعِ شَملي
صارَتْ جِباليّ دكًا
منْ هيبَةِ المُتَجَلّي
ولاحَ سرًّ خَفيٌ
(4/386)
يدْرِيه مَنْ كَانَ مِثْلي
فالموتُ فِيهِ حياتي
وفي حَياتيَ قَتلي
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني
مذ صار بَعْضِيَ كُلي
267
قوله : " صارت جبالي دكًّا " أي : جبال وجوده ، فحصل الزوال من هيبة نور المتجلي ، وهو الكبير المتعال. وهذا إنما يكون بعد موت النفس وقهرها ، فإنها حينئذ تحيا بشهود ربها ، حياة لا موت بعدها. وقوله : " مذ صار بعضي كلي " ، يعني : إنما حصلت له المناجاة والقرب الحقيقي حين فنيت دائرة حسه ، فاتصل جزء معناه بكل المعنى المحيط به ، وهو بحر المعاني المُفني للأواني. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 263(4/387)
قلت : {وما} : استفهامية ، مبتدأ ، و {تلك} : خبر ، أو بالعكس ، فما : خبر ، وتلك : مبتدأ ، وهو أوفق بالجواب. و {بيمينك} : متعلق بالاستقرار ؛ حالاً ، أي : وما تلك قارةً أو مأخوذة بيمينك ، والعامل معنى الإشارة. وقيل : {تلك} : موصولة ، أي : وما التي هي بيمينك ، والاستفهام هنا : إيقاظ وتنبيه له عليه السلام على مما سيبدُو له من العجائب ، وتكرير النداء ؛ لزيادة التأنيس والتنبيه.
يقول الحقّ جلّ جلاله : {وما تلك بيمينك يا موسى} ، إنما سأله ؛ ليريه عظيم ما يفعل بها ؛ من قلبها حية ، فمعنى السؤال : تقريره على أنها عصي ، ليتبين له الفرقُ بين حالها قبل قلبها وبعده ، وقيل : إنما سأله ليؤنسه وينبسط معه ، فأجابه بقوله : {هي عَصَايَ} ، نسبها لنفسه تحقيقًا لوجه كونها بيمينه ، رُوي أنها كانت عصا آدم عليه السلام ، فأعطاها له شعيب ، حين قدمه لرعي غنمه ، على ما يأتي في سورة القصص. وكان في رأسها شُعبتان ، وفي أسفلها سنان ، واسمها نبعة ، في قول مقاتل.
{أتوكأ عليها} أي : أعتمد عليها إذا مشيت ، وعند الإعياء ، والوقوف على رأس قطيع الغنم ، {وأهشُّ} أي : أخبط {بها} الورق من الشجر ؛ ليسقط {على غنمي} فتأكله. وقرئ بالسين ، وهو زجر الغنم ، تقول العرب : هَس هَس ، في زجرها ، وعداه بعلى ؛ لتضمنه معنى الإقبال والتوجه. {ولِيَ فيها مآرِبُ أُخرى} أي : حاجات أخرى من هذا الباب. قال ابن عباس : كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه ، فجعلت تأتيه وتحرسه ، ويضرب بها الأرض فتخرج ما يأكل يومَه ، ويركز بها فيخرج الماء ، فإذا رفعها ذهب ، وكان يرد بها عن غنمه ونعمه الهوام بإذن الله ، وإذا ظهر له عدو حاربت وناضلت عنه ، وإذا أراد الاستسقاء من البئر أَدْلاَهَا ، فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدول فيستقي بها ، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل
268
فيستضيء بها ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتغصّنت غصن تلك الشجرة ، وأورقت وأثمرت. فهذه المآرب.
(4/388)
جزء : 4 رقم الصفحة : 268
وكأنه عليه السلام فهم أن المقصود من السؤال بيان حقيقتها ، وتفصيل منافعها بطريق الاستقصاء ، فلذلك أطنب في كلامه ، فلما بدت منها خوارق بديعة عَلِمَ أنها آية باهرة ومعجزات قاهرة ، وأيضًا : الإطناب في مناجاة الأحباب محمود.
{قال} له تعالى : {ألْقِهَا يا موسى} لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك ، قيل : إنما أُمِر بإلقائها ؛ قطعًا للسكون إليها ، لِمَا كان فيها من المآربِ ، وبالغ الحق تعالى في ذلك بقلبها حية ، حتى خاف منها ، وحين قطعه عنها ، وأخرجها من قلبه ، بالفرار منها ردها إليه بقوله : {خذها ولا تخف} ؛ {فألقاها} على الأرض {فإِذا هي حيةٌ تَسْعَى} ، رُوي أنه عليه السلام ألقاها فانقلبت حية صفراء ، في غلظ العصا ، ثم انتفخت وعظمت ، فلذلك شبهت بالجان تارة ، وبالثعبان مرة أخرى ، وعبَّر عنها هنا بالاسم العام للحالين ، وقيل : انقلبت من أول الأمر ثعبانًا ، وهو أليق بالمقام ، كما يفصح عنه قوله عزّ وجلّ : {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الأعرَاف : 107] ، وإنما سميت بالجان في الجلادة وسرعة المشي ، لا في صغر الجثة. وقيل : الجان عبارة عن ابتداء حالها ، والثعبان عن انتهائه.
(4/389)
{قال} تعالى : {خُذها} يا موسى ، {ولا تخفْ} ، قال ابن عباس رضي الله عنه : انقلبت ثعبانًا ذَكَرًا ، يبتلع كل شيء من الصخر والشجر ، فلما رآه كذلك خاف ونفر ، ولحقه ما يلحق البشر عند مشاهدة الأهوال من الخوف والفزع ، إذ لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. {سنعيدُها سِيرَتَها الأولى} أي : سنعيدها ، بعد الأخذ ، إلى حالتها الأولى التي كانت عليها عصًا ، قيل : بلغ عليه السلام عند ذلك من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ، ويأخذ بلَحْيَيْهَا. فلما أخذها عادت عصًا ، وحكمة قلبها وأخذها هنا ؛ ليكون معها على ثقة عند مخاصمة فرعون ، وطمأنينةٍ من أمره ، فلا يعتريه شائبة دهش ولا تزلزل. والسيرة : فعلة من السير ، يجوز بها إلى الطريقة والهيئة ، وانتصابها على نزع الخافض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 268
ثم أراه معجزة أخرى ، فقال : {واضممْ يدكَ إِلى جناحك} أي : أدخلها تحت عضدك ، فجناح الإنسان : جنباه ، مستعار من جناح الطير ، {تخرجْ بيضاءَ} : جواب الأمر ، أي : إن أدخلتها تخرج بيضاء شعاعية ، {من غير سُوءٍ} أي : حال كونها كائنة من غير عيب بها ؛ كبرص ونحوه. رُوي أنه عليه السلام كان آدم اللون ، فأخرج يده من مدرعته بيضاء ، لها شعاع كشعاع الشمس ، تضيء حال كونها {آيةً أخرى} أي : معجزة أخرى غير العصا ، {لنُرِيَك من آياتنا الكبرى} أي : فعلنا ما فعلنا ، لنريك بعض أياتنا العظمى ، أو : لنريك الكبرى من آياتنا. قال ابن عباس : " كانت يد موسى أكبر آياته ". والله تعالى أعلم.
269
(4/390)
الإشارة : يقال للفقير : وما تلك بيمينك أيها الفقير ؟ فيقول : هي دنياي أعتمد عليها في معاشي وقيام أموري ، وأُنفق منها على عيالي ، ولي فيها حوائج أخرى ؛ من الزينة والتصدق وفعل الخير ، فيقال له : ألقها من يدك أيها الفقير ، واخرج عنها ، أو أخرجها من قلبك إن تيسر ذلك مع الغيبة عنها ، فألقاها وخرج عنها ، فيلقيها ، فإذا هي حية كانت تلدغه وتسعى في هلاكه وهو لا يشعر. فلما تمكن من اليقين ، وحصل على غاية التمكين ، قيل له : خذها ولا تخف منها ، حيث رفضت الأسباب ، وعرفت مسبب الأسباب ، فاستوى عندك وجودها وعدمها ، ومنعها وإعطاؤها ، سنعيدها سيرتها الأولى ، تأخذ منها مأربك ، وتخدمك ولا تخدمها. يقول الله تعالى : " يا دنياي ، اخدمي من خدمني ، وأتبعي من خدمك ". وأما قوله تعالى : في حديث آخر مرفوعًا : " تمرري على أوليائي ولا تحلو لهم فتفتنهم عني " ، فالمراد بالمرارة : ما يصيبهم من الأهوال والأمراض وتعب الأسفار ، وإيذاء الفجار وغير ذلك. وقد يلحقهم الفقر الظاهر شرفًا لهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " الفقر فخري وبه أفتخر " ، أو كما قال عليه السلام إن صح. وقال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه : الحديث الأول : في الصالحين المتوجهين من أهل الظاهر ، والثاني - يعني تمرري... الخ - في الأولياء العارفين من أهل الباطن. هـ. ويقال له أيضًا - إن تجرد وألقى الدنيا من يده وقلبه - : اضمم يدَ فكرتك إلى قلبك ، تخرج بيضاء نورانية صافية ، لا تخليط فيها ولا نقص ، هي آية أخرى ، بعد آية التجريد والصبر على مشاقه.
وقال في اللباب : اليد : يدَ الفكر ، والجيب : جيب الفهم ، وخروجها بيضاء بالعرفان. هـ. قال الورتجبي : أرى الله موسى من يده أكبر آية ، وذلك أنه ألبس أنوار يد قدرته يد موسى ، فكان يَدُ موسى يدَ قدرة الله ، من حيث التخلق والاتصاف ، كما في حديث : " كنت له سمعًا وبصرًا ولسانًا ويدًا " هـ. وبالله التوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 268
270
(4/391)
قلت : {هارون} : مفعول أول ، و {وزيرًا} : مفعول ثان ، قُدّم ؛ اعتناء بشأن الوزارة ، و {لِي} : صلة ، لا جعل ، أو متعلق بمحذوف ؛ حال من {وزيرًا} ؛ لأنه صفة له في الأصل. و {من أهلي} : إما صفة وزيرًا ، أو صلة لا جعل ، وقيل : إن {لي وزيرًا} : مفعولاً اجعل ، و {هارون} : عطف بيان لوزير. و {أخي} في الوجهين : بدل من هارون ، أو عطف بيان آخر.
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه موسى عليه السلام : {اذهبْ إِلى فرعونَ} بما رأيته من الآيات الكبرى. وادعه إلى عبادتي وحدي ، وحذره من نقمتي ، {إِنه طغى} أي : جاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر ، حتى تجاسر على دعوى الربوبية. {قال} موسى عليه السلام مستعينًا بربه عزّ وجلّ : {ربِّ اشرح لي صدري} أي : وسعه حتى لا يضيق بحمل أعباء الرسالة ، {ويسِّرْ لي أمري} أي : سهِّله حتى لا يصعب عليَّ شيء أقصده. والجملة استئنافية بيانية ، كأن سائلاً قال : فماذا قال عليه السلام ، حين أُمر بهذا الأمر الخطير والخطب العسير ؟ فقيل : قال رب اشرح لي صدري... الخ.
كأنه ، لما أُمر بهذا الخطاب الجليل ، تضرع إلى ربه الجليل ، وأظهر عجزه وضعفه ، وسأل ربه تعالى أن يوسع صدره ، ويَفْسَح قلبه ، ويجعله عليمًا بشؤون الناس وأحوالهم ، حليمًا صفوحًا عنهم ، ليلتقي ما عسى أن يرد عليه من الشدائد والمكاره ، بجميل الصبر وحسن الثبات ، فيلقاها بصدر فسيح ، وجأش رابط ، وأن يسهل عليه مع ذلك أمره ، الذي هو أجلّ الأمور وأعظمها ، وأصعب الخطوب وأهولها بتيسير الأسباب ورفع الموانع. وفي زيادة كلمة {لي} ، مع انتظام الكلام بدونها ، تأكيد لطلب الشرح والتيسير ؛ بإبهام المشروح والميسّر أولاً ، ثم تفسيرهما ثانيًا ، وفي تقديمهما وتكريرهما : إظهار مزيد اعتناء بشأن كل من المطلوبين ، وفضل اهتمام باستدعاء حصولهما.
(4/392)
ثم قال : {واحْلُلْ} أي : امشط وافسح {عقدة من لساني} ، رُوي أنه كان في لسانه رتة من أثر جمرة أدخلها فاه في صغره. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم ، فلطمه ونتف لحيته ، فقال فرعون لآسية امرأته : هذا عدو لي ، فقالت آسية : على رسلك ، إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت ، ثم جاءت بطستين في أحدهما الجمر ، وفي الآخر الياقوت ، فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار ، حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه ، فبقيت له رتة في لسانه ، واختلف في زوال العقدة بكمالها ؛ فمن قال به تمسك بقوله تعالى : {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى} ، ومن لم يقل به احتج بقول : {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القَصَص : 34] ، وقوله تعالى : {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزّخرُف : 52].
جزء : 4 رقم الصفحة : 270
وأجاب عن الأول : بأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية ، بل حلّ عقدة تمنع الإفهام ، فخفف بعضها لدعائه ، لا جميعها ، ولذلك نكّرها ووصفها بقوله : {من لساني}
271
(4/393)
أي : عقدة كائنة من عُقد لساني ، {يفقهوا قولي} أي : إن تحلل عقدة لساني يفقهوا قولي. {واجعل لي وزيرًا} أي : مُعينًا ومُقويًا {مِنْ أهلي هارونَ أخي} ؛ ليعينني على تحمل ما كلفتني به من أعباء التبليغ. {أُشدد به أزري} أي : قِّ به ظهري ، {وأَشركه في أمري} ؛ واجعله شريكاً لي في أمر الرسالة ، حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي ، {كي نُسبحك كثيرًا} ، هو غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة ، من قوله : {واجعل لي وزيرًا...} الخ ، ولا شك أن الاجتماع على العبادة والذكر سبب في دوامهما وتكثيرهما. وفي الحديث : " يد الله مع الجماعة " ، ولذلك ورد الترغيب في الاجتماع على الذكر : والجمع في الصلاة ؛ ليقوى الضعيف بالقوي ، والكسلان بالنشيط ، وقيل : المراد بكثرة التسبيح والذكر ما يكون منها في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة ، لأنه هو الذي يختلف في حالتي التعدد والانفراد ، فإن كُلاًّ منهما يصدر منه ، بتأييد الآخر ، من إظهار الحق ، ما لا يصدر منه حال الانفراد. والأول أظهر.
و {كثيرًا} : وصف لمصدر أو زمن محذوف ، أي : ننزهك عما لا يليق بجلالك وجمالك ، تنزيهًا كثيرًا ، أو زمنًا كثيرًا ، ومن جملة ذلك : ما يدعيه فرعونُ الطاغية ، وتقبله منه الفئة الباغية من ادعاء الشرك في الألوهية. {ونذكُرَك} ؛ بأن نصِفك بما يليق بك من صفات الكمال ، ذكرًا {كثيرًا إِنكَ كنت بنا بَصِيرًا} أي : عالمًا بأحوالنا ، وبأن ما دعوناك به مما يصلحنا ويقوينا على ما كلفتنا من أداء الرسالة ، و {بنا} : متعلق ببصيرًا. والله تعالى أعلم.
(4/394)
الإشارة : فإذا انخلعت أيها الفقير عن الكونين ، وألقيت عصاك بوادي البيْن ، فاذهب إلى فرعون نفسك ووجود حسك ، إنه طغى عليك ، حيث حجبك عن شعود ربك ، فلا حجاب بينك وبين ربك ، إلا حِجاب نفسك ، ووقوفك مع شهود حسك ، فهو أكبر الفراعين في حقك ، فاهدم وجوده ، وأَغْرِقْ في بحر الحقيقة شهودَه ، وذلك بالغيبة عنه في شهود مولاه ، فإذا تعسر الأمر عليك فاستعن بمولاك ، وقل : اللهم اشرح لي صدري ، ووسعه لمعرفتك ، ويسر لي أمري في السير إلى حضرة قدسك ، واحلل عقدة الكون من قلبي ولساني ، حتى لا أعقد إلا على محبتك ، ولا أتكلم إلا بذكرك وشكرك ، كما قال الشاعر :
فإن تكلمتُ لم أنطق بغيركم
وإن صَمَتُّ فأنتم عَقْدُ إضماري
جزء : 4 رقم الصفحة : 270
واجعل لي وزيرًا من أهلي ، وهو شيخي ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، حتى يتوجه بكلية همته إلى سري ، كي ننزهك تنزيهًا كثيرًا ، بحيث لا نرى معك غيرك ،
272
(4/395)
ونذكرك كثيرًا ، بحيث لا نفتر عن ذكرك بالقلب أو الروح أو السر ، إنك كنت بنا بصيرًا. قال الورتجبي : قوله تعالى : {اذهب إلى فرعون...} الخ ، لما علم موسى مراد الحق منه بمكابدة الأعداء ، والرجوع من المشاهدة إلى المجاهدة ، سأل من الحق شرح الصدر ، وإطلاق اللسان ، وتيسير الأمر ، ليطيق احتمال صحبة الأضداد ومكابدتهم. ثم قال : فطلب قوةَ الإلهية وتمكينًا قادريًا بقوله : {ربِّ اشرح لي صدري} ، عرف مكان مباشرة العبودية أنها حق الله ، وحق الله في العبودية مقام امتحان ، وفي الامتحان حجاب عن مشاهدة الأصل ، فخاف من ذلك ، وسأل شرح الصدر ، أي : إذا كنتُ في غين الشريعة عن مشاهدة غيب الحقيقة ، اشرح صدري بنور وقائع المكاشفة ، حتى لا أكون محجوبًا بها عنك. ألا ترى إلى سيد الأنبياء والأولياء صلوات الله عليه ، كيف أخبر عن ذلك الغين ، وشكى من صحبة الأضداد في أداء الرسالة ، بقوله : " إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة ". هـ. وفيه مقال ، إذ هو غين أنوار لا غين أغيار ، فتأمله. والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 270
قلت : {مرة} : منصوب على الظرفية الزمانية ، وأصله : فعلة ، من المرور ، اسم للمرور الواحد ، ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد أمثاله ، ويقرب منها الكرة والرجعة. و {إِذْ} : ظرف لمننّا ، و {أنِ اقذفيه} : مفسرة ، أو مصدرية ، و {يأخذه} : جواب " أن اقذفيه ". و {لتُصنع} : متعلق بألقيتُ ، عطف على علة مضمرة ، أي : ليتعطف عليك ولتربى على حفظي ورعايتي. و {إذ تمشي} : ظرف {لتصنع} على أن المراد وقت مشيها إلى بيت فرعون ، وما يترتب عليه من القول والرجع إلى أمه.
(4/396)