إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) قَالَ: عَذَّبُوا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) قال: حرّقوهم بالنار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) يقول: حرّقوهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن ابن أبزى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) حرّقوهم.
وقوله: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) يقول: ثم لم يتوبوا من كفرهم وفعلهم الذي فعلوا بالمؤمنين والمؤمنات من أجل إيمانهم بالله (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) في الآخرة (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) في الدنيا.
كما حُدثت عن عمار، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) في الآخرة (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) } .
يقول تعالى ذكره: إن الذين أقرّوا بتوحيد الله، وهم هؤلاء القوم الذين حرّقهم أصحاب الأخدود وغيرهم من سائر أهل التوحيد (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: وعملوا بطاعة الله، وأْتَمروا لأمره، وانتهَوْا عما نهاهم عنه (لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول: لهم في الآخرة عند الله بساتين تجري من تحتها الأنهار والخمر واللبن والعسل (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) يقول: هذا الذي هو لهؤلاء المؤمنين في الآخرة، هو الظفر الكبير بما طلبوا والتمسوا بإيمانهم بالله في الدنيا، وعملهم بما أمرهم الله به فيها ورضيه منهم.
وقوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن بطش ربك يا محمد لمن بطش به من خلقه، وهو انتقامه ممن انتقم منه(24/344)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
لشديد، وهو تحذير من الله لقوم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن يُحلّ بهم من عذابه ونقمته، نظير الذي حلّ بأصحاب الأخدود على كفرهم به، وتكذيبهم رسوله، وفتنتهم المؤمنين والمؤمنات منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) فقال بعضهم: معنى ذلك: إن الله أبدى خلقه، فهو يبتدئ، بمعنى: يحدث خلقه ابتداء، ثم يميتهم، ثم يعيدهم أحياء بعد مماتهم، كهيئتهم قبل مماتهم.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) يعني: الخلق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) قال: يُبْدِئُ الخلق حين خلقه، ويعيده يوم القيامة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه هو يُبْدِئُ العذاب ويعيده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) قال: يُبْدِئُ العذاب ويعيده.
وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، وأشبههما بظاهر ما دلّ عليه التنزيل القولُ الذي ذكرناه عن ابن عباس، وهو أنه يُبْدِئُ العذاب لأهل الكفر به ويعيد، كما قال جلّ ثناؤه: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) في الدنيا، فأبدأ ذلك لهم في الدنيا، وهو يعيده لهم في الآخرة.
وإنما قلت: هذا أولى التأويلين بالصواب؛ لأن الله أتبع ذلك قوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) فكان للبيان عن معنى شدّة بطشه الذي قد ذكره قبله، أشبه به بالبيان(24/345)
عما لم يَجْرِ له ذكر، ومما يؤيد ما قلنا من ذلك وضوحًا وصحة قوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) فبيَّن ذلك عن أن الذي قبله من ذكر خبره عن عذابه وشدّة عقابه.
وقوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) يقول تعالى ذكره: وهو ذو المغفرة لمن تاب إليه من ذنوبه، وذو المحبة له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (الْغَفُورُ الْوَدُودُ) يقول: الحبيب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (الْغَفُورُ الْوَدُودُ) قال: الرحيم.
وقوله: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) يقول تعالى ذكره: ذو العرش الكريم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) يقول: الكريم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (الْمَجِيدُ) فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والبصرة وبعض الكوفيين رفعًا، ردًّا على قوله: (ذُو الْعَرْشِ) على أنه من صفة الله تعالى ذكره. وقرأ ذلك عامه قرّاء الكوفة خفضًا، على أنه من صفة العرش.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) يقول: هو غفار لذنوب من شاء من عباده إذا تاب وأناب منها، معاقب من أصرّ عليها وأقام، لا يمنعه مانع، مِنْ فِعْل أراد أن يفعله، ولا يحول بينه وبين ذلك حائل، لأن له مُلك السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم.
وقوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هل جاءك يا محمد حديث الجنود الذين تجندوا على الله ورسوله بأذاهم ومكروههم؛ يقول: قد أتاك ذلك وعلمته، فاصبر لأذى قومك إياك لما نالوك به من(24/346)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
مكروه كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي، ولا يثنيك عن تبليغهم رسالتي، كما لم يُثْن الذين أرسلوا إلى هؤلاء، فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم إلى عطب وهلاك، كالذي كان من هؤلاء الجنود، ثم بين جلّ ثناؤه عن الجنود من هم، فقال: (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) يقول: (فرعون) ، فاجتزى بذكره، إذ كان رئيس جنده من ذكر جنده وأتباعه. وإنما معنى الكلام: هل أتاك حديث الجنود، فرعون وقومه وثمود، وخفض فرعون ردًّا على الجنود، على الترجمة عنهم، وإنما فتح لأنه لا يجرى وثمود.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) } .
يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء القوم الذين يكذّبون بوعيد الله أنهم لم يأتهم أنباء من قبلهم من الأمم المكذّبة رسل الله كفرعون وقومه، وثمود وأشكالهم، وما أحلّ الله بهم من النقم بتكذيبهم الرسل، ولكنهم في تكذيبهم بوحي الله وتنزيله، إيثارًا منهم لأهوائهم، واتِّباعًا منهم لسنن آبائهم (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) بأعمالهم مُحْصٍ لها، لا يخفى عليه منها شيءٌ، وهو مجازيهم على جميعها.
وقوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) يقول - تكذيبا منه جلّ ثناؤه للقائلين للقرآن هو شعر وسجع -: ما ذلك كذلك، بل هو قرآن كريم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) يقول: قرآن كريم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) قال: كريم.
وقوله: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) يقول تعالى ذكره: هو قرآن كريم مُثْبَت في لوح محفوظ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (مَحْفُوظٍ) فقرأ ذلك مَن قرأه مِن أهل الحجاز أبو جعفر القارئ وابن كثير، ومن قرأه من قرّاء الكوفة عاصم والأعمش وحمزة(24/347)
والكسائي، ومن البصريين أبو عمرو (محفوظٍ) خفضًا على معنى أن اللوح هو المنعوت بالحفظ. وإذا كان ذلك كذلك كان التأويل: في لوح محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه عما أثبته الله فيه. وقرأ ذلك من المكِّيين ابن مُحَيْصِن، ومن المدنيين نافع (مَحْفُوظٌ) رفعًا، ردًّا على القرآن، على أنه من نعته وصفته. وكان معنى ذلك على قراءتهما: (بل هو قرآن مجيد) محفوظ من التغيير والتبديل في لوح.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار، صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ، فتأويل القراءة التي يقرؤها على ما بيَّنا.
وقد حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان عن منصور، عن مجاهد (فِي لَوْحٍ) قال: في أمّ الكتاب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) عند الله.
وقال آخرون: إنما قيل محفوظ لأنه في جبهة إسرافيل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: سمعت قرة بن سليمان، قال: ثنا حرب بن سريج، قال: ثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، في قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) قال: إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله، (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) في جَبْهَة إسرافيل.
آخر تفسير سورة البروج(24/348)
تفسير سورة والسماء والطارق(24/349)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ (10) } .
أقسم ربنا بالسماء وبالطارق الذي يطرق ليلا من النجوم المضيئة، ويخفى نهارًا، وكل ما جاء ليلا فقد طرق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) قال: السماء وما يطرق فيها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ) قال: طارق يطرق بليل، ويخفى بالنهار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَالطَّارِقِ) قال: ظهور النجوم، يقول: يطرقك ليلا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (الطَّارِقِ) النجم.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:(24/351)
وما أشعرك يا محمد ما الطارق الذي أقسمتُ به، ثم بين ذلك جلّ ثناؤه، فقال: هو النجم الثاقب، يعني: يتوقد ضياؤه ويتوهَّج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) يعني: المضيء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) قال: هي الكواكب المضيئة، وثقوبه: إذا أضاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، في قوله: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) قال: الذي يثقب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (الثَّاقِبُ) قال: الذي يتوهَّج.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ثقوبه: ضوءه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) : المضيء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) قال: كانت العرب تسمِّي الثُّريا النجم، ويقال: إن الثاقبَ النجمُ الذي يقال له زُحَلْ. والثاقب أيضًا: الذي قد ارتفع على النجوم، والعرب تقول للطائر - إذا هو لحق ببطن السماء ارتفاعًا -: قد ثَقَبَ، والعرب تقول: أثقِب نارك: أي أضئها.
وقوله: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه من قرّاء المدينة أبو جعفر، ومن قرّاء الكوفة حمزة (لَمَّا عَلَيْهَا) بتشديد الميم. وذُكِر عن الحسن أنه قرأ ذلك كذلك.
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا أبو عبيد، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن الحسن أنه كان يقرؤها (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) مشدّدة، ويقول: إلا ليها حافظ، وهكذا كلّ شيءٍ في القرآن بالتثقيل. وقرأ ذلك من أهل المدينة نافع، ومن أهل(24/352)
البصرة أبو عمرو: (لَمَا) بالتخفيف، بمعنى: إن كلّ نفس لعليها حافظ، وعلى أن اللام جواب" إن" و" ما" التي بعدها صلة. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن فيه تشديد.
والقراءة التي لا أختار غيرَها في ذلك التخفيف، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، وقد أنكر التشديد جماعةٌ من أهل المعرفة بكلام العرب؛ أن يكون معروفًا من كلام العرب، غير أن الفرّاء كان يقول: لا نعرف جهة التثقيل في ذلك، ونرى أنها لغةٌ في هذيلٍ، يجعلون " إلا " مع " إن المخففة ": لَمَّا، ولا يجاوزون ذلك، كأنه قال: ما كلّ نفس إلا عليها حافظ، فإن كان صحيحًا ما ذكر الفرّاء من أنها لغة هُذَيلٍ، فالقراءة بها جائزةٌ صحيحةٌ، وإن كان الاختيار أيضًا - إذا صحّ ذلك عندنا - القراءة الأخرى وهي التخفيف؛ لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، ولا ينبغي أن يُترك الأعرف إلى الأنكر.
وقد حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا أبو عبيد، قال: ثنا معاذ، عن ابن عون، قال: قرأت عند ابن سيرين: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) فأنكره، وقال: سبحان الله، سبحان الله.
فتأويل الكلام إذن: إن كلّ نفس لعليها حافظ من ربها، يحفظ عملها، ويُحصي عليها ما تكسب من خير أو شرّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ) قال: كلّ نفس عليها حفظة من الملائكة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ) : حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك، إذا توفيته يا ابن آدم قُبِضت إلى ربك.
وقوله: (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ)
يقول تعالى ذكره: فلينظر الإنسان المكذّب بالبعث بعد الممات، المُنكر قُدرة الله على إحيائه بعد مماته، (مِمَّ خُلِقَ) يقول: من أيّ شيءٍ خلقه ربه، ثم أخبر جلّ ثناؤه عما خلقه منه، فقال: (خُلِقَ(24/353)
مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) يعني: من ماء مدفوق، وهو مما أخرجته العرب بلفظ فاعل، وهو بمعنى المفعول، ويقال: إن أكثر من يستعمل ذلك من أحياء العرب سكان الحجاز إذا كان في مذهب النعت، كقولهم: هذا سرٌّ كاتم وهمٌّ ناصب، ونحو ذلك.
وقوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) يقول: يخرج من بين ذلك، ومعنى الكلام: منهما، كما يقال: سيخرج من بين هذين الشيئين خير كثير، بمعنى: يخرج منهما.
واختلف أهل التأويل في معنى الترائب وموضعها، فقال بعضهم: الترائب: موضع القلادة من صدر المرأة.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاويّ، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن سَلَمَة بن سابور، عن عطية العَوْفِيّ، عن ابن عباس (الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال: الترائب: موضع القِلادة.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) يقول: من بين ثدي المرأة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سُئل عكرِمة عن الترائب، فقال: هذه، ووضع يده على صدره بين ثدييه.
حدثني ابن المثنى، قال: ثني سلم بن قتيبة، قال: ثني عبد الله بن النُّعمان الحُدَانيّ، أنه سمع عكرِمة يقول: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال: صُلْب الرجل، وترائب المرأة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، قال: الترائب الصدر.
قال: ثنا ابن يمان، عن مِسْعَر، عن الحكم، عن أبي عياض، قال: (التَّرَائِبِ) : الصدر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال: الترائب: الصدر. وهذا الصلب وأشار إلى ظهره.(24/354)
وقال آخرون: الترائب: ما بين المنكبين والصدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن إسرائيل، عن ثُوَير، عن مجاهد، قال: (الترائِبِ) ما بين المنكبين والصدر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (التَّرَائِبِ) قال: أسفل من التراقي.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: الصُّلْب للرجل، والترائب للمرأة، والترائب فوق الثديين.
وقال آخرون: هو اليدان والرجلان والعينان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال: فالترائب أطراف الرجل واليدان والرجلان والعينان، فتلك الترائب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي رَوْق، عن الضحاك (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال: الترائب: اليدان والرجلان.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: قال غيره: الترائب: ماء المرأة وصلب الرجل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) : عيناه ويداه ورجلاه.
وقال آخرون: معنى ذلك، أنه يخرج من بين صلب الرجل ونحره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) يقول: يخرج من بين صلب الرجل ونحره.
وقال آخرون: هي الأضلاع التي أسفل الصلب.(24/355)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال: الترائب: الأضلاع التي أسفل الصلب.
وقال آخرون: هي عصارة القلب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، أن معمر بن أبي حَبِيبة المَدِيني حدّثه، أنه بلغه في قول الله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) قال: هو عُصَارة القلب، ومنه يكون الولد.
والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال: هو موضع القِلادة من المرأة، حيث تقع عليه من صدرها؛ لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، وبه جاءت أشعارهم، قال المثقَّب العبدي:
وَمِنْ ذَهَبٍ يُسَنُّ عَلَى تَرِيبٍ ... كَلَوْنِ العَاجِ لَيْسَ بِذِي غُضُونِ (1)
وقال آخر:
وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا شَرِقا ... بِهِ اللَّبَّاُت والنَّحْرُ (2)
وقوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي خلقكم أيها الناس من هذا الماء الدافق، فجعلكم بشرًا سويًا، بعد أن كنتم ماء مدفوقًا، على رجعه لقادر.
واختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله: (عَلَى رَجْعِهِ) على ما هي عائدةٌ، فقال بعضهم: هي عائدة على الماء. وقالوا: معنى الكلام: إن الله على ردّ النطفة في الموضع التي خرجت منه (لَقَادِرٌ) .
__________
(1) الأثر 170 - مضى الكلام على هذا الإسناد: 144. وأما لفظه فلم يذكره أحد منهم.
(2) الخبر 171 - إسناده ضعيف، بيناه في: 137. وهذا الخبر والذي بعده 172 جمعهما السيوطي 1: 14، ونسبهما أيضًا لابن أبي حاتم.(24/356)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن عكرِمة، في قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: إنه على رَدّه في صُلْبه لقادر.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن عكرمة في قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: لِلصُّلب.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: على أن يرد الماء في الإحليل.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ الوشاء، قال: ثنا أبو قَطَن عمرو بن الهيثم، عن ورقاء، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن عبد الله بن أبي بكر، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: على ردّ النطفة في الإحليل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: في الإحليل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: ردّه في الإحليل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه على ردّ الإنسان ماءً كما كان قبل أن يخلقه منه.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) إن شئتُ رددتُه كما خلقته من ماءٍ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه على حبس ذلك الماء لقادرٌ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) قال: على رجع ذلك الماء لقادرٌ، حتى لا يخرج، كما قدر على أن يخلق منه ما خلق قادر على أن يرجعه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه قادر على رجع الإنسان من حال الكبر إلى حال الصغر.(24/357)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن مقاتل بن حيان، عن الضحاك قال: سمعته يقول في قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) يقول: إن شئتُ رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصِّبا، ومن الصبا إلى النطفة. وعلى هذا التأويل تكون الهاء في قوله: (عَلَى رَجْعِهِ) من ذكر الإنسان.
وقال آخرون، ممن زعم أن الهاء للإنسان: معنى ذلك أنه على إحيائه بعد مماته لقادر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) إن الله تعالى ذكره على بعثه وإعادته قادر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: إن الله على ردّ الإنسان المخلوق من ماء دافق من بعد مماته حيًّا، كهيئته قبل مماته لقادر.
وإنما قلت: هذا أولى الأقوال في ذلك بالصواب؛ لقوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) فكان في إتباعه قوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) نبأ من أنباء القيامة، دلالة على أن السابق قبلها أيضًا منه، ومنه (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) يقول تعالى ذكره: إنه على إحيائه بعد مماته لقادر يوم تُبلى السرائر، فاليوم من صفة الرجع، لأن المعنى: إنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر.
وَعُنِي بقوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)
يوم تُخْتَبَرُ سرائر العباد، فيظهر منها يومئذ ما كان في الدنيا مستخفيًا عن أعين العباد من الفرائض التي كان الله ألزمه إياها، وكلَّفه العمل بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن عبد الله بن صالح، عن يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، في قوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) قال: ذلك الصوم والصلاة وغسل الجنابة، وهو السرائر، ولو شاء أن يقول: قد صُمْتُ، وليس بصائم، وقد صلَّيتُ، ولم يصلّ، وقد اغتسلت، ولم يغتسل.(24/358)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) إن هذه السرائر مختبرة، فأسِرّوا خيرًا وأعلنوه إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) قال: تُخْتَبَر.
وقوله: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) يقول تعالى ذكره: فما للإنسان الكافر يومئذ من قوّة يمتنع بها من عذاب الله، وأليم نكاله، ولا ناصر ينصره فيستنقذه ممن ناله بمكروه، وقد كان في الدنيا يرجع إلى قوّةٍ من عشيرته، يمتنع بهم ممن أراده بسوءٍ، وناصرٍ من حليفٍ ينصره على من ظلمه واضطهده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) ينصره من الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَلا نَاصِرٍ) قال: من قوّة يمتنع بها، ولا ناصر ينصره من الله.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا ضَمْرة بن ربيعة، عن سفيان الثوري، في قوله: (مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) قال: القوّة: العشيرة، والناصر: الحليف.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) } .
يقول تعالى ذكره: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) ترْجع بالغيوم وأرزاق العباد كلّ عام؛ ومنه قول المتنخِّل في صفة سيف:
أبْيَضُ كالرَّجْعِ رَسُوبٌ إذَا ... مَا ثَاخَ فِي مُحْتَفَلٍ يَخْتَلِي (1)
__________
(1) ديوان الستة الجاهليين: 31. يصف ناقته. تباري: تجاريها وتسابقها. والعتاق جمع عتيق: وهو الكريم المعرق في كرم الأصل. وناجيات: مسرعات في السير، من النجاء، وهو سرعة السير. والوظيف: من رسغي البعير إلى ركبتيه في يديه، وأما في رجليه فمن رسغيه إلى عرقوبيه. وعنى بالوظيف هنا: الخف.(24/359)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرِمة، عن ابن عباس: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: السحاب فيه المطر.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن خَصِيف، عن عكرِمة، عن ابن عباس في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: ذات السحاب فيه المطر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) يعني بالرجع: القطر والرزق كلّ عام.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: ترجع بأرزاق الناس كلّ عام؛ قال أبو رجاء: سُئل عنها عكرِمة، فقال: رجعت بالمطر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: السحاب يمطر، ثم يَرجع بالمطر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: ترجع بأرزاق العباد كلّ عام، لولا ذلك هلَكوا، وهلَكت مواشيهم.(24/360)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: ترجع بالغيث كلّ عام.
حُدثت عن الحسين: قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) يعني: المطر.
وقال آخرون: يعني بذلك: أن شمسها وقمرها يغيب ويطلُع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال: شمسها وقمرها ونجومها يأتين من هاهنا.
وقوله: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) يقول تعالى ذكره: والأرض ذات الصدع بالنبات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خَصِيف، عن عكرِمة، عن ابن عباس (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) قال: ذات النبات.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) يقول: صدعها إخراج النبات في كلّ عام.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَة، عن أبي رجاء، عن الحسن (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) قال: هذه تصدع عما تحتها؛ قال أبو رجاء: وسُئل عنها عكرِمة، فقال: هذه تصدع عن الرزق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، عن ابن أبي نجيح، قال مجاهد: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) مثل المأزم مأزم منى.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) قال: الصدع: مثل المأزم، غير الأودية وغير الجُرُف.(24/361)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) تصدع عن الثمار وعن النبات كما رأيتم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) قال: تصدع عن النبات.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) وقرأ: (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا) إلى آخر الآية، قال: صدعها للحرث.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) :النبات.
وقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) يقول تعالى ذكره: إن هذا القول وهذا الخبر لقول فصل: يقول: لقول يفصل بين الحقّ والباطل ببيانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عنه، فقال بعضهم: لقول حقّ. وقال بعضهم: لقول حكم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) يقول: حقّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) :أي حُكْم.
وقوله: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) يقول: وما هو باللعب ولا الباطل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) يقول: بالباطل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) قال: باللعب.(24/362)
وقوله: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا) يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المكذّبين بالله ورسوله والوعد والوعيد يمكرون مكرًا.
وقوله: (وَأَكِيدُ كَيْدًا) يقول: وأمكر مكرًا؛ ومكره جلّ ثناؤه بهم: إملاؤه إياهم على معصيتهم وكفرهم به.
وقوله: (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فمهِّل يا محمد الكافرين ولا تعجل عليهم (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) يقول: أمهلهم آنًا قليلا وأنظرهم للموعد الذي هو وقت حلول النقمة بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) يقول: قريبًا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) الرويد: القليل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) قال: مَهِّلْهم، فلا تعجل عليهم تَرْكَهُمْ، حتى لمَّا أراد الانتصار منهم أمره بجهادهم وقتالهم، والغلظة عليهم.
آخر تفسير سورة والسماء والطارق.(24/363)
تفسير سورة سبح اسم ربك الأعلى(24/365)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) فقال بعضهم: معناه: عظم ربك الأعلى، لا ربّ أعلى منه وأعظم، وكان بعضهم إذا قرأ ذلك قال: سبحان ربي الأعلى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عمر أنه كان يقرأ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) سبحان ربي الأعلى (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) قال: وهي في قراءة أُبيّ بن كعب كذلك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: سفيان، عن السدي، عن عبد خير، قال: سمعت عليًا رضي الله عنه قرأ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) فقال: سبحان ربي الأعلى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمداني، أن ابن عباس، كان إذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) يقول: سبحان ربي الأعلى، وإذا قرأ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فأتى على آخرها (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) ؟ يقول: سبحانك اللهمّ وبَلَى.(24/367)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحان ربي الأعلَى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن خارجة، عن داود، عن زياد بن عبد الله، قال: سمعت ابن عباس يقرأ في صلاة المغرب: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) سبحان ربي الأعلَى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: نزه يا محمد اسم ربك الأعلى، أن تسمي به شيئًا سواه، ينهاه بذلك أن يفعل ما فعل من ذلك المشركون من تسميتهم آلهتهم بعضها اللات وبعضها العزّى.
وقال غيرهم: بل معنى ذلك: نزه الله عما يقول فيه المشركون كما قال: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقالوا: معنى ذلك: سبح ربك الأعلى؛ قالوا: وليس الاسم معنيًا.
وقال آخرون: نزه تسميتك يا محمد ربك الأعلى وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت له خاشع متذلل؛ قالوا: وإنما عُنِي بالاسم: التسمية، ولكن وُضع الاسم مكان المصدر.
وقال آخرون: معنى قوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) : صلّ بذكر ربك يا محمد، يعني بذلك: صلّ وأنت له ذاكر، ومنه وجل خائف.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معناه: نزه اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان، لما ذكرت من الأخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى، فَبَيَّن بذلك أن معناه كان عندهم معلوما: عظم اسم ربك ونزهه.
وقوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) يقول: الذي خلق الأشياء فسوىّ خلقها، وعدّلها، والتسوية التعديل.
وقوله: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) يقول تعالى ذكره: والذي قدّر خلقه فهدى.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عُنِي بقوله: (فَهَدَى) ، فقال بعضهم: هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ، والبهائم للمراتع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث،(24/368)
قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (قَدَّرَ فَهَدَى) قال: هدى الإنسان للشِّقوة والسعادة، وهَدى الأنعام لمراتعها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك، هدى الذكور لمأتى الإناث. وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله عمّ بقوله: (فَهَدَى) الخبر عن هدايته خلقه، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى، وقد هداهم لسبيل الخير والشرّ، وهدى الذكور لمأتى الإناث، فالخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به الحجة، دالّ على خصوصه. واجتمعت قرّاء الأمصار على تشديد الدال من قدّر، غير الكسائي فإنه خفَّفها.
والصواب في ذلك التشديد، لإجماع الحجة عليه.
وقوله: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى) يقول: والذي أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات وأنواع الحشيش.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن مكرم، قال ثنا الحفري، قال ثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين (أَخْرَجَ الْمَرْعَى) قال النبات.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ... ) الآية، نبت كما رأيتم بين أصفر وأحمر وأبيض.
وقوله: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) يقول تعالى ذكره: فجعل ذلك المرعى غُثاء، وهو ما جفّ من النبات ويبس، فطارت به الريح؛ وإنما عُني به هاهنا أنه جعله هشيمًا يابسًا متغيرًا إلى الحُوَّة، وهي السواد من بعد البياض أو الخضْرة، من شدّة اليبس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (غُثَاءً أَحْوَى) يقول: هشيمًا متغيرًا
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،(24/369)
قوله: (غُثَاءً أَحْوَى) قال: غثاء السيل أحوى، قال: أسود.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (غُثَاءً أَحْوَى) قال: يعود يبسًا بعد خُضرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) قال: كان بقلا ونباتًا أخضر، ثم هاج فيبُس، فصار غُثاء أحوى تذهب به الرياح والسيول. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخَّر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى: أي أخضر إلى السواد، فجعله غثاء بعد ذلك، ويعتلّ لقوله ذلك بقول ذي الرُّمة:
حَوَّاءُ قَرْحاءُ أشْراطِيَّةٌ وَكَفَتْ ... فِيهَا الذِّهَابُ وَحَفَّتْهَا الْبَرَاعِيمُ (1)
وهذا القول وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدّت خضرته من النبات، قد تسميه العرب أسود، غير صواب عندي بخلافه تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه، أو تأخيره، فأما وله في موضعه وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير.
وقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ) يقول تعالى ذكره: سنقرئك
__________
(1) في المخطوطة: "الموطن"، وهو قريب المعنى.(24/370)
يا محمد هذا القرآن فلا تنساه، إلا ما شاء الله.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ) فقال بعضهم: هذا إخبار من الله نبيه عليه الصلاة والسلام أنه يعلمه هذا القرآن ويحفظه عليه، ونهي منه أن يعجل بقراءته كما قال جلّ ثناؤه: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن؛ قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) قال: كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى، فقال قائلو هذه المقالة: معنى الاستثناء في هذا الموضع على النسيان، ومعنى الكلام: فلا تنسى، إلا ما شاء الله أن تنساه، ولا تذكُرَه، قالوا: ذلك هو ما نسخه الله من القرآن، فرفع حكمه وتلاوته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) كان صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئًا (إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ) .
وقال آخرون: معنى النسيان في هذا الموضع: الترك؛ وقالوا: معنى الكلام: سنقرئك يا محمد فلا تترك العمل بشيء منه، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به، مما ننسخه.
وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك: لم يشأ الله أن تنسى شيئًا، وهو كقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ولا يشاء. قال: وأنت قائل في الكلام: لأعطينك كلّ ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء أن أمنعك، والنية أن لا تمنعه، ولا تشاء شيئًا. قال: وعلى هذا مجاري الأيمان، يستثنى فيها، ونية الحالف: اللمام.
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي قول من قال: معنى ذلك: فلا تنسى إلا أن نشاء نحن أن نُنسيكه بنسخه ورفعه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن ذلك أظهر معانيه.
وقوله: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) يقول تعالى ذكره: إن الله يعلم الجهر(24/371)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
يا محمد من عملك ما أظهرته وأعلنته (وَمَا يَخْفَى) يقول: وما يخفى منه فلم تظهره مما كتمته، يقول: هو يعلم جميع أعمالك سرّها وعلانيتها؛ يقول: فاحذره أن يطلع عليك وأنت عامل في حال من أحوالك بغير الذي أذن لك به.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (13) } .
يقول تعالى ذكره: ونسهلك يا محمد لعمل الخير وهو اليُسرَى، واليُسرَى: هو الفُعلى من اليسر.
وقوله: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) يقول تعالى ذكره: فذكِّر عباد الله يا محمد عظمته، وعِظْهم، وحذّرهم عقوبته (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) يقول: إن نفعت الذكرى الذين قد آيستُك من إيمانهم، فلا تنفعهم الذكرى. وقوله: (فَذَكِّرْ) أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بتذكير جميع الناس، ثم قال: إن نفعت الذكرى هؤلاء الذين قد آيستك من إيمانهم.
وقوله: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) يقول جلّ ثناؤه: سَيَذَّكَّرُ يا محمد إذا ذكرت الذين أمرتك بتذكيرهم من يخشى الله، ويخاف عقابه (وَيَتَجَنَّبُهَا) يقول: ويتجنَّب الذكرى (الأشْقَى) يعني: أشقى الفريقين (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى) وهم الذين لم تنفعهم الذكرى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) فاتقوا الله، ما خشي الله عبد قطّ إلا ذكره (وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى) فلا والله لا يتنكَّب عبد هذا الذكر زهدًا فيه وبُغضًا لأهله، إلا شَقِيٌّ بَيِّن الشقاء.
وقوله: (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى) يقول: الذي يَرِد نار جهنم، وهي النار(24/372)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
الكبرى، ويعني بالكبرى لشدّة الحرّ والألم.
وقوله: (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا) يقول: ثم لا يموت في النار الكبرى ولا يحيا، وذلك أن نفس أحدهم تصير فيها في حلقه، فلا تخرج فتفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا. وقيل: لا يموت فيها فيستريح، ولا يحيا حياة تنفعه.
وقال آخرون: قيل ذلك؛ لأن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوع في شدة شديدة، قالوا: لا هو حيّ، ولا هو ميت، فخاطبهم الله بالذي جرى به ذلك من كلامهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) } .(24/373)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) } .
يقول تعالى ذكره: قد نجح وأدرك طلبته من تطهَّر من الكفر ومعاصي الله، وعمل بما أمره الله به، فأدّى فرائضه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) يقول: مَنْ تَزَكَّى من الشرك.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: ثنا هشام، عن الحسن، في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال: من كان عمله زاكيًا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال: يعمل وَرِعًا.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص بن عُمر العَدَنيّ، عن الحكم، عن عكرِمة، في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) من قال: لا إله إلا الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قد أفلح من أدّى زكاة ماله.(24/373)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عليّ بن الأقمر، عن أبي الأحوص (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال: من استطاع أن يرضَخَ فليفعل، ثم ليقم فليصلّ.
حدثنا محمد بن عمارة الرازي، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن علي بن الأقمر، عن أبي الأحوص (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال: من رَضَخَ (1) .
حدثنا محمد بن عمارة، قال: ثنا عثمان بن سعيد بن مرَّة، قال: ثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة، فليقدّم بين يدي صلاته زكاته، فإن الله يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) فمن استطاع أن يقدّم بين يدي صلاته زكاةً فليفعل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) تزكى رجل من ماله، وأرضى خالقه.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك زكاة الفطر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن أبي خلدة، قال: دخلت على أبي العالية، فقال لي: إذا غَدَوت غدًا إلى العيد فمرّ بي، قال: فمررت به، فقال: هل طَعِمت شيئا؟ قلت: نعم، قال: أَفَضْت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم، قال: فأخبرني ما فعلت بزكاتك؟ قلت: قد وجَّهتها، قال: إنما أردتك لهذا، ثم قرأ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) وقال: إن أهل المدينة لا يَرَونَ صدقة أفضل منها ومن سِقَاية الماء.
وقوله: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) فقال بعضهم: معنى ذلك: وحَّد الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) يقول: وحَّد الله سبحانه وتعالى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وذكر الله ودعاه ورغب إليه.
__________
(1) الخبر 172 - هو بالإسناد الضعيف قبله. وأشرنا إليه هناك.(24/374)
والصواب من القول في ذلك أن يقال: وذكر الله فوحَّده، ودعاه ورغب إليه؛ لأن كلّ ذلك من ذكر الله، ولم يُخصص الله تعالى من ذكره نوعًا دون نوع.
وقوله: (فَصَلَّى) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: عُنِي به: فصلى الصلوات الخمس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَصَلَّى) يقول: صلَّى الصلوات الخمس.
وقال آخرون: عُنِيَ به: صلاة العيد يوم الفطر.
وقال آخرون: بل عُنِيَ به: وذكر اسم ربه فدعا، وقالوا: الصلاة هاهنا: الدعاء.
والصواب من القول أن يقال: عُنِيَ بقوله: (فَصَلَّى) : الصلوات، وذكر الله فيها بالتحميد والتمجيد والدعاء.
وقوله: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)
يقول للناس: بل تؤثرون أيها الناس زينة الحياة الدنيا على الآخرة (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ) لكم (وَأَبْقَى) يقول: وزينة الآخرة خير لكم أيها الناس وأبقى، لأن الحياة الدنيا فانية، والآخرة باقية، لا تنفَدُ ولا تفنى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فاختار الناس العاجلة إلا من عصم الله. وقوله: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ) في الخير (وَأَبْقَى) في البقاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن عَرْفَجَة الثقفي، قال: استقرأت ابن مسعود (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) ، فلما بلغ: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) ترك القراءة وأقبل على أصحابه، وقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا؛ لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزُوِيت عنا الآخرة، فاخترنا هذا العاجل، وتركنا الآجل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء الأمصار: (بَلْ تُؤْثِرُونَ) بالتاء، إلا أبا عمرو فإنه قرأه بالياء، وقال: يعني الأشقياء.(24/375)
والذي لا أوثر عليه في قراءة ذلك التاء، لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وذُكر أن ذلك في قراءة أُبي: (بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ) فذلك أيضًا شاهد لصحة القراءة بالتاء.
وقوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى) اختلف أهل التأويل في الذي أشير إليه بقوله هذا، فقال بعضهم: أُشير به إلى الآيات التي في (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرِمة (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) يقول: الآيات التي في (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) .
وقال آخرون: قصة هذه السورة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) قال: قصة هذه السورة لفي الصحف الأولى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن هذا الذي قصّ الله تعالى في هذه السورة (لَفِي الصُّحُفِ الأولَى) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى) قال: إن هذا الذي قصّ الله في هذه السورة، لفي الصحف الأولى (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) .
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك أن قوله: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) في الصحف الأولى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى) قال: تتابعت كتب الله كما تسمعون أن الآخرة خير وأبقى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) قال: في الصحف التي أنزلها الله(24/376)
على إبراهيم وموسى أن الآخرة خير من الأولى.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم خليل الرحمن، وصحف موسى بن عمران.
وإنما قلت: ذلك أولى بالصحة من غيره؛ لأن هذا إشارة إلى حاضر، فلأن يكون إشارة إلى ما قرب منها أولى من أن يكون إشارة إلى غيره. وأما الصحف: فإنها جمع صحيفة، وإنما عُنِي بها: كتب إبراهيم وموسى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخلد، قال: نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستّ ليال خلون من رمضان، وأنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين.
آخر تفسير سورة سبح اسم ربك الأعلى(24/377)
تفسير سورة الغاشية(24/379)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (هَلْ أَتَاكَ) يا محمد (حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) يعني: قصتها وخبرها.
واختلف أهل التأويل في معنى الغاشية، فقال بعضهم: هي القيامة تغشي الناس بالأهوال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (الْغَاشِيَةِ) من أسماء يوم القيامة، عظَّمه الله، وحذّره عباده.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قال: الغاشية: الساعة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قال: الساعة.
وقال آخرون: بل الغاشية: النار تغشَى وجوه الكَفَرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن سعيد، في قوله:(24/381)
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قال: غاشية النار.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) لم يخبرنا أنه عنى غاشية القيامة، ولا أنه عنى غاشية النار. وكلتاهما غاشية، هذه تغشى الناس بالبلاء والأهوال والكروب، وهذه تغشي الكفار باللفح في الوجوه، والشُّواظ والنحاس، فلا قول في ذلك أصحّ من أن يقال كما قال جلّ ثناؤه، ويعمّ الخبر بذلك كما عمه.
وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ) يقول تعالى ذكره: وجوه يومئذ، وهي وجوه أهل الكفر به
خاشعة، يقول: ذليلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ) : أي ذليلة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (خَاشِعَةٌ) قال: خاشعة في النار.
وقوله: (عَامِلَةٌ) يعني: عاملة في النار. وقوله: (ناصِبَةٌ) يقول: ناصبة فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) فإنها تعمل وَتَنْصَب من النار.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن، قرأ: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) قال: لم تعمل لله في الدنيا، فأعملها في النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) تكبرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) قال: عاملة ناصبة في النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) قال: لا أحد أنصَبُ ولا أشدّ من أهل النار.(24/382)
وقوله: (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) يقول تعالى ذكره: ترد هذه الوجوه نارًا حامية قد حميت واشتد حرها.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة (تَصْلَى) بفتح التاء، بمعنى: تصلى الوجوه. وقرأ ذلك أبو عمرو (تُصْلَى) بضم التاء اعتبارًا بقوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) ، والقول في ذلك أنهما قراءتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) يقول: تسقى أصحاب هذه الوجوه من شَرَاب عين قد أنى حرّها، فبلغ غايته في شدة الحرّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال: هي التي قد أطال أنينها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَة، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال: أنَى طبخها منذ يوم خلق الله الدنيا.
حدثني به يعقوب مرّة أخرى، فقال: منذ يوم خلق الله السموات والأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال: قد بلغت إناها، وحان شربها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) يقول: قد أنَى طبخها منذ خلق الله السموات والأرض.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قوله: (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال: من عين أنَى حرّها: يقول: قد بلغ حرّها.
وقال بعضهم: عُنِيَ بقوله: (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) من عين حاضرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قال: آنية: حاضرة.(24/383)
وقوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) يقول: ليس لهؤلاء الذين هم أصحاب الخاشعة العاملة الناصبة يوم القيامة طعام، إلا ما يطعمونه من ضَرِيع. والضريع عند العرب: نبت يُقال له الشِّبْرِق، وتسميه أهل الحجاز الضَّريع إذا يبس، ويسميه غيرهم: الشِّبْرق، وهو سمّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: الضريع: الشِّبْرق.
حدثني محمد بن عُبيد المحاربيّ، قال: ثنا عباد بن يعقوب الأسديّ، قال محمد: ثنا، وقال عباد: أخبرنا محمد بن سليمان، عن عبد الرحمن الأصبهانيّ، عن عكرِمة في قوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: الشِّبرق.
حدثني يعقوب، قال: ثنا إسماعيل بن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: ثني نجدة، رجل من عبد القيس عن عكرمة، في قوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: هي شجرة ذات شوك، لاطئة بالأرض، فإذا كان الربيع سمَّتها قريش الشِّبرق، فإذا هاج العود سمتها الضَّريع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: الشبرق.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مِهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن؛ قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (ضَرِيعٍ) قال: الشِّبرق اليابس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: هو الشبرق إذا يبس يسمى الضريع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) يقول: من شرّ الطعام، وأبشعه وأخبثه.
حدثني محمد بن عبيد، قال: ثنا شريك بن عبد الله، في قوله: (لَيْسَ لَهُمْ(24/384)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: الشبرق.
وقال آخرون: الضَّرِيع: الحجارة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: الحجارة.
وقال آخرون: الضَّرِيع: شجر من نار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) يقول: شجر من نار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ) قال: الضريع: الشَّوك من النار. قال: وأما في الدنيا فإنَّ الضريع: الشوك اليابس الذي ليس له ورق، تدعوه العرب الضريع، وهو في الآخرة شوك من نار
وقوله: (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) يقول: لا يُسمن هذا الضريع يوم القيامة أكلته من أهل النار، (ولا يُغني من جوع) يقول: ولا يُشْبعهم من جوع يصيبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) } .
يقول تعالى ذكره: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) يعني: يوم القيامة (نَاعِمَةٌ) يقول: هي ناعمة بتنعيم الله أهلها في جناته، وهم أهل الإيمان بالله.
وقوله: (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) يقول: لعملها الذي عملت في الدنيا من طاعة ربها راضية، وقيل: (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) والمعنى: لثواب سعيها في الآخرة راضية.(24/385)
وقوله: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) وهي بستان، عالية يعني: رفيعة.
وقوله: (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) يقول: لا تسمع هذه الوجوه - المعنى: لأهلها فيها في الجنة العالية - لاغية. يعني باللاغية: كلمة لغو واللَّغو: الباطل، فقيل للكلمة التي هي لغو لاغية، كما قيل لصاحب الدرع: دارع، ولصاحب الفرس: فارس، ولقائل الشعر شاعر، وكما قال الحُطيئة:
أغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أنَّ ... كَ لابِنٌ بِالصَّيْفِ تَامِرْ (1)
يعني: صاحب لبن، وصاحب تمر. وزعم بعض الكوفيين أن معنى ذلك: لا تسمع فيها حالفة على الكذب ولذلك قيل: لاغية؛ ولهذا الذي قاله مذهب ووجه، لولا أن أهل التأويل من الصحابة والتابعين على خلافه، وغير جائز لأحد خلافهم فيما كانوا عليه مجمعين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) يقول: لا تسمع أذًى ولا باطلا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) قال: شتمًا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) : لا تسمع فيها باطلا ولا شاتمًا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن قتادة، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض قرّاء المدينة وهو أبو جعفر (لا تَسْمَعُ) بفتح التاء، بمعنى: لا تسمع الوجوه. وقرأ ذلك ابن كثير ونافع وأبو عمرو (لا تُسْمَعُ) بضم التاء، بمعنى ما لم يسمّ فاعله ويؤنَّث تسمع لتأنيث لاغية. وقرأ ابن محيصن بالضم أيضًا، غير أنه كان يقرؤها بالياء على وجه التذكير.
والصواب من القول في ذلك عندي، أن كلّ ذلك قراءات معروفات صحيحات
__________
(1) في المطبوعة: "حكم الله وأمره عبده"، وفي المخطوطة: "حكم الله امره" بغير واو. والذي أثبتناه أصوب. والحكم: الحكمة، كما مر مرارًا(24/386)
المعاني، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ) يقول: في الجنة العالية عين جارية في غير أخدود.
وقوله: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) والسرر: جمع سرير، مرفوعة ليرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما خوّله ربه من النعيم والملك فيها، ويلحق جميع ذلك بصره.
وقيل: عُنِي بقول مرفوعة: موضونة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) يعني: موضونة، كقوله: سُرر مصفوفة، بعضها فوق بعض.
وقوله: (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ) وهي جمع كوب، وهي الأباريق التي لا آذان لها. وقد بيَّنا ذلك فيما مضى، وذكرنا ما فيه من الرواية بما أغنى عن إعادته.
وَعُنِي بقوله: (مَوْضُوعَةٌ) : أنها موضوعة على حافة العين الجارية، كلما أرادوا الشرب وجدوها ملأى من الشراب.
وقوله: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) يعني بالنمارق: الوسائد والمرافق؛ والنمارق: واحدها نُمْرُقة، بضم النون. وقد حُكي عن بعض كلب سماعًا نِمْرِقة، بكسر النون والراء. وقيل: مصفوفة؛ لأن بعضها بجنب بعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) يقول: المرافق.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) يعني بالنمارق: المجالس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) والنمارق: الوسائد.
وقوله: (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) يقول تعالى ذكره: وفيها طنافس وبُسُط كثيرة مبثوثة مفروشة، والواحدة: زِرْبية، وهي الطِّنفسة التي لها خمل رقيق.(24/387)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن منصور، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن سفيان، قال: ثنا توبة العنبريّ، عن عكرِمة بن خالد، عن عبد الله بن عمار، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي على عبقريّ، وهو الزرابيّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) : المبسوطة.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) } .
يقول تعالى ذكره لمُنكري قدرته على ما وصف في هذه السورة من العقاب والنكال الذي أعدّه لأهل عداوته، والنعيم والكرامة التي أعدّها لأهل ولايته: أفلا ينظر هؤلاء المنكرون قُدرة الله على هذه الأمور، إلى الإبل كيف خلقها وسخرها لهم وذَلَّلها وجعلها تحمل حملها باركة، ثم تنهض به، والذي خلق ذلك غير عزيز عليه أن يخلق ما وصف من هذه الأمور في الجنة والنار، يقول جلّ ثناؤه: أفلا ينظرون إلى الإبل فيعتبرون بها، ويعلمون أن القُدرة التي قدر بها على خلقها، لن يُعجزه خلق ما شابهها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما نعت الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) فكانت الإبل من عيش العرب ومن خوَلهم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق عمن سمع شريحا يقول: اخرجوا بنا ننظر إلى الإبل كيف خُلقت.
وقوله: (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) يقول جلّ ثناؤه: أفلا ينظرون أيضا إلى(24/388)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
السماء كيف رفعها الذي أخبركم أنه معِدّ لأوليائه ما وصف، ولأعدائه ما ذكر، فيعلموا أن قُدرته القدرة التي لا يُعجزه فعل شيء أراد فعله.
وقوله: (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ)
يقول: وإلى الجبال كيف أقيمت منتصبة لا تسقط، فتنبسط في الأرض، ولكنها جعلها بقدرته منتصبة جامدة، لا تبرح مكانها، ولا تزول عن موضعها.
وقد حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) تصاعد إلى الجبل الصَّيخود عامة يومك، فإذا أفضيت إلى أعلاه، أفضيت إلى عيون متفجرة، وثمار متهدلة ثم لم تحرثه الأيدي ولم تعمله، نعمة من الله، وبُلغة الأجل.
وقوله: (وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) يقول: وإلى الأرض كيف بُسطت، يقال: جبل مُسَطَّح: إذا كان في أعلاه استواء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) : أي بُسطت، يقول: أليس الذي خلق هذا بقادر على أن يخلق ما أراد في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَذَكِّرْ) يا محمد عبادي بآياتي، وعظهم بحججي وبلِّغهم رسالتي (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) يقول: إنما أرسلتك إليهم مذكرا لتذكرهم نعمتي عندهم، وتعرّفهم اللازم لهم، وتعظهم.
وقوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) يقول: لست عليهم بمسلَّط، ولا أنت بجبار تحملهم على ما تريد. يقول: كِلهم إليّ، ودعهم وحكمي فيهم؛ يقال: قد(24/389)
تسيطر فلان على قومه: إذا تسلط عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) يقول: لست عليهم بجبار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) : أي كِلْ إليّ عبادي.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بِمُسَيْطِرٍ) قال: جبار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) قال: لست عليهم بمسلط أن تكرههم على الإيمان، قال: ثم جاء بعد هذا: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) وقال (اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) وارصدوهم لا يخْرُجُوا فِي البِلاد (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال: فنسخت (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) قال: جاء اقتله أو يُسْلِم؛ قال: والتذكرة كما هي لم تنسخ وقرأ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتى يَقُولُوا: لا إلَهَ إلا اللهُ، فإذَا قالُوا: لا إلَهَ إلا اللهُ، عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ إلا بِحَقِّها، وحِسابُهُمْ على اللهِ" ثم قرأ: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول، فذكر مثله، إلا أنه قال: قال أبو الزّبير: ثم قرأ: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) .
حدثنا يوسف بن موسى القطان، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي الزّبير،(24/390)
عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله.
وقوله: (إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) يتوجَّه لوجهين: أحدهما: فذكر قومك يا محمد، إلا من تولى منهم عنك، وأعرض عن آيات الله فكفر، فيكون قوله "إلا" استثناء من الذين كان التذكير عليهم، وإن لم يذكروا، كما يقال: مضى فلان، فدعا إلا من لا تُرْجَى إجابته، بمعنى: فدعا الناس إلا من لا ترجى إجابته. والوجه الثاني: أن يجعل قوله: (إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) منقطعا عما قبله، فيكون معنى الكلام حينئذ لست عليهم بمسيطر، إلا من تولى وكفر، يعذّبه الله، وكذلك الاستثناء المنقطع يمتحن بأن يحسن معه إنّ، فإذا حسنت معه كان منقطعا، وإذا لم تحسن كان استثناء متصلا صحيحا، كقول القائل: سار القوم إلا زيدا، ولا يصلح دخول إن هاهنا لأنه استثناء صحيح.
وقوله: (فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ) : هو عذاب جهنم، يقول: فيعذبه الله العذاب الأكبر على كفره في الدنيا، وعذاب جهنم في الآخرة.
وقوله: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ) يقول: إن إلينا رجوع من كفر ومعادهم (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) يقول: ثم إن على الله حسابه، وهو يجازيه بما سلف منه من معصية ربه، يُعْلِمُ بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه المتولي عقوبته دونه، وهو المجازي والمعاقب، وأنه الذي إليه التذكير وتبليغ الرسالة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) قال: حسابه على الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) يقول: إن إلى الله الإياب وعليه الحساب.
آخر تفسير سورة الغاشية(24/391)
تفسير سورة الفجر(24/393)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) } .
هذا قسم، أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالفجر، وهو فجر الصبح.
واختلف أهل التأويل في الذي عُنِي بذلك، فقال بعضهم: عُنِي به النهار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأغرّ المِنقريّ، عن خليفة بن الحصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس، قوله: (وَالْفَجْرِ) قال: النهار.
وقال آخرون: عُنِيَ به صلاة الصبح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالْفَجْرِ) يعني: صلاة الفجر.
وقال آخرون: هو فجر الصبح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عاصم الأحول، عن عكرِمة، في قوله: (وَالْفَجْرِ) قول: الفجر: فجر الصبح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن قيس، عن محمد بن المرتفع، عن عبد الله بن الزبير أنه قال: (وَالْفَجْرِ) قال: الفجر: قسم أقسم الله به.
وقوله: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) اختلف أهل التأويل في هذه الليالي العشر أيّ ليال هي،(24/395)
فقال بعضهم: هي ليالي عشر ذي الحجة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن زرارة، عن ابن عباس، قال: إن الليالي العشر التي أقسم الله بها، هي ليالي العشر الأول من ذي الحجة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) : عشر الأضحى؛ قال: ويقال: العشر: أولَ السنة من المحرم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وَهب، قال: أخبرني عمر بن قيس، عن محمد بن المرتفع، عن عبد الله بن الزبير (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) أوّل ذي الحجة إلى يوم النحر.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عوف، قال: ثنا زرارة بن أوفى، قال: قال ابن عباس: إن الليالي العشر اللاتي أقسم الله بهنّ: هن الليالي الأوَل من ذي الحجة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسروق (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: عشر ذي الحجة، وهي التي وعد الله موسى صلى الله عليه وسلم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عاصم الأحول، عن عكرِمة (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: عشر ذي الحجة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأغرّ المنقريّ، عن خليفة بن حصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: عشر الأضحى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: عشر ذي الحجة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: كنا نحدَّث أنها عشر الأضحى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثَور، عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، قال: ليس عمل في ليال من ليالي السنة أفضل منه في ليالي العشر، وهي(24/396)
عشر موسى التي أتمَّها الله له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أبى إسحاق، عن مسروق، قال: ليال العشر، قال: هي أفضل أيام السنة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) يعني: عشر الأضحى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: أوّل ذي الحجة؛ وقال: هي عشر المحرّم من أوّله.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه، وأن عبد الله بن أبي زياد القَطْوانيّ، حدثني قال: ثني زيد بن حباب، قال: أخبرني عياش بن عقبة، قال: ثني جُبير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: عَشْرُ الأضْحَى".
وقوله: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ) اختلف أهل التأويل في الذي عُنِيَ به من الوتر بقوله: (والْوَتْرِ) فقال بعضهم: الشفع: يوم النحر، والوتر: يوم عرفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن زرارة بن أوفى، عن ابن عباس، قال: الوتر: يوم عرفة، والشفع: يوم الذبح.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عوف، قال: ثنا زرارة بن أوفى، قال: قال ابن عباس: الشفع: يوم النحر، والوَتر: يوم عرفة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام، عن قتادة، قال: قال عكرِمة، عن ابن عباس: الشفع: يوم النحر، والوَتر: يوم عرفة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله، عن عكرِمة (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الشفع: يوم النحر، والوتر: يوم عرفة.
وحدثنا به مرّة أخرى، فقال: الشفع: أيام النحر، وسائر الحديث مثله.
حدثني يعقوب: قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عاصم الأحول، عن عكرِمة في قوله: (والشَّفْعِ) قال: يوم النحر (والْوَتْرِ) قال: يوم عرفة.(24/397)
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرِمة، قال: الشفع: يوم النحر، والوتر: يوم عرفة.
قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن الضحاك (وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: أقسم الله بهنّ لما يعلم من فضلهنّ على سائر الأيام، وخير هذين اليومين لما يُعلَم من فضلهما على سائر هذه الليالي (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الشفع: يوم النحر، والوَتر: يوم عرفة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان عكرِمة يقول: الشفع: يوم الأضحى، والوتر: يوم عرفة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قال عكرِمة: عرفة وَتْر، والنحر شفع، عرفة يوم التاسع، والنحر يوم العاشر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (والشَّفْعِ) يوم النحر (والْوَتْرِ) يوم عرفة.
وقال آخرون: الشفع: اليومان بعد يوم النحر، والوَتر: اليوم الثالث.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: في قوله: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الشفع: يومان بعد يوم النحر، والوتر: يوم النَّفْر الآخرِ، يقول الله: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) .
وقال آخرون: الشفع: الخلق كله، والوتر: الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الله وتر، وأنتم شفع، ويقال: الشفع: صلاة الغداة، والوتر صلاة المغرب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: كلّ خلق الله شفع، السماء والأرض والبرّ والبحر والجنّ والإنس والشمس والقمر، والله الوَتر وحده.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا ابن جُريج، قال: قال(24/398)
مجاهد، في قوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) قال: الكفر والإيمان، والسعادة والشقاوة، والهدى والضلالة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والجنّ والإنس، والوَتْر: الله؛ قال: وقال في الشفع والوتر مثل ذلك.
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: خلق الله من كل شيء زوجين، والله وَتْر واحد صَمَد.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الشفع: الزوج، والوتر: الله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الوتر: الله، وما خلق الله من شيء فهو شفع.
وقال آخرون: عُنِيَ بذلك الخلق، وذلك أن الخلق كله شفع ووتر.
قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: الخلق كله شفع ووتر، وأقسم بالخلق.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن في ذلك: الخلق كله شفع (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: كان أبي يقول: كلّ شيء خلق الله شفع ووتر، فأقسم بما خلق، وأقسم بما تبصرون وبما لا تبصرون.
وقال آخرون: بل ذلك: الصلاة المكتوبة، منها الشفع كصلاة الفجر والظهر، ومنها الوتر كصلاة المغرب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: كان عمران بن حصين يقول: (الشَّفْعِ والْوَتْرِ) : الصلاة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال عمران: هي الصلاة المكتوبة فيها الشفع والوتر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: ذلك صلاة المغرب، الشفع: الركعتان، والوتر: الركعة الثالثة، وقد رفع حديث عمران بن حصين بعضهم.(24/399)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثني أبي، قال: ثني خالد بن قيس، عن قتادة، عن عمران بن عصام، عن عمران بن حصين، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم - في الشفع والوتر - قال: "هيَ الصَّلاةُ مِنْها شَفْعٌ، وَمِنْها وَتْرٌ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عفان بن مسلم قال: ثنا همام، عن قتادة، أنه سُئل عن الشفع والوتر، فقال: أخبرني عمران بن عصام الضُّبعي، عن شيخ من أهل البصرة، عن عمران بن حصين، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "هيَ الصَّلاةُ مِنْها شَفْعٌ، وَمنها وَتْرٌ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا همام بن يحيى، عن عمران بن عصام، عن شيخ من أهل البصرة، عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال: "هيَ الصَّلاةُ مِنْها شَفْعٌ، وَمِنْها وَتْرٌ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) إن من الصلاة شفعا، وإن منها وترا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام، عن قتادة، أنه سُئل عن الشفع والوتر، فقال: قال الحسن: هو العدد. ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر يؤيد القول الذي ذكرنا عن أبي الزُّبير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الله بن أبي زياد القَطْوَانيّ، قال: ثنا زيد بن حُباب، قال: أخبرني عَياش بن عقبة، قال: ثني جبير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشَّفْع: الْيَوْمَانِ وَالْوَتْرُ: الْيَوْمُ الْوَاحِدُ".
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالشفع والوتر، ولم يخصص نوعا من الشفع ولا من الوتر دون نوع بخبر ولا عقل، وكلّ شفع ووتر فهو مما أقسم به مما قال أهل التأويل إنه داخل في قسمه هذا لعموم قسَمه بذلك.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَالْوَتْرِ) فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة بكسر الواو.(24/400)
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان معروفتان في قَرَأةِ الأمصار، ولغتان مشهورتان في العرب، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) يقول: والليل إذا سار فذهب، يقال منه: سرى فلان ليلا يَسْرِي: إذا سار.
وقال بعضهم: عُنِيَ بقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) ليلة جَمْع، وهي ليلة المزدلفة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن قيس، عن محمد بن المرتفع، عن عبد الله بن الزبير (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) حتى يُذهِب بعضه بعضا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) يقول: إذا ذهب.
حدثني محمد بن عُمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبى يحيى، عن مجاهد: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) قال: إذا سار.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العاليه (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) قال: والليل إذا سار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) يقول: إذا سار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) قال: إذا سار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) قال: الليل إذا يسير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن عكرِمة (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) قال: ليلة جمع.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الشام والعراق (يَسْرِ) بغير ياء. وقرأ ذلك جماعة من القرّاء بإثبات الياء، وحذف الياء في ذلك أعجب إلينا، ليوفق بين رءوس الآي إذ كانت بالراء. والعرب ربما أسقطت الياء في موضع الرفع(24/401)
مثل هذا، اكتفاء بكسرة ما قبلها منها، من ذلك قول الشاعر:
لَيْسَ تخْفى يَسارَتِي قَدْرَ يَوْمٍ ... وَلَقَدْ تُخْفِ شِيمَتِي إعْسَارِي (1)
وقوله: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) يقول تعالى ذكره: هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر، وإنما عُنِيَ بذلك: إن في هذا القسم مكتفى لمن عقل عن ربه مما هو أغلظ منه في الإقسام. فأما معنى قوله: (لِذِي حِجْرٍ) : فإنه لِذِي حِجًي وذِي عقل؛ يقال للرجل إذا كان مالكا نفسه قاهرًا لها ضابطا: إنه لذو حِجْر، ومنه قولهم: حَجَر الحاكم على فلان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي النُّهَى والعقل.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (لِذِي حِجْرٍ) قال: لأولي النُّهى.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: ذو الحِجْر والنُّهى والعقل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس: (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي عقل، لذي نُهَي.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأغرّ المِنقريّ، عن خليفة بن الحصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي لُبّ، لذي حِجَى.
__________
(1) أهل القدر: هم نفاة القدر لا مثبتوه. والقائلون بالتفويض هم القدرية والمعتزلة والإمامية. يزعمون أن الأمر فوض إلى الإنسان (أي رد إليه) ، فإرادته كافية في إيجاد فعله، طاعة كان أو معصية، وهو خالق لأفعاله، والاختيار بيده.(24/402)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي عقل.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لذي عقل، لذي رأي.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي لبّ، أو نُهى.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا خلف بن خليفة، عن هلال بن خباب، عن مجاهد، في قوله: (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي عقل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي حلم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي حجى؛ وقال الحسن: لذي لُبّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) لذي حِجى، لذي عقل ولُبّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال: لذي عقل، وقرأ: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) و (لأولِي الألْبابِ) وهم الذين عاتبهم الله وقال: العقل واللُّبّ واحد، إلا أنه يفترق في كلام العرب.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) } .
وقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك، فترى كيف فعل ربك بعاد؟
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إرَمَ) فقال بعضهم: هي اسم بلدة، ثم اختلف الذين قالوا ذلك في البلدة التي عُنِيت بذلك، فقال بعضهم: عُنِيت به الإسكندرية.(24/403)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهريّ، عن أبي صخر، عن القُرَظي، أنه سمعه يقول: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) الإسكندرية.
قال أبو جعفر، وقال آخرون: هي دِمَشق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله الهلالي من أهل البصرة، قال: ثنا عبيد الله بن عبد المجيد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن المقْبري (بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) قال: دمشق.
وقال آخرون: عُنِي بقوله: (إرَمَ) : أمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قوله: (إرَمَ) قال: أمة.
وقال آخرون: معنى ذلك: القديمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إرَمَ) قال: القديمة.
وقال آخرون: تلك قبيلة من عاد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) قال: كنا نحدّث أن إرم قبيلة من عاد، بيت مملكة عاد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (إرَمَ) قال: قبيلة من عاد كان يقال لهم: إرم، جدّ عاد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ) يقول الله: بعاد إرم، إن عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
وقال آخرون: (إرَمَ) : الهالك.(24/404)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ) يعني بالإرم: الهالك؛ ألا ترى أنك تقول: أرم بنو فلان؟
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (بِعَادٍ إِرَمَ) الهلاك؛ ألا ترى أنك تقول أُرِمَ (1) بنو فلان: أي هَلَكوا.
والصواب من القول في ذلك أن يُقال: إن إرم إما بلدة كانت عاد تسكنها، فلذلك ردّت على عاد للإتباع لها، ولم يجر من أجل ذلك، وإما اسم قبيلة فلم يُجر أيضا، كما لا يُجْرى أسماء القبائل، كتميم وبكر، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة، وأما اسم عاد فلم يجر، إذ كان اسما أعجميا.
فأما ما ذُكر عن مجاهد أنه قال: عُنِيَ بذلك القديمة، فقول لا معنى له، لأن ذلك لو كان معناه لكان محفوظا بالتنوين، وفي ترك الإجراء الدليل على أنه ليس بنعت ولا صفة.
وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي أنها اسم قبيلة من عاد، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها، وترك إجرائها، كما يقال: ألم تر ما فعل ربك بتميم نهشل؟ فيترك إجراء نهشل، وهي قبيلة، فترك إجراؤها لذلك، وهي في موضع خفض بالردّ على تميم، ولو كانت إرم اسم بلدة، أو اسم جدّ لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها، كما يقال: هذا عمروُ زبيدٍ وحاتمُ طيئ، وأعشى هَمْدانَ، ولكنها اسم قبيلة منها فيما أرى، كما قال قتادة، والله أعلم، فلذلك أجمعت القرّاء فيها على ترك الإضافة وترك الإجراء.
وقوله: (ذَاتِ الْعِمَادِ) اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (ذَاتِ الْعِمَادِ) في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناه: ذات الطول، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب للرجل الطويل: رجل مُعَمَّد، وقالوا: كانوا طوال الأجسام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
__________
(1) ديوانه 1: 71.(24/405)
عن أبيه، عن ابن عباس (ذَاتِ الْعِمَادِ) يعني: طولهم مثل العماد.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قوله: (ذَاتِ الْعِمَادِ) قال: كان لهم جسم في السماء.
وقال بعضهم: بل قيل لهم: (ذَاتِ الْعِمَادِ) لأنهم كانوا أهل عَمَد، ينتجِعون الغيوث، وينتقلون إلى الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الْعِمَادِ) قال: أهل عَمُود لا يقيمون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ذَاتِ الْعِمَادِ) قال: ذُكر لنا أنهم كانوا أهل عَمُود لا يقيمون، سيارة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (ذَاتِ الْعِمَادِ) قال: كانوا أهلَ عمود.
وقال آخرون: بل قيل ذلك لهم لبناء بناه بعضهم، فشيَّد عَمَده، ورفع بناءه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) قال: عاد قوم هود بنَوها وعملوها حين كانوا في الأحقاف، قال: (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا) مثل تلك الأعمال في البلاد، قال: وكذلك في الأحقاف في حضرموت، ثم كانت عاد، قال: وثم أحقاف الرمل، كما قال الله: بالأحقاف من الرمل، رمال أمثال الجبال تكون مظلة مجوّفة.
وقال آخرون: قيل ذلك لهم لشدّة أبدانهم وقواهم.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (ذَاتِ الْعِمَادِ) يعني: الشدّة والقوّة.
وأشبه الأقوال في ذلك بما دلّ عليه ظاهر التنزيل قول من قال: عُنِيَ بذلك أنهم كانوا أهل عمود، سيارة لأن المعروف في كلام العرب من العماد، ما عمل(24/406)
به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء، ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح، بل وجه أهل التأويل قوله: (ذَاتِ الْعِمَادِ) إلى أنه عُنِيَ به طول أجسامهم، وبعضهم إلى أنه عُنِيَ به عماد خيامهم، فأما عماد البنيان، فلا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهه إليه، وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه ما وجد إلى ذلك سبيلا دون الأنكر.
وقوله: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) يقول جلّ ثناؤه: ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم التي لم يخلق مثلها في البلاد، يعني: مثل عاد، والهاء عائدة على عاد. وجائز أن تكون عائدة على إرم لما قد بينا قبل أنها قبيلة. وإنما عُنِيَ بقوله: لم يُخْلق مثلها في العِظَم والبطش والأيد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) ذكر أنهم كانوا اثني عشر ذراعا طولا في السماء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد، لم يخلق مثل الأعمدة في البلاد، وقالوا: التي لم يخلق مثلها من صفة ذات العماد، والهاء التي في مثلها إنما هي من ذكر ذات العماد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: فذكر نحوه. وهذا قول لا وجه له، لأن العماد واحد مذكر، والتي للأنثى، ولا يوصف المذكر بالتي، ولو كان ذلك من صفة العماد لقيل: الذي لم يخلق مثله في البلاد، وإن جعلت التي لإرم، وجعلت الهاء عائدة في قوله: (مِثْلُهَا) عليها، وقيل: هي دمشق أو إسكندرية، فإن بلاد عاد هي التي وصفها الله في كتابه فقال: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِف) والأحقاف: هي جمع حِقْف، وهو ما انعطف من الرمل وانحنى، وليست الإسكندرية ولا دمشق من بلاد الرمال، بل ذلك الشِّحْرَ من بلاد حضرموت، وما والاها.
وقوله: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي) يقول: وبثمود الذين خرقوا الصخر ودخلوه فاتخذوه بيوتا، كما قال جلّ ثناؤه: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ)(24/407)
والعرب تقول: جاب فلان الفلاة يجوبها جوبا: إذا دخلها وقطعها، ومنه قول نابغة:
أتاكَ أبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَى ... دُجَى اللَّيلِ جَوّابُ الفَلاةِ عَمِيمُ (1)
يعني بقوله: يجوب يدخل ويقطع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) يقول: فخرقوها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) يعني: ثمود قوم صالح، كانوا ينحتون من الجبال بيوتا.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد في قوله: (الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) قال: جابوا الجبال، فجعلوها بيوتا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) : جابوها ونحتوها بيوتا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: (جَابُوا الصَّخْرَ) قال: نَقبوا الصخر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) يقول: قَدُّوا الحجارة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) : ضربوا البيوت والمساكن في الصخر في الجبال، حتى جعلوا فيها مساكن. جابوا: جوّبوها تجوّبوا البيوت في الجبال، قال قائل:
ألا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللهَ بائِدٌ ... كمَا بادَ حَيٌّ مِنْ شَنِيقٍ وَمارِدِ
__________
(1) في المطبوعة: "لم يمعن النظر"، بدلوها، كما فعلوا في ص: 55، تعليق: 3.(24/408)
هُمُ ضَرَبُوا فِي كُلّ صَلاءَ صَعْدَةٍ ... بأيْدٍ شِدَادٍ أيِّدَاتِ السَّوَاعِدِ (1)
وقوله: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ) يقول جلّ ثناؤه: ألم تر كيف فعل ربك أيضا بفرعون صاحب الأوتاد.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (ذِي الأوْتَادِ) ولم قيل له ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ذي الجنود الذي يقوّون له أمره، وقالوا: الأوتاد في هذا الموضع: الجنود.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ) قال: الأوتاد: الجنود الذين يشدّون له أمره، ويقال: كان فرعون يُوتِد في أيديهم وأرجلهم أوتادًا من حديد، يعلقهم بها.
وقال آخرون: بل قيل له ذلك لأنه كان يُوتِد الناس بالأوتاد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (ذِي الأوْتَادِ) قال: كان يوتد الناس بالأوتاد.
وقال آخرون: كانت مظالّ وملاعب يلعب له تحتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ) ذُكر لنا أنها كانت مظال وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد وحبال.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (ذِي الأوْتَادِ) قال: ذي البناء كانت مظال يلعب له تحتها، وأوتادا تضرب له.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ثابت البناني، عن أبي رافع، قال: أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحا عظيمة حتى ماتت.
وقال آخرون: بل ذلك لأنه كان يعذّب الناس بالأوتاد.
__________
(1) في اللسان (مصر) منسوبًا إلى أمية بن أبي الصلت. واستدركه ابن بري ونسبه لعدي بن زيد. والمصر: الحاجز والحد بين الشيئين. يقول: جعل الشمس حدا وعلامة بين الليل والنهار.(24/409)
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل، عن محمود، عن سعيد بن جُبير (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ) قال: كان يجعل رجلا هاهنا ورجلا هاهنا، ويدا هاهنا ويدا هاهنا بالأوتاد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (ذِي الأوْتَادِ) قال: كان يوتد الناس بالأوتاد.
وقال آخرون: إنما قيل ذلك لأنه كان له بنيان يعذّب الناس عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل، عن رجل، عن سعيد بن جُبير (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ) قال: كان له منَارات يعذّبهم عليها.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: عُنِيَ بذلك: الأوتاد التي تُوتَد، من خشب كانت أو حديد، لأن ذلك هو المعروف من معاني الأوتاد، ووصف بذلك لأنه إما أن يكون كان يعذّب الناس بها، كما قال أبو رافع وسعيد بن جُبير، وإما أن يكون كان يُلعب له بها.
وقوله: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) يعني بقوله جلّ ثناؤه (الذين) : عادًا وثمود وفرعون وجنده، ويعني بقوله (طَغَوْا) : تجاوزوا ما أباحه لهم ربهم، وعتوا على ربهم إلى ما حظره عليهم من الكفر به. وقوله: (فِي الْبِلادِ) : التي كانوا فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) } .
يقول تعالى ذكره: فأكثروا في البلاد المعاصي، وركوب ما حرّم الله عليهم (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) يقول تعالى ذكره: فأنزل بهم يا محمد ربك عذابه، وأحلّ بهم نقمته، بما أفسدوا في البلاد، وطغَوْا على الله فيها. وقيل: فصبّ(24/410)
عليهم ربك سَوط عذاب. وإنما كانت نِقَما تنزل بهم، إما ريحا تُدَمرهم، وإما رَجفا يُدَمدم عليهم، وإما غَرَقا يُهلكهم من غير ضرب بسوط ولا عصا؛ لأنه كان من أليم عذاب القوم الذين خوطبوا بهذا القرآن، الجلد بالسياط، فكثر استعمال القوم الخبر عن شدّة العذاب الذي يعذّب به الرجل منهم أن يقولوا: ضُرب فلان حتى بالسياط، إلى أن صار ذلك مثلا فاستعملوه في كلّ معذَّب بنوع من العذاب شديد، وقالوا: صَبّ عليه سَوْط عذاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (سَوْطَ عَذَابٍ) قال: ما عذّبوا به.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) قال: العذاب الذي عذّبهم به سماه: سوط عذاب.
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد لهؤلاء الذين قصصت عليك قَصَصَهم، ولِضُرَبائهم من أهل الكفر، لبالمِرصاد يرصدهم بأعمالهم في الدنيا وفي الآخرة، على قناطر جهنم، ليكردسهم فيها إذا وردوها يوم القيامة.
واختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معنى قوله: (لَبِالْمِرْصَادِ) بحيث يرى ويسمع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) يقول: يَرى ويسمع.
وقال آخرون: يعني بذلك أنه بمَرصد لأهل الظلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن المبارك بن مجاهد، عن جُويْبِر، عن الضحاك في هذه الآية، قال: إذا كان يوم القيامة، يأمر الربّ بكرسيه، فيوضع على(24/411)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
النار، فيستوي عليه، ثم يقول: وعزّتي وجلالي، لا يتجاوزني اليوم ذو مَظلِمة، فذلك قوله: (لَبِالْمِرْصَادِ) .
قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، قال: بلغني أن على جهنم ثلاث قناطر: قنطرة عليها الأمانة، إذا مرّوا بها تقول: يا ربّ هذا أمين، يا ربّ هذا خائن، وقنطرة عليها الرحِم، إذا مرّوا بها تقول: يا ربّ هذا واصل، يا ربّ هذا قاطع؛ وقنطرة عليها الربّ (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) .
قال: حدثنا مهران، عن سفيان (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) يعني: جهنم عليها ثلاث قناطر: قنطرة فيها الرحمة، وقنطرة فيها الأمانة، وقنطرة فيها الربّ تبارك وتعالى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) قال: مِرْصاد عمل بني آدم.
وقوله: (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) يقول تعالى ذكره: فأما الإنسان إذا ما امتحنه ربه بالنعم والغنى (فأكْرَمَهُ) بالمال، وأفضل عليه، (وَنَعَّمَهُ) بما أوسع عليه من فضله (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فيفرح بذلك ويسرّ به ويقول: ربي أكرمني بهذه الكرامة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) وحقّ له.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا (19) } .
وقوله: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) يقول: وأما إذا ما امتحنه ربه بالفقر (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) يقول: فضيَّق عليه رزقه وقَتَّره، فلم يكثر ماله، ولم يوسع عليه (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) يقول: فيقول ذلك الإنسان: ربي أهانني، يقول: أذلني بالفقر، ولم يشكر الله على ما وهب له من سلامة جوارحه، ورزقه من العافية في جسمه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) ما أسرع كفر ابن آدم.(24/412)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قوله: (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) قال: ضَيَّقه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) فقرأت عامة قرّاء الأمصار ذلك بالتخفيف، فقَدَر: بمعنى فقتر، خلا أبي جعفر القارئ، فإنه قرأ ذلك بالتشديد (فَقَدَّرَ) . وذُكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: قدّر، بمعنى يعطيه ما يكفيه، ويقول: لو فعل ذلك به ما قال ربي أهانني.
والصواب من قراءة ذلك عندنا بالتخفيف، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: (كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (كَلا) في هذا الموضع، وما الذي أنكر بذلك، فقال بعضهم: أنكر جلّ ثناؤه أن يكون سبب كرامته من أكرم كثرة ماله، وسبب إهانته من أهان قلة ماله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) ما أسرع ما كفر ابن آدم، يقول الله جلّ ثناؤه: كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها، ولكن إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأُهينُ من أهنت بمعصيتي.
وقال آخرون: بل أنكر جلّ ثناؤه حمد الإنسان ربه على نِعمه دون فقره، وشكواه الفاقة، وقالوا: معنى الكلام، كلا أي: لم يكن ينبغي أن يكون هكذا، ولكن كان ينبغي أن يحمده على الأمرين جميعا، على الغنى والفقر.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن قتادة لدلالة قوله: (بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) والآيات التي بعدها، على أنه إنما أهان من أهان بأنه لا يكرم اليتيم، ولا يَحُضّ على طعام المسكين، وسائر المعاني التي عدّد، وفي إبانته عن السبب الذي من أجله أهان من أهان، الدلالة الواضحة على سبب تكريمه من أكرم، وفي تبيينه ذلك عَقيب قوله: (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) بيان واضح عن الذي أنكر من قوله ما وصفنا.
وقوله: (بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) يقول تعالى ذكره: بل إنما أهنت من أهَنت(24/413)
من أجل أنه لا يكرم اليتيم، فأخرج الكلام على الخطاب، فقال: بل لستم تكرمون اليتيم، فلذلك أهنتكم (وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه من أهل المدينة أبو جعفر وعامة قرّاء الكوفة (بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ) بالتاء أيضا وفتحها وإثبات الألف فيها، بمعنى: ولا يحضّ بعضكم بعضًا على طعام المسكين. وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء المدينة بالتاء وفتحها وحذف الألف (وَلا تَحُضُّون) بمعنى: ولا تأمرون بإطعام المسكين. وقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة (يَحُضُّون) بالياء وحذف الألف بمعنى: ولا يكرم القائلون إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه ربي أكرمني، وإذا قدر عليه رزقه ربي أهانني - اليتيم - (ولا يحضون على طعام المسكين) وكذلك يقرأ الذين ذكرنا من أهل البصرة (يُكْرِمُونَ) وسائر الحروف معها بالياء على وجه الخبر عن الذين ذكرت. وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ (تُحاضُّونَ) بالتاء وضمها وإثبات الألف، بمعنى: ولا تحافظون.
والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه قراءات معروفات في قَرَأة الأمصار، أعني: القراءات الثلاث صحيحات المعاني، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) يقول تعالى ذكره: وتأكلون أيها الناس الميراث أكلا لمًّا، يعني: أكلا شديدًا لا تتركون منه شيئا، وهو من قولهم: لممت ما على الخِوان أجمع، فأنا ألمه لمًّا: إذا أكلت ما عليه فأتيت على جميعه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عمرو بن سعيد بن يسار القرشي، قال: ثنا الأنصاري، عن أشعث، عن الحسن (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) قال: الميراث.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ) أي الميراث، وكذلك في قوله: (أَكْلا لَمًّا) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) يقول: تأكلون أكلا شديدا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلية، عن يونس، عن الحسن، في قوله:(24/414)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) قال: نصيبه ونصيب صاحبه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (أَكْلا لَمًّا) قال: اللمّ السفّ، لفّ كل شيء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَكْلا لَمًّا) أي: شديدا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (أَكْلا لَمًّا) يقول: أكلا شديدا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) قال: الأكل اللمّ: الذي يأكل كلّ شيء يجده ولا يسأل، فأكل الذي له والذي لصاحبه، كانوا لا يُوَرِّثون النساء، ولا يورّثون الصغار، وقرأ: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ) أي: لا تورِّثونهنّ أيضا (أَكْلا لَمًّا) يأكل ميراثه، وكلّ شيء لا يسأل عنه، ولا يدري أحلال أو حرام.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) . يقول: سَفًّا.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة البستيّ، عن زُهير، عن سالم، قال: قد سمعتُ بكر بن عبد الله يقول في هذه الآية: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) قال اللمّ: الاعتداء في المِيراث، يأكل ميراثه وميراث غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) وتحبون جمع المال أيها الناس واقتناءه حبا كثيرا شديدا، من قولهم: قد جمّ الماء في الحوض: إذا اجتمع،(24/415)
ومنه قول زُهير بن أبي سلمى:
فَلَمَّا ورَدْنَ المَاءَ زُرْقًا جِمامُهُ ... وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحاضِرِ المُتَخَيَّمِ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) يقول: شديدا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) فيحبون كثرة المال.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (حُبًّا جَمًّا) قال: الجمّ: الكثير.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) : أي حبا شديدا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (حُبًّا جَمًّا) : يحبون كثرة المال.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) قال: الجمّ: الشديد.
ويعني جلّ ثناؤه بقوله: (كَلا) : ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. ثم أخبر جلّ ثناؤه عن ندمهم على أفعالهم السِّيئة في الدنيا، وتلهُّفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم الندم، فقالّ جل ثناؤه: (إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا) يعني: إذا رجت وزُلزلت زلزلة، وحرّكت تحريكا بعد تحريك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) ديوان الأعشين: 323، والأغاني 6: 46، 61. وأعشى همدان هو عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني أبو مصبح، كان أحد الفقهاء القراء، ثم ترك ذلك وقال الشعر. يمدح عبد الحمن بن الأشعث بن قيس الكندي، وكان خرج على الحجاج، فخرج معه الفقهاء والقراء، فلما أسر الحجاج الأعشى، قال له: ألست القائل: وأنشده البيت - والله لا تبخبخ بعدها أبدًا! وقتله. الأشج: هو الأشعث والد عبد الحمن، وقيس جده. وبخ بخ: كلمة للتعظيم والتفخيم. وهذا البيت والذي سبقه شاهدان على صحة تكرار "بين"، مع غير الضمير المتصل، ومثلهما كثير. وأهل عصرنا يخطئون من يقوله، وهم في شرك الخطأ.(24/416)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا) يقول: تحريكها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني حرملة بن عمران، أنه سمع عمر مولى غُفْرة يقول: إذا سمعت الله يقول: كلا فإنما يقول: كذبت.
وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) يقول تعالى ذكره: وإذا جاء ربك يا محمد وأملاكه صفوفا صفا بعد صفّ.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر وعبد الوهاب، قالا ثنا عوف، عن أبي المنهال، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا كان يوم القيامة مدّت الأرض مدّ الأديم، وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق بصعيد واحد، جنهم وإنسهم، فإذا كان ذلك اليوم قيضت (1) هذه السماء الدنيا عن أهلها على وجه الأرض، وَلأهل السماء وحدهم أكثر من أهل الأرض جنهم وإنسهم بضعف فإذا نثروا على وجه الأرض فزِعوا منهم، فيقولون: أفيكم ربنا: فيفزعون من قولهم ويقولون: سبحان ربنا ليس فينا، وهو آت، ثم تقاض السماء الثانية، وَلأهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع أهل الأرض بضعف جنهم وإنسهم، فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض، فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم ويقولون: سبحان ربنا، ليس فينا، وهو آت، ثم تقاضُ السموات سماء سماء، كلما قيضت سماء عن أهلها كانت أكثر من أهل السموات التي تحتها ومن جميع أهل الأرض بضعف، فإذا نثروا على وجه الأرض، فزِع إليهم أهل الأرض، فيقولون لهم مثل ذلك، ويرجعون إليهم مثل ذلك، حتى تقاض السماء السابعة، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل ستِّ سموات، ومن جميع أهل الأرض بضعف، فيجيء الله فيهم والأمم جِثيّ صفوف، وينادي مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون لله على كل حال؛ قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، أين الذين كانت تتجافى
__________
(1) الخلف (بفتح فسكون) : الرديء من القول. يقال هذا خلف من القول، أي رديء. وفي المثل: "سكت ألفًا ونطق خلفًا"، يقال للرجل يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ. أي سكت دهرًا طويلًا، ثم تكلم بخطأ. كنى بالألف عن الزمن الطويل، ألف ساعة مثلا.(24/417)
جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفا وطمعًا، ومما رزقناهم ينفقون؟ فيسرحون إلى الجنة؛ ثم ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم: أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلَّب فيه القلوب والأبصار فيقومون فيسرحون إلى الجنة؛ فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة خرج عُنُق من النار، فأشرف على الخلائق، له عينان تبصران، ولسان فصيح، فيقول: إني وكلت منكم بثلاثة: بكلّ جبار عنيد، فيلقُطهم من الصفوف لقط الطير حبّ السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثانية فيقول: إني وكلت منكم بمن آذى الله ورسوله فيلقطهم لقط الطير حبّ السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثالثة، قال عوف: قال أبو المنهال: حسبت أنه يقول: وكلت بأصحاب التصاوير، فيلتقطهم من الصفوف لقط الطير حبّ السمسم، فيحبس بهم في جهنم، فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، ومن هؤلاء ثلاثة، نُشرت الصحف، ووُضعت الموازين، ودُعي الخلائق للحساب.
حدثني موسى بن عبد الرحمن قال: ثنا أبو أُسامة، عن الأجلح، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: إذا كان يوم القيامة، أمر الله السماء الدنيا بأهلها، ونزل من فيها من الملائكة، وأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فصَفُّوا صفًا دون صفّ، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض ندّوا، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه فذلك قول الله: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِم) ، وذلك قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) وقوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) وذلك قول الله: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القُرَظيّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُوقفُونَ مَوْقِفا وَاحِدًا يَوْمَ الْقِيامَةِ مِقْدَارَ سَبْعِينَ عاما، لا يُنْظُر إلَيْكُمْ وَلا يُقْضَى بَيْنَكُمْ، قَدْ حُصِرَ(24/418)
عَلَيْكُمْ، فَتَبْكُونَ حتى يَنْقطِعَ الدَّمْعُ، ثُمَّ تَدْمعُون دما وَتَبْكُون حتى يَبْلُغَ ذلكَ مِنْكُمْ الأذْقَانَ، أوْ يُلْجِمَكُمْ فَتَضُجُّونَ، ثُمَّ تَقُولُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَنا إلى رَبِّنا، فَيَقْضِي بَيْنَنا، فَيَقُولُونَ مَنْ أحَقُّ بِذلكَ مِنْ أبِيكُمْ، جَعَلَ اللهُ تُرْبَتَهُ وَخَلْقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وكَلَّمَهُ قُبُلا فَيُؤْتَى آدَمُ صَلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَيُطْلَبُ ذلكَ إلَيْهِ فَيأْبَى، ثُمَّ يَسْتَقْرُونَ الأنبِياءَ نَبِيًّا نَبِيًّا، كُلَّما جاءُوا نَبِيًّا أبى "قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "حتى يَأْتونِي، فإذَا جاءُونِي خَرَجْتُ حتى آتِي الفَحْص "، قال أبو هريرة: يا رسول الله، ما الفحصُ؟ قال: "قُدَّامَ العَرْشِ، فأخِرُّ ساجِدًا، فَلا أزَالُ ساجِدًا حتى يَبْعَثَ اللهُ إليَّ مَلَكًا، فَيأخُذَ بعَضُدِي، فَيرْفَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ اللهُ لِي: مُحَمَّدٌ، وَهُوَ أعْلَمُ، فأقُولُ: نَعْم، فَيَقُولُ: ما شأنُكَ؟ فأقول: يا رَبِّ وَعَدْتَنِي الشَّفاعَةَ، شَفِّعْنِي فِي خَلْقِكَ فاقْضِ بَيْنَهُمْ، فَيَقُولُ: قَدْ شَفَّعْتُكَ، أنا آتِيكُمْ فأقْضِي بَيْنَكُمْ". قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فأنصَرِفُ حتى أقِفَ مَعَ النَّاسِ، فَبَيْنا نَحْنُ وَقُوفٌ، سَمِعْنا حِسًّا مِنَ السَّماءِ شَدِيدًا، فَهالَنا، فَنزلَ أهْلُ السَّماءِ الدُّنْيا بِمِثْلَيْ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الجِنّ والإنسِ، حتى إذَا دنوْا مِنَ الأرْضِ، أشْرَقَتِ الأرْضُ، بِنُورِهِمْ، وأخَذُوا مَصَافَّهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ: أفِيكُمْ رَبُّنا؟ قالوا: لا وَهُوَ آتٍ، ثُمَّ يَنزلُ أهْلُ السَّماءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نزلَ مِنَ المَلائِكَةِ، وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِيها مِنَ الجِنّ وَالإنْسِ، حتى إذَا دَنَوْا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرضُ بِنُورِهِمْ، وأخَذُوا مَصَافَّهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ: أفِيكُمْ رَبُّنا؟ قالوا: لا وَهُوَ آتٍ. ثُمَّ نزلَ أهْلُ السَّمَوَاتِ عَلى قَدْرِ ذلكَ مِنَ الضِّعْفِ حتى نزلَ الجَبَّارُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةِ، وَلَهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ، يَقُولُونَ: سُبْحانَ ذِي المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ، سُبْحانَ رَبِّ العَرْشِ ذِي الجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ سُبْحانَ الَّذِي يميت الخلائق ولا يَمُوتُ، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلائِكَةِ والرُّوحِ، قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، سُبْحانَ رَبِّنا الأعْلَى سُبْحان ذِي الجَبرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِياءِ والسُّلْطانِ والعَظَمَةِ سُبْحانَهُ أبَدًا أبَدًا، يَحْمِلُ عَرْشَهُ يَوْمَئِذٍ ثمَانِيَةٌ، وَهمُ اليَوْمَ أرْبَعَةٌ، أقْدَامُهُم على تُخُومِ الأرْضِ السُّفْلَى، والسَّمَوَاتُ إلى حُجَزِهِمْ، وَالعَرْشُ عَلى مَناكِبِهمْ، فَوَضَعَ الله عَرْشَهُ حَيْثُ شَاء مِنَ الأرْض، ثُمَّ يُنادِي بِنِدَاءٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ فَيَقُولُ يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ، إنِّي قَدْ أنْصَتُّ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقْتُكُمْ إلى يَوْمِكُمْ هَذَا، أسمَعُ كَلامَكُمْ، وأُبْصِرُ أعمالَكمْ، فَأنْصِتُوا إليَّ، فإنَّمَا هِيَ صُحُفُكُمْ وأعمالكُمْ تُقْرأُ علَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيرَ ذلكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ، ثُمَّ يأْمُرُ اللهُ جَهَنَّمَ فَتُخْرِجُ مِنْها عُنُقا ساطِعا مُظْلِما، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) إلى قوله: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) فيتميز الناس ويَجْثُونَ، وَهِيَ التي يَقُولُ اللهُ: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ ... ) الآية، فَيَقْضِي اللهُ بَينَ خَلْقِهِ الجِنِّ والإنْسِ وَالْبَهائمِ، فإنَّهُ لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ لِلْجَمَّاءِ مِنْ ذَاتِ القُرُونِ، حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدةٍ لأخْرَى قال اللهُ: كُونُوا تُرَابًا، فَعِنْدَ ذلكَ يَقُولُ الكافِرُ يا لَيْتَني كُنْتُ تُرَابًا، ثُمَّ يَقْضِي اللهُ سُبْحانَهُ بَينَ الجِنِّ والإنْسِ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) صفوف الملائكة.
وقوله: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) يقول تعالى ذكره: وجاء الله يومئذ بجهنم.
كما حدثنا الحسن بن عرفة قال: ثنا مروان الفزاريّ، عن العلاء بن خالد الأسديّ، عن شقيق بن سلمة، قال: قال عبد الله بن مسعود، في قوله: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال: جيء بها تُقاد بسبعين ألف زمام، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك يقودونها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال: يُجاء بها يوم القيامة تُقاد بسبعين ألف زمام، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن قتادة، قال: جَنْبتيه: الجنة والنار؛ قال: هذا حين ينزل من عرشه إلى كرسيه لحساب خلقه، وقرأ: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال: جيء بها مزمومة.
وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ) يقول تعالى ذكره: يومئذ يتذكر الإنسان تفريطه في الدنيا في طاعة الله، وفيما يقرّب إليه من صالح الأعمال (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) يقول: من أيّ وجه له التذكير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/419)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) يقول: وكيف له(24/421)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) } .
وقوله: (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) يقول تعالى ذكره مخبرا عن تلهُّف ابن آدم يوم القيامة، وتندّمه على تفريطه في الصَّالِحات من الأعمال في الدنيا التي تورثه بقاء الأبد في نعيم لا انقطاع له، يا ليتني قدمت لحياتي في الدنيا من صالح الأعمال لحياتي هذه، التي لا موت بعدها، ما ينجيني من غضب الله، ويوجب لي رضوانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) قال: علم الله أنه صادق، هناك حياة طويلة لا موت فيها آخر ما عليه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) هُناكُم والله الحياة الطويلة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) قال: الآخرة.
وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) أجمعت القرّاء قرّاء الأمصار في قراءة ذلك على كسر الذال من يعذّب، والثاء من يوثق، خلا الكسائي،(24/421)
فإنه قرأ ذلك بفتح الذال والثاء اعتلالا منه بخبر - رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأه كذلك - واهي الإسناد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن خارجة، عن خالد الحذّاء، عن أبي قِلابة، قال: ثني من أقرأه النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، وذلك كسر الذال والثاء لإجماع الحجة من القرّاء عليه. فإذَا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: فيومئذ لا يعذَّب بعذاب الله أحد في الدنيا، ولا يوثق كوثاقه يومئذ أحد في الدنيا. وكذلك تأوّله قارئو ذلك كذلك من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) ولا يوثِق كوثاق الله أحد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) قال: قد علم الله أن في الدنيا عذابا وَوَثاقا، فقال: فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد في الدنيا، ولا يُوثِق وثاقه أحد في الدنيا.
وأما الذي قرأ ذلك بالفتح، فإنه وجَّه تأويله إلى: فيومئذ لا يعذَّب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ ولا يوثق أحد في الدنيا كوثاقه يومئذ. وقد تأوّل ذلك بعض من قرأ ذلك كذلك بالفتح من المتأخرين، فيومئذ لا يعذَّب عذاب الكافر أحَد ولا يُوثَق وثاق الكافر أحد. وقال: كيف يجوز الكسر، ولا معذّب يومئذ سوى الله وهذا من التأويل غلط؛ لأن أهل التأويل تأوّلوه بخلاف ذلك، مع إجماع الحجة من القرّاء على قراءته بالمعنى الذي جاء به تأويل أهل التأويل، وما أحسبه دعاه إلى قراءة ذلك كذلك، إلا ذهابه عن وجه صحته في التأويل.
وقوله: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الملائكة لأوليائه يوم القيامة: يا أيتها النفس المطمئنة، يعني بالمطمئنة: التي اطمأنت إلى وعد الله الذي وعد أهل الإيمان به في الدنيا من الكرامة في الآخرة، فصدّقت بذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.(24/422)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) يقول: المصدّقة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة والحسن، في قوله: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: المطمئنة إلى ما قال الله، والمصدّقة بما قال.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: المصدّقة الموقِنة بأن الله ربها، المسلمة لأمره فيما هو فاعل بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: النفس التي أيقنت أن الله ربها، وضربت جأشا لأمره وطاعته.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: أيقنت بأن الله ربها، وضربت لأمره جأشا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: المنيبة المخبتة التي قد أيقنت أن الله ربها، وضربت لأمره جأشا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: أيقنت بأن الله ربها، وضربت لأمره جأشا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (المُطْمَئِنَّةُ) قال: المُخبِتة والمطمئنة إلى الله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: التي قد أيقنت بأن الله ربها، وضربت لأمره جأشا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُليَّة، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: المخبِتة.
حدثني سعيد بن الرييع الرازيّ، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد(24/423)
(يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: التي أيقنت بلقاء الله، وضربت له جأشا.
وُذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ (يا أيَّتُها النَّفْسُ الآمِنَةُ) .
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا خلاد بن أسلم قال: أخبرنا النضر، عن هارون القاري قال: ثني هلال، عن أبي شيخ الهنائي في قراءة أُبيّ (يا أيَّتُها النَّفْسُ الآمِنَةُ المُطْمَئِنَّةُ) وقال الكلبي: إن الآمنة في هذا الموضع، يعني به: المؤمنة.
وقيل: إن ذلك قول الملك للعبد عند خروج نفسه مبشرة برضا ربه عنه، وإعداده ما أعدّ له من الكرامة عنده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن جعفر، عن سعيد، قال: قُرئت: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: إن هذا لحسن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنَّ المَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ عِنْدَ المَوتِ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) قال هذا عند الموت (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) قال هذا يوم القيامة.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أُسامة بن زيد، عن أبيه في قوله: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال: بُشِّرت بالجنة عند الموت، ويوم الجمع، وعند البعث.
وقوله: (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: هذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قيل الملائكة لنفس المؤمن عند البعث، تأمرها أن ترجع في جسد صاحبها؛ قالوا: وعُنِيَ بالردّ هاهنا صاحبها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) قال: تردّ الأرواح المطمئنة يوم القيامة في الأجساد.(24/424)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) يأمر الله الأرواح يوم القيامة أن ترجع إلى الأجساد، فيأتون الله كما خلقهم أول مرّة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن عكرِمة في هذه الآية (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) إلى الجسد.
وقال آخرون: بل يقال ذلك لها عند الموت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) قال: هذا عند الموت (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) قال: هذا يوم القيامة.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن عباس والضحاك، أن ذلك إنما يقال لهم عند ردّ الأرواح في الأجساد يوم البعث لدلالة قوله: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: فادخلي في عبادي الصالحين، وادخلي جنتي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) قال: ادخلي في عبادي الصالحين (وَادْخُلِي جَنَّتِي) .
وقال آخرون: معنى ذلك: فادْخُلِي فِي طاعَتِي وادْخُلِي جَنَّتِي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن نعيم بن ضمضم، عن محمد بن مزاحم أخي الضحاك بن مُزاحم (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) قال: في طاعتي (وَادْخُلِي جَنَّتِي) قال: في رحمتي.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يوجِّه معنى قوله: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) إلى: فادخلي في حزبي.
وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يتأوّل ذلك (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)(24/425)
بالإيمان والمصدقة بالثواب والبعث ارجعي، تقول لهم الملائكة: إذا أُعطوا كتبهم بأيمانهم (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) إلى ما أعدّ الله لك من الثواب؛ قال: وقد يكون أن تقول لهم: شِبْه هذا القول ينوون ارجعوا من الدنيا إلى هذا المرجع؛ قال: وأنت تقول للرجل ممن أنت؟ فيقول: مُضَريّ، فتقول: كن تميميا أو قيسيا، أي: أنت من أحد هذين، فتكون كن صلة، كذلك الرجوع يكون صلة، لأنه قد صار إلى يوم القيامة، فكان الأمر بمعنى الخبر، كأنه قال: أيتها النفس أنت راضية مرضية.
وقد رُوي عن بعض السلف أنه كان يقرأ ذلك: (فادْخُلِي فِي عبدِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن أبان بن أبي عياش، عن سليمان بن قَتَّةَ عن ابن عباس، أنه قرأها (فادْخُلِي فِي عَبْدي) على التوحيد.
حدثني خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، عن هارون القاري، قال: ثني هلال، عن أبي الشيخ الهنائي (فادْخُلِي فِي عَبْدِي) . وفي قول الكلبي (فادْخُلِي فِي عَبْدِي وَادْخُلِي فِي جَنَّتِي) يعني: الروح ترجع في الجسد.
والصواب من القراءة في ذلك (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) بمعنى: فادخلي في عبادي الصالحين. لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
آخر تفسير سورة والفجر(24/426)
تفسير سورة البلد(24/427)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) } .
يقول تعالى ذكره: أقسم يا محمد بهذا البلد الحرام، وهو مكة، وكذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: مكة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: مكة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: الحرام.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: البلد مكة.
حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الملك، عن(24/429)
عطاء، في قوله: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني مكة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: مكة.
وقوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: بمكة؛ يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنت يا محمد حِلٌّ بهذا البلد، يعني بمكة؛ يقول: أنت به حلال تصنع فيه من قَتْلِ من أردت قتلَه، وأَسْرِ من أردت أسره، مُطْلَقٌ ذلك لك؛ يقال منه: هو حِلّ، وهو حلال، وهو حِرْم، وهو حرام، وهو محلّ، وهو محرم، وأحللنا، وأحرمنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني بذلك: نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، أحلّ الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء، ويستحْيِي من شاء؛ فقتل يومئذ ابن خَطَل صَبْرا وهو آخذ بأستار الكعبة، فلم تحِل لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل فيها حراما حرّمه الله، فأحلّ الله له ما صنع بأهل مكة، ألم تسمع أن الله قال في تحريم الحرم: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) يعني بالناس أهل القبلة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: ما صنعت فأنت في حلّ من أمر القتال.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: أحلّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع فيه ساعة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: أحل له أن يصنع فيه ما شاء.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: أُحِلَّت للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: اصنع فيها ما شئت.(24/430)
حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا حسين الجُعْفِيّ، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد، في قول الله (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: أنت حِلّ مما صنعت فيه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: أحلّ الله لك يا محمد ما صنعت في هذا البلد من شيء، يعني مكة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: لا تؤاخَذ بما عملت فيه، وليس عليك فيه ما على الناس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يقول: بريء عن الحرج والإثم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يقول: أنت به حلّ لست بآثم.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: لم يكن بها أحد حلا غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، كلّ من كان بها حراما، لم يحلّ لهم أن يقاتلوا فيها، ولا يستحلوا حرمه، فأحله الله لرسوله، فقاتل المشركين فيه.
حدثنا سوار بن عبد الله، قال حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الملك، عن عطاء (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) قال: إن الله حرّم مكة، لم تحلّ لنبيّ إلا نبيكم ساعة من نهار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني محمدا، يقول: أنت حلّ بالحرم، فاقتل إن شئت، أو دع.
وقوله: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) يقول تعالى ذكره: فأقسم بوالد وبولده الذي وَلَد.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنّي بذلك من الوالد وما ولد، فقال بعضهم: عُنِي بالوالد: كلّ والد، وما ولد: كلّ عاقر لم يلد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عطية، عن شريك، عن خصيف، عن(24/431)
عكرمة، عن ابن عباس في: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: الوالد: الذي يلد، وما ولد: العاقر الذي لا يولد له.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: العاقر، والتي تلد.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن عكرِمة (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: العاقر، والتي تلد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: هو الوالد وولده.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: آدم وولده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: الوالد: آدم، وما ولد: ولده.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: ولده.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: آدم وما ولد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: آدم وما ولد.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن ابن أبي خالد، عن أبي صالح في قول الله (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: آدم وما ولد.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: الوالد: آدم، وما ولد: ولده.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قوله: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: آدم وما ولد.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن عبيد، عن إسماعيل(24/432)
بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: آدم وما ولد.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: إبراهيم وما ولد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن موسى الحَرَشيّ، قال: ثنا جعفر بن سليمان، قال: سمعت أبا عمران الجَوْنِيّ يقرأ: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال: إبراهيم وما ولد.
والصواب من القول في ذلك: ما قاله الذي قالوا: إن الله أقسم بكلّ والد وولده، لأن الله عم كلّ والد وما ولد. وغير جائز أن يخصّ ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر، أو عقل، ولا خبر بخصوص ذلك، ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه، فهو على عمومه كما عمه.
وقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) وهذا هو جواب القسم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: وقع ها هنا القسم (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: لقد خلقنا ابن آدم في شدّة وعناء ونصب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) يقول: في نَصَب.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، أنه قال في هذه الآية: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) يقول: في شدّة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) حين خُلِق في مشقة لا يُلَقى ابن آدم إلا مكابد أمر الدنيا والآخرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فِي كَبَدٍ) قال: يكابد أمر الدنيا والآخرة.
وقال بعضهم: خُلِق خَلْقا لم نَخْلق خلقه شيئا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن عليّ بن رفاعة، قال: سمعت الحسن(24/433)
يقول: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يُكابد ابن آدم.
قال: ثنا وكيع، عن عليّ بن رفاعة، قال: سمعت سعيد بن أبي الحسن يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة.
قال: ثنا وكيع، عن النضر، عن عكرِمة قال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: في شدّة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: في شدّة.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: في شدّة معيشته، وحمله وحياته، ونبات أسنانه.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: قال مجاهد (الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: شدة خروج أسنانه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: شدّة.
وقال آخرون: معنى ذلك أنه خُلِق منتصبا معتدل القامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: في انتصاب، ويقال: في شدّة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرمى بن عمارة، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن عكرِمة، في قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: في انتصاب، يعني القامة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: منتصبا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران؛ وحدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، جميعا عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.(24/434)
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن شَدَّاد، في قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: معتدلا بالقامة، قال أبو صالح: معتدلا في القامة.
حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن إسماعيل، عن أبي صالح (خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: قائما.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (فِي كَبَدٍ) خُلِق منتصبا على رجلين، لم تخلق دابة على خلقه
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مُغيرة، عن مجاهد (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: في صَعَد.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنه خُلق في السماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال: في السماء، يسمى ذلك الكَبَد.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: معنى ذلك أنه خلق يُكابد الأمور ويُعالجها، فقوله: (فِي كَبَدٍ) معناه: في شدّة.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب؛ لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب من معاني الكَبَد، ومنه قول لبيد بن ربيعة:
عَيْنِ هَلا بَكَيْتِ أرْبَدَ إذْ ... قُمْنا وَقَامَ الخُصُومِ فِي كَبَد (1)
وقوله: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) ذُكر أن ذلك نزل في رجل بعينه من بني جُمح، كان يُدعى أبا الأشدّ، وكان شديدًا، فقال جلّ ثناؤه: أيحسب هذا القويّ بجَلَده وقوّته، أن لن يقهره أحد ويغلبه، فالله غالبه وقاهره.
وقوله: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا) يقول هذا الجليد الشديد: أهلكت مالا
__________
(1) يعني أن حاجة الأولى منهما كحاجة الثانية، فلذلك وجب تكرارها. سياق العبارة: "فكان معلومًا أن حاجة كل كلمة. . . وكان معلومًا أم الصواب أن تكون معها. . . وكان بينًا. . . " إلى آخر الفقرة.(24/435)
كثيرا، في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأنفقت ذلك فيه، وهو كاذب في قوله ذلك، وهو فعل من التلبُّد، وهو الكثير، بعضه على بعض، يقال منه: لبد بالأرض يَلْبُد: إذا لصق بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (مَالا لُبَدًا) يعني باللبد: المال الكثير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مَالا لُبَدًا) قال: كثيرا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مسلم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا) . قال: مالا كثيرا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا) : أي كثيرا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مَالا لُبَدًا) قال: اللبد: الكثير.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: (مَالا لُبَدًا) بتخفيف الباء. وقرأه أبو جعفر بتشديدها.
والصواب بتخفيفها، لإجماع الحجة عليه.
وقوله: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) يقول تعالى ذكره: أيظن هذا القائل (أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا) أن لم يره أحد في حال إنفاقه يزعم أنه أنفقه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) ابن آدم إنك مسئول عن هذا المال، من أين اكتسبته، وأين أنفقته.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.(24/436)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) } .
يقول تعالى ذكره: ألم نجعل لهذا القائل (أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا) عينين يبصر بهما حجج الله عليه، ولسانا يعبر به عن نفسه ما أراد، وشفتين، نعمة منا بذلك عليه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) نِعَم من الله متظاهرة، يقررك بها كيما تشكره.
وقوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) يقول تعالى ذكره: وهديناه الطريقين، ونجد: طريق في ارتفاع.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: عُنِي بذلك: نَجْد الخير، ونَجْد الشرّ، كما قال: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال: الخير والشرّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن منذر، عن أبيه، عن الربيع بن خثيم، قال: ليسا بالثديين.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمران، جميعا عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال: نجد الخير، ونجد الشرّ.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا هشام بن عبد الملك، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عاصم، قال: سمعت أبا وائل يقول: كان عبد الله يقول في: (وَهَدَيْنَاهُ(24/437)
النَّجْدَيْنِ) قال: نجد الخير، ونجد الشرّ.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) يقول: الهدي والضلالة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) يقول: سبيل الخير والشرّ.
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة، في قوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال: الخير والشرّ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن الربيع بن خثيم، عن أبي بُردة، قال: مرّ بنا الربيع بن خثيم، فسألناه عن هذه الآية: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) فقال: أما إنهما ليسا بالثديين.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الخير والشرّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال: سبيل الخير والشرّ.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) نجد الخير، ونجد الشرّ.
حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا يونس، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ خَيْرٍ، وَنَجْدُ شَرّ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرّ أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ".
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا عطية أبو وهب، قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا إنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ الخَيْرِ، وَنَجْدُ الشَّرّ، فَمَا يَجَعَلُ نَجْدَ الشَّرِّ أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا هشام بن عبد الملك، قال: ثنا شعبة، عن حبيب، عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوه.(24/438)
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن يقول (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " يا أيُّها النَّاسُ إنَّمَا هُمَا النَجْدَانِ: نَجْدُ الخَيْرِ، وَنَجْدُ الشَّرّ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرّ أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أيُّها النَّاسُ إنَّمَا هُمَا النَجْدَانِ: نَجْدُ الخَيْرِ، وَنَجْدُ الشَّرّ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرّ أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرّ أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْرِ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قاطع طريق الخير والشرّ. وقرأ قول الله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهديناه الثَّديين: سبيلي اللبن الذي يتغذّى به، وينبت عليه لحمه وجسمه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا عيسى بن عقال، عن أبيه، عن ابن عباس (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال: هما الثديان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن المبارك بن مجاهد، عن جُويبر، عن الضحاك، قال: الثديان.
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا: قول من قال: عُنِي بذلك طريق الخير والشرّ، وذلك أنه لا قول في ذلك نعلمه غير القولين اللذين ذكرنا، والثديان وإن كانا سبيلي اللبن، فإن الله تعالى ذكْره إذ عدّد على العبد نِعَمه بقوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) إنما عدّد عليه هدايته إياه إلى سبيل الخير من نعمه، فكذلك قوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) .
وقوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) يقول تعالى ذكره: فلم يركب العقبة فيقطعها ويحوزها.
وذُكر أن العقبة: جبل في جهنم.(24/439)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا يحيى بن كثير، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قول الله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قال: عَقَبةٌ في جهنم.
حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن عطية، عن ابن عمر، في قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) جبل من جهنم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قال: جهنم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) إنها قحمة شديدة، فاقتحموها بطاعة الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قال: للنار عقبة دون الجسر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدّث عن يزيد بن أبى حبيب، عن شعيب بن زُرْعة، عن حنش، عن كعب، أنه قال: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قال: هو سبعون درجة في جهنم.
وأفرد قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) بذكر " لا " مرّة واحدة، والعرب لا تكاد تفردها في كلام في مثل هذا الموضع، حتى يكرّرها مع كلام آخر، كما قال: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وإنما فعل ذلك كذلك في هذا الموضع، استغناء بدلالة آخر الكلام على معناه، من إعادتها مرّة أخرى، وذلك قوله إذ فسَّر اقتحام العقبة، فقال: (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، ففسر ذلك بأشياء ثلاثة، فكان كأنه في أوّل الكلام، قال: فلا فَعَل ذا وَلا ذا ولا ذا. وتأوّل ذلك ابن زيد، بمعنى: أفلا ومن تأوّله كذلك، لم يكن به حاجة إلى أن يزعم أن في الكلام متروكا. * ذكر الخبر بذلك عن ابن زيد:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ قول الله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قال: أفلا سلك الطريق التي منها النجاة والخير، ثم قال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) .(24/440)
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) يقول تعالى ذكره: وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما العقبة.
ثم بين جلّ ثناؤه له، ما العقبة، وما النجاة منها، وما وجه اقتحامها؟ فقال: اقتحامها وقطعها فكّ رقبة من الرقّ، وأسر العبودة.
كما حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُليَّة، عن أبي رجاء، عن الحسن (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ) قال: ذُكر لنا أنه ليس مسلم يعتق رقبة مسلمة، إلا كانت فداءه من النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ) ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الرقاب أيها أعظم أجرا؟ قال: " أكثرها ثمنا ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثنا سالم بن أبي الجعد، عن مَعْدانِ بن أبي طلحة، عن أبي نجيح، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلا مُسْلِمًا، فإنَّ اللهَ جَاعِلٌ وَفَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ، عَظْما مِنْ عِظامِ مُحَرّرِهِ مِنْ النَّار؛ وأيُّمَا امْرأةٍ مُسْلِمَةٍ أعْتَقَتِ امْرَأةً مُسْلِمَةً، فإنَّ اللهَ جَاعِلٌ وَفَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنَ عِظَامِهَا، عَظْما مِنَ عِظامِ مُحَرّرِها مِنَ النَّار ".
قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن قيس الجذاميّ، عن عقبة بن عامر الجهنيّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ أعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، فَهِيَ فِدَاؤُهُ مِنَ النَّارِ ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) ثم أخبر عن اقتحامها فقال: (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ) .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء البصرة، عن ابن أبي إسحاق، ومن الكوفيين: الكسائي (فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ) وكان أبو عمرو بن العلاء يحتجّ فيما بلغني فيه بقوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) كأن معناه: كان عنده، فلا فكّ رقبة ولا أطعم، ثم كان من الذين آمنوا. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشام (فَكُّ رَقَبَةٍ) على الإضافة (أَوْ إِطْعَامٌ) على وجه المصدر.
والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، وتأويل مفهوم، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فقراءته إذا قرئ(24/441)
على وجه الفعل تأويله: فلا اقتحم العقبة، لا فكّ رقبة، ولا أطعم، ثم كان من الذين آمنوا، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) على التعجب والتعظيم وهذه القراءة أحسن مخرجا في العربية، لأن الإطعام اسم، وقوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) فعل، والعرب تُؤثِر ردّ الأسماء على الأسماء مثلها، والأفعال على الأفعال، ولو كان مجيء التَّنزيل ثم إن كان من الذين آمنوا، كان أحسن، وأشبه بالإطعام والفكّ من ثم كان، ولذلك قلت: (فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ) أوجه في العربية من الآخر، وإن كان للآخر وجه معروف، ووجهه أنْ تضمر " أنْ " ثم تلقي، كما قال طرفة بن العبد:
ألا أيُّهَا ذَا الزَّاجِرِي أحْضُرَ الْوَغَى ... وأنْ أشْهَدَ اللَّذَّاتِ هلْ أنتَ مُخْلِدي (1)
بمعنى: ألا أيهاذا الزاجري أن أحضر الوغى. وفي قوله: " أن أشهد "الدلالة البينة على أنها معطوفة على أن أخرى مثلها، قد تقدّمت قبلها، فذلك وجه جوازه. وإذا وُجِّه الكلام إلى هذا الوجه كان قوله: (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ) تفسيرًا لقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) كأنه قيل: وما أدراك ما العقبة؟ هي فكّ رقبة (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) كما قال جلّ ثناؤه: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ) ، ثم قال: (نَارٌ حَامِيَةٌ) مفسرا لقوله: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) ، ثم قال: وما أدراك ما الهاوية؟ هي نار حامية.
وقوله: (أَوْ أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ)
يقول: أو أطعم في يوم ذي مجاعة، والساغب: الجائع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أو أطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) يوم مجاعة.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثني خالد بن حيان الرقي أبو يزيد، عن جعفر بن برقان، عن عكرِمة في قول الله (أو أطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) قال: ذي مجاعة.
__________
(1) يأتي بتمامه وتخريجه برقم 179.(24/442)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) قال: الجوع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أو أطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) يقول: يوم يُشْتَهَى فيه الطعام.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عثمان الثقفي، عن مجاهد، عن ابن عباس (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) قال: مجاعة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عثمان بن المُغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله: (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) قال: مجاعة.
وقوله: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) يقول: أو أطعم في يوم مجاعة صغيرًا لا أب له من قرابته، وهو اليتيم ذو المقرَبة؛ وعُنِي بذي المقربة: ذا القرابة.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) قال: ذَا قرابة.
وقوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ذَا مَتْرَبَةٍ) فقال بعضهم: عُنِيَ بذلك: ذو اللصوق بالتراب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، قال: أخبرني المُغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: الذي ليس له مأوى إلا التراب.
حدثنا مطرِّف بن محمد الضبيّ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شعبة، عن المُغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن حُصين، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قول الله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: الذي لا يُواريه إلا التراب.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا أبو عاصم، عن شعبة، عن المُغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس (ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: الذي ليس له مَأوًى إلا التراب.(24/443)
حدثنا ابن حميد، قال: ثني جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس (مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: الذي ليس له مَأوًى إلا التراب.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: المسكين؛ المطروح في التراب.
حدثني أبو حصين قال: ثنا عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عَبْثَرٌ، عن حصين، عن مجاهد، عن ابن عباس، قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: الذي لا يقيه من التراب شيء.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين والمغيرة كلاهما، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال في قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: هو اللازق بالتراب من شدّة الفقر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: التراب الملقى على الطريق على الكُناسة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طَلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: هو المسكين الملقى بالطريق بالتراب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الحصين، عن مجاهد (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: المطروح في الأرض، الذي لا يقيه شيء دون التراب.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حصين، عن مجاهد، عن ابن عباس (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: هو المُلزق بالأرض، لا يقيه شيء من التراب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حصين وعثمان بن المُغيرة، عن مجاهد عن ابن عباس (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال الذي ليس له شيء يقيه من التراب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: ساقط في التراب.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن جعفر بن برقان، قال: سمع عكرِمة(24/444)
(أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: الملتزق بالأرض من الحاجة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عكرِمة، في قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: التراب اللاصق بالأرض.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عثمان بن المُغيرة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: المُلقى في الطريق الذي ليس له بيت إلا التراب.
وقال آخرون: بل هو المحتاج، كان لاصقا بالتراب، أو غير لاصق؛ وقالوا: إنما هو من قولهم: تَرِب الرجل: إذا افتقر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) يقول: شديد الحاجة.
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن عكرِمة، في قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: هو المحارَف الذي لا مال له.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: ذا حاجة، الترب: المحتاج.
وقال آخرون: بل هو ذو العيال الكثير الذين قد لصقوا بالتراب من الضرّ وشدّة الحاجة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) يقول: مسكين ذو بنين وعيال، ليس بينك وبينه قرابة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر بن أبي المُغيرة، عن سعيد بن جُبير، في قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: ذا عِيال.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) كنا نحدّث أن الترب هو ذو العيال الذي لا شيء له.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) ذا عيال لاصقين بالأرض، من المسكنة والجهد.(24/445)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: عُنِيَ به: أو مسكينا قد لصق بالتراب من الفقر والحاجة؛ لأن ذلك هو الظاهر من معانيه. وأن قوله: (مَتْرَبَةٍ) إنما هي " مَفْعَلةٍ " من ترب الرجل: إذا أصابه التراب.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) } .
يقول تعالى ذكره: ثم كان هذا الذي قال: (أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا) من الذين آمنوا بالله ورسوله، فيؤمن معهم كما آمنوا (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) يقول: وممن أوصى بعضهم بعضا بالصبر على ما نابهم في ذات الله (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) يقول: وأوصى بعضهم بعضًا بالمرحمة.
كما حدثنا محمد بن سنان والقزّاز، قال: ثنا أبو عاصم عن شبيب، عن عكرِمة، عن ابن عباس (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) قال: مَرْحَمة الناس.
وقوله: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) يقول: الذين فعلوا هذه الأفعال التي ذكرتها، من فكّ الرقاب، وإطعام اليتيم، وغير ذلك، أصحاب اليمين، الذين يؤخذ بهم يوم القيامة ذات اليمين إلى الجنة.
وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا) يقول: والذين كفروا بأدلتنا وأعلامنا وحججنا من الكتب والرُّسل وغير ذلك (هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) يقول: هم أصحاب الشمال يوم القيامة الذين يؤخذ بهم ذات الشمال. وقد بيَّنا معنى المشأمة، ولم قيل لليسار المشأمة فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ) يقول تعالى ذكره: عليهم نار جهنم يوم القيامة مُطْبََقة؛ يقال منه: أوصدت وآصدت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن(24/446)
ابن عباس، قوله: (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ) قال: مُطْبَقة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ) قال: مُطْبَقة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ) : أي مُطْبَقة، أطبقها الله عليهم، فلا ضوء فيها ولا فرج، ولا خروج منها آخر الأبد.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (مُؤْصَدَةٌ) : مغلقة عليهم.
آخر تفسير سورة لا أُقسم بهذا البلد.(24/447)
24-449(24/448)
تفسير سورة الشمس(24/449)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) } .
قوله: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) قسم أقسم ربنا تعالى ذكره بالشمس وضحاها؛ ومعنى الكلام: أقسم بالشمس، وبضحى الشمس.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (وَضُحَاهَا) فقال بعضهم: معنى ذلك: والشمس والنهار، وكان يقول: الضحى: هو النهار كله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) قال: هذا النهار.
وقال آخرون: معنى ذلك: وضوئها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) قال: ضوئها.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: أقسم جلّ ثناؤه بالشمس ونهارها؛ لأن ضوء الشمس الظاهرة هو النهار.(24/451)
وقوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) يقول تعالى ذكره: والقمر إذا تبع الشمس، وذلك في النصف الأوّل من الشهر، إذا غُربت الشمس، تلاها القمر طالعا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) قال: يتلو النهار.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، قوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) يعني: الشمس إذا تبعها القمر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) قال: تبعها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) يتلوها صبيحة الهلال فإذا سقطت الشمس رُؤي الهلال.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) قال: إذا تلاها ليلة الهلال.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) قال: هذا قسم، والقمر يتلو الشمس نصف الشهر الأوّل، وتتلوه النصف الآخر، فأما النصف الأوّل فهو يتلوها، وتكون أمامه وهو وراءها، فإذا كان النصف الآخر كان هو أمامها يقدمها، وتليه هي.
وقوله: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا) يقول: والنهار إذا جَلاهَا، قال: إذا أضاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا) قال: إذا غشيها النهار. وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك بمعنى: والنهار إذا جلا الظلمة، ويجعل الهاء والألف من جلاها كناية عن الظلمة، ويقول: إنما جاز الكناية عنها، ولم يجز لها ذكر قبل، لأن معناها معروف، كما يعرف معنى قول القائل: أصبحت باردة، وأمست باردة، وهبَّت شمالا فكني عن مؤنثات لم يجر لها ذكر، إذ كان معروفا معناهن.
والصواب عندنا في ذلك: ما قاله أهل العلم الذين حكينا قولهم، لأنهم أعلم(24/452)
بذلك، وإن كان للذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العربية وَجْهٌ.
وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) يقول تعالى ذكره: والليل إذا يغشي الشمس، حتى تغيب فَتُظْلِمُ الآفَاقُ.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) : إذا غَشَّاها الليل.
وقوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) يقول جلّ ثناؤه: والسماء ومَنْ بناها، يعني: ومَنْ خَلَقها، وبناؤه إياها: تصييره إياها للأرض سقفا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) وبناؤها: خَلْقُها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) قال: الله بنى السماء.
وقيل: (وَمَا بَنَاهَا) وهو جلّ ثناؤه بانيها، فوضع "ما" موضع "مَنْ" كما قال (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) ، فوضع "ما" في موضع "مَنْ" ومعناه، ومَن ولد، لأنه قَسَمٌ أقسم بآدم وولده، وكذلك: (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، وقوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) وإنما هو: فانكحوا مَنْ طاب لكم. وجائز توجيه ذلك إلى معنى المصدر، كأنه قال: والسماء وبنائها، ووالد وولادِته.
وقوله: (وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا) وهذه أيضا نظير التي قبلها، ومعنى الكلام: والأرض ومَنْ طحاها.
ومعنى قوله: (طَحَاهَا) : بسطها يمينا وشمالا ومن كلّ جانب.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (طَحَاهَا) فقال بعضهم: معنى ذلك: والأرض وما خلق فيها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،(24/453)
عن أبيه، عن ابن عباس: (وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا) يقول: ما خلق فيها.
وقال آخرون: يعني بذلك: وما بسطها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا عيسى؛ وحدتني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا) قال: دحاها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَا طَحَاهَا) قال: بَسَطَها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما قسمها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا) يقول: قسمها.
وقوله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) يعني جلّ ثناؤه بقوله: (وَمَا سَوَّاهَا) نفسه؛ لأنه هو الذي سوّى النفس وخلقها، فعدّل خلقها، فوضع "ما" موضع "مَنْ" وقد يُحتمل أن يكون معنى ذلك أيضا المصدر، فيكون تأويله: ونفس وتسويَتها، فيكون القسم بالنفس وبتسويتها.
وقوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) يقول تعالى ذكره: فبين لها ما ينبغي لها أن تأتي أو تذر من خير، أو شرّ أو طاعة، أو معصية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) يقول: بَيَّنَ الخيرَ والشرَّ.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) يقول: بين الخيرَ والشرَّ.
محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) قال: علَّمها الطاعة والمعصية.(24/454)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) قال: عَرَّفَها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) : فبَيَّن لها فجورها وتقواها.
وحُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) ، بين لها الطاعةَ والمعصيةَ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) قال: أعلمها المعصية والطاعة.
قال: ثنا مِهْران، عن سفيان، عن الضحاك بن مزاحم (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) قال: الطاعةَ والمعصيةَ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن الله جعل فيها ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) قال: جعل فيها فجورَها وتقواها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصم النبيل، قالا ثنا عزرة بن ثابت، قال: ثني يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يَعْمَر، عن أبي الأسود الدّيلي، قال: قال لي عمران بن حُصين: أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه أشيء قُضِيَ عليهم، ومضى عليهم من قَدَرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام، وأكدت عليهم الحجة؟ قلت: بل شيء قُضِيَ عليهم، قال: فهل يكون ذلك ظلما؟ قال: ففزعت منه فزعا شديدا، قال: قلت له: ليس شيء إلا وهو خَلْقُه، ومِلْكُ يده، (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) قال: سددّك الله، إنما سألتك "أظنه أنا" لأخْبُرَ عقلك. إن رجلا من مُزَينة أو جهينة، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون أشيء قضي عليهم، ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم عليه السلام وأكّدت به عليهم الحجة؟ قال: "فِي شَيء قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ"؛ قال: ففيم(24/455)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
نعملُ؟ قال: "مَنْ كانَ اللهُ خَلَقَهُ لإحْدَى المَنزلَتَينِ يُهَيِّئُهُ لَهَا، وَتَصْدِيقُ ذَلكَ فِي كِتَابِ اللهِ: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) ".
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) } .
قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) يقول: قد أفلح من زكَّى الله نفسه، فكثَّر تطهيرها من الكفر والمعاصي، وأصلحها بالصالحات من الأعمال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) يقول: قد أفلح من زكَّى اللهُ نفسه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خَصِيفٍ، عن مجاهد وسعيد بن جُبير وعكرِمة: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) قالوا: من أصلحها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد وسعيد بن جُبير، ولم يذكر عكرِمة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) من عمل خيرا زكَّاها بطاعة الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) قال: قد أفلح من زكَّى نفسَه بعمل صالح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) يقول: قد أفلح من زكى اللهُ نفسَه.
وهذا هو موضع القسم؛ كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،(24/456)
عن قتادة، قال: قد وقع القسم ها هنا (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) وقد ذكرتُ ما تقول أهل العربية في ذلك فيما مضى من نظائره قبل.
وقوله: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) يقول تعالى ذكره: وقد خاب في طِلبته، فلم يُدرك ما طلب والتمس لنفسه مِن الصلاح مَنْ دساها يعني: من دَسَّس الله نفسه فأَخْمَلها، ووضع منها، بخُذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصِيَ، وترك طاعة الله. وقيل: دسَّاها وهي دَسَّسها، فقُلبت إحدى سيناتها ياء، كما قال العجَّاج:
تَقَضِّيَ الْبازِي إذا البازِي كَسَرْ (1)
يريد: تَقَضُّض. وتظنَّيت هذا الأمر، بمعنى: تظننت، والعرب تفعل ذلك كثيرا، فتبدل في الحرف المشدّدة بعض حروفه، ياء أحيانا، وواوا أحيانا؛ ومنه قول الآخر:
يَذْهَبُ بِي فِي الشِّعْرِ كُلَّ فَنَّ ... حتى يَرُدَّ عَنِّي التَّظَنِّي (2)
يريد: التظنن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) يقول: وقد خاب من دَسَّى اللهُ نَفسَه فأضلَّه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) يعني: تكذيبها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد وسعيد بن جُبير (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) قال أحدهما: أغواها، وقال الآخر: أضلَّها.
__________
(1) لم أعرف نسبة البيت، وأخشى أن يكون من أبيات ودقة الأسدي يقولها لمعن بن زائدة. أمالي المرتضى 1: 160.
(2) نسبه المفضل بن سلمة في الفاخر: 253، وقال: "أول من قال ذلك طرفة بن العبد، في شعر يعتذر فيه إلى عمرو بن هند"، وليس في ديوانه، وانظر أمثال الميداني 2: 125.(24/457)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خَصيف، عن مجاهد (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) قال: أضلَّها، وقال سعيد: مَنْ أغواها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مَنْ دَسَّاهَا) قال: أغواها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) قال: أثّمها وأفجرها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَقَدْ خَابَ) يقول: وقد خاب من دَسَّى اللهُ نفسَه.
وقوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) يقول: كذَّبت ثمود بطغيانها، يعني: بعذابها الذي وعدهموه صالح عليه السلام، فكان ذلك العذاب طاغيا طغى عليهم، كما قال جلّ ثناؤه: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن كان فيه اختلاف بين أهل التأويل.
* ذكر من قال القول الذي قلنا في ذلك:
حدثني سعيد بن عمرو السَّكونّي، قال: ثنا الوليد بن سَلَمة الفِلَسْطِينيّ، قال: ثني يزيد بن سمرة المَذحِجيّ عن عطاء الخُراسانيّ، عن ابن عباس، في قول الله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) قال: اسم العذاب الذي جاءها، الطَّغْوَى، فقال: كذّبت ثمود بعذابها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) : أي الطغيان.
وقال آخرون: كذّبت ثمود بمعصيتهم الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد(24/458)
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) قال: معصيتها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) قال: بغيانهم وبمعصيتهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك بأجمعها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب وابن لَهِيعة، عن عُمارة بن غزية، عن محمد ب رفاعة القُرَظِيّ، عن محمد بن كعب، أنه قال: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) قال: بأجمعها.
حدثني ابن عيد الرحيم الْبَرِقيّ، قال: ثنا ابن أبي مَرْيم، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، قال: ثني عمارة بن غزية، عن محمد بن رفاعة القُرَظِيّ، عن محمد بن كعب، مثله.
وقيل (طَغْوَاهَا) بمعنى: طغيانهم، وهما مصدران للتوفيق بين رءوس الآي، إذ كانت الطغْوَى أشبه بسائر رءوس الآيات في هذه السورة، وذلك نظير قوله: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ) بمعنى: وآخر دعائهم.
وقوله: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا) يقول: إذ ثار أشقى ثمود، وهو قُدَار بن سالف.
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا الطُّفاويّ، عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن زَمْعة، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر في خطبته الناقة، والذي عَقَرها، فقال: (إذِ انْبَعَثَ أشْقَاهَا) انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عارِمٌ، مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ، مِثْلُ أبي زَمْعَةَ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قالا ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله. (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا) يعني أُحَيْمِرَ ثَمود.
وقوله: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ) يعني بذلك جلّ ثناؤه: صالحا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لثمود صالح: (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا) احذروا ناقة الله وسُقياها، وإنما حذّرهم سُقيا الناقة، لأنه كان تقدّم إليهم عن أمر الله، أن للناقة شِربَ يوم، ولهم شِرْب يومٍ آخر، غير يوم الناقة، على ما قد بيَّنت فيما مضى قبل.
وكما حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَقَالَ لَهُمْ(24/459)
رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا) قسْم الله الذي قسم لها من هذا الماء.
وقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) يقول: فكذّبوا صالحا في خبره الذي أخبرهم به، من أن الله الذي جعل شِرْبَ الناقة يوما، ولهم شِرْبُ يوم معلوم، وأن الله يُحِلّ بهم نقمته، إن هم عقروها، كما وصفهم جلّ ثناؤه فقال: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ) ، وقد يُحتمل أن يكون التكذيب بالعقْر. وإذا كان ذلك كذلك، جاز تقديم التكذيب قبل العقر، والعقر قبل التكذيب، وذلك أن كلّ فعل وقع عن سبب حَسُنَ ابتداؤه قبل السبب وبعده، كقول القائل: أعطيت فأحسنت، وأحسنت فأعطيت؛ لأن الإعطاء هو الإحسان، ومن الإحسان الإعطاء، وكذلك لو كان العقر هو سبب التكذيب، جاز تقديم أيّ ذلك شاء المتكلم. وقد زعم بعضهم أن قوله: (فَكَذَّبُوهُ) كلمة مكتفية بنفسها، وأن قوله: (فَعَقَرُوهَا) جواب لقوله: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا) كأنه قيل: إذ انبعث أشقاها فعقرها، فقال: وكيف قيل (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) وقد كان القوم قبل قتل الناقة مُسَلِّمين، لها شرب يوم، ولهم شرب يوم آخر. قيل: جاء الخبر أنهم بعد تسليمهم ذلك أجمعوا على منعها الشرب، ورضوا بقتلها، وعن رضا جميعهم قَتَلها قاتِلُها، وعقَرَها من عقرها ولذلك نُسب التكذيب والعقر إلى جميعهم، فقال جلّ ثناؤه: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) .
وقوله: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) يقول تعالى ذكره: فدمَّر عليهم ربهم بذنبهم ذلك، وكفرهم به، وتكذيبهم رسوله صالحا، وعقرهم ناقته (فَسَوَّاهَا) يقول: فسوّى الدمدمة عليهم جميعهم، فلم يُفْلِت منهم أحد.
كما حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) ذُكر لنا أن أحيمر ثَمود أبى أن يعقرها، حتى بايعه صغيرُهم وكبيرُهم، وذكرهم وأنثاهم، فلما اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنبهم فسوّاها.
حدثني بشر بن آدم، قال: ثنا قُتيبة، قال: ثنا أبو هلال، قال: سمعت الحسن يقول: لما عقروا الناقة طلبوا فصيلها، فصار في قارة الجبل، فقطع الله قلوبهم.
وقوله: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: لا يخاف تبعة دمدمته عليهم.(24/460)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) قال: لا يخاف الله من أحد تبعة.
حدثني إبراهيم بن المستمر، قال: ثنا عثمان بن عمرو، قال: ثنا عمر بن مرثد، عن الحسن، في قوله: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) قال: ذاك ربنا تبارك وتعالى، لا يخاف تبعة مما صنع بهم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن عمرو بن منبه، هكذا هو في كتابي، سمعت الحسن قرأ: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) قال: ذلك الربّ صنع ذلك بهم، ولم يخف تبعة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) قال: لا يخاف تبعتهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) يقول: لا يخاف أن يتبع بشيء مما صنع بهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) قال محمد بن عمرو في حديثه، قال الله: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) . وقال الحارث في حديثه: الله لا يخاف عقباها.
حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا رزين بن إبراهيم، عن أبي سليمان، قال: سمعت بكر بن عبد الله المزنيّ يقول في قوله: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) قال: لا يخاف الله التبعة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولم يخف الذي عقرها عقباها: أي عُقبى فعلته التي فعل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: ثنا أبو روق، قال: ثنا الضحاك (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) قال: لم يخف الذي عقرها عقباها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) قال: لم يخف الذي عقرها عقباها.(24/461)
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) قال: الذي لا يخاف الذي صنع، عُقْبَى ما صنع.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والشام (فَلا يَخافُ عُقْبَاهَا) بالفاء، وكذلك ذلك في مصاحفهم، وقرأته عامة قرّاء العراق في المِصْرين بالواو (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) وكذلك هو في مصاحفهم.
والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان، غير مختلفي المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
واختلفت القرّاء في إمالة ما كان من ذوات الواو في هذه السورة وغيرها، كقوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) (وَمَا طَحَاهَا) ونحو ذلك، فكان يفتح ذلك كلَّه عامة قرّاء الكوفة، ويُمِيلون ما كان من ذوات الياء، غير عاصم والكسائي، فإن عاصما كان يفتح جميعَ ذلك ما كان منه من ذوات الواو وذوات الياء، لا يُضْجِعُ منه شيئا.
وكان الكسائي يكسر ذلك كلَّه. وكان أبو عمرو ينظر إلى اتساق رءوس الآي، فإن كانت متسقة على شيء واحد أمال جميعها، وأما عامة قرّاء المدينة فإنهم لا يميلون شيئا من ذلك الإمالة الشديدة، ولا يفتحونه الفتح الشديد، ولكن بين ذلك؛ وأفصح ذلك وأحسنه أن ينظر إلى ابتداء السورة، فإن كانت رءوسها بالياء أجري جميعها بالإمالة غير الفاحشة، وإن كانت رءوسها بالواو فتحت وجرى جميعها بالفتح غير الفاحش، وإذا انفرد نوع من ذلك في موضع أميل ذوات الياء الإمالة المعتدلة، وفتح ذوات الواو الفتح المتوسط، وإن أُميلت هذه، وفُتحت هذه لم يكن لحنا، غير أن الفصيح من الكلام هو الذي وصفنا صفته.
آخر تفسير سورة والشمس وضحاها(24/462)
تفسير سورة والليل إذا يغشى(24/463)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى جل جلاله وتقدست أسماؤه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) } .
يقول تعالى ذكره مقسما بالليل إذا غشَّى النهار بظلمته، فأذهب ضوءه، وجاءت ظُلمته: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) النهار (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) وهذا أيضا قسم، أقسم بالنهار إذا هو أضاء فأنار، وظهر للأبصار. ما كانت ظلمة الليل قد حالت بينها وبين رؤيته وإتيانه إياها عِيانا، وكان قتادة يذهب فيما أقسم الله به من الأشياء أنه إنما أقسم به لعِظَم شأنه عنده.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) قال: آيتان عظيمتان يكوّرهما الله على الخلائق.
وقوله: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى) يحتمل الوجهين اللذين وصفت في قوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) وفي (وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا) وهو أن يجعل "ما" بمعنى "مَنْ، فيكون ذلك قسما من الله جلّ ثناؤه بخالق الذّكر والأنثى، وهو ذلك الخالق، وأن تجعل "ما" مع ما بعدها بمعنى المصدر، ويكون قسما بخلقه الذكر والأنثى.
وقد ذُكر عن عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء: أنهما كانا يقرآن ذلك (والذَّكَرِ والأنْثَى) ويأثُرُه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(24/465)
* ذكر الخبر بذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله (وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى والنَّهارِ إذَا تَجَلَّى والذَّكَر والأنْثَى) .
حدثنا ابن المثني، قال: ثنا هشام بن عبد الملك (1) قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني المُغيرة، قال: سمعت إبراهيم يقول: أتى علقمة الشام، فقعد إلى أبي الدرداء، فقال: ممن أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، فقال: كيف كان عبد الله يقرأ هذه الآية (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) فقلت: (وَالذَّكَرِ والأنْثَى) قال: فما زال هؤلاء حتى كادوا يستضلُّونني، وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا حاتم بن وَرْدان، قال: ثنا أبو حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة قال: أتينا الشام، فدخلت على أبي الدرداء، فسألني فقال: كيف سمعت ابن مسعود يقرأ هذه الآية: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) قال: قلت: (وَالذَّكَرِ والأنْثَى) قال: كفاك، سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية؛ وحدثني إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: ثنا خالد بن عبد الله عن داود، عن عامر، عن علقمة، قال: قَدِمت الشام، فلقيت أبا الدرداء، فقال: من أين أنت؟ فقلت من أهل العراق؟ قال: من أيَّها؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: هل تقرأه قراءة ابن أمّ عبد؟ قلت: نعم، قال: اقرأ (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) قال: فقرأت: (وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى والنَّهارِ إذَا تَجَلَّى والذَّكَرِ والأنْثَى) قال: فضحك، ثم قال: هكذا سمعت مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثني داود، عن عامر، عن علقمة، عن أبي الدَّرداء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قدمت الشام، فأتى أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ علي قراءة عبد الله؟ قال: فأشاروا إليّ، قال: قلت أنا، قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية: (وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى والنَّهارِ إذَا تَجَلَّى والذَّكَرِ والأنْثَى) قال:
__________
(1) أي رديء من القول. انظر ما سلف ص 165 رقم: 1.(24/466)
وأنا هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فهؤلاء يريدوني على أن اقرأ (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى) فلا أنا أتابعهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى) قال: في بعض الحروف (والذَّكَرِ والأنْثَى) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن إسماعيل، عن الحسن أنه كان يقرأها (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى) يقول: والذي خلق الذكر والأنثى؛ قال هارون قال أبو عمرو: وأهل مكة يقولون للرعد: سبحان ما سبَّحْتَ له.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن مُغيرة، عن مِقْسَمٍ الضَّبّي، عن إبراهيم بن يزيد بن أبي عمران، عن علقمة بن قيس أبي شبل: أنه أتى الشام، فدخل المسجد فصَّلى فيه، ثم قام إلى حَلْقة فجلس فيها؛ قال: فجاء رجل إليّ، فعرفت فيه تحوّش، القوم وهيبتهم له، فجلس إلى جنبي، فقلت: الحمد لله إني لأرجو أن يكون الله قد استجاب دعوتي، فإذا ذلك الرجل أبو الدرداء، قال: وما ذاك؟ فقال علقمة: دعوت الله أن يرزقني جليسا صالحا، فأرجو أن يكون أنت، قال: مِنْ أين أنت؟ قلت: من الكوفة، أو من أهل العراق من الكوفة. قال أبو الدرداء: ألم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمِطْهَرة، يعني ابن مسعود، أو لم يكن فيكم من أُجير على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشيطان الرجيم، يعني عَمَّار بن ياسر، أو لم يكن فيكم صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره، أو أحد غيره، يعني حُذَيفة بن اليمان، ثم قال: أيكم يحفظ كما كان عبد الله يقرأ؟ قال: فقلت: أنا، قال: اقرأ: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) قال علقمة: فقرأت: (الذكر والأنثى) ، فقال أبو الدرداء: والذي لا إله إلا هو، كذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوه إلى فيّ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردّونني عنها.
وقوله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) يقول: إن عَمَلَكُمْ لمختلف أيها الناس، لأن منكم الكافر بربه، والعاصي له في أمره ونهيه، والمؤمن به، والمطيع له في أمره ونهيه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ(24/467)
سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) يقول: لمختلف.
وقوله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) جواب القسم، والكلام: والليل إذا يغشى إن سعيكم لشتى، وكذا قال أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: وقع القسم ها هنا (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) .
وقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) يقول تعالى ذكره: فأما من أعطى واتقى منكم أيها الناس في سبيل الله، ومن أمَرَه الله بإعطائه من ماله، وما وهب له من فضله، واتقى الله واجتنب محارمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عامر، عن عكرِمة، عن ابن عباس، في قوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) قال: أعطى ما عنده واتقى، قال: اتقى ربه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) من الفضل (وَاتَّقَى) : اتقى ربه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) حق الله (وَاتَّقَى) محارم الله التي نهى عنها.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول قي قوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) يقول: من ذكر الله، واتقى الله.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) فقال بعضهم: معنى ذلك: وصدّق بالخلَف من الله على إعطائه ما أعطى من ماله فيما أعْطَى فيه مما أمره الله بإعطائه فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا دواد، عن عكرِمة،(24/468)
عن ابن عباس، في قوله: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) قال: وصدّق بالخَلَف من الله.
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) يقول: وصدّق بالخلَف من الله.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، عن عكرِمة، عن ابن عباس (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) بالخلف.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ، قال: أخبرنا بشر بن الحكم الأحْمَسِيِّ، عن سعيد بن الصلت، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، عن ابن عباس (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) قال: أيقن بالخلف.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن عكرِمة (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) قال: بالخلف.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن عكرِمة (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) قال: بأن الله سيخلف له.
قال ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي هاشم المكي، عن مجاهد (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) قال بالخلف.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي بكر الهُذليّ، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) قال: بالخلف.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن نضر بن عربي، عن عكرمة، قال: بالخلف.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وصدّق بأن الله واحد لا شريك له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمر بن عليّ المُقَدَّمِيِّ، قال: ثنا أشعث السجستاني، قال: ثنا مِسْعَر؛ وحدثنا أبو كُرَيب قال: ثنا وكيع، عن مِسْعَر عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) قال: بلا إله إلا الله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن مثله.(24/469)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهرإن، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) : بلا إله إلا الله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) : يقول: صدّقَ بلا إله إلا الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وصدّق بالجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) قال: بالجنة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثني محمد بن محبب، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: بل معناه: وصدق بموعود الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) قال: بموعود الله على نفسه، فعمل بذلك الموعود الذي وعده الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) قال: صدّق المؤمن بموعود الله الحسن.
وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، وأولاها بالصواب عندي: قول من قال: عُنِي به التصديق بالخلف من الله على نفقته.
وإنما قلت: ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن الله ذكر قبله مُنفقا أنفق طالبا بنفقته الخلف منها، فكان أولى المعاني به أن يكون الذي عقيبه الخبر عن تصديقه بوعد الله إياه بالخلف إذ كانت نفقته على الوجه الذي يرضاه، مع أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك ورد.(24/470)
* ذكر الخبر الوارد بذلك:
حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كبشة، قال: ثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال: ثني خليد العصري، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إلا وَبِجَنْبِيهَا مَلَكانِ يُنادِيانِ، يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللهِ كُلُّهُم إلا الثَّقَلَينِ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقا خَلَفا، وأعْطِ مُمْسِكا تلَفا" فأنزلَ الله في ذلك القرآنَ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) ... إلى قوله (لِلْعُسْرَى) .
وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضى الله عنه.
* ذكر الخبر بذلك:
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق، عن عامر بن عبد الله بن الزّبير، قال: كان أبو بكر الصدّيق يُعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بنيّ، أراك تعتق أناسا ضعفاء، فلو أنك أعتقت رجالا جَلْدا يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبت، إنما أريد "أظنه قال": ما عند الله، قال: فحدثني بعض أهل بيتي، أن هذه الآية أنزلت فيه: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) .
وقوله: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) يقول: فسنهيئه للخلة اليسرى، وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا، ليوجب له به في الآخرة الجنة.
وقوله: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) يقول تعالى ذكره: وأما من بخل بالنفقة في سبيل الله، ومنع ما وهب الله له من فضله، من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها، واستغنى عن ربه، فلم يرغب إليه بالعمل له بطاعته بالزيادة فيما خوّله من ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس، في قوله: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) قال: بخل بما عنده، واستغنى في نفسه.(24/471)
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، عن عكرِمة عن ابن عباس (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) وأما من بخل بالفضل، واستغنى عن ربه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) يقول: من أغناه الله، فبخل بالزكاة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) : وأما من بخل بحقّ الله عليه، واستغنى في نفسه عن ربه.
وأما قوله: (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله نحو اختلافهم في قوله: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) وأما نحن فنقول: معناه: وكذّب بالخَلَف.
كما حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس: (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) : وكذّب بالخلف.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، عن عكرِمة، عن ابن عباس (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) بالخلف من الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) وكذّب بموعود الله الذي وعد، قال الله: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) وكذّب الكافر بموعود الله الحسن.
وقال آخرون: معناه: وكذّب بتوحيد الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) : وكذّب بلا إله إلا الله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) بلا إله إلا الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وكذّب بالجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد(24/472)
(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) قال: بالجنة.
وقوله: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) يقول تعالى ذكره: فسنهيئه في الدنيا للخلة العُسرى، وهو من قولهم: قد يسرت غنم فلان: إذا ولدت وتهيأت للولادة، وكما قال الشاعر:
هُمَا سَيِّدَنا يَزْعُمانِ وإنَّمَا ... يَسُودَانِنا أنْ يَسَّرَتْ غَنَماهُمَا (1)
وقيل: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) ولا تيسر في العُسرى للذي تقدّم في أول الكلام من قوله: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) واذا جمع بين كلامين أحدهما ذكر الخير والآخر ذكر الشرّ، جاز ذلك بالتيسير فيهما جميعا؛ والعُسرى التي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه ييسره لها: العمل بما يكرهه ولا يرضاه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر الخبر بذلك:
حدثني واصل بن عبد الأعلى وأبو كُرَيب، قالا ثنا وكيع، عن الأعمش، عن سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، عن عليّ، قال: كُنَّا جلوسا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنكَت الأرض، ثم رفع رأسه فقال: "ما مِنكُمْ مِن أحَدٍ إلا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنِّةِ وَمَقَعَدُهُ مِنَ النَّارِ". قلنا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال: "لا اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسَّر"، ثم قرأ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا زائدة بن قُدامة، عن منصور، عن سعد بن عُبيدة عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، عن عليّ، قال: كنا في جنازة في البقيع، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وجلسنا معه، ومعه عود ينكت في الأرض، فرفع رأسه إلى السماء فقال: "ما مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلا قَدْ كُتبَ مَدْخَلُها"، فقال القوم: يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا، فمن كان من أهل السعادة فإنَّهُ يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء، فقال: "بَلِ اعْمَلُوا فَكُلٌ مُيَسَّر؛ فأمَّا مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ السَّعادَةِ فإنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلَ السَعادَةِ وأمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الشَّقاءِ فإنَّهُ يُيَسَّرُ للشَّقاءِ"، ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى
__________
(1) ارتفع الأمر: زال وذهب، كأنه كان موضوعا حاضرا ثم ارتفع. ومنه: ارتفع الخلاف بينهما.(24/473)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) .
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلميّ، عن عليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور والأعمش: أنهما سمعا سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلميّ، عن عليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة، فأخذ عودا، فجعل ينكت في الأرض، فقال: "ما منْ أحَدٍ إلا وَقَدْ كُتبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أوْ مِنَ الجَنَّةِ"، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال: "اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسَّرٌ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) ".
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور والأعمش، عن سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلميّ، عن عليّ رضى الله عنه قال: كنا جلوسا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتناول شيئا من الأرض بيده، فقال: "ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلا وَقَدْ عَلِمَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ والنَّارِ " قالوا: يا نبيّ الله، أفلا نتكل؟ قال: "لا اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"، ثم قرأ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) ... الآيتين.
قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن عبد الملك بن سَمُرة بن أبي زائدة، عن النزال بن سَبَرةَ، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلا قَدْ كُتبَ اللهُ عَلَيْها ما هِيَ لاقِيَتُهُ" وأعرابي عند النبيّ صلى الله عليه وسلم مرتاد، فقال الأعرابيّ: فما جاء بي أضرب من وادي كذا وكذا، إن كان قد فرغ من الأمر.
فنكت النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأرض، حتى ظنّ القوم أنه ود أنه لم يكن تكلم بشيء منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلّ مُيَسرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، فَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يَسَّرَهُ لِسَبِيلِ الخَيرِ، وَمَنْ يُرِدْ بِهِ شَرًّا يَسَّرَهُ لِسَبِيلِ الشَّرِّ"، فلقيت عمَرو بن مرّة، فعرضت عليه هذا الحديث، فقال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلميّ، قال: لما نزلت هذه الآية: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ(24/474)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) قال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ أفي شيء نستأنفه، أو في شيء قد فُرغ منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ: سَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَسَنُيَسِّّرُهُ لِلْعُسْرَى".
حدثني عمرو بن عبد الملك الطائي، قال: ثنا محمد بن عبيدة، قال: ثنا الجراح، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن الحجاج بن أرطاة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سليمان الأعمش، رفع الحديث إلى عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسا وبيده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: "ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلا وَقَدْ عُلِمَ مِقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ أو النَّار" قلنا: يا رسول الله أفلا نتوكل؟ قال لهم: " اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ثم قال: "أمَا سَمِعْتم اللهَ فِي كِتابِهِ يَقُولُ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، عن عكرِمة، عن ابن عباس (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) : للشرّ من الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه قال: يا رسول الله، أنعمل لأمر قد فُرغ منه، أو لأمر نأتنفه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كُلّ عَامِلٍ مُيَسَّرٌ لِعَملِهِ".
حدثني يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طلق بن حبيب، عن بشير بن كعب، قال: سأل غلامان شابان النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالا يا رسول الله، أنعمل فيما جفَّت به الأقلام، وجرَت به المقادير، أو في شيء يستأنف؟ فقال: "بَلْ فِيما جَفَّتْ بِهِ الأقْلامُ وَجَرَتْ به المقادِيُر" قالا ففيم العمل إذن؟ قال: "اعمَلُوا، فَكُلُّ عامِلٍ مُيَسَّرٌ لَعَمَلِهِ الَّذِي خلِقَ لَهُ"، قالا فالآن نجدّ ونعمل.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) } .(24/475)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)
القول في تأويل قوله تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى (17)(24/475)
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ) : أي شيء يدفع عن هذا الذي بخل بماله، واستغنى عن ربه، ماله يوم القيامة (إِذًا) هو (تَرَدَّى) .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إِذَا تَرَدَّى) فقال بعضهم: تأويله: إذا تردّى في جهنم: أي سقط فيها فَهَوى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا الأشجعيّ، عن ابن أبي خالد، عن أبي صالح (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) قال: في جهنم. قال أبو كُرَيب: قد سمع الأشجعيّ من إسماعيل ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (إِذَا تَرَدَّى) قال: إذا تردّى في النار.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا مات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) قال: إذا مات.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِذَا تَرَدَّى) قال: إذا مات
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: إذا مات.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: إذا تردّى في جهنم، لأن ذلك هو المعروف من التردّي، فأما إذا أُريد معنى الموت، فإنه يقال: رَدِيَ فلان، وقلما يقال: تردّى.
وقوله: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) يقول تعالى ذكره: إن علينا لبيانَ الحقّ من الباطل، والطاعة من المعصية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/476)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) يقول: على الله البيان، بيانُ حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
وكان بعض أهل العربية يتأوّله بمعنى: أنه من سلك الهدى فعلى الله سبيله، ويقول وهو مثل قوله: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) ويقول: معنى ذلك: من أراد الله فهو على السبيل القاصد، وقال: يقال معناه: إن علينا للهدى والإضلال، كما قال: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وهي تقي الحرّ والبرد.
وقوله: (وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى) يقول: وإن لنا ملك ما في الدنيا والآخرة، نعطي منهما من أردنا من خلقنا، ونحرمه من شئنا.
وإنما عَنَى بذلك جلّ ثناؤه أنه يوفق لطاعته من أحبّ من خلقه، فيكرمه بها في الدنيا، ويهيئ له الكرامة والثواب في الآخرة، ويخذُل من يشاء خذلانه من خلقه عن طاعته، فيهينه بمعصيته في الدنيا، ويخزيه بعقوبته عليها في الآخرة.
ثم قال جل ثناؤه: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) يقول تعالى ذكره: فأنذرتكم أيها الناس نارا تتوهَّج، وهي نار جهنم، يقول: احذروا أن تعصوا ربكم في الدنيا، وتكفروا به، فَتصْلَونها في الآخرة. وقيل: تلظَّى، وإنما هي تتلظَّى، وهي في موضع رفع، لأنه فعل مستقبل، ولو كان فعلا ماضيا لقيل: فأنذرتكم نارًا تلظَّت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/477)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (نَارًا تَلَظَّى) قال: تَوَهَّج.
وقوله: (لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى) يقول جلّ ثناؤه: لا يدخلها فيصلى بسعيرها إلا الأشقى، (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يقول: الذي كذّب بآيات ربه، وأعرض عنها، ولم يصدق بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي هريرة، قال: لتدخلن الجنة إلا من يأبى، قالوا: يا أبا هريرة: ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: فقرأ: (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) .
حدثني الحسن بن ناصح، قال: ثنا الحسن بن حبيب ومعاذ بن معاذ، قالا ثنا الأشعث، عن الحسن في قوله: (لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى) قال معاذ: الذي كذّب وتولى، ولم يقله الحسن، قال: المشرك.
وكان بعض أهل العربية يقول: لم يكن كذب بردّ ظاهر، ولكن قصر عما أمر به من الطاعة، فجُعِل تكذيبا، كما تقول: لقي فلان العدوّ، فكذب إذا نكل ورجع، وذُكر أنه سمع بعض العرب يقول: ليس لحدّهم مكذوبة، بمعنى: أنهم إذا لقوا صدقوا القتال، ولم يرجعوا؛ قال: وكذلك قول الله: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ) .
وقوله: (وَسَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى) يقول: وسيوقَّى صِلِيَّ النار التي تلظَّى التقيُّ، ووضع أفعل موضع فعيل، كما قال طرَفة:
تَمَنَّى رِجالٌ أنْ أمُوتَ وَإنْ أَمُتْ ... فَتِلكَ سَبيلٌ لَسْتُ فيها بأَوْحَدِ (1)
وقوله: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) يقول: الذي يعطي ماله في الدنيا في حقوق الله التي ألزمه إياها، (يَتَزَكَّى) : يعني: يتطهر بإعطائه ذلك من ذنوبه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) } .
كان بعض أهل العربية يوجه تأويل ذلك إلى: وما لأحد من خلق الله عند هذا الذي يؤتي ماله في سبيل الله يتزكى (مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) يعني: من يد يكافئه
__________
(1) انظر ص: 162 التعليق رقم 2.(24/478)
عليها، يقول: ليس ينفق ما ينفق من ذلك، ويعطي ما يعطي، مجازاة إنسان يجازيه على يد له عنده، ولا مكافأة له على نعمة سلفت منه إليه، أنعمها عليه، ولكن يؤتيه في حقوق الله ابتغاء وجه الله. قال: وإلا في هذا الموضع بمعنى لكن، وقال: يجوز أن يكون يفعل في المكافأة مستقبلا فيكون معناه: ولم يرد بما أنفق مكافأة من أحد، ويكون موقع اللام التي في أحد في الهاء التي خفضتها عنده، فكأنك قلت: وما له عند أحد فيما أنفق من نعمة يلتمس ثوابها، قال: وقد تضع العرب الحرف في غير موضعه إذا كان معروفا، واستشهدوا لذلك ببيت النابغة:
وَقَدْ خِفْتُ حتى ما تَزِيدُ مخافَتِي ... على وَعِلٍ فِي ذِي الَمطَارَةِ عاقِلِ (1)
والمعنى: حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي وهذا الذي قاله الذي حكينا قوله من أهل العربية، وزَعْمُ أنه مما يجوز هو الصحيح الذي جاءت به الآثار عن أهل التأويل وقالوا: نزلت في أبي بكر بعِتْقه من أعتق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، فال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى) يقول: ليس به مثابة الناس ولا مجازاتهم، إنما عطيته لله.
حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي، قال: ثنا هارون بن معروف. قال: ثنا بشر بن السَّريّ، قال: ثنا مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله عن أبيه، قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصدّيق: (وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: أخبرني سعيد، عن قتادة، في قوله (وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) قال: نزلت في أبي بكر،
__________
(1) ديوان الستة الجاهليين: 234، 237، والبيت الأول في فاتحة الشعر، والأخير خاتمته. والضمير في قوله: "لعبت" للربع، في أبيات سلفت. ورونق السيف والشباب والنبات: صفاؤه وحسنه وماؤه. ويروى: "في ريق". وريق الشباب: أوله والتماعه ونضرته. وعنى نباتًا نضيرًا كأنه يقول: في ذي رنق، أو في ذي ريق. والرهم -بكسر الراء- جمع رهمة: وهي المطرة الضعيفة المتتابعة، وهي مكرمة للنبات. يقول: أعشبت الأرض، وجرى ماء السماء في النبت يترقرق. والضمير في "رهمه" عائد على الغيث، غائب كمذكور.(24/479)
أعتق ناسا لم يلتمس منهم جزاء ولا شكورا، ستة أو سبعة، منهم بلال، وعامر بن فُهَيرة.
وعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن هؤلاء، ينبغي أن يكون قوله: (إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى) نصبا على الاستثناء من معنى قوله: (وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) لأن معنى الكلام: وما يؤتي الذي يؤتي من ماله ملتمسا من أحد ثوابه، إلا ابتغاء وجه ربه. وجائز أن يكون نصبه على مخالفة ما بعد إلا ما قبلها، كما قال النابغة:
... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... .... وَما بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ
إلا أَوَارِيَّ لأيًا ما أُبَيِّنُها ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (1)
وقوله: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى) يقول: ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عزّ وجلّ، يتزكى بما يثيبه الله في الآخرة عوضًا مما أتى في الدنيا في سبيله، إذا لقي ربه تبارك وتعالى.
آخر تفسير سورة والليل إذا يغشى
__________
(1) يقول: حيث سار الفتى عاش بعقله وتدبيره واجتهاده.(24/480)
تفسير سورة والضحى(24/481)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل جلاله وتقدست أسماؤه {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى (8) } .
أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالضحى، وهو النهار كله، وأحسب أنه من قولهم: ضَحِيَ فلان للشمس: إذا ظهر منه؛ ومنه قوله: (وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) : أي لا يصيبك فيها الشمس.
وقد ذكرت اختلاف أهل العلم في معناه في قوله: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) مع ذكري اختيارنا فيه. وقيل: عُنِي به وقت الضحى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالضُّحَى) ساعة من ساعات النهار.
وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: والليل إذا أقبل بظلامه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) يقول: والليل إذا أقبل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قول الله: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) قال: إذا لَبِسَ الناس، إذَا جاء.(24/482)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا ذهب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) يقول: إذا ذهب.
وقال آخرون: معناه: إذا استوى وسكن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مِهْران؛ وحدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، جميعا عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) قال: إذا استوى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) قال: إذا استوى
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) سكن بالخلق.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) يعني: استقراره وسكونه.
حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) قال: إذا سكن، قال: ذلك سجوه، كما يكون سكون البحر سجوه.
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي في ذلك قول من قال معناه: والليل إذا سكن بأهله، وثبت بظلامه، كما يقال: بحر ساج: إذا كان ساكنا؛ ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
فَمَا ذَنْبُنا إنْ جاشَ بَحْرُ ابنِ عَمِّكم ... وَبحْرُكَ ساجٍ ما يُوَارِي الدَّعامِصَا (1)
__________
(1) يأتي في تفسير آية سورة آل عمران: 121، وآية سورة القصص: 88. وسيبويه 1: 17، والخزانة 1: 486، وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها. قال الشنتمري: "أراد من ذنب، فحذف الجار وأوصل الفعل فنصب" والذنب هنا اسم جنس بمعنى الجمع. فلذلك قال: "لست محصيه". والوجه: القصد والمراد، وهو بمعنى التوجه".(24/484)
وقول الراجز:
يا حَبَّذَا القَمْرَاءُ وَاللَّيْلُ السَّاجْ
وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النَّسَّاجْ (1)
وقوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) وهذا جواب القسم، ومعناه: ما تركك يا محمد ربك وما أبغضك. وقيل: (وَمَا قَلَى) ومعناه. وما قلاك، اكتفاء بفهم السامع لمعناه، إذ كان قد تقدّم ذلك قوله: (مَا وَدَّعَكَ) فعرف بذلك أن المخاطب به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) يقول: ما تركك ربك، وما أبغضك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) قال: ما قلاك ربك وما أبغضك؛ قال: والقالي: المبغِض.
وذُكر أن هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذيبا من الله قريشا في قيلهم لرسول الله، لما أبطأ عليه الوحي: قد ودّع محمدًا ربه وقلاه.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني عليّ بن عبد الله الدهان، قال: ثنا مفضل بن صالح، عن الأسود بن قيس العبديّ، عن ابن عبد الله، قال: لما أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأة من أهله، أو من قومه: ودّع الشيطان محمدا، فأنزل الله عليه: (وَالضُّحَى) ... إلى قوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
قال أبو جعفر: ابن عبد الله: هو جندب بن عبد الله البجلي.
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني، ومحمد بن هارون القطان، قالا ثنا
__________
(1) البيت ليس في ديوانه. ومن القصيدة أبيات فيه: 23، (مطبوعة محمد جمال) ، والمجتنى لابن دريد: 23، يصف فرسًا. والعير: حمار الوحش. والحضر: العدو الشديد، وحمار الوحش شديد العدو. والونى: التعب والفترة في العدو أو العمل. والأشعب: الظبي تفرق قرناه فانشعبا وتباينا بينونة شديدة. ونبح الكلب والظبي والتيس ينبح نباحًا، فهو نباح، إذا كثر صياحه، من المرح والنشاط. والظبي إذا أسن ونبتت لقرونه شعب، نبح (الحيوان 1: 349) . يصف فرسه بشدة العدو، يلحق العير المدل بحضره، والظبي المستحكم السريع، فيصيدها قبل أن يناله تعب.(24/485)
سفيان، عن الأسود بن قيس سمع جندبا البجليّ يقول: أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قال المشركون: ودّع محمدا ربه، فأنزل الله: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، أنه سمع جندبا البجلي قال: قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أرى صاحبك إلا قد أبطأ عنك، فنزلت هذه الآية: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، قال سمعت جندب بن عبد الله يقول: إن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فنزلت: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيباني، عن عبد الله بن شدّاد أن خديجة قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما أرى ربك إلا قد قلاك، فأنزل الله: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) قال: إن جبريل عليه السلام أبطأ عليه بالوحي، فقال ناس من الناس، وهم يومئذ بمكة، ما نرى صاحبك إلا قد قلاك فودّعك، فأنزل الله ما تسمع: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) قال: أبطأ عليه جبريل، فقال المشركون: قد قلاه ربه وودّعه، فأنزل الله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) مكث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد ودّعه ربه وقلاه، فأنزل الله هذه الآية.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) قال: لما نزل عليه القرآن، أبطأ عنه جبريل أياما، فعُيّر بذلك، فقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه، فأنزل الله:(24/486)
(مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعا شديدا، وقالت خديجة: أرى ربك قد قلاك، مما نرى من جزعك، قال: فنزلت (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) ... إلى آخرها.
وقوله: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى) يقول تعالى ذكره: وللدار الآخرة، وما أعد الله لك فيها، خير لك من الدار الدنيا وما فيها. يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها.
وقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) يقول تعالى ذكره: ولسوف يعطيك يا محمد ربك في الآخرة من فواضل نعمه، حتى ترضى.
وقد اختلف أهل العلم في الذي وعده من العطاء، فقال بعضهم: هو ما
حدثني به موسى بن سهل الرملي، قال: ثنا عمرو بن هاشم، قال: سمعت الأوزاعيّ يحدّث، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي، عن عليّ بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده كَفْرا كَفْرا، فسرّ بذلك، فأنزل الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) فأعطاه في الجنة ألف قصر، في كلّ قصر، ما ينبغي من الأزواج والخدم.
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثني روّاد بن الجراح، عن الأوزاعيّ، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن عليّ بن عبد الله بن عباس، في قوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) قال: ألف قصر من لؤلؤ، ترابهنّ المسك، وفيهنّ ما يصلحهنّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) ، وذلك يوم القيامة.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني به عباد بن يعقوب، قال: ثنا الحكم بن ظهير، عن السديّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) قال: من رضا محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدخل أحد من أهل بيته النار.
وقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) يقول تعالى ذكره معدّدا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نعمه عنده، ومذكِّره آلاءه قِبَله: ألم يجدك يا محمد ربك يتيمًا(24/487)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
فآوى، يقول: فجعل لك مأوى تأوي إليه، ومنزلا تنزله (وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى) ووجدك على غير الذي أنت عليه اليوم.
وقال السديّ في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن السديّ (وَوَجَدَكَ ضَالا) قال: كان على أمر قومه أربعين عاما. وقيل: عُنِيَ بذلك: ووجدك في قوم ضلال فهداك.
وقوله: (وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى) يقول: ووجدك فقيرا فأغناك، يقال منه: عال فلان يَعيل عَيْلَة، وذلك إذا افتقر؛ ومنه قول الشاعر:
فَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غناهُ ... وَما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ (1)
يعني: متى يفتقر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَوَجَدَكَ عَائِلا) فقيرا.
وذُكر أنها في مصحف عبد الله (وَوَجَدَكَ عَدِيما فآوَى) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى) قال: كانت هذه منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن يبعثه الله سبحانه وتعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ) يا محمد (فَلا تَقْهَرْ) يقول: فلا تظلمه، فتذهب بحقه، استضعافًا منك له.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا
__________
(1) ديوانه: 507، يمدح هشام بن عبد الملك. والموارد جمع موردة: وهي الطرق إلى الماء. يريد الطرق التي يسلكها الناس إلى أغراضهم وحاجاتهم، كما يسلكون الموارد إلى الماء.(24/488)
تَقْهَرْ) : أي لا تظلم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) قال: تُغْمِصْه وَتحْقِره. وذُكر أن ذلك في مصحف عبد الله (فَلا تَكْهَرْ) .
وقوله: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) يقول: وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) : يقول: فاذكره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، في قوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) قال: بالنبوّة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا سعيد بن إياس الجريريّ، عن أبى نضرة، قال: كان المسلمون يرون أن من شُكْرِ النعم أن يحدّثَ بها.
آخر تفسير سورة الضحى، ولله الحمد والشكر(24/489)
تفسير سورة ألم نشرح(24/491)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مذكِّره آلاءه عنده، وإحسانه إليه، حاضا له بذلك على شكره، على ما أنعم عليه، ليستوجب بذلك المزيد منه: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) يا محمد، للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحقّ (صَدْرِكَ) فنلِّين لك قلبك، ونجعله وعاء للحكمة: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) يقول: وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها، وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر: (وَحَلَلْنا عَنْكَ وِقْرَكَ الَّذِي أَنْقَض ظَهْرَكَ) يقول: الذي أثقل ظهرك فأوهنه، وهو من قولهم للبعير إذا كان رجيع سفر قد أوهنه السفر، وأذهب لحمه: هو نِقْضُ سَفَر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) قال: ذنبك.
(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) قال: أثقل ظهرك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) : كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم(24/493)
ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) قال: كانت للنبي: ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) يعني: الشرك الذي كان فيه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) قال: شرح له صدرَه، وغفر له ذنبَه الذي كان قبل أن يُنَبأ، فوضعه.
وفي قوله: (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) قال: أثقله وجهده، كما يُنْقِضُ البعيرَ حِمْلُه الثقيل، حتى يصير نِقضا بعد أن كان سمينا (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) قال: ذنبك الذي أنقض ظهرَك، أثقل ظهرك، ووضعناه عنك، وخفَّفنا عنك ما أثقل ظهرَك.
وقوله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) يقول: ورفعنا لك ذكرك، فلا أُذْكَرُ إلا ذُكِرْتَ معي، وذلك قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب وعمرو بن مالك، قالا ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) قال: لا أُذْكَرُ إلا ذُكْرِتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ابْدَءُوا بالعُبُودَةِ، وَثَنُّوا بالرسالة" فقلت لمعمر، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده، فهو العبودة، ورسوله أن تقول: عبده ورسوله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة، إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن(24/494)
درّاج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أتانِي جِبْرِيلُ فَقالَ إنَّ رَبِّي وَرَبكَ يَقُولُ: كَيْفَ رَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ؟ قال: الله أعْلَمُ، قال: إذَا ذُكِرْتُ ذُكرتَ مَعِي".
وقوله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإنّ مع الشدّة التي أنت فيها من جهاد هؤلاء المشركين، ومن أوّله ما أنت بسبيله رجاء وفرجا بأن يُظْفِرَكَ بهم، حتى ينقادوا للحقّ الذي جئتهم به طوعا وكَرها.
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية لما نزلت، بَشَّر بها أصحابه وقال: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ".
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت يونس، قال: قال الحسن: لما نزلت هذه الآية (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبْشِرُوا أتاكُمُ اليُسْرُ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن يونس، عن الحسن، مثله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم يوما مسرورا فَرِحا وهو يضحك، وهو يقول: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشَّر أصحابه بهذه الآية، فقال: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن معاوية بن قرة أبي إياس، عن رجل، عن عبد الله بن مسعود، قال: لو دخل العسر في جُحْر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه، لأن الله يقول: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) .(24/495)
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن رجل، عن عبد الله، بنحوه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم: قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) قال: يتبع اليسرُ العُسَر.
وقوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فإذا فَرعت من صلاتك، فانصب إلى ربك في الدعاء، وسله حاجاتك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) يقول: في الدعاء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) يقول: فإذا فرغت مما فُرض عليك من الصلاة فسل الله، وارغب إليه، وانصب له.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال: إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك إلى ربك.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) يقول: من الصلاة المكتوبة قبل أن تسلِّم، فانصَب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) قال: أمره إذا فرغ من صلاته أن يبالغ في دعائه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ) من صلاتك (فَانْصَبْ) في الدعاء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: (فَإِذَا فَرَغْتَ) من جهاد عدوّك (فَانْصَبْ) في عبادة ربك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الحسن في(24/496)
قوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال: أمره إذا فرغ من غزوه، أن يجتهد في الدعاء والعبادة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال عن أبيه: فإذا فرغت من الجهاد، جهاد العرب، وانقطع جهادهم، فانصب لعبادة الله (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإذا فرغت من أمر دنياك، فانصب في عبادة ربك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال: إذا فرغت من أمر الدنيا فانصب، قال: فصّل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال: إذا فرغت من أمر دنياك فانصب، فصّل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ) قال: إذا فرغت من أمر الدنيا، وقمت إلى الصلاة، فاجعل رغبتك ونيتك له.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن الله تعالى ذكره، أمر نبيه أن يجعل فراغه من كلّ ما كان به مشتغلا من أمر دنياه وآخرته، مما أدّى له الشغل به، وأمره بالشغل به إلى النصب في عبادته، والاشتغال فيما قرّبه إليه، ومسألته حاجاته، ولم يخصص بذلك حالا من أحوال فراغه دون حال، فسواء كلّ أحوال فراغه، من صلاة كان فراغه، أو جهاد، أو أمر دنيا كان به مشتغلا لعموم الشرط في ذلك، من غير خصوص حال فراغ، دون حال أخرى.
وقوله: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) يقول تعالى ذكره: وإلى ربك يا محمد فاجعل رغبتك، دون من سواه من خلقه، إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) قال: اجعل نيتك ورغبتك إلى الله.(24/497)
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) قال: اجعل رغبتك ونيتك إلى ربك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) قال: إذا قمت إلى الصلاة.
آخر تفسير سورة ألم نشرح(24/498)
تفسير سورة التين(24/499)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل جلاله وتقدست أسماؤه: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) فقال بعضهم: عُنِي بالتين: التين الذي يؤكل، والزيتون: الزيتون الذي يُعْصر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قول الله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: تينكم هذا الذي يؤكل، وزيتونكم هذا الذي يُعْصر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت الحكم يحدّث، عن عكرِمة، قال: التين: هو التين، والزيتون: الذي تأكلون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: تينكم وزيتونكم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء، قال: سُئِل عكرِمة عن قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: التين تينكم هذا، والزيتون: زيتونكم هذا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: التين الذي يؤكل، والزيتون: الذي يعصر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.(24/501)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران؛ وحدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، جميعا عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: الفاكهة التي تأكل الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سلام بن سليم، عن خصيف، عن مجاهد (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: هو تينكم وزيتونكم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، في قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: التين الذي يؤكل، والزيتون الذي يُعصر.
حدثنا بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبيّ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) هو الذي ترون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتَادة، قال: قال الحسن، فى قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) : التين تينكم، والزيتون زيتونكم هذا.
وقال آخرون: التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا عوف، عن يزيد أبي عبد الله، عن كعب أنه قال في قول الله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَالتِّينِ) قال: الجبل الذي عليه دمشق (وَالزَّيْتُونَ) : الذي عليه بيت المقدس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ذُكر لنا أن التين الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الذي عليه بيت المقدس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وسألته عن قول الله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال: التين: مسجد دمشق، والزيتون، مسجد إيلياء.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي بكر، عن عكرِمة (وَالتِّينِ(24/502)
وَالزَّيْتُونِ) قال: هما جبلان.
وقال آخرون: التين: مسجد نوح، والزيتون: مسجد بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) يعني مسجد نوح الذي بني على الجوديّ، والزيتون: بيت المقدس؛ قال: ويقال: التين والزيتون وطور سينين: ثلاثة مساجد بالشام.
والصواب من القول في ذلك عندنا: قول من قال: التين: هو التين الذي يُؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت، لأن ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يُعرف جبل يسمى تينا، ولا جبل يقال له زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالتين والزيتون. والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين، ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهبا، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوّز خلافه، لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون.
وقوله: (وَطُورِ سِينِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: هو جبل موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه ومسجده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن قزعة، قال: قلت لابن عمر: إني أريد أن آتي بيت المقدس (وَطُورِ سِينِينَ) فقال: لا تأت طور سينين، ما تريدون أن تدعوا أثر نبيّ إلا وطئتموه. قال قتادة (وَطُورِ سِينِينَ) : مسجد موسى صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله.
(طُورِ سِينِينَ) قال: جبل موسى.
قال: ثنا عوف، عن يزيد أبي عبد الله، عن كعب، في قوله: (وَطُورِ سِينِينَ) قال: جبل موسى صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَطُورِ سِينِينَ) قال: هو الطُّور.(24/503)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَطُورِ سِينِينَ) قال: مسجد الطور.
وقال آخرون: الطور: هو كلّ جبل يُنْبِتُ. وقوله (سِينِينَ) : حسن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا عمارة، عن عكرِمة، في قوله: (وَطُورِ سِينِينَ) قال: هو الحسن، وهي لغة الحبشة، يقولون للشيء الحسن: سِينا سِينا.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سُئل عكرِمة، عن قوله (وَطُورِ سِينِينَ) قال: طُور: جبل، وسِينين: حَسَنٌ بالحبشية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الصباح بن محارب، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: صليت خلف عمر بن الخطاب رضى الله عنه المغرب، فقرأ في أوّل ركعة (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ) قال: هو جبل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحكم يحدّث، عن عكرِمة (وَطُورِ سِينِينَ) قال: سواء علي نبات السهل والجبل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَطُورِ سِينِينَ) قال: الجبل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَطُورِ سِينِينَ) : جبل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَطُورِ سِينِينَ) الجبل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن النضر، عن عكرِمة، قال: الطور: الجبل، والسينين: الحسن، كما ينبت في السهل، كذلك ينبت في الجبل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبيّ، أما (طُورِ سِينِينَ) فهو الجبل ذو الشجر.(24/504)
وقال آخرون: هو الجبل، وقالوا: سينين: مبارك حسن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَطُورِ) : الجبل و (سِينِينَ) قال: المبارك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَطُورِ سِينِينَ) قال: جبل مبارك بالشام.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَطُورِ سِينِينَ) قال: جبل بالشام، مُبارك حسن.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: طور سينين: جبل معروف، لأن الطور هو الجبل ذو النبات، فإضافته إلى سينين تعريف له، ولو كان نعتا للطور، كما قال من قال معناه حسن أو مبارك، لكان الطور منّونا، وذلك أن الشيء لا يُضاف إلى نعته، لغير علة تدعو إلى ذلك.
وقوله: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) يقول: وهذا البلد الآمن من أعدائه أن يحاربوا أهله، أو يغزوهم. وقيل: الأمين، ومعناه: الآمن، كما قال الشاعر:
ألمْ تَعْلَمي يا أسْمَ وَيحَكِ أنَّنِي ... حَلَفْتُ يمِينا لا أخُونُ أمِيني (1)
يريد: آمني، وهذا كما قال جلّ ثناؤه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) .
وإنما عني بقوله: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) : مكة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) قال: مكة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا عوف، عن يزيد أبي عبد الله،
__________
(1) ليس في ديوانه، ونسبه القرطبي في تفسيره 1: 128 لعامر بن الطفيل، وليس في ديوانه، فإن يكن هذليا، فلعله من شعر المتنخل، وله قصيدة في ديوان الهذليين 2: 18 - 28، على هذه القافية. ولعمرو بن معد يكرب أبيات مثلها رواها القالي في النوادر 3: 191.(24/505)
عن كعب، في قول الله (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) قال: البلد الحرام.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) قال: البلد الحرام.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان؛ وحدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) قال مكة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سَلام بن سليم، عن خَصيف، عن مجاهد: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) : مكة.
حدثنى يعقوب، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحكم يحدّث عن عكرِمة (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) : قال: البلد الحرام.
قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سُئل عكرِمة، عن قوله (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) قال: مكة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) يعني: مكة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) قال: المسجد الحرام.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) : مكة.
وقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وهذا جواب القسم، يقول تعالى ذكره: والتين والزيتون، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: وقع القسم ها هنا (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (لَقَدْ خَلَقْنَا(24/506)
الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فقال بعضهم: معناه: في أعدل خلق، وأحسن صورة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عاصم، عن أبي رَزِين، عن ابن عباس (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: في أعدل خلق.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: في أحسن صورة.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: خَلْقٍ.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: في أحسن صورة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يقول: في أحسن صورة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) : في أحسن صورة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: أحسن خَلْقٍ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: في أحسن خلق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يقول: في أحسن صورة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، هو والكلبيّ (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قالا في أحسن صورة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لقد خلقنا الإنسان، فبلغنا به استواء شبابه وجلده وقوّته، وهو أحسن ما يكون، وأعدل ما يكون وأقومه.(24/507)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحكم يحدّث، عن عكرِمة، في قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: الشاب القويّ الجَلْد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: شبابه أوّل ما نشأ.
وقال آخرون: قيل ذلك لأنه ليس شيء من الحيوان إلا وهو منكبّ على وجهه غير الإنسان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قال: خلق كلّ شيء منكبا على وجهه، إلا الإنسان.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن معنى ذلك: لقد خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأعدلها؛ لأن قوله: (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) إنما هو نعت لمحذوف، وهو في تقويم أحسن تقويم، فكأنه قيل: لقد خلقناه في تقويم أحسن تقويم.
وقوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ثم رددناه إلى أرذل العمر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: إلى أرذل العمر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عمرو، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: إلى أرذل العمر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) يقول: يرّد إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله، وهم نفر رُدّوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم.(24/508)
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سُئل عكرِمة، عن قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: ردّوا إلى أرذل العمر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: إلى أرذل العمر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: رددناه إلى الهِرَم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: الهِرَم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحكم يحدّث، عن عكرِمة (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: الشيخ الهَرِم، لم يضرّه كبرُه إن ختم الله له بأحسن ما كان يعمل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم رددناه إلى النار في أقبح صورة.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي جعفر الرازيّ، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: في شرّ صورة في صورة خنزير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: النار.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إلى النار.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: في النار.
قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إلى النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: قال الحسن: جهنم مأواه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال:(24/509)
قال الحسن، في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: في النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: إلى النار.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة، وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: معناه: ثم رددناه إلى أرذل العمر، إلى عمر الخَرْفَى، الذين ذهبت عقولهم من الهِرَم والكِبر، فهو في أسفل من سفل في إدبار العمر وذهاب العقل.
وإنما قلنا: هذا القول أولى بالصواب في ذلك؛ لأن الله تعالى ذكره، أخبر عن خلقه ابن آدم، وتصريفه في الأحوال، احتجاجا بذلك على مُنكري قُدرته على البعث بعد الموت، ألا ترى أنه يقول: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) يعني: بعد هذه الحُجَج.
ومحال أن يحتجّ على قوم كانوا مُنكرين معنى من المعاني بما كانوا له مُنكرين. وإنما الحجة على كلّ قوم بما لا يقدرون على دفعه، مما يعاينونه ويحسُّونه، أو يقرّون به، وإن لم يكونوا له مُحسين.
وإذْ كان ذلك كذلك، وكان القوم للنار- التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة- مُنكرين، وكانوا لأهل الهِرَم والخَرَف من بعد الشباب والجَلَد شاهدين، علم أنه إنما احتجّ عليهم بما كانوا له مُعاينين، من تصريفه خلقه، ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والشباب والجلد، إلى الهِرَم والضعف وفناء العمر، وحدوث الخَرَف.
وقوله: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) اختلف أهل التأويل في معنى هذا الاستثناء، فقال بعضهم: هو استثناء صحيح من قوله (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قالوا: وإنما جاز استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم جمع، من الهاء في قوله (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ) وهي كناية الإنسان، والإنسان في لفظ واحد، لأن الإنسان وإن كان في لفظ واحد، فإنه في معنى الجمع، لأنه بمعنى الجنس، كما قيل: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) قالوا: وكذلك جاز أن يقال: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) فيضاف أفعل إلى جماعة، وقالوا: ولو كان مقصودا به قصد واحد بعينه، لم يجز ذلك، كما لا يُقال: هذا أفضل قائمين، ولكن يقال: هذا أفضل قائم
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن سعيد بن سابق، عن عاصم الأحول،(24/510)
عن عكرِمة، قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، ثم قرأ: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئا، فعلى هذا التأويل قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) لخاصّ من الناس، غير داخل فيهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لأنه مستثنى منهم.
وقال آخرون: بل الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد يدخلون في الذين ردّوا إلى أسفل سافلين، لأن أرذل العمر قد يردّ إليه المؤمن والكافر. قالوا: وإنما استثنى قوله: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) من معنى مضمر في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قالوا: ومعناه: ثم رددناه أسفل سافلين، فذهبت عقولهم وخرفوا، وانقطعت أعمالهم، فلم تثبت لهم بعد ذلك حسنة (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فإن الذي كانوا يعملونه من الخير، في حال صحة عقولهم، وسلامة أبدانهم، جار لهم بعد هرمهم وخَرَفهَم.
وقد يُحتمل أن يكون قوله: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) استثناء منقطعا، لأنه يحسن أن يقال: ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لهم أجر غير ممنون، بعد أن يردّ أسفل سافلين.
* ذكر من قال معنى هذا القول:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال: فأيما رجل كان يعمل عملا صالحا وهو قوي شاب، فعجز عنه، جرى له أجر ذلك العمل حتى يموت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يقول: إذا كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها، ثم كبر حتى ذهب عقله، كُتب له مثل عمله الصالح، الذي كان يعمل في شبيبته، ولم يُؤاخذ بشيء مما عمل في كبره، وذهاب عقله، من أجل أنه مؤمن، وكان يطيع الله في شبيبته.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: إلى أرذل العمر، فإذا بلغ المؤمن إلى أرذل العمر، كُتِبَ له كأحسن ما كان يعمل في شبابه وصحته، فهو قوله: (فَلَهُمْ(24/511)
أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فإنه يكتب له من الأجر، مثل ما كان يعمل في الصحة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: إذا بلغ من الكبر ما يعجز عن العمل، كُتِب له ما كان يعمل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فإنه يُكتب لهم حسناتهم ويُتجاوز لهم عن سيئاتهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عاصم، عن أبي رَزين عن ابن عباس (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: هم الذين أدركهم الكبر، لا يؤاخذون بعمل عملوه في كبرهم، وهم هَرْمَى لا يعقلون.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سُئل عكرمة، عن قوله: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال: يوفيه الله أجره أو عمله، ولا يؤاخذه إذا رُدّ إلى أرذل العمر.
حدثني يعقوب، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت الحكم يحدّث، عن عكرِمة (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: الشيخ الهرم لم يضرّه كبره إن ختم الله له بأحسن ما كان يعمل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: من أدركه الهرم، وكان يعمل صالحا، كان له مثل أجره إذا كان يعمل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم رددناه أسفل سافلين في جهنم، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير ممنون، فعلى هذا التأويل: إلا الذين آمنوا(24/512)
وعملوا الصالحات مستثنون من الهاء في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ) ، وجاز استثناؤهم منها إذ كانت كناية للإنسان، وهو بمعنى الجمع، كما قال: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا) : إلا من آمن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن، في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) : في النار (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال الحسن: هي كقوله: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة، قول من قال: معناه: ثم رددناه إلى أرذل العمر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال صحتهم وشبابهم، فلهم أجر غير ممنون بعد هرمهم، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة لما وصفنا من الدلالة على صحة القول بأن تأويل قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) إلى أرذل العمر.
اختلفوا في تأويل قوله: (غَيْرُ مَمْنُونٍ) فقال بعضهم: معناه: لهم أجر غير منقوص.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يقول: غير منقوص.
وقال آخرون: بل معناه: غير محسوب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) : غير محسوب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.(24/513)
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال: غير محسوب.
قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال: غير محسوب.
وقد قيل: إن معنى ذلك: فلهم أجر غير مقطوع.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: فلهم أجر غير منقوص، كما كان له أيام صحته وشبابه، وهو عندي من قولهم: جبل مَنِين: إذا كان ضعيفا؛ ومنه قول الشاعر:
أعْطَوْا هُنَيْدَة يَحْدُوها ثَمَانِيَة ... ما فِي عَطائِهمُ مَنٌّ وَلا سَرَف (1)
يعني: أنه ليس فيه نقص، ولا خطأ.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ) فقال بعضهم معناه: فمن يكذّبك يا محمد بعد هذه الحجج التي احتججنا بها، بالدين، يعني: بطاعة الله، وما بعثك به من الحقّ، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: "ما" في معنى "مَنْ"، لأنه عُنِيَ به ابن آدم، ومن بعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما يكذّبك أيها الإنسان بعد هذه الحجج بالدين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، قال: قلت لمجاهد: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) عني به النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: معاذ الله! عُني به الإنسان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عمن سمع مجاهدا يقول: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) قلت: يعني به: النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: معاذ الله! إنما يعني به الإنسان.
__________
(1) رواه القرطبي في تفسيره 1: 128 "الصراط الواضح".(24/514)
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) أعني به النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: معاذ الله! إنما عُنِيَ به الإنسان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبيّ (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) ؟ إنما يعني الإنسان، يقول: خلقتك في أحسن تقويم، فما يكذّبك أيها الإنسان بعد بالدين.
وقال آخرون: إنما عني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: استيقن مع ما جاءك من الله من البيان، أن الله أحكم الحاكمين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) أي استيقن بعد ما جاءك من الله البيان (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى "ما" معنى "مَنْ"، ووجه تأويل الكلام إلى: فمن يكذبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين؟ يعني: بطاعة الله، ومجازاته العباد على أعمالهم. وقد تأوّل ذلك بعض أهل العربية بمعنى: فما الذي يكذّبك بأن الناس يدانون بأعمالهم؟ وكأنه قال: فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعد ما تبين له خلقنا الإنسان على ما وصفنا.
واختلفوا في معنى قوله: (بِالدِّينِ) فقال بعضهم: بالحساب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الرحمن بن الأسود الطُّفاوي، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربيّ، عن عكرِمة، في قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) قال: الحساب.
وقال آخرون: معناه: بحكم الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) يقول: ما يكذّبك بحكم الله.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: الدين في هذا الموضع: الجزاء والحساب، وذلك أن أحد معانى الدين في كلام العرب: الجزاء والحساب؛ ومنه قولهم:(24/515)
كما تدين تُدان. ولا أعرف من معاني الدين "الحكم" في كلامهم، إلا أن يكون مرادا بذلك: فما يكذّبك بعد بأمر الله الذي حكم به عليك أن تطيعه فيه؟ فيكون ذلك.
وقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) يقول تعالى ذكره: أليس الله يا محمد بأحكم من حكم في أحكامه، وفصل قضائه بين عباده؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ذلك فيما بلغنا قال: بَلى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: "بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين".
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، قال: كان ابن عباس إذا قرأ: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) قال: سبحانك اللهمّ، وبلى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: كان قتادة إذا تلا (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، أحسبه كان يرفع ذلك؛ وإذا قرأ: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) ؟ قال: بلى، وإذا تلا (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) قال: آمنت بالله، وبما أنزل.
آخر تفسير سورة والتين(24/516)
تفسير سورة اقرأ باسم ربك(24/517)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل جلاله وتقدست أسماؤه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) } .
يعني جل ثناؤه بقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: اقرأ يا محمد بذكر ربك (الَّذِي خَلَقَ) ثم بين الذي خلق فقال: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) يعني: من الدم، وقال: من علق؛ والمراد به من علقة، لأنه ذهب إلى الجمع، كما يقال: شجرة وشجر، وقصَبة وَقصَب، وكذلك علقة وعَلَق. وإنما قال: من علق والإنسان في لفظ واحد، لأنه في معنى جمع، وإن كان في لفظ واحد، فلذلك قيل: من عَلَق.
وقوله: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ) يقول: اقرأ يا محمد وربك الأكرم (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) خَلْقَهُ للكتابة والخط.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) قرأ حتى بلغ (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) قال: القلم: نعمة من الله عظيمة، لولا ذلك لم يقم، ولم يصلح عيش. وقيل: إن هذه أوّل سورة نزلت في القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن عثمان البصري، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي،(24/519)
قال: سمعت النعمان بن راشد يقول عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة أنها قالت كان أوّل ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة؛ كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، فكان بغار حراء يتحنَّث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ثم يرجع إلى أهله فيتزوّد لمثلها، حتى فجأه الحق، فأتاه، فقال: يا محمد أنت رسول الله، قال رسول الله: "فَجَثَوْتُ لِرُكْبَتيَّ وأنا قائِمٌ، ثُمَّ رَجَعْتُ تَرْجُفُ بَوَادِرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلى خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، حتى ذَهَبَ عنِّي الرَّوْعُ، ثُمَّ أتانِي فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، أنا جِبْرِيُل وأنْتَ رَسُولُ اللهِ، قال: فَلَقَدْ هَمَمْت أنْ أطْرَحَ نَفسِي مِنْ حالِقٍ [مِنْ جَبَلٍ] ، فَتَمَثَّل إليَّ حِينَ هَمَمْتُ بذلكَ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، أنا جِبْرِيلُ، وأنْتَ رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قالَ: اقْرأ، قُلْتُ: ما أقْرأ؟ قال: فأخَذَنِي فَغطَّنِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ قالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فَقَرأتُ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقَلْتُ: لَقَدْ أشْفَقْتُ عَلى نَفْسِي، فأخْبَرْتُها خَبرِي، فَقالَتْ: أبْشِرْ، فَوَاللهِ لا يُخْزِيكَ الله أبدًا، وَوَاللهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتُؤَدِّي الأمانَةَ، وَتحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ عَلى نَوَائِبِ الْحَقّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِي إلى وَرَقَةَ بنِ نَوْفَل بنِ أسَدٍ، قالَتْ: اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أخِيكَ، فَسأَلنِي، فأخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقالَ: هَذا النَّامُوسُ الَّذِي أُنزلَ عَلَى مُوسَى صَلى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ، لَيْتَنِي فِيها جَذَعٌ، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قُلْتُ: أوَ مُخْرِجيَّ هُمْ؟ قال: نَعَمْ، إنَّهُ لَمْ يَجِئ رَجُلٌ قَطّ بِمَا جِئْتَ بِهِ، إلا عُودِيَ، وَلَئِنْ أدْرَكَنِي يَوْمُك أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ كانَ أوَّل ما نزلَ عَليَّ مِنَ القُرْآنِ بَعْدَ (اقرأ) : (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) و (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: ثني عروة أن عائشة أخبرته، وذكر نحوه، غير أنه لم يقل:" ثم كان أوّل ما أنزل عليّ من القرآن ... الكلام إلى آخره.
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا سليمان الشيباني، قال: ثنا عبد الله بن شدّاد، قال: أتى جبريل محمدا، فقال: يا محمد اقرأ، فقال:(24/520)
"وما أقرا؟ " قال: فضمه، ثم قال: يا محمد اقرأ، قال: "وما اقرأ؟ " قال: (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) حتى بلغ (عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) . قال: فجاء إلى خديجة، فقال: "يا خديجة ما أراه إلا قد عرض لي"، قالت: كلا والله ما كان ربك يفعل ذلك بك، وما أتيت فاحشة قطّ؛ قال: فأتت خديجة ورقة فأخبرته الخبر، قال: لئن كنت صادقة إن زوجك لنبيّ، ولَيَلْقَينّ من أمته شدة، ولئن أدركته لأومننّ به، قال: ثم أبطأ عليه جبريل، فقالت له خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك، فأنزل الله: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، قال: ثنا سفيان، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة- قال إبراهيم: قال سفيان: حفظه لنا ابن إسحاق- إن أوّل شيء أُنزل من القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) .
حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري، قال: ثنا سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن الزهريّ عن عروة، عن عائشة، أن أوّل سورة أُنزلت من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن عُبيد بن عُمير، قال: أوّل سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) .
قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال. ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عُبيد بن عُمير يقول، فذكر نحوه.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال. أخبرنا النضر بن شميل، قال: ثنا قرّة، قال: أخبرنا أبو رجاء العُطارديّ، قال: كنا في المسجد الجامع، ومقرئنا أبو موسى الأشعري، كأني أنظر إليه بين بُردين أبيضين؛ قال أبو رجاء: عنه أخذت هذه السورة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وكانت أوّل سورة نزلت على محمد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: أوّل سورة نزلت من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن بن مهدي، قالا ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أوّل ما نزل من القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(24/521)
وزاد ابن مهدي: و (ن وَالْقَلَمِ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عُبيد بن عُمير يقول: أوّل ما أنزل من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) .
قال ثنا وكيع، عن قُرّة بن خالد، عن أبي رجاء العُطارديّ، قال: إني لأنظر إلى أبي موسى وهو يقرأ القرآن في مسجد البصرة، وعليه بُردان أبيضان، فأنا أخذت منه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، وهي أوّل سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إن أوّل سورة أُنزلت: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) . ثم (ن وَالْقَلَمِ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وقوله: (عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) يقول تعالى ذكره: علَّم الإنسان الخطّ بالقلم، ولم يكن يَعْلَمُهُ، مع أشياء غير ذلك، مما علمه ولم يكن يعلمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) قال: علَّم الإنسان خطا بالقلم.
وقوله: (كَلا) يقول تعالى ذكره: ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان أن يُنْعِم عليه ربُّه بتسويته خَلقه، وتعليمه ما لم يكن يعلم، وإنعامه بما لا كُفءَ له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك، ويطغى عليه، أن رآه استغنى.
وقوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) يقول: إن الإنسان ليتجاوز حدّه، ويستكبر على ربه، فيكفر به، لأن رأى نفسه استغنت. وقيل: إن رآه استغنى لحاجة "رأى" إلى اسم وخبر، وكذلك تفعل العرب في كل فعل اقتضى الاسم والفعل، إذا أوقعه المخبر عن نفسه على نفسه، مكنيا عنها فيقول: متى تراك خارجا؟ ومتى تحسبك سائرا؟ فإذا كان الفعل لا يقتضي إلا منصوبا واحدا، جعلوا موضع المكنى نفسه، فقالوا: قتلت نفسك، ولم يقولوا: قتلتك ولا قتلته.
وقوله: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) : يقول: إن إلى ربك يا محمد مَرْجِعَه، فذائق من(24/522)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
أليم عقابه ما لا قبل له به.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) } .
ذُكر أن هذه الآية وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام، وذلك أنه قال فيما بلغنا: لئن رأيت محمدا يصلي، لأطأنّ رقبته؛ وكان فيما ذُكر قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أرأيت يا محمد أبا جهل الذي يَنْهاك أن تصلي عند المقام، وهو مُعرض عن الحقّ، مكذّب به. يُعجِّب جلّ ثناؤه نبيه والمؤمنين من جهل أبي جهل، وجراءته على ربه، في نهيه محمدا عن الصلاة لربه، وهو مع أياديه عنده مكذّب به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح. عن مجاهد. في قول الله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) قال: أبو جهل، يَنْهي محمدا صلى الله عليه وسلم إذا صلى.
حدثنا بشر. قال: ثنا يزيد. قال: ثنا سعيد. عن قتادة (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) نزلت في عدوّ الله أبي جهل، وذلك لأنه قال: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأنّ على عنقه، فأنزل الله ما تسمعون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قول الله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا صلى الله عليه وسلم يصلي، لأطأنّ على عنقه؛ قال: وكان يقال: لكل أمة فرعون، وفرعون هذه الأمة أبو جهل.
حدثنا إسحاق بن شاهين الواسطيّ، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه أن يصلي، فأنزل الله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ...(24/523)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
إلى قوله: (كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) } .
يقول تعالى ذكره: (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ) محمد (عَلَى الْهُدَى) يعني: على استقامة وسَدَاد في صلاته لربه (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) أو أمر محمد هذا الذي ينهي عن الصلاة، باتقاء الله، وخوف عقابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) قال محمد: كان على الهدى، وأمر بالتقوى.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) } .
يقول تعالى ذكره: (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ) أبو جهل بالحق الذي بعث به محمدًا (وَتَوَلَّى) يقول: وأدبر عنه، فلم يصدِّّق به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يعني: أبا جهل.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) } .
يقول تعالى ذكره: ألم يعلم أبو جهل إذ ينهى محمدا عن عبادة ربه، والصلاة له، بأن الله يراه فيخاف سطوته وعقابه. وقيل: أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى،(24/524)
أرأيت إن كان على الهدى، فكررت أرأيت مرات ثلاثًا على البدل. والمعنى: أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى، وهو مكذب متول عن ربه، ألم يعلم بأن الله يراه.
وقوله: (كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) يقول: ليس كما قال: إنه يطأ عنق محمد، يقول: لا يقدر على ذلك، ولا يصل إليه.
قوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) يقول: لئن لم ينته أبو جهل عن محمد (لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ) يقول: لنأخذنّ بمقدم رأسه، فلنضمنه ولنُذلنه؛ يقال منه: سفعت بيده: إذا أخذت بيده. وقيل: إنما قيل (لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ) والمعنى: لنسوّدنّ وجهه، فاكتفى بذكر الناصية من الوجه كله، إذ كانت الناصية في مقدم الوجه. وقيل: معنى ذلك: لنأخذنّ بناصيته إلى النار، كما قال: (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ) .
وقوله: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) فخفض ناصية ردّا على الناصية الأولى بالتكرير، ووصف الناصية بالكذب والخطيئة، والمعنى لصاحبها.
وقوله: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) يقول تعالى ذكره: فليدع أبو جهل أهل مجلسه وأنصاره، من عشيرته وقومه، والنادي: هو المجلس.
وإنما قيل ذلك فيما بلغنا، لأن أبا جهل لما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند المقام، انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظ له، فقال أبو جهل: علام يتوعدني محمد وأنا أكثر أهل الوادي ناديا؟ فقال الله جلّ ثناؤه: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ) ، فليدع حينئذ ناديه، فإنه إن دعا ناديه، دعونا الزبانية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار، وقال أهل التأويل.
* ذكر الآثار المروية في ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الأحمر؛ وحدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا الحكم بن جميع، قال: ثنا عليّ بن مُسْهِر، جميعا عن داود بن أبي هند، عن عكرِمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، فمرّ به أبو جهل بن هشام، فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا؟ وتوعَّده، فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال: يا محمد بأيّ شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا، فأنزل الله: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) قال ابن عباس: لو دعا ناديه، أخذته زبانية العذاب من ساعته.(24/525)
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه أن يصلي، فأنزل الله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ... إلى قوله: (كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) فقال: لقد علم أني أكثر هذا الوادي نَادِيا، فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتكلم بشيء، قال داود: ولم أحفظه، فأنزل الله: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) فقال ابن عباس: فوالله لو فعل لأخذته الملائكة من مكانه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن أبيه، قال: ثنا نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل نعم، قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك، لأطأنّ على رقبته، لأعفرنّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عَقبيه، ويتقي بيديه؛ قال: فقيل له: مالك؟ قال: فقال: إن بيني وبينه خَنْدقا من نار، وهَوْلا وأجنحة؛ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ دَنا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ المَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا" قال: وأنزل الله، لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يعني أبا جهل (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) يدعو قومه (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) الملائكة (كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن الوليد بن العَيْزار، عن ابن عباس، قال: قال أبو جهل: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه، فأنزل الله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) حتى بلغ هذه الآية: (لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) ، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فقيل له: ما يمنعك؟ قال: "قد اسودّ ما بيني وبينه من الكتائب" ... قال ابن عباس: والله لو تحرّك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا زكريا بن عديّ، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو جهل: لئن رأيت(24/526)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، لآتينه حتى أطأ على عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ فَعَلَ لأخَذَتْهُ المَلائِكَةُ عِيانا".
وبالذي قلنا في معنى النادي قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن مسعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) يقول: فليدع ناصره.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) قال: الملائكة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل: الزبانية أرجلهم في الأرض، ورءوسهم في السماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عن قتادة، في قوله: (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ فَعَلَ أبُو جَهْلٍ لأخَذَتْهُ الزَّبانِيَةُ المَلائِكَةُ عِيانًا".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) قال: الملائكة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: الزبانية، قال: الملائكة.
وقوله: (كُلا) يقول تعالى ذكره: ليس الأمر كما يقول أبو جهل، إذ ينهي محمدًا عن عبادة ربه، والصلاة له (لا تُطِعْهُ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تُطع أبا جهل فيما أمرك به من ترك الصلاة لربك (وَاسْجُدْ) لِرَبّكَ (وَاقْتَرَبَ) منه، بالتحبب إليه بطاعته، فإن أبا جهل لن يقدر على ضرّك، ونحن نمنعك منه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) ذكر لنا أنها نزلت في أبي جهل، قال: لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأنّ عنقه، فأنزل الله: (كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) قال نبي الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه الذي قال أبو جهل، قال: "لو فعل لاختطفته الزبانية".
آخر تفسير سورة اقرأ باسم ربك، والحمد لله وحده.(24/527)
تفسير سورة القدر(24/529)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) } .
يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا هذا القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القَدْر، وهي ليلة الحُكْم التي يقضي الله فيها قضاء السنة؛ وهو مصدر من قولهم: قَدَرَ الله عليّ هذا الأمر، فهو يَقْدُر قَدْرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن كله مرة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئًا أنزله منه حتى جمعه.
حدثنا ابن المثنى قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، وكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، فهو قوله: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) .
قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس، فذكر نحوه، وزاد فيه. وكان بين أوّله وآخره عشرون سنة.
قال ثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: ثنا المعتمر بن سليمان التيميّ، قال: ثنا عمران أبو العوّام، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، أنه قال في قول الله: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال: نزل أول القرآن في ليلة القدر.(24/531)
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن حكيم بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن في ليلة من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فُرِّق في السنين، وتلا ابن عباس هذه الآية: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) قال: نزل متفرّقا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن داود، عن الشعبيّ، في قوله: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال: بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم، عن سعيد بن جُبير: أنزل القرآن جملة واحدة، ثم أنزل ربنا في ليلة القدر: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) .
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قوله (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر، إلى السماء الدنيا، فكان بموقع النجوم، فكان الله ينزله على رسوله، بعضه في أثر بعض، ثم قرأ: (وقالوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (ليلة القدر) : ليلة الحكم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال: ليلة الحكم.
ثنا وكيع. عن سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جُبير: يؤذن للحجاج في ليلة القدر، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد، ولا يُزاد فيهم، ولا ينقص منهم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: قال رجل للحسن وأنا أسمع: رأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كلّ رمضان، وإنها لليلة القدر، (فيها يُفرق كلّ أمر حكيم)(24/532)
فيها يقضي الله كلّ أجل وعمل ورزق، إلى مثلها.
حدثنا أبو كُرَيب. قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عمر. قال: ليلة القدر في كلّ رمضان.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) يقول: وما أشعرك يا محمد أيّ شيء ليلة القدر خير من ألف شهر.
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: العمل في ليلة القدر بما يرضي الله، خير منَ العمل في غيرها ألف شهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: بلغني عن مجاهد (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر.
قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس الملائي، قوله: (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قال: عملٌ فيها خير من عمل ألف شهر.
وقال آخرون: معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ليس فيها ليلة القدر.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حَكَّام بن سلم، عن المُثَنَّى بن الصَّبَّاح، عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتى يُمْسِيَ، ففعل ذلك ألف شهر، فأنزل الله هذه الآية: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني أبو الخطاب الجاروديّ سهيل، قال: ثنا سَلْم بن قُتيبة، قال: ثنا القاسم بن الفضل، عن عيسى بن مازن، قال: قلت للحسن بن عليّ رضى الله عنه: يا مسوّد وجوه المؤمنين، عمدت إلى هذا الرجل، فبايعت له، يعني معاوية بن أبي سفيان، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري في منامه بني أميَّة يعلون منبره حليفة خليفة، فشقّ ذلك عليه، فأنزل الله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) و (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) يعني ملك(24/533)
بني أمية؛ قال القاسم: فحسبنا مُلْكَ بني أمية، فإذا هو ألف شهر.
وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزيل قول من قال: عملٌ في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر. وأما الأقوال الأخر، فدعاوى معان باطلة، لا دلالة عليها من خبر ولا عقل، ولا هي موجودة في التنزيل.
وقوله: (تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: تنزل الملائكة وجبريل معهم، وهو الروح في ليلة القدر (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) يعني بإذن ربهم، من كلّ أمر قضاه الله في تلك السنة، من رزق وأجل وغير ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) قال: يقضى فيها ما يكون في السنة إلى مثلها.
فعلى هذا القول منتهى الخبر، وموضع الوقف من كلّ أمر.
وقال آخرون: (تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلَّموا عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن يحيى بن زياد الفرّاء، قال: ثني أبو بكر بن عياش، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: "من كل امرئ سلام" وهذه القراءة من قرأ بها وجَّه معنى من كلّ امرئ: من كلّ ملَك؛ كان معناه عنده: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ ملك يسلم على المؤمنين والمؤمنات؛ ولا أرى القراءة بها جائزة، لإجماع الحجة من القرّاء على خلافها، وأنها خلاف لما في مصاحف المسلمين، وذلك أنه ليس في مصحف من مصاحف المسلمين في قوله "أمر" ياء، وإذا قُرِئت: (مِنْ كُلّ امْرِئ) لحقتها همزة، تصير في الخطّ ياء.
والصواب من القول في ذلك: القول الأوّل الذي ذكرناه قبل، على ما تأوّله قتادة.
وقوله: (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) سلام ليلة القدر من الشرّ كله من أوّلها إلى طلوع الفجر من ليلتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/534)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (سَلامٌ هِيَ) قال: خير (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ) أي هي خير كلها إلى مطلع الفجر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) قال: من كلّ أمر سلام.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (سَلامٌ هِيَ) قال: ليس فيها شيء، هي خير كلها (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) .
موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا عبد الحميد الحمانيّ، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى، في قوله: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ) قال: لا يحدث فيها أمر.
وعُنِي بقوله: (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) : إلى مطلع الفجر.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار، سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي (مَطْلَعِ الْفَجْرِ) بفتح اللام، بمعنى: حتى طلوع الفجر؛ تقول العرب: طلعت الشمس طلوعا ومطلعا. وقرأ ذلك يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي: (حتى مَطْلِعِ الْفَجْرِ) بكسر اللام، توجيها منهم ذلك إلى الاكتفاء بالاسم من المصدر، وهم ينوون بذلك المصدر.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا: فتح اللام لصحة معناه في العربية، وذلك أن المطلع بالفتح هو الطلوع، والمطلع بالكسر: هو الموضع الذي تطلع منه، ولا معنى للموضع الذي تطلع منه في هذا الموضع.
آخر تفسير سورة القدر(24/535)
تفسير سورة لم يكن(24/537)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) فقال بعضهم: معنى ذلك: لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل، والمشركون من عَبدة الأوثان (مُنْفَكِّينَ) يقول: منتهين حتى يأتيهم هذا القرآن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (مُنْفَكِّينَ) قال: لم يكونوا ليَنتهوا حتى يتبين لهم الحق.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (مُنْفَكِّينَ) قال: منتهين عما هم فيه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي هذا القرآن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله:(24/539)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
(وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) قال: لم يكونوا منتهين حتى يأتيهم; ذلك المنفكّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون، لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم، حتى بُعث، فلما بُعث تفرّقوا فيه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: معنى ذلك: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد، حتى تأتيهم البيِّنة، وهي إرسال الله إياه رسولا إلى خلقه، رسول من الله. وقوله. (مُنْفَكِّينَ) في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الآخر، ولذلك صَلُح بغير خبر، ولو كان بمعنى ما زال، احتاج إلى خبر يكون تماما له، واستؤنف قوله (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ) هي نكرة على البيِّنة، وهي معرفة، كما قيل: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ) فقال: حتى يأتيهم بيان أمر محمد أنه رسول الله، ببعثة الله إياه إليهم، ثم ترجم عن البيِّنة، فقال: تلك البينة
(رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً) يقول: يقرأ صحفا مطهرة من الباطل
(فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يقول: في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة، ليس فيها خطأ، لأنها من عند الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً) يذكر القرآن بأحسن الذكر، ويثني عليه بأحسن الثناء.
وقوله: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) يقول: وما تفرّق اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فكذّبوا به، إلا من بعد ما جاءتهم البينة، يعني: من بعد ما جاءت هؤلاء اليهود والنصارى البينة، يعني: أن بيان أمر محمد أنه رسول بإرسال الله إياه إلى خلقه، يقول: فلما بعثه الله تفرّقوا فيه، فكذّب به بعضهم، وآمن بعضهم، وقد كانوا قبل أن يُبعث غير مفترقين فيه أنه نبيّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) } .(24/540)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
يقول تعالى ذكره: وما أمر الله هؤلاء اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين; يقول: مفردين له الطاعة، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك، فأشركت اليهود بربها بقولهم إن عُزَيرا ابن الله، والنصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك، وجحودهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (حُنَفَاءَ) قد مضى بياننا في معنى الحنيفية قبل بشواهده المُغنية عن إعادتها، غير أنا نذكر بعض ما لم نذكر قبل من الأخبار في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) يقول: حجاجا مسلمين غير مشركين، يقول: ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويحجوا وذلك دين القيمة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) والحنيفية: الختان، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات والمناسك.
وقوله: (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)
يقول: وليقيموا الصلاة، وليؤتوا الزكاة.
وقوله: (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)
يعني أن هذا الذي ذكر أنه أمر به هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، هو الدين القيمة، ويعني بالقيِّمة: المستقيمة العادلة، وأضيف الدين إلى القيِّمة، والدين هو القَيِّم، وهو من نعته لاختلاف لفظيهما. وهي في قراءة عبد الله فيما أرى فيما ذُكر لنا: (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) وأُنِّثت القيمة، لأنها جعلت صفة للملة، كأنه قيل: وذلك الملة القيِّمة، دون اليهودية والنصرانية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) هو الدين الذي بعث الله به رسوله، وشرع لنفسه، ورضي به.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) قال: هو واحد; قيِّمة: مستقيمة معتدلة.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ(24/541)
وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) } .
يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوّته، من اليهود والنصارى والمشركين جميعهم (فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) يقول: ماكثين لابثين فيها (أَبَدًا) لا يخرجون منها، ولا يموتون فيها (أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، هم شرّ من برأه الله وخلقه، والعرب لا تهمز البرية، وبترك الهمز فيها قرأتها قراء الأمصار، غير شيء يُذكر عن نافع بن أبي نعيم، فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها، وذهب بها إلى قول الله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) [الحديد: 22] وأنها فعيلة من ذلك. وأما الذين لم يهمزوها، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين: أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها، كما تركوه من الملك، وهو مفعل من ألك أو لأك، ومِن يرى، وترى، ونرى، وهو يفعل من رأيت. والآخر: أن يكونوا وجَّهوها إلى أنها فعيلة من البري وهو التراب. حكي عن العرب سماعا: بفيك البري، يعني به: التراب.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)
يقول تعالى ذكره: إن الذين آمنوا بالله ورسوله محمد، وعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا الله فيما أمر ونهى (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) يقول: من فعل ذلك من الناس فهم خير البرية. وقد: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن محمد بن عليّ (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنْتَ يا عَلي وَشِيعَتُكَ".(24/542)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
القول في تأويل قوله تعالى جل جلاله وتقدست أسماؤه: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) } .
يقول تعالى ذكره: ثواب هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم يوم(24/542)
القيامة (جَنَّاتِ عَدْنٍ) يعني بساتين إقامَة لا ظعن فيها، تجري من تحت أشجارها الأنهار (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يقول: ماكثين فيها أبدًا، لا يخرجون عنها، ولا يموتون فيها
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) بما أطاعوه في الدنيا، وعملوا لخلاصهم من عقابه في ذلك
(وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من الثواب يومئذ، على طاعتهم ربهم في الدنيا، وجزاهم عليها من الكرامة.
وقوله: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)
يقول تعالى ذكره: هذا الخير الذي وصفته، ووعدته الذين آمنوا وعملوا الصالحات يوم القيامة، لمن خشي ربه; يقول: لمن خاف الله في الدنيا في سرّه وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وبالله التوفيق.
آخر تفسير سورة لم يكن(24/543)
تفسير سورة إذا زلزلت(24/545)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) } .
يقول تعالى ذكره: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ) لقيام الساعة (زِلْزَالَهَا) فرُجَّت رجًّا; والزلزال: مصدر إذا كسرت الزاي، وإذا فتحت كان اسما; وأضيف الزلزال إلى الأرض وهو صفتها، كما يقال: لأكرمنك كرامتك، بمعنى: لأكرمنك كرامة. وحسن ذلك في زلزالها، لموافقتها رءوس الآيات التي بعدها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، قال: (زُلْزِلَتِ الأرْضُ) على عهد عبد الله، فقال لها عبد الله: مالك، أما إنها لو تكلَّمت قامت الساعة.
وقوله: (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا) يقول: وأخرجت الأرض ما في بطنها من الموتى أحياء، والميت في بطن الأرض ثقل لها، وهو فوق ظهرها حيا ثقل عليها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرِمة، عن ابن عباس (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا) قال: الموتى.(24/547)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا) قال: يعني الموتى.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا) من في القبور.
وقوله: (وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا) يقول تعالى ذكره: وقال الناس إذا زلزلت الأرض لقيام الساعة: ما للأرض وما قصتها (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) .
كان ابن عباس يقول في ذلك ما حدثني ابن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرِمة، عن ابن عباس، (وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا) قال الكافر: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)
يقول: يومئذ تحدث الأرض أخبارها، وتحديثها أخبارها، على القول الذي ذكرناه عن عبد الله بن مسعود، أن تتكلم فتقول: إن الله أمرني بهذا، وأوحى إليّ به، وأذن لي فيه.
وأما سعيد بن جبير، فإنه كان يقول في ذلك ما حدثنا به أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن عبد الملك، قال: سمعت سعيد بن جبير يقرأ في المغرب مرة: (يَوْمَئِذٍ تُنَبِّئُ أَخْبَارَها) ومرة: (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) .
فكأن معنى تحدّث كان عند سعيد: تُنَبِّئُ، وتنبيئها أخبَارَهَا: إخراجها أثقالها من بطنها إلى ظهرها. وهذا القول قول عندي صحيح المعنى، وتأويل الكلام على هذا المعنى: يومئذ تبين الأرض أخبارها بالزلزلة والرجة، وإخراج الموتى من بطونها إلى ظهورها، بوحي الله إليها، وإذنه لها بذلك، وذلك معنى قوله: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) قال: أمرها، فألقَت ما فيها وتخلَّت.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) قال: أمرها.
وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرأ ذلك: (يَوْمَئِذٍ تُنْبِّئُ أَخْبَارَها) وقيل: معنى(24/548)
ذلك أن الأرض تحدث أخبارها من كان على ظهرها من أهل الطاعة والمعاصي، وما عملوا عليها من خير أو شرّ.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) قال: ما عمل عليها من خير أو شرّ، (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) قال: أعلمها ذلك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) قال: ما كان فيها، وعلى ظهرها من أعمال العباد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) قال: تخبر الناس بما عملوا عليها.
وقيل: عنى بقوله: (أَوْحَى لَهَا) : أوحى إليها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرِمة، عن ابن عباس (أَوْحَى لَهَا) قال: أوحى إليها.
وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا) قيل: إن معنى هذه الكلمة التأخير بعد (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) قالوا: ووجه الكلام: يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها، لِيُرَوْا أعمالهم، يومئذ يصدر الناس أشتاتا. قالوا: ولكنه اعترض بين ذلك بهذه الكلمة.
ومعنى قوله: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا) عن موقف الحساب فِرَقا متفرقين، فآخذ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار.
وقوله: (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) يقول: يومئذ يصدر الناس أشتاتا متفرّقين، عن اليمين وعن الشمال، ليروا أعمالهم، فيرى المحسن في الدنيا، المطيع لله عمله وما أعد الله له يومئذ من الكرامة، على طاعته إياه كانت في الدنيا، ويرى المسيء العاصي لله عمله وجزاء عمله وما أعدّ الله له من الهوان والخزي في جهنم على معصيته إياه كانت في الدنيا، وكفره به.
وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)
يقول: فمن عمل في الدنيا وزن ذرة من خير، يرى ثوابه هنالك (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) يقول: ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر يرى جزاءه هنالك، وقيل: ومن يعمل والخبر(24/549)
عنها في الآخرة، لفهم السامع معنى ذلك، لما قد تقدم من الدليل قبل، على أن معناه: فمن عمل; ذلك دلالة قوله: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) على ذلك. ولكن لما كان مفهوما معنى الكلام عند السامعين، وكان في قوله: (يَعْمَلْ) حث لأهل الدنيا على العمل بطاعة الله، والزجر عن معاصيه، مع الذي ذكرت من دلالة الكلام قبل ذلك، على أن ذلك مراد به الخبر عن ماضي فعله، وما لهم على ذلك، أخرج الخبر على وجه الخبر عن مستقبل الفعل.
وبنحو الذي قلنا من أن جميعهم يرون أعمالهم، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني على، قال: ثنا بو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) قال: ليس مؤمن ولا كافر عمِل خيرا ولا شرا في الدنيا، إلا آتاه الله إياه. فأما المؤمن فيريه حسناته وسيئاته، فيغفر الله له سيئاته. وأما الكافر فيردّ حسناته، ويعذّبه بسيئاته. وقيل في ذلك غير هذا القول، فقال بعضهم: أما المؤمن، فيعجل له عقوبة سيئاته في الدنيا، ويؤخِّر له ثواب حسناته، والكافر يعجِّل له ثواب حسناته، ويؤخر له عقوبة سيئاته.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: حدثنيه محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن قتادة، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي، وهو يفسِّر هذه الآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) قال: من يعمل مثقال ذرَّة من خير من كافر ير ثوابه في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا، وليس له عنده خير (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) من مؤمن ير عقوبته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس عنده شيء.
حدثني محمود بن خِداش، قال: ثنا محمد بن يزيد الواسطي، قال: ثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، قال: سألت محمد بن كعب القرظي، عن هذه الآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) قال: من يعمل مثقال ذرَّة من خير من كافر، ير ثوابها في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج من الدنيا وليس له خير; ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن، ير عقوبتها(24/550)
في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج وليس له شر.
حدثني أبو الخطاب الحساني، قال: ثنا الهيثم بن الربيع، قال: ثنا سماك بن عطية، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن أنس، قال: كان أبو بكر رضى الله عنه يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فرفع أبو بكر يده من الطعام، وقال: يا رسول الله إني أُجزَى بما عملت من مثقال ذرة من شرّ، فقال: "يا أبا بَكر، ما رأيْتَ في الدنْيا ممَّا تكره فمثَاقيلُ ذَرّ الشَّرّ، وَيَدَّخِرُ لَكَ اللهُ مثَاقِيلَ الخير حتى تُوَفَّاه يَوْمَ الْقِيامَةِ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أيوب، قال: وجدنا في كتاب أبي قِلابة، عن أبي إدريس: أن أبا بكر كان يأكل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزلت هذه الآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فرفع أبو بكر يده من الطعام، وقال: إني لراء ما عملت، قال: لا أعلمه إلا قال: ما عملت من خير وشرّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ما تَرَى مِمَّا تَكْرَهُ فَهُوَ مثَاقِيلُ ذَرّ شَر كَثِيرٍ، وَيَدَّخِرُ اللهُ لَكَ مَثَاقِيلَ ذَرّ الخَيْرِ حتى تُعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وتصديق ذلك في كتاب الله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) .
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا أيوب، قال: قرأت في كتاب أبي قلابة قال: نزلت (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وأبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك وقال: يا رسول الله، إني لراء ما عملت من خير وشر؟ فقال: " أرأيْتَ ما رأيْتَ مِمَّا تَكْرَهُ، فَهُوَ مِنْ مثَاقِيلِ ذَرّ الشَّرِ، وَيَدَّخِرُ مثَاقِيلَ ذَرّ الخَيْرِ، حتى تُعْطَوْهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ" قال أبو إدريس: فأرى مصداقها في كتاب الله، قال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُليَة، عن داود، عن الشعبي، قال: قالت عائشة: يا رسول الله، إن عبد الله بن جُدْعان كان يصل الرحم، ويفعل ويفعل، هل ذاك نافعه؟ قال: "لا إنه لم يقل يوما: " رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويُطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: "لا يَنْفَعُهُ، إنَّهُ لَمْ يَقُلْ يوما: " رب اغفر(24/551)
لي خطيئتي يوم الدين "
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عامر الشعبي، أن عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول الله، إن عبد الله بن جدعان، كان يصل الرحم، ويَقْرِي الضيف، ويفكّ العاني، فهل ذلك نافعه شيئا؟ قال: "لا إنَّهُ لَمْ يقل يوما: " رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عامر، عن علقمة، أن سلمة بن يزيد الجعفي، قال: يا رسول الله، إن أمنا هلكت في الجاهلية، كانت تصل الرحم، وتَقْرِي الضيف، وتفعل وتفعل، فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال: "لا".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: ثنا داود، عن الشعبيّ، عن علقمة بن قيس، عن سلمة بن يزيد الجعفي، قال: ذهبت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن أمنا كانت في الجاهلية تقري الضيف، وتصل الرحم، هل ينفعها عملها ذلك شيئا؟ قال: "لا".
حدثني محمد بن إبراهيم بن صدران وابن عبد الأعلى، قالا ثنا المعتمر بن سليمان، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن سلمة بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن محمد بن كعب، أنه قال: أما المؤمن فيرى حسناته في الآخرة، وأما الكافر فيرى حسناته في الدنيا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا أبو نعامة، قال: ثنا عبد العزيز بن بشير الضبي جدّه سلمان بن عامر أن سلمان بن عامر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّ أبي كان يصل الرحم، ويفي بالذمة، ويُكرم الضيف، قال: "ماتَ قَبْلَ الإسْلامِ"؟ قال: نعم، قال: "لَنْ يَنْفَعَهُ ذَلكَ"، فولى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَليَّ بالشَّيْخِ"، فجاءَ، فَقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّها لَنْ تَنْفَعَهُ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ فِي عَقِبِهِ، فَلَنْ تُخْزَوْا أبَدًا، وَلَنْ تَذِلُّوا أَبَدًا، وَلَنْ تَفْتَقِرُوا أَبدًا".
حدثنا ابن المثنى وابن بشار، قالا ثنا أبو داود، قال: ثنا عمران، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ المُؤْمِنُ حَسَنَةً(24/552)
يُثابُ عَلَيْها الرّزْقَ فِي الدنْيا، ويُجْزى بِها فِي الآخِرَةِ; وأمَّا الكافِرُ فَيُعْطِيهِ بِها فِي الدنْيا، فإذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنةٌ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ليث، قال: ثني المعلى، عن محمد بن كعب الْقُرَظي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحْسَنَ مِنْ مُحْسِنٍ، مُؤْمِنٍ أوْ كَافِرٍ إلا وَقَعَ ثَوَابُهُ عَلى الله فِي عاجِل دُنْيَاهُ، أَوْ آجِلِ آخِرَتِهِ".
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبَليِّ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: أنزلت: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا) وأبو بكر الصدّيق قاعد، فبكى حين أنزلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يُبْكِيكَ يا أبا بَكْرٍ؟ " قال: يُبكيني هذه السورة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْلا أنَّكُمْ تُخْطِئونَ وَتُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ لَخَلَقَ اللهُ أُمَّةً يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفرُ لَهُمْ".
فهذه الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُنبئ عن أن المؤمن إنما يرى عقوبة سيئاته في الدنيا، وثواب حسناته في الآخرة، وأن الكافر يرى ثواب حسناته في الدنيا، وعقوبة سيئاته في الآخرة، وأن الكافر لا ينفعه في الآخرة ما سلف له من إحسان في الدنيا مع كُفره.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عليّ، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، قال: أدركت سبعين من أصحاب عبد الله، أصغرهم الحارث بن سويد، فسمعته يقرأ: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا) حتى بلغ إلى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) قال: إن هذا إحصاء شديد.
وقيل: إن الذَّرَّة دُودة حمراء ليس لها وزن.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني إسحاق بن وهب العلاف ومحمد بن سنان القزّاز، قالا ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) قال ابن سنان في حديثه: مثقال ذرّة حمراء. وقال ابن وهب في حديثه: نملة حمراء. قال إسحاق، قال يزيد بن هارون: وزعموا أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن.
آخر تفسير سورة إذا زلزلت الأرض.(24/553)
تفسير سورة العاديات(24/555)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) } .(24/557)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) فقال بعضهم: عُني بالعاديات ضبحا: الخيل التي تعدو، وهي تحمحم.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: الخيل، وزعم غير ابن عباس أنها الإبل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال ابن عباس: هو في القتال.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة في قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال الخيل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، قال: سُئل عكرِمة، عن قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: ألم تر إلى الفرس إذا جرى كيف يضبح؟(24/557)
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا سفيان، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، قال: ليس شيء من الدوابّ يضبح غير الكلب والفرس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله الله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: الخيل تضبح.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: هي الخيل، عدت حتى ضبحت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: هي الخيل تعدو حتى تضبح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد، عن قتادة مثل حديث بشر، عن يزيد؛ حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سعيد، قال: سمعت سالما يقرأ: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: هي الخيل عدت ضبحا.
قال: ثنا وكيع، عن واصل، عن عطاء (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: الخيل.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: ما ضبحت دابة قط إلا كلب أو فرس.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: هي الخيل.
حدثني سعيد بن الربيع الرازي. قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عَمْرو، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: هي الخيل.
وقال آخرون: هي الإبل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب. قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: هي الإبل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، مثله.
حدثني عيسى بن عثمان الرملي، قال: ثني عمي يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، مثله.(24/558)
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن مُغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: هي الإبل إذا ضبحت تنفست.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس حدثه قال: بينما أنا في الحجر جالس، أتاني رجل يسأل عن (الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم. فانفتل عني، فذهب إلى علي بن أبي طالب رضى الله عنه وهو تحت سقاية زمزم، فسأله عن (الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) فقال: سألتَ عنها أحدًا قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عباس، فقال: الخيل حين تغير في سبيل الله، قال: اذهب فادعه لي; فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله لكانت أول غزوة في الإسلام لبدر، وما كان معنا إلا فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد فكيف تكون العاديات ضبحا! إنما العاديات ضبحا من عرفة إلى مزدلفة إلى منى ; قال ابن عباس: فنزعت عن قولي، ورجعت إلى الذي قال علي رضي الله عنه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: الإبل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: قال ابن مسعود: هو في الحج.
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، قال: هي الإبل، يعني (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) قال: قال ابن مسعود: هي الإبل.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب: قول من قال: عني بالعاديات: الخيل، وذلك أن الإبل لا تضبح، وإنما تضبح الخيل، وقد أخبر الله تعالى أنها تعدو ضبحا، والضبح: هو ما قد ذكرنا قبل. وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/559)
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: قال علي رضى الله عنه: الضبح من الخيل: الحمحمة، ومن الإبل: النفس.
قال: ثنا سفيان، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس يصف الضبح: أحْ أحْ.
وقوله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا)
اختلف أهل التأويل، في ذلك، فقال بعضهم: هي الخيل توري النار بحوافرها.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، قال: سئل عكرِمة، عن قوله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: أورت وقدحت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: هي الخيل; وقال الكلبي: تقدح بحوافرها حتى يخرج منها النار.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل، عن عطاء (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: أورت النار بحوافرها.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) توري الحجارة بحوافرها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن الخيل هجن الحرب بين أصحابهن وركبانهن.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: هجن الحرب بينهم وبين عدوهم.
حدثنا ابن حميد، فال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: هجن الحرب بينهم وبين عدوهم.
وقال آخرون: بل عني بذلك: الذين يورون النار بعد انصرافهم من الحرب.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن أبي معاوية(24/560)
البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: سألني علي بن أبي طالب رضى الله عنه، عن (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) فقلت له: الخيل تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم ويورون نارهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: مكر الرجال.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: المكر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح. عن مجاهد، في قول الله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: مكر الرجال.
وقال آخرون: هي الألسنة
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن عكرِمة قال: يقال في هذه الآية (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: هي الألسنة.
وقال آخرون: هي الإبل حين تسير تنسف بمناسمها الحصى.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: إذا نسفت الحصى بمناسمها، فضرب الحصى بعضه بعضا، فيخرج منه النار.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالموريات التي توري النيران قدحا; فالخيل توري بحوافرها، والناس يورونها بالزند، واللسان - مثلا - يوري بالمنطق، والرجال يورون بالمكر - مثلا -، وكذلك الخيل تهيج الحرب بين أهلها: إذا التقت في الحرب، ولم يضع الله دلالة على أن المراد من ذلك بعض دون بعض فكل ما أورت النار قدحا، فداخلة فيما أقسم به، لعموم ذلك بالظاهر.
وقوله: (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا)
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال(24/561)
بعضهم: معنى ذلك: فالمغيرات صبحا على عدوّها علانية.
*ذكر من قال ذلك:
29259 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: سألني رجل عن المغيرات صبحا، فقال: الخيل تغير في سبيل الله.
29260 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، قال: سألت عكرِمة، عن قوله (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: أغارت على العدو صبحا.
29261 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: هي الخيل.
29262 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: هي الخيل.
29263 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: أغار القوم بعد ما أصبحوا على عدوهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ثور، عن معمر، عن قتادة (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: أغارت حين أصبحوا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) قال: أغار القوم حين أصبحوا.
وقال آخرون: عني بذلك الإبل حين تدفع بركبانها من "جمع" يوم النحر إلى "منى".
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) حين يفيضون من جمع.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله جل ثناؤه أقسم بالمغيرات صبحا، ولم يخصص^ من ذلك مغيرة دون مغيرة، فكل مغيرة صبحا، فداخلة فيما أقسم به ; وقد كان زيد بن أسلم يذكر تفسير هذه الأحرف ويأباها، ويقول: إنما(24/562)
هو قسم أقسم الله به.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) قال: هذا قسم أقسم الله به. وفي قوله: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: كل هذا قسم، قال: ولم يكن أبي ينظر فيه إذا سئل عنه، ولا يذكره، يريد به القسم.
وقوله (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا)
يقول تعالى ذكره: فرفعن بالوادي غبارا; والنقع: الغبار، ويقال: إنه التراب. والهاء في قوله "به" كناية اسم الموضع، وكنى عنه، ولم يجر له ذكر، لأنه معلوم أن الغبار لا يثار إلا من موضع، فاستغنى بفهم السامعين بمعناه من ذكره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: الخيل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل، عن عطاء وابن زيد، قال: النقع: الغبار.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: هي أثارت الغبار، يعني الخيل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، قال: سئل عكرِمة، عن قوله (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: أثارت التراب بحوافرها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران عن سعيد، عن قتادة (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: أثرن بحوافرها نقع التراب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: أثرن به غبارا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن أبي(24/563)
معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال لي علي: إنما العاديات ضبحا من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) : الأرض حين تطؤها بأخفافها وحوافرها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) قال: إذا سرن يثرن التراب.
وقوله: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا)
يقول تعالى ذكره: فوسطن بركبانهن جمع القوم، يقال: وسطت القوم بالتخفيف، ووسطته بالتشديد، وتوسطته: بمعنى واحد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، قال: سئل عكرِمة، عن قوله: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: جمع الكفار.
حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال جمع القوم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: هو جمع القوم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل، عن عطاء (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: جمع العدو.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: جمع هؤلاء وهؤلاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) فوسطن جمع القوم.
حدثنا ابن حميد قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) فوسطن بالقوم جمع العدو.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) قال: وسطن جمع القوم.(24/564)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) الجمع: الكتيبة.
وقال آخرون: بل عني بذلك (فَوَسَطْنَ بِهِ) مزدلفة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) يعني: مزدلفة.
وقوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)
يقول: إن الإنسان لكفور لنعم ربه. والأرض الكنود: التي لا تنبت شيئا، قال الأعشى:
أحْدِثْ لَهَا تُحْدِثْ لِوَصْلِكَ إنَّها ... كُنُدٌ لوَصْلِ الزَّائِرِ المُعْتادِ (1)
وقيل: إنما سميت كندة: لقطعها أباها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبيد الله بن يوسف الجبيري، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لكفور.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لربه لكفور.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لكفور.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
__________
(1) تراجمة القرآن: جمع ترجمان: وأراد المفسرين، وانظر ما مضى: 70 تعليق: 1(24/565)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن مهدي بن ميمون، عن شعيب بن الحبحاب، عن الحسن البصري: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: هو الكفور الذي يعد المصائب، وينسى نعم ربه.
حدثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن الربيع، قال: الكنود: الكفور.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: قال الحسن: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) يقول: لوام لربه يعد المصائب
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (لَكَنُودٌ) قال: لكفور.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لكفور.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة، مثله.
حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا شعبة، عن سماك أنه قال: إنما سميت كندة: أنها قطعت أباها (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لكفور.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: " لَكَفُورٌ، الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: الكنود: الكفور، وقرأ: (إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ) .
حدثنا الحسن بن علي بن عياش، قال: ثنا أبو المغيرة عبد القدوس، قال: ثنا حريز بن عثمان، قال: ثني حمزة بن هانيء، عن أبي أمامة أنه كان يقول: الكنود: الذي ينزل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده.
حدثني محمد بن إسماعيل الصوارى، قال: ثنا محمد بن سوار، قال: أخبرنا(24/566)
أبو اليقظان، عن سفيان عن هشام، عن الحسن، في قوله (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال: لوام لربه، يعد المصائب، وينسى النعم.
وقوله: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ)
يقول تعالى ذكره: إن الله على كنوده ربه لشهيد: يعني لشاهد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) قال: يقول: إن الله على ذلك لشهيد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) في بعض القراءات "إن الله على ذلك لشهيد".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) يقول: وإن الله عليه شهيد.
وقوله: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)
يقول تعالى ذكره: وإن الإنسان لحب المال لشديد.
واختلف أهل العربية في وجه وصفه بالشدة لحب المال، فقال بعض البصريين: معنى ذلك: وإنه من أجل حب الخير لشديد: أي لبخيل; قال: يقال للبخيل: شديد ومتشدد. واستشهدوا لقوله ذلك ببيت طرفة بن العبد البكري:
أرَى المَوْتَ يَعْتامُ النُّفُوسَ ويَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مالِ الباخِلِ المُتَشَددِ (1)
وقال آخرون: معناه: وإنه لحب الخير لقوي.
وقال بعض نحويي الكوفة: كان موضع (لِحُبِّ) أن يكون بعد شديد، وأن يضاف شديد إليه، فيكون الكلام: وإنه لشديد حب الخير; فلما تقدم الحب في
__________
(1) الحديث 174 - إسناده ضعيف جدًا. موسى بن عبد الرحمن المسروقي: ثقة، روى عنه الترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، وغيرهم. مات سنة 258، مترجم في التهذيب. حسين الجعفي: هو حسين بن علي بن الوليد، ثقة معروف، روى عنه أحمد، وابن معين، وغيرهم، بل روى عنه ابن عيينة وهو أكبر منه. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. حمزة الزيات: هو حمزة بن حبيب، القارئ المعروف. وتكلم في رواية بعضهم، والحق أنه ثقة، وأخرج له مسلم في صحيحه. أبو المختار الطائي: قيل اسمه: سعد، وهو مجهول، جهله المديني وأبو زرعة. ابن أخي الحارث الأعور: أشد جهالة من ذلك، لم يسم هو ولا أبوه. عمه الحارث: هو ابن عبد الله الأعور الهمداني، وهو ضعيف جدا. وقد اختلف فيه العلماء اختلافا كثيرا، حتى وصفه الشعبي وغيره بأنه "كان كذابًا"، وقد رجحت في شرح الحديث 565 وغيره من المسند أنه ضعيف جدا.
وأما متن الحديث: فقد رواه -بمعناه- ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة عن يحيى بن يمان عن حمزة الزيات، بهذا الإسناد، فيما نقل ابن كثير 1: 50 ووقع فيه تحريف الإسناد هناك. وهو جزء من حديث طويل، في فضل القرآن - رواه الترمذي (4: 51 - 52 من تحفة الأحوذي) ، عن عبد بن حميد عن حسين الجعفي، بهذا الإسناد. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال". كذلك رواه الدارمي في سننه 2: 435 عن محمد بن يزيد الرفاعي عن حسين الجعفي. ونقله السيوطي 1: 15 ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في شعب الإيمان. وأشار إليه الذهبي في الميزان 3: 380 في ترجمة أبي المختار الطائي، قال: "حديثه في فضائل القرآن منكر". ونقله ابن كثير في الفضائل: 14 - 15 عن الترمذي، ونقل تضعيفه إياه، ثم قال: "لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور. فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيف الحديث، فإنه إمام في القراءة. والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث - فلا. وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح ".
وسيأتي 175، 176 بإسنادين آخرين، موقوفًا، من كلام علي رضي الله عنه.
ورواية ابن إسحاق -التي أشار إليها ابن كثير- هي حديث أحمد في المسند: 565. عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق. وقد ضعفنا إسناده هناك، بالحارث الأعور، وبانقطاعه بين ابن إسحاق ومحمد بن كعب. وليس فيه الحرف الذي هنا، في تفسير "الصراط المستقيم".(24/567)
الكلام، قيل: شديد، وحذف من آخره، لما جرى ذكره في أوله ولرءوس الآيات، قال: ومثله في سورة إبراهيم: (كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) والعصوف لا يكون لليوم، إنما يكون للريح; فلما جرى ذكر الريح قبل اليوم طرحت من آخره، كأنه قال: في يوم عاصف الريح، والله أعلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) قال: الخير: الدنيا; وقرأ: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) قال: فقلت له: (إن ترك خيرا) : المال؟ قال: نعم، وأي شيء هو إلا المال؟ قال: وعسى أن يكون حراما، ولكن الناس يعدونه خيرا، فسماه الله خيرا، لأن الناس يسمونه خيرا في الدنيا، وعسى أن يكون خبيثا، وسمي القتال في سبيل الله سوءا، وقرأ قول الله: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) قال: لم يمسسهم قتال; قال: وليس هو عند الله بسوء، ولكن يسمونه سوءا.
وتأويل الكلام: إن الإنسان لربه لكنود، وإنه لحب الخير لشديد، وإن الله على ذلك من أمره لشاهد. ولكن قوله: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) قدم، ومعناه التأخير، فجعل معترضا بين قوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) ، وبين قوله: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) قال: هذا في مقاديم الكلام، قال: يقول: إن الله لشهيد أن الإنسان لحب الخير لشديد.
وقوله: (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ)
يقول: أفلا يعلم هذا الإنسان الذي هذه صفته، إذا أثير ما في القبور، وأخرج ما فيها من الموتى وبحث.
وذكر أنها في مصحف عبد الله: "إذا بحث ما في القبور"، وكذلك تأول ذلك أهل التأويل.(24/568)
*ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: (بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) بحث. وللعرب في (بُعْثِرَ) لغتان: تقول: بعثر، وبحثر، ومعناهما واحد.
وقوله: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)
يقول: وميز وبين، فأبرز ما في صدور الناس من خير وشر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) يقول: أبرز.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) يقول: ميز.
وقوله: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)
يقول: إن ربهم بأعمالهم، وما أسرّوا في صدورهم، وأضمروه فيها، وما أعلنوه بجوارحهم منها، عليم لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيهم على جميع ذلك يومئذ.
آخر تفسير سورة: والعاديات(24/569)
تفسير سورة القارعة(24/571)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) } .
يقول تعالى ذكره: (الْقَارِعَةُ) : الساعة التي يقرع قلوب الناس هولُها، وعظيم ما ينزل بهم من البلاء عندها، وذلك صبيحة لا ليل بعدها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (الْقَارِعَةُ) من أسماء يوم القيامة، عظَّمه الله وحذّره عباده.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قي قوله (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ) قال: هي الساعة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ) قال: هي الساعة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، قال: سمعت أن القارعة والواقعة والحاقة: القيامة.
وقوله: (مَا الْقَارِعَةُ) يقول تعالى ذكره معظما شأن القيامة والساعة التي يقرع(24/573)
العباد هولها: أيّ شيء القارعة، يعني بذلك: أيّ شيء الساعة التي يقرع الخلق هولها: أي ما أعظمها وأفظعها وأهولها.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أشعرك يا محمد أيّ شيء القارعة.
وقوله: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) يقول تعالى ذكره: القارعة يوم يكون الناس كالفراش، وهو الذي يتساقط في النار والسراج، ليس ببعوض ولا ذباب، ويعني بالمبثوث: المفرّق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) هذا الفراش الذي رأيتم يتهافت في النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) قال: هذا شَبَه شبهه الله، وكان بعض أهل العربية يقول: معنى ذلك: كغوغاء الجراد، يركب بعضه بعضا، كذلك الناس يومئذ، يجول بعضهم في بعض.
وقوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) يقول تعالى ذكره: ويوم تكون الجبال كالصوف المنفوش؛ والعِهْن: هو الألوان من الصوف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) قال: الصوف المنفوش.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: هو الصوف. وذُكر أن الجبال تسير على الأرض وهي في صورة الجبال كالهباء.
وقوله: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) يقول: فأما من ثقُلَت موازين حسناته، يعني بالموازين: الوزن، والعرب تقول: لك عندي درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك ووزن دارك، يراد: حذاء دارك. قال الشاعر:(24/574)
قدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقائِكُمْ ذَا مِرَّة ... عِندِي لِكُلِّ مُخاصِمٍ مِيزَانُهُ (1)
يعني بقوله: لكلّ مخاصم ميزانه: كلامه، وما ينقض عليه حجته. وكان مجاهد يقول: ليس ميزان، إنما هو مثل ضرب.
حدثنا بذلك أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) يقول: في عيشة قد رضيها في الجنة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) يعني: في الجنة.
وقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) يقول: وأما من خفّ وزن حسناته، فمأواه ومسكنه الهاوية التي يهوي فيها على رأسه في جهنم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) وهي النار هي مأواهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) قال: مصيره إلى النار، هي الهاوية. قال قتادة: هي كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد، قال: هوت أمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الأشعث بن عبد الله الأعمى، قال: إذا مات المؤمن ذُهب بروحه إلى أرواح المؤمنين، فيقولون: روّحوا أخاكم، فإنه كان في غمّ الدنيا؛ قال: ويسألونه ما فعل فلان؟ فيقول: مات، أو ما جاءكم؟ فيقولون: ذهبوا به إلى أمِّه الهاوية.
حدثني إسماعيل بن سيف العجلي، قال: ثنا عليّ بن مُسْهِر، قال: ثنا إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) قال: يهوون في النار على رءوسهم.
__________
(1) الحديث 175 - هو الحديث السابق بإسناد آخر. وهذا الإسناد جيد إلى الحارث الأعور، ثم يضعف به الحديث جدا، كما قلنا من قبل.
ومحمد بن سلمة: هو الباهلي الحراني، وهو ثقة، روى عنه أحمد بن حنبل وغيره، وأخرج له مسلم في صحيحه، مات سنة 191. وشيخه أبو سنان: وهو سعيد بن سنان الشيباني، وهو ثقة، ومن تكلم فيه إنما يكون من جهة خطئه بعض الخطأ، وقال أبو داود: "ثقة من رفعاء الناس"، وأخرج له مسلم في الصحيح. وعمرو بن مرة: هو المرادي الجملي، ثقة مأمون بلا خلاف، قال مسعر: "عمرو من معادن الصدق ". وأبو البختري - بفتح الباء الموحدة والتاء المثناة بينهما خاء معجمة ساكنة: هو سعيد بن فيروز الطائي الكوفي، تابعي ثقة معروف.(24/575)
حدثنا ابن سيف، قال: ثنا محمد بن سَوَّار، عن سعيد، عن قتادة (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) قال: يهوي في النار على رأسه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) قال: الهاوية: النار، هي أمُّه ومأواه التي يرجع إليها، ويأوي إليها، وقرأ: (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) وهو مثلها، وإنما جعل النار أمَّه، لأنها صارت مأواه، كما تؤوي المرأة ابنها، فجعلها إذ لم يكن له مأوى غيرها، بمنزلة أمّ له.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أشعرك يا محمد ما الهاوية، ثم بَيَّن ما هي، فقال: (نَارٌ حَامِيَةٌ) ، يعني بالحامية: التي قد حميت من الوقود عليها.(24/576)
تفسير سورة ألهاكم(24/577)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) } .
يقول تعالى ذكره: ألهاكم أيها الناس المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم، وعما ينجيكم من سخطه عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) قال: كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعدّ من بني فلان، وهم كلّ يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا.
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كلام يدلّ على أن معناه التكاثر بالمال.
* ذكر الخبر بذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن(24/579)
مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن أبيه أنه انتهى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) قال: "ابن آدم، ليس لك من مال إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبِست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت".
حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا آدم، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن أُبيّ بن كعب، قال: كنا نرى أن هذا الحديث من القرآن: "لو أن لابن آدم واديين من مال، لتمنى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب" حتى نزلت هذه السورة: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) إلى آخرها. وقوله صلى الله عليه وسلم بعقب قراءته "ألهاكم" ليس لك من مالك إلا كذا وكذا، ينبئ أن معنى ذلك عنده: ألهاكم التكاثر: المال.
وقوله: (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) يعني: حتى صرتم إلى المقابر فدفنتم فيها؛ وفي هذا دليل على صحة القول بعذاب القبر، لأن الله تعالى ذكره، أخبر عن هؤلاء القوم الذين ألهاهم التكاثر، أنهم سيعلمون ما يلقون إذا هم زاروا القبور وعيدا منه لهم وتهدّدا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عطية، عن قيس، عن حجاج، عن المنهال، عن زِرّ، عن عليّ، قال: كنا نشكّ في عذاب القبر، حتى نزلت هذه الآية: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) ... إلى: (كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في عذاب القبر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن زِرّ، عن عليّ، قال: نزلت (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) في عذاب القبر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن الحجاج، عن المنهال بن عمرو، عن زِرّ، عن عليّ، قال: ما زلنا نشكّ في عذاب القبر، حتى نزلت: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) .
وقوله: (كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعني تعالى ذكره بقوله: كلا ما هكذا ينبغي أن تفعلوا، أن يُلْهِيَكُم التكاثر.
وقوله: (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يقول جلّ ثناؤه: سوف تعلمون إذا زرتم المقابر، أيها الذين ألهاهم التكاثر، غبّ فعلكم، واشتغالكم بالتكاثر في الدنيا عن طاعة الله ربكم.(24/580)
وقوله: (ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يقول: ثم ما هكذا ينبغي أن تفعلوا أن يلهيكم التكاثر بالأموال، وكثرة العدد، سوف تعلمون إذا زرتم المقابر، ما تلقون إذا أنتم زرتموها، من مكروه اشتغالكم عن طاعة ربكم بالتكاثر. وكرّر قوله: (كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) مرتين، لأن العرب إذا أرادت التغليظ في التخويف والتهديد كرّروا الكلمة مرتين.
ورُوي عن الضحاك في ذلك ما حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك (كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) قال: الكفار (ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) قال: المؤمنون. وكذلك كان يقرأها.
وقوله: (كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) يقول تعالى ذكره: ما هكذا ينبغي أن تفعلوا، أن يلهيكم التكاثر أيها الناس، لو تعلمون أيها الناس علما يقينا، أن الله باعثكم يوم القيامة من بعد مماتكم من قبوركم ما ألهاكم التكاثر عن طاعة الله ربكم، ولسارعتم إلى عبادته، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ورفض الدنيا إشفاقا على أنفسكم من عقوبته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) كنا نحدَّث أن علم اليقين: أن يعلم أنَّ الله باعثه بعد الموت.
وقوله: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) اختلفت القراء في قراءة ذلك؛ فقرأته قراء الأمصار: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) بفتح التاء من (لَتَرَوُنَّ) في الحرفين كليهما، وقرأ ذلك الكسائي بضم التاء من الأولى، وفتحها من الثانية.
والصواب عندنا في ذلك الفتح فيهما كليهما، لإجماع الحجة عليه. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: لترونّ أيها المشركون جهنم يوم القيامة، ثم لترونها عيانا لا تغيبون عنها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) يعني: أهل الشرك.
وقوله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) يقول: ثم ليسألنكم الله عزّ وجلّ عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا: ماذا عملتم فيه، من أين وصلتم إليه، وفيم أصبتموه، وماذا عملتم به.(24/581)
واختلف أهل التأويل في ذلك النعيم ما هو؟ فقال بعضهم: هو الأمن والصحة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عباد بن يعقوب، قال. ثنا محمد بن سليمان، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبيّ، عن ابن مسعود، في قوله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: الأمن والصحة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا حفص، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبيّ، عن عبد الله، مثله.
حدثني علي بن سعيد الكنديّ، قال: ثنا محمد بن مروان، عن ليث، عن مجاهد (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: الأمن والصحة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم. قال: ثنا سفيان، قال: بلغني في قوله: (لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: الأمن والصحة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبد الله، قال: سمعت الشعبيّ يقول: النعيم المسئول عنه يوم القيامة: الأمن والصحة.
قال: ثنا مهران، عن خالد الزيات، عن ابن أبي ليلى، عن عامر الشعبيّ، عن ابن مسعود، مثله.
قال: ثنا مهران، عن سفيان (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: الأمن والصحة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم لَيُسْئَلُنّ يومئذ عما أنعم الله به عليهم مما وهب لهم من السمع والبصر وصحة البدن.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، قال: يسأل الله العباد فيم استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) .
حدثني إسماعيل بن موسى الفَزاريُّ، قال: أخبرنا عمر بن شاكر، عن الحسن قال: كان يقول في قوله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: السمع والبصر، وصحة البدن.(24/582)
وقال آخرون: هو العافية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عباد بن يعقوب، قال: ثنا نوح بن درّاج، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: العافية.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك: بعض ما يطعمه الإنسان، أو يشربه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن بكير بن عتيق، قال: رأيت سعيد بن جُبَير أُبِيَ بشربة عسل، فشربها، وقال: هذا النعيم الذي تُسألون عنه.
حدثني عليّ بن سهل الرملي، قال: ثنا الحسن بن بلال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عَمَّار (1) بن أبي عمار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمرُ رضي الله عنهما، فأطعمناهم رطبا، وسقيناهم ماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسألون عَنْهُ".
حدثنا جابر بن الكرديّ، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
حدثني الحسن بن عليّ الصُدائي، قال: ثنا الوليد بن القاسم، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: بينما أبو بكر وعمر رضى الله عنهما جالسان، إذ جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أجْلَسَكُما ها هُنا؟ " قالا الجوع، قال: "وَالَّذِي بَعَثَنِي بالْحَقّ ما أخْرَجَنِي غَيرُهُ"، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار، فاستقبلتهم المرأة، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أيْنَ فُلانُ؟ " فقالت: ذهب يستعذب لنا ماء، فجاء صاحبهم يحمل قربته، فقال: مرحبا، ما زار العباد شيء أفضل من شيء زارني اليوم، فعلق قربته بكَرَب نخلة، وانطلق فجاءهم بعِذْق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ؟ " فقال: أحببت أن
__________
(1) الخبر 176 - هو الحديث السابق بالإسنادين قبله، بمعناه. ولكنه هنا موقوف على ابن أبي طالب. والإسناد إليه منهار انهيار الإسناد 174، من أجل الحارث الأعور وابن أخيه. أما من دونهما، فأبو المختار الطائي وحمزة مضيا في 174، وأبو أحمد الزبيري وأحمد بن إسحاق مضيا في 159.(24/583)
تكونوا الذين تختارون على أعينكم، ثم أخذ الشفرة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكَ والْحَلُوبَ"، فذبح لهم يومئذ، فأكلوا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ، أخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، فَلَمْ تَرْجِعُوا حتى أصَبْتُمْ هَذَا، فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، قال ثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن عبد الملك بن عُمَير، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "انْطَلِقُوا بِنا إلى أبي الهَيْثَم بنِ التَّيَّهانِ الأنْصَارِيّ"، فانطلق بهم إلى ظلّ حديقته، فبسط لهم بساطا، ثم انطلق إلى نخلة، فجاء بِقِنْوٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَلا تَنَقَّيْتَ لَنا مِنْ رُطَبِهِ؟ " فقال: أردت أن تَخَيَّرُوا من رطبه وبُسره، فأكلوا وشربول من الماء؛ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيدهِ مِنَ النَّعِيمِ، الَّذِي أنْتُمْ فِيهِ مَسْئُولُونَ عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ، هَذَا الظِّلُّ البارِدُ، والرُّطَبُ البارِدُ، عَلَيْهِ الماءُ البارِدُ".
حدثني صالح بن مسمار المروزي، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شيبان، قال: ثنا عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: "ظِلٌّ بارِدٌ، ورُطَبٌ بارِدٌ، وَماءٌ بارِدٌ".
حدثنا عليّ بن عيسى البزاز، قال: ثنا سعيد بن سليمان، عن حشرج بن نباتة، قال: ثنا أبو بصيرة عن أبي عسيب، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى دخل حائطا لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: "أطْعِمْنا بُسْرًا"، فجاء بعذق فوضعه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم دعا بماء بارد فشرب، فقال: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ"، فأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض حتى تناثر البسر، ثم قال: يا رسول الله، إنا لمسئولون عن هذا؟ قال: "نَعَمْ، إلا مِنْ كِسْرَةٍ يُسَدُّ بِها جَوْعَةٌ، أوْ حُجْرٌ يُدْخَلُ فِيه مِنَ الحَرِّ والقَرِّ".
حدثني سعيد بن عمرو السكونيّ، قال: ثنا بقية، عن حشرج بن نباتة، قال: حدثني أبو بصيرة، عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: مرّ بي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعاني وخرجت ومعه أبو بكر وعمر(24/584)
رضى الله عنهما، فدخل حائطا لبعض الأنصار، فأُتِيَ بِبُسْرِ عِذْق منه، فوُضِع بين يديه، فأكل هو وأصحابه، ثم دعا بما بارد، فشرب، ثم قال: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ"، فقال عمر: عن هذا يوم القيامة؟ فقال: "نَعَمْ، إلا مِنْ ثَلاثَةٍ: خِرْقَةٍ كَفَّ بِها عَوْرَتَهُ، أو كِسْرَةٍ سَدُّ بِها جَوْعَتَةُ، أوْ جُحْرٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الحَرِّ والقَرّ".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلية، عن الجريريّ، عن أبي بصيرة، قال: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وناس من أصحابه أكلة من خبز شعير لم يُنْخَل، بلحم سمين، ثم شربوا من جدول، فقال: "هذا كله من النعيم الذي تُسْأَلُونَ عنه يوم القيامة".
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا محمد بن عمرو، عن صفوان بن سليم، عن محمد بن محمود بن لبيد، قال: "لما نزلت (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) فقرأها حتى بلغ: (لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قالوا: يا رسول الله، عن أيّ النعيم نسأل، وإنما هو الأسودان: الماء، والتمر، وسيوفنا على عواتقنا، والعدوّ حاضر! قال: "إن ذلكَ سَيَكُونُ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم والحسين بن عليّ الصدائي، قالا ثنا شبابة بن سوّار، قال: ثني عبد الله بن العلاء أبو رَزِين الشامي، قال: ثنا الضحاك بن عَرْزَم، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أولَ ما يُسْأَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أنْ يُقَالَ لَهُ: ألَم نُصِحَّ لَك جِسْمَكَ، وَتُروَ مِنَ الماءِ البارِدِ"؟.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا ليث، عن مجاهد، قال: قال أبو معمر عبد الله بن سخبرة: ما أصبح أحد بالكوفة إلا ناعماً، إن أهونهم عيشا الذي يأكل خبز البرّ، ويشرب ماء الفرات، ويستظلّ من الظلّ، وذلك من النعيم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد الرحمن بن الحارث التميميّ، عن ثابت البناني، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "النَّعِيم: المَسْئُولُ عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ: كِسْرَةٌ تُقَوّيهِ، وَماءٌ يُرْوِيهِ، وَثَوْبٌ يُوَارِيهِ".
قال: ثنا مهران، عن إسماعيل بن عياش، عن بشر بن عبد الله بن بشار، قال: سمعت بعض أهل يمن يقول: سمعت أبا أُمامة يقول: النعيم المسئول عنه يوم القيامة: خبز البرّ، والماء العذب.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن بكير بن عتيق العامري، قال: أُتِيَ سعيد(24/585)
بن جُبير بشَربة عسل، فقال: أما إن هذا النعيم الذي نسأل عنه يوم القيامة (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن بكير بن عتيق، عن سعيد بن جُبير، أنه أتي بشربة عسل، فقال: هذا من النعيم الذي تُسألون عنه.
وقال آخرون: ذلك كلّ ما التذّه الإنسان في الدنيا من شيء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: عن كل شيء من لذّة الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) إن الله عزّ وجل سائل كلّ عبد عما استودعه من نِعَمه وحقه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال: إن الله تعالى ذكره سائل كلّ ذي نعمة فيما أنعم عليه.
وكان الحسن وقتادة يقولان: ثلاث لا يُسأَل عنهنّ ابن آدم، وما خلاهنّ فيه المسألة والحساب إلا ما شاء الله: كسوة يواري بها سوْأته، وكسرة يشدّ بها صلبه، وبيت يظله.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن الله أخبر أنه سائل هؤلاء القوم عن النعيم، ولم يخصص في خبره أنه سائلهم عن نوع من النعيم دون نوع، بل عمّ بالخبر في ذلك عن الجميع، فهو سائلهم كما قال عن جميع النعيم، لا عن بعض دون بعض.
آخر تفسير سورة ألهاكم(24/586)
تفسير سورة العصر(24/587)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل جلاله وتقدست أسماؤه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وَالْعَصْرِ) فقال بعضهم: هو قسم أقسم ربنا تعالى ذكره بالدهر، فقال: العصر: هو الدهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَالْعَصْرِ) قال: العصر: ساعة من ساعات النهار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَالْعَصْرِ) قال: هو العشيّ.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن ربنا أقسم بالعصر (وَالْعَصْرِ) اسم للدهر، وهو العشيّ والليل والنهار، ولم يخصص مما شمله هذا الاسم معنى دون معنى، فكلّ ما لزِمه هذا الاسم، فداخل فيما أقسم به جلّ ثناؤه.
وقوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) يقول: إن ابن آدم لفي هلَكة ونقصان.
وكان عليّ رضى الله عنه يقرأ ذلك: (إنَّ الإنْسانَ لَفِي خُسْر وإنه فيه إلى آخر الدهر) .
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو ذي مرّ، قال: سمعت عليا رضى الله عنه يقرأ هذا الحرف (وَالْعَصْرِ وَنَوَائِب الدَّهْرِ، إنَ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، وإنه فيه إلى آخر الدهر) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي(24/589)
خُسْر) ففي بعض القراءات (وإنه فيه إلى آخر الدهر) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو ذي مرّ، أن عليا رضى الله عنه قرأها (وَالْعَصْرِ وَنَوَائِب الدَّهْرِ، إنَّ الإنْسانَ لَفِي خُسْر) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) إلا من آمن (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: إلا الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه، واستثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن الإنسان بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد.
وقوله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) يقول: وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه، من أمره، واجتناب ما نهى عنه فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) والحق: كتاب الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) قال: الحقّ كتاب الله.
حدثني عمران بن بكار الكلاعي، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا عبد الرحمن بن سنان أبو روح السكوني، حمصيّ لقيته بإرمينية، قال: سمعت الحسن يقول في (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) قال: الحقّ: كتاب الله.
وقوله: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) يقول: وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على العمل بطاعة الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) قال: الصبر: طاعة الله.(24/590)
حدثني عمران بن بكار الكُلاعي، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا عبد الرحمن بن سنان أبو روح، قال: سمعت الحسن يقول في قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) قال: الصبر: طاعة الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) قال: الصبر: طاعة الله.
آخر تفسير سورة والعصر(24/591)
تفسير سورة ويل لكل همزة(24/593)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) } .
يعني تعالى ذكره بقوله:
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) الوادي يسيل من صديد أهل النار وقيحهم، (لِكُلِّ هُمَزَةٍ) : يقول: لكل مغتاب للناس، يغتابهم ويبغضهم، كما قال زياد الأعجم:
تُدلِي بوُدِّي إذا لاقَيْتَنِي كَذِبا ... وَإنْ أُغَيَّبْ فأنتَ الهامِزُ اللُّمَزَهْ (1)
ويعني باللمزة: الذي يعيب الناس، ويطعن فيهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا مسروق بن أبان، قال: ثنا وكيع، عن رجل لم يسمه، عن أبي الجوزاء،
__________
(1) الخبر 177 - هذا موقوف من كلام عبد الله بن مسعود. وقد رواه الطبري بإسنادين إلى سفيان، وهو الثوري. أما أولهما: أحمد بن إسحاق عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري - فإسناده صحيح، لا كلام فيه. وأما ثانيهما: محمد بن حميد الرازي عن مهران، وهو ابن أبي عمر العطار - فقد بينا في الإسناد 11 أن في رواية مهران عن الثوري اضطرابًا، ولكنه هنا تابعه عن روايته حافظ ثقة، هو أبو أحمد الزبيري. وقد رواه الثوري عن منصور، وهو ابن المعتمر الكوفي، وهو ثقة ثبت حجة، لا يختلف فيه أحد. وأبو وائل: هو شقيق بن سلمة الأسدي، من كبار التابعين الثقات، قال ابن معين: "ثقة لا يسأل عن مثله".
وهذا الخبر، رواه الحاكم في المستدرك 2: 258 من طريق عمر بن سعد أبي داود الحضري عن الثوري، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي 1: 15، والشوكاني 1: 13.(24/595)
قال: قلت لابن عباس: من هؤلاء هم الذين بدأهم الله بالويل؟ قال: هم المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون أكبر العيب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن رجل من أهل البصرة، عن أبي الجوزاء، قال: قلت: لابن عباس: من هؤلاء الذين ندبهم الله إلى الويل؟ ثم ذكر نحو حديث مسروق بن أبان.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال: الهمزة يأكل لحوم الناس، واللمزة: الطعان.
وقد رُوي عن مجاهد خلاف هذا القول، وهو ما حدثنا به أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) قال: الهمزة: الطعان، واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس.
حدثنا مسروق بن أبان الحطاب، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
ورُوي عنه أيضا خلاف هذين القولين، وهو ما حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال: أحدهما الذي يأكل لحوم الناس، والآخر الطعان. وهذا يدلّ على أن الذي حدث بهذا الحديث قد كان أشكل عليه تأويل الكلمتين، فلذلك اختلف نقل الرواة عنه فيما رووا على ما ذكرت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أما الهمزة: فأكل لحوم الناس، وأما اللمزة: فالطعان عليهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: الهمزة: آكل لحوم الناس: واللمزة: الطعان عليهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال: ويل لكلّ طعان مغتاب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: الهمزة: يهمزه في وجهه، واللمزة: من خلفه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال:(24/596)
يهمزه ويلمزه بلسانه وعينه، ويأكل لحوم الناس، ويطعن عليهم.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الهمزة باليد، واللمزة باللسان.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال: الهمزة: الذي يهمز الناس بيده، ويضربهم بلسانه، واللمزة: الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم.
واختلف في المعنى بقوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) فقال بعضهم: عني بذلك: رجل من أهل الشرك بعينه، فقال بعض من قال هذا القول: هو جميل بن عامر الجُمَحِيّ. وقال آخرون منهم: هو الأخنس بن شريق.
* ذكر من قال: عُنِي به مشرك بعينه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال: مشرك كان يلمز الناس ويهمزهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن رجل من أهل الرقة قال: نزلت في جميل بن عامر الجمحي.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، في قوله (هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال: ليست بخاصة لأحد، نزلت في جميع بني عامر; قال ورقاء: زعم الرقاشي.
وقال بعض أهل العربية: هذا من نوع ما تذكر العرب اسم الشيء العام، وهي تقصد به الواحد، كما يقال في الكلام، إذا قال رجل لأحد: لا أزورك أبدا: كل من لم يزرني، فلست بزائره، وقائل ذلك يقصد جواب صاحبه القائل له: لا أزورك أبدا.
وقال آخرون: بل معنيّ به، كل من كانت هذه الصفة صفته، ولم يقصد به قصد آخر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو. قال: ثنا أبو عاصم، قاله: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،(24/597)
في قول الله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قال: ليست بخاصة لأحد.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن الله عمّ بالقول كلّ همزة لمزة، كلّ من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها، سبيله سبيله كائنا من كان من الناس.
وقوله: (الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ)
يقول: الذي جمع مالا وأحصى عدده، ولم ينفقه في سبيل الله، ولم يؤد حق الله فيه، ولكنه جمعه فأوعاه وحفظه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه من قرّاء أهل المدينة أبو جعفر، وعامة قرّاء الكوفة سوى عاصم: "جَمَّعَ" بالتشديد، وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والحجاز، سوى أبي جعفر وعامة قرّاء البصرة، ومن الكوفة عاصم، "جَمَعَ" بالتخفيف، وكلهم مجمعون على تشديد الدال من (وَعَدَّدَهُ) على الوجه الذي ذكرت من تأويله. وقد ذكر عن بعض المتقدمين بإسناد غير ثابت، أنه قرأه: "جَمَعَ مَالا وَعَدَدَهُ" تخفيف الدال، بمعنى: جمع مالا وجمع عشيرته وعدده. هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، بخلافها قراءة الأمصار، وخروجها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك.
وأما قوله: (جَمَعَ مَالا) فإن التشديد والتخفيف فيهما صوابان، لأنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)
يقول: يحسب أن ماله الذي جمعه وأحصاه، وبخل بإنفاقه، مخلده في الدنيا، فمزيل عنه الموت. وقيل: أخلده، والمعنى: يخلده، كما يقال للرجل الذي يأتي الأمر الذي يكون سببا لهلاكه: عطب والله فلان، هلك والله فلان، بمعنى: أنه يعطب من فعله ذلك، ولما يهلك بعد ولم يعطب; وكالرجل يأتي الموبقة من الذنوب: دخل والله فلان النار.
وقوله: (كَلا) يقول تعالى ذكره: ما ذلك كما ظنّ، ليس ماله مخلِّده،
ثم أخبر جلّ ثناؤه أنه هالك ومعذب على أفعاله ومعاصيه، التي كان يأتيها في الدنيا، فقال جل ثناؤه: (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) يقول: ليُقذفنّ يوم القيامة في الحطمة، والحطمة: اسم من أسماء النار، كما قيل لها: جهنم وسقر ولظى، وأحسبها سميت بذلك لحطمها كلّ ما ألقي فيها، كما يقال للرجل الأكول: الحطمة. ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: "لَيُنْبَذَانِّ فِي الحُطَمَةِ" يعني: هذا الهمزة اللمزة وماله، فثنَّاه لذلك.(24/598)
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) يقول: وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما الحطمة، ثم أخبره عنها ما هي، فقال جل ثناؤه: هي (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ) يقول: التي يطلع ألمها ووهجها القلوب; والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى، حُكي عن العرب سماعا: متى طلعت أرضنا; وطلعت أرضي: بلغت.
وقوله: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) يقول تعالى ذكره: إن الحطمة التي وصفت صفتها عليهم، يعني: على هؤلاء الهمازين اللمازين (مُؤْصَدَةٌ) : يعني: مطبقة; وهي تهمز ولا تهمز; وقد قُرئتا جميعا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق، عن ابن ظهير، عن السديّ، عن أبي مالك، عن ابن عباس في (مُؤْصَدَة) : قال: مطبقة.
حدثني عبيد بن أسباط، قال: ثني أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، في قوله: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال: مطبقة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: في النار رجل في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام: يا حنان يا حنان، فيقول رب العزة لجبريل: أخرج عبدي من النار، فيأتيها فيجدها مطبقة، فيرجع فيقول: يا ربّ (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) فيقول: يا حبريل فكها، وأخرج عبدي من النار، فيفكها، ويخرج مثل الخيال، فيطرح على ساحل الجنة حتي يُنبت الله له شعرا ولحما ودما.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال: مطبقة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن مضرِّس بن عبد الله، قال: سمعت الضحاك (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال: مطبقة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال: عليهم مغلقة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) : أي مطبقة.(24/599)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال: مطبقة، والعرب تقول: أوصد الباب: أغلق.
وقوله: (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (فِي عَمَدٍ) بفتح العين والميم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: "فِي عُمُدٍ" بضم العين والميم. والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، ولغتان صحيحتان. والعرب تجمع العمود: عُمُدا وعَمَدا، بضم الحرفين وفتحهما، وكذلك تفعل في جمع إهاب، تجمعه: أُهُبا، بضم الألف والهاء، وأَهَبا بفتحهما، وكذلك القضم، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: (إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة) أي مغلقة مطبقة عليهم، وكذلك هو في قراءة عبد الله فيما بلغنا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قتادة، في قراءة عبد الله: "إنها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٍ بِعَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ".
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما دخلوا في عمد، ثم مدت عليهم تلك العمد بعماد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قال: أدخلهم في عمد، فمدت عليهم بعماد، وفي أعناقهم السلاسل، فسدّت بها الأبواب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (فِي عَمَدٍ) من حديد مغلولين فيها، وتلك العمد من نار قد احترقت من النار، فهي من نار (مُمَدَّدَةٍ) لهم.
وقال آخرون: هي عمد يعذّبون بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) كُنَّا نحدَّث أنها عمد يعذّبون بها في النار، قال بشر: قال يزيد: في قراءة قتادة: (عَمَدٍ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قال: عمود يعذبون به في النار.
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: معناه: أنهم يعذّبون بعمد في(24/600)
النار، والله أعلم كيف تعذيبه إياهم بها، ولم يأتنا خبر تقوم به الحجة بصفة تعذيبهم بها، ولا وضع لنا عليها دليل، فندرك به صفة ذلك، فلا قول فيه، غير الذي قلنا يصحّ عندنا، والله أعلم.
آخر تفسير سورة الهمزة(24/601)
تفسير سورة الفيل(24/603)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك، فترى بها (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) الذين قَدِموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة ورئيسهم أبرهة الحبشيّ الأشرم (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)
يقول: ألم يجعل سعي الحبشة أصحاب الفيل في تخريب الكعبة (فِي تَضْلِيلٍ) يعني: في تضليلهم عما أرادوا وحاولوا من تخريبها.
وقوله: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ) يقول تعالى ذكره: وأرسل عليهم ربك طيرا متفرقة، يتبع بعضها بعضا من نواح شتي; وهي جماع لا واحد لها، مثل الشماطيط والعباديد ونحو ذلك. وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى، أنه لم ير أحدا يجعل لها واحدا. وقال الفرّاء: لم أسمع من العرب في توحيدها شيئا. قال: وزعم أبو جعفر الرُّؤاسِيّ، وكان ثقة، أنه سمع أن واحدها: إبالة. وكان الكسائي يقول: سمعت النحويين يقولون: إبول، مثل العجول. قال: وقد سمعت بعض النحويين يقول. واحدها: أبيل.
وبنحو الذي قلنا في الأبابيل: قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا سوّار بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ، عن عبد الله، في قوله: (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: فرق.(24/605)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله، قال: الفِرَق.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: يتبع بعضُها بعضا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: هي التي يتبع بعضها بعضا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أنه قال في: (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: هي الأقاطيع، كالإبل المؤَبَّلة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمِّيّ، عن جعفر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: متفرّقة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الفضل، عن الحسن (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: الكثيرة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن ابن سابط، عن أبي سلمة، قالا الأبابيل: الزُّمَر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أَبَابِيلَ) قال: هي شتى متتابعة مجتمعة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: الأبابيل: الكثيرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: الأبابيل: الكثيرة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (طَيْرًا أَبَابِيلَ) يقول: متتابعة. بعضها على أثر بعض.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد; في قوله: (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: الأبابيل: المختلفة، تأتي من ها هنا، وتأتي من ها هنا، أتتهم من كلّ مكان.
وذُكر أنها كانت طيرا أُخرجت من البحر. وقال بعضهم: جاءت من قبل البحر.
ثم اختلفوا في صفتها، فقال بعضهم: كانت بيضاء.(24/606)
وقال آخرون: كانت سوداء.
وقال آخرون: كانت خضراء، لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، في قوله: (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: قال ابن عباس: هي طير، وكانت طيرا لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب.
حدثني الحسن بن خلف الواسطي، قال: ثنا وكيع وروح بن عبادة، عن ابن عون، عن ابن سيرين عن ابن عباس، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن ابن عون، عن ابن عباس، نحوه.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حسين، عن عكرمة، في قوله: (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: كانت طيرا خرجت خضرا، خرجت من البحر، لها رءوس كرءوس السباع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: هي طير سود بحرية، في مناقرها وأظفارها الحجارة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير: (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: سود بحرية، في أظافيرها ومناقيرها الحجارة.
قال: ثنا مهران، عن خارجة، عن عبد الله بن عون، عن ابن سيرين، عن ابن عباس قال: لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب.
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعى، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، في قوله: (طَيْرًا أَبَابِيلَ) قال: طير خُضْر، لها مناقير صُفْر، تختلف عليهم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير، قال: طير سود تحمل الحجارة في أظافيرها ومناقيرها.
وقوله: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ)
يقول تعالى ذكره: ترمي هذه الطير الأبابيل التي أرسلها الله على أصحاب الفيل، بحجارة من سجيل.
وقد بيَّنا معنى سجيل في موضع غير هذا، غير أنا نذكر بعض ما قيل من ذلك في هذا الموضع، من أقوال مَنْ لم نذكره في ذلك الموضع.(24/607)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ، عن عكرمة، عن ابن عباس (حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) قال: طين في حجارة.
حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: ثنا يزيد بن زُرَيع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) قال: من طين.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس (حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) قال: سنك وكل.
حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، في قوله: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) قال: من طين.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن شرقي، قال: سمعت عكرمة يقول: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) قال: سنك وكل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، قال: كانت ترميهم بحجارة معها، قال: فإذا أصاب أحدهم خرج به الجُدَرِيّ، قال: كان أوّل يوم رُؤى فيه الجدريّ; قال: لم ير قبل ذلك اليوم، ولا بعده.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، قال: ذكر أبو الكُنود، قال: دون الحِمَّصة وفوق العدسة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، قال: كانت الحجارة التي رُمُوا بها أكبر من العدسة; وأصغر من الحِمَّصَةِ.
قال: ثنا أبو أحمد الزُّبيريّ، قال: ثنا إسرائيل، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمران، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن السديّ، عن عكرِمة، عن ابن عباس: سجِّيل بالفارسية: سنك وكل، حَجَر وطين.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر بن سابط، قال: هي بالأعجمية: سنك وكل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كانت مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، فجعلت ترميهم بها.(24/608)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) قال: هي من طين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: هي طير بيض، خرجت من قِبَل البحر، مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، ولا يصيب شيئا إلا هشَمه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث بن يعقوب أن أباه أخبره أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة، كأنت تحملها بأفواهها، ثم إذا ألقتها نَفِط لها الجلد.
وقال آخرون: معنى ذلك: ترميهم بحجارة من سماء الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) قال: السماء الدنيا، قال: والسماء الدنيا اسمها سجيل، وهي التي أنزل الله جلّ وعزّ على قوم لوط.
قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة، أنها طير تخرج من البحر، وأن سجيل: السماء الدنيا. وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجها في خبر ولا عقل، ولا لغة، وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة، أو خبر من الله تعالى ذكره.
كان السبب الذي من أجله حلَّت عقوبة الله تعالى بأصحاب الفيل، مسير أبرهة الحبشيّ بجنده معه الفيل، إلى بيت الله الحرام لتخريبه.
وكان الذي دعاه إلى ذلك فيما حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثنا ابن إسحاق، أن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء، وكان نصرانيا، فسماها القليس; لم يُر مثلها في زمانها بشيء من الأرض; وكتب إلى النجاشيّ ملك الحبشة: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة، لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولستُ بمُنتهٍ حتى أصرف إليها حاجّ العرب (1) . فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك للنجاشي، غضب رجل من النَّسأة أحد بني فقيم، ثم أحد بني مالك، فخرج حتى أتى القُليس،
__________
(1) الخبر 178 - وهذا موقوف على جابر بن عبد الله. وإسناده صحيح: محمود بن خداش بكسر الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة وآخره شين معجمة - الطالقاني: ثقة من أهل الصدق، مات يوم الأربعاء 14 شعبان سنة 250، كما في التاريخ الصغير للبخاري: 247. وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي: ثقة ثبت عاقل، روى عنه أحمد وغيره من الحفاظ. والحسن وعلي ابنا صالح بن صالح بن حي: ثقتان، وهما أخوان توأم. ومن تكلم في الحسن تكلم بغير حجة، وقد وثقناه في المسند: 2403. وأخاه فيه: 220. وعبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، وأمه زينب الصغرى بنت علي بن أبي طالب: تابعي ثقة، ولا حجة لمن تكلم فيه.
والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 258 - 259، من طريق أبي نعيم عن الحسن بن صالح -وحده- بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 1: 50، والسيوطي 1: 15، والشوكاني 1: 13(24/609)
فقعد فيها، ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر أبرهة بذلك، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت، الذي تحجّ العرب إليه بمكة، لما سمع من قولك: أصرف إليه حاجّ العرب، فغضب، فجاء فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهل; فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرنّ إلى البيت فيهدمه، وعند أبرهة رجال من العرب قد قَدِموا عليه يلتمسون فضله، منهم محمد بن خُزَاعي بن حِزَابة الذَّكواني، ثم السُّلَمي، في نفر من قومه، معه أخ له يقال له قيس بن خزاعي; فبينما هم عنده، غَشِيهم عبد لأبرهة، فبعث إليهم فيه بغذائه، وكان يأكل الخُصَى; فلما أتى القوم بغذائه، قالوا: والله لئن أكلنا هذا لا تزال تسبُّنا به العرب ما بقينا، فقام محمد بن خزاعي، فجاء أبرهة فقال: أيها الملك، إن هذا يوم عيد لنا، لا نأكل فيه إلا الجنُوب والأيدي، فقال له أبرهة: فسنبعث إليكم ما أحببتم، فإنما أكرمتكم بغذائي، لمنزلتكم عندي.
ثم إن ابرهة توج محمد بن خُزَاعِي، وأمَّره على مضر، وأمره أن يسير في الناس، يدعوهم إلى حج القُلَّيس، كنيسته التي بناها، فسار محمد بن خزاعي، حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة، وقد بلغ أهل تهامة أمره، وما جاء له، بعثوا إليه رجلا من هذيل يقال له عُرْوة بن حياض الملاصي، فرماه بسهم فقتله; وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس بن خزاعي، فهرب حين قُتل أخوه، فلحق بأبرهة فأخبره بقتله، فزاد ذلك أبرهة غضبا وحنقا، وحلف ليغزونّ بني كنانة، وليهدمنّ البيت.
ثم إن أبرهة حين أجمع السير إلى البيت، أمر الحُبْشان فتهيأت وتجهَّزت، وخرج معه بالفيل، وسمعت العرب بذلك، فأعظموه، وفُظِعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة، بيت الله الحرام، فخرج رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له ذو نَفْر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب، إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله، وما يريد من هدمه وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، وعَرَض له، وقاتله، فهزم وتفرق أصحابه، وأُخِذَ له ذو نفر أسيرا; فلما أراد قتله، قال ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي; فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق. وكان أبرهة رجلا حليما.
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له نفيل بن حبيب الخثعميّ في قبيلتي خثعم: شهران، وناهس، ومن معه(24/610)
من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأُخِذ له أسيرا، فأتي به; فلما همّ بقتله، قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني، فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم: شهران، وناهس، بالسمع والطاعة; فأعفاه وخلَّى سبيله، وخرج به معه، يدله على الطريق; حتى إذا مرّ بالطائف، خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف، فقال: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس لك عندنا خلاف، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة - يعنون الكعبة - ونحن نبعث معك من يدلك، فتجاوز عنهم، وبعثوا معهم أبا رغال; فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمِّس، فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فرَجَمت العرب قبره، فهو القبر الذي ترجم الناس بالمغمِّس.
ولما نزل أبرهة المغمس، بعث رجلا من الحبشة، يقال له الأسود بن مقصود، على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مئتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها; وهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن لم يُرِد حربي فأتني به.
فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيّ، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة، قال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة; هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يُخْلِ بينه وبينه، فو الله ما عندنا له من دافع عنه، أو كما قال; فقال له حناطة: فانطلق إلى الملك، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نفر، وكان له صديقا، فدل عليه، فجاءه وهو في محبسه، فقال: يا ذا نفر، هل عندك غَنَاء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر، وكان له صديقا: وما غناء رجل أسير في يدي ملك، ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا! ما عندي(24/611)
غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائق الفيل لي صديق، فسأرسل إليه، فأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأساله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما تريد، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. قال: حسبي، فبعث ذو نفر إلى أنيس، فجاء به، فقال: يا أنيس إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عير مكة، يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، وقد أصاب الملك له مئتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت، فقال: أفعل.
فكلَّم أنيس أبرهة، فقال: أيها الملك، هذا سيِّد قريش ببابك، يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة، يُطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، فأْذَنْ له عليك، فليكلمك بحاجته، وأحسن إليه. قال: فأذن له أبرهة، وكان عبد المطلب رجلا عظيما وسيما جسيما; فلما رآه أبرهة أجلَّه وأكرمه أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، فأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له ذلك الترجمان، فقال له عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ عليّ مئتي بعير أصابها لي; فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلَّمتَني، أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه، قال: ما كان ليمنع مني، قال: فأنت وذاك، أردد إليّ إبلي.
وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب مع عبد المطب إلى أبرهة، حين بعث إليه حناطة، يعمر بن نفاثة بن عديّ بن الديل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، وهو يومئذ سيِّد بني كنانة، وخويلد بن واثلة الهُذَليّ وهو يومئذ سيد هُذَيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة، على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبي عليهم، والله أعلم.
وكان أبرهة، قد ردّ على عبد المطلب الإبل التي أصاب له، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرزّ في شعف الجبال والشعاب، تخوّفا عليهم من مَعَرّة الجيش; ثم قام عبد المطلب، فأخذ بحلقة الباب، باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على(24/612)
أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب، وهو آخذ حلقة باب الكعبة:
يا رَبِّ لا أرْجُو لَهُمْ سِوَاكا ... يا رَبِّ فامْنَعْ مِنْهُم حِماكا
إنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عادَاكا ... امْنَعْهُمُ أنْ يُخَربُوا قُرَاكا (1)
وقال أيضا:
لا هُمَّ إنَّ العَبْدَ يَمْ ... نَعُ رَحْلَهُ فامْنَع حِلالكْ
لا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... ومِحَالُهُمْ غَدْوا مِحَالكْ
فَلَئِنْ فَعَلْتَ فَرُبَّمَا ... أوْلى فأمْرٌ ما بَدَا لَكْ
وَلئِنْ فَعَلْتَ فإنَّهُ ... أمْرٌ تُتِمُّ بِهِ فِعَالكْ (2)
وقال أيضا:
وكُنْتُ إذَا أتى باغٍ بِسَلْمٍ ... نُرَجِّي أن تَكُونَ لَنَا كَذلِكْ
فَوَلَّوْا لَمْ يَنالُوا غَيْرَ خِزْيٍ ... وكانَ الحَيْنُ يُهْلِكُهُمْ هُنَالكْ
وَلَمْ أسْمَعْ بأرْجَسَ مِنْ رِجالٍ ... أرَادُوا العِزَّ فانْتَهَكُوا حَرامَكْ
جَرُّوا جُمُوعَ بِلادِهِمْ ... والْفِيلَ كَيْ يَسبُوا عِيَالكْ (3)
__________
(1) الحديث 179 - إسناده ضعيف، سبق بيان ضعفه: 137. وهذا اللفظ نقله ابن كثير 1: 50 دون إسناد ولا نسبة. ونقله السيوطي 1: 14 مختصرًا، ونسبه للطبري فقط.
(2) الخبر 180 - إسناده ضعيف جدا، على ما فيه من جهلنا بحال بعض رجاله: فموسى بن سهل الرازي، شيخ الطبري: لم نجزم بأي الرجال هو؟ ولعله " موسى بن سهل بن قادم، ويقال ابن موسى أبو عمر الرملي، نسائي الأصل ". فهو شيخ للطبري مترجم في التهذيب 10: 347، ولكنه لم ينسب "رازيا". وكتب في المخطوطة: "سهل بن موسى"! ولم نجد هذه الترجمة أيضًا، ونرجح أنه خطأ من الناسخ. . ويحيى بن عوف: لم نجد ترجمة بهذا الاسم قط فيما لدينا من مراجع. واما علة الإسناد، فهو "الفرات بن السائب الجزري"، وهو ضعيف جدا، قال البخاري في الكبير 4 / 1 / 130: "تركوه، منكر الحديث"، وكذلك قال الأئمة فيه، وقال ابن حبان في المجروحين (في الورقة 187) : كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، ويأتي بالمعضلات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه، ولا كتبة الحديث إلا على سبيل الاختبار". وأما ميمون بن مهران فتابعي ثقة معروف، فقيه حجة.
وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 50 مجهلا بلفظ "وقيل: هو الإسلام". ونقله السيوطي 1: 15 منسوبا لابن جريج فقط، على خطأ مطبعي فيه "ابن جريج"!
(3) الأثر 181 - ابن الحنفية: هو محمد بن علي بن أبي طالب، والحنفية أمه، وهي خولة بنت جعفر من بني حنيفة، عرف بالنسبة إليها. وهذا الإسناد إليه ضعيف: محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي: ثقة من شيوخ أحمد وابن معين. وإسماعيل الأزرق: هو إسماعيل بن سلمان، وهو ضعيف، قال ابن معين: "ليس حديثه بشيء"، وقال ابن نمير والنسائي: "متروك"، وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص 78 رقم 35) : "ينفرد بمناكير يرويها عن المشاهير". وأبو عمر البزار: هو دينار بن عمر الأسدي الكوفي الأعمى، وهو ثقة. والأثر ذكره ابن كثير 1: 51 دون نسبة ولا إسناد.(24/613)
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شَعَف الجبال، فتحرّزوا فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها; فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مُجْمِعٌ لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجَّهوا الفيل، أقبل نفيل بن حبيب الخثعميّ، حتى قام إلى حنبه، ثم أخذ بأذنه فقال: أبرك محمود، وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام; ثم أرسل أذنه، فبَرَك الفيل، وخرج نُفَيل بن حبيب يشتدّ حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى، وضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم، فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه، فبزغوه بها ليقوم، فأبى، فوجَّهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجَّهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله عليهم طيرا من البحر، أمثال الخطاطيف، مع كل طير ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه مثل الحمص والعدس، لا يصيب منهم أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نُفَيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أيْنَ المَفَرُّ والإلَهُ الطَّالِبْ ... والأشْرَمُ المَغْلُوبُ غَيْرُ الْغَالِبْ (1)
فخرجوا يتساقطون بكلّ طريق، ويهلكون على كلّ منهل، فأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم، فسقطت أنامله أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة أتبعتها مِدّة تَمُثُّ قيحا ودما، حتى قَدِموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة
__________
(1) الخبر 182 - هذا من تفسير السدي، وقد سبق شرح إسناده 168. وقد نقله ابن كثير 1: 50 والسويطي 1: 15.(24/614)
بن المُغيرة بن الأخنس، أنه حدّث، أن أوّل ما رُؤيت الحصبة والجدريّ بأرض العرب ذلك العام، وأنه أوّل ما رؤي بها مُرار الشجر: الحرملُ والحنظلُ والعُشرُ ذلك العام.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) أقبل أبرهة الأشرم من الحبشة يوما ومن معه من عداد أهل اليمن، إلى بيت الله ليهدمه من أجل بيعة لهم أصابها العرب بأرض اليمن، فأقبلوا بفيلهم، حتى إذا كانوا بالصَّفَّاح برك; فكانوا إذا وجَّهوه إلى بيت الله ألقى بجرانه على الأرض، وإذا وجهوه إلى بلدهم انطلق وله هرولة، حتى إذا كان بنخلة اليمانية بعث الله عليهم طيرا بيضا أبابيل. والأبابيل: الكثيرة، مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، فجعلت ترميهم بها حتى جعلهم الله عزّ وجلّ كعصف مأكول; قال: فنجا أبو يكسوم وهو أبرهة، فجعل كلما قدم أرضا تساقط بعض لحمه، حتى أتى قومه، فأخبرهم الخبر ثم هلك.
وقوله: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)
يعني تعالى ذكره: فجعل الله أصحاب الفيل كزرع أكلته الدواب فراثته، فيبس وتفرّقت أجزاؤه; شبَّه تقطُّع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم، وتفرّق آراب أبدانهم بها، بتفرّق أجزاء الروث، الذي حدث عن أكل الزرع.
وقد كان بعضهم يقول: العصف: هو القشر الخارج الذي يكون على حبّ الحنطة من خارج، كهيئة الغلاف لها.
*ذكر من قال: عُني بذلك ورق الزرع:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) قال: ورق الحنطة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) قال: هو التبن.
وحُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) : كزرع مأكول.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا زريق بن مرزوق، قال: ثنا هبيرة، عن سلمة بن نُبَيط، عن الضحاك، في قوله (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) قال:(24/615)
هو الهبور بالنبطية، وفي رواية: المقهور.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) قال: ورق الزرع وورق البقل، إذا أكلته البهائم فراثته، فصار رَوْثا.
*ذكر من قال: عني به قشر الحبّ:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) قال: البرّ يؤكل ويُلقى عصفه الريح والعصف: الذي يكون فوق البرّ: هو لحاء البرّ.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت: (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) قال: كطعام مطعوم.
آخر تفسير سورة الفيل(24/616)
تفسير سورة قريش(24/617)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {لإيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) } .
اختلفت القرّاء في قراءة: (لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار بياء بعد همز لإيلاف وإيلافهم، سوى أبي جعفر، فإنه وافق غيره في قوله (لإيلافِ) فقرأه بياء بعد همزة، واختلف عنه في قوله (إِيلافِهِمْ) فروي عنه أنه كان يقرأه: "إلْفِهِمْ" (1) على أنه مصدر من ألف يألف إلفا، بغير ياء. وحَكى بعضهم عنه أنه كان يقرؤه: "إلافِهِمْ" بغير ياء مقصورة الألف.
والصواب من القراءة في ذلك عندي: من قرأه: (لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ) بإثبات الياء فيهما بعد الهمزة، من آلفت الشيء أُولفه إيلافا، لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وللعرب في ذلك لغتان: آلفت، وألفت; فمن قال: آلفت بمدّ الألف قال: فأنا أؤالف إيلافا; ومن قال: ألفت بقصر الألف قال: فأنا آلف إلفا، وهو رجل آلف إلفا. وحكي عن عكرمة أنه كان يقرأ ذلك: "لتألف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف".
حدثني بذلك أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي مكين، عن عكرِمة.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: "إلْفَهُمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ".
واختلف أهل العربية في المعنى الجالب هذه اللام في قوله: (لإيلافِ قُرَيْشٍ) ،
__________
(1) الخبر 183 - نقله السيوطي 1: 14 منسوبا للطبري وابن المنذر. وقد سبق أول هذا الإسناد: 144، وهو هنا منقطع، لأن ابن جريج لم يدرك ابن عباس، إنما يروي عن الرواة عنه.(24/619)
فكان بعض نحويي البصرة يقول: الجالب لها قوله: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) فهي في قول هذا القائل صلة لقوله جعلهم، فالواجب على هذا القول، أن يكون معنى الكلام: ففعلنا بأصحاب الفيل هذا الفعل، نعمة منا على أهل هذا البيت، وإحسانا منا إليهم، إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف، فتكون اللام في قوله (لإيلافِ) بمعنى إلى، كأنه قيل: نعمة لنعمة وإلى نعمة، لأن إلى موضع اللام، واللام موضع إلى.
وقد قال معنى هذا القول بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إيلافِهِم رِحْلَة الشتاءِ والصَّيْف) قال: إيلافهم ذلك فلا يشقّ عليهم رحلة شتاء ولا صيف.
حدثني إسماعيل بن موسى السديِّ، قال: أخبرنا شريك، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد (لإيلافِ قُريْشٍ) قال: نعمتي على قريش.
حدثني محمد بن عبد الله الهلالي، قال: ثنا فروة بن أبي المَغْراء الكندي، قال: ثنا شريك، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، مثله.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني، قال: ثنا خطاب ابن جعفر بن أبي المغيرة قال: ثني أبي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قوله: (لإيلافِ قُريْشٍ) قال: نعمتي على قريش.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: قد قيل هذا القول، ويقال: إنه تبارك وتعالى عجَّب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: اعجب يا محمد لِنعَم الله على قريش، في إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. ثم قال: فلا يتشاغلوا بذلك عن الإيمان واتباعك يستدل بقوله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) .
وكان بعض أهل التأويل يوجِّه تأويل قوله: (لإيلافِ قُريْشٍ) إلى أُلفة بعضهم بعضا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (لإيلافِ قُريْشٍ) فقرأ: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) إلى آخر السورة،(24/620)
قال: هذا لإيلاف قريش، صنعتُ هذا بهم لألفة قريش، لئلا أفرّق أُلفتهم وجماعتهم، وإنما جاء صاحب الفيل ليستبيد حريمهم، فصنع الله ذلك.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن هذه اللام بمعنى التعجب. وأن معنى الكلام: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت، الذي أطعهم من جوع، وآمنهم من خوف، فليعبدوا ربّ هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف. والعرب إذا جاءت بهذه اللام، فأدخلوها في الكلام للتعجب اكتفوا بها دليلا على التعجب من إظهار الفعل الذي يجلبها، كما قال الشاعر:
أغَرَّكَ أنْ قَالُوا لِقُرَّةَ شاعِرًا ... فيالأباهُ مِنْ عَرِيفٍ وَشَاعِرِ (1)
فاكتفى باللام دليلا على التعجب من إظهار الفعل، وإنما الكلام: أغرّك أن قالوا: اعجبوا لقرّة شاعرا، فكذلك قوله:
(لإيلافِ) .
وأما القول الذي قاله من حَكينا قوله، أنه من صلة قوله: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) فإن ذلك لو كان كذلك، لوجب أن يكون "لإيلاف" بعض "ألم تر"، وأن لا تكون سورة منفصلة من "ألم تر"، وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامتان، كلّ واحدة منهما منصلة عن الأخرى ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك. ولو كان قوله: (لإيلافِ قُرَيْشٍ) من صلة قوله: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) لم تكن "ألم تر" تامَّة حتى توصل بقوله: (لإيلافِ قُرَيْشٍ) لأن الكلام لا يتمّ إلا بانقضاء الخبر الذي ذُكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (إلْفَهُمْ رِحْلَةَ الشتاءِ وَالصَّيْف) يقول: لزومهم.
__________
(1) الأثر 184 - عبد الله بن كثير أبو صديف الآملي، شيخ الطبري: لم أعرف من هو، ولم أجد له ذكرًا، وأخشى أن يكون فيه تحريف. هاشم بن القاسم: هو ابو النضر - بالنون والصاد المعجمة - الحافظ الخراساني الإمام، شيخ الأئمة: أحمد وابن راهويه وابن المديني وابن معين وغيرهم.
حمزة بن المغيرة بن نشيط - بفتح النون وكسر الشين المعجمة - الكوفي العابد: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير 2 / 1 / 44، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 214 - 215، وذكره ابن حبان في الثقات 443، قال: "حمزة بن المغيرة العابد، من أهل الكوفة. يروي عن عاصم الأحول عن أبي العالية (اهدنا الصراط المستقيم) ، قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه. روى عنه أبو النضر هاشم بن القاسم". ووقع هنا: في الأصول "حمزة بن أبي المغيرة". وهو خطأ من الناسخين.
عاصم: هو ابن سليمان الأحول، تابعي ثقة ثبت. أبو العالية: هو الرياحي - بكسر الراء وتخفيف الياء، واسمه: رفيع -بالتصغير- ابن مهران، من كبار التابعين الثقات، مجمع على توثيقه.
وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 51 ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم. والسيوطي 1: 15 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن عدي وابن عساكر. وأبو العالية لم يقله من قبل نفسه: فقد رواه الحاكم في المستدرك 2: 259 من طريق أبي النضر بهذا الإسناد إلى "أبي العالية عن ابن عباس". وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. واختصره السيوطي ونسبه للحاكم فقط.(24/621)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (لإيلافِ قُرَيْشٍ) قال: نهاهم عن الرحلة، وأمرهم أن يعبدوا ربّ هذا البيت، وكفاهم المؤنة، وكانت رحلتهم في الشتاء والصيف، فلم يكن لهم راحة في شتاء ولا صيف، فأطعمهم بعد ذلك من جوع، وآمنهم من خوف، وألفوا الرحلة، فكانوا إذا شاءوا ارتحلوا، وإذا شاءوا أقاموا، فكان ذلك من نعمة الله عليهم.
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة قال: كانت قريش قد ألفوا بصرى واليمن يختلفون إلى هذه في الشتاء، وإلى هذه في الصيف (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) فأمرهم أن يقيموا بمكة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح (لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ) قال: كانوا تجارا، فعلم الله حبهم للشام.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لإيلافِ قُرَيْشٍ) قال: عادة قريش عادتهم رحلة الشتاء والصيف.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لإيلافِ قُرَيْشٍ) كانوا ألفوا الارتحال في القيظ والشتاء.
وقوله: (إِيلافِهِمْ) مخفوضة على الإبدال، كأنه قال: لإيلاف قريش لإيلافهم، رحلة الشتاء والصيف، وأما الرحلة فنُصبَت بقوله. (إِيلافِهِمْ) ، ووقوعه عليها.
وقوله: (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) يقول: رحلة قريش الرحلتين: إحداهما إلى الشام في الصيف، والأخرى إلى اليمن في الشتاء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) قال: كانت لهم رحلتان: الصيف إلى الشام، والشتاء إلى اليمن في التجارة، إذا كان الشتاء امتنع الشأم منهم لمكان البرد، وكانت رحلتهم في الشتاء إلى اليمن.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) قال: كانوا تُجَّارا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبيّ (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) قال: كانت لهم(24/622)
رحلتان: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشأم.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني، قال: ثنا خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة قال: ثني أبي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) قال: كانوا يشْتون بمكة، ويَصِيفون بالطائف.
وقوله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) يقول: فليقيموا بموضعهم ووطنهم من مكة، وليعبدوا ربّ هذا البيت، يعني بالبيت: الكعبة.
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مُغيرة، عن إبراهيم، أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، صلى المغرب بمكة، فقرأ: (لإيلافِ قُرَيْشٍ) فلما انتهى إلى قوله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) أشار بيده إلى البيت.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني، قال: ثنا خطاب ابن جعفر بن أبي المغيرة، قال: ثني أبي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قوله (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) قال الكعبة.
وقال بعضهم: أمروا أن يألفوا عبادة ربّ مكة كإلفهم الرحلتين.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلِيّ، قال: ثنا مروان، عن عاصم الأحول، عن عكرِمة، عن ابن عباس، في قول الله: (لإيلافِ قُرَيْشٍ) قال: أُمروا أن يألفوا عبادة ربّ هذا البيت، كإلفهم رحلة الشتاء والصيف.
وقوله: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) يقول: الذي أطعم قريشا من جوع.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) يعني: قريشا أهل مكة بدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) .
(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) فقال بعضهم: معنى ذلك: أنه آمنهم مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات والحروب والقتال، والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها من بعض.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس،(24/623)
(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) حيث قال إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قال: آمنهم من كلّ عدو في حرمهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ) قال: كان أهل مكة تجارا يتعاورون ذلك شتاء وصيفا، آمنين في العرب، وكانت العرب يغير بعضها على بعض، لا يقدرون على ذلك، ولا يستطيعونه من الخوف، حتى إن كان الرجل منهم ليُصاب في حيّ من أحياء العرب، وإذا قيل حِرْمِيٌّ خُليَ عنه وعن ماله، تعظيما لذلك فيما أعطاهم الله من الأمن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قال: كانوا يقولون: نحن من حرم الله، فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية، يأمنون بذلك، وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج أغير عليه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قال: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها بعضا، فأمنوا من ذلك لمكان الحرم، وقرأ: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) .
وقال آخرون: عُنِي بذلك: وآمنهم من الجذام.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا قال: قال الضحاك: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قال: من خوفهم من الجذام.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قال: من الجذام وغيره.
حدثنا أبو كُريب، قال: قال وكيع: سمعت أطعمهم من جوع، قال: الجوع (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) الخوف: الجذام.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني، قال: ثنا خطاب بن جعفر بن أبي المُغيرة، قال: ثني أبي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قال: الخوف: الجذام.(24/624)
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه (آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) والعدو مخوف منه، والجذام مخوف منه، ولم يخصص الله الخبر عن أنه آمنهم من العدوّ دون الجذام، ولا من الجذام دون العدوّ، بل عمّ الخبر بذلك، فالصواب أن يعمّ كما عمّ جلّ ثناؤه، فيقال: آمنهم من المعنيين كليهما.
آخر تفسير سورة قريش(24/625)
تفسير سورة أرأيت(24/627)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (أرأيت الذي يكذب بالدين) أرأيت يا محمد الذي يكذّب بثواب الله وعقابه، فلا يطيعه في أمره ونهيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) قال: الذي يكذّب بحكم الله عز وجلّ.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن جُرَيج (يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) قال: بالحساب.
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: "أرأيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ الدِّينَ" فالباء في قراءته صلة، دخولها في الكلام وخروجها واحد.
وقوله: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) يقول: فهذا الذي يكذِّب بالدين، هو الذي يدفع اليتيم عن حقه، ويظلمه. يقال منه: دععت فلانًا عن حقه، فأنا أدعه دعًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/629)
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) قال: يدفع حقّ اليتيم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) قال: يدفع اليتيم فلا يُطعمه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) : أي يقهره ويظلمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) قال: يقهره ويظلمه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) قال: يقهره.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان في قوله: (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) قال: يدفعه.
وقوله: (وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) يقول تعالى ذكره: ولا يحثّ غيره على إطعام المحتاج من الطعام.
وقوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)
يقول تعالى ذكره: فالوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم للمنافقين الذين يصلون، لا يريدون الله عز وجل بصلاتهم، وهم في صلاتهم ساهون إذا صلوها.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) فقال بعضهم: عُنِيَ بذلك أنهم يؤخِّرونها عن وقتها، فلا يصلونها إلا بعد خروج وقتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سكن بن نافع الباهلي، قال: ثنا شعبة، عن خلف بن حوشب، عن طلحة بن مُصَرّف، عن مصعب بن سعد، قال: قلت لأبي، أرأيت قول الله عزّ وجلّ: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) : أهي تركها؟ قال: لا ولكن تأخيرها عن وقتها.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن هشام الدستوائي، قال:(24/630)
ثنا عاصم بن بهدلة، عن مصعب بن سعد، قال: قلت لسعد: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) : أهو ما يحدّث به أحدنا نفسه في صلاته؟ قال: لا ولكن السهو أن يؤخِّرها عن وقتها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن مصعب بن سعد (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: السهو: الترك عن الوقت.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا عمران بن تمام البناني، قال: ثنا أبو جمرة الضبعي نصر بن عمران، عن ابن عباس، في قوله: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: الذين يؤخِّرونها عن وقتها.
وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن ابن أبزي (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: الذين يؤخِّرون الصلاة المكتوبة، حتى تخرج من الوقت أو عن وقتها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى عن مسروق (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: الترك لوقتها.
حدثني أبو السائب، قال: ثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، في قوله: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: تضييع ميقاتها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى (عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: ترك المكتوبة لوقتها.
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: أخبرني ابن زحر، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح (عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) الذين يضيعونها عن وقتها.
وقال آخرون: بل عني بذلك أنهم يتركونها فلا يصلونها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) فهم المنافقون كانوا يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العارية بغضا لهم، وهو الماعون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،(24/631)
عن أبيه، عن ابن عباس: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: هم المنافقون يتركون الصلاة في السرّ، ويصلون في العلانية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: الترك لها.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك أنهم يتهاونون بها، ويتغافلون عنها ويلهون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: لاهون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) : غافلون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: ساهٍ عنها، لا يبالي صلى أم لم يصلّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) يصلون، وليست الصلاة من شأنهم.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: يتهاونون.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب بقوله: (ساهُونَ) : لاهون يتغافلون عنها، وفي اللهو عنها والتشاغل بغيرها، تضييعها أحيانا، وتضييع وقتها أخرى، وإذا كان ذلك كذلك صح بذلك قول من قال: عُنِيَ بذلك ترك وقتها، وقول من قال: عُنِيَ به تركها لما ذكرتُ من أن في السهو عنها المعاني التي ذكرت.
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خبران يؤيدان صحة ما قلنا في ذلك:
أحدهما: ما حدثني به زكريا بن أبان المصري، قال: ثنا عمرو بن طارق، قال: ثنا عكرمة بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص، قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن (الَّذِينَ هُمْ(24/632)
عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: هم الذين يؤخِّرون الصلاة عن وقتها.
والآخر منهما: ما حدثني به أبو كُرَيب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن شيبان النحوي، عن جابر الجعفي، قال: ثني رجل، عن أبي برزة الأسلميّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما نزلت هذه الآية: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) : الله أكبر هذه خير لكم من أن لو أعطي كلّ رجل منكم مثل جميع الدنيا هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته، وإن تركها لم يخف ربه".
حدثني أبو عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت عمر بن سليمان يحدّث عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) وكلا المعنيين اللذين ذكرت في الخبرين اللذين روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محتمل عن معنى السهو عن الصلاة.
وقوله: (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) يقول: الذين هم يراءون الناس بصلاتهم إذا صلوا، لأنهم لا يصلون رغبة في ثواب، ولا رهبة من عقاب، وإنما يصلونها ليراهم المؤمنون فيظنونهم منهم، فيكفون عن سفك دمائهم، وسبي ذراريهم، وهم المنافقون الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستبطنون الكفر، ويُظهرون الإسلام، كذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر ومؤمل، قالا ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) قال: هم المنافقون.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام في قوله: (يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: يراءون بصلاتهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) يعني المنافقين.(24/633)
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: هم المنافقون، كانوا يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن زيد: ويصلون- وليس الصلاة من شأنهم- رياءً.
وقوله: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) يقول: ويمنعون الناس منافع ما عندهم، وأصل الماعون من كلّ شيء منفعته، يقال للماء الذي ينزل من السحاب ماعون، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
بِأَجْوَدَ مِنْه بِمَاعُونِهِ ... إذا ما سَماؤُهُمُ لَمْ تَغِمْ (1)
وقال آخر يصف سحابا:
يَمُجُّ صّبيرُهُ المَاعُونَ صَبًا (2)
__________
(1) الأثر 185 - هذا من كلام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد نقله ابن كثير 1: 51 دون نسبة. وعبد الرحمن بن زيد: متأخر، من أتباع التابعين، مات سنة 182. وهو ضعيف جدا، بينت ضعفه في حديث المسند: 5723، ويكفي منه قول ابن خزيمة: "ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه، لسوء خفظه، وهو رجل صناعته العبادة والتقشف، ليس من أحلاس الحديث".
(2) الحديث 186، 187 - رواه الطبري عن شيخه "المثنى" بإسنادين، أولهما أعلى من الثاني درجة: بين المثنى وبين معاوية بن صالح في أولهما شيخ واحد، وفي ثانيهما شيخان.
أما المثنى شيخ الطبري: فهو المثنى بن إبراهيم الآملي، يروي عنه الطبري كثيرا في التفسير والتاريخ. وأبو صالح، في الإسناد الأول: هو عبد الله بن صالح المصري، كاتب الليث بن سعد، صحبه عشرين سنة. وهو ثقة، ومن تكلم فيه، في بعض حديثه عن الليث، تكلم بغير حجة. وله ترجمة في التهذيب جيدة، وكذلك في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 2 / 86 - 87، وتذكرة الحفاظ 1: 351 - 353. ولد عبد الله بن صالح سنة 137 ومات سنة 222. ووقع تاريخ مولده في التهذيب (173) وهو خطأ مطبعي، صوابه في تذكرة الحفاظ. وآدم العسقلاني، في الإسناد الثاني: هو آدم بن أبي إياس، وهو ثقة مأمون متعبد، من خيار عباد الله، كما قال أبو حاتم. الليث: هو ابن سعد، إمام أهل مصر. معاوية بن صالح، في الإسنادين: هو الحمصي، أحد الأعلام وقاضي الأندلس، ثقة، من تكلم فيه أخطأ. عبد الرحمن بن جبير بن نفير - بالتصغير فيهما - الحضرمي الحمصي: تابعي ثقة. وأبوه: من كبار التابعين، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو ثقة مشهور بالعلم، وقد ذكره الطبري في طبقات الفقهاء. النواس -بفتح النون وتشديد الواو- بن سمعان الكلابي: صحابي معروف.
وهذا الحديث مختصر من حديث طويل، رواه احمد في المسند: 17711 (ج 4 ص 182 حلبي) عن الحسن بن سوار عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح، به. ونقله ابن كثير 1: 51 من رواية المسند، قال: "وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث الليث بن سعد، به. ورواه الترمذي والنسائي جميعا عن علي بن حجر بن بقية عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان، به. وهو إسناد حسن صحيح". ونسبه السيوطي 1: 15، والشوكاني 1: 13 أيضًا للحاكم "وصححه"، ولغيره.(24/634)
وقال عبيد الراعي:
قَوْمٌ عَلى الإسْلامِ لَمَّا يَمْنَعُوا ... ماعُونَهُمْ وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلا (1)
يعني بالماعون: الطاعة والزكاة.
واختلف أهل التأويل في الذي عُنِيَ به من معاني الماعون في هذا الموضع، فقال بعضهم: عُنِيَ به الزكاة المفروضة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قال عليّ رضى الله عنه في قوله: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: الزكاة.
حدثني ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قال عليّ رضى الله عنه: (المَاعُون) : الزكاة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ، عن أبي صالح، عن عليّ رضى الله عنه قال: (المَاعُون) : الزكاة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عليّ رضى الله عنه (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: يمنعون زكاة أموالهم.
حدثني محمد بن عمارة وأحمد بن هشام قالا ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن السديّ عن أبي صالح، عن عليّ رضى الله عنه (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: الزكاة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (المَاعُون) قال: الزكاة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عليّ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
__________
(1) الخبر 188 - ضعف هذا الإسناد مفصل في: 137. وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 52. وانظر أيضًا: 179.(24/635)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن عليا رضى الله عنه كان يقول (المَاعُون) : الصدقة المفروضة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) أن عليا رضى الله عنه قال: هي الزكاة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: (المَاعُونَ) : الزكاة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي المُغيرة، قال: سأل رجل ابن عمر، عن الماعون قال: هو المال الذي لا يؤدى حقه، قال: قلت: إن ابن أمّ عبد يقول: هو المتاع الذي يتعاطاه الناس بينهم، قال: هو ما أقول لك.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن سلمة، قال: سمعت أبا المُغيرة قال: سألت ابن عمر، عن الماعون، فقال: هو منع الحقّ.
حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن سلمة بن كهيل، قال: سُئل ابن عمر عن الماعون، فقال: هو الذي يسأل حق ماله ويمنعه، فقال: إن ابن مسعود يقول: هو القدر والدلو والفأس، قال: هو ما أقول لكم.
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سلمة بن كهيل، أن ابن عمر سُئل عن قول الله: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: الذي يُسأل مال الله فيمنعه، فقال الذي سأله، فإن ابن مسعود يقول: هو الفأس والقدر، قال ابن عمر: هو ما أقول لك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سلمة بن كهيل، قال: سأل رجل ابن عمر عن الماعون، فذكر مثله.
حدثني سليمان بن محمد بن معدي كرب الرعيني، قال: ثنا بقية بن الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: ثني سلمة بن كهيل، قال: سمعت أبا المغيرة: رجلا من بني أسد، قال: سألت عبد الله بن عمر، عن الماعون، قال: هو منع الحقّ، قلت: إن ابن مسعود قال: هو منع الفأس والدلو قال: هو منع الحقّ.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن(24/636)
أبي المغيرة، عن ابن عمر قال: هي الزكاة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ، عن أبي صالح، عن عليّ، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا جابر بن زيد بن رفاعة، عن حسان بن مخارق، عن سعيد بن جُبير، قال: (المَاعُونَ) : الزكاة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة والحسن: الماعون: الزكاة المفروضة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن أبي عمر، عن ابن الحنفية رضى الله عنه قال: هي الزكاة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: الزكاة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: هم المنافقون يمنعون زكاة أموالهم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: (المَاعُونَ) : الزكاة المفروضة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد، عن قتادة، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن عقبة، قال: سمعت الحسن يقول: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: منعوا صدقات أموالهم، فعاب الله عليهم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: هو المنافق الذي يمنع زكاة ماله، فإن صلى راءى، وإن فاتته لم يأس عليها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سلمة، عن الضحاك، قال: هي الزكاة.
وقال آخرون: هو ما يتعاوره الناس بينهم من مثل الدلو والقدر ونحو ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا ابن أبي إدريس، عن الأعمش، عن الحكم بن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، أنه قال لعبد الله: أخبرني عن(24/637)
الماعون؟ قال: هو ما يتعاوره الناس بينهم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدّث عن أبي العبيدين: رجل من بني تميم ضرير البصر، وكان يسأل عبد الله بن مسعود، وكان ابن مسعود يعرف له ذلك، فسأل عبد الله عن الماعون، فقال عبد الله: إن من الماعون منع الفأس والقدر والدلو، خصلتان من هؤلاء الثلاث; قال شعبة: الفأس ليس فيه شكّ.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الوليد، قال: ثنا شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، عن عبد الله، مثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيه، قال: ثنا شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار، أن أبا العبيدين: رجلا من بني تميم، كان ضرير البصر، سأل ابن مسعود عن الماعون، فقال: هو منع الفأس والدلو، أو قال: منع الفأس والقدر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، أن أبا العبيدين سأل ابن مسعود، عن الماعون، قال: هو ما يتعاوره الناس بينهم، الفأس والقدر والدلو.
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: ثنا أبو الجوّاب، عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرِّب، عن أبي العبيدين، عن عبد الله، قال: كنا أصحاب محمد نحدّث أن الماعون: القدر والفأس والدلو. قال أبو بكر: قال أبو الجوّاب، وخالفه زُهير بن معاوية فيما: حدثنا به الحسن الأشيب، قال: ثنا زُهَير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن أبي العبيدين، حدثني محمد بن عبيد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن أبي العبيدين وسعيد بن عياض، عن عبد الله، قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدّث أن الماعون: الدلو والفأس والقدر، لا يستغنى عنهنّ.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي إسحاق، عن سعيد بن عياض -قال أبو موسى: هكذا قال غندر- عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن من الماعون: الفأس والدلو والقدر.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، وحدثنا ابن حميد،(24/638)
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبى إسحاق، عن سعيد بن عياض، يحدّث عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله.
قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت سعيد بن عياض، يحدّث عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثله.
حدثنا خلاد، قال: أخبرنا النضر، قال: أخبرنا إسرائيل، قال: أخبرنا أبو إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن أبى العبيدين، قال: قال عبد الله: الماعون: القدر والفأس والدلو.
حدثنا خلاد، قال: أخبرنا النضر، قال: أخبرنا المسعودي، قال: أخبرنا سلمة بن كُهَيْلٍ، عن أبي العبيدين، وكانت به زمانة، وكان عبد الله يعرف له ذلك، فقال: يا أبا عبد الرحمن ما الماعون؟ قال: ما يتعاطى الناس بينهم من الفأس والقدر والدلو وأشباه ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم، عن أبي العبيدين، أنه سأل ابن مسعود، عن الماعون، فقال: ما يتعاطاه الناس بينهم.
قال: ثنا مهران، عن الحسن وسلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين، عن ابن مسعود، قال: الفأس والدلو والقدر وأشباهه.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن المسعوديّ، عن سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين، أنه سأل ابن مسعود، عن قوله: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) فذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن ابن مسعود، قال: الفأس والقدر والدلو.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سويد، عن عبد الله قال: (المَاعُونَ) منع الفأس والقدر والدلو.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الحارث بن سويد، عن عبد الله، أنه سُئل عن الماعون، قال: ما يتعاوره الناس بينهم: الفأس والدلو وشبهه.(24/639)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن مسعود، قال: الدلو والفأس والقدر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن عياض، عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: قال: الماعون: الفأس والقدر والدلو.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: سُئل عبد الله عن الماعون، قال: ما يتعاوره الناس بينهم، الفأس والقدر والدلو وشبهه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه قال هو عارية الناس: الفأس والقدر والدلو ونحو ذلك، يعني الماعون.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، بمثله.
قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس مثله، قال: الفأس والدلو.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت الأسدّي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: (المَاعُونَ) : العارية.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع; وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: هو العارية.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: (المَاعُونَ) قال: متاع البيت.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا إسماعيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أراه عن ابن عباس -"شك أبو كريب"- (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: المتاع.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد،(24/640)
قال: قال ابن عباس هو متاع البيت.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: يمنعونهم العارية، وهو الماعون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قال: يمنعون الزكاة، ومنهم من قال: يمنعون الطاعة، ومنهم من قال: يمنعون العارية.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: لم يجيء أهلها بعد.
حدثني ابن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس: (المَاعُونَ) ما يتعاطى الناس بينهم.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا ابن عُلَية، قال: ثنا ليث، عن أبي إسحاق، عن الحارث، قال: قال عليّ رضى الله عنه: (المَاعُونَ) : منع الزكاة والفأس والدلو والقدر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم النبيل، قال: ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جُبير قال: الماعون: العارية.
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك، في قول الله: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) قال: الدلو والقدر والفأس.
حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو عوانة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: كنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: الماعون: منع الدلو وأشباه ذلك.
وقال آخرون: الماعون: المعروف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن إبراهيم السلمي، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا محمد بن رفاعة، قال: سمعت محمد بن كعب يقول: الماعون: المعروف.
وقال آخرون: الماعون: هو المال.(24/641)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن حرب، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، قال: الماعون، بلسان قريش: المال.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن ابن أبى ذئب، عن الزهريّ، قال: الماعون: بلسان قريش: المال.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، إذ كان الماعون هو ما وصفنا قبل، وكان الله قد أخبر عن هؤلاء القوم، وأنهم يمنعونه الناس، خبرًا عاما، من غير أن يخص من ذلك شيئا أن يقال: إن الله وصفهم بأنهم يمنعون الناس ما يتعاونونه بينهم، ويمنعون أهل الحاجة والمسكنة ما أوجب الله لهم في أموالهم من الحقوق؛ لأن كل ذلك من المنافع التي ينتفع بها الناس بعضهم من بعض.
آخر تفسير سورة أرأيت(24/642)
تفسير سورة الكوثر(24/643)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ (3) } .
يقول تعالى ذكره: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ) يا محمد (الْكَوْثَرَ) واختلف أهل التأويل في معنى الكوثر، فقال بعضهم: هو نهر في الجنة أعطاه الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر: أنه قال: "الكوثر: نهر في الجنة، حافتاه من ذهب وفضة، يجري على الدرّ والياقوت، ماؤه أشدّ بياضا من اللبن، وأحلى من العسل".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن محارب بن دثار الباهلي، عن ابن عمر، في قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: "نهر في الجنة حافتاه الذهب، ومجراه على الدرّ والياقوت، وماؤه اشدّ بياضا من الثلج، وأشدّ حلاوة من العسل، وتربته أطيب من ريح المسك".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عمر بن عبيد، عن عطاء، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: "الكوثر: نهر في الجنة حافتاه من ذهب وفضة، يجري على الياقوت والدرّ، ماؤه أبيض من الثلج، وأحلى من العسل".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمِّي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق أو مسروق، قال: قلت لعائشة: يا أمّ المؤمنين، وما بُطْنان الجنة؟ قالت: "وسط الجنة: حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت".
حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازيّ، قال: ثنا أبو النضر وشبابة، قالا ثنا(24/645)
أبو جعفر الرازيّ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن رجل، عن عائشة قالت: الكوثر: نهر في الجنة ليس أحد يدخل أصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي جعفر; وحدثنا ابن أبي سريج، قال: ثنا أبو نعيم، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازيّ، عن ابن أبي نجيح، عن أنس، قال: الكوثر: نهر في الجنة.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عائشة قالت: الكوثر نهر في الجنة، درّ مجوّف.
حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عائشة: "الكوثر: نهر في الجنة، عليه من الآنية عدد نجوم السماء".
قال ثنا وكيع، عن أبي جعفر الرازيّ، عن ابن أبي نجيح، عن عائشة قالت: من أحبّ أن يسمع خرير الكوثر، فليجعل أصبعيه في أُذنيه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عائشة، قالت: نهر في الجنة، شاطئاه الدرّ المجوّف.
قال: ثنا مهران، عن أبي معاذ عيسى بن يزيد، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عائشة قالت: "الكوثر: نهر في بطنان الجنة وسط الجنة، فيه نهر شاطئاه در مجوف، فيه من الآنية لأهل الجنة، مثل عدد نجوم السماء".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: نهر أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الجنة.
حدثنا أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا مسعدة، عن عبد الوهاب، عن مجاهد، قال: "الكَوْثر: نهر في الجنة، ترابه مسك أذفر، وماؤه الخمر".
حدثنا ابن أبي سريج، قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: نهر في الجنة.
حدثنا الربيع، قال: أخبرنا ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن شريك بن أبي نمر، قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا، قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، مضى به جبريل في السماء الدنيا، فإذا هو بنهر، عليه قصر من لؤلؤ(24/646)
وزبرجد، فذهب يَشَمّ ترابه، فإذا هو مسك، فقال: "يا جبريل ما هذا النهر؟ " قال: هو الكوثر الذي خبأ لك ربُّك.
وقال آخرون: عُنِي بالكوثر: الخير الكثير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثني هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: فقلت لسعيد بن جبير: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، قال: فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن عطاء بن السائب، قال: قال محارب بن دثار: ما قال سعيد بن جُبير في الكوثر؟ قال: قلت: قال: قال ابن عباس: هو الخير الكثير، فقال: صدق والله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: الكوثر: الخير الكثير.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: سألت سعيد بن جبير، عن الكوثر، فقال: هو الخير الكثير الذي آتاه الله، فقلت لسعيد: إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة، فقال: هو الخير الذي أعطاه الله إياه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: الخير الكثير.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن عمارة بن أبى حفصة، عن عكرمة، قال: هو النبوّة، والخير الذي أعطاه الله إياه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرمي بن عمارة، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن عكرمة في قول الله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: الخير الكثير، والقرآن والحكمة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة أنه قال: الكوثر: الخير الكثير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: الخير الكثير.(24/647)
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن هلال، قال: سألت سعيد بن جُبير (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: أكثر الله له من الخير، قلت: نهر في الجنة؟ قال: نهر وغيره.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الكوثر: الخير الكثير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الكوثر: الخير الكثير.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن مجاهد: الكوثر: قال: الخير كله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: خير الدنيا والآخرة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في الكوثر، قال: هو الخير الكثير.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، قال: الكوثر: الخير الكثير.
قال: ثنا وكيع، عن بدر بن عثمان، سمع عكرمة يقول في الكوثر: قال: ما أُعطي النبّي من الخير والنبوّة والقرآن.
حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازيّ، قال: ثنا أبو داود، عن بدر، عن عكرمة، قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: الخير الذي أعطاه الله النبوّة والإسلام.
وقال آخرون: هو حوض أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن مطر، عن عطاء (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: حوض في الجنة أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مطر، قال: سألت عطاء ونحن نطوف بالبيت عن قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال: حوض أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(24/648)
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي، قول من قال: هو اسم النهر الذي أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وصفه الله بالكثرة، لعِظَم قدره.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك، لتتابع الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك.
* ذكر الأخبار الواردة بذلك:
حدثنا أحمد بن المقدام العجلي، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي يحدّث عن قتادة، عن أنس قال: لما عُرج بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، أو كما قال، عرض له نهر حافتاه الياقوت المجوف، أو قال: المجوب، فضرب الملك الذي معه بيده فيه، فاستخرج مسكا، فقال محمد للملك الذي معه: "ما هَذَا؟ " قال: هذا الكوثر الذي أعطاك الله; قال: ورفعت له سدرة المنتهى، فأبصر عندها أثرا عظيما" أو كما قال.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "بَيْنَما أنا أسِيرُ في الجَنَّةِ، إذْ عَرَض ليَ نَهْرٌ، حافَتاهُ قِبابُ اللُّؤْلُؤِ المُجَوَّفِ، فقالَ المَلَكُ الَّذِي مَعَهُ: أتَدْرِي ما هَذَا؟ هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي أعْطاكَ اللهُ إيَّاهُ، وَضَرَبَ بِيَدِهِ إلى أرْضِه، فأخْرَجَ مِنْ طِينِه المِسْكَ".
حدثني ابن عوف، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شيبان، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمَّا عُرِجَ بِي إلى السَّماء، أَتَيْتُ على نَهْرٍ حافَتاهُ قِبابُ اللُّؤْلُؤِ المُجَوَّف، قُلتُ: ما هَذَا يا جِبْرِيلُ؟ قال: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي أعْطَاكَ رَبُّكَ، فأهْوَى المَلكُ بِيَدِهِ، فاسْتَخْرَجَ طِينَه مِسْكًا أذفَرَ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَخَلْتُ الجَنَّة، فإذَا أنا بِنَهْرٍ حافَتاهُ خِيامُ اللُّؤْلُؤِ، فَضَرَبْتُ بِيَدِي إلى ما يَجْرِي فِيهِ، فإذَا مِسْكٌ أذْفَرُ; قال: قُلْتُ: ما هَذَا يا جِبْرِيلُ؟ قال: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي أعْطاكَهُ اللهُ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث يزيد، عن سعيد.
حدثنا بشر، قال: ثنا أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا أبو أيوب العباس، قال: ثنا إبراهيم بن مسعدة، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن مسلم ابن أخي ابن شهاب،(24/649)
عن أبيه، عن أنس، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر، فقال: "هُوَ نَهْرٌ أعْطانِيهِ اللهُ في الجَنَّةِ، تُرَابُهُ مِسْكٌ أبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وأحْلَى مِنَ العَسَلِ، تَرِدُهُ طَيْرٌ أعنَاقُهَا مِثْلُ أعناقِ الجُزُرِ"، قال أبو بكر: يا رسول الله، إنها لناعمة؟ قال: "آكِلُها أنْعَمُ مِنْها".
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي وقاص الليثي، عن كثير، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَخَلْتُ الجَنَّةَ حِينَ عُرِجَ بِيَ، فَأُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ، فإذَا هُوَ نَهْرٌ فِي الجَنَّةِ، عُضَادَتاهُ بُيُوتٌ مُجَوَّفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن مسلم بن شهاب، عن أنس: أن رجلا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال: "نَهْرٌ أعْطانِيهِ اللهُ فِي الجَنَّةِ، لَهُوَ أشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وأحْلَى مِنَ العَسَلِ، فِيهِ طُيُورٌ أعْناقُهَا كأعْناقِ الجُزُرِ". قال عمر: يا رسول الله إنها لناعمة، قال: "آكِلُها أنْعَمُ مِنْها".
حدثنا يونس، قال: ثنا يحيى بن عبد الله، قال: ثني الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الوهاب عن عبد الله بن مسلم بن شهاب، عن أنس، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.
حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن الزهري، أن أخاه عبد الله، أخبره أن أنس بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما الكوثر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نَهْرٌ أعْطانِيهِ اللهُ فِي الجَنَّةِ، مَاؤهُ أبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وأحْلَى مِنَ العَسَلِ، فِيهِ طُيُورٌ أعْناقُهَا كأعْناقِ الجُزُرِ"، فقال عمر: إنها لناعمة يا رسول الله، فقال: "آكِلُها أنْعَمُ مِنْهَا".
فقال: عمر بن عثمان: قال ابن أبي أُوَيس; وحدثني أبي، عن ابن أخي الزهريّ، عن أبيه، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكوثر، مثله.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا عطاء، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الجَنَّةِ، حَافَتاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمجْرَاهُ عَلى الْياقُوتِ والدُّرِّ، تُرْبَتُهُ أطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، ماؤُهُ أحْلَى(24/650)
مِنَ العَسَلِ، وأشَدُّ بَياضًا مِنَ الثَّلْجِ".
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، قال: قال لي محارب بن دثار: ما قال سعيد بن جُبير في الكوثر؟ قلت: حدثنا عن ابن عباس، أنه قال: هو الخير الكثير، فقال: صدق والله، إنه للخير الكثير، ولكن حدثنا ابن عمر، قال: لما نزلت: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الجَنَّةِ، حافَتاهُ مِنْ ذَهَبٍ، يَجْرِي على الدُّرِّ واليَاقُوتِ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الجَنَّةِ"، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ نَهَرًا حَافَتاهُ اللُّؤْلُؤ، فَقُلْتُ: يا جِبْرِيلُ ما هَذَا؟ قالَ: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي أعْطَاكَهُ اللهُ".
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، قال: أخبرنا حزام بن عثمان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أُسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى حمزة بن عبد المطلب يوما، فلم يجده، فسأل امرأته عنه، وكانت من بني النجار، فقالت: خرج، بأبي أنت آنفا عامدا نحوك، فأظنه أخطأك في بعض أزقة بني النجار، أو لا تدخل يا رسول الله؟ فدخل، فقدمت إليه حيسا، فأكل منه، فقالت: يا رسول الله، هنيئا لك ومريئا، لقد جئت وإني لأريد أن آتيك فأهنيك وأمريك (1) أخبرني أبو عمارة أنك أُعطيت نهرا في الجنة يُدعى الكوثر، فقال: "أَجَلْ، وَعَرْضُهُ - يعني أرضه - يَاقُوتٌ وَمَرْجَانٌ وزَبَرْجَدٌ ولُؤْلُؤٌ".
وقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)
اختلف أهل التأويل في الصلاة التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصليها بهذا الخطاب، ومعنى قوله: (وَانْحَرْ) فقال بعضهم: حضه على المواظبة على الصلاة المكتوبة، وعلى الحفظ عليها في أوقاتها بقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي، قال: ثنا محمد بن ربيعة، قال: ثني يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد، عن عاصم الجحدري، عن عقبة بن ظهير،
__________
(1) الأثر 189 - ربيع: هو ابن أنس البكري. وسبق شرح هذا الإسناد إليه: 164. والأثر نقله ابن كثير 1: 53، والسيوطي 1: 16.(24/651)
عن علي رضى الله عنه في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم الجحدري، عن عقبة بن ظبيان عن أبيه، عن علي رضى الله عنه (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: وضع اليد على اليد في الصلاة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن حماد بن سلمة، عن عاصم الجحدري، عن عقبة بن ظهير، عن أبيه، عن علي رضى الله عنه (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى، ثم وضعهما على صدره.
قال: ثنا مهران، عن حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، عن الشعبي مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن يزيد بن أبي زياد، عن عاصم الجحدري، عن عقبة بن ظهير، عن علي رضى الله عنه: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، يقال: ثنا عوف، عن أبي القُموص، في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: وضع اليد على اليد في الصلاة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو صالح الخراساني، قال: ثنا حماد، عن عاصم الجحدري، عن أبيه، عن عقبة بن ظبيان، أن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال في قول الله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: وضع يده اليمنى على وسط ساعده الأيسر، ثم وضعهما على صدره.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بقوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) : الصلاة المكتوبة، وبقوله (وَانْحَرْ) أن يرفع يديه إلى النحر عند افتتاح الصلاة والدخول فيها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) الصلاة، وانحر: برفع يديه أول ما يكبر في الافتتاح.
وقال آخرون: عني بقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) المكتوبة، وبقوله (وَانْحَرْ) : نحر البُدن.(24/652)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم وهارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: الصلاة المكتوبة، ونحر البُدن.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير وحجاج أنهما قالا في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: صلاة الغداة بجمع، ونحر البُدن بمنًى.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن قطر، عن عطاء: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: صلاة الفجر، وانحر البدن. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: الصلاة المكتوبة، والنحر: النسك والذبح يوم الأضحى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: صلاة الفجر.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك: صل يوم النحر صلاة العيد، وانحر نسكك.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن جابر، عن أنس بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر قبل أن يصلي، فأمر أن يصلي ثم ينحر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عكرِمة: فصلّ الصلاة، وانحر النُّسُك.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن ثابت بن أبي صفية، عن أبي جعفر (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) قال: الصلاة; وقال عكرِمة: الصلاة ونحر النُّسُك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: إذا صليت يوم الأضحى فانحر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا قطر، قال: سألت عطاء، عن قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: تصلي وتنحر.(24/653)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عوف، عن الحسن (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: اذبح
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبان بن خالد، قال: سمعت الحسن يقول (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: الذبح.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: نحر البُدن، والصلاة يوم النحر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: صلاة الأضحى، والنحر: نحر البُدن.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: مناحر البُدن بِمِنًى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل، عن عكرمة (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: نحر النسك.
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) يقول: اذبح يوم النحر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: نحر البُدن.
وقال آخرون: قيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن قوما كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغيره فقيل له. اجعل صلاتك ونحرك لله، إذ كان من يكفر بالله يجعله لغيره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، أنه كان يقول في هذه الآية: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) يقول: إن ناسا كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، فإذا أعطيناك الكوثر يا محمد، فلا تكن صلاتك ونحرك إلا لي.
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية يوم الحديبية، حين حصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصُدّوا عن البيت، فأمره الله أن يصلي، وينحر البُدن، وينصرف، ففعل.(24/654)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، قال: ثني أبو معاوية البجلي، عن سعيد بن جُبير أنه قال: كانت هذه الآية، يعني قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) يوم الحديبية، أتاه جبريل عليه السلام فقال: انحر وارجع، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب خطبة الفطر والنحر (1) ثم ركع ركعتين، ثم انصرف إلى البُدن فنحرها، فذلك حين يقول: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فصل وادع ربك وسله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال: صلّ لربك وسل.
وكان بعض أهل العربية يتأوّل قوله: (وَانْحَرْ) واستقبل القبلة بنحرك. وذُكر أنه سمع بعض العرب يقول: منازلهم تتناحر: أي هذا بنحر هذا: أي قبالته. وذكر أن بعض بني أسد أنشده:
أبا حَكَمٍ هَلْ أنْتَ عَمُّ مُجَالِدٍ ... وَسَيِّدُ أهْلِ الأبْطَحِ المُتَنَاحِرِ (2)
أي ينحر بعضه بعضا.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: معنى ذلك: فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له،
__________
(1) الخبر 190 - هذا كالخبر 183 منقطع بين ابن جريج وابن عباس. وقد نقله ابن كثير 1: 53، والسيوطي 1: 16، ولكن وقع فيه "ابن حميد" بدل "ابن جرير".
(2) الأثر 191 - وهذا نقله ابن كثير أيضًا 1: 53.(24/655)
وخصك به، من إعطائه إياك الكوثر.
وإنما قلت: ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بما أكرمه به من عطيته وكرامته، وإنعامه عليه بالكوثر، ثم أتبع ذلك قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، فكان معلوما بذلك أنه خصه بالصلاة له، والنحر على الشكر له، على ما أعلمه من النعمة التي أنعمها عليه، بإعطائه إياه الكوثر، فلم يكن لخصوص بعض الصلاة بذلك دون بعض، وبعض النحر دون بعض وجه، إذ كان حثا على الشكر على النِّعَم.
فتأويل الكلام إذن: إنا أعطيناك يا محمد الكوثر، إنعاما منا عليك به، وتكرمة منا لك، فأخلص لربك العبادة، وأفرد له صلاتك ونسكك، خلافا لما يفعله من كفر به، وعبد غيره، ونحر للأوثان.
وقوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ)
يعني بقوله جل ثناؤه: (إِنَّ شَانِئَكَ) إن مبغضك يا محمد وعدوك (هُوَ الأبْتَرُ) يعني بالأبتر: الأقلّ والأذلّ المنقطع دابره، الذي لا عقب له.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك، فقال بعضهم: عني به العاص بن وائل السهميّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) يقول: عدوّك.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) قال: هو العاص بن وائل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن هلال بن خباب، قال: سمعت سعيد بن جُبير يقول: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) قال: هو العاص بن وائل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن هلال، قال: سألت سعيد بن جُبير، عن قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) قال: عدوّك العاص بن وائل انبتر من قومه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني(24/656)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) قال: العاص بن وائل، قال: أنا شانئٌ محمدا، ومن شنأه الناس فهو الأبتر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) قال: هو العاص بن وائل، قال: أنا شانئٌ محمدا، وهو أبتر، ليس له عقب، قال الله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) قال قتادة: الأبتر: الحقير الدقيق الذليل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) هذا العاص بن وائل، بلغنا أنه قال: أنا شانئُ محمد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) قال: الرجل يقول: إنما محمد أبتر، ليس له كما ترون عقب، قال الله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) .
وقال آخرون: بل عني بذلك: عقبة بن أبي معيط.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمِّي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، قال: كان عقبة بن أبي معيط يقول: إنه لا يبقى للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولد، وهو أبتر، فأنزل الله فيه هؤلاء الآيات: (إِنَّ شَانِئَكَ) عقبة بن أبي معيط (هُوَ الأبْتَرُ) .
وقال آخرون: بل عني بذلك جماعة من قريش.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عكرمة، في هذه الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا) قال: نزلت في كعب بن الأشرف، أتى مكة فقال لها أهلها: نحن خير أم هذا الصنبور (1) المنبتر من قومه،
__________
(1) الأثر 192 - مضى هذا الإسناد: 185. وأما نص الأثر، فهو عند ابن كثير 1: 53. وقال بعد هذه الروايات: "والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل". يعني الخبر 188.(24/657)
ونحن أهل الحجيج، وعندنا منحر البدن، قال: أنتم خير. فأنزل الله فيه هذه الآية، وأنزل في الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن بدر بن عثمان، عن عكرمة (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) . قال: لما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت قريش: بَتِرَ محمد منا، فنزلت: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) قال: الذي رماك بالبتر هو الأبتر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبى عديّ، قال: أنبأنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما قَدِم كعب بن الأشرف مكة أتَوْه، فقالوا له: نحن أهل السقاية والسدانة، وأنت سيد أهل المدينة، فنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا؟ قال: بل أنتم خير منه، فنزلت عليه: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) قال: وأنزلت عليه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) ... إلى قوله (نَصِيرًا) .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن مُبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقلّ الأذلّ، المنقطع عقبه، فذلك صفة كل من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخص بعينه.
آخر تفسير سورة الكوثر(24/658)
تفسير سورة الكافرون(24/659)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون من قومه فيما ذكر عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة، على أن يعبد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم سنة، فأنزل الله معرفه جوابهم في ذلك: (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة، على أن يعبدوا إلهك سنة (يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) بالله (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) من الآلهة والأوثان الآن (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) الآن
(وَلا أَنَا عَابِدٌ) فيما أستقبل
(مَا عَبَدْتُمْ) فيما مضى (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ) فيما تستقبلون أبدا (مَا أَعْبُدُ) أنا الآن، وفيما أستقبل. وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه، وحدّثوا به أنفسهم، وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم، في وقت من الأوقات، وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدا، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا، إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت به الآثار.(24/661)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن موسى الحَرشي، قال: ثنا أبو خلف، قال: ثنا داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس: أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزّوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكفّ عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل، فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: "ما هي؟ " قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزي، ونعبد إلهك سنة، قال: "حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي"، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) السورة، وأنزل الله: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) ... إلى قوله: (فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) .
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني سعيد بن مينا مولى البَختري (1) قال: لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأميَّة بن خلف، رسول الله، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبدْ ما نعبد، ونُشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شَرِكناك فيه، وأخذنا بحظنا منه; وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك، كنت قد شَرِكتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) حتى انقضت السورة.
وقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)
يقول تعالى ذكره: لكم دينكم فلا تتركونه أبدا، لأنه قد ختم عليكم، وقضي أن لا تنفكوا عنه، وأنكم تموتون عليه، ولي دين الذي أنا عليه، لا أتركه أبدا، لأنه قد مضى في سابق علم الله أني لا أنتقل عنه إلى غيره.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) قال: للمشركين; قال: واليهود لا يعبدون إلا الله ولا يشركون، إلا أنهم يكفرون ببعض الأنبياء، وبما جاءوا به من عند الله، ويكفرون برسول الله، وبما جاء به من عند الله، وقتلوا طوائف الأنبياء ظلما وعدوانا، قال:
__________
(1) ديوانه: 58، سيبويه 1: 375، مجاز القرآن: 101 الخزانة 2: 314، وهذا الشعر يقوله النابغة لعيينة بن حصن الفزاري. بنو أقيش: هم بنو أقيش بن عبيد. وقيل: فخذ من أشجع. وقيل: حي من اليمن في إبلهم نفار شديد. وقيل: هم حي من الجن يزعمون. وقعقع حرك شيئا يابسا فتسمع له صوت. والشن: القربة البالية. يصف عيينة بالجبن والخور وشدة الفزع، كأنه جمل شديد النفار، إذا سمع صوت شن يقعقع به(24/662)
إلا العصابة التي بقوا، حتى خرج بختنصر، فقالوا: عُزَير ابن الله، دعا الله ولم يعبدوه ولم يفعلوا كما فعلت النصارى، قالوا: المسيح ابن الله وعبدوه.
وكان بعض أهل العربية يقول: كرّر قوله: (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) وما بعده على وجه التوكيد، كما قال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) ، وكقوله: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) .
آخر تفسير سورة الكافرون(24/663)
تفسير سورة النصر(24/665)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إذا جاءك نصر الله يا محمد على قومك من قريش، والفتح: فتح مكة (وَرَأَيْتَ النَّاسَ) من صنوف العرب وقبائلها أهل اليمن منهم، وقبائل نزار (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) يقول: في دين الله الذي ابتعثك به، وطاعتك التي دعاهم إليها أفواجًا، يعني: زُمَرًا، فوجًا فوجًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ما قلنا في قوله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) :
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) : فتح مكة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) النصر حين فتح الله عليه ونصره.
حدثني إسماعيل بن موسى، قال: أخبرنا الحسين بن عيسى الحنفي، عن معمر، عن الزهري، عن أبي حازم، عن ابن عباس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، إذ قال: "اللهُ أكْبَرُ، اللهُ أكْبَرُ، جاءَ نَصْرُ الله والفَتْحُ، جاءَ أهْلُ اليَمَنِ"، قيل: يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ قال: "قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنةٌ طِبَاعُهُمْ، الإيمَانُ يَمَانٍ، والفِقْهُ يَمَانٍ، والحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن(24/667)
مسروق، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه; قالت: فقلت: يا رسول الله أراك تُكثر قول: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقال: "خَبَّرَنِي رَبِّي أنّي سأرَى عَلامَةً فِي أمَّتِي، فإذَا رَأَيْتُهَا أكْثَرْتُ مِنْ قَوْل سُبْحَانَ الله وبحَمْدِهِ، وأسْتَغْفِرُهُ وأتُوبُ إلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُها (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فتح مكة (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر، عن عائشة، قالت: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يكثر قبل موته من قول سبحان الله وبحمده ثم ذكر نحوه.
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد، عن داود، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عكرمة قال: لما نزلت: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "جَاءَ نَصْرُ الله والفَتْحُ، وَجَاءَ أهْلُ اليَمَنِ"، قالوا: يا نبيّ الله، وما أهل اليمن؟ قال: "رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ طِبَاعُهُمْ، الإيمَانُ يَمَانٍ، والْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ". وأما قوله; (أَفْوَاجًا) فقد تقدّم ذكره في معنى أقوال أهل التأويل.
وقد حدثني الحارث، قال: ثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) قال: زُمرًا زُمرًا.
وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)
يقول: فسبح ربك وعظمه بحمده وشكره، على ما أنجز لك من وعده. فإنك حينئذ لاحق به، وذائق ما ذاق مَنْ قبلك من رُسله من الموت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سألهم عن قول الله تعالى:(24/668)
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قالوا: فتح المدائن والقصور، قال: فأنت يا بن عباس ما تقول: قلت: مَثَلٌ ضُرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُدنيه، فقال له عبد الرحمن: إن لنا أبناءً مثلَهُ، فقال عمر: إنه من حيث تعلم، قال: فسأله عمر عن قول الله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) السورة، فقال ابن عباس: أجله، أعلمه الله إياه، فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس، قال: قال عمر رضي الله عنه: ما هي؟ يعني (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قال ابن عباس، (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ) حتى بلغ: (وَاسْتَغْفِرْهُ) إنك ميت (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) فقال عمر: ما نعلم منها إلا ما قلت.
قال: ثنا مهران، عن سفيان عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس قال: لما نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) علم النبيّ أنه نعيت إليه نفسه، فقيل له: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ... ) إلى آخر السورة.
حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع، قالا ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نُعِيَتْ إليَّ نَفْسِي، كأنّي مَقْبُوضٌ فِي تِلكَ السَّنَةِ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قال: ذاك حين نَعَى لَه نفسه يقول: إذا (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) يعني إسلام الناس، يقول: فذاك حين حضر أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) .
حدثني أبو السائب وسعيد بن يحيى الأموي، قالا ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول قبل أن يموت: "سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك "; قالت: فقلت: يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك قد أحدثتها تقولها؟ قال: "قد جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخر السورة".(24/669)
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: قالت عائشة: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أنزلت عليه هذه السورة (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) لا يقول قبلها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهمّ اغفر لي".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: " سبحانك اللهم وبحمدك، اللهمّ اغفر لي"، يتأول القرآن.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن داود، عن الشعبي، قال داود: لا أعلمه إلا عن مسروق، وربما قال عن مسروق، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه"، فقلت: إنك تُكثر من هذا، فقال: "إنَّ رَبي قَدْ أخْبَرَنِي أنِّي سأرَى عَلامةً في أُمَّتِي، وأَمَرَنِي إذَا رأَيْتُ تِلكَ الْعَلامَةَ أنْ أُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، وأسْتَغْفِرَهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابا، فَقَدْ رأَيْتُها (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ".
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا حفص، قال: ثنا عاصم، عن الشعبي، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده"، فقلت: يا رسول الله، إنك تكثر من سبحان الله وبحمده، لا تذهب ولا تجيء، ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت: سبحان الله وبحمده، قال: "إني أمرت بها"، فقال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخر السورة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت سورة (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) كلها بالمدينة بعد فتح مكة، ودخولها الناس في الدين، ينعي إليه نفسه.
قال: ثنا جرير، عن مُغيرة، عن زياد بن الحصين، عن أبي العالية، قال: لما نزلت: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ونعيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه،(24/670)
كان لا يقوم من مجلس يجلس فيه حتى يقول: "سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، قال: لما نزلت: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، رب اغفر لي وتب عليّ، إنك أنت التوّاب الرحيم".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قرأها كلها. قال ابن عباس: هذه السورة عَلَمٌ وحَدٌّ حدّه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ونعى له نفسه. إي إنك لن تعيش بعدها إلا قليلا. قال قتادة: والله ما عاش، بعد ذلك إلا قليلا سنتين، ثم توفي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي معاذ عيسى بن أبي يزيد، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، قال: لما نزلت: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) كان يكثر أن يقول: "سبحانك اللهمّ وبحمدك، اللهمّ اغفر لي، سبحانك ربنا وبحمدك، اللهمّ اغفر لي، إنك أنت التواب الغفور".
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قول الله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) : كانت هذه السورة آية لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) قال: اعلم أنك ستموت عند ذلك.
وقوله: (وَاسْتَغْفِرْهُ)
يقول: وسله أن يغفر ذنوبك.
يقول: إنه كان ذا رجوع لعبده، المطيع إلى ما يحب. والهاء من قوله "إنه" من ذكر الله عز وجلّ.
آخر تفسير سورة النصر(24/671)
تفسير سورة تبت(24/673)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) } .
يقول تعالى ذكره: خسرت يدا أبي لهب، وخسر هو. وإنما عُنِي بقوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) تبّ عمله. وكان بعض أهل العربية يقول: قوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) : دعاء عليه من الله.
وأما قوله: (وَتَبَّ) فإنه خبر. ويُذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: "تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ". وفي دخول "قد" فيه دلالة على أنه خبر، ويمثِّل ذلك بقول القائل، لآخر: أهلكك الله، وقد أهلكك، وجعلك صالحا وقد جعلك.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) : أي خسرت وتب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) قال: التبّ: الخسران، قال: قال أبو لهب للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ماذا أُعطَى يا محمد إن آمنت بك؟ قال؟ "كمَا يُعْطَى المُسْلِمُون"، فقال: مالي عليهم فضل؟ قال: "وأيّ شَيْءٍ تَبْتَغِي؟ " قال: تبا لهذا من دين تبا، أن أكون أنا وهؤلاء سواء، فأنزل الله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) يقول: بما عملت أيديهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (تَبَّتْ يَدَا(24/675)
أَبِي لَهَبٍ) قال: خسرت يدا أبي لهب وخسر.
وقيل: إن هذه السورة نزلت في أبي لهب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خص بالدعوة عشيرته، إذ نزل عليه: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) وجمعهم للدعاء، قال له أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا دعوتنا؟
* ذكر الأخبار الواردة بذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا، فقال: "يا صَباحاهُ! " فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ قال: "أرأيْتُكُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أوْ مُمَسِّيكُمْ، أما كُنْتُمْ تُصَدقُونَنِي؟ " قالوا: بلى، قال: "فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"، فقال أبو لهب: تبا لك، ألهذا دعوتنا وجمعتنا؟! فأنزل الله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) إلى آخرها.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصَّفا ثم نادَى: "يا صَبحاهُ" فاجتمع الناس إليه، فبين رجل يجيء، وبين آخر يبعث رسوله، فقال: "يا بَنِي هاشِمٍ، يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي ... يا بَنِي أرَأَيْتُكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ" -يريد تغير عليكم- صَدَّقْتُمُونِي؟ " قالوا: نعم، قال: "فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا دعوتنا؟ فنزلت: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى صعد الصفا، فهتف: "يا صَباحاهُ". فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ فقالوا: محمد، فاجتمعوا إليه، فقال: "يا بَنِي فُلانٍ، يا بَنِي فُلانٍ، يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يا بَنِي(24/676)
عَبْدِ مَنَافٍ"، فاجتمعوا إليه، فقال: "أرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال "فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"، فقال أبو لهب: تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة: "تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ" كذا قرا الأعمش إلى آخر السورة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، في قوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) قال: حين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه وإلى غيره، وكان أبو لهب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه عبد العزى، فذكرهم، فقال أبو لهب: تبا لك، في هذا أرسلت إلينا؟ فأنزل الله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) .
وقوله: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)
يقول تعالى ذكره: أيّ شيء أغنى عنه ماله، ودفع من سخط الله عليه (وَمَا كَسَبَ) وهم ولده. وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا الحسن بن داود بن محمد بن المنكدر، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خيثم، عن أبي الطفيل، قال: جاء بنو أبي لهب إلى ابن عباس، فقاموا يختصمون في البيت، فقام ابن عباس، فحجز بينهم، وقد كُفّ بصره، فدفعه بعضهم حتى وقع على الفراش، فغضب وقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن محمد بن سفيان، عن رجل من بني مخزوم، عن ابن عباس أنه رأى يوما ولد أبي لهب يقتتلون، فجعل يحجز بينهم ويقول: هؤلاء مما كسب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) قال: ما كسب ولده.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَمَا كَسَبَ) قال: ولده هم من كسبه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (وَمَا كَسَبَ) قال: ولده.(24/677)
وقوله: (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ)
يقول: سيصلى أبو لهب نارا ذات لهب.
وقوله: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)
يقول: سيصلى أبو لهب وامرأته حمالة الحطب، نارا ذات لهب. واختلفت القرّاء في قراءة (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة: "حَمَّالَةُ الحَطَبِ" بالرفع، غير عبد الله بن أبي إسحاق، فإنه قرأ ذلك نصبا فيما ذكر لنا عنه.
واختلف فيه عن عاصم، فحكي عنه الرفع فيها والنصب، وكأن من رفع ذلك جعله من نعت المرأة، وجعل الرفع للمرأة ما تقدم من الخبر، وهو "سَيَصْلَى"، وقد يجوز أن يكون رافعها الصفة، وذلك قوله: (فِي جِيدِهَا) وتكون "حَمَّالَة" نعتا للمرأة. وأما النصب فيه فعلى الذم، وقد يحتمل أن يكون نصبها على القطع من المرأة، لأن المرأة معرفة، وحمالة الحطب نكرة (1) .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا: الرفع، لأنه أفصح الكلامين فيه، ولإجماع الحجة من القرّاء عليه.
واختلف أهل التأويل، في معنى قوله: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) فقال بعضهم: كانت تجيء بالشوك فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدخل في قدمه إذا خرج إلى الصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قال: كانت تحمل الشوك، فتطرحه على طريق النبي صلى الله عليه وسلم، ليعقره وأصحابه، ويقال: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) : نقالة للحديث.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رجل من همدان يقال له يزيد بن زيد، أن امرأة أبي لهب كانت تلقي في طريق النبيّ صلى الله عليه وسلم الشوك، فنزلت: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ... وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) .
حدثني أبو هريرة الضبعي، محمد بن فراس، قال: ثنا أبو عامر، عن قرة بن
__________
(1) ديوانه: 131 والنقائض: 773، ويأتي في تفسير آية سورة الشعراء: 4 (19: 38 بولاق) ، وهو هناك "على الكتاب"، وهو خطأ. يهجو جريرا وقومه بني كليب بن يربوع. الأرباق: جمع ربق، والربق جمع ربقة: وهو الحبل تشد به الغنم الصغار لئلا ترضع. وتقالد السيف: وضع نجاده على منكبه. والكماة، جمع كمى: وهو البطل الشديد البأس. يصف بني كليب بأنهم رعاء أخساء بخلاء، لا هم لهم إلا رعية الغنم، والأبطال في الحرب يصلون حرها الأيام الطوال حتى يصدأ حديد الدروع على أبدانهم من العرق.(24/678)
خالد، عن عطية الجدلِّي. في قوله: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قال: كانت تضع العضاه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنما يطأ به كثيبا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) كانت تحمل الشوك، فتلقيه على طريق نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعقِره.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قال: كانت تأتي بأغصان الشوك، فتطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: قيل لها ذلك: حمالة الحطب، لأنها كانت تحطب الكلام، وتمشي بالنميمة، وتعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: قال أبو المعتمر: زعم محمد أن عكرمة قال (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) : كانت تمشي بالنميمة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قال: كانت تمشي بالنميمة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا الأشجعي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قال: النميمة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) : أي كانت تنقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قال: كانت تحطب الكلام، وتمشي بالنميمة.
وقال بعضهم: كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وكانت تحطب فعُيِّرتْ بأنها كانت تحطب.(24/679)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قال: كانت تمشي بالنميمة.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قول من قال: كانت تحمل الشوك، فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك هو أظهر معنى ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن عيسى بن يزيد، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زيد، وكان ألزم شيءٍ لمسروق، قال: لما نزلت: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) بلغ امرأة أبي لهب أن النبي صلى الله عليه وسلم يهجوك، قالت: علام يهجوني؟ هل رأيتموني كما قال محمد أحمل حطبا؟ " (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) "؟ فمكثت، ثم أتته، فقالت: إن ربك قلاك وودعك'، فأنزل الله: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
وقوله (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)
يقول في عنقها; والعرب تسمي العنق جيدا ; ومنه قول ذي الرمة:
فعَيْنَاكِ عَيْناها وَلَوْنُكِ لَوْنُها ... وجِيدُكِ إلا أنَّهَا غَيْرُ عَاطِلِ (1)
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ) قال: في رقبتها.
وقوله: (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: هي حبال تكون بمكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: حبل من شجر، وهو الحبل الذي كانت تحتطب به.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه،
__________
(1) في المطبوعة "والقراء مجمعة"، والقَرَأَة: جمع قارئ. انظر ما مضى: 51 في التعليق، و 64 تعليق: 4 و: 109 تعليق: 1.(24/680)
عن ابن عباس (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: هي حبال تكون بمكة; ويقال: المَسَد: العصا التي تكون في البكرة، ويقال المَسَد: قلادة من وَدَع.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: في قوله: (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: حبال من شجر تنبت في اليمن لها مسد، وكانت تفتل; وقال (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) : حبل من نار في رقبتها.
وقال آخرون: المسد: الليف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن يزيد، عن عروة (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: سلسلة من حديد، ذرعها سبعون ذراعا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السدي، عن رجل يقال له يزيد، عن عروة بن الزبير (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: سلسلة ذرعها سبعون ذراعا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن يزيد، عن عروة بن الزبير (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: سلسلة ذرعها سبعون ذراعا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن الأعمش، عن مجاهد (مِنْ مَسَدٍ) قال: من حديد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: حبل في عنقها في النار مثل طوق طوله سبعون ذراعا.
وقال آخرون: المَسَد: الحديد الذي يكون في البَكرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: الحديدة تكون في البكرة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: عود البكرة من حديد.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: الحديدة للبكرة.(24/681)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: ثنا المعمر بن سليمان، قال: قال أبو المعتمر: زعم محمد أن عكرمة قال: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) إنه الحديدة التي في وسط البكرة.
وقال آخرون: هو قلادة من ودع في عنقها.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: قلادة من ودع.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال: قلادة من ودع.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو حبل جُمع من أنواع مختلفة، ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا، ومما يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك قول الراجز:
وَمَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أيانِقِ ... صُهْبٍ عِتاقٍ ذاتِ مُخ زَاهِق (1)
__________
(1) يعني بقوله: "المعرفة المؤقتة" المعرفة المحددة، وهو العلم الشخصي الذي يعين مسماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد. فقولك "زيد" يعين تعيينًا مطلقًا أو محددًا. والمعرف بالألف واللام إنما يعين مسماه ما دامت فيه "ال"، فإذا فارقته فارقه التعيين. وانظر معاني الفراء 1: 7.(24/682)
فجعل إمراره من شتى، وكذلك المسد الذي في جيد امرأة أبي لهب، أمِرَّ من أشياء شتى، من ليف وحديد ولحاء، وجعل في عنقها طوقا كالقلادة من ودع; ومنه قول الأعشى:
تُمْسِي فَيَصْرِفُ بَابَها مِنْ دُونِنَا ... غَلْقًا صَرِيفَ مَحَالَةَ الأمْسَادِ (1)
يعني بالأمساد: جمع مَسَد، وهي الجبال.
آخر تفسير سورة تبت
__________
(1) سياق العبارة: "سواء. . . أوصف القوم. . . أم لم يوصفوا"، وما بين هذين فصل طويل كدأب أبي جعفر في بيانه.(24/683)
تفسير سورة الإخلاص(24/685)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } .
ذُكر أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّ العزّة، فأنزل الله هذه السورة جوابا لهم. وقال بعضهم: بل نزلت من أجل أن اليهود سألوه، فقالوا له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فأُنزلت جوابا لهم.
ذكر من قال: أنزلت جوابا للمشركين الذين سألوه أن ينسب لهم الربّ تبارك وتعالى.
حدثنا أحمد بن منيع المَرْوَزِي ومحمود بن خداش الطالَقاني، قالا ثنا أبو سعيد الصنعاني، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: قال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: انسُب لنا ربك، فأنزل الله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، قال: إن المشركين قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن ربك، صف لنا ربك ما هو، ومن أي شيء هو؟ فأنزل الله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إلى آخر السورة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ) قال: قال ذلك قتادة الأحزاب: انسُب لنا ربك، فأتاه جبريل بهذه.
حدثني محمد بن عوف، قال: ثنا شريح، قال: ثنا إسماعيل بن مجالد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: قال المشركون: انسُب لنا ربك، فأنزل الله(24/687)
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .
* ذكر من قال: نزل ذلك من أجل مسألة اليهود:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن محمد، عن سعيد، قال: أتى رهط من اليهود النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى انتُقِع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه، فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه، وقال: اخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه. قال: " يقول الله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) " فلما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: صف لنا ربك كيف خلقه، وكيف عضده، وكيف ذراعه، فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ من غضبه الأول، وساورهم غضبا، فأتاه جبريل فقال له مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سألوه عنه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أنسب لنا ربك، فنزلت: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حتى ختم السورة.
فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا: قل يا محمد لهؤلاء السائليك عن نسب ربك وصفته، ومَن خَلقه: الربّ الذي سألتموني عنه، هو الله الذي له عبادة كل شيء، لا تنبغي العبادة إلا له، ولا تصلح لشيء سواه.
واختلف أهل العربية في الرافع (أَحَدٌ) فقال بعضهم: الرافع له " الله"، وهو عماد (1) بمنزلة الهاء في قوله: (إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . وقال آخر منهم: بل هو مرفوع، وإن كان نكرة بالاستئناف، كقوله: هذا بعلي شيخ، وقال: هو الله جواب لكلام قوم قالوا له: ما الذي تعبد؟ فقال: "هو الله"، ثم قيل له: فما هو؟ قال: هو أحد.
وقال آخرون (أَحَدٌ) بمعنى: واحد، وأنكر أن يكون العماد مستأنفا به، حتى يكون قبله حرف من حروف الشكّ، كظنّ وأخواتها، وكان وذواتها، أو إنّ وما
__________
(1) في المطبوعة: "لو كانت القراءة جائزة به "، بدلوه ليوافق عبارتهم، دون عبارة الطبري(24/688)
أشبهها، وهذا القول الثاني هو أشبه بمذاهب العربية.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار (أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ) بتنوين " أحدٌ "، سوى نصر بن عاصم، وعبد الله بن أبي إسحاق، فإنه رُوي عنهما ترك التنوين: " أحَدُ اللهُ "; وكأن من قرأ ذلك كذلك، قال: نون الإعراب إذا استقبلتها الألف واللام أو ساكن من الحروف حذفت أحيانا، كما قال الشاعر:
كَيْفَ نَوْمي على الفِرَاشِ وَلَمَّا ... تَشْمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ
تُذْهِلُ الشَّيْخَ عَنْ بَنِيهِ وَتُبْدِي ... عَنْ خِدَامِ العَقِيلَةِ العَذْراءُ (1)
يريد: عن خدام العقيلة.
والصواب في ذلك عندنا: التنوين، لمعنيين: أحدهما أفصح اللغتين، وأشهر الكلامين، وأجودهما عند العرب. والثاني: إجماع الحجة من قرّاء الأمصار على اختيار التنوين فيه، ففي ذلك مُكْتَفًى عن الاستشهاد على صحته بغيره. وقد بيَّنا معنى قوله " أحد " فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: (اللَّهُ الصَّمَدُ) يقول تعالى ذكره: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له الصمد.
واختلف أهل التأويل في معنى الصمد، فقال بعضهم: هو الذي ليس بأجوف، ولا يأكل ولا يشرب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن سلمة بن
__________
(1) ديوانه: 23، ويأتي في تفسير آية البقرة: 35 (1: 186 بولاق) ، وآية النساء: 114 (5: 178) ، وآية يونس: 98 (11: 117) وآية سورة الليل: 20 (30: 146) . يقال: لقيته أصيلالا وأصيلانًا، إذا لقيته بالعشي. وذلك أن الأصيل هو العشي، وجمعه أُصُل (بضمتين) وأصلان (بضم فسكون) ، ثم صغروا الجمع فقالوا: أصيلان، ثم أبدلوا من النون لامًا. فعلوا ذلك اقتدارا على عربيتهم، ولكثرة استعمالهم له حتى قل من يجهل أصله ومعناه. وعى في منطقه: عجز عن الكلام.(24/689)
سابور، عن عطية، عن ابن عباس، قال: (الصمد) : الذي ليس بأجوف.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: (الصمد) : المُصْمَت الذي لا جوف له.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثلَه سواء.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: (الصمد) : المصمت الذي ليس له جوف.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ووكيع، قالا ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال (: الصَّمَد) : الذي لا جوف له.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع; وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران جميعا، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثلَه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا الربيع بن مسلم، عن الحسن، قال: (الصمد) : الذي لا جوف له.
قال: ثنا الربيع بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، قال: أرسلني مجاهد إلى سعيد بن جبير أساله عن (الصمد) ، فقال: الذي لا جوف له.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: (الصمد) الذي لا يطعم الطعام.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أنه قال: (الصمد) : الذي لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب.
حدثنا أبو كُرَيب وابن بشار، قالا ثنا وكيع، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك، قال: (الصمد) : الذي لا جوف له.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل، عن عامر، قال: (الصمد) : الذي لا يأكل الطعام.
حدثنا ابن بشار وزيد بن أخزم، قالا ثنا ابن داود، عن المستقيم بن عبد الملك، عن سعيد بن المسيب قال: (الصمد) : الذي لا حِشوة له.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت(24/690)
الضحاك يقول في قوله: (الصمدُ) : الذي لا جوف له.
حدثني العباس بن أبي طالب، قال: ثنا محمد بن عمر بن رومي، عن عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش، قال: ثني صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: لا أعلمه إلا قد رفعه، قال: (الصَّمَد) الذي لا جوف له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن الربيع بن مسلم، قال: سمعت الحسن يقول: (الصَّمَد) : الذي لا جوف له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عكرمة، قال: (الصمد) : الذي لا جوف له.
وقال آخرون: هو الذي لا يخرج منه شيء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سمعت عكرمة، قال في قوله: (الصمد) : الذي لم يخرج منه شيء، ولم يلد، ولم يولد.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء محمد بن يوسف، عن عكرمة قال: (الصمد) : الذي لا يخرج منه شيء.
وقال آخرون: هو الذي لم يَلِد ولم يُولَد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: (الصمد) : الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يلد إلا سيورث، ولا شيء يولد إلا سيموت، فأخبرهم تعالى ذكره أنه لا يورث ولا يموت.
حدثنا أحمد بن منيع ومحمود بن خداش قالا ثنا أبو سعيد الصنعاني، قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربك فأنزل الله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله جلّ ثناؤه لا يموت ولا يورث (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) : ولم يكن لَه شبيه ولا عِدل، وليس كمثله شيء.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب: الصمد: الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.(24/691)
وقال آخرون: قدانتهى سُؤدده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، قال: الصمد: هو السيد الذي قد انتهى سؤدده.
حدثنا أبو كُرَيب وابن بشار وابن عبد الأعلى، قالوا: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: (الصَّمَد) : السيد الذي قد انتهى سؤدده; ولم يقل أبو كُرَيب وابن عبد الأعلى سؤدده.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل مثله.
حدثنا علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: (الصَّمَدُ) يقول: السيد الذي قد كمُل في سُؤدَده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد عظم في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبَّار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته، لا تنبغي إلا له.
وقال آخرون: بل هو الباقي الذي لا يفنَى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) قال: كان الحسن وقتادة يقولان: الباقي بعد خلقه، قال: هذه سورة خالصة، ليس فيها ذكر شيء من أمر الدنيا والآخرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: (الصمد) : الدائم.
قال أبو جعفر: الصمد عند العرب: هو السيد الذي يُصمد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمى أشرافها; ومنه قول الشاعر:
ألا بَكَرَ النَّاعي بِخَيْرَيْ بَنِي أسَدْ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ (1)
__________
(1) أواري جمع آري (مشدد الياء) : وهو محبس الدابة ومأواها ومربطها، من قولهم: تأرى بالمكان أقام وتحبس. ولأيا: بعد جهد ومشقة وإبطاء. والنؤى: حفرة حول الخباء تعلى جوانبها بالتراب، فتحجز الماء لا يدخل الخباء، والمظلومة: يعني أرضًا مروا بها في برية فتحوضوا حوضًا سقوا فيه إبلهم، وليس بموضع تحويض لبعدها عن مواطئ السابلة. فلذلك سماها مظلومة، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. والجلد: الأرض الصلبة، يعني أنها لا تنبت شيئًا فلا يرعاها أحد.(24/692)
وقال الزبرقان:
وَلا رَهِينَةً إلا سَيِّدٌ صَمَدُ (1)
فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الكلمة، المعنى المعروف من كلام من نزل القرآن بلسانه; ولو كان حديث ابن بُريدة، عن أبيه صحيحا، كان أولى الأقوال بالصحة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما عنى الله جل ثناؤه، وبما أنزل عليه.
وقوله: (لَمْ يَلِدْ) يقول: ليس بفانٍ، لأنه لا شيء يلد إلا هو فانٍ بائد
(وَلَمْ يُولَدْ) يقول: وليس بمحدث لم يكن فكان، لأن كل مولود فإنما وجد بعد أن لم يكن، وحدث بعد أن كان غير موجود، ولكنه تعالى ذكره قديم لم يزل، ودائم لم يبد، ولا يزول ولا يفنى.
وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولم يكن له شبيه ولا مِثْل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) : لم يكن له شبيه، ولا عِدْل، وليس كمثله شيء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عمرو بن غيلان الثقفي، وكان أميرَ البصرة (2) عن كعب، قال: إن الله تعالى ذكره أسس السموات السبع، والأرضين السبع، على هذه السورة (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) وإن الله لم يكافئه أحد من خلقه.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس
__________
(1) في المطبوعة: "واستخطئوه"، واستخفوه: رأوه خفيفا لا وزن له.
(2) بدلوها في المطبوعة إلى "بمنه"؛ وثم وثمة (بفتح الثاء) : إشارة للبعيد بمنزلة "هنا" للقريب.(24/693)
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) قال: ليس كمثله شيء، فسبحان الله الواحد القهار.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن جريج (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا) : مثل.
وقال آخرون: معنى ذلك، أنه لم يكن له صاحبة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبجر، عن طلحة، عن مجاهد، قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) قال: صاحبة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن ابن أيجر، عن طلحة، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، عن عبد الملك، عن طلحة، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبجر، عن رجل عن مجاهد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) قال: صاحبة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبجر، عن طلحة بن مصرف، عن مجاهد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) قال: صاحبة.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن عبد الملك، عن طلحة، عن مجاهد مثله.
والكُفُؤُ والكُفَى والكِفَاء في كلام العرب واحد، وهو المِثْل والشِّبْه; ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
لا تَقْذِفَنِّي بِرُكْن لا كِفَاء لَهُ ... وَلَوْ تَأَثَّفَكَ الأعْدَاءُ بالرِّفَدِ (1)
يعني: لا كِفَاء له: لا مثل له.
__________
(1) المثلات جمع مثلة (بفتح فضم ففتح) : وهي العقوبة والتنكيل.(24/694)
واختلف القرّاء في قراءة قوله: (كُفُوا) . فقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة: (كُفُوا) بضم الكاف والفاء. وقرأه بعض قرّاء الكوفة بتسكين الفاء وهمزها " كُفْئًا ".
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان، ولغتان مشهورتان، فبأيَّتِهِما قرأ القارئ فمصيب.
آخر تفسير سورة الإخلاص(24/695)
تفسير سورة الفلق(24/697)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، أستجير بربّ الفلق من شرّ ما خلق من الخلق.
واختلف أهل التأويل في معنى (الفلق) فقال بعضهم: هو سجن في جهنم يسمى هذا الاسم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله، عمن حدثه عن ابن عباس قال: (الفلق) : سجن في جهنم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن رجل، عن ابن عباس، في قوله: (الفَلَقِ) : سجن في جهنم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام بن عبد الجبار الجولاني، قال: قَدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشأم، قال: فنظر إلى دور أهل الذمة، وما هم فيه من العيش والنضارة، وما وُسِّع عليهم في دنياهم، قال: فقال: لا أبا لك أليس من ورائهم الفلق؟ قال: قيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذ فُتح هَرّ أهْلُ النار.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت(24/699)
السديّ يقول: (الفَلَق) : جُب في جهنم.
حدثني عليّ بن حسن الأزدي، قال: ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن السديّ، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ، مثله.
حدثني إسحاق بن وهب الواسطيُّ، قال: ثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطيُّ، قال: ثنا نصر بن خُزَيمة الخراساني، عن شعيب بن صفوان، عن محمد بن كعب القُرَظِيِّ، عن أبي هُريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الفَلَق: جبّ في جهنم مغطًّى".
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا نافع بن يزيد، قال: ثنا يحيى بن أبي أسيد عن ابن عجلان، عن أبي عبيد، عن كعب، أنه دخل كنيسة فأعجبه حُسنها، فقال: أحسن عمل وأضلّ قوم، رضيت لكم الفلق، قيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذا فُتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه.
وقال آخرون: هو اسم من أسماء جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت خيثم بن عبد الله يقول: سألت أبا عبد الرحمن الحبلي، عن (الفلق) ، قال: هي جهنم.
وقال آخرون: الفلق: الصبح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) قال: (الفلق) : الصبح.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: أنبأنا عوف، عن الحسن، في هذه الآية (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) قال: (الفلق) : الصبح.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، قال: (الفلق) : الصبح.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران جميعا، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، مثله.(24/700)
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي، قال: ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جُبير، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن الحسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: (الفَلَق) : الصبح.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرنا أبو صخر، عن القُرَظِيّ أنه كان يقول في هذه الآية: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) يقول: فالق الحبّ والنوى، قال: فالق الإصباح.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) قال: الصبح.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) قال: (الفَلَق) : فَلق النهار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: (الفلق) : فلق الصبح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) قيل له: فلق الصبح؟ قال: نعم، وقرأ: (فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) .
وقال آخرون: (الفلَق) : الخلق، ومعنى الكلام: قل أعوذ بربّ الخلق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: لنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (الفلق) : يعني: الخلق.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول: (أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) والفلق في كلام العرب: فلق الصبح، تقول العرب: هو أبين من فَلَق الصُّبح، ومن فرق الصبح. وجائز أن يكون في جهنم سجن(24/701)
اسمه فَلَق. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن جلّ ثناؤه وضعَ دلالة على أنه عُنِي بقوله: (بِرَبِّ الْفَلَقِ) بعض ما يُدْعَى الفلق دون بعض، وكان الله تعالى ذكره ربّ كل ما خلق من شيء، وجب أن يكون معنيا به كل ما اسمه الفَلَق، إذ كان ربّ جميع ذلك.
وقال جلّ ثناؤه: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) لأنه أمر نبيه أن يستعيذ (من شرّ كل شيء) ، إذ كان كلّ ما سواه، فهو ما خَلَق.
وقوله: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) يقول: ومن شرّ مظلم إذا دخل، وهجم علينا بظلامه.
ثم اختلف أهل التأويل في المظلم الذي عُنِي في هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه، فقال بعضهم: هو الليل إذا أظلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) قال: الليل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: أنبأنا عوف، عن الحسن، في قوله: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) قال: أوّل الليل إذا أظلم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا أبو صخر، عن القرظي أنه كان يقول في: (غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) يقول: النهار إذا دخل في الليل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل من أهل المدينة، عن محمد بن كعب (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) قال: هو غروب الشمس إذا جاء الليل، إذا وقب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (غَاسِقٍ) قال: الليل (إِذَا وَقَبَ) قال: إذا دخل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) قال: الليل إذا أقبل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) قال: إذا جاء.(24/702)
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (إِذَا وَقَبَ) يقول: إذا أقبل. وقال بعضهم: هو النهار إذا دخل في الليل، وقد ذكرناه قبلُ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل من أهل المدينة، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) قال: هو غروب الشمس إذا جاء الليل، إذا وجب.
وقال آخرون: هو كوكب. وكان بعضهم يقول: ذلك الكوكب هو الثُّريا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا سليمان بن حِبان، عن أبي المُهَزِّم، عن أبي هريرة في قوله: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) قال: كوكب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) قال: كانت العرب تقول: الغاسق: سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها.
ولقائلي هذا القول عِلة من أثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهو ما حدثنا به نصر بن عليّ، قال: ثنا بكار بن عبد الله بن أخي همام، قال: ثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) قال: " النجم الغاسق ".
وقال آخرون: بل الغاسق إذا وقب: القمر، ورووا بذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبرا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع؛ وحدثنا ابن سفيان، قال: ثنا أبي ويزيد بن هارون، به.
وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم نظر إلى القمر، ثم قال: "يا عائِشَةُ تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَب، وَهَذَا غاسِقٌ إذَا وَقَبَ"، وهذا لفظ حديث أبي كُرَيب، وابن وكيع. وأما ابن حُمَيد، فإنه قال في حديثه: قالت:(24/703)
أخَذَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " أتَدْرِينَ أيَّ شَيءٍ هَذَا؟ تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا؛ فإنَّ هَذَا الْغاسِقُ إذَا وَقَبَ".
حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر. فقال: "يا عائِشَةُ اسْتَعِيذِي باللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فإنَّ هَذَا الْغاسِقُ إذَا وَقَبَ".
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ) وهو الذي يُظْلم، يقال: قد غَسَق الليل يَغُسْق غسوقا: إذا أظلم (إِذَا وَقَبَ) يعني: إذا دخل في ظلامه؛ والليل إذا دخل في ظلامه غاسق، والنجم إذا أفل غاسق، والقمر غاسق إذا وقب، ولم يخصص بعض ذلك بل عمّ الأمر بذلك، فكلّ غاسق، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُؤمر بالاستعاذة من شره إذا وقب. وكان يقول في معنى وقب: ذهب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) قال: إذا ذهب، ولست أعرف ما قال قتادة في ذلك في كلام العرب، بل المعروف من كلامها من معنى وقب: دخل.
وقوله: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) يقول: ومن شرّ السواحر الّلاتي ينفُثن في عُقَد الخيط، حين يَرْقِين عليها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (1) (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) قال: ما خالط السِّحر من الرُّقَي.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، عن الحسن (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) قال: السواحر والسَّحرَة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: تلا قتادة: (وَمِنْ
__________
(1) الحديث 193 - هذا إسناد صحيح، وسيأتي بعض هذا الحديث أيضًا بهذا الإسناد 207. وتخريجه سيأتي في 195.(24/704)
شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) قال: إياكم وما خالط السِّحر من هذه الرُّقَى.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: ما من شيء أقرب إلى الشرك من رُقْية المجانين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول إذا جاز (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) قال: إياكم وما خالط السحر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد وعكرِمة (النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) قال: قال مجاهد: الرُّقَى في عقد الخيط، وقال عكرِمة: الأخذ في عقد الخيط.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) قال: النفاثات: السواحر في العقد.
وقوله: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) اختلف أهل التأويل في الحاسد الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ حسده به، فقال بعضهم: ذلك كلّ حاسد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ عينه ونفسه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) قال: من شرّ عينه ونفسه، وعن عطاء الخراساني مثل ذلك. قال معمر: وسمعت ابن طاوس يحدّث عن أبيه، قال: العَينُ حَقٌّ، وَلَو كانَ شَيءٌ سابق القَدرِ، سَبَقَتْهُ العَينُ، وإذا اسْتُغْسِل (1) أحدكم فَلْيَغْتَسِل.
وقال آخرون: بل أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يستعيذ من شرّ اليهود الذين حسدوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) قال: يهود، لم يمنعهم أن يؤمنوا به إلا حسدهم.
وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ كلّ حاسد إذا حسد، فعابه أو سحره، أو بغاه سوءًا.
__________
(1) الحديث 194 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. عباد بن حبيش، بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة ولآخره شين معجمة، الكوفي، ذكره ابن حبان في الثقات، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 78. وبعض الحديث سيأتي أيضًا 208 بهذا الإسناد.(24/705)
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله عزّ وجلّ لم يخصص من قوله (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) حاسدا دون حاسد، بل عمّ أمره إياه بالاستعاذة من شرّ كلّ حاسد، فذلك على عمومه.
آخر تفسير سورة الفلق(24/706)
تفسير سورة الناس(24/707)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد أستجير (بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ) وهو ملك جميع الخلق: إنسهم وجنهم، وغير ذلك، إعلاما منه بذلك من كان يعظم الناس تعظيم المؤمنين ربهم أنه ملك من يعظمه، وأن ذلك في مُلكه وسلطانه، تجري عليه قُدرته، وأنه أولى بالتعظيم، وأحقّ بالتعبد له ممن يعظمه، ويُتعبد له، من غيره من الناس.
وقوله: (إِلَهِ النَّاسِ) يقول: معبود الناس، الذي له العبادة دون كل شيء سواه.
وقوله: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ) يعني: من شرّ الشيطان (الْخَنَّاسِ) الذي يخنِس مرّة ويوسوس أخرى، وإنما يخنِس فيما ذُكر عند ذكر العبد ربه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن سفيان، عن حكيم بن جُبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما من مولود إلا على قلبه الوَسواس، فإذا عقل فذكر الله خَنَس، وإذا غَفَل وسوس، قال: فذلك قوله: (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سفيان، عن ابن عباس، في قوله (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) قال: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها(24/709)
وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس.
قال: ثنا مهران، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) قال: ينبسط فإذا ذكر الله خَنَس وانقبض، فإذا غفل انبسط.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) قال: الشيطان يكون على قلب الإنسان، فإذا ذكر الله خَنَس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (الْوَسْوَاسِ) قال: قال هو الشيطان، وهو الخَنَّاس أيضا، إذا ذكر العبد ربه خنس، وهو يوسوس وَيخْنِس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) يعني: الشيطان، يوسوس في صدر ابن آدم، ويخنس إذا ذُكر الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن أبيه، قال: ذُكر لي أن الشيطان، أو قال الوسواس، ينفث في قلب الإنسان عند الحزن وعند الفرح، وإذا ذُكر الله خنس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (الْخَنَّاسِ) قال: الخناس الذي يوسوس مرّة، ويخنس مرّة من الجنّ والإنس، وكان يقال: شيطان الإنس أشدّ على الناس من شيطان الجنّ، شيطان الجنّ يوسوس ولا تراه، وهذا يُعاينك معاينة.
ورُوي عن ابن عباس رضى الله عنه أنه كان يقول في ذلك (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ) الذي يوسوس بالدعاء إلى طاعته في صدور الناس، حتى يُستجاب له إلى ما دعا إليه من طاعته، فإذا استجيب له إلى ذلك خَنَس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (الْوَسْوَاسِ) قال: هو الشيطان يأمره، فإذا أطيع خنس.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ به من شرّ شيطان يوسوس مرّة ويخنس أخرى، ولم يخصَّ وسوسته على نوع من أنواعها، ولا خنوسه على وجه دون وجه، وقد يوسوس بالدعاء إلى معصية الله،(24/710)
فإذا أطيع فيها خَنَس، وقد يوسوس بالنَّهْي عن طاعة الله فإذا ذكر العبدُ أمر ربه فأطاعه فيه، وعصى الشيطان خنس، فهو في كلّ حالتيه وَسْواس خَناس، وهذه الصفة صفته.
وقوله: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) يعني بذلك: الشيطان الوسواس، الذي يوسوس في صدور الناس: جنهم وإنسهم.
فإن قال قائل: فالجنّ ناس، فيقال: الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. قيل: قد سماهم الله في هذا الموضع ناسا، كما سماهم في موضع آخر رجالا فقال: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) فجعل الجنّ رجالا وكذلك جعل منهم ناسا.
وقد ذُكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث، إذ جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ، فجعل منهم ناسا، فكذلك ما في التنزيل من ذلك.
آخر كتاب التفسير، والحمد لله العلي الكبير.(24/711)