إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلَّ لقد قلت لكم: لا تنفقوا عليهم، لو تركتموهم ما وجدوا ما يأكلون، ويخرجوا ويهربوا؛ فأتى عمر بن الخطاب إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أُبيّ؟ قال: وما ذاك؟ فأخبره وقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، قال: "إذًا تَرْعَدُ لَهُ آنُفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِبَ" قال عمر: فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين، فمرّ به سعد بن معاذ، ومحمد بن مسلمة فيقتلانه فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إِني أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، ادْعُوا لِي عَبْدَ اللهِ بنَ عَبدِ اللهِ بن أُبَيّ"، فدعاه، فقال: "ألا تَرَى ما يَقُولُ أَبُوكَ؟ " قال: وما يقول بأبي أنت وأمي؟ قال: "يَقُولُ لَئِن رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ"؛ فقال: فقد صدق والله يا رسول الله، أنت والله الأعزُّ وهو الأذلُّ، أما والله لقد قَدِمت المدينة يا رسول الله، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبرّ مني، ولئن كان يرضى الله ورسوله أن آتيهما برأسه لآتِيَنَّهما به، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لا؛ فلما قدموا المدينة، قام عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ على بابها بالسيف لأبيه؛ ثم قال: أنت القائل: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ، أما والله لتعرفنّ العزة لك أو لرسول الله، والله لا يأويك ظله، ولا تأويه أبدًا إلا بإذن من الله ورسوله؛ فقال: يا للخزرج ابني يمنعني بيتي، يا للخزرج ابني يمنعني بيتي، فقال: والله لا تأويه أبدًا إلا بإذن منه؛ فاجتمع إليه رجال فكلموه، فقال: والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله، فأتوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأخبروه، فقال: "اذْهَبُوا إلَيْهِ، فَقُولُوا لَهُ خَلِّهِ وَمَسْكَنَهُ"؛ فأتوه، فقال: أما إذا جاء أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فنعم".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سَلَمَة وعليّ بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر، وعن محمد بن يحيى بن حبان، قال: كلّ قد حدثني بعض حديث بني المصطلق، قالوا:" بلغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم(23/406)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
الحارث بن أبي ضرار أَبو جويرية بنت الحارث زوج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ فلما سمع بهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس فاقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقُتِل من قُتل منهم، ونفل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم الله عليه، وقد أصيب رجل من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر، يقال له هشام بن صبابة أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدوّ، فقتله خطأ، فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جَهْجَاه بن سعيد (1) يقود له فرسه، فازدحم جَهْجاه وسنان الجُهْنِيُّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السنّ، فقال: قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعُدّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: "سمّن كلبك يأكلك"، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلّ؛ ثم أقبل على من حضر من قومه، فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم؛ فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وذلك عند فراغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من غزوه، فأخبر الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله مُر به عباد بن بشر بن وقش فليقتله، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "فَكَيْفَ يَا عُمَرْ إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، لا وَلَكِنْ أَذَّنْ بالرَّحِيلِ"، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يرتحل فيها، فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله بن أُبيّ إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به؛ وكان عبد الله بن أُبيّ في قومه شريفًا عظيمًا، فقال من حضر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أصحابه من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حدبًا على عبد الله بن أُبيّ، ودفعًا عنه؛ فلما استقلّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوّة وسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله لقد رُحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"أَوَ مَا بَلَغَكَ مَا قَال صَاحِبُكُمْ؟ " قال: فأيّ صاحب يا رسول الله؟ قالَ: "عَبْدُ اللهِ بِنُ أُبَيّ"، قال: وما قال؟ قال: "زَعَمَ أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَل"؛ قال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز؛ ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته مُلكًا، ثم مشى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نيامًا، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أُبيّ. ثم راح بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فُويق النقيع، يقال له نقعاء؛ فلما راح رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هَبَّت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوّفوها، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا تَخَافُوا فإنَّمَا هَبَّتْ لِمَوْتَ عَظِيمٍ مَنْ عُظَمَاءِ الْكُفَارِ"؛ فلما قَدِموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء يهود، وكهفًا للمنافقين قد مات ذلك اليوم، فنزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في عبد الله بن أبيّ بن سلول، ومن كان معه على مثل أمره، فقال: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) فلما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأذن زيد فقال: "هَذَا الَّذِي أَوْفى الله بأذنه"، وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ الذي كان من أبيه.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة "أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيره فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبيّ يمشي في الناس فأقتلَه، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخلَ النارَ؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " بَلْ نَرْفُقْ بِهِ وَنُحِسنْ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا"، وجعل بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه ويعنفونه ويتوعدونه، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم: "كَيْفَ تَرَى يا عُمَرُ، أما واللهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ لأرْعَدَتْ لَهُ آنُفٌ، لَوْ أَمَرْتَهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتَهُ"؛ قال: فقال عمر: قد والله علمت لأمرُ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أعظم بركة من أمري.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ) يقول: لا توجب لكم أموالكم (وَلا أَوْلادُكُمْ) اللهو (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) وهو من ألهيته عن كذا وكذا، فلها هو يلهو لهوًا؛ ومنه قول امرئ القيس:
وَمِثْلكِ حُبْلَى قد طَرَقَتُ وَمُرْضِعٍ فألْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائمَ مُحْوِلِ (2)
__________
(1) الذي في سيرة ابن هشام ابن مسعود
(2) البيت لامرئ القيس. وقد سبق استشهاد المؤلف به في الجزء (17: 114) وشرحنا هناك شرحا مفصلا، فراجعه. وموضع الشاهد فيه هنا قوله "فألهيتها" وأصله من اللهو، وهو ما لهوت به ولعبت به وشغلك. من هوى وطرب ونحوهما، يقال: لهوت بالشيء ألهو به لهوا، وتلهيت به إذا لعبت وتشاغلت، وغفلت به عن غيره. وتقول: ألهاني فلان عن كذا: أي شغلني وأنساني، وكأن الهمزة فيه للسلب.(23/407)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
وقيل: عُنِي بذكر الله جلّ ثناؤه في هذا الموضع: الصلوات الخمس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أَبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) قال: الصلوات الخمس.
وقوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) يقول: ومن يلهه ماله وأولاده عن ذكر الله (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) يقول: هم المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته تبارك وتعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره: وأنفقوا أيها المؤمنون بالله ورسوله من الأموال التي رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول إذا نزل به الموت: يا ربّ هلا أخرتني فتُمْهَلَ لي في الأجل إلى أجل قريب. فأصدّق يقول: فأزكي مالي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) يقول: وأعمل بطاعتك، وأؤدّي فرائضك.
وقيل: عنى بقوله: (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) وأحجّ بيتك الحرام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/410)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس وسعيد بن الربيع، قال سعيد، ثنا سفيان، وقال يونس: أخبرنا سفيان، عن أَبي جناب عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس، قال: ما من أحد يموت ولم يؤدّ زكاة ماله ولم يحجّ إلا سأل الكرّة، فقالوا: يا أبا عباس لا تزال تأتينا بالشيء لا نعرفه؛ قال: فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) قال: أؤدي زكاة مالي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) قال: أحجّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أَبي سنان، عن رجل، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال يجب عليه فيه الزكاة أن يزكي، وإذا أطاق الحجّ أن يحجّ من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرّة فلا يُعطاها، فقال رجل: أما تتقي الله، يسأل المؤمن الكرّة قال: نعم، أقرأ عليكم قرآنًا، فقرأ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) فقال الرجل: فما الذي يوجب عليّ الحجّ، قال: راحلة تحمله، ونفقة تبلغه.
حدثنا عباد بن يعقوب الأسديّ وفضالة بن الفضل، قال عباد: أخبرنا يزيد أَبو حازم مولى الضحاك.
وقال فضالة: ثنا بزيع عن الضحاك بن مزاحم في قوله: (لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) قال: فأتصدّق بزكاة مالي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) قال: الحجّ.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) إلى آخر السورة: هو الرجل المؤمن نزل به الموت وله مال كثير لم يزكه، ولم يحجّ منه، ولم يعط منه حق الله يسأل الرجعة عند الموت فيزكي ماله، قال الله: (وَلَنْ(23/411)
يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ... إلى قوله: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) قال: هو الرجل المؤمن إذا نزل به الموت وله مال لم يزكه ولم يحجّ منه، ولم يعط حقّ الله فيه، فيسأل الرجعة عند الموت ليتصدّق من ماله ويزكي، قال الله (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) قال: الزكاة والحج.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الأمصار غير ابن محيصن وأبي عمرو: وأكن، جزمًا عطفًا بها على تأويل قوله: (فَأَصَّدَّقَ) لو لم تكن فيه الفاء، وذلك أن قوله: (فَأَصَّدَّقَ) لو لم تكن فيه الفاء كان جزمًا وقرأ ذلك ابن محيصن وأبو عمرو (وَأَكُون) بإثبات الواو ونصب (وَأَكُون) عطفًا به على قوله: (فَأَصَّدَّقَ) فنصب قوله: (وَأَكُون) إذ كان قوله: (فَأَصَّدَّقَ) نصبًا.
والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) يقول: لن يؤخر الله في أجل أحد فيمد له فيه إذا حضر أجله، ولكنه يخترمه (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) يقول: والله ذو خبرة وعلم بأعمال عبيده هو بجميعها محيط، لا يخفى عليه شيء، وهو مجازيهم بها، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
آخر تفسير سورة المنافقين(23/412)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
تفسير سورة التغابن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) }
يقول تعالى ذكره: يسجد له ما في السموات السبع وما في الأرض من خلقه ويعظمه.
وقوله: (لَهُ الْمُلْكُ) يقول تعالى ذكره: له ملك السموات والأرض وسلطانه ماض قضاؤه في ذلك نافذ فيه أمره.
وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ) يقول: وله حمد كلّ ما فيها من خلق، لأن جميع من في ذلك من الخلق لا يعرفون الخير إلا منه، وليس لهم رازق سواه فله حمد جميعهم (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: وهو على كلّ شيء ذو قدرة، يقول: يخلق ما يشاء، ويميت من يشاء، ويغني من أراد، ويفقر من يشاء ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، لا يتعذّر عليه شيء أراده، لأنه ذو القدرة التامة التي لا يعجزه معها شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) }
يقول تعالى ذكره: الله (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أيها الناس، وهو من ذكر(23/415)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
اسم الله (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) يقول: فمنكم كافر بخالقه وأنه خلقه؛ (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) يقول: ومنكم مصدّق به موقن أنه خالقه أو بارئه، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يقول: والله الذي خلقكم بصير بأعمالكم عالم بها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم بها، فاتقوه أن تخالفوه في أمره أو نهيه، فيسطوَ بكم.
حدثنا محمد بن منصور الطوسي، قال: ثنا حسن بن موسى الأشيب، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا بكر بن سوادة، عن أَبي تميم الجيشانيّ، عن أَبي ذرّ: "إن المَنِيَّ إذَا مَكث في الرحم أربعين ليلة، أتى ملك النفوس، فعرج به إلى الجبار في راحته، فقال: أي ربّ عبدك هذا ذكر أم أنثى؟ فيقضي الله إليه ما هو قاض، ثم يقول: أي ربّ أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق: قال: وقرأ أَبو ذرّ فاتحة التغابن خمس آيات".
القول في تأويل قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) }
يقول تعالى ذكره: خلق السموات السبع والأرض بالعدل والإنصاف، وصوّركم: يقول: ومثلكم فأحسن مثلكم، وقيل: أنه عُنِيَ بذلك تصويره آدم، وخلقه إياه بيده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أَبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) يعني آدم خلقه بيده.
وقوله: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يقول: وإلى الله مرجع جميعكم أيها الناس.(23/416)
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) }
يقول تعالى ذكره: يعلم ربكم أيها الناس ما في السموات السبع والأرض من شيء، لا يخفى عليه من ذلك خافية (وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ) أيها الناس بينكم من قول وعمل (وَمَا تُعْلِنُونَ) من ذلك فتظهرونه (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول جلّ ثناؤه: والله ذو علم بضمائر صدور عباده، وما تنطوي عليه نفوسهم، الذي هو أخفى من السرّ، لا يعزب عنه شيء من ذلك. يقول تعالى ذكره لعباده: احذَروا أن تسرّوا غير الذي تعلنون، أو تضمروا في أنفسكم غير ما تُبدونه، فإن ربكم لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو محص جميعه، وحافظ عليكم كله.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) }
يقول تعالى ذكره لمشركي قريش: ألم يأتكم أيها الناس خبر الذين كفروا من قبلكم، وذلك كقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط (فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) فمسّهم عذاب الله إياهم على كفرهم (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: ولهم عذاب مؤلم موجع يوم القيامة في نار جهنم، مع الذي أذاقهم الله في الدنيا وبال كفرهم.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) يقول جلّ ثناؤه:(23/417)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
هذا الذي نال الذين كفروا من قبل هؤلاء المشركين من وبال كفرهم، والذي أعدّ لهم ربهم يوم القيامة من العذاب، من أجل أنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات الذي أرسلهم إليهم ربهم بالواضحات من الأدلة والإعلام على حقيقة ما يدعونهم إليه، فقالوا لهم: أبشر يهدوننا، استكبارًا منهم أن تكون رسل الله إليهم بشرًا مثلهم واستكبارًا عن اتباع الحقّ من أجل أن بشرًا مثلهم دعاهم إليه؛ وجمع الخبر عن البشر، فقيل: يهدوننا، ولم يقل: يهدينا، لأن البشر، وإن كان في لفظ الواحد، فإنه بمعنى الجميع.
وقوله: (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) يقول: فكفروا بالله، وجحدوا رسالة رسله الذين بعثهم الله إليهم استكبارًا (وَتَوَلَّوْا) يقول: وأدبروا عن الحقّ فلم يقبلوه، وأعرضوا عما دعاهم إليه رسلهم (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) يقول: واستغنى الله عنهم، وعن إيمانهم به وبرسله، ولم تكن به إلى ذلك منهم حاجة (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يقول: والله غني عن جميع خلقه، محمود عند جميعهم بجميل أياديه عندهم، وكريم فعاله فيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) }
يقول تعالى ذكره: زعم الذين كفروا بالله أن لن يبعثهم الله إليه من قبورهم بعد مماتهم. وكان ابن عمر يقول: زعم: كنية الكذب.
حدثني بذلك محمد بن نافع البصريّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن بعض أصحابه عن ابن عمر.
وقوله: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) يقول لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهم يا محمد: بلى وربي لتبعثن من قبوركم (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) يقول:(23/418)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
ثم لتخبرنّ بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا، (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) يقول: وبعثكم من قبوركم بعد مماتكم على الله سهل هين.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) }
يقول تعالى ذكره: فصدّقوا بالله ورسوله أيها المشركون المكذّبون بالبعث، وبإخباره إياكم أنكم مبعوثون من بعد مماتكم، وأنكم من بعد بلائكم تنشرون من قبوركم، والنور الذي أنزلنا يقول: وآمنوا بالنور الذي أنزلنا، وهو هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يقول تعالى ذكره: والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة محيط بها، محصٍ جميعها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميعها.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) }
يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون خبير (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) الخلائق للعرض (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) يقول: الجمع يوم غَبْن أهل الجنة أهلَ النار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في(23/419)
قول الله: (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) قال: هو غبن أهلَ الجنة أهل النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) هو يوم القيامة، وهو يوم التغابن: يوم غَبن أهلِ الجنة أهلَ النار.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) من أسماء يوم القيامة، عظَّمه وحذّره عبادَه.
وقوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا) يقول تعالى ذكره: ومن يصدّق بالله ويعمل بطاعته، وينته إلى أمره ونهيه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) يقول: يمح عنه ذنوبه (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول: ويُدخله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار.
وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يقول: لابثين فيها أبدًا، لا يموتون، ولا يخرجون منها.
وقوله: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يقول: خلودهم في الجنات التي وصفنا النجاء العظيم.(23/420)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) }
يقول تعالى ذكره: والذين جحدوا وحدانية الله، وكذّبوا بأدلته وحججه وآي كتابه الذي أنزله على عبده محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يقول: ماكثين فيها أبدًا لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) يقول: وبئس الشيء الذي يُصَار إليه جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ(23/420)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) }
يقول تعالى ذكره: لم يصب أحدًا من الخلق مصيبة إلا بإذن الله، يقول: إلا بقضاء الله وتقدير ذلك عليه (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يقول: ومن يصدّق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذن الله بذلك يهد قلبه: يقول: يوفِّق الله قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الوشاء الأوديّ، قال: ثنا أحمد بن بشير، عن الأعمش، عن أَبي ظبيان قال: كنا عند علقمة، فقرئ عنده هذه الآية: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) فسُئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم ذلك ويرضى.
حدثني عيسى بن عثمان الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن أَبي ظبيان، قال: كنت عند علقمة وهو يعرض المصاحف، فمرّ بهذه الآية: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قال: هو الرجل ... ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن بشر، قال: ثنا أَبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أَبي ظبيان، عن علقمة، في قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضَى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن مهدي، عن(23/421)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
الثوري، عن الأعمش، عن أَبي ظبيان، عن علقمة مثله؛ غير أنه قال في حديثه: فيعلم أنها من قضاء الله، فيرضى بها ويسلم.
وقوله: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول: والله بكل شيء ذو علم بما كان ويكون وما هو كائن من قبل أن يكون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ) أيها الناس في أمره ونهيه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) فإن أدبرتم عن طاعة الله وطاعة رسوله مستكبرين عنها، فلم تطيعوا الله ولا رسوله (فَإِنَّمَا) فليس (عَلَى رَسُولِنَا) محمد إلا (الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أنه بلاغ إليكم لما أرسلته به يقول جلّ ثناؤه: فقد أعذر إليكم بالإبلاغ والله وليّ الانتقام ممن عصاه، وخالف أمره، وتولى عنه (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) يقول جلّ ثناؤه: معبودكم أيها الناس معبود واحد لا تصلح العبادة لغيره ولا معبود لكم سواه.
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يقول تعالى ذكره: وعلى الله أيها الناس فليتوكل المصدّقون بوحدانيته.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ(23/422)
وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) يصدونكم عن سبيل الله، ويثبطونكم عن طاعة الله (فَاحْذَرُوهُمْ) أن تقبلوا منهم ما يأمرونكم به من ترك طاعة الله.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا أرادوا الإسلام والهجرة، فثبَّطهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كُرَيْب، قال: ثنا يحيى بن آدم وعبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن سِماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: سأله رجل عن هذه الآية (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال: هؤلاء رجال أسلموا، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ فلما أتَوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين، هموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله جلّ ثناؤه (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) .. الآية.
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سِماك، عن عكرمة، في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال: كان الرجل يريد أن يأتي النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيقول له أهله: أين تذهب وتدعنا؟ قال: وإذا أسلم وفَقِه، قال: لأرجعنّ إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر فلأفعلنّ ولأفعلنّ، فأنزل الله جلّ ثناؤه: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) كان الرجل إذا أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة تمنعه زوجته وولده، ولم يألُوا يثبطوه عن ذلك، فقال الله: إنهم عدوّ لكم فأحذروهم واسمعوا وأطيعوا، وامضُوا لشأنكم، فكان الرجل بعد ذلك إذا مُنع وثبط مرّ بأهله وأقسم، والقسم يمين ليفعلنّ وليعاقبنّ أهله في ذلك، فقال الله جلّ ثناؤه(23/423)
(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها بمكة، إلا هؤلاء الآيات (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) نزلت في عوف بن مالك الأشجعيّ، كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورقَّقوه، فقالوا: إلى من تَدعنا؟ فيرقّ ويقيم، فنزلت: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال: إنهما يحملانه على قطيعة رحمه، وعلى معصية ربه، فلا يستطيع مع حبه إلا أن يقطعه.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال: فلا يستطيع مع حبه إلا أن يطيعه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قالا ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) .. الآية، قال: منهم من لا يأمر بطاعة الله، ولا ينهى عن معصيته، وكانوا يبطِّئون عن الهجرة إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعن الجهاد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال: ينهون عن الإسلام، ويُبَطِّئُون عنه، وهم من الكفار فاحذروهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا(23/424)
لَكُمْ) .. الآية، قال: هذا في أناس من قبائل العرب كان يسلم الرجل أو النفر من الحيّ، فيخرجون من عشائرهم ويدعون أزواجهم وأولادهم وآباءهم عامدين إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فتقوم عشائرهم وأزواجهم وأولادهم وآباؤهم، فيناشدونهم الله أن لا يفارقوهم، ولا يؤثروا عليهم غيرهم، فمنهم من يَرقّ ويرجع إليهم، ومنهم من يمضي حتى يلحق بنبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا عثمان بن ناجية وزيد بن حباب، قالا ثنا يحيى بن واضح، جميعًا، عن الحسين بن واقد، قال: ثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأخذهما فرفعهما فوضعهما في حِجْرِهِ ثم قال: "صَدَقَ الله ورَسُولُهُ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) رأَيْتُ هَذْينِ فَلَمْ أَصْبِرْ، ثم أخذ في خطبته" اللفظ لأبي كريب عن زيد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) قال: يقول: عدوّا لكم في دينكم، فاحذروهم على دينكم.
حدثني محمد بن عمرو بن علىّ المقدميّ، قال ثنا أشعث بن عبد الله قال: ثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، في قوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال: كان الرجل يسلم، فيلومه أهله وبنوه، فنزلت: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) .
وقوله: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا) يقول: إن تعفوا أيها المؤمنون عما سلف منهم من صدّهم إياكم عن الإسلام والهجرة وتصفحوا لهم عن عقوبتكم إياهم على ذلك، وتغفروا لهم غير ذلك من الذنوب (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لكم لمن تاب من عباده، من ذنوبكم (رَحِيمٌ) بكم أن يعاقبكم عليها من بعد توبتكم منها.(23/425)
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) }
يقول تعالى ذكره: ما أموالكم أيها الناس وأولادكم إلا فتنة، يعني بلاء عليكم في الدنيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) يقول: بلاء.
وقوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) يقول: والله عنده ثواب لكم عظيم، إذا أنتم خالفتم أولادكم وأزواجكم في طاعة الله ربكم، وأطعتم الله عزّ وجلّ، وأدّيتم حقّ الله في أموالكم، والأجر العظيم الذي عند الله الجنة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وهي الجنة.
قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) يقول تعالى ذكره: واحذروا الله أيها المؤمنون وخافوا عقابه، وتجنبوا عذابه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، والعمل بما يقرّب إليه ما أطقتم وبلَغه وسعكم.
وذُكر أن قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) نزل بعد قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) تخفيفًا عن المسلمين، وأن قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ناسخ قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) .(23/426)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) هذه رخصة من الله، والله رحيم بعباده، وكان الله جلّ ثناؤه أنزل قبل ذلك (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) وحقّ تقاته أن يُطاع فلا يعصى، ثم خفَّف الله تعالى ذكره عن عباده، فأنزل الرخصة بعد ذلك فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) فيما استطعت يا ابن آدم، عليها بايع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على السمع والطاعة فيما استطعتم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) قال: نسختها: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) .
وقد تقدم بياننا عن معنى الناسخ والمنسوخ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع؛ وليس في قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) دلالة واضحة على أنه لقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ناسخ، إذ كان محتملا قوله: اتقوا الله حقّ تقاته فيما استطعتم، ولم يكن بأنه له ناسخ عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فإذا كان ذلك كذلك، فالواجب استعمالهما جميعًا على ما يحتملان من وجوه الصحة.
وقوله: (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) يقول: واسمعوا لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ) يقول: وأنفقوا مالا من أموالكم لأنفسكم تستنقذوها من عذاب الله، والخير في هذا الموضع المال.
وقوله: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يقول تعالى ذكره: ومن يَقِه الله شحَ نفسه، وذلك اتباع هواها فيما نهى الله عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني أَبو معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) يقول: هوى نفسه حيث يتبع(23/427)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
هواه ولم يقبل الإيمان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جامع بن شدّاد، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) قال: أن يعمد إلى مال غيره فيأكله، وقوله: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يقول: فهؤلاء الذين وُقُوا شحّ أنفسهم، المُنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
يقول تعالى ذكره: وإن تنفقوا في سبيل الله، فتحسنوا فيها النفقة، وتحتسبوا بإنفاقكم الأجر والثواب يضاعف ذلك لكم ربكم، فيجعل لكم مكان الواحد سبع مئة ضعف إلى أكثر من ذلك مما يشاء من التضعيف (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فيصفح لكم عن عقوبتكم عليها مع تضعيفه نفقتكم التي تنفقون في سبيله (وَاللَّهُ شَكُورٌ) يقول: والله ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله، بحسن الجزاء لهم على ما أنفقوا في الدنيا في سبيله (حَلِيمٌ) يقول: حليم عن أهل معاصيه بترك معاجلتهم بعقوبته (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) يقول: عالم ما لا تراه أعين عباده ويغيب عن أبصارهم وما يشاهدونه فيرونه بأبصارهم (الْعَزِيزُ) يعني الشديد في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ونهيه (الْحَكِيمُ) في تدبيره خلقه، وصرفه إياهم فيما يصلحهم.
آخر تفسير سورة التغابن(23/428)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
تفسير سورة الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) يقول: إذا طلقتم نساءكم فطلقوهنّ لطهرهنّ الذي يحصينه من عدتهنّ، طاهرًا من غير جماع، ولا تطلقوهنّ بحيضهنّ الذي لا يعتددن به من قرئهنّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/431)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، قال: الطلاق للعدّة طاهرًا من غير جماع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: بالطهر في غير جماع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الله (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) يقول: إذا طلقتم قال: الطهر في غير جماع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: طاهرًا من غير جماع.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يرى طلاق السنة طاهرًا من غير جماع، وفي كلّ طهر، وهي العدة التي أمر الله بها.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنه طلق امرأته مئة، فقال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، ولم تتق الله فيجعل لك مخرجًا، وقرأ هذه الآية: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) ، وقال: (يا أَيُّهَا الْنَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ الْنِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهنَّ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، عن ابن عباس بنحوه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن(23/432)
عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننا أنه رادّها عليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس، وإن الله عزّ وجلّ قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، قال الله: (يا أَيُّهَا الْنَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ الْنِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهنَّ) .
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت مجاهدًا يحدّث عن ابن عباس في هذه الآية: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال ابن عباس: في قبل عدتهنّ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أُمية، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، أنه قرأ (فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهنَّ) .
حدثنا العباس بن عبد العظيم، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: طاهرًا في غير جماع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: طاهرًا من غير حيض، أو حاملا قد استبان حملها.
قال ثنا هارون، عن عيسى بن يزيد بن دأب، عن عمرو، عن الحسن وابن سيرين، فيمن أراد أن يطلق ثلاث تطليقات جميعًا في كلمة واحدة، أنه لا بأس به بعد أن يطلقها في قبل عدتها، كما أمره الله؛ وكان يكرهان أن يطلق الرجل امرأته تطليقة، أو تطليقتين، أو ثلاثًا، إذا كان بغير العدّة التي ذكرها الله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عون، عن(23/433)
ابن سيرين أنه قال في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قالَ: يطلقها وهي طاهر من غير جماع، أو حَبَل يستبين حملها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: لطهرهن.
حدثنا عليّ بن عبد الأعلى المحاربيّ، قال: ثنا المحاربيّ، عن جويبر، عن الضحاك، في قول الله (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: العدّة: القرْء، والقرء: الحيض. والطاهر: الطاهر من غير جماع، ثم تستقبل ثلاث حِيَض.
حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال بشر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) والعدة: أن يطلقها طاهرًا من غير جماع تطليقة واحدة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: إذا طهرت من الحيض في غير جماع، قلت: كيف؟ قال: إذا طهرت فطلقها من قبل أن تمسها، فإن بدا لك أن تطلقها أخرى تركتها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم طلقها إذا طهرت الثانية، فإذا أردت طلاقها الثالثة أمهلتها حتى تحيض، فإذا طهرت طلقها الثالثة، ثم تعتدّ حيضة واحدة، ثم تَنكِح إن شاءت.
قال ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: وقال ابن طاوس: إذا أردت الطلاق فطلقها حين تطهر، قبل أن تمسها تطليقة واحدة، لا ينبغي لك أن تزيد عليها، حتى تخلو ثلاثة قروء، فإن واحدة تبينها.
حُدثت عن الحسين، فال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) يقول: طلَّقها طاهرًا من غير جماع.(23/434)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فطلقوهن لعدتهن) قال: إذا طلقتها للعدّة كان مِلْكُها بيدك، من طلق للعدة جعل الله له في ذلك فسحة، وجعل له مِلْكًا إن أراد أن يرتجع قبل أن تنقضي العدة ارتجع.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: طاهرًا في غير جماع، فإن كانت لا تحيض، فعند غرّةِّ كل هلال.
حدثني أَبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: طلَّقت امرأتي وهي حائض؛ قال: فأتى عمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يخبره بذلك، فقال: "مُرْه فَلْيُرَاجِعهَا حَتَى تَطْهُر، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، وإنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، فَإنَها العِدَّةُ التي قال اللُه عَزَّ وَجَلَّ".
قال ثنا ابن إدريس، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عُمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: " مُرْه فَلْيُرَاجِعهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر "أنه طلق امرأته حائضًا، فأتى عمر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فذكر ذلك له، فأمره أن يراجعها، ثم يتركها حتى إذا طهرت ثم حاضت طلقها، قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "فَهِيَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" ويقول: حين يطهرن.
حدثنا عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن(23/435)
ابن عباس في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) يقول: لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة، فإن كانت تحيض فعدتها ثلاث حيض، وإن كانت لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها.
حدثنا ابن البرقيّ، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز، سُئل عن قول الله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: طلاق السنة أن يطلق الرجل امرأته وهي في قبل عدتها، وهي طاهر من غير جماع واحدة، ثم يدعها، فإن شاء راجعها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة، وإن أراد أن يطلقها ثلاثًا طلقها واحدة في قبل عدتها، وهي طاهر من غير جماع، ثم يدعها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم يدعها، حتى إذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم لا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره.
وذُكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في سبب طلاقه حَفْصة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: "طلق رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حفصة بنت عمر تطليقة، فأنزلت هذه الآية: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) فقيل: راجعها فإنها صوّامة قوّامة، وإنها من نسائك في الجنة".
وقوله: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) يقول: وأحصُوا هذه العدّة وأقراءَها فاحفظوها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) قال: احفظوا العدّة.(23/436)
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) يقول: وخافوا الله أيها الناس ربكم فاحذروا معصيته أن تتعدّوا حده، لا تخرجوا من طلقتم من نسائكم لعدتهنّ من بيوتهنّ التي كنتم أسكنتموهنّ فيها قبل الطلاق حتى تنقضي عدتهنّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) حتى تنقضي عدتهنّ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جُرَيج، قال: قال عطاء: إن أذن لها أن تعتدّ في غير بيته، فتعتدّ في بيت أهلها، فقد شاركها إذن في الإثم. ثم تلا (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: قلت هذه الآية في هذه؟ قال: نعم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، عن محمد بن عجلان، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول في هذه الآية (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: خروجها قبل انقضاء العدّة. قال ابن عجلان عن زيد بن أسلم: إذا أتت بفاحشة أخرجت.
وحدثنا عليّ بن عبد الأعلى المحاربيّ، قال: ثنا المحاربيّ، عبد الرحمن بن محمد، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: ليس لها أن تخرج إلا بإذنه، وليس للزوج أن يخرجها ما كانت في العدّة، فإن خرجت فلا سُكْنى لها ولا نفقة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ(23/437)
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) قال: هي المطلقة لا تخرج من بيتها، ما دام لزوجها عليها رجعة، وكانت في عدّة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) وذلك إذا طلقها واحدة أو ثنتين لها ما لم يطلقها ثلاثًا.
وقوله: (وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) يقول جلّ ثناؤه: لا تخرجوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أنها فاحشة لمن عاينها أو علمها.
واختلف أهل التأويل في معنى الفاحشة التي ذكرت في هذا الموضع، والمعنى الذي من أجله أذن الله بإخراجهنّ حالة كونهنّ في العدّة من بيوتهنّ، فقال بعضهم: الفاحشة التي ذكرها في الموضع هي الزنى، والإخراج الذي أباح الله هو الإخراج لإقامة الحدّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، في قوله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: الزنى، قال فتُخْرَج ليُقام عليها الحدّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، مثله.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال ثنا ابن عُلَية، عن صالح بن مسلم، قال: سألت عامرًا قلت رجل طلق امرأته تطليقة أيخرجها من بيتها؟ قال: إن كانت زانية.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: إلا أن يزنين.(23/438)
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول الله عزّ وجلّ (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: قال الله جلّ ثناؤه (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) قال: هؤلاء المحصنات، (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) . .. الآية. قال: فجعل الله سبيلهنّ الرجم، فهي لا ينبغي لها أن تخرج من بيتها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، فإذا أتت بفاحشة مبينة أخرجت إلى الحدّ فرجمت، وكان قبل هذا للمحصنة الحبس تحبس في البيوت لا تترك تنكح، وكان للبكرين الأذى قال الله جلّ ثناؤه: (وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا) يا زان، يا زانية، (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً) قال: ثم نُسخ هذا كله، فجعل الرجم للمحصنة والمحصن، وجعل جلد مئة للبِكْرَين، قال: ونسخ هذا.
وقال آخرون: الفاحشة التي عناها الله في هذا الموضع: البَذَاء على أحمائها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم، عن ابن عباس قال الله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: الفاحشة المبينة أن تبذُو على أهلها.
وقال آخرون: بل هي كل معصية لله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) والفاحشة: هي المعصية.
وقال آخرون: بل ذلك نشوزها على زوجها، فيطلقها على النشوز،(23/439)
فيكون لها التحوّل حينئذ من بيتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال قتادة: إلا أن يطلقها على نشوز، فلها أن تحوّل من بيت زوجها.
وقال آخرون: الفاحشة المبينة التي ذكر الله عزّ وجلّ في هذا الموضع خروجها من بيتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: خروجها من بيتها فاحشة. قال بعضهم: خروجها إذا أتت بفاحشة أن تخرج فيقام عليها الحدّ.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: ثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب قال: ثني محمد بن عجلان، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، في قوله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة.
* والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: عنى بالفاحشة في هذا الموضع: المعصية، وذلك أن الفاحشة هي كلّ أمر قبيح تعدّى فيه حدّه، فالزنى من ذلك، والسرق والبذاء على الأحماء، وخروجها متحوّلة عن منزلها الذي يلزمها أن تعتدّ فيه منه، فأي ذلك فعلت وهي في عدتها، فلزوجها إخراجها من بيتها ذلك، لإتيانها بالفاحشة التي ركبتها.
وقوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وهذه الأمور التي بينتها لكم من الطلاق للعدّة، وإحصاء العدّة، والأمر باتقاء الله، وأن لا تخرج(23/440)
المطلقة من بيتها، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة حدود الله التي حدّها لكم أيها الناس فلا تعتدوها (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) يقول تعالى ذكره: ومن يتجاوز حدود الله التي حدّها لخلقه فقد ظلم نفسه: يقول: فقد أكسب نفسه وزرًا، فصار بذلك لها ظالما، وعليها متعدّيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن عبد الأعلى، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن جويبر، عن الضحاك في قول الله (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يقول: تلك طاعة الله فلا تعتدوها، قال: يقول: من كان على غير هذه فقد ظلم نفسه.
وقوله: (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) يقول جلّ ثناؤه: لا تدري ما الذي يحدث؟ لعل الله يحدث بعد طلاقكم إياهنّ رجعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، أن فاطمة بنت قيس كانت تحت أَبي حفص المخزومي، وكان النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أمَّر عليًا على بعض اليمن، فخرج معه، فبعث إليها بتطليقة كانت لها، وأمر عياش بن أبي ربيعة المخزومي، والحارث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا لا والله ما لها علينا نفقة، إلا أن تكون حاملا فأتت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فذكرت ذلك له، فلم يجعل لها نفقة إلا أن تكون حاملا واستأذنته في الانتقال، فقالت: أين انتقل يا رسول الله؟ قال: "عِنْدَ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ"، وكان أعمى، تضع ثيابها عنده، ولا يبصرها؛ فلم تزل هنالك حتى أنكحها النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أُسامة بن زيد حين مضت عدتها، فأرسل إليها مروان بن الحكم يسألها عن هذا الحديث، فأخبرته، فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، وسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة: بيني وبينكم الكتاب، قال الله جلّ ثناؤه: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) حتى بلغ (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ(23/441)
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) قالت: فأي أمر يحدث بعد الثلاث، وإنما هو في مراجعة الرجل امرأته، وكيف تحبس امرأة بغير نفقة؟
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) قال: هذا في مراجعة الرجل امرأته.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) : أي مراجعة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) قال: يراجعها في بيتها هذا في الواحدة والثنتين، هو أبعد من الزنى.
قال سعيد، وقال الحسن: هذا في الواحدة والثنتين، وما يحدث الله بعد الثلاث.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، قال: سمعت الحسن وعكرمة يقولان: المطلقة ثلاثًا، والمتوفى عنها لا سكنى لها ولا نفقة؛ قال: فقال عكرمة (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) فقال: ما يحدث بعد الثلاث.
حدثنا عليّ بن عبد الأعلى المحاربيّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) يقول: لعلّ الرجل يراجعها في عدتها.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) هذا ما كان له عليها رجعة.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ(23/442)
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) قال: الرجعة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) قال: لعلّ الله يحدث في قلبك تراجع زوجتك؛ قال: قال: ومن طلق للعدّة جعل الله له في ذلك فسحة، وجعل له ملكًا إن أراد أن يرتجع قبل أن تنقضي العدّة ارتجع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) قال: لعله يراجعها.
وقوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) يقول تعالى ذكره: فإذا بلغ المطلقات اللواتي هنّ في عدة أجلهنّ وذلك حين قرب انقضاء عددهنّ (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يقول: فأمسكوهنّ برجعة تراجعوهن، إن أردتم ذلك بمَعْرُوف، يقول: بما أمرك الله به من الإمساك وذلك بإعطائها الحقوق التي أوجبها الله عليه لها من النفقة والكسوة والمسكن وحُسن الصحبة، أو فارقوهنّ بمعروف، أو اتركوهنّ حتى تنقضي عددهنّ، فتبين منكم بمعروف، يعني بإيفائها ما لها من حق قبله من الصداق والمتعة على ما أوجب عليه لها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن عبد الأعلى، قال: ثني المحاربي بن عبد الرحمن بن محمد، عن جويبر، عن الضحاك، قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) يقول: إذا انقضت عدتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة، أو ثلاثة أشهر إن لم تكن تحيض، يقول: فراجع إن كنت تريد المراجعة قبل أن تنقضي العدّة بإمساك بمعروف، والمعروف أن تحسن صحبتها (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) والتسريح بإحسان: أن يدعها حتى تمضي عدتها، ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلقها، فذلك التسريح بإحسان، والمُتعة على قدر الميسرة.(23/443)
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) قال: إذا طلقها واحدة أو ثنتين، يشاء (1) أن يمسكها بمعروف، أو يسرّحها بإحسان.
وقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ، وذلك هو الرجعة ذوي عدل منكم، وهما اللذان يرضى دينهما وأمانتهما.
وقد بينا فيما مضى قبل معنى العدل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وذكرنا ما قال أهل العلم فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها، أشهد رجلين كما قال الله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الطلاق وعند المراجعة، فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين، وإن لم يراجعها فإذا انقضت عدتها فقد بانت منه بواحدة، وهي أملك بنفسها، ثم تتزوّج من شاءت، هو أو غيره.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال: على الطلاق والرجعة.
وقوله: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) يقول: وأشهدوا على الحقّ إذا استشهدتم، وأدوها على صحة إذا أنتم دُعيتم إلى أدائها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله:
__________
(1) كذا في الأصل. ولعل أصل العبارة: فله بعد ذلك ما يشاء ... إلخ(23/444)
(وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) قال: أشهدوا على الحقّ.
وقوله: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي أمرتكم به، وعرَّفتكم من أمر الطلاق، والواجب لبعضكم على بعض عند الفراق والإمساك عظة منا لكم، نعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيصدّق به.
وعُنِي بقوله: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) من كانت صفته الإيمان بالله، كالذي حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط عن السديّ، (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) قالَ: يؤمن به.
وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) يقول تعالى ذكره: من يخف الله فيعمل بما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجًا بأن يعرّفه بأن ما قضى فلا بدّ من أن يكون، وذلك أن المطلق إذا طلَّق، كما ندبه الله إليه للعدّة، ولم يراجعها في عدتها حتى انقضت ثم تتبعها نفسه، جعل الله له مخرجًا فيما تتبعها نفسه. بأن جعل له السبيل إلى خطبتها ونكاحها، ولو طلقها ثلاثًا لم يكن له إلى ذلك سبيل.
وقوله: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) يقول: ويسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر، ولا يعلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وذكر بعضهم أن هده الآية نزلت بسبب عوف بن مالك الأشجعيّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كُرَيب، قال: ثنا ابن صَلْت، عن قيس، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق عن عبد الله، في قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: يعلم أنه من عند الله، وأن الله هو الذي يعطي ويمنع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن(23/445)
الأعمش، عن أَبي الضحى، عن مسروق (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: المخرج أن يعلم أن الله تبارك وتعالى لو شاء أعطاه وإن شاء منعه، (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال: من حيث لا يدري.
حدثني أَبو السائب، قال: ثنا أَبو معاوية، عن الأعمش، عن أَبي الضحى، عن مسروق، مثله.
حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) يقول: نجاته من كل كرب في الدنيا والآخرة، (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الربيع بن المنذر، عن أبيه، عن الربيع بن خثيم (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: من كلّ شيء ضاق على الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجًا.
حدثني عليّ بن عبد الأعلى المحاربيّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) ومن يتق الله يجعل له من أمره يُسرًا، قال: يعني بالمخرج واليُسر إذا طلق واحدة ثم سكت عنها، فإن شاء راجعها بشهادة رجلين عدلين، فذلك اليُسر الذي قال الله، وإن مضت عدتها ولم يراجعها، كان خاطبًا من الخطاب، وهذا الذي أمر الله به، وهكذا طلاق السنة فأما من طلق عند كلّ حيضة فقد أخطأ السنة، وعصى الربّ، وأخذ بالعسر.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: يطلق للسُّنة، ويراجع للسُّنة؛ زعم أن رجلا من أصحاب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقال له عوف الأشجعيّ،(23/446)
كان له ابن، وأن المشركين أسروه، فكان فيهم، فكان أبوه يأتي النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فيشكوا إليه مكان ابنه، وحالته التي هو بها وحاجته، فكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يأمره بالصبر ويقول له: إن الله سيجعل له مخرجا، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا إذا انفلت ابنه من أيدي العدوّ، فمرّ بغنم من أغنام العدوّ فاستاقها، فجاء بها إلى أبيه، وجاء معه بغنًى قد أصابه من الغنم، فنزلت هذه الآية: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عمار بن أبي معاوية الدهنّي، عن سالم بن أبي الجعد (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: نزلت في رجل من أشجع جاء إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو مجهود، فسأله فقال له النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرْ"، قال: قد فعلت، فأتى قومه، فقالوا: ماذا قال لك؟ قال: قال: "اتق الله واصبر"، فقلت: قد فعلت حتى قال ذلك ثلاثًا، فرجع فإذا هو بابنه كان أسيرًا في بني فلان من العرب، فجاء معه بأعنز فرجع إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: إن ابني كان أسيرًا في بني فلان، وإنه جاء بأعنز فطابت لنا؟ قال: "نعم".
قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن عمار الدهنّي، عن سالم بن أَبي الجعد في قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: نزلت في رجل من أشجع أصابه الجهد، فأتى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال له: "اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرْ"، فرجع فوجد ابنًا له كان أسيرًا، قد فكه الله من أيديهم، وأصاب أعنزا، فجاء، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: هل تطيبُ لي يا رسول الله؟ قال: "نَعَم".
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن المنذر الثوريّ، عن أبيه، عن الربيع بن خثيم (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: من كلّ شيء ضاق على الناس.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن أَبي الضحى، عن(23/447)
مسروق (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: يعلم أن الله إن شاء منعه، وإن شاء أعطاه (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) يقول: من حيث لا يدري.
قال: ثنا مهران، عن سعيد بن أَبي عَروبة، عن قتادة (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) قال: من شُبُهَات الأمور، والكرب عند الموت (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) : من حيث لا يرجو ولا يؤمل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) لا يأمل ولا يرجو.
وقوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)
يقول تعالى ذكره: ومن يتق الله في أموره، ويفوّضها إليه فهو كافيه.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) منقطع عن قوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) . ومعنى ذلك: إن الله بالغ أمره بكل حال توكل عليه العبد أو لم يتوكل عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أَبي الضحى، عن مسروق (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) توكل عليه أو لم يتوكل عليه، غير أن المتوكل يُكَفِّرْ عنه سيئاته، ويُعظِم له أجرًا.
حدثنا أَبو السائب، قال: ثنا أَبو معاوية، عن الأعمش، عن أَبي الضحى، عن مسروق بنحوه.
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا ابن صلت عن قيس، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) قال: ليس بمتوكل الذي قد قُضيت حاجته، وجعل فضل من توكل عليه على(23/448)
من لم يتوكل أن يكفرَ عنه سيئاته، ويُعظم له أجرًا.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الشعبيّ، قال: تجالس شُتير بن شكل ومسروق، فقال شُتير: إما أن تحدّث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك، وإما أن أحدث فتصدّقني؟ قال مسروق: لا بل حدّث فأصدّقك، فقال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكبر آية في القرآن تفوّضًا (1) : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) قال مسروق: صدقت.
وقوله: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) يقول تعالى ذكره: قد جعل الله لكلّ شيء من الطلاق والعدّة وغير ذلك حدًا وأجلا وقدرًا يُنتهى إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أَبو السائب، قال: ثنا أَبو معاوية، عن الأعمش، عن أَبي الضحى، عن مسروق (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) قال: أجلا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) قال: منتهى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن أَبي الضحى، عن مسروق مثله.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) قال: الحيض في الأجل والعدّة.
__________
(1) كذا في الأصل، ولم أجد في المعاجم هذا المصدر ولا فعله، ولعله محرف عن "التفويض"، وهو رد الأمر كله إلى الله، وهو المفهوم من معنى حديث ابن مسعود هذا.(23/449)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) }
يقول تعالى ذكره: والنساء اللاتي قد ارتفع طمعهنّ عن المحيض، فلا يرجون أن يحضن من نسائكم إن ارتبتم.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (إِنِ ارْتَبْتُمْ) فقال بعضهم: معنى ذلك: إن ارتبتم بالدم الذي يظهر منها لكبرها، أمن الحيض هو، أم من الاستحاضة، فعِدَّتهنّ ثلاثة أشهر.
* ذكر من قال ذكر:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنِ ارْتَبْتُمْ) إن لم تعلموا التي قعدت عن الحيضة، والتي لم تحض، فعدتهنّ ثلاثة أشهر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ (إِنِ ارْتَبْتُمْ) قال: في كبرها أن يكون ذلك من الكبر، فإنها تعتدّ حين ترتاب ثلاثة أشهر؛ فأما إذا ارتفعت حيضة المرأة وهي شابة، فإنه يتأنى بها حتى ينظر حامل هي أم غير حامل؟ فإن استبان حملها، فأجلها أن تضع حملها، فإن لم يستبن حملها، فحتى يستبين بها، وأقصى ذلك سنة.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) قال: إن ارتبت أنها لا تحيض وقد ارتفعت حيضتها، أو ارتاب الرجال، أو قالت هي:(23/450)
تركتني الحيضة، فعدتهنّ ثلاثة أشهر إن ارتاب، فلو كان الحمل انتَظَرَ الحملَ حتى تنقضي تسعة أشهر، فخاف وارتاب هو، وهي أن تكون الحيضة قد انقطعت، فلا ينبغي لمسلمة أن تحبس، فاعتدت ثلاثة أشهر، وجعل الله جلّ ثناؤه أيضًا للتي لم تحض الصغيرة ثلاثة أشهر.
حدثنا ابن عبد الرحيم البَرْقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: أخبرنا أَبو معبد، قال: سُئل سليمان عن المرتابة، قال: هي المرتابة التي قد قعدت من الولد تطلق، فتحيض حيضة، فيأتي إبَّان حيضتها الثانية فلا تحيض؛ قال: تعتدّ حين ترتاب ثلاثة أشهر مستقبلة؛ قال: فإن حاضت حيضتين ثم جاء إبان الثالثة فلم تحض اعتدّت حين ترتاب ثلاثة أشهر مستقبلة، ولم يعتدّ بما مضى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن ارتبتم بحكمهنّ فلم تدروا ما الحكم في عدتهنّ، فإن عدتهنّ ثلاثة أشهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا مطرف، عن عمرو بن سالم، قال: "قال أبيّ بن كعب: يا رسول الله إن عددًا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار، وأولات الأحمال، فأنزل الله (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) .
وقال آخرون: معنى ذلك: إن ارتبتم مما يظهر منهنّ من الدم، فلم تدروا أدم حيض، أم دم مستحاضة من كبر كان ذلك أو علة؟
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، قال: إن من الريبة: المرأة المستحاضة، والتي لا يستقيم لها الحيض، تحيض في الشهر مرارًا، وفي الأشهر مرّة، فعدتها ثلاثة أشهر، وهو(23/451)
قول قتادة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: عُنِي بذلك: إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهنّ، وذلك أن معنى ذلك لو كان كما قاله من قال: إن ارتبتم بدمائهنّ فلم تدروا أدم حيض، أو استحاضة؟ لقيل: إن ارتبتنّ لأنهنّ إذا أشكل الدم عليهنّ فهنّ المرتابات بدماء أنفسهنّ لا غيرهنّ، وفي قوله: (إِنِ ارْتَبْتُمْ) وخطابه الرجال بذلك دون النساء الدليل الواضح على صحة ما قلنا من أن معناه: إن ارتبتم أيها الرجال بالحكم فيهنّ؛ وأخرى وهو أنه جلّ ثناؤه قال: (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) واليائسة من المحيض هي التي لا ترجو محيضًا للكبر، ومحال أن يقال: واللائي يئسن، ثم يقال: ارتبتم بيأسهنّ، لأن اليأس: هو انقطاع الرجاء والمرتاب بيأسها مرجوّ لها، وغير جائز ارتفاع الرجاء ووجوده في وقت واحد، فإذا كان الصواب من القول في ذلك ما قلنا، فبين أن تأويل الآية: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم بالحكم فيهنّ، وفي عِددهنّ، فلم تدروا ما هنّ، فإن حكم عددهنّ إذا طلقن، وهنّ ممن دخل بهنّ أزواجهنّ، فعدتهن ثلاثة أشهر (وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ) يقول: وكذلك عدد اللائي لم يحضن من الجواري لصغر إذا طلقهنّ أزواجهنّ بعد الدخول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله: (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) يقول: التي قد ارتفع حيضها، فعدتها ثلاثة أشهر (وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ) قال: الجواري.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) وهنّ اللواتي قعدن من المحيض فلا يحضن، واللائي لم يحضن هنّ الأبكار التي لم يحضن، فعدتهنّ ثلاثة أشهر.(23/452)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) ... الآية، قال: القواعد من النساء (وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ) : لم يبلغن المحيض، وقد مُسِسْن، عدتهنّ ثلاثة.
وقوله: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) في انقضاء عدتهنّ أن يضعن حملهنَّ، وذلك إجماع من جميع أهل العلم في المطلقة الحامل، فأما في المتوفى عنها ففيها اختلاف بين أهل العلم.
وقد ذكرنا اختلافهم فيما مضى من كتابنا هذا، وسنذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكره هنالك.
ذكر من قال: حكم قوله: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) عام في المطلَّقات والمتوفى عنهنّ.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثني ابن شبرمة الكوفي، عن إبراهيم، عن علقمة، عن قيس أن ابن مسعود قال: من شاء لاعنته، ما نزلت: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها، وإذا وضعت المتوفي عنها فقد حلت؛ يريد بآية المتوفي عنها (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا مالك، يعني ابن إسماعيل، عن ابن عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين عن أَبي عطية قال: سمعت ابن مسعود يقول: من شاء قاسمته نزلت سورة النساء القُصْرَي بعدها، يعني بعد أربعة أشهر وعشرًا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا أيوب، عن محمد، قال: لقيت أبا عطية مالك بن عامر، فسألته عن ذلك، يعني عن المتوفى عنها زوجها إذا وضعت قبل الأربعة أشهر والعشر، فأخذ يحدثني بحديث سُبيعة، قلت: لا هل سمعت من عبد الله في ذلك شيئًا؟ قال: نعم، ذكرت ذات يوم أو ذات ليلة عند عبد الله، فقال: أرأيت إن مضت الأربعة أشهر(23/453)
والعشر ولم تضع أقد أحلَّت؟ قالوا: لا قال: أفتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون لها الرخصة، فو الله لأنزلت النساء القُصْرَى بعد الطُّولَى.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، قال: قال الشعبيُّ: من شاء حالفته لأنزلت النساء القُصْرَى بعد الأربعة الأشهر والعشر التي في سورة البقرة.
حدثني أحمد بن منيع، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: ذكر عبد الله بن مسعود آخر الأجلين، فقال: من شاء قاسمته بالله أن هذه الآية التي أنزلت في النساء القُصْرَى نزلت بعد الأربعة الأشهر، ثم قال: أجل الحامل أن تضع ما في بطنها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مُغيرة، قال: قلت للشعبي: ما أصدّق أن عليًا رضي الله عنه كان يقول: آخر الأجلين أن لا تتزوّج المتوفى عنها زوحها حتى يمضي آخر الأجلين؛ قال الشعبيّ: بلى وصدق أشدّ ما صدّقت بشيء قط؛ وقال عليّ رضي الله عنه إنما قوله: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) المطلقات، ثم قال: إن عليًا رضي الله عنه وعبد الله كانا يقولان في الطلاق بحلول أجلها إذا وضعت حملها.
حدثنا أَبو كريب، قال: ثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن أُبيّ بن كعب، قال: لما نزلت هذه الآية: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) قال: قلت: يا رسول الله، المتوفى عنها زوجها والمطلقة، قال: "نَعَمْ".
حدثنا أَبو كُرَيب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، عن ابن عيينة، عن عبد الكريم بن أبي المخارق، يحدث عن أُبيّ بن كعب، قال: "سألت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) قال: أجَلُ كُلّ حامِل أن تضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا".
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله:(23/454)
(وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) قال: للمرأة الحُبلى التي يطلقها زوجها وهي حامل، فعدتها أن تضع حملها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فإذا وضعت ما في رحمها فقد انقضت عدتها، ليس المحيض من أمرها في شيء إذا كانت حاملا.
وقال آخرون: ذلك خاصّ في المطلقات، وأما المتوفى عنها فإن عدتها آخر الأجلين، وذلك قول مرويّ عن عليّ وابن عباس رضي الله عنهما.
وقد ذكرنا الرواية بذلك عنهما فيما مضى قبل.
والصواب من القول فى ذلك أنه عامّ في المطلقات والمتوفى عنهنّ، لأن الله جلّ وعزّ، عمّ بقوله بذلك فقال: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ولم يخصص بذلك الخبر عن مطلقة دون متوفى عنها، بل عمّ الخبر به عن جميع أولات الأحمال، إن ظنّ ظانّ أن قوله: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) في سياق الخبر عن أحكام المطلقات دون المتوفى عنهنّ، فهو بالخبر عن حكم المطلقة أولى بالخبر عنهنّ، وعن المتوفى عنهنّ، فإن الأمر بخلاف ما ظنّ، وذلك أن ذلك وإن كان في سياق الخبر عن أحكام المطلقات، فإنه منقطع عن الخبر عن أحكام المطلقات، بل هو خبر مبتدأ عن أحكام عدد جميع أولات الأحمال المطلقات منهنّ وغير المطلقات، ولا دلالة على أنه مراد به بعض الحوامل دون بعض من خبر ولا عقل، فهو على عمومه لما بيَّنا.
وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) يقول جلّ ثناؤه: ومن يخف الله فرهبه، فاجتنب معاصيه، وأدّى فرائضه، ولم يخالف إذنه في طلاق امرأته، فإنه يجعل الله له من طلاقه ذلك يسرًا، وهو أن يسهل عليه إن أراد الرخصة لاتباع نفسه إياها الرجعة ما دامت في عدتها وإن انقضت عدتها، ثم دعته نفسه إليها قدر على خطبتها.(23/455)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) }
يقول تعالى ذكره: هذا الذي بيَّنت لكم من حكم الطلاق والرجعة والعدّة، أمر الله الذي أمركم به، أنزله إليكم أيها الناس، لتأتمروا له، وتعملوا به.
وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) يقول: ومن يخف الله فيتقه باجتناب معاصيه، وأداء فرائضه، يمح الله عنه ذنوبه وسيئات أعماله (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) يقول: ويجزل له الثواب على عمله ذلك وتقواه، ومن إعظامه له الأجر عليه أن يدُخله جنته، فيخلده فيها.(23/456)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) }
يقول تعالى ذكره: اسكنوا مطلقات نسائكم من الموضع الذي سكنتم (مِنْ وُجْدِكُمْ) : يقول: من سعتكم التي تجدون؛ وإنما أمر الرجال أن يعطوهنّ مسكنًا يسكنه مما يجدونه، حتى يقضين عِددَهنّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني(23/456)
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) يقول: من سعتكم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) قال: من سعتكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) قال: من سعتكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) فإن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدّي، في قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) قال: المرأة يطلقها، فعليه أن يسكنها، وينفق عليها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول الله عزّ وجلّ: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) قال: من مقدرتك حيث تقدر، فإن كنت لا تجد شيئًا، وكنت في مسكن ليس لك، فجاء أمر أخرجك من المسكن، وليس لك مسكن تسكن فيه، وليس تجد فذاك، وإذا كان به قوّة على الكراء فذاك وجده، لا يخرجها من منزلها، وإذا لم يجد وقال صاحب المسكن: لا أنزل هذه في بيتي فلا وإذا كان يجد، كان ذلك عليه.
وقوله: (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)
يقول جلّ ثناؤه: ولا تضاروهنّ في المسكن الذي تسكنونهنّ فيه، وأنتم تجدون سعة من المنازل أن تطلبوا التضييق عليهنّ، فذلك قوله: (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) يعني: لتضيقوا عليهنّ في المسكن مع وجودكم السعة.(23/457)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) قال: في المسكن.
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) قال: من ملككم، من مقدرتكم.
وفي قوله: (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) قال: لتضيقوا عليهن مساكنهنّ حتى يخرجن.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان: (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) قال: ليس ينبغي له أن يضارّها ويضيق عليها مكانها (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) هذا لمن يملك الرجعة، ولمن لا يملك الرجعة.
وقوله: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) يقول تعالى ذكره: وإن كان نساؤكم المطلقات أولات حمل وكنّ بائنات منكم، فأنفقوا عليهنّ في عدتهنّ منكم حتى يضعن حملهنّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فهذه المرأة يطلقها زوجها، فيبتّ طلاقها وهي حامل، فيأمره الله أن يسكنها، وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت فحتى تفطم، وإن أبان طلاقها، وليس بها حبل، فلها السكنى حتى تنقضي عدتها ولا نفقة، وكذلك المرأة يموت عنها زوجها، فإن كانت حاملا أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث،(23/458)
وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها كما قال الله عزّ وجلّ (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِك) فإن لم تكن حاملا فإن نفقتها كانت من مالها.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) قال: ينفق على الحبلى إذا كانت حاملا حتى تضع حملها.
وقال آخرون: عُنِيَ بقوله: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) كلّ مطلقة، ملك زوجُها رجْعَتَهَا أو لم يملك.
وممن قال ذلك: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.
* ذكر الرواية عنهما بذلك:
حدثني أَبو السائب، قال: ثنا أَبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عمر وعبد الله يجعلان للمطلقة ثلاثًا: السكنى، والنفقة، والمتعة. وكان عمر إذا ذكر عنده حديث فاطمة بنت قيس أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أمرها أن تعتدّ في غير بيت زوجها، قال: ما كنا لنجيز في ديننا شهادة امرأة.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ، قال: ثنا يحيى بن إبراهيم، عن عيسى بن قرطاس، قال: سمعت عليّ بن الحسين يقول في المطلقة ثلاثًا: لها السكنى، والنفقة والمتعة، فإن خرجت من بيتها فلا سكنى ولا نفقة ولا متعة.
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: للمطلقة ثلاثًا: السكنى والنفقة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، قال: إذا طلق الرجل ثلاثًا، فإن لها السكنى والنفقة.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن لا نفقة للمبتوتة إلا أن تكون حاملا لأن الله جلّ ثناؤه جعل النفقة بقوله: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا(23/459)
عليهن) للحوامل دون غيرهنّ من البائنات من أزواجهن ولو كان البوائن من الحوامل وغير الحوامل في الواجب لهنّ من النفقة على أزواجهنّ سواء، لم يكن لخصوص أولات الأحمال بالذكر في هذا الموضع وجه مفهوم، إذ هنّ وغيرهنّ في ذلك سواء، وفي خصوصهن بالذكر دون غيرهنّ أدل الدليل على أن لا نفقة لبائن إلا أن تكون حاملا.
وبالذي قلنا في ذلك صحّ الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعيّ، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، قال: ثني أَبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس أن أبا عمرو المخزوميّ، طلقها ثلاثًا فأمر لها بنفقة فاستقلتها، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعثه نحو اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفر من بني مخزوم إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو عند ميمونة، فقال: يا رسول الله إن أبا عمرو طلق فاطمة ثلاثًا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ"، فأرسل إليها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن انتقلي إلى بيت أمّ شريك وأرسل إليها أن لا تسبقيني بنفسك، ثم أرسل إليها أنّ أمّ شريك يأتيها المهاجرون الأوّلون، فانتقلي إلى ابن أم مكتوم، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك، فزوّجها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أُسامة بن زيد.
وقوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) يقول جلّ ثناؤه: فإن أرضع لكم نساؤكم البوائن منكم أولادهنّ الأطفال منكم بأجرة، فآتوهنّ أجورهن على رضاعهنّ إياهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك أنه قال في الرضاع: إذا قام على شيء فأُمّ الصبيّ أحقّ به، فإن شاءت أرضعته،(23/460)
وإن شاءت تركته إلا أن لا يقبل من غيرها، فإذا كان كذلك أُجْبِرت على رضاعه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) هي أحقّ بولدها أن تأخذه بما كنت مسترضعًا به غيرَها.
حدثنا محمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) قال: ما تراضوا عليه (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في الصبيّ إذا قام على ثمن فأمه أحق أن ترضعه، فإن لم يجد له من يرضعه أجبرت الأم على الرضاع.
قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) قال: إن أرضعت لك بأحر فهي أحقّ من غيرها، وإن هي أبت أن ترضعه ولم تواتك فيما بينك وبينها عاسرتك في الأجر فاسترضع له أخرى.
وقوله: (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) يقول تعالى ذكره: وليقبل بعضكم أيها الناس من بعض ما أمركم بعضكم به بعضا من معروف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) قال: اصنعوا المعروف فيما بينكم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) حثّ بعضهم على بعض.
وقوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) يقول: وإن تعاسر الرجل والمرأة في رضاع ولدها منه، فامتنعت من رضاعه، فلا سبيل له عليها، وليس(23/461)
له إكراهها على إرضاعه، ولكنه يستأجر للصبيّ مرضعة غير أمه البائنة منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) قال: إن أبت الأم أن ترضع ولدها إذا طلقها أبوه التمس له مرضعة أخرى، الأمّ أحق إذا رضيت من أجر الرضاع بما يرضى به غيرها، فلا ينبغي له أن ينتزع منها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: إن هي أبت أن ترضعه ولم تواتك فيما بينها وبينك عاسرتك في الأجر، فاسترضع له أخرى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قول الله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) قال: فرض لها من قدر ما يجد، فقالت: لا أرضى هذا؛ قال: وهذا بعد الفراق، فأما وهي زوجته فإنها ترضع له طائعة ومكرهة إن شاءت وإن أبت، فقال لها: ليس لي زيادة على هذا إن أحببت أن ترضعي بهذا فأرضعي، وإن كرهت استرضعت ولدي، فهذا قوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) .
وقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) يقول تعالى ذكره: لينفق الذي بانت منه امرأته إذا كان ذا سعة من المال، وغني من سعة ماله وغناه على امرأته البائنة في أجر رضاع ولده منها، وعلى ولده الصغير (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) يقول: ومن ضيق عليه رزقه فلم يوسع عليه، فلينفق مما أعطاه الله على قدر ماله، وما أعطى منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/462)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) قال: من سعة موجده، قال: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) قال: من قتر عليه رزقه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) يقول: من طاقته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) قال: فرض لها من قدر ما يجد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثني ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) قال: على المطلقة إذا أرضعت له.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أَبي سنان، قال: سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن أَبي عُبيدة، فقيل له: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع إذا هو أخذها، فما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاء الرسول فأخبره، فقال رحمه الله: تأول هذه الآية (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) .
وقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا)
يقول: لا يكلف الله أحدًا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم إلا ما أعطاه، إن كان ذا سعة فمن سعته، وإن كان مقدورًا عن رزقه فمما رزقه الله على قدر طاقته، لا يُكلف الفقير نفقة الغنيّ، ولا أحد من خلقه إلا فرضه الذي أوجبه عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/463)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) قال: يقول: لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغنيّ.
حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، قال: ثنا سفيان، عن هشيم (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) قال: إلا ما افترض عليها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) يقول: إلا ما أطاقت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) قال: لا يكلفه الله أن يتصدّق وليس عنده ما يتصدّق به، ولا يكلفه الله أن يزكي وليس عنده ما يزكي.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) }
يقول تعالى ذكره: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ) للمقلّ من المال المقدور عليه رزقه (بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) يقول: من بعد شدّة رخاء، ومن بعد ضيق سعة، ومن بعد فقر غنى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ(23/464)
يُسْرًا) بعد الشدة الرخاء.
وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) يقول تعالى ذكره: وكأين من أهل قرية طغوا عن أمر ربهم وخالفوه، وعن أمر رسل ربهم، فتمادوا في طغيانهم وعتّوهم، ولجوا في كفرهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي، في قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) قال: غَيَّرت وَعَصَت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) قال: العتو هاهنا الكفر والمعصية، عتُوّا: كفرًا، وعتت عن أمر ربها: تركته ولم تقبله.
وقيل: إنهم كانوا قومًا خالفوا أمر ربهم في الطلاق، فتوعد الله بالخبر عنهم هذه الأمة أن يفعل بهم فعله بهم إن خالفوا أمره في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت عمر بن سليمان يقول في قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) قال: قرية عذّبت في الطلاق.
وقوله: (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) يقول: فحاسبناها على نعمتنا عندها وشكرها حسابًا شديدًا، يقول: حسابًا استقصينا فيه عليهم، لم نعف لهم فيه عن شيء، ولم نتجاوز فيه عنهم.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، قوله:(23/465)
(فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) قال: لم نعف عنها الحساب الشديد الذي ليس فيه من العفو شيء.
حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) يقول: لم نرحم.
وقوله: (وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) يقول: وعذبناها عذابًا عظيمًا منكرًا، وذلك عذاب جهنم.
وقوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) يقول: فذاقت هذه القرية التي عتت عن أمر ربها ورسله، عاقبة ما عملت وأتت من معاصي الله والكفر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) قال: عقوبة أمرها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) قال: ذاقت عاقبة ما عملت من الشرّ، الوبال: العاقبة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) يقول: عاقبة أمرها.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) قال: جزاء أمرها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) يعني بوبال أمرها: جزاء أمرها الذي قد حلّ.
وقوله: (وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) يقول تعالى ذكره: وكان الذي أعقب(23/466)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
أمرهم، وذلك كفرهم بالله وعصيانهم إياه خسرًا: يعني غَبْنا، لأنهم باعوا نعيم الآخرة بخسيس من الدنيا قليل، وآثروا اتباع أهوائهم على اتباع أمر الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ}
يقول تعالى ذكره: أعد الله لهؤلاء القوم الذين عتوا عن أمر ربهم ورسله عذابًا شديدًا، وذلك عذاب النار الذي أعدّه لهم في القيامة (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الألْبَابِ) يقول تعالى ذكره: فخافوا الله، واحذروا سخطه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه يا أولي العقول.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الألْبَابِ) قال: يا أولي العقول.
وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يقول: الذين صدقوا الله ورسله.
وقوله: (قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولا) اختلف أهل التأويل في المعني بالذكر والرسول في هذا الموضع، فقال بعضهم: الذكر هو القرآن، والرسول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولا) قال: الذكر: القرآن، والرسول: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله عزّ وجلّ: (قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) قال: القرآن روح من الله، وقرأ: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) إلى آخر الآية، وقرأ: (قَدْ أَنزلَ اللَّهُ(23/467)
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولا) قال: القرآن، وقرأ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) قال: بالقرآن، وقرأ (إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ) قال: القرآن، قال: وهو الذكر، وهو الروح.
وقال آخرون: الذكر: هو الرسول.
والصواب من القول في ذلك أن الرسول ترجمة عن الذكر، ذلك نصب لأنه مردود عليه على البيان عنه والترجمة.
فتأويل الكلام إذن: قد أنزل الله إليكم يا أولي الألباب ذكرًا من الله لكم يذكركم به، وينبهكم على حظكم من الإيمان بالله، والعمل بطاعته، رسولا يتلو عليكم آيات الله التي أنزلها عليه (مُبَيِّنَاتٍ) يقول: مبينات لمن سمعها وتدبرها أنها من عند الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) }
يقول تعالى ذكره: قد أنزل الله إليكم أيها الناس ذكرًا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات، كي يخرج الذين صدّقوا الله ورسوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: وعملوا بما أمرهم الله به وأطاعوه (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) يعني من الكفر وهي الظلمات، إلى النور يعني إلى الإيمان.
وقوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا) يقول: ومن يصدّق بالله ويعمل بطاعته (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول: يُدخله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يقول: ماكثين مقيمين في البساتين التي تجري من تحتها الأنهار أبدًا، لا يموتون، ولا يخرجون منها أبدًا.(23/468)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
وقوله: (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) يقول: قد وسع الله له في الجنات رزقًا، يعني بالرزق: ما رزقه فيها من المطاعم والمشارب، وسائر ما أعدّ لأوليائه فيها، فطيبه لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) }
يقول تعالى ذكره: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) لا ما يعبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تقدر على خلق شيء.
وقوله: (وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) يقول: وخلق من الأرض مثلهنّ لما في كلّ واحدة منهنّ مثل ما في السموات من الخلق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عمرو بن عليّ ومحمد بن المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أَبي الضحى، عن ابن عباس، قال في هذه الآية: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) قال عمرو: قال: في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق. وقال ابن المثنى: في كلّ سماء إبراهيم.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.
حدثنا أَبو كُرَيب، قال: ثنا أَبو بكر، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله، قال: خلق الله سبع سموات غلظ كلّ واحدة مسيرة خمس مئة عام، وبين كلّ واحدة منهنّ خمس مئة عام، وفوق السبع السموات الماء، والله جلّ(23/469)
ثناؤه فوق الماء، لا يخفى عليه شيئ من أعمال بني آدم. والأرض سبع، بين كلّ أرضين خمس مئة عام، وغلظ كلّ أرض خمس مئَة عام.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القُمي الأشعري، عن جعفر بن أبي المُغيرة الخزاعي، عن سعيد بن جبَير، قال: قال رجل لابن عباس (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) ... الآية، فقال ابن عباس: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر.
قال: ثنا عباس، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد، قال: هذه الأرض إلى تلك مثل الفسطاط ضربته في فلاة، وهذه السماء إلى تلك السماء، مثل حلقة رميت بها في أرض فلاة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أَبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: السماء أوّلها موج مكفوف؛ والثانية صخرة؛ والثالثة حديد؛ والرابعة نحاس؛ والخامسة فضة؛ والسادسة ذهب، والسابعة ياقوتة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا جرير بن حازم، قال: ثني حميد بن قيس، عن مجاهد، قال: هذا البيت الكعبة رابع أربعة عشر بيتًا في كل سماء بيت، كل بيت منها حذو صاحبه، لو وقع وقع عليه، وإن هذا الحرم حرمي بناؤه من السموات السبع والأرضين السبع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) خلق سبع سموات وسبع أرضين في كل سماء من سمائه، وأرض من أرضه، خلق من خلقه وأمر من أمره، وقضاء من قضائه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: بينا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جالس مرّة مع أصحابه، إذ مرّت سحابة، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم "أتدرون ما هَذَا؟ هَذِهِ العنَانُ، هَذِهِ رَوَايَا الأرْضِ يَسوُقُهَا اللهُ إلَى قَوْمٍ لا يَعْبُدُونَهُ"؛ قال: "أَتدْرُونَ مَا هَذِهِ السَّمَاءُ؟(23/470)
" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هَذِهِ السَّمَاءُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ، وَسَقْفٌ مَحْفُوظٌ"؛ ثُم قال: "أَتَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فَوْقَ ذَلك سَمَاءٌ أُخْرَى"، حتى عدّ سبع سموات وهو يقول: "أَتَدْرُونَ مَا بَيْنَهُمَا؟ خَمْس مِئَةِ سَنَةَ"؛ ثم قال: "أَتَدْرُونَ مَا فَوْق ذَلك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشُ"، قال: "أتدرون ما بينهما؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "بَينَهُمَا خَمْسُ مِائَةِ سَنَةٍ"؛ ثُمَّ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا هذِهِ الأرْضُ؟ قالوا: الله وَرَسولُهُ أَعلم، قَالَ: "تَحْتَ ذِلكَ أَرْضٌ"، قال: أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالُوا: الله وَرسوله أَعلم. قال: "بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ، حتى عدّ سبع أرضين، ثم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دُلِي رَجُلٌ بِحَبْلٍ حَتى يَبْلُغَ أَسْفَلَ الأرْضِينَ السَّابِعَةِ لَهَبَطَ عَلَى اللهِ"؛ ثُم قَال: (هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: "التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض، فقال بعضهم لبعض: من أين جئت؟ قال أحدهم: أرْسلني ربي من السماء السابعة، وتركته؛ ثمَّ، قال الآخر: أرسلني ربي من الأرض السابعة وتركته؛ ثمَّ، قال الآخر: أرسلني ربي من المشرق وتركته؛ ثمَّ، قال الآخر: أرسلني ربي من المغرب وتركته ثمَّ".
وقوله: (يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ) يقول تعالى ذكره: يتنزل أمر الله بين السماء السابعة والأرض السابعة.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعًا عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ) قال: بين الأرض السابعة إلى السماء السابعة.
وقوله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول تعالى ذكره: ينزل قضاء الله وأمره بين ذلك كي تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه، وأنه لا(23/471)
يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه أمر شاءه؛ ولكنه على ما يشاء قدير، (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) يقول جلّ ثناؤه: ولتعلموا أيها الناس أن الله بكل شيء من خلقه محيط علمًا، لا يعزُب عنه مثقالُ ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر: يقول جلّ ثناؤه فحافوا أيها الناس المخالفون أمر ربكم عقوبته، فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو على ذلك قادر، ومحيط أيضًا بأعمالكم، فلا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم، ليجازيكم بها، يوم تجزى كلّ نفس ما كسبت.
آخر تفسير سورة الطلاق(23/472)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
تفسير سورة التحريم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا أيها النبيّ المحرّم على نفسه ما أحلّ الله له، يبتغي بذلك مرضاة أزواجه، لم تحرّم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة أزواجك.
واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جلّ ثناؤه أحله لرسوله، فحرّمه على نفسه ابتغاء مرضاة أزواجه، فقال بعضهم: كان ذلك مارية مملوكته القبطية، حرمها على نفسه بيمين أنه لا يقربها طلبًا بذلك رضا حفصة بنت عمر زوجته، لأنها كانت غارت بأن خلا بها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في يومها وفي حجرتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثني ابن أَبي مريم، قال: ثنا أَبو غسان، قال: ثني زيد بن أسلم أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أصاب أمَّ إبراهيم في بيت بعض نسائه؛ قال: فقالت: أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي، فجعلها عليه حراما؛ فقالت: يا رسول الله كيف تحرّم عليك الحلال؟ ، فحلف لها بالله ألا يصيبها، فأنزل الله عزّ وجل (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) قال زيد: فقوله أنت عليّ حرام لغو.
حدثني يعقوب، قال: ثني ابن علية، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن(23/475)
الشعبيّ، قال: قال مسروق إن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حرّم جاريته، وآلى منها، فجعل الحلال حرامًا، وقال في اليمين: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سفيان، عن داود، عن الشعبيّ، عن مسروق، قال: آلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وحرّم، فعوتب في التحريم، وأمر بالكفارة في اليمين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، قال لها: أنت عليّ حرام، ووالله لا أطؤك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) قال: كان الشعبي يقول: حرّمها عليه، وحلف لا يقربها، فعوتب في التحريم، وجاءت الكفارة في اليمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة وعامر الشعبيّ، أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حرم جاريته. قال الشعبيّ: حلف بيمين مع التحريم، فعاتبه الله في التحريم، وجعل له كفارة اليمين.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) قال: إنه وَجَدَتِ امرأة من نساء رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مع جاريته في بيتها، فقالت: يا رسول الله أنى كان هذا الأمر، وكنت أهونهنّ عليك؟ فقال لها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "اسكُتِي لا تَذْكُرِي هَذَا لأحدٍ، هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ قَرُبْتُهَا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا"، فقالت: يا رسول الله وكيف تحرّم عليك ما أحلّ الله لك حين تقول: هي عليّ حرام أبدًا؟ فقال: والله لا آتيها أَبدًا فقال الله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ... الآية، قد غفرت هذا لك، وقولك والله (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) .(23/476)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) كانت لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فتاة، فغشيها، فبصُرت به حفصة، وكان اليومُ يوم عائشة، وكانتا متظاهرتين، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "اكْتُمي عَلَيَّ وَلا تَذْكُرِي لِعَائِشَةَ مَا رَأَيْتِ"، فذكرت حفصة لعائشة، فغضبت عائشة، فلم تزل بنبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى حلف أن لا يقربها أبدًا، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يكفر يمينه، ويأتي جاريته.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عامر، في قول الله (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) في جارية أتاها، فأطلعت عليه حفصة، فقال: هي عليّ حرام، فاكتمي ذلك، ولا تخبري به أحدًا فذكرت ذلك.
وقال آخرون: بل حرم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جاريته، فجعل الله عزّ وجلّ تحريمه إياها بمنزلة اليمين، فأوجب فيها من الكفارة مثل ما أوجب في اليمين إذا حنث فيها صاحبها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) أمر الله النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمؤمنين إذا حرموا شيئًا مما أحلّ الله لهم أن يكفروا أيمانهم بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وليس يدخل ذلك في طلاق.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ... إلى قوله: (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) قال: كانت حفصة وعائشة متحابتين وكانتا زوجتي النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذهبت حفصة إلى أبيها، فتحدثت عنده، فأرسل النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة، فوجدتهما(23/477)
في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جاريته، ودخلت حفصة فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله لقد سُؤْتَنِي، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "واللهِ لأرْضِيَنَّكِ فَإنّي مُسِرّ إلَيْكِ سِرًا فَاحْفَظِيهِ"؛ قالت: ما هو؟ قال: "إنّي أُشْهِدُك أنَّ سُرِّيَّتَي هَذِهِ عَلَىَّ حَرَامٌ رِضًا لَكِ"، كانت حفصة وعائشة تظاهران على نساء النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فانطلقت حفصة إلى عائشة، فأسرّت إليها أن أبشري إن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قد حرّم عليه فتاته، فلما أخبرت بسرّ النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أظهر الله عزّ وجلّ النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) ... إلى قوله: (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا هشام الدستوائي، قال: كتب إليّ يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جُبير، أن ابن عباس كان يقول: في الحرام يمين تكفرها. وقال ابن عباس: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) يعني أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حرّم جاريته، فقال الله جلّ ثناؤه: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ... إلى قوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) فكفر يمينه، فصير الحرام يمينًا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: أنبأنا أَبو عثمان أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دخل بيت حفصة، فإذا هي ليست ثَمَّ، فجاءته فتاته، وألقى عليها سترًا، فجاءت حفصة فقعدت على الباب حتى قضى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حاجته، فقالت: والله لقد سوتني، جامعتها في بيتي، أو كما قالت؛ قال: وحرّمها النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أو كما قال.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ... الآية، قال: كان حرم فتاته القبطية أمَّ ولده(23/478)
إبراهيم يقال لها مارية في يوم حفصة، وأسرّ ذلك إليها، فأطلعت عليه عائشة، وكانتا تظاهران على نساء النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأحلّ الله له ما حرَّم على نفسه، فأُمر أن يكفر عن يمينه، وعوتب في ذلك، فقال: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) قال قتادة: وكان الحسن يقول حرّمها عليه، فجعل الله فيها كفارة يمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور عن معمر، عن قتادة، أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حرّمها يعني جاريته، فكانت يمينًا.
حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثنا أبي، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: "قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: من المرأتان؟ قال: عائشة، وحفصة. وكان بدء الحديث في شأن أمِّ إبراهيم القبطية، أصابها النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في بيت حفصة في يومها، فوجدته حفصة، فقالت: يا نبيّ الله لقد جئت إليّ شيئًا ما جئتَ إلى أحد من أزواجك بمثله في يومي وفي دوري، وعلى فراشى، قال: "ألا تَرْضينَ أَنْ أُحَرّمهَا فَلا أَقْرَبَهَا؟ " قالت: بلى، فحرّمها، وقال: لا تَذْكُرِي ذَلِكَ لأحَدٍ"، فذكرته لعائشة، فأظهره الله عزّ وجلّ عليه، فأنزل الله (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) ... الآيات كلها، فبلغنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كفر يمينه، وأصاب جاريته".
وقال آخرون: كان ذلك شرابًا يشربه، كان يعجبه ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أَبو داود، قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد، قال: نزلت هذه الآية في شراب (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أَبو قَطن البغدادي عمرو بن الهيثم، قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن عبد الله بن شدّاد مثله.(23/479)
قال: ثنا أَبو قطن، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن ابن أَبي مليكة، قال: نزلت في شراب.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرّمه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على نفسه شيئًا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون كان شرابًا من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك، غير أنه أيّ ذلك كان، فإنه كان تحريم شيئ كان له حلالا فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله، وبين له تحلة يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه.
فإن قائل قائل: وما برهانك على أنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان حلف مع تحريمه ما حرم، فقد علمت قول من قال: لم يكن من النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في ذلك غير التحريم، وأن التحريم هو اليمين؟ قيل: البرهان على ذلك واضح، وهو أنه لا يعقل في لغة عربية ولا عجمية أن قول القائل لجاريته، أو لطعام أو شراب، هذا عليّ حرام يمين، فإذا كان ذلك غير معقول، فمعلوم أن اليمين غير قول القائل للشيء الحلال له: هو عليّ حرام. وإذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلنا، وفسد ما خالفه. وبعد، فجائز أن يكون تحريم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما حرم على نفسه من الحلال الذي كان الله تعالى ذكره، أحله له بيمين، فيكون قوله: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ) معنا: لم تحلف على الشيء الذي قد أحله الله أن لا تقربه، فتحرّمه على نفسك باليمين.
وإنما قلنا: إن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حرم ذلك، وحلف مع تحريمه، كما حدثني الحسن بن قزعة، قال: ثنا مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن عائشة قالت: آلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وحرم، فأُمِر في الإيلاء بكفارة، وقيل له في التحريم (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) .
وقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: والله غفور يا محمد(23/480)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
لذنوب التائبين من عباده من ذنوبهم، وقد غفر لك تحريمك على نفسك ما أحله الله لك، رحيم بعباده أن يعاقبهم على ما قد تابوا منه من الذنوب بعد التوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) }
يقول تعالى ذكره: قد بين الله عزّ وجلّ لكم تحلة أيمانكم، وحدّها لكم أيها الناس (وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ) يتولاكم بنصره أيها المؤمنون (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بمصالحكم (الْحَكِيمُ) في تدبيره إياكم، وصرفكم فيما هو أعلم به.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) }
يقول تعالى ذكره: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ) محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) ، وهو في قول ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن بن زيد والشعبي والضَّحاك بن مزاحم: حَفْصةُ. وقد ذكرنا الرواية في ذلك قبل.
وقوله: (حَدِيثًا) والحديث الذي أسرّ إليها في قول هؤلاء هو قوله لمن أسرّ إليه ذلك من أزواجه تحريم فتاته، أو ما حرّم على نفسه مما كان الله جلّ ثناؤه قد أحله له، وحلفه على ذلك وقوله: "لا تذكري ذلك لأحد".
وقوله: (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) يقول تعالى ذكره: فلما أخبرت بالحديث الذي أسرّ إليها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم صاحبتها (وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) يقول:(23/481)
وأظهر الله نبيه محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أنها قد أنبأت بذلك صاحبتها.
وقوله: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار غير الكسائي (عَرَّفَ) بتشديد الراء، بمعنى: عرف النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حفصة بعض ذلك الحديث وأخبرها به، وكان الكسائيّ يذكر عن الحسن البصريّ وأبي عبد الرحمن السلمي وقتادة، أنهم قرءوا ذلك (عَرَفَ) بتخفيف الراء، بمعنى: عرف لحفصة بعض ذلك الفعل الذي فعلته من إفشائها سرّه، وقد استكتمها إياه: أي غضب من ذلك عليها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وجازاها عليه؛ من قول القائل لمن أساء إليه: لأعرفنّ لك يا فلان ما فعلت، بمعنى: لأجازينك عليه؛ قالوا: وجازاها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على ذلك من فعلها بأن طلقها.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه (عَرَّفَ بَعْضَهُ) بتشديد الراء، بمعنى: عرّف النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حفصة، يعني ما أظهره الله عليه من حديثها صاحبتها لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) يقول: وترك أن يخبرها ببعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) قوله لها: لا تذكريه (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) وكان كريمًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله: (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ) يقول: فلما خبر حفصة نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بما أظهره الله عليه من إفشائها سرّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى عائشة (قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا) يقول: قالت حفصةُ لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ(23/482)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
وَسَلَّم: من أنبأك هذا الخبر وأخبرك به (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) يقول تعالى ذكره: قال محمد نبيّ الله لحفصة: خبرني به العليم بسرائر عباده، وضمائر قلوبهم، الخبير بأمورهم، الذي لا يخفى عنه شيء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا) ولم تشكّ أن صاحبتها أخبرت عنها (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) }
يقول تعالى ذكره: إن تتوبا إلى الله أيتها المرأتان فقد مالت قلوبكما إلى محبة ما كرهه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من اجتنابه جاريته، وتحريمها على نفسه، أو تحريم ما كان له حلالا مما حرّمه على نفسه بسبب حفصة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) يقول: زاغت قلوبكما، يقول: قد أثمت قلوبكما.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مجاهد، قال: كنا نرى أن قوله: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) شيء(23/483)
هين، حتى سمعت قراءة ابن مسعود (إن تَتُوبَا إِلى اللهِ فَقَدْ زَاغَتْ قُلُوبُكُمُا) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) : أي مالت قلوبكما.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن قتادة (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) مالت قلوبكما.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) يقول: زاغت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) قال: زاغت قلوبكما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد، قال الله عزّ وجلّ: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) قال: سرهما أن يجتنب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جاريته، وذلك لهما موافق (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) إلى أن سرّهما ما كره رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) يقول تعالى ذكره للتي أسرّ إليها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حديثه، والتي أفشت إليها حديثه، وهما عائشة وحفصة رضي الله عنهما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، اللتين قال الله جلّ ثناؤه: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) قال: فحجّ عمر، وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر، وعدلت معه بإداوة، ثم(23/484)
أتاني فسكبت على يده وتوضأ فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم اللتان قال الله لهما (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) قال عمر: واعجباً لك يا بن عباس، قال الزهري: وكره والله ما سأله ولم يكتم، قال: هي حفصة وعائشة؛ قال: ثم أخذ يسوق الحديث، فقال: كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة، ثم ذكر الحديث بطوله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن أشهب، عن مالك، عن أَبي النضر، عن عليّ بن حسين، عن ابن عباس، أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المتظاهرتين على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: عائشة وحفصة.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد بن حنين أنه سمع ابن عباس يقول: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن المتظاهرتين، فما أجد له موضعًا أسأله فيه، حتى خرج حاجا، وصحبته حتى إذا كان بمرّ الظَّهران ذهب لحاجته، وقال: أدركني بإداوة من ماء؛ فلما قضى حاجته ورجع، أتيته بالإداوة أصبها عليه، فرأيت موضعًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان المتظاهرتان على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ فما قضيت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة رضي الله عنهما.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا عمر بن يونس، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: ثنا سماك أَبو زميل، قال: ثني عبد الله بن عباس، قال: ثني عمر بن الخطاب، قال: لما اعتزل نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نساءه، دخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله ما شقّ عليك من شأن النساء، فلئن كنت طلقتهنّ فإن الله معك وملائكته، وجبرائيل وميكائيل، وأنا وأَبو بكر معك، وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام، إلا رجوت أن يكون الله مصدّق قولي، فنزلت هذه الآية، آية التخيير: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ(23/485)
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) ، (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ... الآية، وكانت عائشة ابنة أَبي بكر وحفصة تتظاهران على سائر نساء النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) يقول: على معصية النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأذاه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، قال ابن عباس لعمر: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسالك عن أمر وإني لأهابك، قال: لا تهبني، فقال: من اللتان تظاهرتا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ قال: عائشة وحفصة.
وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) يقول: فإن الله هو وليه وناصره، وصالح المؤمنين، وخيار المؤمنين أيضًا مولاه وناصره.
وقيل: عني بصالح المؤمنين في هذا الموضع: أَبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن عبد الوهاب، عن مجاهد، في قوله: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال: أَبو بكر وعمر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك، في قوله: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال: خيار المؤمنين أَبو بكر الصدّيق وعمر.
حدثنا إسحاق بن إسرائيل، قال: ثنا الفضل بن موسى السيناني - من قرية بمرو يقال لها سينان - عن عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال: أَبو بكر وعمر.(23/486)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) يقول: خيار المؤمنين.
وقال آخرون: عُنِي بصالح المؤمنين: الأنبياء صلوات الله عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال: هم الأنبياء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال: هم الأنبياء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال الأنبياء.
والصواب من القول في ذلك عندي: أن قوله: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى الجميع، وهو بمعنى قوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) فالإنسان وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى الجميع، وهو نظير قول الرجل: لا تقْريَنّ إلا قارئ القرآن، يقال: قارئ القرآن، وإن كان في اللفظ واحدًا، فمعناه الجمع، لأنه قد أذن لكل قارئ القرآن أن يقريه، واحدًا كان أو جماعة.
وقوله: (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) يقول: والملائكة مع جبريل وصالح المؤمنين لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أعوان على من أذاه، وأراد مساءته. والظهير في هذا الموضع بلفظ واحد في معنى جمع. ولو أخرج بلفظ الجميع لقيل: والملائكة بعد ذلك ظهراء.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال: وبدأ بصالح المؤمنين ها هنا قبل الملائكة، قال: (وَالْمَلائِكَةُ(23/487)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) }
يقول تعالى ذكره: عسى ربّ محمد إن طلقكنّ يا معشر أزواج محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يبدله منكنّ أزواجًا خيرًا منكن.
وقيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحذيرًا من الله نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أَبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا ثنا هشيم، قال: أخبرنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اجتمع على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نساؤه في الغيرة فقلت لهنّ: عسى ربه إن طلقهن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكنّ، قال: فنزل كذلك.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن حميد، عن أنس، عن عمر، قال: بلغني عن بعض أمهاتنا، أمهات المؤمنين شدّة على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأذاهنّ إياه، فاستقريتهنّ امرأة امرأة، أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأقول: إن أبيتنّ أبدله الله خيرًا منكنّ، حتى أتيت، حسبت أنه قال على زينب، فقالت: يا ابن الخطاب، أما في رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت؟ فأمسكت، فأنزل الله (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أَبي عديّ، عن حميد، عن أنس، قال: قال عمر بن الخطاب: بلغني عن أمهات المؤمنين شيء، فاستقريتهن أقول:(23/488)
لتكففن عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكنّ، حتى أتيت على إحدى أمهات المؤمنين، فقالت: يا عمر أما في رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت؟ فكففت، فأنزل الله (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ) ... الآية.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (أَنْ يُبْدِلَهُ) فقرأ ذلك بعض قرّاء مكة والمدينة والبصرة بتشديد الدال: "يبدِّله أزواجا" من التبديل.وقرأه عامة قرّاء الكوفة: (يُبْدِلَهُ) بتخفيف الدال من الإبدال.
والصواب من القول أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (مُسْلِمَاتٍ) يقول: خاضعات لله بالطاعة (مُؤْمِنَاتٍ) يعني مصدّقات بالله ورسوله.
وقوله: (قَانِتَاتٍ) يقول: مطيعات لله.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله (قَانِتَاتٍ) قال: مطيعات.
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (قَانِتَاتٌ) قال مطيعات.
وقوله: (تَائِبَاتٍ) يقول: راجعات إلى ما يحبه الله منهنّ من طاعته عما يكرهه منهنّ (عَابِدَاتٍ) يقول: متذللات لله بطاعته.
وقوله: (سَائِحَاتٍ) يقول: صائمات.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (سَائِحَاتٍ) فقال بعضهم: معنى ذلك: صائمات.(23/489)
* ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (سَائِحَاتٍ) قال: صائمات.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (سَائِحَاتٍ) قال: صائمات.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: السائحات الصائمات.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (سَائِحَاتٍ) يعني: صائمات.
وقال آخرون: السائحات: المهاجرات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد الدراورديّ، عن زيد بن أسلم، قال: السائحات: المهاجرات.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (سَائِحَاتٍ) قال: مهاجرات ليس في القرآن، ولا في أمة محمد سياحة إلا الهجرة، وهي التي قال الله (السَّائِحُونَ) .
وقد بيَّنا الصواب من القول في معنى السائحين فيما مضى قبل بشواهده مع ذكرنا أقوال المختلفين فيه، وكرهنا إعادته.
وكان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سمي سائحًا، لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام، فكأنه أُخذ من ذلك.
وقوله: (ثَيِّبَاتٍ) وهن اللواتي قد افترعن وذهبت عذرتهنّ (وَأَبْكَارًا) وهنّ اللواتي لم يجامعن، ولم يفترعن.(23/490)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله (قُوا أَنْفُسَكُمْ) يقول: علموا بعضكم بعضا ما تقون به من تعلمونه النار، وتدفعونها عنه إذا عمل به من طاعة الله، واعملوا بطاعة الله.
وقوله: (وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) يقول: وعلموا أهليكم من العمل بطاعة الله ما يقون به. أنفسهم من النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن رجل، عن عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه في قوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) قال: علِّموهم، وأدّبوهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن رجل، عن عليّ (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) يقول: أدّبوهم، علموهم
حدثني الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا سعيد بن خثيم، عن محمد بن خالد الضبيِّ، عن الحكم، عن عليّ بمثله.
حدثني عليّ، قال: ثنا أَبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) يقول: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهليكم بالذكر ينْجيكم الله من النار.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أَبي نجيح،(23/491)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
عن مجاهد، في قول الله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) قال: اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) قال: قال يقيهم أن يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليه بأمر الله يأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها، وزجرتهم عنها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) قال: مروهم بطاعة الله، وأنهوهم عن معصيته.
وقوله: (وَقُودُهَا النَّاسُ) يقول: حطبها الذي يوقد على هذه النار بنو آدم وحجارة الكبريت.
وقوله: (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ) يقول: على هذه النار ملائكة من ملائكة الله، غلاظ على أهل النار، شداد عليهم (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) يقول: لا يخالفون الله في أمره الذي يأمرهم به (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) يقول: وينتهون إلى ما يأمرهم به ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله يوم القيامة للذين جحدوا وحدانيته في الدنيا (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا) الله (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول: يقال لهم: إنما تثابون اليوم، وذلك يوم القيامة، وتعطون جزاء أعمالكم التي كنتم في الدنيا تعملون، فلا تطلبوا المعاذير منها.(23/492)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ) يقول: ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة الله، وإلى ما يرضيه عنكم (تَوْبَةً نَصُوحًا) يقول: رجوعا لا تعودون فيها أبدا.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: (نَصُوحًا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السَّريّ، قال: ثنا أَبو الأحوص، عن سماك، عن النعمان بن بشير، قال: سُئل عمر عن التوبة النصوح، قال: التوبة النصوح: أن يتوب الرجل من العمل السيئ، ثم لا يعود إليه أبدًا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير، عن عمر، قال: التوبة النصوح: أن تتوب من الذنب ثم لا تعود فيه، أو لا تريد أن تعود.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت النعمان بن بشير يخطب، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) قال: يذنب الذنب ثم لا يرجع فيه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير، قال: سألت عمر عن قوله: (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً(23/493)
نَصُوحًا) قال: هو العبد يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه أبدًا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: التوبة النصوح، أن يتوب من الذنب فلا يعود.
حدثنا به ابن حميد مرّة أخرى، قال: أخبرني عن عمر بهذا الإسناد، فقال: التوبة النصوح: الذي يذنب ثم لا يريد أن يعود.
حدثني أَبو السائب، قال: ثنا أَبو معاوية، عن الأعمش، عن أَبي إسحاق، عن أَبي الأحوص، عن عبد الله (تَوْبَةً نَصُوحًا) قال: يتوب ثم لا يعود.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أَبي إسحاق، عن أَبي الأحوص، عن عبد الله قال: التوبة النصوح: الرجل يذنب الذنب ثم لا يعود فيه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) أن لا يعود صاحبها لذلك الذنب الذي يتوب منه، ويقال: توبته أن لا يرجع إلى ذنب تركه.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثني الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تَوْبَةً نَصُوحًا) قال: يستغفرون ثم لا يعودون.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوديّ، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: (تَوْبَةً نَصُوحًا) قال: النصوح. أن تحول عن الذنب ثم لا تعود له أبدًا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ(23/494)
آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) قال: هي الصادقة الناصحة.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله. (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) قال: التوبة النصوح الصادقة، يعلم أنها صدق ندامة على خطيئته، وحبّ الرجوع إلى طاعته، فهذا النصوح.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا عاصم (نَصُوحًا) بفتح النون على أنه من نعت التوبة وصفتها، وذُكر عن عاصم أنه قرأه (نُصْوحًا) بضمّ النون، بمعنى المصدر من قولهم: نصح فلان لفلان نُصُوحًا.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بفتح النون على الصفة للتوبة لإجماع الحجة على ذلك.
وقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) يقول: عسى ربكم أيها المؤمنون أن يمحو سيئات أعمالكم التي سلفت منكم (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول: وأن يدخلكم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) يقول: يسعى نورهم أمامهم (وَبِأَيْمَانِهِمْ) يقول: وبأيمانهم كتابهم.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ... إلى قوله: (وَبِأَيْمَانِهِمْ) يأخذون كتابهم فيه البشرى (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لِنَا) يقول جلّ ثناؤه مخبرًا عن قيل المؤمنين يوم القيامة: يقولون ربنا أتمم لنا نورنا، يسألون ربهم أن يبقي لهم نورهم، فلا يطفئه حتى يجوزوا الصراط، وذلك حين يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/495)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) قال: قول المؤمنين حين يُطفأ نور المنافقين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عاصم، عن الحسن، قال: ليس أحد إلا يعطى نورًا يوم القيامة، يعطى المؤمن والمنافق، فيطفأ نور المنافق، فيخشى المؤمن أن يطفأ نوره، فذلك قوله: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن يزيد بن شجرة، قال: كان يذكرنا ويبكي، ويصدّق قوله فعله، يقول: يا أيها الناس إنكم مكتوبون عند الله عزّ وجلّ بأسمائكم وسيماكم، ومجالسكم ونجواكم وخلاتكم، فإذا كان يومُ القيامة قيل: يا فلانُ ابْنَ فلان هاكَ نورَك، ويا فلانُ ابْنَ فلان، لا نور لك.
وقوله: (وَاغْفِرْ لَنَا) يقول: واستر علينا ذنوبنا، ولا تفضحنا بها بعقوبتك إيانا عليها (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: إنك على إتمام نورنا لنا، وغفران ذنوبنا، وغير ذلك من الأشياء ذو قدرة.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنَافِقِينَ) بالوعيد واللسان.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا(23/496)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
سعيد، عن قتادة، قوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) قال: أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجاهد الكفار بالسيف، ويغلظ على المنافقين بالحدود (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) يقول: وأشدد عليهم في ذات الله (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) يقول: ومكثهم جهنم، ومصيرهم الذي يصيرون إليه نار جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قال: وبئس الموضع الذي يصيرون إليه جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) }
يقول تعالى ذكره: مَثَّل الله مثلا للذين كفروا من الناس وسائر الخلق امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا، وهما نوح ولوط فخانتاهما.
ذُكر أن خيانة امرأة نوح زوجها أنها كانت كافرة، وكانت تقول للناس: إنه مجنون. وأن خيانة امرأة لوط، أن لوطًا كان يُسِرّ الضيف، وتَدُلّ عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سلمان بن قيس، عن ابن عباس، قوله: (فَخَانَتَاهُمَا) قال: كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون. وكانت امرأة لوط تَدُل على الضيف.
حدثنا محمد بن منصور الطوسي، قال: ثنا إسماعيل بن عمر، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قيس، قال: سمعت ابن عباس قال في هذه الآية: أما امرأة نوح، فكانت تخبر أنه مجنون؛ وأما خيانة امرأة لوط، فكانت تَدُلّ على لوط.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أَبي عامر الهمداني،(23/497)
عن الضحاك (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) قال: ما بغت امرأة نبيّ قط (فَخَانَتَاهُمَا) قال: في الدين خانتاهما.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) قال: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سرّ نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، فكان ذلك من أمرها؛ وأما امرأة لوط فكانت إذا ضاف لوطًا أحد خبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن أبي سعيد، أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية (فَخَانَتَاهُمَا) قال: في الدين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) قال: وكانت خيانتهما أنهما كانتا مشركتين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: عبيد بن سليمان، عن الضحاك (فَخَانَتَاهُمَا) قال: كانتا مخالفتين دين النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كافرتين بالله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أَبو صخر، عن أَبي معاوية البجلي، قال: سألت سعيد بن جبير: ما كانت خيانة امرأة لوط وامرأة نوح؟ فقال: أما امرأة لوط، فإنها كانت تدلّ على الأضياف؛ وأما امرأة نوح فلا علم لي بها.
وقوله: (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) يقول: فلم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما من الله لما عاقبهما على خيانتهما أزواجهما شيئًا، ولم ينفعهما أن(23/498)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
كانت أزواجهما أنبياء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ) ... الآية، هاتان زوجتا نَبِيَّ الله لما عصتا ربهما، لم يغن أزواجهما عنهما من الله شيئًا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) .... الآية، قال: يقول الله: لم يغن صلاح هذين عن هاتين شيئًا، وامرأة فرعون لم يضرّها كفر فرعون.
وقوله: (وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) قال الله لهما يوم القيامة: ادخلا أيتها المرأتان نار جهنم مع الداخلين فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) }
يقول تعالى ذكره: وضرب الله مثلا للذين صدقوا الله ووحدوه، امرأة فرعون التي آمنت بالله ووحدته، وصدّقت رسوله موسى، وهي تحت عدوّ من أعداء الله كافر، فلم يضرّها كفر زوجها، إذ كانت مؤمنة بالله، وكان من قضاء الله في خلقه أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن لكلّ نفس ما كسبت، إذ قالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) ، فاستجاب الله لها فبنى لها بيتًا في الجنة.(23/499)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
كما حدثني إسماعيل بن حفص الأبلي (1) قال: ثنا محمد بن جعفر، عن سليمان التيميّ، عن أَبي عثمان، عن سلمان، قال: كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة.
حدثنا محمد بن عبيد المحاربيّ، قال: ثنا أسباط بن محمد، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، قال: قال سليمان: كانت امرأة فرعون، فذكر نحوه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، قال: ثنا القاسم بن أبي بَزَّة، قال: كانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فيقال: غلب موسى وهارون. فتقول: آمنت بربّ موسى وهارون؛ فأرسل إليها فرعون، فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن رجعت عن قولها فهي امرأته؛ فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء، فأبصرت بيتها في السماء، فمضت على قولها، فانتزع الله روحها، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ) وكان أعتى أهل الأرض على الله، وأبعده من الله، فو الله ما ضرّ امرأته كُفر زوجها حين أطاعت ربها، لتعلموا أن الله حكم عدل، لا يؤاخذ عبده إلا بذنبه.
وقوله: (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) وتقول: وأنقذني من عذاب فرعون، ومن أن أعمل عمله، وذلك كفره بالله.
وقوله: (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تقول: وأخلصني وأنقذني من عمل القوم الكافرين بك، ومن عذابهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) }
يقول تعالى ذكره: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا) (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) يقول: التي منعت جيب درعها جبريل عليه السلام، وكلّ ما كان في الدرع من خرق أو فتق، فإنه يسمى فَرْجًا، وكذلك كلّ صدع وشقّ في حائط، أو فرج سقف فهو فرج.
وقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) يقول: فنفخنا فيه في جيب درعها، وذلك فرجها، من روحنا من جبرئيل، وهو الروح.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) فنفخنا في جيبها من روحنا (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا) يقول: آمنت بعيسى، وهو كلمة الله (وَكُتُبِهِ) يعني التوراة والإنجيل (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) يقول: وكانت من القوم المطيعين.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (مِنَ الْقَانِتِينَ) من المطيعين.
آخر تفسير سورة التحريم
__________
(1) بهمزة، ثم موحدة مضمومتين، نسبه إلى الأبلة.(23/500)
تفسير سورة الملك(23/503)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) }
يعني بقوله تعالى ذكره: (تَبَارَكَ) : تعاظم وتعالى (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) بيده ملك الدنيا والآخرة وسُلطانهما نافذ فيهما أمره وقضاؤه (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه من فعله مانع، ولا يحول بينه وبينه عجز.
وقوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) فأمات من شاء وما شاء، وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) يقول: ليختبركم فينظر أيكم له أيها الناس أطوع، وإلى طلب رضاه أسرع.
وقد حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) قال: أذل الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ) ذكر أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أكان يقول: "إنَّ الله أذَلَّ ابْنَ آدَمَ بالمَوْتِ".
وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ) يقول: وهو القويّ الشديد انتقامه ممن عصاه، وخالف أمره (الْغَفُورُ) ذنوب من أناب إليه وتاب من ذنوبه.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى(23/505)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) }
يقول تعالى ذكره: مخبرا عن صفته: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا) طبقا فوق طبق، بعضها فوق بعض.
وقوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) يقول جل ثناؤه: ما ترى في خلق الرحمن الذي خلق لا في سماء ولا في أرض، ولا في غير ذلك من تفاوت، يعني من اختلاف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) : ما ترى فيهم من اختلاف.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مِنْ تَفَاوُتٍ) قال: من اختلاف.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (مِنْ تَفَاوُتٍ) بألف. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: (مِنْ تَفَوُّتٍ) بتشديد الواو بغير ألف.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد، كما قيل: ولا تُصَاعِرْ، ولا تُصَعِّر؛ وتعهَّدت فلانا، وتعاهدته؛ وتظهَّرت، وتظاهرت؛ وكذلك التفاوت والتفوّت.
وقوله: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)
يقول: فرد البصر، هل ترى فيه من صُدوع؟ وهي من قول الله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) بمعنى يتشققن ويتصدّعن، الفُطُور مصدر فُطِر فطُورا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،(23/506)
عن أبيه، عن ابن عباس (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) قال: الفطور: الوهي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) يقول: هل ترى من خلل يا ابن آدم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (مِنْ فُطُورٍ) قال: من خلل
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) قال: من شقوق.
وقوله: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) يقول جل ثناؤه: ثم ردّ البصر يا ابن آدم كرّتين، مرة بعد أخرى، فانظر (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) أو تفاوت (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا) يقول: يرجع إليك بصرك صاغرًا مُبْعَدا من قولهم للكلب: اخسأ، إذا طردوه أي أبعد صاغرا (وَهُوَ حَسِيرٌ) يقول: وهو مُعْيٍ كالّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) يقول: هل ترى في السماء من خَلل؟ (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) بسواد الليل.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) يقول: ذليلا وقوله: (وَهُوَ حَسِيرٌ) يقول: مرجف.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا) أي حاسرا (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي مُعْيٍ
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (خَاسِئًا) قال: صاغرا، (وَهُوَ حَسِيرٌ) يقول: مُعْيٍ لم ير خَلَلا ولا تفاوتا.
وقال بعضهم: الخاسئ والحسير واحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَارْجِعِ(23/507)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) ... الآية، قال: الخاسئ، والخاسر واحد؛ حَسَر طرفه أن يَرى فيها فَطْرًا فرجع وهو حسير قبل أن يرى فيها فَطْرا؛ قال: فإذا جاء يوم القيامة انفطرت ثم انشقت، ثم جاء أمر أكبر من ذلك انكشطت.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) }
يقول تعالى ذكره: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) وهي النجوم، وجعلها مصابيح لإضاءتها، وكذلك الصبح إنما قيل له صبح للضوء الذي يضئ للناس من النهار (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) يقول: وجعلنا المصابيح التي زيَّنا بها السماء الدنيا رجوما للشياطين تُرْجم بها.
وقد حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) إن الله جلّ ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها زينة للسماء الدنيا، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدي بها؛ فمن يتأوّل منها غير ذلك، فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم له به.
وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) يقول جلّ ثناؤه: وأعتدنا للشياطين في الآخرة عذاب السعير، تُسْعَر عليهم فتُسْجَر.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) }
يقول تعالى ذكره: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) الذي خلقهم في الدنيا (عَذَابَ جَهَنَّمَ) في الآخرة (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) يقول: وبئس المصير عذاب جهنم.
وقوله: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا) يعني إذا ألقى الكافرون في جهنم (سَمِعُوا لَهَا) يعني لجهنم (شَهِيقًا) يعني بالشهيق: الصوت الذي يخرج من الجوف بشدّة كصوت(23/508)
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)
الحمار، كما قال رؤبة في صفة حمار:
حَشْرج في الجَوْفِ سَحيلا أوْ شهَقْ حَتَّى يُقَال ناهِق ومَا نَهَقْ (1)
وقوله: (وَهِيَ تَفُورُ) يقول: تَغْلِي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد (سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) يقول: تغلي كما يغلي القدر.
القول في تأويل قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) }
يقول تعالى ذكره: (تَكَادُ) جهنم (تَمَيَّزُ) يقول: تتفرّق وتتقطع (مِنَ الْغَيْظِ) على أهلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يقول: تتفرّق.
__________
(1) البيتان في (ديوان رؤبة الراجز طبع ليبسج 106) وحشرج الحمار: قطع صوته وردده في حلقه، والسحيل: صوت إلى البحة يدور في صدر الحمار، وكذلك السحال بالضم والشهيق: نهيق الحمار. والشهيق: رد النفس، والزفير: إخراج النفس، قال الله عز وجل في صفة أهل النار: (لهم فيها زفير وشهيق) قال الزجاج: الزفير والشهيق: من أصوات المكروبين. قال: والزفير من شديد الأنين وقبيحة. والشهيق: الأنين الشديد المرتفع جدا. قال: وزعم بعض أهل اللغة من البصريين والكوفيين: أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار من النهيق، والشهيق: بمنزلة آخر صوته في الشهيق. وروى عن الربيع في قوله: (لهم فيها زفير وشهيق) قال: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر (اللسان: شهق) .(23/509)
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) تكاد يفارق بعضها بعضا وتنفطر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يقول: تفرّق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) قال: التميز: التفرّق من الغيظ على أهل معاصي الله غضبا لله، وانتقاما له.
وقوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ) يقول جلّ ثناؤه: كلما ألقي في جهنم جماعة (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) يقول: سأل الفوجَ خزنة جهنم، فقالوا لهم: ألم يأتكم ي الدنيا نذير ينذركم هذا العذاب الذي أنتم فيه؟ فأجابهم المساكين (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) ينذرنا هذا، فَكَذَّبْناهُ وَقُلْنَا له (مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) يقول: في ذهاب عن الحقّ بعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ (11) }
يقول تعالى ذكره: وقال الفوج الذي ألقي في النار للخزنة: (لَوْ كُنَّا) في الدنيا (نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) من النذر ما جاءونا به من النصيحة، أو نعقل عنهم ما كانوا يدعوننا إليه (مَا كُنَّا) اليوم (فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) يعني: أهل النار.
وقوله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) يقول: فأقرّوا بذنبهم ووحَّد الذنب، وقد أضيف إلى الجمع لأن فيه معنى فعل، فأدى الواحد عن الجمع، كما يقال: خرج عطاء الناس، وأعطية الناس (فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ) يقول: فبُعدا لأهل النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ) يقول: بُعدا.(23/510)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير (فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ) قال: قال سُحقا واد في جهنم، والقرّاء على تخفيف الحاء من السُّحْق، وهو الصواب عندنا لأن الفصيح من كلام العرب ذلك، ومن العرب من يحرّكها بالضمّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) }(23/511)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين يخافون ربهم بالغيب، يقول: وهم لم يرَوُه (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يقول: لهم عفو من الله عن ذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) يقول: وثواب من الله لهم على خشيتهم إياه بالغيب جزيل.
وقوله: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) يقول جلّ ثناؤه: وأخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو أعلنوه وأظهروه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول: إنه ذو علم بضمائر الصدور التي لم يُتَكَلَّم بها، فكيف بما نطق به وتكلم به، أخفي ذلك أو أعلن، لأن من لم تخف عليه ضمائر الصدور فغيرها أحرى أن لا يخفي عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) }
يقول تعالى ذكره: (أَلا يَعْلَمُ) الربّ جلّ ثناؤه (مَنْ خَلَقَ) من خلقه؟ يقول: كيف يخفي عليه خلقه الذي خلق (وَهُوَ اللَّطِيفُ) بعباده (الْخَبِيرُ) بهم وبأعمالهم.
وقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا)
يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل لكم الأرض ذَلُولا سَهْلا سَهَّلها لكم (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) .
اختلف أهل العلم في معنى (مَنَاكِبِهَا) فقال بعضهم: مناكبها: جبالها.(23/511)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فِي مَنَاكِبِهَا) يقول: جبالها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الآية (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) فقال لجارية له: إن دَريْت ما مناكبها، فأنت حرة لوجه الله؛ قالت: فإن مناكبها: جبالها، فكأنما سُفِع في وجهه، ورغب في جاريته، فسأل، منهم من أمره، ومنهم من نهاه، فسأل أبا الدرداء، فقال: الخير في طمأنينة، والشرّ في ريبة، فَذرْ ما يريبك إلى ما لا يريبك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن بشير بن كعب، بمثله سواء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) : جبالها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فِي مَنَاكِبِهَا) قال: في جبالها.
وقال آخرون: (مَنَاكِبِهَا) : أطرافها ونواحيها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) يقول: امشوا في أطرافها.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، أن بشير بن كعب العدويّ، قرأ هذه الآية (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) فقال لجاريته: إن أخبرتني ما مناكبها، فأنت حرّة، فقالت: نواحيها؛ فأراد أن يتزوّجها، فسأل أبا الدرداء، فقال: إن الخير في طمأنينة، وإن الشرّ في ريبة، فدع ما يَريبك إلى ما لا يريبك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) قال: طرقها وفجاجها.(23/512)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فامشوا في نواحيها وجوانبها، وذلك أن نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه.
وقوله: (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) يقول: وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض، (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) يقول تعالى ذكره: وإلى الله نشركم من قبوركم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) }
يقول تعالى ذكره: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أيها الكافرون (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) يقول: فإذا الأرض تذهب بكم وتجيئ وتضطرب (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) وهو الله (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) وهو التراب فيه الحصباء الصغار (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) يقول: فستعلمون أيها الكفرة كيف عاقبة نذيري لكم، إذ كذبتم به، ورددتموه على رسولي.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) }
يقول تعالى ذكره: ولقد كذّب الذين من قبل هؤلاء المشركين من قريش من الأمم الخالية رسلهم. (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) يقول: فكيف كان نكيري تكذيبهم إياهم (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ) يقول: أو لم ير هؤلاء المشركون إلى الطير فوقهم صافات أجنحتهنّ (وَيَقْبِضْنَ) يقول: ويقبضن أجنحتهنّ أحيانا. وإنما عُنِي بذلك أنها تصُفُّ أجنحتها أحيانا، وتقبض أحيانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/513)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، مقال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (صَافَّاتٍ) قال: الطير يصفّ جناحه كما رأيت، ثم يقبضه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) بسطهنّ أجنحتهنّ وقبضهنّ.
وقوله: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ) يقول: ما يمسك الطير الصافات فوقكم إلا الرحمن. يقول: فلهم بذلك مذكر إن ذكروا، ومعتبر إن اعتبروا، يعلمون به أن ربهم واحد لا شريك له (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) يقول: إن الله بكل شيء ذو بصر وخبرة، لا يدخل تدبيره خلل، ولا يرى في خلقه تفاوت.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي (20) }
يقول تعالى ذكره: للمشركين به من قريش: من هذا الذي هو جند لكم أيها الكافرون به، ينصركم من دون الرحمن إن أراد بكم سوءا، فيدفع عنكم ما أراد بكم من ذلك (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ) يقول تعالى ذكره: ما الكافرون بالله إلا في غرور من ظنهم أن آلهتهم تقرّبهم إلى الله زلفى، وأنها تنفع أو تضر.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ (21) }
يقول تعالى ذكره: أم من هذا الذي يطعمكم ويسقيكم، ويأتي بأقواتكم إن أمسك بكم رزقه الذي يرزقه عنكم.
وقوله: (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) يقول: بل تمادوا في طغيان ونفور عن الحقّ واستكبار.(23/514)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) يقول: في ضلال.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) قال: كفور.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ (22) }
يقول تعالى ذكره: (أَفَمَنْ يَمْشِي) أيها الناس (مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) لا يبصر ما بين يديه، وما عن يمينه وشماله (أَهْدَى) : أشدّ استقامة على الطريق، وأهدى له، (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) مشي بني آدم على قدميه (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: على طريق لا اعوجاج فيه؛ وقيل (مُكِبًّا) لأنه فعل غير واقع، وإذا لم يكن واقعا أدخلوا فيه الألف، فقالوا: أكبّ فلان على وجهه، فهو مكبّ؛ ومنه قول الأعشى:
مُكِبا على رَوْقَيْه يَحْفِرُ عِرْقَها عَلَى ظَهْر عُرْيان الطَّرِيقةِ أهْيَما (1)
فقال: مكبا، لأنه فعل غير واقع، فإذا كان واقعا حُذفت منه الألف، فقيل:
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه 295) من قصيدة يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي، والبيت في وصف ثور شبه به ناقة. ومكبا: مطأطئا رأسه يحفر الأرطاة (في البيت قبله) ليتخذ فيها كناسا يأوى إليه. وروقية: قرنيه. وعلى ظهر عريان الطريقة: على ظاهر الطريق. وأهيم منهار لا يتماسك، وهو من صفة (عريان الطريقة) . يقول: أكب الثور على أصل الشجرة بقرينه يحفر فيها بيتا يؤويه، في هذا الموضع المكشوف، الذي تنهال رماله غير متماسكة. وقد أورد المؤلف البيت شاهدا على قول الله تعالى: (أفمن يمشي مكبا على وجهه) أي مطرقا إلى الأرض. وقال الفراء في معاني القرآن. (الورقة 338) وقوله: (أفمن يمشي مكبا على وجهه) تقول: قد أكب الرجل إذا كان فعل غير واقع على أحد (غير متعد) فإذا وقع الفعل (تعدى) أسقطت الألف، فتقول: قد كبه الله لوجهه، وكببته أنا لوجهه. اهـ(23/515)
كببت فلانا على وجهه وكبه الله على وجهه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: من يمشي في الضلالة أهدى، أم من يمشي مهتديا؟.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) قال: في الضلالة (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال: حقّ مستقيم.
حدثنا عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) يعني الكافر أهدى (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) المؤمن؟ ضرب الله مثلا لهما.
وقال آخرون: بل عنى بذلك أن الكافر يحشره الله يوم القيامة على وجهه، فقال: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) يوم القيامة (أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) يومئذ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى) "هو الكافر أكبّ على معاصي الله في الدنيا، حشره الله يوم القيامة على وجهه، فقيل: يا نبيّ الله كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: "إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يحشره يوم القيامة على وجهه"
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) قال: هو الكافر يعمل بمعصية الله، فيحشره الله يوم القيامة على وجهه. قال معمر: قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: "إنَّ الَّذِي أمْشاهُم على أقْدَامِهمْ قادِرٌ عَلى أنْ يُمْشيَهُمْ عَلى وُجُوهِهِمْ"
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال المؤمن عمل بطاعة الله، فيحشره الله على طاعته.(23/516)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد للذين يكذّبون بالبعث من المشركين. الله الذي أنشأكم فخلقكم، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) تسمعون به (وَالأبْصَارَ) تبصرون بها (وَالأفْئِدَةَ) تعقلون بها (قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ) يقول: قليلا ما تشكرون ربكم على هذه النعم التي انعمها عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، الله (الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ) يقول: الله الذي خلقكم في الأرض (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يقول: وإلى الله تحشرون، فتجمعون من قبوركم لموقف الحساب (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يقول جلّ ثناؤه: ويقول المشركون: متى يكون ما تعدنا من الحشر إلى الله إن كنتم صادقين في وعدكم إيانا ما تعدوننا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) }(23/517)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وَسلم: قل يا محمد لهؤلاء المستعجليك بالعذاب وقيام الساعة: إنما علم الساعة، ومتى تقوم القيامة عند الله لا يعلم ذلك غيره (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) يقول: وما أنا إلا نذير لكم أنذركم عذاب الله على كفركم به (مُبِينٌ) : قد أبان لكم إنذاره.(23/517)
وقوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقول تعالى ذكره: فلما رأى هؤلاء المشركون عذاب الله زلفة، يقول: قريبا، وعاينوه، (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقول: ساء الله بذلك وجوه الكافرين.
وبنحو الذي قلنا في قوله: (زُلْفَةً) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ) قال: لما عاينوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن، عن قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) قال: معاينة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) قال: قد اقترب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لما عاينت من عذاب الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) قال: لما رأوا عذاب الله زلفة، يقول: سيئت وجوههم حين عاينوا من عذاب الله وخزيه ما عاينوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ) قيل: الزلفة حاضر قد حضرهم عذاب الله عزّ وجلّ.
: (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) يقول: وقال الله لهم: هذا العذاب الذي كنتم به تذكرون ربكم أن يعجله لكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) قال: استعجالهم بالعذاب.(23/518)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) بتشديد الدال بمعنى تفتعلون من الدعاء.
وذكر عن قتادة والضحاك أنهما قرءا ذلك (تَدَّعُونَ) بمعنى تفعلون في الدنيا.
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: أخبرنا أبان العطار وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أنه قرأها (الذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) خفيفة؛ ويقول: كانوا يدعون بالعذاب، ثم قرأ: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) .
والصواب من القراءة في ذلك، ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) يا محمد للمشركين من قومك، (أَرَأَيْتُمْ) أيها الناس (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ) فأماتني (وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا) فأخَّر في آجالنا (فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ) بالله (مِنْ عَذَابِ) موجع مؤلم، وذلك عذاب النار. يقول: ليس ينجي الكفار من عذاب الله موتُنا وحياتنا، فلا حاجة بكم إلى أن تستعجلوا قيام الساعة، ونزول العذاب، فإن ذلك غير نافعكم، بل ذلك بلاء عليكم عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد: ربنا (الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ) يقول: صدّقنا به (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا) يقول: وعليه اعتمدنا في أمورنا، وبه وثقنا فيها (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول: فستعلمون أيها المشركون بالله الذي هو في ذهاب عن الحقّ، والذي هو على غير طريق مستقيم منا ومنكم إذا صرنا إليه، وحشرنا جميعا.(23/519)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين: (أَرَأَيْتُمْ) أيها القوم العادلون بالله (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) يقول: غائرا لا تناله الدلاء (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) يقول: فمن يجيئكم بماء معين، يعني بالمعين: الذي تراه العيون ظاهرا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) يقول: بماء عذب.
حدثنا ابن عبد الأعلى بن واصل، قال: ثني عبيد بن قاسم البزاز، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جُبير في قوله: (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) لا تناله الدلاء (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) قال: الظاهر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) : أي ذاهبا (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) قال: الماء المعين: الجاري.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (مَاؤُكُمْ غَوْرًا) ذاهبا (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) جار.
وقيل غورا فوصف الماء بالمصدر، كما يقال: ليلة عم، يراد: ليلة عامة.
آخر تفسير سورة الملك(23/520)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
تفسير سورة ن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ن) فقال بعضهم: هو الحوت الذي عليه الأرَضُون.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبى عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس، قال: أوّل ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السموات، ثم خلق النون فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرّكت الأرض فمادت، فأثبت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، قال: وقرأ: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) .
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، أو مجاهد عن ابن عباس، بنحوه، إلا أنه قال: فَفُتِقَتْ مِنْهُ السموات.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثني سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: أوّل ما خلق الله القلم، قال: اكتب،(23/521)
قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، قال: فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة، ثم خلق النون، ورفع بخار الماء، ففُتِقت منه السماء وبُسِطت الأرض على ظهر النون، فاضطرب النون، فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض.
حدثنا واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن فُضَيل، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: "أوّل ما خلق الله من شيء القلم، فقال له: اكتب، فقال: وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، قال فجرى القلم بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة، ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات، ثم خلق النون فدُحيت الأرض على ظهره، فاضطرب النون، فمادت الأرض، فأُثبتت بالجبال فإنها لتفخر على الأرض".
حدثنا واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس نحوه.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، أن إبراهيم بن أبي بكر، أخبره عن مجاهد، قال: كان يقال النون: الحوت الذي تحت الأرض السابعة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، قال: قال معمر، ثنا الأعمش، أن ابن عباس قال: إنّ أوّل شيء خُلق القلم، ثم ذكر نحو حديث واصل عن ابن فضيل، وزاد فيه: ثم قرأ ابن عباس: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن ابن عباس، قال: إن أوّل شيء خلق ربي القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ثم خلق النون فوق الماء، ثم كبس الأرض عليه.
وقال آخرون: (ن) حرف من حروف الرحمن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الله بن أحمد المروزي، قال: ثنا عليّ بن الحسين، قال: ثنا أبي، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس (آلر) و (حم) و (ن) حروف الرحمن مقطعة.
حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا عباس بن زياد الباهلي، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قوله: (آلر) و (حم) و (ن) قال: اسم مقطع.
وقال آخرون: (ن) : الدواة، والقلم: القلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا أخي عيسى بن عبد الله، عن ثابت البناني، عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون وهي الدواة، وخلق القلم، فقال:(23/524)
اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، من عمل معمول، برّ أو فجور، أو رزق مقسوم حلال أو حرام، ثم ألزم كلّ شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كيف؛ ثم جعل على العباد حفظة وللكتاب خزانا، فالحفظة ينسخون كلّ يوم عمل ذلك اليوم، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر، وانقضى الأجل، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم، فتقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا؛ قال: فقال ابن عباس: ألستم قوما عربا تسمعون الحَفَظة يقولون: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهل يكون الاستنساسخ إلا من أصل؟.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن وقتادة، في قوله: (ن) قال: هو الدواة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، عن قتادة، قال: النون: الدواة.
وقال آخرون: (ن) : لوح من نور.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن شبيب المكتّب، قال: ثنا محمد بن زياد الجزري، عن فرات بن أبي الفرات، عن معاوية بن قرّة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) "لوح من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة".
وقال آخرون: (ن) : قَسَم أقسم الله به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) يُقْسِم الله بما شاء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله الله: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) قال: هذا قسم أقسم الله به.
وقال آخرون: هي اسم من أسماء السورة.
وقال آخرون: هي حرف من حروف المعجم؛ وقد ذكرنا القول فيما جانس ذلك(23/525)
من حروف الهجاء التي افتتحت بها أوائل السور، والقول في قوله نظير القول في ذلك.
واختلفت القرّاء في قراءة: (ن) فأظهر النون فيها وفي (يس) عامة قرّاء الكوفة خلا الكسائيّ، وعامة قرّاء البصرة، لأنها حرف هجاء، والهجاء مبني على الوقوف عليه وإن اتصل، وكان الكسائيّ يُدغم النون الآخرة منهما ويخفيها بناء على الاتصال.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان فصيحتان بأيتهما قرأ القارئ أصاب، غير أن إظهار النون أفصح وأشهر، فهو أعجب إلىّ. وأما القلم فهو القلم المعروف، غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام: القلم الذي خلقه الله تعالى ذكره، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة.
حدثني محمد بن صالح الأنماطي، قال ثنا عباد بن العوّام، قال: ثنا عبد الواحد بن سليم، قال: سمعت عطاء، قال: سألت الوليد بن عبادة بن الصامت كيف كانت وصية أبيك حين حشره الموت؟ فقال: دعاني فقال: أي بنيّ اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله، ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، والقدر خيره وشرّه، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ خَلَقَ القَلَمَ، فَقالَ لَهُ: اكْتُبْ، قالَ: يَا رَبّ وَما أكْتُبُ؟ قال: اكْتُبَ القَدَرَ، قالَ فَجَرَى القَلَمُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا كانَ وَما هُوَ كائِنٌ إلى الأبَدِ".
حدثني محمد بن عبد الله الطوسي، قال: ثنا عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا رباح بن زيد، عن عمرو بن حبيب، عن القاسم بن أبي بزّة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّلُ شَيْء خَلَق اللهُ القَلَمَ وأمَرَهُ فَكَتَبَ كُلَّ شَيْء".
حدثنا موسى بن سهل الرملي، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا ابن المبارك بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد قال: قلت لابن عباس: إن ناسا يكذّبون بالقدر، فقال: إنهم يكذّبون بكتاب الله، لآخذّن بشَعْر أحدهم، فلا يقصَّن به، إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا، فكان أوّل ما خلق الله القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة،(23/526)
فإنما يجري الناس على أمر قد فُرغ منه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو هاشم، أنه سمع مجاهدًا، قال: سمعت عبد الله - لا ندري ابن عمر أو ابن عباس قال -: إن أوّل ما خلق الله القلم، فجرى القلم بما هو كائن؛ وإنما يعمل الناس اليوم فيما قد فُرِغ منه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني معاوية بن صالح؛ وحدثني عبد الله بن آدم، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الليث بن سعد عن معاوية بن صالح، عن أيوب بن زياد، قال: ثني عباد بن الوليد بن عُبادة بن الصامت، قال: أخبرني أبي، قال: قال أبي عُبادة بن الصامت: يا بنيّ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ن وَالْقَلَمِ) قال: الذي كُتِبَ به الذكر.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، أخبره عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد، في قوله: (ن وَالْقَلَمِ) قال: الذي كتب به الذكر.
وقوله: (وَمَا يَسْطُرُونَ) يقول: والذي يخُطُّون ويكتبون. وإذا وُجِّهَ التأويل إلى هذا الوجه كان القسم بالخلق وأفعالهم. وقد يحتمل الكلام معنى آخر، وهو أن يكون معناه: وسطرهم ما يسطرون، فتكون "ما" بمعنى المصدر. واذا وُجه التأويل إلى هذا الوجه، كان القسم بالكتاب، كأنه قيل: ن والقلم والكتاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا يَسْطُرُونَ) قال: وما يَخُطُّون.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَمَا يَسْطُرُونَ) يقول: يكتبون.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث،(23/527)
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَمَا يَسْطُرُونَ) قال: وما يكتبون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمَا يَسْطُرُونَ) : وما يكتبون، يقال منه: سطر فلان الكتاب فهو يَسْطُر سَطْرا: إذا كتبه؛ ومنه قول رُؤبة بن العجَّاج:
إنّي وأسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا (1)
وقوله: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما أنت بنعمة ربك بمجنون، مكذِّبا بذلك مشركي قريش الذين قالوا له: إنك مجنون.
وقوله: (وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) يقول تعالى ذكره: وإن لك يا محمد لثوابا من الله عظيما على صبرك على أذى المشركين إياك غير منقوص ولا مقطوع، من قولهم: حبل متين، إذا كان ضعيفا، وقد ضعفت منَّته: إذا ضعفت قوّته.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال: محسوب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) }
يقول تعالى ذكر لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدّبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت في ديوان رؤبة بن العجاج الراجز (ديوانه طبع ليبسج 174) . وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن عند قوله تعالى: (والقلم وما يسطرون) قال: وما يكتبون قال رؤبة: "إني وأسطار ... " البيت. والأسطار: جمع سطر، وهو الصف من النخل أو من حروف الكتابة المنسوقة.(23/528)
* ذكر من قال ذلك.
حدثني على قال ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) يقول: دين عظيم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن بن عباس، قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) يقول: إنك على دين عظيم، وهو الإسلام.
حدثني محمد بن عمرو، قال. ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال ثنا الحسن. قال. ثنا ورقاء، جميعا عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال: الدين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: سألتُ عائشة عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن، تقول: كما هو في القرآن.
حدثنا بشر، قال. ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ذُكر لنا أن سعيد بن هشام سأل عائشة عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: قلت: بلى، قالت: فإن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن.
حدثنا عُبيد بن آدم بن أبي إياس، قال: ثني أبي، قال: ثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن سعيد بن هشام، قال: أتيت عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، فقلت: أخبريني عن خُلُق رسول الله، فقالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .
أخبرنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، عن أبى الزهرية، عن جُبير بن نُفَير قال: حججبت فدخلت على عائشة، فسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن.
حدثنا عبيد بن أسباط، قال: ثني أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال: أدب القرآن.(23/529)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال: على دين عظيم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) يعني دينه، وأمره الذي كان عليه، مما أمره الله به، ووكله إليه.
وقوله: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ) يقول تعالى ذكره: فسترى يا محمد، ويرى مشركو قومك الذين يدعونك مجنونا (بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) يقول: ترى ويرون.
وقوله: (بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله بأيكم المجنون، كأنه وجَّه معنى الباء في قوله: (بِأَيِّيكُمُ) إلى معنى في. وإذا وجهت الباء إلى معنى في كان تأويل الكلام: ويبصرون في أيّ الفريقين المجنون في فريقك يا محمد أو فريقهم، ويكون المجنون اسما مرفوعا بالباء.
* ذكر من قال معنى ذلك: بأيكم المجنون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: {بأيكم المفتون} قال: المجنون.
قال ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد (بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ) قال: بأيكم المجنون.
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: بأيكم الجنون؛ وكأن الذين قالوا هذا القول وجهوا المفتون إلى معنى الفتنة أو المفتون، كما قيل: ليس له معقول ولا معقود: أي بمعنى ليس له عقل ولا عقد رأى فكذلك وضع المفتون موضع الفُتُون.
* ذكر من قال: المفتون: بمعنى المصدر، وبمعنى الجنون:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني(23/530)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ) قال: الشيطان.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، يقول في قوله: (بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ) يعني الجنون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس يقول: بأيكم الجنون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أيكم(23/531)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
أولى بالشيطان؛ فالباء على قول هؤلاء زيادة دخولها وخروجها سواء، ومثَّل هؤلاء ذلك بقول الراجز:
نَحْنُ بنُو جَعْدَةَ أصحَابُ الفَلَجْ نَضْرِبُ بالسَّيْفِ وَنَرْجُو بالفَرَجْ (1)
بمعنى: نرجو الفرج، فدخول الباء في ذلك عندهم في هذا الموضع وخروجها سواء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ) يقول: بأيكم أولى بالشيطان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ) قال: أيكم أولى بالشيطان.
واختلف أهل العربية في ذلك نحو اختلاف أهل التأويل، فقال بعض نحوِّيي البصرة: معنى ذلك: فستبصر ويبصرون أيُّكم المفتون. وقال بعض نحوِّيي الكوفة: بأيكم المفتون ها هنا، بمعنى الجنون، وهو في مذهب الفُتُون، كما قالوا: ليس له معقول ولا معقود؛ قال: وإن شئت جعلت بأيكم في أيكم في أيّ الفريقين المجنون؛ قال: وهو حينئذ اسم ليس بمصدر.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: بأيكم الجنون، ووجه المفتون إلى الفتون بمعنى المصدر، لأن ذلك أظهر معاني الكلام، إذا لم ينو إسقاط الباء، وجعلنا لدخولها وجها مفهوما.
وقد بيَّنا أنه غير جائز أن يكون في القرآن شيء لا معنى له.
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد هو أعلم بمن ضل عن سبيله، كضلال كفار قريش عن دين الله، وطريق الهدى (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) يقول: وهو أعلم بمن اهتدى، فاتبع الحقّ، وأقرّ به، كما اهتديت أنت فاتبعت الحقّ، وهذا من معاريض الكلام. وإنما معنى الكلام: إن ربك هو أعلم يا محمد بك، وأنت المهتدي وبقومك من كفار قريش وانهم الضالون عن سبيل الحقّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَلا تُطِعِ) يا محمد (الْمُكَذِّبِينَ) بآيات الله ورسوله (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معنى ذلك: ودّ المكذّبون بآيات الله لو تكفر بالله يا محمد فيكفرون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) يقول: ودّوا لو تكفر فيكفرون.
حُدثت عن الحسين، فقال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) قال: تكفر فيكفرون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) قال: تكفر فيكفرون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ودّوا لو تُرخِّص لهم فُيرخِّصون، أو تلين في دينك فيلينون في دينهم.
__________
(1) البيتان من مشطور الرجز، وهما من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 179) من مصورة الجامعة عن نسخة "مراد مثلا" بالآستانة قال عند قوله تعالى: (بأيكم المفتون) مجازها: أيكم المفتون، كما قال الأول: "نحن بنو جعدة ... " والشاهد فيه أن الباء في قوله بالفرج، أي نرجو الفرج، كما زيدت في الآية. والبيتان للنابغة الجعدي. وقد سبق الاستشهاد بهما على مثل هذا الموضع في الجزء (18: 14) فراجعه.(23/532)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) يقول: لو ترخص لهم فيرخِّصون.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث،(23/533)
قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) قال: لو تَرْكَن إلى آلهتهم، وتترك ما أنت عليه من الحقّ فيمالئونك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) يقول: ودّوا يا محمد لو أدهنت عن هذا الأمر، فأدهنوا معك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) قال: ودّوا لو يُدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُدْهنون.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ودّ هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك، كما قال جلّ ثناؤه: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) وإنما هو مأخوذ من الدُّهن شبه التليين في القول بتليين الدُّهن.
وقوله: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ) ولا تطع يا محمد كلّ ذي إكثار للحلف بالباطل؛ (مَهِين) : وهو الضعيف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
غير أن بعضهم وجَّه معنى المهين إلى الكذّاب، وأحسبه فعل ذلك لأنه رأى أنه إذا وصف بالمهانة فإنما وصف بها لمهانة نفسه كانت عليه، وكذلك صفة الكذوب، إنما يكذب لمهانة نفسه عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ) والمهين: الكذاب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (حَلافٍ مَهِينٍ) قال: ضعيف.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ) وهو المكثار في الشرّ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قوله: (كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ) يقول: كلّ مكثار في الحلف مهين ضعيف.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد، عن الحسن وقتادة: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ) قال: هو المكثار في الشرّ.
وقوله: (هَمَّازٍ) يعني: مغتاب للناس يأكل لحومهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (هَمَّازٍ) يعني الاغتياب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (هَمَّازٍ) يأكل لحوم المسلمين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (هَمَّازٍ) قال: الهماز: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، وليس باللسان وقرأ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) الذي يلمز الناس بلسانه، والهمز أصله الغمز فقيل للمغتاب: هماز، لأنه يطعن في أعراض الناس بما يكرهون، وذلك غمز عليهم.
وقوله: (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يقول: مشاء بحديث الناس بعضهم في بعض، ينقل حديث بعضهم إلى بعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (هَمَّازٍ) يأكل لحوم المسلمين (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) : ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض.(23/534)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)
حدثني محمد بن سعد، قال ثني أبي، قال ثني عمي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) : يمشي بالكذب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عن الكلبي، في قوله: (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) قال: هو الأخنس بن شريق، وأصله من ثقيف، وعداده في بني زُهْرة.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) }
وقوله: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) . يقول تعالى ذكره: بخيل بالمال ضنين به عن الحقوق.
وقوله: (مُعْتَدٍ) يقول: معتد على الناس (أَثِيمٍ) : ذي إثم بربه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (مُعْتَدٍ) في عمله (أَثِيمٍ) بربه.
وقوله: (عُتُلٍّ) يقول: وهو عُتُلّ، والعتلّ: الجافي الشديد في كفره، وكلّ شديد قويّ فالعرب تسميه عُتُلا؛ ومنه قول ذي الإصبع العَْوانّي:
والدَّهْرُ يَغْدُو مِعْتَلا جَذَعا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (عُتُلٍّ) العتلّ: العاتل الشديد المنافق.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 179) أنشده عند قوله تعالى: (عتل) قال: العتل: الفظ الكافر في هذا الموضع، وهو الشديد من كل شيء بعد ذلك؛ قال ذو الإصبع العدواني: " والدهر يغدو معتلا جذعا" أي شديدا اهـ. وفي (اللسان: عتل) العتل: هو الشديد الجافي، والفظ الغليظ. قيل: هو الجافي الخلق، اللئيم الضريبة. وقيل هو الشديد من الرجال والدواب. وفي التنزيل: (عتل بعد ذلك زنيم) قيل: هو الشديد الخصومة. اهـ. وفي (اللسان: عتل) ورجل معتل (بوزن منبر) بالكسر: قوي. والجذع: الصغير السن.(23/535)
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي، قال: ثنا أبو عامر العَقْدِيُّ، قال: ثنا زهير بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن وهب الذَّمارِيّ، قال: تبكي السماء والأرض من رجل أتمّ الله خلقه، وأرحب جوفه، وأعطاه مقضما من الدنيا، ثم يكون ظلوما للناس، فذلك العتلّ الزنيم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن أبي الزبير، عن عبيد بن عمير، قال: العتلّ: الأكول الشروب القويّ الشديد، يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة، يدفع المَلَكُ من أولئك سبعين ألفا دفعة في جهنم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين، في قوله: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) قال: العتلّ: الشديد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي رزين، في قوله: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) قال: العتلّ: الصحيح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم، مولى معاوية قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العُتُلّ الزنيم، قال: " الفَاحِشُ اللَّئيمُ ".
قال معاوية، وثني عياض بن عبد الله الفهريّ، عن موسى بن عقبة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) قال: فاحش الخُلق، لئيم الضريبة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) قال: الحسن وقتادة: هو الفاحش اللئيم الضريبة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قوله: (عُتُلٍّ) قال: هو الفاحش اللئيم الضريبة.
قال ثنا ابن ثور، عن معمر، عن زيد بن أسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَبْكي السَّماءُ مِنْ عَبْدٍ أصَحَّ اللهُ جِسْمَهُ، وأرْحَبَ جَوْفَهُ، وأعْطاهُ مِنَ الدُّنْيا مِقْضَما فَكانَ للنَّاس، ظَلُوما، فَذلكَ العُتلُّ الزَّنِيمُ".(23/536)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين، قال: العتل: الصحيح الشديد.
حدثني جعفر بن محمد البزوري، قال: ثنا أبو زكريا، وهو يحيى بن مصعب، عن عمر بن نافع، قال: سُئل عكرمة، عن (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) فقال: ذلك الكافر اللئيم.
حدثني عليّ بن الحسن الأزديّ، قال: ثنا يحيى، يعنى: ابن يمان، عن أبي الأشهب، عن الحسن في قوله: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) قال: الفاحش اللئيم الضريبة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، قال: العتلّ، الزنيم: الفاحش اللئيم الضريبة.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عُتُلٍّ) قال: شديد الأشَر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: (عُتُلٍّ) قال: العتلّ: الشديد (بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) ومعنى "بعد" في هذا الموضع معنى مع، وتأويل الكلام: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) : أي مع العتلّ زنيم.
وقوله: (زَنِيمٍ) والزنيم في كلام العرب: الملصق بالقوم وليس منهم؛ ومنه قول حسان بن ثابت:
وأنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هاشِمٍ كمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِب القَدَحُ الفَرْدُ (1)
وقال آخر:
زَنِيمٌ لَيْسَ يَعْرِفُ مَن أبُوهُ بَغِيُّ الأمّ ذُو حَسَبٍ لَئِيمِ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 179 من مصورة الجامعة 26390 عن مخطوطة "مراد مثلا" بالآستانة) أنشده عند قول الله تعالى: (زنيم) قال: الزنيم: المعلق في القوم ليس منهم، قال حسان بن ثابت: "وأنت زنيم ... " البيت. ويقال للتيس: زنيم، له زنمتان. اهـ
(2) ليس هذا البيت من شواهد الفراء ولا من شواهد أبي عبيدة، ولم ينسبه المؤلف إلى قائله. وفي اللسان: الزنيم: المستحلق في قوم ليس منهم، لا يحتاج إليه، فكأنه فيهم زنمة (أي: زنمة العنز المعلقة عند حلقها) . يقول: هو فيهم زنيم، لا يعرفون أباه؛ لأنه دخيل. وأمه بغي، وحسبه لئيم. وهو في معنى الشاهد الذي قبله على معنى "الزنيم".(23/537)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (زَنِيمٍ) قال: والزنيم: الدعيّ، ويقال: الزنيم: رجل كانت به زنمة يُعرف بها، ويقال: هو الأخنس بن شَرِيق الثَّقَفِيّ حلِيف بني زُهْرة. وزعم ناس من بني زُهره أن الزنيم هو: الأسود بن عبد يغوث الزُّهريّ، وليس به.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: أخبرنا ابن إدريس، قال: ثنا هشام، عن عكرمة، قال: هو الدعيّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، أنه سمعه يقول في هذه الآية: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) قال سعيد: هو الملصق بالقوم ليس منهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن الحسن، عن سعيد بن جبير، قال: الزنيم الذي يعرف بالشرّ، كما تعرف الشاة بزنمتها؛ الملصق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، وقال آخرون: هو الذي له زَنَمة كزنمة الشاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال في الزنيم قال: نعت، فلم يعرف حتى قيل زنيم. قال: وكانت له زنمة في عنقه يُعرف بها.
وقال آخرون: كان دعيًّا.
حدثني الحسين بن على الصدائي، قال: ثنا عليّ بن عاصم، قال ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: (بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) قال: نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) قال: فلم نعرفه حتى نزل على النبي صلى الله عليه وسلم (بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) قال: فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، عن أصحاب التفسير، قالوا: هو(23/538)
الذي يكون له زنمة كزنمة الشاة.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: زنيم: يقول: كانت له زنمة في أصل أذنه، يقال: هو اللئيم الملصق في النسب.
وقال آخرون: هو المريب
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) قال: زنيم: المُرِيب الذي يعرف بالشرّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن الحسن بن مسلم، عن سعيد بن جبير قال: الزنيم: الذي يعرف بالشرّ.
وقال آخرون: هو الظلوم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (زَنِيمٍ) قال: ظلوم.
وقال آخرون: هو الذي يُعرف بأُبنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس أنه قال في الزنيم: الذي يُعرف بأبنة، قال أبو إسحاق: وسمعت الناس في إمرة زياد يقولون: العتلّ: الدعيّ.
وقال آخرون: هو الجِلْف الجافي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود بن أبي هند، قال: سمعت شهر بن حَوْشب يقول: هو الجلف الجافي الأكول الشروب من الحرام.
وقال آخرون: هو علامة الكفر.(23/539)
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين، قال: الزنيم: علامة الكفر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين، قال: الزنيم: علامة الكافر.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أنه كان يقول الزنيم يُعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة.
وقال آخرون: هو الذي يعرف باللؤم.
* ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، قال: الزّنيم: الذي يعرف باللؤم، كما تُعرف الشاة بزنمتها.
وقال آخرون: هو الفاجر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي رزين، في قوله: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) قال: الزنيم: الفاجر.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (15) }(23/540)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (أَنْ كَانَ) فقرأ ذلك أبو جعفر المدني وحمزة: (أأنْ كَانَ ذَا مالٍ) بالاستفهام بهمزتين، وتتوجه قراءة من قرأ ذلك كذلك إلى وجهين:
أحدهما أن يكون مرادًا به تقريع هذا الحلاف المهين، فقيل: ألأن كان هذا الحلاف المهين ذا مال وبنين (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) وهذا أظهر وجهيه.
والآخر أن يكون مرادًا به: ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه، على وجه التوبيخ لمن أطاعه. وقرأ ذلك بعد سائر قراء المدينة والكوفة والبصرة: (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ) على وجه الخبر(23/540)
بغير استفهام بهمزة واحدة، ومعناه إذا قُرئ كذلك: ولا تطع كلّ حلاف مهين (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) كأنه نهاه أن يطيعه من أجل أنه ذو مال وبنين.
وقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) يقول: إذا تقرأ عليه آيات كتابنا، قال: هذا مما كتبه الأوّلون استهزاء به وإنكارًا منه أن يكون ذلك من عند الله.
وقوله: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: سنخطمه بالسيف، فنجعل ذلك علامة باقية، وسمة ثابتة فيه ما عاش.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) فقاتل يوم بدر، فخُطِم بالسيف في القتال.
وقال آخرون: بل معنى ذلك سنشينه شينا باقيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) شَيْن لا يفارقه آخر ما عليه.
وقال آخرون: سيمَى على أنفه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) قال: سنسم على أنفه.
وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك عندي قول من قال: معنى ذلك: سنبين أمره بيانا واضحا حتى يعرفوه، فلا يخفى عليهم، كما لا تخفي السمة على الخرطوم.
وقال قتادة: معنى ذلك: شين لا يفارقه آخر ما عليه، وقد يحتمل أيضا أن يكون خطم بالسيف، فجمع له مع بيان عيوبه للناس الخطم بالسيف.
ويعني بقوله: (سَنَسِمُهُ) سنكويه. وقال بعضهم: معنى ذلك: سنسمه سِمَة أهل النار: أي سنسوِّد وجهه.
وقال: إن الخرطوم وإن كان خصّ بالسمة، فإنه في مذهب الوجه؛ لأن بعض الوجه يؤديّ عن بعض، والعرب تقول: والله لأسمنك وسما(23/541)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
لا يفارقك، يريدون الأنف. قال: وأنشدني بعضهم:
لأعَلطَنَّهُ وَسْمًا لا يُفارِقهُ كما يُحَزُّ بِحَمْى المِيسَمِ النَّجِرُ (1)
والنجر: داء يأخذ الإبل فتُكوى على أنفها.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ) : أي بلونا مشركي قريش، يقول: امتحناهم فاختبرناهم، (كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) يقول: كما امتحنا أصحاب البستان (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) يقول: إذ حلفوا ليصرمُنّ ثمرها إذا أصبحوا. (وَلا يَسْتَثْنُونَ) : ولا يقولون إن شاء الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 339) قال عند قوله تعالى: (سنسمه على الخرطوم) أي: سنسمه سمة أهل النار، أي: سنسود وجهه؛ فهو وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة، فإنه في مذهب الوجه؛ لأن بعض الوجه يؤدى عن بعض، والعرب تقول: أما والله لأسمنك وسما لا يفارقك، يريدون الأنف، وأنشدني بعضهم: "لأعلطنه وسما." البيت فقال: الميسم ولم يذكر الأنف؛ لأنه موضع السمة. والبحر: البعير إذا أصابه البحر، وهو داء يأخذ البعير فيوسم لذلك. أ. هـ. قلت: وأنشد صاحب اللسان البيت "في بحر" وقال قال الفراء: البحر أن يلغي البعير بالماء، فيكثر منه، حتى يصيبه منه داء، يقال: بحر يبحر بحرا، فهو بحر، وأنشد: بيت الشاهد. قال: وإذا أصابه الداء كوي في مواضع فيبرأ. اهـ كلام الفراء كما في اللسان.
وقال الأزهري معقبا عليه: الداء الذي يصيب البعير فلا يروى من الماء، هو النجر، بالنون والجيم، والبجر بالباء والجيم. وأما البحر: فهو داء يورث السل. وأبحر الرجل: إذا أخذه السل. ورجل بحير وبحر: مسلول ذاهب اللحم. عن ابن الأعرابي. اهـ. قلت: ويؤيد هذا ما جاء في (اللسان: نجر) قال الجوهري: النجر بالتحريك، عطش يصيب الإبل والغنم عن أكل الحبة، فلا تكاد تروى من الماء. يقال: نجرت الإبل ومجرت أيضا. اهـ. وفي التهذيب: نجر ينجر نجرا: إذا أكثرت من شرب الماء، ولم يكد يروى قال يعقوب: وقد يصيب الإنسان. اهـ. وحمى الميسم: حره. والميسم حديدة يكوى بها.(23/542)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
قوله: (لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) قال: هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة كان يطعم المساكين منها، فلما مات أبوهم، قال بنوه: والله إن كان أبونا لأحمق حين يُطعم المساكين، فاقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون، ولا يطعمون مسكينا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) قال: كانت الجنة لشيخ، وكان يتصدَّق، فكان بنوه ينهونه عن الصدقة، وكان يمسك قوت سنته، وينفق ويتصدَّق بالفضل؛ فلما مات أبوهم غدوا عليها فقالوا: (لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) .
وذُكر أن أصحاب الجنة كانوا أهل كتاب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا) ... الآية، قال: كانوا من أهل الكتاب، والصرم: القطع، وإنما عنى بقوله: (لَيَصْرِمُنَّهَا) لَيَجُدُّنّ ثمرتها؛ ومنه قول امرئ القيس:
صَرَمَتْكَ بَعْدَ ما تَوَاصُلٍ دَعْدُ وَبَدا لِدَعْدٍ بعضُ ما يَبْدُو (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) }
يقول تعالى ذكر.: فطرق جنة هؤلاء القوم ليلا طارق من أمر الله وهم نائمون، ولا يكون الطائف في كلام العرب إلا ليلا ولا يكون نهارا، وقد يقولون: أطفت بها نهارا.
__________
(1) نسب المؤلف البيت إلى امرئ القيس، ولم أجده في مختار الشعر الجاهلي، ولا في العقد السمين، ولعله لغير امرئ القيس بن حجر الكندي من المراقسة. أنشده المؤلف شاهدا على أن الصرم في قوله تعالى: (ليصرمنها) بمعنى: القطع. وفي (اللسان: صرم) الصرم: القطع البائن. وعم به بعضهم القطع أي نوع كان. اهـ(23/543)
وذكر الفرّاء أن أبا الجرّاح أنشده:
أطَفْتُ بِها نَهارًا غَيْرَ لَيْلٍ وألْهَي رَبَّها طَلَبُ الرِّخالِ (1)
والرِّخال: هي أولاد الضأن الإناث.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كريب، عن قابوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس، عن الطوَفان (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) قال: هو أمر من أمر الله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) قال: طاف عليها أمر من أمر الله وهم نائمون.
وقوله: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) اختلف أهل التأويل في الذي عُني بالصريم، فقال بعضهم: عني به الليل الأسود، وقال بعضهم: معنى ذلك: فأصبحت جنّتهم محترقة سوداء كسواد الليل المظلم البهيم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا شيخ لنا عن شيخ من كلب يقال له: سليمان عن ابن عباس، في قوله: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) قال: الصَّرِيم: الليل.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 393) عند قوله تعالى: (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون) قال: لا يكون الطائف إلا ليلا، ولا يكون نهارا، وقد تكلم به العرب، فيقولون: أطفت به نهارا، وليس موضعه بالتهار ولكنه بمنزلة قولك: "لو ترك القطا ليلا لنام" لأن القطا لا يسري ليلا، قال: أنشدني أبو الجراح العقيلي: "أطفت بها نهارا.." البيت اهـ. والرخال: جمع رخل (بكسر الراء وفتحها) : الأنثى من أولاد الضأن. والذكر: حمل، والجمع: أرخل ورخال (بكسر الراء وضمها) ورخلان أيضا. اهـ(23/544)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)
قال: وقال في ذلك أبو عمرو بن العلاء رحمه الله.
ألا بَكَرَتْ وَعاذِلَتِني تَلُومُ تُهَجِّدُنِي وَما انْكَشَفَ الصَّرِيمُ (1)
وقال أيضا:
تَطاوَلَ لَيْلُكَ الجَوْنُ البهِيمُ فَمَا يَنْجاب عَنْ صُبْحٍ صريم
إذَا ما قُلْتَ أقْشَعَ أوْ تَنَاهَى جَرَتْ مِنْ كُلِّ ناحِيَةٍ غُيُومُ (2)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فأصبحت كأرض تدعى الصريم معروفة بهذا الاسم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: أخبرني نعيم بن عبد الرحمن أنه سمع سعيد بن جُبير يقول: هي أرض باليمن يقال لها ضَرْوان من صنعاء على ستة أميال.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) }
__________
(1) نسب المؤلف البيت إلى أبي عمرو بن العلاء. ولعله يريد أنه مما أنشده أبو عمرو يقول: استيقظت هذه المرأة قبل أن ينكشف الليل عن الصبح، توقظني حين هبت عاذلتي تلومني. قال في اللسان: هجد. قال ابن بزرج: أهجدت الرجل: أنمته، وهجدته بالتشديد: أيقظته. والصريم: الليل. وقال الفراء في معاني القرآن (339) فأصبحت كالصريم: أي احترقت، فصارت سوداء مثل الليل المسود. اهـ وفي اللسان (صرم) عن ثعلب، فأصبحت كالصريم: أي احترقت فصارت سوداء مثل الليل. اهـ. ويقال: كالشيء المصروم، الذي ذهب ما فيه،. وقيل: الصريم: أرض سوداء لا تنبت شيئا. وقال الجوهري: أي احترقت واسودت.
(2) أنشد اللسان: (صرم) البيت الأول من هذا الشاهد، وقال: قال ابن بري: وأنشد أبو عمرو: "تطاول ليلك.." البيت، فالبيتان إذن ليسا لأبي عمرو، وإنما هو أنشدهما، وكذلك بيت الشاهد الذي قبلهما. والجون: الأسود، والبهيم: الخالص السواد، لا بياض فيه. وينجاب: ينكشف ويزول. وصريم: أي ليل. وأقشع: زال. وتناهى: انتهى. وهذا الشاهد في معنى الشاهد الذي قبله، وهو أن الصريم بمعنى: الليل الشديد السواد.(23/545)
يقول تعالى ذكره: فتنادى هؤلاء القوم وهم أصحاب الجنة. يقول: نادى بعضهم بعضا مصبحين يقول: بعد أن أصبحوا (أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ) وذلك الزرع (إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ) يقول: إن كنتم حاصدي زرعكم (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ) يقول: فمضَوا إلى حرثهم وهم يتسارّون بينهم (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) يقول: وهم يتسارّون يقول بعضهم لبعض: لا يدخلنّ جنتكم اليوم عليكم مسكين.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ) يقول: يُسرون (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) .
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: لما مات أبوهم غدوا عليها، فقالوا: (لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) .
واختلف أهل التأويل في معنى الحرْد في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناه: على قُدْرة في أنفسهم وجدّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ عن ابن عباس، قوله: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) قال: ذوي قدرة.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج عمن حدثه، عن مجاهد في قول الله: (عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) قال: على جدّ قادرين في أنفسهم.
قال ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) قال: على جهد، أو قال على جِدّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) غدا القوم وهم محردون إلى جنتهم، قادرون عليها في أنفسهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) قال: على جِدّ من أمرهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) على جِدّ قادرين في أنفسهم.(23/546)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وغدوا على أمرهم قد أجمعوا عليه بينهم، واستسرّوه، وأسرّوه في أنفسهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) قال: كان حرث لأبيهم، وكانوا إخوة، فقالوا: لا نطعم مسكينا منه حتى نعلم ما يخرج منه (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) على أمر قد أسسوه بينهم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ووقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (عَلَى حَرْدٍ) قال: على أمر مجمع.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) قال: على أمر مُجْمَع.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وغدوا على فاقة وحاجة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن، في قوله: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) قال: على فاقة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: على حنق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) قال: على حنق، وكأن سفيان ذهب في تأويله هذا إلى مثل قول الأشهب بن رُميلة:
أُسُودُ شَرًى لاقَتْ أُسُودَ خِفيَّةٍ تَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأساوِدِ (1)
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 179) عند قوله تعالى: (وغدوا على حرد قادرين) قال: مجازه على منع من حاردت الناقة لم يكن لها لبن. و" على حرد " أيضا على قصد، قال الأول: قَدْ جاءَ سَيْلٌ كانَ مِنْ أمْرِ الله ... يَحْرُدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلة
وقال آخر: "على حرد" على غضب. قال الأشهب بن زميلة الذي كان يهاجي الفرزدق: "أسود شرى.." البيت. اهـ والشرى وخفية: مأسدتان معروفتان. والأساود. جمع أسود، وهو اسم للحية، ولذلك جمع كما تجمع الأسماء على فاعل، مثل أرانب، ولو كان صفة لجمع على سود. قلت: ورواية البيت في (اللسان: حرد) : أُسودُ شرًى لاقَتْ أُسودَ خَفِيَّةٍ ... تَساقَينَ سُمًا كُلُّهُنَّ حَوَارِدُ
وقال بعد البيت: قال أبو العباس: وقال أبو زيد والأصمعي وأبو عبيدة: (الذي سمعناه من العرب الفصحاء: حرد يحرد حردا كغضب يغضب غضبًا) بتحريك الراء. قال أبو العباس (ثعلب) : وسألت عنها ابن الأعرابي فقال: صحيحة، إلا أن المفضل أخبر أن من العرب من يقول حرد حردا (كغضب عضبا) وحردا (أي بسكون الراء) والتسكين أكثر. والأخرى: فصيحة.(23/547)
يعني: على غضب. وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يتأوَّل ذلك: وغدوا على منع.
ويوجهه إلى أنه من قولهم: حاردت السنة إذا لم يكن فيها مطر، وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن، كما قال الشاعر:
فإذَا ما حارَدَتْ أوْ بَكأَتْ فَتَّ عَنْ حاجِب أُخْرَى طِينْها (1)
وهذا قول لا نعلم له قائلا من متقدمي العلم قاله وإن كان له وجه، فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز عندنا أن يتعدّى ما أجمعت عليه الحجة، فما صحّ من الأقوال في ذلك إلا أحد الأقوال التي ذكرناها عن أهل العلم. وإذا كان ذلك كذلك، وكان المعروف من معنى الحرد في كلام العرب القصد من قولهم: قد حرد فلان حرد فلان:
__________
(1) في (اللسان: حرد) حاردت الإبل حرادا: أي انقطعت ألبانها أو قلت. وفي (اللسان: بكأ) بكأت الناقة والشاة بكاء وبكؤت تبكؤ بكوءًا، وهي بكئ وبكيئة: قل لبنها. وقيل: انقطع. والفت: الدق. فت الشيء يفته فتا وفتته (بالتشديد) : دقه:، وقيل: فته: كسره. وأنشد البيت صاحب اللسان في حرد مع بيت آخر قبله. وقال: الحارد: القليلة اللبن من النوق، والحرود من النوق: القليلة الدر. وحاردت السنة: قل ماؤها ومطرها، وقد استعير في الآنية إذا نفد شربها قال: ولَنا باطِيَةٌ مَمْلُوءَةٌ ... جَوْنَةٌ يَتْبَعُها بِرْزِينُها
فإذَا ما حارَدَتْ أوْ بَكأتْ ... فُتَّ عَنْ حاجِبِ أُخْرَى طِينها
والبرزين: إناء يتخذ من قشر طلع الفحال، يشرب به اهـ. والبيت شاهد على أن معنى حاردت السنة، وحاردت الناقة، وحاردت الباطية، قل مطرها، وقل لبنها، ونفذ خمرها. اهـ. ورواية البيت الأول في (اللسان: برزن) إنما لقحتنا باطية.. إلخ(23/548)
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)
إذا قصد قصده؛ ومنه قول الراجز:
وجاءَ سَيْلٌ كانَ مٍنْ أمْرِ اللهْ يَحْرُدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّةْ (1)
يعني: يقصد قصدها، صح أن الذي هو أولى بتأويل الآية قول من قال: معنى قوله: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) وغدوا على أمر قد قصدوه واعتمدوه، واستسرّوه بينهم، قادرين عليه في أنفسهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره: فلما صار هؤلاء القوم إلى جنتهم، ورأوها محترقا حرثها، أنكروها وشكوا فيها، هل هي جنتهم أم لا؟ فقال بعضهم لأصحابه ظنا منه أنهم قد أغفلوا طريق جنتهم، وأن التي رأوا غيرها: إنا أيها القوم لضالون طريق جنتنا، فقال من علم أنها جنتهم، وأنهم لم يخطئوا الطريق: بل نحن أيها القوم محرومون، حُرِمنا منفعة جنتنا بذهاب حرثها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) : أي أضللنا الطريق، بل نحن محرومون، بل جُوزينا فحُرمنا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) .
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز، لم ينسبا لقائل معروف. وكرواية الفراء في معاني القرآن ورواية البيت الأول في (اللسان: حرد) وجاء سيل، كرواية المؤلف هنا. وفي مجاز القرآن: "قد جاء" وفي الكامل للمبرد 1: 50 طبعة مصطفى الباني الحلبي وأولاده: "قد جاء في سبيل جاء". قال المبرد في الكامل فأما قول الله عز وجل: (وغدوا على حرد قادرين) فإن فيه قولين: أحدهما ما ذكرنا من معنى القصد - قال الشاعر: قد جاء سيل جاء.. البيتين. وقالوا: على حرد: على منع، من قولهم حاردت السنة: إذا منعت قطرها، وحاردت الناقة: إذا منعت درها. اهـ وقال الفراء في معاني القرآن: "على حرد" على جِدٍ وقدرة في أنفسهم. والحرد أيضا: القصد، كما يقول الرجل: قد أقبلت قبلك، وقصدت قصدك، وحردت حردك. وأنشدني بعضهم " وجاء سيل كان.." البيتين. ويريد: قصدها. اهـ.(23/549)
يقول قتادة: يقولون أخطأنا الطريق ما هذه بجنتنا، فقال بعضهم: بل نحن محرومون حرمنا جنتنا.
وقوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) يعني: أعدلهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال؛ ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) قال: أعدلهم، ويقال: قال خيرهم، وقال في البقرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قال: الوسط: العدل.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) يقول: أعدلهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الفرات بن خلاد، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) : أعدلهم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) قال: أعدلهم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) قال: أعدلهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أعدلهم قولا وكان أسرع القوم فزعا، وأحسنهم رَجْعة (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) قال: أعدلهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) يقول: أعدلهم
وقوله: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) يقول: هلا تستثنون إذ قلتم (لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) فتقولوا إن شاء الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/550)
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد (لَوْلا تُسَبِّحُونَ) قال: بلغني أنه الاستثناء.
قال ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) قال: يقول: تستثنون، فكان التسبيح فيهم الاستثناء.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) }
يقول تعالى ذكره: قال أصحاب الجنة: (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) في تركنا الاستثناء في قسمنا وعزمنا على ترك إطعام المساكين من ثمر جنتنا.
وقوله: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) يقول جلّ ثناؤه: فأقبل بعضهم على بعض يلوم بعضهم بعضا على تفريطهم فيما فرّطوا فيه من الاستثناء، وعزمهم على ما كانوا عليه من ترك إطعام المساكين من جنتهم.
وقوله: (يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) يقول: قال أصحاب الجنة: يا ويلنا إنا كنا مُبْعَدين: مخالفين أمر الله في تركنا الاستثناء والتسبيح.
القول في تأويل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل أصحاب الجنة: (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا) بتوبتنا من خطأ فعلنا الذي سبق منا خيرا من جنتنا (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) يقول: إنا إلى ربنا راغبون في أن يبدلنا من جنتنا إذ هلَكت خيرا منها.
قوله تعالى ذكره (كَذَلِكَ الْعَذَابُ) يقول جلّ ثناؤه: كفعلنا بجنة أصحاب الجنة، إذ أصبحت كالصريم بالذي أرسلنا عليها من البلاء والآفة المفسدة، فعلنا بمن خالف أمرنا وكفر برسلنا في عاجل الدنيا، (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ) يعني عقوبة الآخرة(23/551)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
بمن عصى ربه وكفر به، أكبر يوم القيامة من عقوبة الدنيا وعذابها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) يعني بذلك عذاب الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ) : أي عقوبة الدنيا (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ) قال: عذاب الدنيا، هلاك أموالهم: أي عقوبة الدنيا.
وقوله: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) يقول: لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن عقوبة الله لأهل الشرك به أكبر من عقوبته لهم في الدنيا، لارتدعوا وتابوا وأنابوا، ولكنهم بذلك جهال لا يعلمون.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) }
يقول تعالى ذكره: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) الذين اتقوا عقوبة الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يعني: بساتين النعيم الدائم.
وقوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) يقول تعالى ذكره: أفنجعل أيها الناس في كرامتي ونعمتي في الآخرة الذين خضعوا لي بالطاعة، وذلوا لي بالعبودية، وخشعوا لأمري ونهيي، كالمجرمين الذي اكتسبوا المآثم، وركبوا المعاصي، وخالفوا أمري ونهيي؟ كَلا ما الله بفاعل ذلك.
وقوله: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أتجعلون المطيع لله من عبيده، والعاصي له منهم في كرامته سواء. يقول جلّ ثناؤه: لا تسوّوا بينهما فأنهما لا يستويان عند الله، بل المطيع له الكرامة الدائمة، والعاصي له الهوان الباقي.(23/552)
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قريش: ألكم أيها القوم بتسويتكم بين المسلمين والمجرمين في كرامة الله كتاب نزل من عند الله أتاكم به رسول من رسله بأن لكم ما تَخَيَّرون، فأنتم تدرسون فيه ما تقولون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) قال: فيه الذي تقولون تقرءونه: تدرسونه، وقرأ: (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) ... إلى آخر الآية.
وقوله: (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ) يقول جلّ ثناؤه: إن لكم في ذلك الذي تخيرون من الأمور لأنفسكم، وهذا أمر من الله، توبيخ لهؤلاء القوم وتقريع لهم فيما كانوا يقولون من الباطل، ويتمنون من الأمانيّ الكاذبة.
وقوله: (أَمْ لَكُمْ) فيه (أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) يقول: هل لكم أيمان علينا تنتهي بكم إلى يوم القيامة، بأن لكم ما تحكمون أي: بأن لكم حكمكم، ولكن الألف كسرت من "إن" لما دخل في الخبر اللام: أي هل لكم أيمان علينا بأن لكم حكمكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سل يا محمد هؤلاء المشركين أيهم بأن لهم علينا أيمانا بالغة بحكمهم إلى يوم القيامة (زَعِيمٌ) يعني: كفيل به، والزعيم عند العرب: الضامن والمتكلم عن القوم.(23/553)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ) يقول: أيهم بذلك كفيل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ) يقول: أيهم بذلك كفيل.
وقوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) يقول تعالى ذكره: ألهؤلاء القوم شركاء فيما يقولون ويصفون من الأمور التي يزعمون أنها لهم، فليأتوا بشركائهم في ذلك إن كانوا فيما يدّعون من الشركاء صادقين.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) }(23/554)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
القول في تأويل قوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) }
يقول تعالى ذكره (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمر شديد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن أُسامة بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: هو يوم حرب وشدّة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن ابن عباس (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: عن أمر عظيم كقول الشاعر:
وقامَتِ الحَرْبُ بنا على ساقٍ (1)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) ولا يبقى مؤمن إلا سجد، ويقسو ظهر الكافر فيكون عظما واحدا.
وكان ابن عباس يقول: يكشف عن أمر عظيم، ألا تسمع العرب تقول:
وقامَتِ الحَرْبُ بنا على ساق
__________
(1) هذا بيت من الرجز المشطور. أنشده المؤلف عند قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) أي: أمر عظيم. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 179) (يوم يكشف عن ساق) إذا اشتد الحرب والأمر، قيل: قد كشف الأمر عن ساقه.(23/554)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يقول: حين يكشف الأمر، وتبدو الأعمال، وكشفه: دخول الآخرة وكشف الأمر عنه.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن ابن عباس، قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة.
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ وابن حميد، قالا ثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: شدة الأمر وجدّه؛ قال ابن عباس: هي أشد ساعة في يوم القيامة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: شدّة الأمر، قال ابن عباس: هي أوّل ساعة تكون في يوم القيامة غير أن في حديث الحارث قال: وقال ابن عباس: هي أشد ساعة تكون في يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران عن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن جبير، قال: عن شدّة الأمر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: عن أمر فظيع جليل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: يوم يكشف عن شدة الأمر.
حدثنا عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) وكان ابن عباس يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: شمّرت الحرب عن ساق يعني إقبال الآخرة وذهاب الدنيا
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزهراء، عن عبد الله، قال: "يتمثل الله للخلق يوم القيامة حتى يمرّ المسلمون، قال: فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئا، فينتهرهم مرّتين أو ثلاثا، فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: سبحانه إذا(23/555)
اعترف إلينا عرفناه، قال: فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن إلا خرّ لله ساجدا، ويبقى المنافقون ظهورهم طَبَقٌ واحد، كأنما فيها السفافيد، فيقولون: ربنا، فيقول: قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن مسعود، قال: "ينادي مناد يوم القيامة: أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم، ثم صورّكم، ثم رزقكم، ثم توليتم غيره أن يولى كُل عبد منكم ما تولى، فيقولون: بلى، قال: فيمثل لكلّ قوم آلهتهم التي كانوا يعبدونها، فيتبعونها حتى توردهم النار، ويبقى أهل الدعوة، فيقول بعضهم لبعض: ماذا تنتظرون، ذهب الناس؟ فيقولون: ننتظر أن يُنادى بنا، فيجيئ إليهم في صورة، قال: فذكر منها ما شاء الله، فيكشف عما شاء الله أن يكشف قال: فيخرّون سجدا إلا المنافقين، فإنه يصير فقار أصلابهم عظما واحدا مثل صياصي البقر، فيقال لهم: ارفعوا رءوسكم إلى نوركم" ثم ذكر قصة فيها طول.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا الأعمش، عن المنهال عن قيس بن سكن، قال: حدّث عبد الله وهو عند عمر (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: "إذا كان يوم القيامة قال: يقوم الناس بين يدي ربّ العالمين أربعين عاما، شاخصة أبصارهم إلى السماء، حُفاة عُراة، يلجمهم العرق، ولا يكلمهم بشر أربعين عاما، ثم ينادي مناد.: يا أيها الناس أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوّركم ورزقكم، ثم عبدتم غيره، أن يولِّىَ كلّ قوم ما تولوا؟ قالوا: نعم؟ قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله؛ قال: ويمثل لكل قوم، يعني آلهتهم، فيتبعونها حتى تقذفهم في النار، فيبقى المسلمون والمنافقون، فيقال: ألا تذهبون فقد ذهب الناس؟ فيقولون: حتى يأتينا ربنا، قال: وتعرفونه؟ فقالوا: إن اعترف لنا، قال: فيتجلى فيخرّ من كان يعبده ساجدا، قال: ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد. قال: فيذهب بهم فيساقون إلى النار، فيقذف بهم، ويدخل هؤلاء الجنة، قال: فيستقبلون في الجنة بما يستقبلون به من الثواب والأزواج والحور العين، لكلّ رجل منهم في الجنة كذا وكذا، بين كل جنة كذا وكذا، بين أدناها وأقصاها ألف سنة هو يرى أقصاها كما يرى أدناها؛ قال: ويستقبله رجل حسن الهيئة إذا نظر إليه مُقبلا حسب(23/556)
أنه ربه، فيقول له: لا تفعل إنما إنا عبدك وقَهْرَمَانك على ألف قرية قال: يقول عمر: يا كعب ألا تسمع ما يحدّث به عبد الله؟.
حدثنا ابن جَبَلة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، قال: ثنا سليمان الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة وقيس بن سكن، قالا قال عبد الله وهو يحدّث عمر، قال: وجعل عمر يقول: ويحك يا كعب، ألا تسمع ما يقول عبد الله؟ "إذا حسر الناس على أرجلهم أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء، لا يكلمهم بشر، والشمس على رءوسهم حتى يلجمهم العرق، كلّ برّ منهم وفاجر، ثم ينادي منادٍ من السماء: يا أيها الناس أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وصوّركم، ثم توليتم غيره، أن يولي كلّ رجل منكم ما تولى؟ فيقولون: بلى؛ ثم ينادي مناد من السماء: يا أيها الناس، فلتنطلق كلّ أمة إلى ما كانت تعبد، قال: ويبسط لهم السراب، قال: فيمثل لهم ما كانوا يعبدون، قال: فينطلقون حتى يلجوا النار، فيقال للمسلمين: ما يحبسكم؟ فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فيقال لهم: هل تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: إن اعترف لنا عرفناه.
قال وثني أبو صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ... حتى إن أحدهم ليلتفّ فيكشف عن ساق، فيقعون سجودا، قال: وتُدْمَج أصلاب المنافقين حتى تكون عظما واحدا، كأنها صياصي البقر، قال: فيقال لهم: أرفعوا رءوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم؛ قال: فترفع طائفة منهم رءوسهم إلى مثل الجبال من النور، فيمرون على الصراط كطرف العين، ثم ترفع أخرى رءوسهم إلى أمثال القصور، فيمرون على الصراط كمرّ الريح، ثم يرفع آخرون بين أيديهم أمثال البيوت، فيمرّون كمرّ الخيل؛ ثم يرفع آخرون إلى نور دون ذلك، فيشدّون شدّا؛ وآخرون دون ذلك يمشون مشيا حتى يبقى آخر الناس رجل على أنملة رجله مثل السراج، فيخرّ مرة، ويستقيم أخرى، وتصيبه النار فتشعث منه حتى يخرج، فيقول: ما أعطي أحد ما أعطيت، ولا يدري مما نجا، غير أني وجدت مسها، وإني وجدت حرّها" وذكر حديثا فيه طول اختصرت هذا منه.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: ثنا هشام بن سعد، قال: ثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخُدْريّ،(23/557)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ألا لتلحق كلّ أمة بما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد صنما ولا وثنا ولا صورة إلا ذهبوا حتى يتساقطوا في النار، ويبقى من كان يعبد الله وحده من برّ وفاجر، وغبرات أهل الكتاب ثم تعرض جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا، ثم تدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: عزَير ابن الله، فيقول: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تريدون؟ فيقولون: أي ربنا ظمئنا فيقول: أفلا تردون فيذهبون حتى يتساقطوا في النار، ثم تدعى النصارى، فيقال: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: المسيح ابن الله، فيقول: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تريدون؟ فيقولون: أي ربنا ظمئنا اسقنا، فيقول: أفلا تردون، فيذهبون فيتساقطون في النار، فيبقى من كان يعبد الله من برّ وفاجر قال: ثم يتبدّى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أوّل مرّة، فيقول: أيها الناس لحقت كلّ أمة بما كانت تعبد، وبقيتم أنتم فلا يكلمه يومئذ إلا الأنبياء، فيقولون: فارقنا الناس في الدنيا، ونحن كنا إلى صحبتهم فيها أحوج لحقت كلّ أمة بما كانت تعبد، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، فيقول: هل بينكم وبين الله آية تعرفونه بها؟ فيقولون نعم، فيكشف عن ساق، فيخرّون سجدًا أجمعون، ولا يبقى أحد كان سجد في الدنيا سمعة ولا رياء ولا نفاقا، إلا صار ظهره طبقا واحدا، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه؛ قال: ثم يرجع يرفع برّنا ومسيئنا، وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أوّل مرّة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعم أنت ربنا ثلاث مرات".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثني أبي وسعيد بن الليث، عن الليث، قال: ثنا خالد بن يزيد، عن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُنادِي مُنادِيهِ فَيَقُول: لِيَلْحَقْ كل قَوْمٍ بِمَا كانُوا يَعْبُدُونَ فَيَذْهَبُ أصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وأصْحَاب الأوْثَانِ مَعَ أوْثانِهِم، وأصحَابُ كُلّ آلهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حتى يَبْقَى مَنْ كانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرّ وَفاجِرٍ وَغبَّرَاتِ (1) أهْل الكِتابِ، ثُمَّ يُؤْتي بِجَهنم تَعْرِضُ كأنَّها
__________
(1) في النهاية لابن الأثير: للغبرات جمع غبر، وهو من الغابر الباقي. وفي السان: وغبر كل شيء " بقيته.(23/558)
سَرَابٌ" ثم ذكر نحوه، غير أنه قال" فإنَّا نَنْتَظِرُ رَبَّنا فقال: إن كان قاله فيأتيهم الجبار"، ثم حدثنا الحديث نحو حديث المسروقي.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن المحاربيّ، عن إسماعيل بن رافع المدنيّ، عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأْخُذُ اللهُ للْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تبعه لأحَدٍ عِنْدَ أحَدٍ جَعَلَ اللهُ مَلَكا مِنَ المَلائِكَةِ على صُورَةِ عُزَيْرٍ، فَتَتْبَعُهُ اليهُودُ، وَجَعَلَ اللهُ مَلَكا مِنَ المَلائِكَةِ على صُورَةِ عيسَى فَتَتْبَعُهُ النَّصَارَى، ثم نادى مُنَادٍ أسمَعَ الخَلائِقَ كُلَّهُمْ، فَقالَ: ألا لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بآلِهَتِهِمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله، فَلا يَبْقَى أحَدٌ كانَ يَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ شَيْئا إلا مُثِّلَ لَهُ آلِهَتُهُ بَينَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قادَتْهُمْ إلى النَّارِ حتى إذَا لَمْ يَبْقَ إلا المُؤْمِنُون فِيهِمُ المُنافِقُون قالَ اللهُ جَل ثَناؤُهُ أيُّها النَّاسُ ذَهَبَ النَّاسُ، ذَهَبَ النَّاسُ، الْحَقُوا بآلِهَتِكُمْ وَما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ وَاللهِ مالَنا إلَهٌ إلا الله وَما كُنَّا نَعْبُدُ إلَها غَيْرَه، وَهُوَ اللهُ ثَبَّتَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُمُ الثَّانِيَةَ مِثْلَ ذلكَ: الْحَقُوا بآلِهَتِكُم وَمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ مِثْلَ ذلكَ، فَيُقَالُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَينَ رَبِّكُم ْ مِنْ آيةٍ تَعْرِفُونَها؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ مِنْ عَظَمَتِهِ ما يَعْرِفُونَهُ أنَّه رَبُّهُمْ فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا على وُجُوهِهمْ وَيَقَعُ كُلُّ مُنافِقٍ على قَفاهُ، وَيَجْعَلُ اللهُ أصْلابَهُمْ كَصَيَاصِي البَقَر".
وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا أبو سعيد روح بن جناح، عن مولى لعمر بن عبد العزيز، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: "عن نور عظيم، يخرّون له سجدًا".
حدثني جعفر بن محمد البزورِيُّ، قال: ثنا عبيد الله، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله الله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: يكشف عن الغطاء، قال: ويُدْعَوْنَ إلى السجود وهم سالمون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن أُسامة بن زيد، عن عكرمة، في قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: هو يومُ كربٍ وشدّة. وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) بمعنى: يوم تكشف القيامة عن شدّة شديدة، والعرب تقول: كشف هذا الأمرُ عن ساق: إذا صار إلى شدّة؛ ومنه قول الشاعر:(23/559)
كَشَفَتْ لَهُمْ عَن ساقِها وَبَدَا مِنَ الشَّرِّ الصَّرَاحُ (1)
وقوله: (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) يقول: ويدعوهم الكشف عن الساق إلى السجود لله تعالى فلا يطيقون ذلك.
وقوله: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) يقول: تغشاهم ذلة من عذاب الله.
(وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) يقول: وقد كانوا في الدينا يدعونهم إلى السجود له، وهم سالمون، لا يمنعهم من ذلك مانع، ولا يحول بينه وبينهم حائل. وقد قيل: السجود في هذا الموضع: الصلاة المكتوبة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم التيمي (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) قال: إلى الصلاة المكتوبة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي سنان، عن سعيد بن جبير (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) قال: يَسْمَعُ المنادي إلى الصلاة المكتوبة فلا يجيبه.
قال ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم التيميّ: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) قال: الصلاة المكتوبة.
وبنحو الذي قلنا في قوله: (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) ... الآية، قال أهل التأويل
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) قال: هم الكفار كانوا يدعون في الدنيا وهم آمنون، فاليوم يدعوهم وهم خائفون، ثم أخبر الله سبحانه أنه حال بين
__________
(1) البيت لجد طرفة كما قال الفراء في معاني القرآن (الورقة 340) قال عند قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) القراء مجتمعون على رفع الياء. وبسنده إلى ابن عباس: أنه قرأ: (يوم تكشف) "بالتاء مفتوحة"، يريد القيامة والساعة لشدتها. قال: وأنشدني بعض العرب لجد طرفة: وهو سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة جد طرفة بن العبد: كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر البراح
وروايته في (اللسان: سوق) عن ديوان الحماسة: "الصراح" في موضع "البراح".(23/560)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا فإنه قال: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) وأما في الآخرة فإنه قال: {فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم} .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) ذلكم والله يوم القيامة. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يُؤْذَنُ للْمُؤْمِنينَ يَوْمُ القِيامَةِ فِي السُّجُودِ، فَيَسْجُدُ المؤمِنُونَ وَبَينَ كلِّ مُؤْمَنْينِ مُنَافِقٌ، فَيَقْسُو ظَهْرُ المُنَافِق عَنِ السُّجُودِ، وَيَجْعَلُ اللهُ سُجُودَ المُؤْمِنينَ عَلَيْهِمْ تَوْبيخا وَذُلا وَصَغارًا، وَنَدَامَةً وَحَسْرَةً".
وقوله: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي في الدنيا (وَهُمْ سَالِمُونَ) أي في الدنيا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: بلغني أنه يُؤْذَن للمؤمنين يوم القيامة في السجود بين كل مؤمنين منافق، يسجد المؤمنون، ولا يستطيع المنافق أن يسجد؛ وأحسبه قال: تقسو ظهورهم، ويكون سجود المؤمنين توبيخا عليهم، قال: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كِلْ يا محمد أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن إليّ، وهذا كقول القائل لآخر غيره يتوعد رجلا دعني وإياه، وخلني وإياه، بمعنى: انه من وراء مساءته. و"مَن" في قوله: (وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ) في موضع نصب، لأن معنى الكلام ما ذكرت، وهو نظير قولهم: لو تُركَت ورأيك ما أفلحت. والعرب تنصب: ورأيك، لأن معنى الكلام: لو وكلتك إلى رأيك لم تفلح.
وقوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) يقول جلّ ثناؤه: سنكيدهم من حيث لا يعلمون، وذلك بأن يمتعهم بمتاع الدنيا حتى يظنوا أنهم متعوا به بخير لهم عند الله، فيتمادوا في طغيانهم، ثم يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون.
وقوله: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) يقول تعالى ذكره: وأنسئ في آجالهم(23/561)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
ملاوة من الزمان، وذلك برهة من الدهر على كفرهم وتمرّدهم على الله لتتكامل حجج الله عليهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) يقول: إن كيدي بأهل الكفر قويّ شديد.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أتسأل يا محمد هؤلاء المشركين بالله على ما أتيتهم به من النصيحة، ودعوتهم إليه من الحقّ، ثوابا وجزاء (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) يعني: من غرم ذلك الأجر مثقلون، قد أثقلهم القيام بأدائه، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك، وتجنبوا لعظم ما أصابهن من ثقل الغرم الذي سألتهم على ذلك الدخول في الذي دعوتهم إليه من الدين.
وقوله: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) يقول: أعندهم اللوح المحفوظ الذي فيه نبأ ما هو كائن، فهم يكتبون منه ما فيه، ويجادلونك به، ويزعمون أنهم على كفرهم بربهم أفضل منزلة عند الله من أهل الإيمان به.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاصبر يا محمد لقضاء ربك وحكمه فيك، وفي هؤلاء المشركين بما أتيتهم به من هذا القرآن، وهذا الدين، وامض لما أمرك به ربك، ولا يثنيك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه تكذيبهم إياك وأذاهم لك.
وقوله: (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) الذي حبسه في بطنه، وهو يونس بن مَتَّى صلى الله عليه وسلم فيعاقبك ربك على تركك تبليغ ذلك، كما عاقبه فحبسه في بطنه: (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) يقول: إذ نادى وهو مغموم، قد أثقله الغمّ وكظمه.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ،(23/562)
عن ابن عباس، قوله: (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) يقول: مغموم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مَكْظُومٌ) قال: مغموم.
وكان قتادة يقول في قوله: (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) : لا تكن مثله في العجلة والغضب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) يقول: لا تعجل كما عَجِل، ولا تغضب كما غضب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
وقوله: (لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) يقول جلّ ثناؤه: لولا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من ربه، فرحمه بها، وتاب عليه من مغاضبته ربه (لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ) وهو الفضاء من الأرض: ومنه قول قيس بن جَعْدة:
وَرَفَعْتُ رِجْلا لا أخافُ عِثارَها وَنَبَذْتُ بالبَلَدِ العَرَاءِ ثِيابِي (1)
(وَهُوَ مَذْمُومٌ) اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (وَهُوَ مَذْمُومٌ) فقال بعضهم: معناه وهو مُلِيم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَهُوَ مَذْمُومٌ) يقول: وهو مليم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهو مذنب
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه عن بكر (وَهُوَ مَذْمُومٌ)
__________
(1) البيت: من شواهد ابي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 179) عند قوله تعالى: (لنبذ بالعراء) قال: لألقى بوجه الأرض. قال رجل من خزاعة يقال له: قيس بن جعدة أحد الفرارين: "ورفعت رجلا.." البيت(23/563)
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
قال: هو مذنب.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) }
يقول تعالى ذكره: فاجتبى صاحبَ الحوت ربُّه، يعني: اصطفاه واختاره لنبوّته (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني من المرسلين العاملين بما أمرهم به ربهم، المنتهين عما نهاهم عنه.
وقوله: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) يقول جلّ ثناؤه: وإن يكاد الذين كفروا يا محمد يَنْفُذونك بأبصارهم من شدة عداوتهم لك ويزيلونك فيرموا بك عند نظرهم إليك غيظا عليك. وقد قيل: إنه عُنِيَ بذلك: وإن يكان الذين كفروا مما عانوك بأبصارهم ليرمون بك يا محمد، ويصرعونك، كما تقول العرب: كاد فلان يصرعني بشدة نظره إليّ، قالوا: وإنما كانت قريش عانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوه بالعين، فنظروا إليه ليعينوه، وقالوا: ما رأينا رجلا مثله، أو إنه لمجنون، فقال الله لنبيه عند ذلك: وإن يكاد الذين كفروا ليرمونك بأبصارهم (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) .
وبنحو الذي قلنا في معنى (لَيُزْلِقُونَكَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس، في قوله: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) يقول: يُنْفُذونك بأبصارهم من شدّة النظر، يقول ابن عباس: يقال للسهم: زَهَق السهم أو زلق.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ)(23/564)
يقول: لَيَنْفُذونك بأبصارهم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) يقول: ليزهقونك بأبصارهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا معاوية، عن إبراهيم، عن عبد الله أنه كان يقرأ: (وَإنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْهِقُونَكَ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في، قوله: (لَيُزْلِقُونَكَ) قال: لينفذونك بأبصارهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) قال: ليزهقونك، وقال الكلبي ليصْرَعونك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) لينفذونك بأبصارهم معاداة لكتاب الله، ولذكر الله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) يقول: يَنْفذونك بأبصارهم من العداوة والبغضاء.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (لَيُزْلِقُونَكَ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة (لَيَزْلِقُونَكَ) بفتح الياء من زلقته أزلقه زَلْفًا. وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة (لَيُزْلِقُونَكَ) بضم الياء من أزلقه يُزْلِقه.
والصواب من القول في ذلك عندي انهما قراءتان معروفتان، ولغتان مشهورتان في العرب متقاربتا المعنى؛ والعرب تقول للذي يحْلِق الرأس: قد أزلقه وزلقه، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) يقول: لما سمعوا كتاب الله يتلى (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المشركون الذين وصف صفتهم إن محمدا لمجنون، وهذا الذي جاءنا به من الهذيان الذي يَهْذِي به في جنونه (وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) وما محمد إلا ذِكر ذَكَّر الله به العالَمَينِ الثقلين الجنّ والإنس.
آخر تفسير سورة ن والقلم.(23/565)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
تفسير سورة الحاقة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) }
يقول تعالى ذكره: الساعة (الْحَاقَّةُ) التي تحقّ فيها الأمور، ويجب فيها الجزاء على الأعمال (مَا الْحَاقَّةُ) يقول: أيّ الساعة الحاقة.
وذُكر عن العرب أنها تقول: لما عرف الحاقة متى والحقة متى، وبالكسر بمعنى واحد في اللغات الثلاث، وتقول: وقد حقّ عليه الشيء إذا وجب، فهو يحقّ حقوقا.
والحاقة الأولى مرفوعة بالثانية، لأن الثانية بمنزلة الكناية عنها، كأنه عجب منها، فقال: (الحاقة) : ما هي، كما يقال: زيد ما زيد.
والحاقة الثانية مرفوعة بما، وما بمعنى أي، وما رفع بالحاقة الثانية، ومثله في القرآن (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) و (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعة) ، فما في موضع رفع بالقارعة الثانية والأولى بجملة الكلام بعدها.
وبنحو الذي قلنا في قوله: (الْحَاقَّةُ) قال أهل التأويل
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (الْحَاقَّةُ) قال: من أسماء يوم القيامة، عظمه الله، وحذّره عباده.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن شريك، عن جابر، عن عكرِمة قال: (الْحَاقَّةُ) القيامة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (الْحَاقَّةُ) يعني: الساعة أحقت لكل عامل عمله.
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (الْحَاقَّةُ) قال: أحقت لكلّ قوم أعمالهم.(23/566)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (الْحَاقَّةُ) يعني القيامة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقة) و (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ) والواقِعةُ، والطَّامَّة، والصَّاخَّة قال: هذا كله يوم القيامة الساعة، وقرأ قول الله: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) والخافضة من هؤلاء أيضا خفضت أهل النار، ولا نعلم أحدا أخفض من أهل النار، ولا أذل ولا أخزى؛ ورفعت أهل الجنة، ولا نعلم أحدا أشرف من أهل الجنة ولا أكرم.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأيّ شيء أدراك وعرّفك أيّ شيء الحاقة.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان قال: ما في القرآن: وما يدريك فلم يخبره، وما كان وما أدراك، فقد أخبره.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) تعظيما ليوم القيامة كما تسمعون.
وقوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ) يقول تعالى ذكره: كذّبت ثمود قوم صالح، وعاد قوم هود بالساعة، التي تقرع قلوب العباد فيها بهجومها عليهم. والقارعة أيضا: اسم من أسماء القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ) ، أي بالساعة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ) قال: القارعة: يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ(23/570)
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) }
يقول تعالى ذكره: (فَأَمَّا ثَمُودُ) قوم صالح، فأهلكهم الله بالطاغية.
واختلف -في معنى الطاغية التي أهلك الله بها ثمود- أهلُ التأويل، فقال بعضهم: هي طغيانهم وكفرهم بالله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ: (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) قال: بالذنوب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) فقرأ قول الله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) وقال: هذه الطاغية طغيانهم وكفرهم بآيات الله. الطاغيَّة طغيانهم الذي طغوا في معاصي الله وخلاف كتاب الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فأهلكوا بالصيحة التي قد جاوزت مقادير الصياح وطغت عليها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (بِالطَّاغِيَةِ) قال: أرسل الله عليهم صيحة واحدة فأهمدتهم.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فأُهلكوا بالصيحة الطاغية.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله إنما أخبر عن ثمود بالمعنى الذي أهلكها به، كما أخبر عن عاد بالذي أهلكها به، فقال: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) ولو كان الخبر عن ثمود بالسبب الذي أهلكها من أجله، كان الخبر أيضا عن عاد كذلك، إذ كان ذلك في سياق واحد، وفي إتباعه ذلك بخبره عن عاد بأن هلاكها كان بالريح الدليل الواضح على أن إخباره عن ثمود إنما هو ما بينت.(23/571)
وقوله: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) يقول تعالى ذكره: وأما عاد قوم هود فأهلكهم الله بريح صرصر، وهي الشديدة العصوف، مع شدة بردها، (عَاتِيَةٍ) يقول: عتت على خزانها في الهبوب، فتجاوزت في الشدّة والعصوف مقدارها المعروف في الهبوب والبرد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) يقول: بريح مهلكة باردة، عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، دائمة لا تَفْتُر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) ، والصرصر: الباردة عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن المسيب، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: "ما أرسل الله من ريح قطّ إلا بمكيال ولا أنزل قطرة قطّ إلا بمثقال، إلا يوم نوح ويوم عاد، فإن الماء يوم نوح طغى على خزانه، فلم يكن لهم عليه سبيل، ثم قرأ: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) ، وإن الريح عتت على خزّانها فلم يكن لهم عليها سبيل، ثم قرأ: (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا أبو سنان، عن غير واحد، عن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، قال: "لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي مَلك؛ فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخُزَّان، فطغى الماء على الجبال فخرج، فذلك قول الله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) ولم ينزل من الريح شيء إلا بكيل على يدي مَلك إلا يوم عاد، فإنه أذن لها دون الخزّان، فخرجت، وذلك قول الله: (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) : عتت على الخزّان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) قال: الصرصر: الشديدة، والعاتية: القاهرة التي عتت عليهم فقهرتهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:(23/572)
(صَرْصَرٍ) قال: شديدة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) يعني: باردة عاتية، عتت عليهم بلا رحمة ولا بركة.
وقوله: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) يقول تعالى ذكره: سخر تلك الرياح على عاد سبع ليال وثمانية أيام حسوما؛ فقال بعضهم: عُني بذلك تباعا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) يقو ل: تباعا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (حُسُومًا) قال: متتابعة.
حدثنا ابن حميد، قال حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود (وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) قال: متتابعة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود مثل حديث محمد بن عمرو.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله (حُسُومًا) قال: تباعا.
قال: ثنا يحيي بن سعيد القطان، قال: ثنا سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، في قوله: (حُسُومًا) قال: تباعا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية (وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) قال: متتابعة.
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثني أبي، قال: ثنا خالد بن قيس، عن قتادة (وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) قال: متتابعة ليس لها فترة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) قال: متتابعة ليس فيها تفتير.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله:(23/573)
(حُسُومًا) قال: دائمات.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر عبد الله بن سَخْبَرَةَ، عن ابن مسعود (أَيَّامٍ حُسُومًا) قال: متتابعة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان قال، قال مجاهد: (أَيَّامٍ حُسُومًا) قال: تباعا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (أَيَّامٍ حُسُومًا) قال: متتابعة، و (أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: مشائيم.
وقال آخرون: عني بقوله: (حُسُومًا) : الريح، وأنها تحسم كلّ شيء، فلا تبقي من عاد أحدا، وجعل هذه الحسوم من صفة الريح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) قال: حسمتهم لم تبق منهم أحدا، قال: ذلك الحسوم مثل الذي يقول: احسم هذا الأمر؛ قال: وكان فيهم ثمانية لهم خلق يذهب بهم في كل مذهب؛ قال، قال موسي بن عقبة: فلما جاءهم العذاب قالوا: قوموا بنا نردّ هذا العذاب عن قومنا؛ قال: فقاموا وصفوا في الوادي، فأوحى الله إلى ملك الريح أن يقلع منهم كل يوم واحدًا، وقرأ قول الله: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) حتى بلغ: (نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) ، قال: فإن كانت الريح لتمرّ بالظعينة فتستدبرها وحمولتها، ثم تذهب بهم في السماء، ثم تكبهم على الرءوس، وقرأ قول الله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) قال: وكان أمسك عنهم المطر، فقرأ حتى بلغ: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) ، قال: وما كانت الريح تقلع من أولئك الثمانية كلّ يوم إلا واحدًا؛ قال: فلما عذّب الله قوم عاد، أبقى الله واحدًا ينذر الناس، قال: فكانت امرأة قد رأت قومها، فقالوا لها: أنت أيضا، قالت: تنحيت على الجبل؛ قال: وقد قيل لها بعد: أنت قد سلمت وقد رأيت، فكيف لا رأيت عذاب الله؟ قالت: ما أدري غير أن أسلم ليلة: ليلة لا ريح.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عُنِي بقوله: (حُسُومًا) : متتابعة، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك. وكان بعض أهل العربية يقول:(23/574)
الحسوم: التباع، إذا تتابع الشيء فلم ينقطع أوّله عن آخره قيل فيه حسوم؛ قال: وإنما أخذوا والله أعلم من حسم الداء: إذا كوى صاحبه، لأنه لحم يكوى بالمكواة، ثم يتابع عليه.
وقوله: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى) يقول: فترى يا محمد قوم عاد في تلك السبع الليالي والثمانية الأيام الحسوم صرعى، قد هلكوا، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) يقول: كأنهم أصول نخل قد خوت.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) : وهي أصول النخل.
وقوله: (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فهل ترى يا محمد لعاد قوم هود من بقاء. وقيل: عُنِي بذلك: فهل ترى منهم باقيا. وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من البصريين يقول: معنى ذلك: فهل ترى لهم من بقية، ويقول: مجازها مجاز الطاغية مصدر.(23/575)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) }
يقول تعالى ذكره: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ) مصر. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَمِنْ قَبْلِهِ) ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة ومكة خلا الكسائي (وَمِنْ قَبْلِهِ) بفتح القاف وسكون الباء، بمعنى: وجاء من قبل فرعون من الأمم المكذّبة بآيات الله، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط بالخطيئة. وقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة والكسائي (وَمَنْ قِبَلِهِ) بكسر القاف وفتح الباء، بمعنى: وجاء مع فرعون من أهل بلده مصر من القبط.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) يقول: والقرى التي أتفكت بأهلها فصار(23/575)
عاليها سافلها (بِالْخَاطِئَةِ) يعني بالخطيئة. وكانت خطيئتها: إتيانها الذكران في أدبارهم.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) ، قرية لوط. وفي بعض القراءات (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) قال: المؤتفكات: قوم لوط، ومدينتهم وزرعهم، وفي قوله: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) قال: أهواها من السماء: رمى بها من السماء؛ أوحى الله إلى جبريل عليه السلام، فاقتلعها من الأرض، ربضها ومدينتها، ثم هوى بها إلى السماء؛ ثم قلبهم إلى الأرض، ثم أتبعهم الصخر حجارة، وقرأ قول الله: (حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً) قال: المسوّمة: المُعَدَّة للعذاب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) : يعني المكذّبين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ) هم قوم لوط، ائتفكت بهم أرضُهم.
وبما قلنا في قوله: (بِالْخَاطِئَةِ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (بِالْخَاطِئَةِ) قال: الخطايا.
وقوله: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) يقول جلّ ثناؤه: فعصى هؤلاء الذين ذكرهم الله، وهم فرعون ومن قبله والمؤتفكات رسول ربهم.
وقوله: (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً) يقول: فأخذهم ربهم بتكذيبهم رسله أخذة، يعني أخذة زائدة شديدة نامية، من قولهم: أربيت: إذا أخذ أكثر مما أعطى من الربا؛ يقال: أربيتَ فرَبا رِباك، والفضة والذهب قد رَبَوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/576)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَخْذَةً رَابِيَةً) قال: شديدة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً) : يعني أخذة شديدة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قول الله: (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً) قال: كما يكون في الخير رابية، كذلك يكون في الشرّ رابية، قال: ربا عليهم: زاد عليهم، وقرأ قول الله عزّ وجلّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) وقرأ قول الله عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) يقول: ربا لهؤلاء الخير ولهؤلاء الشرّ.
وقوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) يقول تعالى ذكره: إنا لما كثر الماء فتجاوز حدّه المعروف، كان له، وذلك زمن الطوفان.
وقيل: إنه زاد فعلا فوق كلّ شيء بقدر خمس عشرة ذراعا.
* ذكر من قال ذلك، ومن قال في قوله: (طَغَى) مثل قولنا:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ) قال: بلغنا أنه طغى فوق كلّ شيء خمس عشرة ذراعا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) : ذاكم زمن نوح، طغى الماء على كلّ شيء خمس عشرة ذراعا بقدر كل شيء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير، في قوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) قال: لم تنزل من السماء قطرة إلا بعلم الخزَّان، إلا حيث طغى الماء، فإنه قد غضب لغضب الله، فطغى على الخزان، فخرج ما لا يعلمون ما هو.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) إنما يقول: لما كثر.(23/577)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ) : يعني كثر الماء ليالي غرّق الله قوم نوح.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ) قال محمد بن عمرو في حديثه: طما، وقال الحارث: ظهر.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، عن الضحاك، في قوله: (لَمَّا طَغَى الْمَاءُ) : كثر وارتفع.
وقوله: (حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) يقول: حملناكم في السفينة التي تجري في الماء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) الجارية: السفينة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) والجارية: سفينة نوح التي حملتم فيها؛ وقيل: حملناكم، فخاطب الذين نزل فيهم القرآن، وإنما حمل أجدادهم نوحا وولده، لأن الذين خوطبوا بذلك ولد الذين حملوا في الجارية، فكان حمل الذين حملوا فيها من الأجداد حملا لذريتهم، على ما قد بيَّنا من نظائر ذلك في أماكن كثيرة من كتابنا هذا.
وقوله: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً) يقول: لنجعل السفينة الجارية التي حملناكم فيها لكم تذكرة، يعني عبرة وموعظة تتعظون بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً) فأبقاها الله تذكرة وعبرة وآية، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعد سفينة نوح قد صارت رمادا.
وقوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) يعني: حافظة عقلت عن الله ما سمعت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/578)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) يقول: حافظة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) يقول: سامعة، وذلك الإعلان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا خالد بن قيس، عن قتادة (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) قال: أذن عقلت عن الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) : أذن عقلت عن الله، فانتفعت بما سمعت من كتاب الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) قال: أذن سمعت، وعقلت ما سمعت.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: الضحاك يقول في قوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) : سمعتها أذن ووعت.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن عليّ بن حوشب، قال: سمعت مكحولا يقول: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) ثم التفت إلى عليّ، فقال: "سأَلْتُ الله أنْ يَجْعَلَها أُذُنَكَ"، قال عليّ رضي الله عنه: فما سمعت شيئا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسيته.
حدثني محمد بن خلف، قال: ثني بشر بن آدم، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، قال: ثني عبد الله بن رستم، قال: سمعت بُرَيدة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعليّ: "يا عَليُّ؛ إنَّ اللهَ أمَرَنِي أنْ أُدْنِيَكَ وَلا أُقْصِيَكَ، وأنْ أُعَلِّمَكَ وأنْ تَعي، وحَقٌّ على اللهِ أنْ تَعِي"، قال: فنزلت (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) .
حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا الحسن بن حماد، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى التيميّ، عن فضيل بن عبد الله، عن أبي داود، عن بُرَيدة الأسلميّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعليّ: "إنَّ اللهَ أمَرَنِي أنْ أُعَلِّمَكَ، وأنْ أُدْنِيَكَ، وَلا أجْفُوَكَ وَلا أُقْصِيَكَ "، ثم ذكر مثله.(23/579)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) قال: واعية يحذرون معاصي الله أن يعذّبهم الله عليها، كما عذّب من كان قبلهم تسمعها فتعيها، إنما تعي القلوب ما تسمع الآذان من الخير والشرّ من باب الوعي.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) }
يقول تعالى ذكره: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) إسرافيل (نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) وهي النفخة الأولى، (وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) يقول: فزلزلتا زلزلة واحدة.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) قال: صارت غبارا. وقيل: (فَدُكَّتَا) وقد ذكر قبل الجبال والأرض، وهي جماع، ولم يقل: فدككن، لأنه جعل الجبال كالشيء الواحد، كما قال الشاعر:
هُمَا سَيِّدَانِ يَزْعُمانِ وإنَّمَا يَسُودانِنا إنْ يَسَّرَتْ غَنماهُمَا (1)
وكما قيل: (أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا) .
(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) يقول جلّ ثناؤه: فيومئذ وقعت الصيحة الساعة، وقامت القيامة.
__________
(1) نسب البيت صاحب اللسان (يسر) والعيني في شرح شواهد الألفية إلى أبي أسيدة الدبيري. وأنشد في اللسان قبله بيتا آخر، وهو: إنَّ لَنَا شَيْخَيْنِ لا يَنفَعَانِنَا ... غَنِيَّيْنِ لا يجْدِى عَلَيْنَا غِنَاهُمَا
أي: ليس فيهما من السيادة إلا كونهما قد يسرت غنماهما، أي: كثرت وكثرت ألبانها ونسلها، والسؤدد يوجب البذل والعطاء والحراسة والحماية وحسن التدبير والحلم، وليس عندهما من ذلك شيء. واستشهد المؤلف بالبيت على أن الشاعر قال: غنماها بلفظ التثنية للغنم، مع أن الغنم اسم للجمع، وليس بمفرد، ولكنه عامله معاملة المفرد، كما اعتبرت الجبال في قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) في حكم المفرد كالأرض، ولذلك قال: فدكتا، ولم يقل فدككن. اهـ. وفي البيت شاهد آخر عند النحويين في باب إلغاء عمل ظن وأفعال القلوب إذا تأخرت عن معموليها، ولو تقدمت عليهما لعملت فيهما النصب(23/580)
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) }
يقول تعالى ذكره: وانصدعت السماء (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) يقول: منشقة متصدّعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ، قال: ثنا أبو أسامة، عن الأجلح، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، قال: "إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا بأهلها، ونزل من فيها من الملائكة، فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فصفوا صفا دون صفّ، ثم نزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض ندّوا، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله الله: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) ، وذلك قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) ، وقوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) ، وذلك قوله: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،(23/581)
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) يعني: متمزّقة ضعيفة.
(وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) يقول تعالى ذكره: والملك على أطراف السماء حين تشقق وحافاتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) يقول: والملك على حافات السماء حين تشقَّق؛ ويقال: على شقة، كل شيء تشقَّق عنه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) قال: أطرافها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) قال: على حافات السماء.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا أبو أُسامة، عن الأجلح، قال، قلت للضحاك: ما أرجاؤها، قال: حافاتها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثني سعيد: عن قتادة (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) : على حافاتها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) قال: بلغني أنها أقطارها، قال قتادة: على نواحيها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) قال: نواحيها.
حدثني الحارث، قال: ثنا الأشيب، قال: ثنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن المسيب: الأرجاء حافات السماء.
قال: ثنا الأشيب، قال: ثنا أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) قال: على ما لم يَهِ منها.
حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا حسين الأشقر، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قوله: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) قال: على ما لم يَهِ منها.
وقوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) ، اختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله: (ثَمَانِيَةَ) ، فقال بعضهم: عني به ثمانية صفوف من الملائكة، لا يعلم عدّتهن إلا الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا طلق عن ظهير، عن السدّي، عن أبي مالك عن(23/582)
ابن عباس: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) قال: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) قال: هي الصفوف من وراء الصفوف.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، عن ابن عباس، في قوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) قال: ثمانية صفوف من الملائكة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) قال بعضهم: ثمانية صفوف لا يعلم عدتهنّ إلا الله. وقال بعضهم: ثمانية أملاك على خلق الوعلة.
وقال آخرون: بل عني به ثمانية أملاك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) قال: ثمانية أملاك، وقال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَحْمِلُهُ اليَوْمَ أرْبَعَةٌ، وَيَوْم القِيامَةِ ثَمَانِيَةٌ"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أقْدامَهُمْ لَفِي الأرْضِ السَّابِعَةِ، وَإنَّ مَناكِبَهُمْ لخَارِجَةٌ مِنَ السَّمَوَاتِ عَلَيْها الْعَرْشُ". قال ابن زيد: الأربعة، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَمَّا خَلَقَهُمُ اللهُ قالَ: تَدْرُون لِمَ خَلَقْتُكُمْ؟ قالُوا: خَلَقْتَنا رَبَّنا لِمَا تَشاءُ، قالَ لَهُمْ: تَحْمِلُونَ عَرْشِي، ثُمَّ قالَ: سَلُوني مِنَ القُوَّةِ ما شئْتُمْ أجْعَلْها فِيكُمْ، فَقالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: قَدْ كانَ عَرْشُ رَبِّنا على المَاءِ، فاجْعل فيَّ قُوَّةَ المَاءِ، قالَ: قَدْ جَعَلْتُ فِيكَ قُوَّةَ المَاءِ؛ وقال آخرُ: اجْعَل فيَّ قُوَّةَ السَّمَوَاتِ، قالَ: قَدْ جَعَلْتُ فيك قُوَّةَ السَّمَوَاتِ؛ وقالَ آخَرُ: اجْعَل فيَّ قُوَّةَ الأرْضِ، قالَ: قَدْ جَعَلْتُ فِيكَ قُوَّةَ الأرْضِ والجِبالِ؛ وقالَ آخَرُ: اجْعَلْ فِيَّ قُوَّةَ الرِّياحِ، قالَ: قَدْ جَعَلْتُ فِيكَ قُوَّةَ الرِّياح؛ ثُمَّ قال: احْمِلُوا، فَوَضَعُوا العَرْش على كَوَاهِلِهِمْ، فَلَمْ يَزُولُوا؛ قالَ: فَجاءَ عِلْمٌ آخَرُ، وإنَّمَا كانَ عِلْمُهُمُ الَّذِي سأَلُوهُ القُوَّةَ، فَقالَ لَهُمْ: قُولُوا: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله،(23/583)
فقالوا: لا حَوْلَ وَلا قوَّةَ إلا بالله، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِمْ مِنْ الْحَوْلِ والقُوَّةِ ما لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُمْ، فَحَمَلُوا".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هُمُ اليَوْمَ أرْبَعَةٌ"، يعني: حملة العرش "وَإذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أيَّدَهُمُ اللهُ بأرْبَعَةٍ آخَرِينَ فكانُوا ثَمانِيَةً وَقَدْ قالَ اللهُ: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة، قوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) قال: أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور.
وقوله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) يقول تعالى ذكره: يومئذ أيها الناس تعرضون على ربكم، وقيل: تعرضون ثلاث عرضات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن قزعة الباهليّ، قال: ثنا وكيع بن الجراح، قال: ثنا عليّ بن عليّ الرفاعي، عن الحسن، عن أبي موسي الأشعري، قال: "تُعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير. وأما الثالثة، فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله".
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سليمان بن حيان، عن مروان الأصغر، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال:"يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: عرضتان معاذير وخصومات، والعرضة الثالثة تطيرّ الصحف في الأيدي".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يُعرضُ الناس ثلاث عرضات يوم القيامة، فأما عرضتان ففيهما خصومات ومعاذير وجدال، وأما العرضة الثالثة فتطيرّ الصحف في الأيدي".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.
وقوله: (لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) يقول جلّ ثناؤه: لا تخفى على الله منكم خافية، لأنه عالم بجميعكم، محيط بكلكم.(23/584)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) }
يقول تعالى ذكره: فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه، فيقول تعالى (اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) .
كما حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) قال: تعالوا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان بعض أهل العلم يقول: وجدت أكيس الناس من قال: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) .
وقوله: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) يقول: إني علمت أني ملاق حسابيه إذا وردت يوم القيامة على ربي.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: (إِنِّي ظَنَنْتُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) يقول: أيقنت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) : ظنّ ظنا يقينا، فنفعه الله بظنه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) قال: إن الظنّ من المؤمن يقين، وإن "عسى" من الله واجب (فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (فعسى أن يكون من المفلحين) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال؛ ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) قال: ما كان من ظنّ الآخرة فهو علم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، قال: كلّ ظنّ في القرآن (إِنِّي ظَنَنْتُ) يقول: أي علمت.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ(23/585)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) }
يقول تعالى ذكره: فالذي وصفت أمره، وهو الذي أوتي كتابه بيمينه، في عيشة مرضية، أو عيشة فيها الرضا، فوصفت العيشة بالرضا وهي مرضية، لأن ذلك مدح للعيشة، والعرب تفعل ذلك في المدح والذّم فتقول: هذا ليل نائم، وسرّ كاتم، وماء دافق، فيوجهون الفعل إليه، وهو في الأصل مقول لما يراد من المدح أو الذّم، ومن قال ذلك لم يجز له أن يقول للضارب مضروب، ولا للمضروب ضارب، لأنه لا مدح فيه ولا ذمّ.
وقوله: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) يقول: في بستان عال رفيع، و"في" من قوله: (فِي جَنَّةٍ) من صلة عيشة.
وقوله: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) يقول: ما يقطف من الجنة من ثمارها دانٍ قريب من قاطفه.
وذُكر أن الذي يريد ثمرها يتناوله كيف شاء قائما وقاعدا، لا يمنعه منه بُعد، ولا يحول بينه وبينه شوك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول في هذه الآية (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) قال: يتناول الرجل من فواكهها وهو نائم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) : دنت فلا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك.
وقوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) يقول لهم ربهم جل ثناؤه: كلوا معشر من رضيت عنه، فأدخلته جنتي من ثمارها، وطيب ما فيها من الأطعمة، واشربوا من أشْرِبتها، هَنِيئا لَكُمْ لا تتأذون بما تأكلون، ولا بما تشربون، ولا تحتاجون من أكل ذلك إلى غائط ولا بول، (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) يقول: كلوا واشربوا هنيئا: جزاء من الله لكم، وثوابا بما أسلفتم، أو على ما أسلفتم: أي على(23/586)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)
ما قدّتم في دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعة الله، (في الأيام الخالية) يقول: في أيام الدنيا التي خلت فمضت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) إن أيامكم هذه أيام خالية: هي أيام فانية، تؤدي إلى أيام باقية، فاعملوا في هذه الأيام، وقدّموا فيها خيرًا إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) قال: أيام الدنيا بما عملوا فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) }
يقول تعالى ذكره: وأما من أعطي يومئذ كتاب أعماله بشماله، فيقول: يا ليتني لم أعط كتابيه، (وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ) يقول: ولم أدر أيّ شيء حسابيه.
وقوله: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) يقول: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كلّ ما بعدها، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث؛ والقضاء: وهو الفراغ.
وقيل: إنه تمنَّى الموت الذي يقضي عليه، فتخرج منه نفسه
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) : تمنى الموت، ولم يكن في الدنيا شيء أكره عنده من الموت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) : الموت.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي(23/587)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)
سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الذي أوتي كتابه بشماله: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) يعني أنه لم يدفع عنه ماله الذي كان يملكه في الدنيا من عذاب الله شيئا، (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) يقول: ذهبت عني حججي، وضلت، فلا حجة لي أحتجّ بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) يقول: ضلت عني كلّ بينة فلم تغن عني شيئا.
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطُّفاويّ، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربيّ، قال: سمعت عكرِمة يقول: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) قال: حُجتي.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (هلك عني سلطانية) قال: حُجتي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) : أما والله ما كلّ من دخل النار كان أمير قرية يجبيها، ولكن الله خلقهم، وسلطهم على أقرانهم، وأمرهم بطاعة الله، ونهاهم عن معصية الله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) يقول: بينتي ضلَّت عني.
وقال آخرون: عني بالسلطان في هذا الموضع: الملك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) قال: سلطان الدنيا.
وقوله: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) يقول تعالى ذكره لملائكته من خزّان جهنم: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) يقول: ثم في نار جهنم أوردوه ليصلى فيها، (فِي سِلْسِلَةٍ(23/588)
ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) يقول: ثم اسلكوه في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا، بذراع الله أعلم بقدر طولها وقيل: إنها تدخل في دُبُره، ثم تخرج من منخريه.
وقال بعضهم: تدخل في فيه، وتخرج من دبره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق، قال: سمعت نوفا يقول: (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) قال: كلّ ذراع سبعون باعا، الباع: أبعد ما بينك وبين مكة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثني نسير، قال: سمعت نوفا يقول في رحبة الكوفة، في إمارة مصعب بن الزبير، في قوله: (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) قال: الذراع: سبعون باعا، الباع: أبعد ما بينك وبين مكة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة، عن نوف البكالي (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) قال: كلّ ذراع سبعون باعا، كلّ باع أبعد مما بينك وبين مكة، وهو يومئذ في مسجد الكوفة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) قال: بذراع الملك فاسلكوه، قال: تسلك في دُبره حتى تخرج من منخريه، حتى لا يقوم على رجليه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشير المنقري، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أنَّ رُصَاصَةً مِثْلَ هَذِهِ، وأشار إلى جمجمة، أُرْسِلَتْ مِنْ السَّماء إلى الأرْض، وَهَي مَسِيَرةُ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ، لَبَلَغَتِ الأرْضَ قَبْلَ اللَّيْل، وَلَوْ أنَّها أُرْسِلَتْ مِنْ رأس السّلْسِلَةِ لَسَارَتْ أرْبَعِينَ خَرِيفا اللَّيْلَ والنَّهارَ قَبْلَ أنْ تَبْلُغَ قَعْرَها أوْ أصْلَها".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن ابن المبارك، عن مجاهد، عن جُويبر، عن الضحاك، (فَاسْلُكُوهُ) قال: السلك: أن تدخل السلسلة في فيه، وتخرج من دبره. وقيل: (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) وإنما تسلك السلسلة في فيه، كما قالت العرب: أدخلت رأسي في القلنسوة، وإنما تدخل القلنسوة في الرأس،(23/589)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
وكما قال الأعشى:
إذَا ما السَّرَابُ ارْتَدَى بالأكَمْ (1)
وإنما يرتدي الأكم بالسراب وما أشبه ذلك، وإنما قيل ذلك كذلك لمعرفة السامعين معناه، وإنه لا يشكل على سامعه ما أراد قائله.
وقوله: (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) يقول: افعلوا ذلك به جزاء له على كفره بالله في الدنيا، إنه كان لا يصدّق بوحدانية الله العظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) }
__________
(1) هذا عجز بيت لأعشى بني قيس ثعلبة، من قصيدة له، يمدح بها قيس بن معد يكرب (35) وما بعدها، ورواية البيت كله كما في الديوان: غَضُوبٌ مِنَ السَّيْفِ زَيَّافَة..... ... إذا ما ارْتَدَى بالسَّرابِ الأكَمْ
على رواية المؤلف يكون في البيت قلب؛ لأن المعنى: إذا ارتدى الأكم بالسراب، كما في رواية الديوان. وأما على رواية الديوان فلا قلب. وقد جعل المؤلف على روايته القلب في البيت نظير ما في قوله تعالى: (ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) قال: تسلك السلسلة في فيه، كما قالت العرب: أدخلت رأسي في القلنسوة، وإنما تدخل القلنسوة في الرأس. وإنما قيل ذلك كذلك؛ لمعرفة السامعين معناه، وأنه لا يشكل على سامعه ما أراد قائله. اهـ.(23/590)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا (35) وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ (37) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هذا الشقيّ الذي أوتي كتابه بشماله: إنه كان في الدنيا لا يحضُّ الناس على إطعام أهل المسكنة والحاجة.
وقوله: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ) يقول جلّ ثناؤه: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ) وذلك يوم القيامة، (هَاهُنَا) يعني في الدار الآخرة، (حَمِيم) ، يعني قريب يدفع عنه، ويغيثه مما هو فيه من البلاء.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ) القريب في كلام العرب، (وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ) يقول جلّ ثناؤه: ولا له طعام كما كان لا يحضّ في الدنيا على طعام المسكين، إلا طعام(23/590)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)
من غسلين، وذلك ما يسيل من صديد أهل النار.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: كلّ جرح غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين، فعلين من الغسل من الجراح والدَّبر، وزيد فيه الياء والنون بمنزلة عفرين.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ) : صديد أهل النار.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ) قال: ما يخرج من لحومهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ) : شرّ الطعام وأخبثه وأبشعه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس، قال: اخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ) قال: الغسلين والزقوم لا يعلم أحد ما هو.
وقوله: (لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ) يقول: لا يأكل الطعام الذي من غسلين إلا الخاطئون، وهم المذنبون الذين ذنوبهم كفر بالله.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره: فلا ما الأمر كما تقولون معشر أهل التكذيب بكتاب الله ورسله، أقسم بالأشياء كلها التي تبصرون منها، والتي لا تبصرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (فَلا(23/591)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ) قال: أقسم بالأشياء، حتى أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ) يقول: بما ترون وبما لا ترون.
وقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يقول تعالى ذكره: إن هذا القرآن لقول رسول كريم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم يتلوه عليهم.
وقوله: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ) يقول جلّ ثناؤه: ما هذا القرآن بقول شاعر؛ لأن محمدًا لا يُحسن قيل الشعر، فتقولوا هو شعر، (قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ) يقول: تصدّقون قليلا به أنتم، وذلك خطاب من الله لمشركي قريش، (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ) يقول: ولا هو بقول كاهن، لأن محمدًا ليس بكاهن، فتقولوا: هو من سجع الكهان، (قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ) يقول: تتعظون به أنتم، قليلا ما تعتبرون به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ) : طهَّره الله من ذلك وعصمه، (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ) ، طهَّره الله من الكهانة، وعصمه منها.
القول في تأويل قوله تعالى: {تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ (44) لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) }
يقول تعالى ذكره: ولكنه (تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) نزل عليه، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا) محمد، (بَعْضَ الأقَاوِيلِ) الباطلة، وتكذب علينا، (لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) يقول: لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة، ثم لقطعنا منه نياط القلب، وإنما يعني بذلك أنه كان يعاجله بالعقوبة، ولا يؤخره بها.(23/592)
وقد قيل: إن معنى قوله: (لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) : لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه؛ قالوا: وإنما ذلك مثل، ومعناه: إنا كنا نذله ونهينه، ثم نقطع منه بعد ذلك الوتين، قالوا: وإنما ذلك كقول ذي السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه لبعض أعوانه، خذ بيده فأقمه، وافعل به كذا وكذا، قالوا: وكذلك معنى قوله: (لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي لأهناه كالذي يفعل بالذي وصفنا حاله.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (الْوَتِينَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: (لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) قال: نياط القلب.
حدثني ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بمثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بمثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال، قال ابن عباس (الْوَتِينَ) : نِياط القلب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير بنحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن سعيد بن جبير بمثله.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) يقول: عرق القلب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) يعني: عرقا في القلب، ويقال: هو حبل في القلب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الْوَتِينَ) قال: حبل القلب الذي في الظهر.(23/593)
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) قال: حبل القلب.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) وتين القلب، وهو عرق يكون في القلب، فإذا قطع مات الإنسان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) قال: الوتين: نياط القلب الذي القلب متعلق به، وإياه عنى الشماخ بن ضرار التغلبي بقوله:
إذَا بَلَّغْتِني وَحَمَلْتِ رَحْلِي عَرَابَةَ فاشْرَقي بدَمِ الوَتينَ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) }
يقول تعالى ذكره: فما منكم أيها الناس من أحد عن محمد لو تقوّل علينا بعض الأقاويل، فأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، حاجزين يحجزوننا عن عقوبته، وما نفعله به. وقيل: حاجزين، فجمع، وهو فعل لأحد، وأحد في لفظ واحد ردّا على معناه، لأن معناه الجمع، والعرب تجعل أحدا للواحد والاثنين والجمع، كما قيل (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) وبين: لا تقع إلا على اثنين فصاعدا.
وقوله: (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن لتذكرة،
__________
(1) البيت للشماخ بن ضرار التغلبي (ديوانه طبع القاهرة 92) من قصيدة يمدح بها عرابة بن أوس بن قيظي، وكان هو وأبوه من الصحابة، وكان عرابة مشهورًا بالكرم. وعرابة منصوب مفعول ثان لبلغتني. والوتين: قال أبو عبيدة: نياط القلب. وأنشد بيت الشماخ (الورقة 180) وفي اللسان: الوتين: عرق في القلب، إذا انقطع مات صاحبه.(23/594)
يعني عظة يتذكر به، ويتعظ به للمتقين، وهم الذين يتقون عقاب الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) قال: القرآن.
قوله: (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) يقول تعالى ذكره: وإنا لنعلم أن منكم مكذّبين أيها الناس بهذا القرآن، (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ) يقول جلّ ثناؤه: وأن التكذيب به لحسرة وندامة على الكافرين بالقرآن يوم القيامة
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ) : ذاكم يوم القيامة، (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) يقول: وإنه للحقّ اليقين الذين لا شكّ فيه أنه من عند الله، لم يتقوّله محمد صلى الله عليه وسلم، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) بذكر ربك وتسميته العظيم، الذي كلّ شيء في عظمته صغير.
آخر تفسير سورة الحاقة.(23/595)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
تفسير سورة سأل سائل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا (5) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (سَأَلَ سَائِلٌ) ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة: (سَأَلَ سَائِلٌ) بهمز سأل سائل، بمعنى سأل سائل من الكفار عن عذاب الله، بمن هو واقع، وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة (سالَ سَائِلٌ) فلم يهمز سأل، ووجهه إلى أنه فعل من السيل.
والذي هو أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأه بالهمز؛ لإجماع الحجة من القرّاء على ذلك، وأن عامة أهل التأويل من السلف بمعنى الهمز تأوّلوه.
* ذكر من تأوّل ذلك كذلك، وقال تأويله نحو قولنا فيه:
حدثني محمد بن سعيد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) قال: ذاك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد (إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) ... الآية، قال (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) .
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (سَأَلَ سَائِلٌ) قال: دعا داع، (بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) قال: يقع في الآخرة، قال: وهو قولهم: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) .(23/596)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) قال: سأل عذاب الله أقوام، فبين الله على من يقع؛ على الكافرين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (سَأَلَ سَائِلٌ) قال: سأل عن عذاب واقع، فقال الله: (لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ) .
وأما الذين قرءوا ذلك بغير همز، فإنهم قالوا: السائل واد من أودية جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله الله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) قال: قال بعض أهل العلم: هو واد في جهنم يقال له سائل.
وقوله: (بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ) يقول: سأل بعذاب للكافرين واجب لهم يوم القيامة واقع بهم، ومعنى (لِلْكَافِرِينَ) على الكافرين، كالذي حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ) يقول: واقع على الكافرين، واللام في قوله: (لِلْكَافِرِينَ) من صلة الواقع.
وقوله: (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ) يقول تعالى ذكره: ليس للعذاب الواقع على الكافرين من الله دافع يدفعه عنهم.
وقوله: (ذِي الْمَعَارِجِ) يعني: ذا العلوّ والدرجات والفواضل والنعم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (ذِي الْمَعَارِجِ) يقول: العلوّ والفواضل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ) : ذي الفواضل والنِّعم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ) قال: معارج السماء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (ذِي(23/600)
الْمَعَارِجِ) قال: الله ذو المعارج.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (ذِي الْمَعَارِجِ) قال: ذي الدرجات.
وقوله: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) يقول تعالى ذكره: تصعد الملائكة والروح، وهو جبريل عليه السلام إليه، يعني إلى الله جلّ وعزّ، والهاء في قوله: (إِلَيْهِ) عائدة على اسم الله، (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) يقول: كان مقدار صعودهم ذلك في يوم لغيرهم من الخلق خمسين ألف سنة، وذلك أنها تصعد من منتهى أمره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره، من فوق السموات السبع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عمرو بن معروف، عن ليث، عن مجاهد (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال: منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة؛ ويوم كان مقداره ألف سنة، يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة، لأن ما بين السماء إلى الأرض، مسيرة خمس مئة عام.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم يفرغ فيه من القضاء بين خلقه، كان قدر ذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدر خمسين ألف سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرِمة (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال: في يوم واحد يفرغ في ذلك اليوم من القضاء كقدر خمسين ألف سنة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال: يوم القيامة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة في هذه الآية (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال: يوم القيامة.(23/601)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) : ذاكم يوم القيامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال معمر: وبلغني أيضا، عن عكرِمة، في قوله: (مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) : لا يدري أحدٌ كم مضى، ولا كم بقي إلا الله.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فهذا يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) : يعني يوم القيامة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال: هذا يوم القيامة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن درّاجا حدّثه عن أبي الهيثم عن سعيد، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ما أطول هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلى المُؤْمِنِ حتى يَكُونَ أخَفَّ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلاةِ المَكْتُوبَةِ يُصَلِّيها فِي الدُّنْيا".
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك غير القول الذي ذكرنا عنه، وذلك ما:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، أن رجلا سأل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة، فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ قال: إنما سألتك لتخبرني، قال: هما يومان ذكرهما الله في القرآن، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: سأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة، قال: فاتهمه، فقيل له فيه، فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال: إنما سألتك لتخبرني، فقال: هما يومان ذكرهما الله جلّ وعزّ، الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا(23/602)
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
أعلم؛ وقرأت عامة قرّاء الأمصار قوله: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) بالتاء خلا الكسائي، فإنه كان يقرأ ذلك بالياء بخبر كان يرويه عن ابن مسعود أنه قرأ ذلك كذلك.
والصواب من قراءة ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، وهو بالتاء لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا) يقول تعالى ذكره: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا) يعني: صبرا لا جزع فيه. يقول له: اصبر على أذى هؤلاء المشركين لك، ولا يثنيك ما تلقى منهم من المكروه عن تبليغ ما أمرك ربك أن تبلغهم من الرسالة.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا) قال: هذا حين كان يأمره بالعفو عنهم لا يكافئهم، فلما أمر بالجهاد والغلظة عليهم أمر بالشدّة والقتل حتى يتركوا، ونسخ هذا، وهذا الذي قاله ابن زيد أنه كان أمر بالعفو بهذه الآية، ثم نسخ ذلك قول لا وجه له، لأنه لا دلالة على صحة ما قال من بعض الأوجه التي تصحّ منها الدعاوى، وليس في أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الصبر الجميل على أذى المشركين ما يوجب أن يكون ذلك أمرا منه له به في بعض الأحوال؛ بل كان ذلك أمرا من الله له به في كل الأحوال، لأنه لم يزل صلى الله عليه وسلم من لدن بعثه الله إلى أن اخترمه في أذى منهم، وهو في كل ذلك صابر على ما يلقى منهم من أذى قبل أن يأذن الله له بحربهم، وبعد إذنه له بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ}(23/603)
يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المشركين يرون العذاب الذي سألوا عنه، الواقع عليهم، بعيدا وقوعه، وإنما أخبر جلّ ثناؤه أنهم يرون ذلك بعيدا، لأنهم كانوا لا يصدّقون به، وينكرون البعث بعد الممات، والثواب والعقاب، فقال: إنهم يرونه غير واقع، ونحن نراه قريبا، لأنه كائن، وكلّ ما هو آت قريب.(23/603)
والهاء والميم من قوله: (إِنَّهُمْ) من ذكر الكافرين، والهاء من قوله: (يَرَوْنَهُ) من ذكر العذاب.
وقوله: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)
يقول تعالى ذكره: يوم تكون السماء كالشيء المذاب، وقد بينت معنى المهل فيما مضى بشواهده، واختلاف المختلفين فيه، وذكرنا ما قال فيه السلف، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) قال: كَعَكَرِ الزيت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) : تتحوّل يومئذ لونا آخر إلى الحمرة.
وقوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) يقول: وتكون الجبال كالصوف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (كَالْعِهْنِ) قال: كالصوف.
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (كَالْعِهْنِ) قال: كالصوف.
وقوله: (وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ) يقول تعالى ذكره: ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه لشغله بشأن نفسه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال؛ ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) يشغل كلّ إنسان بنفسه عن الناس.
وقوله: (يُبَصَّرُونَهُمْ) اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بالهاء والميم في قوله: (يُبَصَّرُونَهُمْ) فقال بعضهم: عني بذلك الأقرباء انهم يعرّفون أقرباءهم، ويعرّف كلّ(23/604)
إنسان قريبه، فذلك تبصير الله إياهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يُبَصَّرُونَهُمْ) قال: يَعرف بعضهم بعضا، ويتعارفون بينهم، ثم يفرّ بعضهم من بعض، يقول: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) .
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يُبَصَّرُونَهُمْ) يعرفونهم يعلمون، والله ليعرِّفَنَّ قوم قوما، وأناس أناسا.
وقال آخرون: بل عني بذلك المؤمنون أنهم يبصرون الكفار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُبَصَّرُونَهُمْ) المؤمنون يبصرون الكافرين.
وقال آخرون: بل عني بذلك الكفار، الذين كانوا أتباعا لآخرين في الدنيا على الكفر، أنهم يعرفون المتبوعين في النار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (يُبَصَّرُونَهُمْ) قال: يبصرون الذين أضلوهم في الدنيا في النار.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: معنى ذلك: ولا يسأل حميم حميما عن شأنه، ولكنهم يبصرونهم فيعرفونهم، ثم يفرّ بعضهم من بعض، كما قال جلّ ثناؤه: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالصواب، لأن ذلك أشبهها بما دل عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن قوله: (يُبَصَّرُونَهُمْ) تلا قوله: (وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) ، فلأن تكون الهاء والميم من ذكرهم أشبه منها بأن تكون من ذكر غيرهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَلا يُسْأَلُ) فقرأ ذلك عامة قرّاة الأمصار سوى أبي جعفر القارئ وشَيبة بفتح الياء؛ وقرأه أبو جعفر وشيبة (وَلا يُسْئَلُ) بضم الياء، يعني: لا يقال لحميم أين حميمك؟ ولا يطلب بعضهم من بعض.(23/605)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
والصواب من القراءة عندنا فتح الياء، بمعنى: لا يسأل الناس بعضهم بعضا عن شأنه، لصحة معنى ذلك، ولإجماع الحجة من القرّاء عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) }
يقول تعالى ذكره: يودّ الكافر يومئذ ويتمنى أنه يفتدي من عذاب الله إياه ذلك اليوم ببنيه وصاحبته، وهي زوجته، وأخيه وفصيلته، وهم عشيرته التي تؤويه، يعني التي تضمه إلى رحله، وتنزل فيه امرأته، لقربة ما بينها وبينه، وبمن في الأرض جميعا من الخلق، ثم ينجيه ذلك من عذاب الله إياه ذلك اليوم، وبدأ جلّ ثناؤه بذكر البنين، ثم الصاحبة، ثم الأخ، إعلاما منه عباده أن الكافر من عظيم ما ينزل به يومئذ من البلاء يفتدي نفسه، لو وجد إلى ذلك سبيل بأحب الناس إليه، كان في الدنيا، وأقربهم إليه نسبا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) الأحبّ فالأحبّ، والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته لشدائد ذلك اليوم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) قال: قبيلته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَصَاحِبَتِهِ) قال: الصاحبة الزوجة، (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) قال: فصيلته: عشيرته.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا إِنَّهَا لَظَى (15) نزاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) }(23/606)
يقول تعالى ذكره: كلا ليس ذلك كذلك، ليس ينجيه من عذاب الله شيء. ثم ابتدأ الخبر عما أعدّه له هنالك جلّ ثناؤه، فقال: (إِنَّهَا لَظَى) ولظى: اسم من أسماء جهنم، ولذلك لم يجر.
واختلف أهل العربية في موضعها، فقال بعض نحويي البصرة: موضعها نصب على البدل من الهاء، وخبر إن: (نزاعَةً) ؛ قال: وان شئت جعلت لظَى رفعا على خبر إن، ورفعت (نزاعَةً) على الابتداء، وقال بعض من أنكر ذلك: لا ينبغي أن يتبع الظاهر المكنى إلا في الشذوذ؛ قال: والاختيار (إِنَّهَا لَظَى نزاعَةً لِلشَّوَى) لظى الخبر، ونزاعة حال، قال: ومن رفع استأنف، لأنه مدح أو ذمّ، قال: ولا تكون ابتداء إلا كذلك.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن (لَظَى) الخبر، و (نزاعَةً) ابتداء، فذلك رفع، ولا يجوز النصب في القراءة لإجماع قرّاء الأمصار على رفعها، ولا قارئ قرأ كذلك بالنصب؛ وإن كان للنصب في العربية وجه؛ وقد يجوز أن تكون الهاء من قوله: "إنها" عمادا، ولظى مرفوعة بنزاعة، ونزاعة بلظَى، كما يقال: إنها هند قائمة، وإنه هند قائمة، والهاء عماد في الوجهين.
وقوله: (نزاعَةً لِلشَّوَى) يقول تعالى ذكره مخبرا عن لظَى: إنها تنزع جلدة الرأس وأطراف البدن، والشَّوَى: جمع شواة، وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا يقال: رمى فأشوى إذا لم يصب مَقْتلا فربما وصف الواصف بذلك جلدة الرأس كما قال الأعشى:
قالَتْ قُتَيْلَةُ ما لَهُ قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبا شَوَاتُهُ (1)
وربما وصف بذلك الساق كقولهم في صفة الفرس:
عبْلُ الشَّوَى نَهْدُ الجُزَارَة (2)
__________
(1) البيت في ديوان الأعشى (طبعة فيينا 238) قال: وهو مما نسب إلى الأعشى، وليس في ديوانه. وهو من شواهد أبي عبيدة (في مجاز القرآن الورقة 180) . قال: الشوى: واحدها: شواة، وهي اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، قال الأعشى: "قالت قتيلة.." البيت. وفي (اللسان: شوى) قال الفراء: في قوله تعالى: (كلا إنها لظى نزاعة للشوى) قال: الشوى: اليدان، والرجلان، وأطراف الأصابع، وقحف الرأس. وجلدة الرأس يقال لها: شواة. وقال الزجاج: الشوى: جمع الشواة، وهي جلدة الرأس، وأنشد: "قالت قتيلة ما له.." البيت.
(2) هذه عجز بيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة من قصيدة من مجزوء الكامل يهجو شيبان بن شهاب الجحدري مطلعها: "يا جارتي ما كنت جاره". (ديوانه طبع القاهرة 153 وما بعدها) . وهاك بيت الشاهد بتمامه مع بيتين قبله من (خزانة الأدب الكبرى 1: 83) : وهناك يكذب ظنكم ... أنْ لا اجْتِماعَ ولا زِيارَهْ
ولا بَرَاءَةَ للبرِي ... ءِ وَلا عَطاء ولا خفارَهْ
إلا عُلالةَ أو بُدا ... هَةَ سابِحٍ نهْد الجُزارَهْ
قال البغددادي: يقول: إذا غزوناكم علمتم أن ظنكم بأننا لا نغزوكم كذب، وهو زعمكم أننا لا نجتمع ولا نزوركم بالخيل والسلاح غازين لكم، ومن كان بريا منكم لم تنفعه براءته؛ لأن الحرب إذا عظمت لحق شرها البريء، كما يلحق المسيء ولا نقبل منكم عطاء، ولا نعطيكم خفارة تفتنون بها منا، والخفارة بالضم والكسر: الذمة إلا علالة: أي لكن نزوركم بالخيل. والعلالة: بقية جري الفرس من التعلل بمعنى: التلهي.
والبداهة: أول جري الفرس. والسابح: الفرس الذي يدحو الأرض بيديه في العدو. والنهد: المرتفع. والجزارة: الرأس واليدان والرجلان. يريد أن في عنقه وقوائمه طولا وارتفاعا، فإنه يستحب في عنق الخيل الطول واللين. ويستحب أيضا أن يكون ما فوق الساقين من الفخدين طويلا، فيوصف حينئذ بطول القوائم. اهـ والشطر الذي أورده المؤلف شاهدًا، يختلف عن شطر الأعشى، ولكن فيه موضع الشاهد. اهـ.(23/607)
يعني بذلك: قوائمه، وأصل ذلك كله ما وصفت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الحبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس عن: (نزاعَةً لِلشَّوَى) : قال: تنزع أمّ الرأس.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف، قال: ثنا الحسين بن الحسن الأشقر، قال: ثنا يحيى بن مهلب أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (نزاعَةً لِلشَّوَى) قال: تنزع الرأس.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (نزاعَةً لِلشَّوَى) : يعني الجلود والهام.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (نزاعَةً لِلشَّوَى) قال: لجلود الرأس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، قال:(23/608)
سألت سعيد بن جبير عن قوله: (نزاعَةً لِلشَّوَى) فلم يخبر، فسألت عنها مجاهدًا، فقلت: اللحم دون العظم؟ فقال: نعم.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح (نزاعَةً لِلشَّوَى) قال: لحم الساق.
حدثني محمد بن عُمارة الأسديّ، قال: ثنا قبيصة بن عقبة السُّوائّي، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: (نزاعَةً لِلشَّوَى) قال: نزاعة للحم الساقين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن خارجة، عن قرة بن خالد، عن الحسن (نزاعَةً لِلشَّوَى) قال: للهام تحرق كلّ شيء منه، ويبقى فؤاده نضيجا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن الحسن، في قوله: (نزاعَةً لِلشَّوَى) ثم ذكر نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (نزاعَةً لِلشَّوَى) : أي نزاعة لهامته ومكارم خَلْقِهِ وأطرافه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (نزاعَةً لِلشَّوَى) : تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (نزاعَةً لِلشَّوَى) قال: الشوى: الآراب العظام، ذاك الشوى.
وقوله: (نزاعَةً) قال: تقطع عظامهم كما ترى، ثم يجدّد خلقهم، وتبدّل جلودهم.
وقوله: (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) يقول: تدعو لظى إلى نفسها من أدبر في الدنيا عن طاعة الله، وتولى عن الإيمان بكتابه ورسله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) قال: عن طاعة الله، (وَتَوَلَّى) قال: عن كتاب الله، وعن حقه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) قال: عن الحق.(23/609)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) قال: ليس لها سلطان إلا على هوانِ مَنْ كفر وتولى وأدبر عن الله، فأما من آمن بالله ورسوله، فليس لها عليه سلطان.
وقوله: (وَجَمَعَ فَأَوْعَى) يقول: وجمع مالا فجعله في وعاء، ومنع حق الله منه، فلم يزك ولم ينفق فيما أوجب الله عليه إنفاقه فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَجَمَعَ فَأَوْعَى) قال: جمع المال.
حدثنا محمد بن منصور الطوسي، قال: ثنا أبو قطن، قال: ثنا المسعودي، عن الحكم، قال: كان عبد الله بن عكيم، لا يربط كيسه، يقول: سمعت الله يقول: (وَجَمَعَ فَأَوْعَى) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَمَعَ فَأَوْعَى) كان جموعا قموما للخبيث.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره: (إِنَّ الإنْسَانَ) الكافر (خُلِقَ هَلُوعًا) والهلع: شدّة الجَزَع مع شدّة الحرص والضجر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبى عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) قال: هو الذي قال الله(23/610)
(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) ويقال: الهَلُوع: هو الجَزُوع الحريص، وهذا في أهل الشرك.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) قال: شحيحا جَزُوعا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد عن عكرمة (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) قال: ضَجُورًا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: (إِنَّ الإنْسَانَ) يعني: الكافر، (خُلِقَ هَلُوعًا) يقول: هو بخيل منوع للخير، جَزُوع إذا نزل به البلاء، فهذا الهلوع.
حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا شعبة، عن حصين، قال يحيى، قال خالد: وسألت شعبة عن قوله: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) فحدثني شعبة عن حصين أنه قال: الهلوع: الحريص.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، قال: سألت حصينا عن هذه الآية: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) قال: حريصا.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) قال: الهلوع: الجزوع.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (خُلِقَ هَلُوعًا) قال: جزوعا.
وقوله: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) يقول: إذا قلّ ماله وناله الفقر والعدم فهو جزوع من ذلك، لا صبر له عليه: (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) يقول: وإذا كثر ماله، ونال الغنى فهو منوع لما في يده، بخيل به، لا ينفقه في طاعة الله، ولا يؤدّي حق الله منه.
وقوله: (إِلا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) يقول: إلا الذين يطيعون الله بأداء ما افترض عليهم من الصلاة، وهم على أداء ذلك مقيمون لا يضيعون منها شيئا، فإن أولئك غير داخلين في عداد من خلق هلوعا، وهو مع ذلك بربه كافر لا يصلي لله.(23/611)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
وقيل: عُني بقوله: (إِلا الْمُصَلِّينَ) المؤمنون الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: عُنِي به كلّ من صلى الخمس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ومؤمل، قالا ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) قال: المكتوبة.
حدثني زريق بن السخب، قال: ثنا معاوية بن عمرو، قال: ثنا زائدة، عن منصور، عن إبراهيم (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) قال: الصلوات الخمس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ... ) إلى قوله: (دَائِمُونَ) ذكر لنا أن دانيال نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: يصلون صلاة لو صلاها قوم نوح ما غرقوا، أو عاد ما أُرسلت عليهم الريح العقيم، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة، فعليكم بالصلاة فإنها خُلُقٌ للمؤمنين حسن.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) قال: الصلاة المكتوبة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) قال: هؤلاء المؤمنون الذين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على صلاتهم دائمون.
قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا حَيْوة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير أنه سأل عقبة بن عامر الجُهَنّي، عن: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) قال: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا خَلْفَهم، ولا عن أيمانهم، ولا عن شمائلهم.
حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرنا أبي، قال: ثنا الأوزاعي، قال: ثني يحيى بن أبي كثير، قال: ثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثتني عائشة -زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خُذُوا مِنَ العَمَلِ ما تُطِيقُونَ، فإنَّ الله لا يَمَلُّ حَتى تَمَلُّوا" قالت: وكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دُووم عليه. قال: يقول أبو سلمة: إن الله يقول: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)(23/612)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) }
يقول تعالى ذكره: وإلا الذين في أموالهم حقّ مؤقت، وهو الزكاة للسائل الذي يسأله من ماله، والمحروم الذي قد حرم الغنى، فهو فقير لا يسأل.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالحقّ المعلوم الذي ذكره الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو الزكاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال: الحقّ المعلوم: الزكاة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) : قال: الزكاة المفروضة.
وقال آخرون: بل ذلك حقّ سوى الزكاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس في قوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) يقول: هو سوى الصدقة يصل بها رحمه، أو يقري بها ضيفا، أو يحمل بها كلا أو يُعِين بها محرومًا.
حدثني ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن، عن شعبة، عن أبي يونس، عن رباح بن عبيدة، عن قزعة، أن ابن عمر سُئل عن قوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أهي الزكاة؟ فقال: إن عليك حقوقا سوى ذلك.
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا بيان، عن الشعبيّ، قال: إن في المال حقا سوى الزكاة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: في المال حقّ سوى الزكاة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: (فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) قال: سوى الزكاة، وأجمعوا على أن السائل هو الذي وصفت صفته.(23/613)
واختلفوا أيضا في معنى المحروم في هذا الموضع، نحو اختلافهم فيه في الذاريات، وقد ذكرنا ما قالوا فيه هنالك، ودللنا على الصحيح منه عندنا، غير أن نذكر بعض ما لم نذكر من الأخبار هنالك.
* ذكر من قال: هو المحارَف (1) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن الوليد بن العيزار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: المحروم: هو المحارَف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: المحروم: المحارَف.
حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن قيس بن كركم، عن ابن عباس قال: (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) : المحارف الذي ليس له في الإسلام نصيب.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن قيس بن كركم، عن ابن عباس أنه قال: المحروم المحارَف الذي ليس له في الإسلام سهم.
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن قيس بن كركم، عن ابن عباس، في هذه الآية (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال: السائل الذي يسأل، والمحروم: المحَارف.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق يحدّث عن قيس بن كركم، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال: السائل: الذي يسأل والمحروم: المحارَف.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن قيس بن كركم، قال: سألت ابن عباس، عن قوله: (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال: السائل: الذي يسأل، والمحروم: المحارَف الذي ليس له في الإسلام سهم.
حدثني محمد بن عمر بن عليّ المقدمي، قال: ثنا قريش بن أنس، عن سليمان،
__________
(1) في اللسان: المحارف: الذي لا يصيب خيرا من وجه توجه له. وقال الشافعي: المحروم المحارف: الذي يحترف بيديه، قد حرم سهمه من الغنيمة، لا يغزو مع المسلمين، فبقي محرومًا، وما يعطي من الصدقة ما يسد حرمانه.(23/614)
عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: المحروم: المحارف.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا قريش، عن سليمان، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، قال: سألت سعيد بن جبير، عن المحروم، فلم يقل فيه شيئا؛ قال: وقال عطاء: هو المحدود المحارف.
حدثنا ابن حميد، ثنا مهران عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن قيس بن كركم، عن ابن عباس، قال: السائل: الذي يسأل الناس، والمحروم: الذي لا سهم له في الإسلام، وهو محارف من الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: المحروم: الذي لا يُهدى له شيء وهو محارف.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: المحروم: هو المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه، فلا يسأل الناس.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، قال في المحروم: هو المحارف الذي ليس له أحد يعطف عليه، أو يعطيه شيئا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن منصور، عن إبراهيم، قال: المحروم: الذي لا فيء له في الإسلام، وهو محارف في الناس.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع: المحروم: هو المحارف.
وقال آخرون: هو الذي لا سهم له في الغنيمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أن ناسا قَدِموا على عليّ رضي الله عنه الكوفة بعد وقعة الجمل، فقال: اقسموا لهم، وقال: هذا المحروم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: المحروم: المحارف الذي ليس له في الغنيمة شيء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.(23/615)
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قيس بن مسلم الجدّلي، عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فغنموا، وفتح عليهم، فجاء قوم لم يشهدوا، فنزلت: (فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) يعني: هؤلاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فغنموا، فجاء قوم لم يشهدوا الغنائم، فنزلت: (فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن سفيان، عن قيس بن مسلم الجدلي، عن الحسن بن محمد، قال: بعثت سرية فغنموا، ثم جاء قوم من بعدهم، قال: فنزلت (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد "أن قوما في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم أصابوا غنيمة، فجاء قوم بعد، فنزلت: (فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ".
وقال آخرون: هو الذي لا ينمي له مال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، قال: سألت عكرِمة عن السائل والمحروم، قال: السائل: الذي يسألك، والمحروم: الذي لا ينمي له مال.
وقال آخرون: هو الذي قد اجتيح ماله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: أخبرنا شعبة، عن عاصم، عن أبي قلابة، قال: جاء سيل باليمامة، فذهب بمال رجل، فقال رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: هذا المحروم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَالْمَحْرُومِ) قال: المحروم: المصاب ثمره وزرعه، وقرأ: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ ... ) حتى بلغ (مَحْرُومُونَ) وقال أصحاب الجنة: (إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) .
وقال الشعبي ما حدثني به يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، قال، قال الشعبيّ: أعياني أن أعلم ما المحروم.(23/616)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
وقال قتادة، ما حدثني به ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال: السائل: الذي يسأل بكفه، والمحروم: المتعفف، ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) وهو سائل يسألك في كفه، وفقير متعفِّف لا يسأل الناس، ولكليهما عليك حقّ.
وقوله: (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) يقول: وإلا الذين يقرّون بالبعث يوم البعث والمجازاة.
وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) يقول: والذين هم في الدنيا من عذاب ربهم وجلون أن يعذبهم في الآخرة، فهم من خشية ذلك لا يضيعون له فرضا، ولا يتعدّون له حدّا.
وقوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أن ينال من عصاه وخالف أمره.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) }
يقول تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) يعني: أقبالهم حافظون عن كلّ ما حرم الله عليهم وضعها فيه، (إِلا) أنهم غير ملومين في ترك حفظها، (عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) من إمائهم. وقيل: (لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) ولم يتقدم ذلك جحد لدلالة قوله: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) ، على أن في الكلام معنى جحد، وذلك كقول القائل: اعمل ما بدا لك إلا على ارتكاب المعصية، فإنك معاقب عليه، ومعناه: اعمل ما بدا لك إلا أنك معاقب على ارتكاب المعصية.
قوله: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) فمن التمس لفرجه منكحا سوى زوجته، أو ملك يمينه، ففاعلو ذلك هم العادون، الذي عدوا ما أحل الله لهم إلى ما حرّم عليهم فهم الملومون.(23/617)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره: وإلا الذين هم لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من فرائضه، وأمانات عباده التي ائتُمِنُوا عليها، وعهوده التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعهود عباده التي أعطاهم على ما عقده لهم على نفسه راعون، يرقبون ذلك، ويحفظونه فلا يضيعونه، ولكنهم يؤدّونها ويتعاهدونها على ما ألزمهم الله وأوجب عليهم حفظها، (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ) يقول: والذين لا يكتمون ما استشهدوا عليه، ولكنهم يقومون بأدائها، حيث يلزمهم أداؤها غير مغيرة ولا مبدّلة، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) يقول: والذين هم على مواقيت صلاتهم التي فرضها الله عليهم وحدودها التي أوجبها عليهم يحافظون، ولا يضيعون لها ميقاتا ولا حدّا.
وقوله: (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) يقول عزّ وجل: هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال في بساتين مكرمون، يكرمهم الله بكرامته.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) }
يقول تعالى ذكره: فما شأن الذين كفروا بالله قبلك يا محمد مهطعين؛ وقد بيَّنا معنى الإهطاع، وما قال أهل التأويل فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكره هنالك.
فقال قتادة فيه ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) يقول: عامدين.
وقال ابن زيد فيه ما حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد،(23/618)
قوله: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) قال: المهطع: الذي لا يطرف. وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: معناه: مسرعين.
ورُوي فيه عن الحسن ما حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قُرة، عن الحسن، في قوله: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) قال: منطلقين.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا حماد بن مسعدة، قال: ثنا قرة، عن الحسن، مثله.
وقوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) يقول: عن يمينك يا محمد، وعن شمالك متفرّقين حلقا ومجالس، جماعة جماعة، معرضين عنك وعن كتاب الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) قال: قبلك ينظرون، (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) قال: العزين: العصب من الناس عن يمين وشمال، معرضين عنه، يستهزئون به.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) قال: مجالس مجنبين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) يقول: عامدين، (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) : أي فرقا حول نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (عِزِينَ) قال: العزين: الحلق المجالس.
حدثنا عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (عِزِينَ) قال: حلقا ورفقاء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) قال: المجلس الذي فيه الثلاثة والأربعة، والمجالس الثلاثة والأربعة أولئك العزون.(23/619)
حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: أخبرنا أبو الأحوص، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة يرفعه قال: "مالي أرَاكُمْ عِزِينَ" والعزين: الحلق المتفرّقة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا شقيق، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق حِلَق، فقال: "مالي أرَاكمْ عِزِينَ".
حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة الطائي، عن جابر بن سمرة، قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن متفرّقون، فقال: "ما لَكُمْ عِزِينَ".
حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة، قال: جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ناس من أصحابه وهم جلوس، فقال: "مالي أرَاكُمْ عِزِينَ حِلقَا".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة، قال: جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ناس من أصحابه وهم جلوس، فقال: "مالي أرَاكُمْ عِزِينَ حِلقَا".
حدثني ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة الطائي، قال: ثنا جابر بن سمرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق، فقال: "مالي أرَاكُمْ عِزِينَ" يقول: حلقا، يعني قوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن الحسن، في قوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) قال: عزين: متفرّقين، يأخذون يمينا وشمالا يقولون: ما قال هذا الرجل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا حماد بن مسعدة، قال: ثنا قرة، عن الحسن، مثله. وواحد العزين: عزة، كما واحد الثبين ثبة، وواحد الكُرين كرة. ومن العزين قول راعي الإبل:
أخَلِيفَة الرَّحْمَنِ إنَّ عَشِيرَتِي أمسَى سَوَامُهُمُ عِزِينَ فُلُولا (1)
__________
(1) هذا البيت لعبيد الراعي، من قصيدة أبياتها (89 بيتا) يمدح بها عبد الملك بن مروان ويشكو من السعاة، وهم الذين يأخذون الزكاة من قبل السلطان: (خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 1: 502) وعدها صاحب جمهرة أشعار العرب (172 - 176 - من القصائد الملحمات) . والسوائم: الإبل ترسل للرعي. وعزين: جمع عزة، وهي الجماعة القليلة. والفلول: جمع فل، وهو بقية الشيء الكبير، ومنه فلول المعارك، وهم المنهزمون. يقول: إن السعاة لم يتركوا لنا من أموالنا إلا ما لا خير فيه، واستولوا منا على أكرم أموالنا، فلم يبق لنا منها إلا أشياء قليلة مفرقة هنا وهناك في مراعينا، وكانت قبل كثيرة. والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 180) قال: عزين: جماع عزة، مثل ثبة وثبين، وهي جماعات متفرقة. قال الراعي.." البيت. وفي فتح القدير في التفسير، للشوكاني (5: 285) "وأمسى سراتهم" في موضع "أمسى سوائمهم". والمعنى على هذا: أن سراة قوم الشاعر قد وفدوا على عبد الملك بن مروان جماعة بعد جماعة، للتظلم من عسف السعاة بهم. وهذا واضح جيد.(23/620)
وقوله: (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) يقول: أيطمع كلّ امرئ من هؤلاء الذين كفروا قبلك مهطعين أن يدخله الله جنة نعيم: أي بساتين نعيم ينعم فيها.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: (أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار: (يَدْخُلَ) بضمّ الياء على وجه ما لم يسمّ فاعله، غير الحسن وطلحة بن مصرف، فإنه ذكر عنهما أنهما كانا يقرآنه بفتح الياء، بمعنى: أيطمع كلّ امرئ منهم أن يدخل كلّ امرئ منهم جنة نعيم.
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار، وهي ضم الياء لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: (كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) يقول عزّ وجلّ: ليس الأمر كما يطمع فيه هؤلاء الكفار من أن يدخل كل امرئ منهم جنة نعيم.
وقوله: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) يقول جلّ وعزّ: أنا خلقناهم من منيّ قذر، وإنما يستوجب دخول الجنة من يستوجبه منهم بالطاعة، لا بأنه مخلوق، فكيف يطمعون في دخول الجنة وهم عصاة كفرة.
وقد حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) إنما خُلقتَ من قَذرٍ يا ابن آدم، فاتق الله.(23/621)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ(23/621)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره: فلا أقسم بربّ مشارق الأرض ومغاربها، (إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ) يقول: إنا لقادرون على أن نهلكهم، ونأتي بخير منهم من الخلق يطيعونني ولا يعصونني، (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) يقول تعالى ذكره: وما يفوتنا منهم أحد بأمر نريده منه، فيعجزنا هربا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، قال، قال ابن عباس: إن الشمس تطلع كلّ سنة في ثلاث مئة وستين كوّة، تطلع كلّ يوم في كوّة، لا ترجع إلى تلك الكوّة إلى ذلك اليوم من العام المقبل، ولا تطلع إلا وهي كارهة، تقول: ربّ لا تطلعني على عبادك، فإني أراهم يعصونك، يعملون بمعاصيك أراهم، قال أولم تسمعوا إلى قول أمية بن أبي الصلت:
حتى تُجَرَّ وتُجْلَدَ (1)
قلت: يا مولاه وتجلد الشمس؟ فقال: عضضت بهن أبيك، إنما اضطره الروّي إلى الجلد.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني ابن عمارة، عن عكرِمة، عن ابن عباس في
__________
(1) هذا جزء من بيت لأمية بن أبي الصلت الثقفي:
(الشعر والشعراء لابن قتيبة - ليدن 280) ورواية البيت بتمامه فيه: لَيْسَتْ بطالِعَةٍ لَهُمْ فِي رِسْلِها ... إلا مُعَذَّبَةً وإلا تُجْلَدُ
قال: يقولون: إن الشمس إذا غربت امتنعت من الطلوع، وقالت لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، حتى تدفع وتجلد، فتطلع.
ورواية البيت في الأغاني لأبي الفرج (طبعة دار الكتب 4: 130) مع البيت الذي قبله هي: والشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ ليْلَةٍ ... حَمْرَاءَ مَطْلَعُ لَوْنِها مُتَوَرِّدُ
تأبى فَلا تَبْدُو لَنا فِي رِسْلِها ... إلا مُعَذَّبَةً وَإلا تُجْلَدُ
ومن هاتين الروايتين يعلم أن شاهد المؤلف: مبتور محرف. قلت: والذي قاله ابن عباس في تفسير طلوع الشمس كل سنة في 360 كوة..إلخ، صحيح من ناحية العلم. أما تفسير بيت أمية: بأن الملائكة تدفعها حتى تطلع فتأبى فتجلد، فهو تخييل وتمثيل وزجر لمن يعبدون الشمس.(23/622)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
قول الله: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) قال: إن الشمس تطلع من ثلاث مئة وستين مطلعا، تطلع كُلّ يوم من مطلع لا تعود فيه إلى قابل، ولا تطلع إلا وهي كارهة، قال عكرمة: فقلت له: قد قال الشاعر:
حتى تُجَرَّ وتُجْلَدَ
قال: فقال ابن عباس: عضضت بهن أبيك، إنما اضطره الرويّ.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر، قال: أخبرنا شعبة، قال: أخبرنا عمارة، عن عكرِمة، عن ابن عباس: إن الشمس تطلع في ثلاث مئة وستين كوّة، فإذا طلعت في كوّة لم تطلع منها حتى العام المقبل، ولا تطلع إلا وهي كارهة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) قال: هو مطلع الشمس ومغربها، ومطلع القمر ومغربه.
وقوله: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فذر هؤلاء المشركين المهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين، يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في هذه الدنيا، (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يقول: حتى يلاقوا عذاب يوم القيامة الذي يوعدونه.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) }
وقوله: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ) بيان وتوجيه عن اليوم الأولّ الذي في قوله: (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ، وتأويل الكلام: حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدونه يوم يخرجون من الأجداث وهي القبور: واحدها جدث (سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) .
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا) : أي من القبور سراعا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله. وقد(23/623)
بيَّنا الجدث فيما مضى قبل بشواهده، وما قال أهل العلم فيه.
وقوله: (إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) يقول: كأنهم إلى عَلَم قد نُصب لهم يستبقون.
وأجمعت قرّاء الأمصار على فتح النون من قوله: (نَصْبٍ) غير الحسن البصري، فإنه ذكر عنه أنه كان يضمها مع الصاد؛ وكأن من فتحها يوجه النصب إلى أنه مصدر من قول القائل: نصبت الشيء أنصبه نصبا. وكان تأويله عندهم: كأنهم إلى صنم منصوب يسرعون سعيا. وأما من ضمها مع الصاد فأنه يوجه إلى أنه واحد الأنصاب، وهي آلهتهم التي كانوا يعبدونها.
وأما قوله: (يُوفِضُونَ) فإن الإيفاض: هو الإسراع؛ ومنه قول الشاعر:
لأنْعَتَنْ نَعامَةً مِيفاضَا خَرْجاءَ تَغْدو تطْلُبُ الإضَاضَا (1)
يقول: تطلب ملجأ تلجأ إليه؛ والإيفاض: السرعة؛ وقال رؤبة:
تَمْشِي بنا الجِدّ على أوْفاضٍ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا ابن أبي عدي عن عوف، عن أبي العالية، أنه قال في هذه الآية (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) قال:
__________
(1) البيتان في (اللسان: وفض) ولم ينسبهما. استشهد المؤلف عند قوله تعالى: (كأنهم إلى نصب يوفضون) على أن معنى الإيفاض: الإسراع. ومنه نعامة ميفاض، وناقة ميفاض: أي مسرعة. والخرجاء: التي في لونها سواد وبياض. ظليم أخرج، ونعامة خرجاء. وقال الليث: ظليم أخرج، وهو الذي لون سواده أكثر من بياضه. والإضاض، بكسر الهمزة: الملجأ. (عن هامش اللسان: وفض) . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن: يوفضون: يسرعون، قال رؤبة: يُمْسِي بِنَا الجِدُّ عَلى أوْفاضِ
(ديوانه 81) . والبيتان من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 342) قال: وقوله: (إلى نصب يوفضون) الإيفاض: الإسراع.
وقال الشاعر: "ولأنعتن.." البيتين. وفي روايته: ظلت في موضع "تغدو". قال الخرجاء: في اللون، فإذا رقع للقميص الأبيض برقعة حمراء؛ فهو أخرج. "تطلب الإضاضا" أي: تطلب موضعا تدخل فيه، وتلجأ إليه. اهـ
(2) البيت لرؤبة (اللسان: وفض) . وقال: قبله. ويقال لقيته على أوفاض: على عجلة، مثل أوفاز وجاء على وفض ووفض (بتسكين الفاء وفتحها) أي: على عجل(23/624)
إلى علامات يستبقون.
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) قال: إلى علم يسعون.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُوفِضُونَ) قال: يستبقون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) : إلى علم يسعون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) قال: إلى عَلَم يوفضون، قال: يسعون.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت أبا عمر يقول: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) قال: إلى غاية يستبقون.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) إلى علم ينطلقون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) قال: إلى علم يستبقون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) قال: النصب: حجارة كانوا يعبدونها، حجارة طوال يقال لها نصب.
وفي قوله: (يُوفِضُونَ) قال: يُسرعون إليه كما يُسرعون إلى نصب يوفضون؛ قال ابن زيد: والأنصاب التي كان أهل الجاهلية يعبدونها ويأتونها ويعظمونها، كان أحدهم يحمله معه، فإذا رأى أحسن منه أخذه، وألقى هذا، فقال له: (كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا مرّة، عن الحسن، في قوله: (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) قال: يبتدرون إلى نصبهم أيهم يستلمه أوّل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا حماد بن مسعدة، قال: ثنا قرّة، عن الحسن، مثله.
وقوله: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ) يقول: خاضعة أبصارهم للذي هم فيه من الخزي(23/625)
والهوان، (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) يقول: تغشاهم ذلة، (ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) يقول عزّ وجلّ: هذا اليوم الذي وصفت صفته، وهو يوم القيامة، الذي كان مشركو قريش يوعدونَ في الدنيا أنهم لا قوه في الآخرة، كانوا يُكَذّبون به.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ذَلِكَ الْيَوْمُ) : يوم القيامة (الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) .
آخر تفسير سورة سأل سائل.(23/626)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
تفسير سورة نوح
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) }
يقول تعالى ذكره: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا) وهو نوح بن لمَكَ (إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: أرسلناه إليهم بأن أنذر قومك؛ فأن في موضع نصب في قول بعض أهل العربية، وفي موضع خفض في قول بعضهم.
وقد بيَّنت العلل لكلّ فريق منهم، والصواب عندنا من القول في ذلك فيما مضى من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وهي في قراءة عبد الله (1) فيما ذُكر (إنَّا أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ أنْذِرْ قَوْمَكَ) بغير "أن"، وجاز ذلك لأن الإرسال بمعنى القول، فكأنه قيل: قلنا لنوح: أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم؛ وذلك العذاب الأليم هو الطوفان الذي غرّقهم الله به.
وقوله: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه: يا قوم إني لكم نذير مبين، أنذركم عذاب الله فاحذروه أن ينزل بكم على كفركم به (مُبِينٌ) يقول: قد أبنت لكم إنذاري إياكم.
وقوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) بأن اعبدوا الله، يقول: إني لكم نذير أنذركم، وآمركم
__________
(1) هو عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، مقرئ القرآن، ومعلم أهل الكوفة.(23/627)
بعبادة الله (وَاتَّقُوهُ) يقول: واتقوا عقابه بالإيمان به، والعمل بطاعته (وَأَطِيعُونِ) يقول: وانتهوا إلى ما آمركم به، واقبلوا نصيحتي لكم.
وقد حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) قال: أرسل الله المرسلين بأن يُعْبَد اللهُ وحده، وأن تتقي محارمه، وأن يُطاع أمره.
وقوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) يقول: يغفر لكم ذنوبكم.
فإن قال قائل: أو ليست "من" دالة على البعض؟ قيل: إن لها معنيين وموضعين، فأما أحد الموضعين فهو الموضع الذي لا يصح فيه غيرها. وإذا كان ذلك كذلك لم تدلّ إلا على البعض، وذلك كقولك: اشتريت من مماليكك، فلا يصح في هذا الموضع غيرها، ومعناها: البعض، اشتريت بعض مماليكك، ومن مماليكك مملوكا. والموضع الآخر: هو الذي يصلح فيه مكانها عن فإذا، صلحت مكانها "عن" دلت على الجميع، وذلك كقولك: وجع بطني من طعام طعمته، فإن معنى ذلك: أوجع بطني طعام طعمته، وتصلح مكان "من" عن، وذلك أنك تضع موضعها "عن"، فيصلح الكلام فتقول: وجع بطني عن طعام طعمته، ومن طعام طعمته، فكذلك قوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) إنما هو: ويصفح لكم، ويعفو لكم عنها؛ وقد يحتمل أن يكون معناها يغفر لكم من ذنوبكم ما قد وعدكم العقوبة عليه. فأما ما لم يعدكم العقوبة عليه فقد تقدّم عفوه لكم عنها.
وقوله: (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يقول: ويؤخِّر في آجالكم فلا يهلككم بالعذاب، لا بغَرَق ولا غيره (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يقول: إلى حين كتب أنه يبقيكم إليه، إن أنتم أطعتموه وعبدتموه، في أمّ الكتاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال: ما قد خطّ من الأجل، فإذا جاء أجل الله لا يؤخَّر.
وقوله: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يقول تعالى ذكره:(23/630)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
إن أجل الله الذي قد كتبه على خلقه في أمّ الكتاب إذا جاء عنده لا يؤخر عن ميقاته، فينظر بعده (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يقول: لو علمتم أن ذلك كذلك، لأنبتم إلى طاعة ربكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) }
يقول تعالى ذكره: قال نوح لما بلغ قومه رسالة ربه، وأنذرهم ما أمره به أن ينذرهموه فعصوه، وردّوا عليه ما أتاهم به من عنده (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا) إلى توحيدك وعبادتك، وحذرتهم بأسك وسطوتك، (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا) يقول: فلم يزدهم دعائي إياهم إلى ما دعوتهم إليه من الحقّ الذي أرسلتني به لهم (إِلا فِرَارًا) يقول: إلا إدبارا عنه وهربا منه وإعراضا عنه.
وقد حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا) قال: بلغنا أنهم كانوا يذهب الرجل بابنه إلى نوح، فيقول لابنه: احذر هذا لا يغوينك، فأراني قد ذهب بي أبي إليه وأنا مثلك، فحذرني كما حذّرتك.
وقوله: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) يقول جلّ وعزّ: وإني كلما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك، والعمل بطاعتك، والبراءة من عبادة كلّ ما سواك، لتغفر لهم إذا هم فعلوا ذلك جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا دعائي إياهم إلى ذلك (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) يقول: وتغشوا في ثيابهم، وتغطوا بها لئلا يسمعوا دعائي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) لئلا يسمعوا كلام نوح عليه السلام.
وقوله: (وَأَصَرُّوا) يقول: وثبتوا على ما هم عليه من الكفر وأقاموا عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/631)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَأَصَرُّوا) قال: الإصرار إقامتهم على الشرّ والكفر.
وقوله: (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) يقول: وتكبروا فتعاظموا عن الإذعان للحقّ، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) }(23/632)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
القول في تأويل قوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) }
يقول: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ) إلى ما أمرتني أن أدعوهم إليه (جِهَارًا) ظاهرا في غير خفاء.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ووقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا) قال: الجهار الكلام المعلن به.
وقوله: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) يقول: صرخت لهم، وصحت بالذي أمرتني به من الإنذار.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَعْلَنْتُ لَهُمْ) قال: صحْت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد (أَعْلَنْتُ لَهُمْ) يقول: صحت بهم.
وقوله: (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) يقول: وأسررت لهم ذلك فيما بيني وبينهم في خفاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/632)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد، قوله: (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) قال: فيما بيني وبينهم.
وقوله: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) يقول: فقلت لهم: سلوا ربكم غفران ذنوبكم، وتوبوا إليه من كفركم، وعبادة ما سواه من الآلهة ووحدوه، وأخلصوا له العبادة، يغفر لكم، إنه كان غفارًا لذنوب من أناب إليه، وتاب إليه من ذنوبه.
وقوله: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) يقول: يسقيكم ربكم إن تبتم ووحدتموه وأخلصتم له العبادة الغيث، فيرسل به السماء عليكم مدرارا متتابعا.
وقد حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا سفيان، عن مطرف، عن الشعبيّ، قال: خرج عمر بن الخطاب يستسقي، فما زاد على الاستغفار، ثم رجع فقالوا: يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت، فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) وقرأ الآية التي في سورة هود حتى بلغ: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) }
وقوله: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) يقول: ويعطكم مع ذلك ربكم أموالا وبنين، فيكثرها عندكم ويزيد فيما عندكم منها (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) يقول: يرزقكم بساتين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) تسقون منها جناتكم ومزارعكم؛ وقال ذلك لهم نوح، لأنهم كانوا فيما ذُكر قوم يحبون الأموال والأولاد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا) ... إلى قوله: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) قال: رأى نوح قوما تجزّعت(23/633)
أعناقهم حرصا على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإن فيها درك الدنيا والآخرة.
وقوله: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: ما لكم لا ترون لله عظمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) يقول: عظمة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) قال: لا ترون لله عظمة.
حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح وقيس، عن مجاهد، في قوله: (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) قال: لا تبالون لله عظمة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عمرو بن عبيد، عن منصور، عن مجاهد (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) قال: كانوا لا يبالون عظمة الله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) يقول: عظمة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) قال: لا تبالون عظمة ربكم؛ قال: والرجاء: الطمع والمخافة.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تعظمون الله حق عظمته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سلم بن جنادة، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) قال: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته.
وقال آخرون: ما لكم لا تعلمون لله عظمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) يقول: ما لكم لا تعلمون لله عظمة.(23/634)
وقال آخرون: بل معنى ذلك ما لكم لا ترجون لله عاقبة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) أي عاقبة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) قال: لا ترجون لله عاقبة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما لكم لا ترجون لله طاعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) قال: الوقار: الطاعة.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ما لكم لا تخافون لله عظمة، وذلك أن الرجاء قد تضعه العرب إذا صحبه الجحد في موضع الخوف، كما قال أبو ذُويب:
إذا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَم يَرْجُ لَسْعَها وَخالَفَها في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ (1)
يعني بقوله: "ولم يرج": لم يخف.
وقوله: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)
يقول: وقد خلقكم حالا بعد حال، طورا نُطْفة، وطورا عَلَقة، وطورا مضغة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) يقول: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَقَدْ خَلَقَكُمْ
__________
(1) سيق استشهاد المؤلف بالبيت في الجزءين (5: 264، 11: 87) وشرحناه فيهما شرحا مستوفى، فراجعه فيهما.(23/635)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
أَطْوَارًا) قال: من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم ما ذكر حتى يتمّ خلقه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا عظاما، ثم كسا العظام لحما، ثم أنشأه خلقا آخر، أنبت به الشعر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) قال: نطفة، ثم علقة، ثم خلقا طورا بعد طور.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) يقول: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) قال: طورا النطفة، ثم طورا أمشاجا حين يمشج النطفة الدم، ثم يغلب الدم على النطفة، فتكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكسى العظام لحما.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) قال: نطفة، ثم علقة، شيئا بعد شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح صلوات الله وسلامه عليه، لقومه المشركين بربهم، محتجا عليهم بحجج الله في وحدانيته: (أَلَمْ تَرَوْا) أيها القوم فتعتبروا (كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا) بعضها فوق بعض، والطباق: مصدر من قولهم: طابقت مطابقة وطباقا. وإنما عني بذلك: كيف خلق الله سبع سموات، سماء فوق سماء مطابقة.
وقوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) يقول: وجعل القمر في السموات السبع نورا (وَجَعَلَ الشَّمْسَ) فيهن (سِرَاجًا) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/636)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) ذكر لنا أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقول: إن ضوء الشمس والقمر نورهما في السماء، اقرءوا إن شئتم: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا) ... إلى آخر الآية.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إن الشمس والقمر وجوههما قِبَل السموات، وأقفيتهما قِبَل الأرض، وأنا أقرأ بذلك آية من كتاب الله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) يقول: خلق القمر يوم خلق سبع سموات.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: إنما قيل (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) على المجاز، كما يقال: أتيت بني تميم، وإنما أتى بعضهم (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا) يقول: والله أنشأكم من تراب الأرض، فخلقكم منه إنشاء (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا) يقول: ثم يعيدكم في الأرض كما كنتم ترابا فيصيركم كما كنتم من قبل أن يخلقكم (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) يقول ويخرجكم منها إذا شاء أحياء كما كنتم بشرا من قبل أن يعيدكم فيها، فيصيركم ترابا إخراجا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه، مذكِّرهم نِعَم ربه: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا) تستقرّون عليها وتمتهدونها.
وقوله: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا) يقول: لتسلكوا منها طرقا صعابا متفرقة؛ والفجاج: جمع فجّ، وهو الطريق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/637)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا) قال: طرقا وأعلاما.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا) قال: طرقا.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا) يقول: طُرقًا مختلفة.
وقوله: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فخالفوا أمري، وردّوا عليّ ما دعوتهم إليه من الهدى والرشاد (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا) يقول: واتبعوا في معصيتهم إياي من دعاهم إلى ذلك، ممن كثر ماله وولده، فلم تزده كثرة ماله وولده إلا خسارا، بُعدا من الله، وذهابا عن مَحَجَّة الطريق.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَوَلَدُهُ) فقرأته عامة قرّاء المدينة: (وَوَلَدُهُ) بفتح الواو واللام، وكذلك قرءوا ذلك في جميع القرآن. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بضم الواو وسكون اللام، وكذلك كلّ ما كان من ذكر الولد من سورة مريم إلى آخر القرآن. وقرأ أبو عمرو كلّ ما في القرآن من ذلك بفتح الواو واللام في غير هذا الحرف الواحد في سورة نوح، فإنه كان يضمّ الواو منه.
والصواب من القول عندنا في ذلك، أن كلّ هذه القراءات قراءات معروفات، متقاربات المعاني، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) يقول: ومكروا مكرا عظيما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كُبَّارًا) قال: عظيما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) كثيرا، كهيئة قوله: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) والكُبَّار: وهو(23/638)
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
الكبير، كما قال ابن زيد، تقول العرب: أمر عجيب وعجاب بالتخفيف، وعُجَّاب بالتشديد؛ ورجل حُسَان وحَسَّان، وجُمال وَجمَّالٌ بالتخفيف والتشديد، وكذلك كبير وكُبَّار بالتخفيف والتشديد.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا (24) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن إخبار نوح، عن قومه: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) كان هؤلاء نفرًا من بني آدم فيما ذُكر عن آلهة القوم التي كانوا يعبدونها.
وكان من خبرهم فيما بلغنا ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس (وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) قال: كانوا قومًا صالحين من بنى آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر فعبدوهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرِمة، قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
وقال آخرون: هذه أسماء أصنام قوم نوح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) قال: كان ودّ لهذا الحيّ من كَلْب بدومة الجَندل، وكانت سُواع لهذيل برياط، وكان يغوث لبني عُطَيف من مُراد بالجُرْف من سبَأ، وكان يعوق لهمدان ببلخع، وكان نسر لذي كلاع من حِمْير؛ قال: وكانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح، ثم اتخذها العرب بعد ذلك. والله ما عدا خشبة أو طينة أو حجرًا.(23/639)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) قال: كانت آلهة يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك، قال: فكان ودّ لكلب بدومة الجندل، وكان سُواعٌ لهُذَيل، وكان يغوث لبني عطيف من مراد بالجُرف، وكان يعوق لهمْدان، وكان نَسْر لذي الكُلاع من حِمْير.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) قال: هذه أصنام كانت تُعبد في زمان نوح.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) قال: هذه أصنام، وكانت تُعبد في زمان نوح.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) هي آلهة كانت تكون باليمن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) قال: هذه آلهتهم التي يعبدون.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وُدًّا) فقرأته عامة قرّاء المدينة (وُدًّا) بضم الواو، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة: (وَدًّا) بفتح الواو.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح: وقد ضلّ بعبادة هذه الأصنام التي أُحدثت على صور هؤلاء النفر المسمينَ في هذا الموضع كثير من الناس فنُسِب الضّلال إذ ضلَّ بها عابدوها إلى أنها المُضِلة.
وقوله: (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا) يقول: ولا تزد الظالمين أنفسهم بكفرهم بآياتنا إلا ضلالا إلا طبعًا على قلبه، حتى لا يهتدي للحقّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا(23/640)
نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ) من خطيئاتهم (أُغْرِقُوا) والعرب تجعل "ما" صلة فيما نوى به مذهب الجزاء، كما يقال: أينما تكن أكن، وحيثما تجلس أجلس، ومعنى الكلام: من خطيئاتهم أُغرقوا.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ) قال: فبخطيئاتهم (أُغْرِقُوا) فأدخلوا نارا، وكانت الباء ههنا فصلا في كلام العرب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) قال: بخطيئاتهم أُغرقوا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار غير أبي عمرو (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ) بالهمز والتاء، وقرأ ذلك أبو عمرو (مِما خَطاياهُمْ) بالألف بغير همز.
والقول عندنا أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.
وقوله: (فَأُدْخِلُوا نَارًا) جهنم (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا) تقتصّ لهم ممن فعل ذلك بهم، ولا تحول بينهم وبين ما فعل بهم.
وقوله: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) ويعني بالدَّيار: من يدور في الأرض، فيذهب ويجيء فيها وهو فَيْعال من الدوران ديوارًا، اجتمعت الياء والواو، فسبقت الياء الواو وهي ساكنة، وأدغمت الواو فيها، وصيرتا ياءً مشددة، كما قيل: الحيّ القيام من قمت، وإنما هو قيوام، والعرب تقول: ما بها ديار ولا عريب، ولا دويّ ولا صافر، ولا نافخ ضرمة، يعني بذلك كله: ما بها أحد.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ(23/641)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا (28) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح في دعائه إياه على قومه: إنك يا ربّ إن تذر الكافرين أحياء على الأرض، ولم تهلكهم بعذاب من عندك (يُضِلُّوا عِبَادَكَ) الذين قد آمنوا بك، فيصدوهم عن سبيلك، (وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا) في دينك (كُفَّارًا) لنعمتك.
وذُكر أن قيل نوح هذا القول ودعاءه هذا الدعاء، كان بعد أن أوحى إليه ربه: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) أما والله ما دعا عليهم حتى أتاه الوحي من السماء (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) فعند ذلك دعا عليهم نبي الله نوح فقال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) ثم دعاه دعوة عامة فقال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) ... إلى قوله: (تَبَارًا) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: تلا قتادة (لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) ثم ذكره نحوه.
وقوله: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) يقول: ربّ اعف عني، واستر عليّ ذنوبي وعلى والدي (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا) يقول: ولمن دخل مسجدي ومصلايَ مصلِّيا مؤمنا، يقول: مصدّقا بواجب فرضك عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن آدم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن أبي سنان، عن الضحاك (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا) قال: مسجدي.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي سلمة، عن أبي سنان سعيد، عن الضحاك مثله.(23/642)
وقوله: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) يقول: وللمصدّقين بتوحيدك والمصدّقات.
وقوله: (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا) يقول: ولا تزد الظالمين أنفسهم بكفرهم إلا خسارًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إِلا تَبَارًا) قال: خسارًا.
وقد بينت معنى قول القائل: تبرت، فيما مضى بشواهده، وذكرت أقوال أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، قال: قال معمر: ثنا الأعمش، عن مجاهد، قال: كانوا يضربون نوحًا حتى يُغْشَى عليه، فإذا أفاق قال: ربّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
آخر تفسير سورة نوح صلى الله عليه وسلم.(23/643)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
تفسير سورة الجن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا (3) }
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد أوحى الله إلىَّ (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) هذا القرآن (فَقَالُوا) لقومهم لما سمعوه: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) يقول: يدلّ على الحقّ وسبيل الصواب (فَآمَنَّا بِهِ) يقول: فصدّقناه (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) من خلقه.
وكان سبب استماع هؤلاء النفر من الجنّ القرآن، كما حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا أبو هشام، يعني المخزومي، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ ولا رآهم؛ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، قال: وقد حِيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسلت علينا الشهب، فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء(23/647)
إلا شيء حدث.
قال: فانطلقوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حدث، قال: فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، يتتبعون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء؛ قال: فانطلق النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر؛ قال: فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، قال: فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) قال: فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) وإنما أوحي إليه قول الجنّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عاصم، عن ورقاء، قال: قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبيّ صلى الله عليه وسلم فسمعوا قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم انصرفوا، فذلك قوله: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) قال: كانوا تسعة فيهم زوبعة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) هو قول الله (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) لم تُحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد؛ فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا، ورُميت الشياطين بالشهب، فقال إبليس: لقد حدث في الأرض حدث، فأمر الجنّ فتفرّقت في الأرض لتأتيه بخبر ما حدث. وكان أوّل من بُعث نفر من أهل نصيبين وهي أرض باليمن، وهم أشراف الجنّ، وسادتهم، فبعثهم إلى تهامة وما يلي اليمن، فمضى أولئك النفر، فأتوا على الوادي وادي نخلة، وهو من الوادي مسيرة ليلتين، فوجدوا به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة فسمعوه يتلو القرآن؛ فلما حضروه، قالوا: أنصتوا، فلما قُضِيَ، يعني فُرِغ من الصلاة، وَلَّوْا إلى قومهم منذرين، يعني مؤمنين، لم يعلم بهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ولم يشعر أنه صُرِف إليه، حتى أنزل الله عليه: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) .
وقوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: فآمنا به ولن نُشرك بربنا أحدًا، وآمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه وقُدرته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) يقول: فعله وأمره وقُدرته.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) يقول: تعالى أمر ربنا.(23/648)
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المُثنَّى قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة في هذه الآية: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: أمر ربنا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: أمر ربنا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا) قال: تعالى أمرُه أن يتخذ -ولا يكون الذي قالوا-: صاحبة ولا ولدا، وقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) قال: لا يكون ذلك منه.
وقال آخرون: عني بذلك جلال ربنا وذكره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال، قال عكرِمة، في قوله: (جَدُّ رَبِّنَا) قال: جلال ربنا.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثني خالد بن يزيد، قال: ثنا أبو إسرائيل، عن فضيل، عن مجاهد، في قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: جلال ربنا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران عن سفيان، عن سليمان التَّيْمِيّ قال، قال عكرِمة: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) جلال ربنا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) : أي تعالى جلاله وعظمته وأمره.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: تعالى أمر ربنا: تعالت عظمته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تعالى غنى ربنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال، قال الحسن، في قوله: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: غنى ربنا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن الحسن (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: غنى ربنا.(23/649)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: غِنَى ربنا.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا هشيم، عن سليمان التيمي، عن الحسن وعكرِمة، في قول الله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال أحدهما: غناه، وقال الآخر: عظمته.
وقال آخرون: عُنِي بذلك الجدّ الذي هو أب الأب، قالوا: ذلك كان من كلام جهلة الجنّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثني أبو جعفر محمد بن عبد الله بن أبي سارة، عن أبيه، عن أبي جعفر: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: كان كلامًا من جهلة الجنّ.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: ذكره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) قال: ذكره.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: تعالت عظمة ربنا وقُدرته وسلطانه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن للجدِّ في كلام العرب معنيين أحدهما الجدّ الذي هو أبو الأب، أو أبو الأم، وذلك غير جائز أن يوصف به هؤلاء النفر الذين وصفهم الله بهذه الصفة، وذلك أنهم قد قالوا: (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) ومن وصف الله بأن له ولدًا أو جدًّا أو هو أبو أب أو أبو أمّ، فلا شكّ أنه من المشركين.
والمعنى الآخر: الجَدّ الذي بمعنى الحظ؛ يقال: فلان ذو جدّ في هذا الأمر: إذا كان له حظّ فيه، وهو الذي يُقال له بالفارسية: البَخْت، وهذا المعنى قصده هؤلاء النفر من الجنّ بقيلهم: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) إن شاء الله.
وإنما عَنَوا أن حظوته من المُلك والسلطان والقدرة والعظمة عالية، فلا يكون له صاحبة ولا ولد؛ لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطرّه الشهوة الباعثة إلى اتخاذها، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوِقاع الذي يحدث منه الولد، فقال النفر من الجنّ: علا مُلك(23/650)
ربنا وسُلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفًا ضعف خلقه الذين تضطرّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وِقاع شيء يكون منه ولد.
وقد بين عن صحة ما قلنا في ذلك إخبار الله عنهم أنهم إنما نزهوا الله عن اتخاذ الصاحبة والولد بقوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا) يقال منه: رجل جدّي وجديد ومجدود: أي ذو حظّ فيما هو فيه، ومنه قول حاتم الطائي:
أغْزُوا بني ثُعْلٍ فالغَزْوُ جَدُّكُمُ عُدُّوا الرَّوَابي وَلا تَبْكُوا لِمَنْ قُتِلا (1)
وقال آخر:
يُرَفعُ جَدُّكَ إنِّي اْمُرؤٌ سَقَتْني إلَيْكَ الأعادِي سِجالا (2)
وقوله: (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً) يعني زوجة (وَلا وَلَدًا) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى) فقرأه أبو جعفر القارئ وستة أحرف أُخر بالفتح، منها: (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ) (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا) (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ) (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) وكان نافع يكسرها إلا ثلاثة أحرف: أحدها: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ) والثانية (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا) والثالثة (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) . وأما قرّاء الكوفة غير عاصم، فإنهم يفتحون جميع ما في آخر سورة النجم وأوّل سورة الجنّ إلا قوله: (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا) وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي) وما بعده إلى آخر السورة، وأنهم يكسرون ذلك غير قوله: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) . وأما عاصم فإنه كان
__________
(1) البيت لحاتم الطائي (شعراء النصرانية 128) وفيه: "حظكم" في موضع "جدكم" وهما بمعنى. قال شارحه: والروابي: الأشراف، أو الأصل والشرف. وفي (اللسان: جدد) وفي التنزيل العزيز: (وأنه تعالى جد ربنا) قيل: جده عظمته، وقيل: غناه. وقال مجاهد: جد ربنا: جلال ربنا. وقال بعضهم: عظمة ربنا، وهما قريبان من السواء. اهـ. وهذه التأويلات صالحة لتأويل قول حاتم، فالغزو: هو عز العرب وعظمتهم وسبب هيبتهم وجلالهم في أعين أعدائهم. وشجاعتهم في الحرب والنزال: هي حظهم الذي عرفوا به في الدنيا، يأبون الضيم، ويأنفون من استذلال الملوك والجبابرة لهم.
(2) هذا البيت لم ينسبه المؤلف. وهو أشبه بقول الحطيئة في لاميته المنصوبة، التي يخاطب بها سيدنا عمر بن الخطاب، معتذرا عن هجائه الزبرقان بن بدر التميمي، ومطلعها: "نأتك أمامة إلا سؤالا"، ولم أجده في ديوان الحطيئة المطبوع، ولا في جمهرة أشعار العرب (151 - 154) . وقوله: يرفع جدك: يدعو له بأن يرفع الله حظه وذكره. والسجال: جمع سَجْل، وهو الدلو يعتذر إليه مما دسه عليه الوشاة(23/651)
يكسر جميعها إلا قوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) فإنه كان يفتحها، وأما أبو عمرو، فإنه كان يكسر جميعها إلا قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) فإنه كان يفتح هذه وما بعدها؛ فأما الذين فتحوا جميعها إلا في موضع القول، كقوله: (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا) وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي) ونحو ذلك، فإنهم عطفوا أن في كلّ السورة على قوله: (فَآمَنَّا بِهِ) وآمنا بكلّ ذلك، ففتحوها بوقوع الإيمان عليها. وكان الفرّاء يقول: لا يمنعنك أن تجد الإيمان يقبح في بعض ذلك من الفتح، وأن الذي يقبح مع ظهور الإيمان قد يحسن فيه فعل مضارع للإيمان، فوجب فتح أنّ كما قالت العرب:
إذَا ما الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَوْمًا وزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والعُيُونا (1)
فنصب العيون لاتباعها الحواجب، وهي لا تزجج، وإنما تكحل، فأضمر لها الكحل، كذلك يضمر في الموضع الذي لا يحسن فيه آمنا صدّقنا وآمنا وشهدنا. قال: وبقول النصب قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) فينبغي لمن كسر أن يحذف "أن" من "لو"؛ لأن "أن" إذا خُففت لم تكن حكاية. ألا ترى أنك تقول: أقول لو فعلت لفعلت، ولا تدخل "أن". وأما الذين كسروها كلهم وهم في ذلك يقولون: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا) فكأنهم أضمروا يمينا مع "لو" وقطعوها عن النسق على أوّل الكلام، فقالوا: والله أن لو استقاموا؛ قال: والعرب تدخل "أن" في هذا الموضع مع اليمين وتحذفها، قال الشاعر:
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُ سِوَاكَ وَلَكِن لَمْ نَجدْ لَكَ مَدْفَعا (2)
قالوا: وأنشدنا آخر:
أمَا وَالله أنْ لَوْ كُنْتَ حرًّا ومَا بالْحُرّ أنْتَ وَلا العَتِيقِ (3)
__________
(1) سبق الاستشهاد بالبيت في الجزء (27: 176) وشرحناه هناك شرحا مبسوطا، فارجع إليه
(2) البيت لامرئ القيس، وقد سبق الاستشهاد به في الجزئين (12: 18، 13: 152) فارجع إليه فيهما، فقد شرحناه مطولا.
(3) البيت من شواهد النحويين على "أن" المخففة من الثقيلة قيل: تعمل، وقيل: لا تعمل (الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري طبعة القاهرة 1: 126 ولم ينسبه) . وقال الفراء في معاني القرآن، واستشهد بالبيت (الورقة 344) : والعرب تدخل أن في هذا الموضع مع اليمين، وتحذفها. قال الشاعر: "فأقسم لو شيء.." البيت. وأنشدني آخر: "أما والله أن.." البيت. وقد نقل المؤلف كلام الفراء جميعه في فتح همزة أن وكسرها في آيات سورة الجن، فلا نطول الكلام بنقله، ونكتفي بهذه الإشارة(23/652)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
وأدخل "أن" من كسرها كلها، ونصب (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) فإنه خصّ، ذلك بالوحي، وجعل (وأنْ لَوْ) مضمرة فيها اليمين على ما وصفت. وأما نافع فإن ما فتح من ذلك فإنه ردّه على قوله: (أُوحِيَ إِلَيَّ) وما كسره فإنه جعله من قول الجنّ، وأحبّ ذلك إلي أن أقرأ به الفتح فيما كان وحيا، والكسر فيما كان من قول الجنّ؛ لأن ذلك أفصحها في العربية، وأبينها في المعنى، وأن كان للقراءات الأخر وجوه غير مدفوعة صحتها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) }
يقول عزّ وجلّ مخبرا عن قيل النفر من الجنّ الذين استمعوا القرآن (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا) وهو إبليس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) وهو إبليس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل من المكيين، عن مجاهد (سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) قال: إبليس: ثم قال سفيان: سمعت أن الرجل إذا سجد جلس إبليس يبكي يقول: يا ويله أمر بالسجود فعصَى، فله النار، وأمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة.
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: تلا قتادة: (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) فقال: عصاه والله سفيه الجنّ، كما عصاه سفيه الإنس.
وأما الشَّطط من القول، فإنه ما كان تعدِّيًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(23/653)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) قال: ظلمًا.
وقوله: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) يقول: قالوا: وأنا حسبنا أن لن تقول بنو آدم والجنّ على الله كذبا من القول، والظنّ هاهنا بمعنى الشك، وإنما أنكر هؤلاء النفر من الجنّ أن تكون علمت أن أحدًا يجترئ على الكذب على الله لما سمعت القرآن، لأنهم قبل أن يسمعوه وقبل أن يعلموا تكذيب الله الزاعمين أن لله صاحبة وولدًا، وغير ذلك من معاني الكفر كانوا يحسبون أن إبليس صادق فيما يدعو بني آدم إليه من صنوف الكفر؛ فلما سمعوا القرآن أيقنوا أنه كان كاذبا في كلّ ذلك، فلذلك قالوا: (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) فسموه سفيهًا.
وقوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر: وأنه كان رجال من الإنس يستجيرون برجال من الجن في أسفارهم إذا نزلوا منازلهم.
وكان ذلك من فعلهم فيما ذكر لنا، كالذي حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك إثما.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، في قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) قال: كان الرجل منهم إذا نزل الوادي فبات به، قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ ما فيه، فتقول الجنّ: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضرّا ولا نفعا.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) قال: كانوا في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا: نعوذ(23/654)
بسيد هذا الوادي، فيقول الجنيون: تتعوّذون بنا ولا نملك لأنفسنا ضرّا ولا نفعا!
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) قال: كانوا يقولون إذا هبطوا واديا: نعوذ بعظماء هذا الوادي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) ذُكر لنا أن هذا الحيّ من العرب كانوا إذا نزلوا بواد قالوا: نعوذ بأعز أهل هذا المكان؛ قال الله: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) : أي إثما، وازدادت الجنّ عليهم بذلك جراءة.(23/655)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلا يقولون: نعوذ بأعزّ أهل هذا المكان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) قال: كانوا يقولون: فلان من الجنّ ربّ هذا الوادي، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ بربّ الوادي من دون الله، قال: فيزيده بذلك رهقا، وهو الفرَق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بواد قبل الإسلام قال: إن أعوذ بكبير هذا الوادي، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
وقوله: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: فزاد الإنس بالجن باستعاذتهم بعزيزهم، جراءة عليهم، وازدادوا بذلك إثما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) فزادهم ذلك إثما.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال، قال الله: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) : أي إثما، وازدادت الجنّ عليهم بذلك جراءة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) يقول: خطيئة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال: فيزدادون عليهم جراءة.
قال ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال ازدادوا عليهم جراءة.
وقال آخرون: بل عني بذلك أن الكفار زادوا بذلك طغيانا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد، قوله: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال: زاد الكفار طغيانا.
وقال آخرون: بل عني بذلك فزادوهم فَرَقا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال: فيزيدهم ذلك رهقا، وهو الفرق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) قال: زادهم الجنّ خوفا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فزاد الإنس الجنّ بفعلهم ذلك إثما، وذلك زادوهم به استحلالا لمحارم الله. والرهق في كلام العرب: الإثم وغِشيان المحارم؛ ومنه قول الأعشى:
لا شَيْءَ يَنْفَعُنِي مِنْ دُونِ رُؤْيَتِها هلْ يَشْتَفِي وَامِقٌ ما لم يُصِبْ رَهَقا (1)
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة 365 من القصيدة المرقومة80) . وفي اللسان: (رهق) قال: والرهق: غشيان المحارم من شرب الخمر ونحوه. قال ابن بري: وكذلك فسر الرهق في شعر الأعشى: بأنه غشيان المحارم، وما لا خير فيه قوله: "لا شيء ينفعني.." البيت قلت: وتفسير ابن برى لا يعجبني، لأن الأعشى لم يكن يعرف المحرمات، وإنما يحسن تفسيره كما قال شارح الديوان: إن الرهق: الدنو من المحبوب والقرب منه، والتمنع بما ينوله، فأما إذا كان بعيدا عنه فلا شفاء ولا قرار. وفي (اللسان: رهق) عن الزجاج، فزادهم رهقا: أي ذلة وضعفا. وقيل: سفها وطغيانا. وقيل في تفسيره: الظلم. وقيل: الفساد.. إلخ(23/656)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
يقول: ما لم يغش محرما.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) }
يقول تعالى ذكره. مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا) يعني أن الرجال من الجنّ ظنوا كما ظنّ الرجال من الإنس أن لن يبعث الله أحدا رسولا إلى خلقه، يدعوهم إلى توحيده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن الكلبيّ (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ) ظنّ كفار الجنّ كما ظنّ كفرة الإنس أن لن يبعث الله رسولا.
وقوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) يقول عزّ وجلّ مخبرا عن قيل هؤلاء النفر: وأنا طلبنا السماء وأردناها، (فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ) يقول: فوجدناها ملئت (حَرَسًا شَدِيدًا) يعني حفظة (وَشُهُبًا) وهي جمع شهاب، وهي النجوم التي كانت تُرجم بها الشياطين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن زياد، عن سعيد بن جُبير، قال: كانت الجنّ تستمع، فلما رجموا قالوا: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض؛ قال: فذهبوا يطلبون حتى رأُوا النبيّ صلى الله عليه وسلم خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر، فذهبوا إلى قومهم مُنذرين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي(23/657)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) }
يقول عزّ وجلّ: وأنا كنا معشر الجنّ نقعد من السماء مقاعد لنسمع ما يحدث، وما يكون فيها، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ) فيها منا (يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) يعني: شهاب نار قد رصد له به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) ... إلى قوله: (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) كانت الجنّ تسمع سمع السماء؛ فلما بعث الله نبيه، حُرست السماء، ومُنعوا ذلك، فتفقَّدت الجنّ ذلك من أنفسها.
وذُكر لنا أن أشراف الجنّ كانوا بنصيبين، فطلبوا ذلك، وضربوا له حتى سقطوا على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه عامدًا إلى عكاظ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) ... حتى بلغ (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) فلما وجدوا ذلك رجعوا إلى إبليس، فقالوا: منع منا السمع، فقال لهم: إن السماء لم تُحرس قطّ إلا على أحد أمرين: إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة، وإما نبيّ مرشد مصلح؛ قال: فذلك قول الله: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) .
وقوله: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) يقول عزّ وجلّ مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ: وأنا لا ندري أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا فيها بالشهب (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) يقول: أم أراد بهم ربهم الهدى بأن يبعث منهم رسولا مرشدا يرشدهم إلى الحقّ وهذا التأويل على التأويل الذي ذكرناه عن ابن زيد قبل.
وذُكر عن الكلبي في ذلك ما:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، عن الكلبي في قوله: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) أن يطيعوا هذا الرسول فيرشدهم أو يعصوه فيهلكهم.(23/658)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
وإنما قلنا القول الأوّل لأن قوله: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ) عقيب قوله: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ) ... الآية، فكان ذلك بأن يكون من تمام قصة ما وليه وقرب منه أولى بأن يكون من تمام خبر ما بعد عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا (13) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيلهم: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) وهم المسلمون العاملون بطاعة الله (وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) يقول: ومنا دون الصالحين (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) يقول: وأنا كنا أهواء مختلفة، وفِرَقا شتى، منا المؤمن والكافر. والطرائق: جمع طريقة، وهي طريقة الرجل ومذهبه. والقِدد: جمع قدّة، وهي الضروب والأجناس المختلفة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، في قوله: (طَرَائِقَ قِدَدًا) يقول: أهواء مختلفة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) يقول: أهواء شتى، منا المسلم، ومنا المشرك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) كان القوم على أهواء شتى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (طَرَائِقَ قِدَدًا) قال: أهواء.
حدثني ابن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:(23/659)
(كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) قال: مسلمين وكافرين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) قال: شتى، مؤمن وكافر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) قال: صالح وكافر؛ وقرأ قول الله: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) .
وقوله: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ) يقول: وأنا علما أن لن نُعجز الله في الأرض إن أراد بنا سوءا (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا) أن طلبنا فنفوته. وإنما وصفوا الله بالقدرة عليهم حيث كانوا (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ) يقول: قالوا: وأنا لما سمعنا القرآن الذي يهدي إلى الطريق المستقيم آمنا به، يقول: صدّقنا به، وأقررنا أنه حق من عند الله (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) يقول: فمن يصدّق بربه فلا يخاف بخسا: يقول: لا يخاف أن ينقص من حسناته، فلا يجازى عليها؛ ولا رَهَقا: ولا إثما يحمل عليه من سيئات غيره، أو سيئة يعملها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) يقول: لا يخاف نقصا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) يقول: ولا يخاف أن يبخس من عمله شيء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلا يَخَافُ بَخْسًا) : أي ظلما، أن يظلم من حسناته فينقص منها شيئا، أو يحمل عليه ذنب غيره (وَلا رَهَقًا) ولا مأثما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) قال: لا يخاف أن يبخس من أجره شيئًا، ولا رهقا؛ فيظلم ولا يعطى شيئا.(23/660)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل النفر من الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) الذين قد خضعوا لله بالطاعة (وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) وهم الجائرون عن الإسلام وقصد السبيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) قال: العادلون عن الحقّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الْقَاسِطُونَ) قال: الظالمون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: (الْقَاسِطُونَ) الجائرون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (الْقَاسِطُونَ) قال: الجائرون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد: المقسط: العادل، والقاسط: الجائر وذكر بيت شعر:
قَسَطْنا على الأمْلاكِ فِي عَهْدِ تُبَّعٍ وَمِنْ قَبْل ما أدْرَى النفوسَ عِقَابَهَا (1)
وقال: وهذا مثل الترب والمترب؛ قال: والترب: المسكين، وقرأ: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: والمترب: الغني.
وقوله: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) يقول: فمن أسلم وخضع لله بالطاعة، فأولئك تعمدوا وترجَّوا رشدا في دينهم. (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ) يقول: الجائرون عن الإسلام، (فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) توقد بهم.
__________
(1) البيت استشهد به ابن زيد المحدث على أن القاسطين معناه: الجائرون قال الفراء في معاني القرآن (الورقة 344) : وقوله: (ومنا القاسطون) وهم الجائرون الكفار. والمقسطون: العادلون المسلمون(23/661)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) }
يقول تعالى ذكره: وأن لو استقام هؤلاء القاسطون على طريقة الحقّ والاستقامة (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) يقول: لوسعنا عليهم في الرزق، وبسطناهم في الدنيا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) يقول: لنختبرهم فيه.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) يعني بالاستقامة: الطاعة. فأما الغدق: فالماء الطاهر الكثير (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) يقول: لنبتليهم به.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن مجاهد (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) طريقة الإسلام (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال: نافعا كثيرا، لأعطيناهم مالا كثيرا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) حتى يرجعوا لما كتب عليهم من الشقاء.
حدثنا إسحاق بن زيد الخطابي، قال: ثنا الفريابي، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن مجاهد (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) قال: طريقة الحقّ (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) يقول مالا كثيرا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) قال: لنبتليهم به حتى يرجعوا إلى ما كتب عليهم من الشقاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن مجاهد، عن أبيه، مثله.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن مجاهد (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) قال: الإسلام (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال الكثير (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) قال: لنبتليهم به.
قال ثنا مهران، عن أبي سنان، عن غير واحد، عن مجاهد (مَاءً غَدَقًا) قال(23/662)
الماء. والغدق: الكثير (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) حتى يرجعوا إلى علمي فيهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قوله: (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال: لأعطيناهم مالا كثيرا، قوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) قال: لنبتليهم.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن بعض أصحابه، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جُبير في قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) قال: الدين (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال: مالا كثيرا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) يقول: لنبتليهم به.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال: لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا. قال الله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) يقول: لنبتليهم بها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال: لو اتقوا لوسع عليهم في الرزق (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) قال: لنبتليهم فيه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس (مَاءً غَدَقًا) قال: عيشا رَغدًا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال: الغدق الكثير: مال كثير (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم فيه.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا المطلب بن زياد، عن التيمي، قال، قال عمر رضي الله عنه في قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) قال: أينما كان الماء كان المال وأينما كان المال كانت الفتنة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأن لو استقاموا على الضلالة لأعطيناهم سعة من الرزق لنستدرجهم بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال: وأن لو استقاموا على طريقة الضلالة.(23/663)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأن لو استقاموا على طريقة الحق وآمنوا لوسعنا عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) قال: هذا مثل ضربه الله كقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) والماء الغدق يعني: الماء الكثير (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنبتليهم فيه.
وقوله: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) يقول عزّ وجلّ: ومن يُعرض عن ذكَّر ربه الذي ذكره به، وهو هذا القرآن؛ ومعناه: ومن يعرض عن استماع القرآن واستعماله، يسلكه الله عذابا صعدا: يقول: يسلكه الله عذابا شديدا شاقا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) يقول: مشقة من العذاب يصعد فيها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَذَابًا صَعَدًا) قال: مشقة من العذاب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرِمة، عن ابن عباس (عَذَابًا صَعَدًا) قال: جبل في جهنم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) عذابا لا راحة فيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (عَذَابًا صَعَدًا) قال: صَعودا من عذاب الله لا راحة فيه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (يَسْلُكْهُ(23/664)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
عَذَابًا) قال: الصعد: العذاب المنصب.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (يَسْلُكْهُ) فقرأه بعض قرّاء مكة والبصرة (نَسْلُكْهُ) بالنون اعتبارا بقوله: (لِنَفْتِنَهُمْ) أنها بالنون. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بالياء، بمعنى: يسلكه الله، ردّا على الربّ في قوله: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا) أيها الناس (مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) ولا تشركوا به فيها شيئا، ولكن أفردوا له التوحيد، وأخلصوا له العبادة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه أن يوحد الله وحده.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن محمود، عن سعيد بن جبير (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) قال، قالت الجنّ لنبيّ الله: كيف لنا نأتي المسجد، ونحن ناءون عنك، وكيف نشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك؟ فنزلت: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه أن يخلص له الدعوة إذا دخل المسجد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خَصِيف، عن عكرِمة (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) قال: المساجد كلها.
وقوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) يقول: وأنه(23/665)
لما قام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله يقول: " لا إله إلا الله" (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) يقول: كادوا يكونون على محمد جماعات بعضها فوق بعض، واحدها لبدة، وفيها لغتان: كسر اللام لِبدة، ومن كسرها جمعها لِبَد؛ وضم اللام لُبدة، ومن ضمها جمعها لُبَد بضم اللام، أو لابِد؛ ومن جمع لابد قال: لُبَّدًا، مثل راكع وركعا، وقراء الأمصار على كسر اللام من لِبَد، غير ابن مُحَيْصِن فإنه كان يضمها، وهما بمعنى واحد، غير أن القراءة التي عليها قرّاء الأمصار أحبّ إليّ، والعرب تدعو الجراد الكثير الذي قد ركب بعضه بعضًا لُبْدَةً؛ ومنه قول عبد مناف بن ربعيّ الهذلي:
صَابُوا بسِتَّةِ أبْياتٍ وأرْبَعَةٍ حتى كأنَّ عليهِمْ جابِيًا لُبَدَا (1)
والجابي: الجراد الذي يجبي كل شيء يأكله.
واختلف أهل التأويل في الذين عنو في بقوله:: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) فقال بعضهم: عني بذلك الجنّ أنهم كادوا يركبون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) يقول: لما سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) كادوا يركبونه حرصا على ما سمعوا منه من القرآن.
__________
(1) البيت في (ديوان الهذليين 2: 40) في شعر عبد مناف بن ربع الهذلي، يذكر يوم أنف عاذ. وفي (اللسان: صاب) وقول الهذلي: "صابوا. ." البيت. صابوا بهم: أوقعوا بهم. والجابي (بالياء) الجراد واللبد (بضم اللام) الكثير. وقال في (جبأ) "والجابئ الجراد، يهمز ولا يهمز. وجبأ الجراد: هجم على البلد. قال الهذلي: صابوا.. جابئا لبدا" بهمز جابئ. قال: وكل طالع فجأة جابئ. وقال في (لبد) ومال لبد (بالضم) : كثير لا يخاف فناؤه، كأنه التبد بعضه على بعض. وفي التنزيل: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً) أي: جما. قال الفراء: اللبد: الكثير. وقال بعضهم: واحدته: لبدة، ولبد: جماع. قال: وجعله بعضهم على جهة قثم وحطم، واحدا، وهو في الوجهين جميعا: الكثير. اهـ.(23/666)
قال أبو جعفر: ومن قال هذا القول جعل قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ) مما أوحي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون معناه: قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ، وأنه لما قام عبد الله يدعوه.
وقال آخرون: بل هذا من قول النفر من الجن لمّا رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وائتمامهم به في الركوع والسجود.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا أبو مسلم، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قول الجنّ لقومهم: (لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، قال: عجبوا من طواعية أصحابه له؛ قال: فقال لقومهم لما قام عبد الله يدعوه (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن زياد، عن سعيد بن جبير، في قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: كان أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يأتمون به، فيركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، ومن قال هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس وسعيد فتح الألف من قوله: "وأنه" عطف بها على قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) مفتوحة، وجاز له كسرها على الابتداء.
وقال آخرون: بل ذلك من خبر الله الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم لعلمه أن الإنس والجنّ تظاهروا عليه، ليُبطلوا الحقّ الذي جاءهم به، فأبى الله إلا إتمامه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه، ويظهره على من ناوأه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (لِبَدًا) قال: لما قام النبيّ صلى الله عليه وسلم تلبَّدت الجنّ والإنس، فحرصوا على أن يطفئوا هذا النور الذي أنزله الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (كَادُوا(23/667)
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: تظاهروا عليه بعضهم على بعض، تظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قال هذا القول فتح الألف من قوله "وأنه".
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: ذلك خبر من الله عن أن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لما قام يدعوه كادت العرب تكون عليه جميعا في إطفاء نور الله.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالصواب لأن قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) عقيب قوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) وذلك من خبر الله فكذلك قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) وأخرى أنه تعالى ذكره أتبع ذلك قوله: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) فمعلوم أن الذي يتبع ذلك الخبر عما لقي المأمور بأن لا يدعو مع الله أحدا في ذلك، لا الخبر عن كثرة إجابة المدعوين وسرعتهم إلى الإجابة.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) قال: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا إله إلا الله" ويدعو الناس إلى ربهم كادت العرب تكون عليه جميعا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن رجل، عن سعيد بن جُبير في قوله: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: تراكبوا عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد بن جبير (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: بعضهم على بعض.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) يقول: أعوانا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: جميعًا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال: جميعا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) واللبد: الشيء الذي بعضه فوق بعض.(23/668)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين على وجه الخبر قال: بالألف؛ ومن قرأ ذلك كذلك، جعله خبرا من الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: فيكون معنى الكلام: وأنه لما قام عبد الله يدعوه تلبدوا عليه، قال لهم: إنما أدعو ربي، ولا أشرك به أحدا. وقرأ ذلك بعض المدنيين وعامة قرّاء الكوفة على وجه الأمر من الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس الذين كادوا يكونوا عليك لبدا، إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي العرب الذين ردّوا عليك ما جئتهم به من النصيحة: إني لا أملك لكم ضرّا في دينكم ولا في دنياكم، ولا رشدا أرشدكم، لأن الذي يملك ذلك، الله الذي له مُلك كل شيء.
وقوله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) من خلقه إن أرادني أمرا، ولا ينصرني منه ناصر.
وذُكر أن هذه الآية أُنزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض الجنّ قال: أنا أجيره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرميّ أنه ذكر له أن جنيا من الجنّ من أشرافهم إذا تَبَع، قال: إنما يريد محمد أن نجيره وأنا أجيره فأنزل الله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) .
وقوله: (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) يقول: ولن أجد من دون الله ملجئا(23/669)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
ألجأ إليه.
كما حدثنا مهران، عن سفيان (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) يقول: ولن أجد من دون الله ملجئا ألجأ إليه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) : أي ملجئا ونصيرا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (مُلْتَحَدًا) قال: ملجئا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) يقول: ناصرا.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لمشركي العرب: إني لا أملك لكم ضرّا ولا رشدا (إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ) يقول: إلا أن أبلغكم من الله ما أمرني بتبليغكم إياه، وإلا رسالاته التي أرسلني بها إليكم؛ فأما الرشد والخذلان، فبيد الله، هو مالكه دون سائر خلقه يهدي من يشاء ويخذل من أراد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ) فذلك الذي أملك بلاغًا من الله ورسالاته.
وقد يحتمل ذلك معنى آخر، وهو أن تكون "إلا" حرفين، وتكون "لا" منقطعة من "إن" فيكون معنى الكلام: قل إني لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته؛ ويكون نصب البلاغ من إضمار فعل من الجزاء كقول القائل: إن لا قياما(23/670)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
فقعودا، وإن لا إعطاء فردّا جميلا بمعنى: إن لا تفعل الإعطاء فردّا جميلا.
وقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) يقول تعالى ذكره: ومن يعص الله فيما أمره ونهاه، ويكذّب به ورسوله، فجحد رسالاته، فإن له نار جهنم يصلاها (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يقول: ماكثين فيها أبدًا إلى غير نهاية.
وقوله: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ) يقول تعالى ذكره: إذا عاينوا ما يعدهم ربهم من العذاب وقيام الساعة (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا) أجند الله الذي أشركوا به، أم هؤلاء المشركون به.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) }
يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: ما أدري أقريب ما يعدكم ربكم من العذاب وقيام الساعة (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) يعني: غاية معلومة تطول مدتها.
وقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) يعني بعالم الغيب: عالم ما غاب عن أبصار خلقه، فلم يروه فلا يظهر على غيبه أحدا، فيعلمه أو يريه إياه إلا من ارتضى من رسول، فإنه يظهره على ما شاء من ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) فأعلم الله سبحانه الرسل من الغيب الوحي وأظهرهم عليه بما أوحي إليهم من غيبه، وما يحكم الله، فإنه لا يعلم ذلك غيره.(23/671)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) فإنه يصطفيهم، ويطلعهم على ما يشاء من الغيب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) فإنه يظهره من الغيب على ما شاء إذا ارتضاه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) قال: ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيب القرآن، قال: وحدثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة.
وقوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) يقول: فإنه يرسل من أمامه ومن خلفه حرسا وحفظة يحفظونه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك (إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه، أن يتشبَّه الشيطان على صورة الملك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن منصور، عن إبراهيم (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال: ملائكة يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال: الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الجنّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن طلحة، يعني ابن مصرف، عن إبراهيم، في قوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال: الملائكة رصد من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من الجن.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبيّ صلى الله عليه وسلم(23/672)
من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم، وذلك حين يقول: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال: الملائكة.
وقوله: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) اختلف أهل التأويل في الذي عُنِي بقوله: (لِيَعْلَمَ) فقال بعضهم: عُنِي بذلك رسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: معنى الكلام: ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد أبلغت الرسل قبله عن ربها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قد أبلغت عن ربها وحفظت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) قاله: ليعلم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن الرسل قد أبلغت عن الله، وأن الله حفظها، ودفع عنها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليعلم المشركون أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) قال ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ليعلم محمد أن قد بلغت الملائكة رسالات ربهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) قال: أربعة حفظة من الملائكة مع جبرائيل (لِيَعْلَمَ) محمد (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) قال: وما نزل جبريل عليه السلام بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة حفظة.(23/673)
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندنا بالصواب، قول من قال: ليعلم الرسول أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم؛ وذلك أن قوله: (لِيَعْلَمَ) من سبب قوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) وذلك خبر عن الرسول، فمعلوم بذلك أن قوله ليعلم من سببه إذ كان ذلك خبرا عنه.
وقوله: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ) يقول: وعلم بكلّ ما عندهم (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) يقول: علم عدد الأشياء كلها، فلم يخف عليه منها شيء.
وقد حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير أنه قال في هذه الآية (إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) ... إلى قوله: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) قال: ليعلم الرسل أن ربهم أحاط بهم، فبلغوا رسالاتهم.
آخر تفسير سورة الجن.(23/674)
تفسير سورة المزمل(23/675)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا (4) }
يعني بقوله: (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) هو الملتفّ بثيابه. وإنما عني بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية من التزمُّل، فقال بعضهم: وصفه بأنه مُتَزمل في ثيابه، متأهب للصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أي المتزمل في ثيابه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) هو الذي تزمل بثيابه.
وقال آخرون: وصفه بأنه متزمِّل النبوّة والرسالة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرِمة، في قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) قال: زُملت هذا الأمر فقم به.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى القولين بتأويل ذلك، ما قاله قتادة؛ لأنه قد عقبه بقوله: (قُمِ اللَّيْلَ) فكان ذلك بيانا عن أن وصفه بالتزمُّل بالثياب للصلاة، وأن ذلك هو أظهر معنييه.
وقوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُمِ اللَّيْلَ)(23/676)
يا محمد كله (إِلا قَلِيلا) منه (نِصْفَهُ) يقول: قم نصف الليل (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) يقول: أو زد عليه؛ خَيره الله تعالى ذكره حين فرض عليه قيام الليل بين هذه المنازل أي ذلك شاء فعل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما ذُكر يقومون الليل، نحو قيامهم في شهر رمضان فيما ذُكر حتى خفف ذلك عنهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أُسامة، عن مِسْعَرٍ، قال: ثنا سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عباس يقول: لما نزل أوّل المزمل، كانوا يقومون نحوًا من قيامهم في رمضان، وكان بين أوّلها وآخرها قريب من سنة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن بشر، عن مِسْعَرٍ، قال: ثنا سماك، أنه سمع ابن عباس يقول، فذكر نحوه. إلا أنه قال: نحوا من قيامهم في شهر رمضان.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن حيان، عن موسى بن عبيدة، قال: ثني محمد بن طَحْلاء مولى أمّ سلمة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس، فاجتمعوا، فخرج كالمغضَب، وكان بهم رحيما، فخشي أن يُكتب عليهم قيام الليل، فقال: "يا أيُّها النَّاسُ اكْلفُوا مِنَ الأعْمالِ ما تُطِيقُونَ، فإنّ الله لا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ العَمَلِ وخَيْرُ الأعْمال ما دُمْتُمْ عَلَيْه" ونزل القرآن: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردّهم إلى الفريضة وترك قيام الليل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن موسى بن عبيدة الحميري، عن محمد بن طحلاء، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: كنت أشتري لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا، فكان يقوم عليه من أوّل الليل، فتسمع الناس بصلاته، فاجتمعت جماعة من الناس؛ فلما رأى اجتماعهم كره ذلك، فخشي أن يكتب عليهم، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا يتنحنحون ويتسعَّلون حتى خرج إليهم، فقال: "يا أيُّها النَّاس إنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا - يعنى من الثواب - فاكْلُفوا مِنَ العَمَلِ ما تُطِيقُون فإنَّ خَيَْر العَمَلِ أدْوَمُهُ وَإنْ قَلَّ"،ونزلت عليه: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ(23/678)
اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) السورة قال: فكتبت عليهم، وأنزلت بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به؛ فلما رأى الله ما يكلفون مما يبتغون به وجه الله ورضاه، وضع ذلك عنهم، فقال: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) ... إلى (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) فردّهم إلى الفريضة، ووضع عنهم النافلة، إلا ما تطوّعوا به.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا فشقّ ذلك على المؤمنين، ثم خفَّف عنهم فرحمهم، وأنزل الله بعد هذا: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ) ... إلى قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) فوسع الله وله الحمد، ولم يضيق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: لما أنزل الله على نبيه: (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قال: مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله عليه بعد عشر سنين: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ... إلى قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فخفَّف الله عنهم بعد عشر سنين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح عن الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة والحسن، قالا قال في سورة المزمل (قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) نسختها الآية التي فيها: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) قاموا حولا أو حولين حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم، فأنزل الله تخفيفا بعد في آخر السورة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قيس بن وهب، عن أبي عبد الرحمن، قال: لما نزلت: (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قاموا بها حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) فاستراح الناس.(23/679)
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جرير بياع المُلاء عن الحسن، قال: الحمد لله تطوّع بعد فريضة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن، قال: لما نزلت (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ... الآية، قام المسلمون حولا فمنهم من أطاقه، ومنهم من لم يطقه، حتى نزلت الرخصة.
قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: لما نزل أوّل المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أوّلها وآخرها نحو من سنة.
وقوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) يقول جلّ وعزّ: وبين القرآن إذا قرأته تبيينا، وترسل فيه ترسلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال. ثنا ابن عُلَيَّةَ، قال: ثنا أبو رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال: اقرأه قراءة بينة.
حدثنا ابن بشار، قال. ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) فقال: بعضه على أثر بعض.
حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي، قال. ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) فقال: بعضه على أثر بعض، على تؤدة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال: ترسل فيه ترسلا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) فقال: بعضه على أثر بعض.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج بن محمد، قال، قال ابن جريج، عن عطاء (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال: الترتيل النَّبْذ: الطَّرْح.(23/680)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال بينه بيانا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مِقْسم، عن ابن عباس (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال: بيِّنه بيانا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) قال: بعضه على أثر بعض.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا (7) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) فقال بعضهم: عُنى به إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا العمل به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) قال: العمل به، قال: إن الرجل لَيَهُذُّ (1) السورة، ولكنّ العمل به ثقيل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) ثقيل والله فرائضه وحدوده.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (ثَقِيلا) قال: ثقيل والله فرائضه وحدوده.
وقال آخرون: بل عني بذلك أن القول عينه ثقيل محمله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها، فما تستطيع أن تتحرّك حتى يسرَّى عنه".
__________
(1) الهذ: سرعة القراءة. وهو يهذ القرآن هذًا: إذا أسرع فيع وتابعه. وهذا الحديث سرده (التاج)(23/681)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) قال: هو والله ثقيل مبارك القرآن، كما ثقل في الدنيا ثَقُل في الموازين يوم القيامة.
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله وصفه بأنه قول ثقيل، فهو كما وصفه به ثقيل محمله ثقيل العمل بحدوده وفرائضه.
وقوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) يعني جلّ وعزّ بقوله: (إن ناشئة الليل) : إن ساعات الليل، وكلّ ساعة من ساعات الليل ناشئة من الليل.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا حاتم بن أبي صغيرة، قال: قلت لعبد الله بن أبي مليكة: ألا تحدثني أيّ الليل ناشئة؟ قال: على الثبت سقطت، سألت عنها ابن عباس، فزعم أن الليل كله ناشئة، وسألت عنها ابن الزبير، فأخبرني مثل ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل، قالوا: نشأ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) نشأ: قام.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي مَيْسرة (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: نشأ: قام.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: إذا قام الرجل من الليل، فهو ناشئة الليل.
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة، في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: هو الليل كله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: إذا قمت الليل فهو ناشئة.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: كلّ شيء بعد العشاء(23/682)
فهو ناشئة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: قيام الليل؛ قال: وأيّ ساعة من الليل قام فقد نشأ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أيّ الليل قمت فهو ناشئة.
قال: ثنا مهران، عن خارجة، عن أبي يونس حاتم بن أبى صغيرة، عن ابن أبي مُلَيكة، قال: سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل فقالا كلّ الليل ناشئة، فإذا نشأت قائما فتلك ناشئة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: أيّ ساعة تَهَجَّدَ فيها متهجد من الليل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) يعني الليل كله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن أبي عامر الخزاز، ونافع عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: الليل كله.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الليل كله إذا قام يصلي فهو ناشئة.
وقال آخرون: بل ذلك ما كان بعد العشاء، فأما ما كان قبل العشاء فليس بناشئة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان التيميّ، عن أبي مِجْلَز، في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: ما بعد العشاء ناشئة.
قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: ما بعد العشاء الآخرة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: ناشئة الليل: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، قال، قال قتادة في(23/683)
قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قال: كلّ شيء بعد العشاء فهو ناشئة.
وقوله: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) اختلفت قرّاء الأمصار في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء مكة والمدينة والكوفة (أَشَدُّ وَطْئًا) بفتح الواو وسكون الطاء. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة ومكة والشام (وِطاء) بكسر الواو ومدّ الألف على أنه مصدر من قول القائل: واطأ اللسان القلب مواطأة ووِطاء.
والصواب من القول في ذلك عندنا انهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
ويعني بقوله: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) ناشئة الليل أشد ثباتا من النهار وأثبت في القلب، وذلك أن العمل بالليل أثبت منه بالنهار. وحُكي عن العرب وَطِئنا الليل وطأ: إذا ساروا فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من أهل التأويل من قرأه بفتح الواو وسكون الطاء، وإن اختلفت عباراتهم في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) أي أثبت في الخير، وأحفظ في الحفظ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) قال: القيام بالليل أشدّ وطئا: يقول: أثبت في الخير.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) يقول: ناشئة الليل كانت صلاتهم أوّل الليل (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) يقول: هو أجدر أن تُحْصُوا ما فرض الله عليكم من القيام، وذلك أن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) قال: إن مصلي الليل القائم بالليل أشدّ وطئا: طمأنينة أفرغ له قلبا، وذلك أنه لا يَعْرِضُ له حوائج ولا شيء.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) يقول: قراءة القرآن بالليل أثبت منه بالنهار، وأشدّ مواطأة بالليل منه بالنهار.(23/684)
وأما الذين قرءوا (وِطاءً) بكسر الواو ومدّ الألف، فقد ذكرت الذي عَنَوْا بقراءتهم ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور عن مجاهد (أَشَدُّ وَطْئًا) قال: أن تُوَاطئ قلبك وسمعك وبصرك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) قال: تواطئ سمعك وبصرك وقلبك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَشَدُّ وَطْئًا) قال: مُوَاطأة للقول، وفراغا للقلب.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا) قال: أجدر أن تواطئ لك سمعك، أن تواطئ لك بصرك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (أَشَدُّ وَطْئًا) قال: أجدر أن تواطئ سمعك وقلبك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا) قال: يواطئ سَمْعُك وبصرك وقلبك بعضه بعضا.
وقوله: (وَأَقْوَمُ قِيلا) يقول: وأصوب قراءة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن داود الواسطي، قال: ثنا أبو أُسامة، عن الأعمش، قال: قرأ أنس هذه الآية (إنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أشَدُّ وَطْئًا وأصْوَبُ قِيلا) ، فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة إنما هي (وَأَقْوَمُ قِيلا) قال: أقوم وأصوب وأهيأ واحد.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا عبد الحميد الحماني، عن الأعمش قال: قرأ أنس (وَأَقْوَمُ قِيلا) وأصوب قيلا؛ قيل له: يا أبا حمزة إنما هي (وَأَقْوَمُ) قال أنس: أصوب وأقوم وأهيأ واحد.(23/685)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَقْوَمُ قِيلا) يقول: أدنى من أن تفقهوا القرآن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَأَقْوَمُ قِيلا) : أحفظ للقراءة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَأَقْوَمُ قِيلا) قال: أقوم قراءة لفراغه من الدنيا.
قوله: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن لك يا محمد في النهار فراغا طويلا تتسع به، وتتقلَّب فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (سَبْحًا طَوِيلا) فراغا طويلا يعني النوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قوله: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) قال: متاعا طويلا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (سَبْحًا طَوِيلا) قال: فراغا طويلا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) قال: لحوائجك، فافُرغ لدينك الليل، قالوا: وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة، ثم إن الله منّ على العباد فخفَّفها ووضعها، وقرأ: (قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) ... إلى آخر الآية، ثم قال: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) حتى بلغ قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) الليل نصفه أو ثلثه، ثم جاء أمر أوسع وأفسح، وضع الفريضة عنه وعن أمته، فقال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) .(23/686)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول في قوله: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) فراغا طويلا. وكان يحيى بن يعمر يقرأ ذلك بالخاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، عن غالب الليثي، عن يحيى بن يعمر "من جذيلة قيس" أنه كان يقرأ (سَبْخًا طَوِيلا) قال: وهو النوم.
قال أبو جعفر: والتسبيخ: توسيع القطن والصوف وتنفيشه، يقال للمرأة: سبخي قطنك: أي نفشيه ووسعيه؛ ومنه قول الأخطل:
فأرْسَلُوهُنَّ يُذْرِينَ التَرَابَ كَمَا يُذْرِي سَبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوْتارُ (1)
وإنما عني بقوله: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) : إن لك في النهار سعة لقضاء حوائجك وقومك. والسبح والسبخ قريبا المعنى في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا (10) }
يقول تعالى ذكره: (وَاذْكُرْ) يا محمد (اسْمُ رَبِّكَ) فادعه به: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) يقول: وانقطع إليه انقطاعا لحوائجك وعبادتك دون سائر الأشياء غيره، وهو من قولهم: تبتَّلتُ هذا الأمر؛ ومنه قيل لأمّ عيسى ابن مريم البتول، لانقطاعها إلى الله، ويقال للعابد المنقطع عن الدنيا وأسبابها إلى عبادة الله: قد تبتل؛ ومنه الخبر الذي رُوي
__________
(1) البيت للأخطل يذكر الكلاب (اللسان: سبخ) قال: التسبيخ: التخفيف. ويقال: "اللهم سبخ عني الحمى" أي: خففها وسهلها، ولهذا قيل لقطع القطن إذا ندف: سبائخ، ومنه قول الأخطل يذكر الكلاب: "فأرسلوهن.." البيت. وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 346) وقوله: (إن لك في النهار سبحا طويلا) يقول: لك في النهار ما تقضي حوائجك. وقد قرأ بعضهم: سبخا، بالخاء، والتسبيخ: توسعة الصوف والقطن وما أشبهه، يقال: سبخي قطنك. قال أبو العباس (ثعلب) : سمعت أبا عبد الله (ابن الأعرابي) يقول: حضر أبو زياد الكلابي مجلس الفراء في هذا اليوم، فسأله الفراء عن هذا الحرف، فقال: أهل باديتنا يقولون: اللهم سبخ عنه للمريض والملسوع ونحوه.(23/687)
عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن التبتُّل".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أخلص له إخلاصا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى، عن ابن أبي نجيح، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أخلص له إخلاصا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أخلص له إخلاصا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: أخْلِصْ إليه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أخلص إليه إخلاصا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي يحيى المكي، في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أخلص إليه إخلاصا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أخلص إليه المسألة والدعاء.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن أشعث، عن الحسن، في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: بَتِّل نفسك واجتهد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) يقول: أخلص له العبادة والدعوة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أخلص إليه إخلاصا.(23/688)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) قال: أي تفرّغ لعبادته، قال: تبتل فحبذا التبتل إلى الله، وقرأ قول الله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال: إذا فرغت من الجهاد فانصب في عبادة الله (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) .
وقوله: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة بالرفع على الابتداء، إذ كان ابتداء آية بعد أخرى تامة. وقرا ذلك عامة قرّاء الكوفة بالخفض على وجه النعت، والردّ على الهاء التي في قوله: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. ومعنى الكلام: ربّ المشرق والمغرب وما بينهما من العالم.
وقوله: (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) يقول: لا ينبغي أن يُعبد إله سوى الله الذي هو ربّ المشرق والمغرب.
وقوله: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا) فيما يأمرك وفوّض إليه أسبابك.
وقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اصبر يا محمد على ما يقول المشركون من قومك لك، وعلى أذاهم، واهجرهم في الله هجرا جميلا. والهجر الجميل: هو الهجر في ذات الله، كما قال عزّ وجلّ: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) ... الآية، وقيل: إن ذلك نُسخ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا) براءة نسخت ما ههنا؛ أمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا يقبل منهم غيرها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) }(23/689)
يعني تعالى ذكره بقوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) فدعني يا محمد والمكذّبين بآياتي (أُولِي النَّعْمَةِ) يعني أهل التنعم في الدنيا (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا) يقول: وأخرهم بالعذاب الذي بسطته لهم قليلا حتى يبلغ الكتاب أجله.
وذُكر أن الذي كان بين نزول هذه الآية وبين بدر يسير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن ابن عباد، عن أبيه، عن عباد، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: لما نزلت هذه الآية: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا) ... الآية، قال: لم يكن إلا يسير حتى كانت وقعة بدر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا) يقول: إن لله فيهم طَلبة وحاجة.
وقوله: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا) يقول تعالى ذكره: إن عندنا لهؤلاء المكذِّبين بآياتنا أنكالا يعني قيودا، واحدها: نِكْل.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو، عن عكرِمة، أن الآية التي قال: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا) إنها قيود.
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي عمرو، عن عكرِمة (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا) قال: قُيودا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو عمرو، عن عكرمة (أَنْكَالا) قال: قيودا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي عمرو، عن عكرمة (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا) قال: قيودا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: وبلغني عن مجاهد قال: الأنكال: القيود.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن حماد، قال:(23/690)
الأنكال: القيود.
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن حماد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت حمادا يقول: الأنكال: القيود.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا) : أي قيودا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن، عن سفيان، عن أبي عمرو بن العاص، عن عكرمة (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا) قال: قيودا.
حدثنا أبو عبيد الوَصَّابي محمد بن حفص، قال: ثنا ابن حمير، قال: ثنا الثوريّ، عن حماد، في قوله: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا) قال: الأنكال: القيود.
حدثنا سعيد بن عنبسة الرازي، قال: مررت بابن السماك، وهو يَقُصّ وهو يقول: سمعت الثوري يقول: سمعت حمادا يقول في قوله الله: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا) قال: قيودا سوداء من نار جهنم.
وقوله: (وَجَحِيمًا) يقول: ونارا تسعر (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) يقول: وطعاما يَغَصّ به آكله، فلا هو نازل عن حلقه، ولا هو خارج منه.
كما حدثني إسحاق بن وهب وابن سنان القزّاز قالا ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شبيب بن بشر، عن عكرِمة، عن ابن عباس، في قوله: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) قال: شوك يأخذ بالحلق، فلا يدخل ولا يخرج.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) قال: شجرة الزقوم.
وقوله: (وَعَذَابًا أَلِيمًا) يقول: وعذابا مؤلما موجعا.
حدثني أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن حمزة الزيات، عن حُمْران بن أعين "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) فصعق صلى الله عليه وسلم.(23/691)
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا (14) }
يقول تعالى ذكره: إن لدينا لهؤلاء المشركين من قريش الذين يؤذونك يا محمد العقوبات التي وصفها في يوم ترجف الأرض والجبال؛ ورُجْفان ذلك: اضطرابه بمن عليه، وذلك يوم القيامة.
وقوله: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا) يقول: وكانت الجبال رملا سائلا متناثرًا.
والمهيل: مفعول من قول القائل: هلت الرمل فأنا أهيله، وذلك إذا حُرِّك أسفله، فانهال عليه من أعلاه؛ وللعرب في ذلك لغتان، تقول: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول؛ ومنه قول الشاعر:
قدْ كانَ قَوْمُكَ يَحْسَبُونَكَ سَيِّدا وإخالُ أنَّكَ سَيِّدٌ مَغْيُونُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا) يقول: الرمل السائل.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا) قال: الكثيب المهيل: اللين الذي إذا مسسته تتابع.
__________
(1) البيت لعباس بن مرداس السلمي (شرح شواهد شافية ابن الحاجب لعبد القادر البغدادي طبع القاهرة 389) . قال البغدادي: " مغيون، بالغين المعجمة: اسم مفعول من قولهم: غين على قلبه، أي غطى عليه، وفي الحديث: "إنه ليغان على قلبي" ولكن الناس ينشدونه بالباء، وهو تصحيف، وقد روى بالعين غير المعجمة أي: مصاب بالعين. والأول هو الوجه. وكلاهما مما جاء فيه التصحيح وإن كان الاعتلال فيه أكثر، كقولهم: طعام مزيوت، وبر مكيول، وثوب مخيوط؛ والقياس: مغين، ومزيت، ومكيل، ومخيط، حملا على غين، وزيت، وكيل، وخيط. قال أبو علي: ولو جاء التصحيح فيما كان من الواو لم ينكر، وقد صححوا أحرفا من ذوات الواو؛ قالوا: مسك مدوون، وثوب مصووف، وفرس مقوود. قال: وإنما صح اسم المفعول من هذا التركيب فخالف بذلك اسم الفاعل؛ لأن اسم المفعول غير جار على فعله في حركاته وسكونه، كما تجري أسماء الفاعلين على أفعالها؛ خالف اسم المفعول فعله فيما ذكرناه، خالفه في إعلاله. اهـ.(23/692)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كَثِيبًا مَهِيلا) قال: ينهال.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا (16) }
يقول تعالى ذكره: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ) أيها الناس (رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ) بإجابة من أجاب منكم دعوتي، وامتناع من امتنع منكم من الإجابة، يوم تلقوني في القيامة (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا) يقول: مثل إرسالنا من قبلكم إلى فرعون مصر رسولا بدعائه إلى الحقّ، (فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) الذي أرسلناه إليه (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا) يقول: فأخذناه أخذا شديدا، فأهلكناه ومن معه جميعا، وهو من قولهم: كلأ مستوبل، إذا كان لا يستمرأ، وكذلك الطعام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَخْذًا وَبِيلا) قال: شديدا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَخْذًا وَبِيلا) قال: شديدا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا) أي شديدًا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَخْذًا وَبِيلا) قال: شديدا.
حدثني يونس، قال: اخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَأَخَذْنَاهُ(23/693)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
أَخْذًا وَبِيلا) قال: الوبيل: الشرّ، والعرب تقول لمن تتابع عليه الشرّ: لقد أوبل عليه، وتقول: أوبلت على شرّك، قال: ولم يرض الله بأن غُرِّق وعُذّب حتى اقرّ في عذاب مستقرّ حتى يُبعث إلى النار يوم القيامة، يريد فرعون.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا (18) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به: فكيف تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم بالله، ولم تصدّقوا به. وذُكر أن ذلك كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) يقول: كيف تتقون يوما، وأنتم قد كفرتم به ولا تصدّقون به.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ) قال: والله لا يتقي من كفر بالله ذلك اليوم.
وقوله: (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) يعني يوم القيامة، وإنما تشيب الولدان من شدّة هوله وكربه.
كما حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) كان ابن مسعود يقول: "إذا كان يومُ القيامة دعا رُّبنا المَلِكُ آدم، فيقول: يا آدم قم فابعث بعث النار، فيقول آدم: أي رب لا علم لي إلا ما علمتني، فيقول الله له: أخرج من كلّ ألف تسع مئة وتسعة وتسعين، فيُساقون إلى النار سُودا مقرّنين، زُرقا كالِحِين، فيشيب هنالك كلّ وليد".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) قال: تشيب الصغار من كرب ذلك اليوم.
وقوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) يقول تعالى ذكره: السماء مثقلة بذلك اليوم(23/694)
متصدّعة متشققة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) يعني: تشقَّق السماء حين ينزل الرحمن جلّ وعزّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: مثقلة به.
حدثنا أبو حفص الحيري، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا أبو مودود، عن الحسن، في قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: مثقلة محزونة يوم القيامة.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا أبو مودود بحر بن موسى، قال: سمعت ابن أبي عليّ يقول في هذه الآية، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: مثقلة به.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، عن الحسن، في قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: موقرة مثقلة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) يقول: مثقل به ذلك اليوم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: هذا يوم القيامة، فجعل الولدان شيبا، ويوم تنفطر السماء، وقرأ: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) وقال: هذا كله يوم القيامة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: ممتلئة به، بلسان الحبشة.
حدثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن عكرِمة، ولم يسمعه عن ابن عباس (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: ممتلئة به.(23/695)
وذُكرت السماء في هذا الموضع لأن العرب تذكرها وتؤنثها، فمن ذكرها وجهها إلى السقف، كما يقال: هذا سماء البيت: لسقفه. وقد يجوز أن يكون تذكيرهم إياها لأنها من الأسماء التي لا فصل فيها بين مؤنثها ومذكرها؛ ومن التذكير قول الشاعر:
فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاء إلَيْهِ قَوْما لحَقْنا بالسَّماءِ مَعَ السَّحابِ (1)
وقوله: (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا) يقول تعالى ذكره: كان ما وعد الله من أمر أن يفعله مفعولا لأنه لا يخلف وعده، وما وعد أن يفعله تكوينه يوم تكون الولدان شيبا يقول: فاحذروا ذلك اليوم أيها الناس، فإنه كائن لا محالة.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 346) قال: وقوله: (السماء منفطر به) بذلك اليوم. والسماء تذكر وتؤنث، فهي هاهنا في وجه التذكير؛ قال الشاعر: "ولو رفع السماء.." البيت. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 181) : (السماء منفطر به) قال أبو عمرو: ألقى الهاء؛ لأن مجازها السقف، تقول: هذا سماء البيت. وقال قوم: قد تلقى العرب من المؤنث الهاءات استغناء عنها، يقال: مهرة ضامر، وامرأة طالق، والمعنى: منفطرة.(23/696)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) }
يعني تعالى ذكره بقوله: إن هذه الآيات التي ذكر فيها أمر القيامة وأهوالها،(23/696)
وما هو فاعل فيها بأهل الكفر تَذْكِرَةً يقول: عبرة وعظة لمن اعتبر بها واتعظ (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) يقول: فمن شاء من الخلق اتخذ إلى ربه طريقًا بالإيمان به، والعمل بطاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) يعني: القرآن (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) بطاعة الله.
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم أقرب من ثلثي الليل مصليا، ونصفه وثلثه.
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك: فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة بالخفض؛ ونصفه وثلثه بمعنى: وأدنى من نصفه وثلثه، إنكم لم تطيقوا العمل بما افترض عليكم من قيام الليل، فقوموا أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة بالنصب، بمعنى: إنك تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب وقوله: (وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) يعني: من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا مؤمنين بالله حين فرض عليهم قيام الليل.
وقوله: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) بالساعات والأوقات.
وقوله: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) يقول: علم ربكم أيها القوم الذين فرض عليهم قيام الليل أن لن تطيقوا قيامه (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) إذ عجزتم وضعفتم عنه، ورجع بكم إلى التخفيف عنكم.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا هشيم، عن عباد بن راشد، عن الحسن (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أن لن تطيقوه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرني به عباد بن راشد، قال: سمعت الحسن يقول في قوله: (أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) قال: لن تطيقوه.
حدثنا عن ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد (عَلِمَ أَنْ لَنْ(23/697)
تُحْصُوهُ) يقول: أن لن تطيقوه.
قال ثنا مهران، عن سفيان (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) قال: أن لن تطيقوه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَلتانِ لا يُحْصِيهُما رَجلٌ مُسْلمٌ إلا أدْخَلَتاهُ الجَنةَ، وَهُما يَسِيرٌ، وَمَنْ يَعْمَلْ بِهما قَلِيلٌ، يُسَبِّحُ الله فِي دُبُرِ كُلّ صَلاةٍ عَشْرا، ويَحْمَدُهُ عَشرا، ويُكَبّرُهُ عَشْرا" قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده، قال: "فَتِلكَ خَمْسُونَ وَمِئَةٍ باللِّسانِ، وألْفٌ وخَمْس مِئَةٍ فِي المِيزَانِ، وَإذَا أوَى إلى فِراشِهِ سَبحَ وحَمَد وكَبر مِئَة؛ قال: فَتِلكَ مِئَةٌ باللِّسانِ، وألْفٌ فِي المِيزَانِ، فأيُّكُمْ يَعْمَلُ فِي اليَوْمِ الوَاحِدِ أَلْفَينِ وخَمْسَ مِئَةِ سَيِّئَةٍ؟ " قالوا: فكيف لا نحصيهما؟ قال: "يأتي أحَدَكُمُ الشيْطانُ وَهُوَ فِي صَلاتِهِ فَيَقُولُ: اذْكرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا حتى يَنْفَتلَ، وَلَعَلهُ لا يَعْقِل، ويأْتِيهِ وَهُوَ فِي مَضْجَعِهِ فَلا يَزَالُ يُنَوّمهُ حتى يَنامَ".
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) قيام الليل كتب عليكم (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) .
وقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) يقول: فاقرءوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم؛ وهذا تخفيف من الله عزّ وجلّ عن عباده فرضه الذي كان فرض عليهم بقوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا) .
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء محمد، قال. قلت للحسن: يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، فلا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة، قال: يتوسد القرآن، لعن الله ذاك؛ قال الله للعبد الصالح: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) (وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ) قلت: يا أبا سعيد قال الله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) قال: نعم، ولو خمسين آية.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن عشمان الهمداني، عن السديّ، في قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) قال: مئة آية.
قال: ثنا وكيع، عن ربيع، عن الحسن، قال: من قرأ مئة آية في ليلة لم(23/698)
يحاجه القرآن.
قال ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب، قال: من قرأ في ليلة مئة آية كُتب من العابدين.
وقوله: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: علم ربكم أيها المؤمنون أن سيكون منكم أهل مرض قد أضعفه المرض عن قيام الليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ) في سفر (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) في تجارة قد سافروا لطلب المعاش فأعجزهم، فأضعفهم أيضا عن قيام الليل (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يقول: وآخرون أيضا منكم يجاهدون العدوّ فيقاتلونهم في نُصرة دين الله، فرحمكم الله فخفف عنكم، ووضع عنكم فرض قيام الليل (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) يقول: فاقرءوا الآن إذ خفف ذلك عنكم من الليل في صلاتكم ما تيسَّر من القرآن. والهاء قي قوله "منه" من ذكر القرآن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثم أنبأ بخصال المؤمنين، فقال: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) قال: افترض الله القيام في أوّل هذه السورة، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، ثم أنزل التخفيف في آخرها فصار قيام الليل تطوّعا بعد فريضة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يقول: وأقيموا المفروضة وهي الصلوات الخمس في اليوم والليلة (وَآتُوا الزَّكَاةَ) يقول: وأعطوا الزكاة المفروضة في أموالكم أهلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) فهما فريضتان واجبتان، لا رخصة لأحد فيهما، فأدّوهما إلى الله تعالى ذكره.
وقوله: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) يقول: وأنفقوا في سبيل الله من أموالكم.(23/699)
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) قال: القرض: النوافل سوى الزكاة.
وقوله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) يقول: وما تقدّموا أيها المؤمنون لأنفسكم في دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها في سبيل الله، أو غير ذلك من نفقة في وجوه الخير، أو عمل بطاعة الله من صلاة أو صيام أو حجّ، أو غير ذلك من أعمال الخير في طلب ما عند الله، تجدوه عند الله يوم القيامة في معادكم، هو خيرا لكم مما قدمتم في الدنيا، وأعظم منه ثوابا: أي ثوابه أعظم من ذلك الذي قدّمتموه لو لم تكونوا قدّمتموه (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) يقول تعالى ذكره: وسلوا الله غفران ذنوبكم يصفح لكم عنها (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول: إن الله ذو مغفرة لذنوب من تاب من عباده من ذنوبه، وذو رحمة أن يعاقبهم عليها من بعد توبتهم منها.
آخر تفسير سورة المزمل.
تفسير سورة المدثر(23/700)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) }
يقول جلّ ثناؤه: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) يأيها المتدثر بثيابه عند نومه.
وذُكر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له ذلك، وهو متدثر بقطيفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قال: كان متدثرا في قطيفة.
وذُكر أن هذه الآية أول شيء نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قيل له: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) .
كما حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث عن فترة الوحي: " بَيْنا أنا أمْشِي سَمِعْت صَوْتا مِنَ السَّماءِ، فَرَفَعْتُ رأسِي، فإذَا المَلَك الَّذِي جاءَنِي بحرَاءَ جالِسٌ عَلى كُرْسِي بَينَ السَّماءِ والأرْضِ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقا (1) ، وجِئْتُ أهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فدَثَّرُونِي" فأنزل الله (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ..) إلى قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال: ثم تتابع الوحي.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الأوزاعي، قال: ثني
__________
(1) الحديث 195 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. مري بن قطري الكوفي: ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 57، وقال: "سمع عدي بن حاتم، روى عنه سماك بن حرب، يعد في الكوفيين". و "مري": بضم الميم وتشديد الراء المكسورة مع تشديد الياء. و "قطري" بفتح القاف والطاء وبعد الراء ياء مشددة. وبعضه سيأتي أيضًا بالإسناد نفسه 209.
وهذا الحديث عن عدي بن حاتم: أصله قصة مطولة في إسلامه. فرواه -بطوله- أحمد في المسند 4: 378 - 379 عن محمد بن جعفر عن شعبة، بالإسناد السابق 194. . ورواه الترمذي 4: 67 من طريق عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عباد بن حبيش عن عدي. وقال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب. وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عباد بن حبيش عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث بطوله". وروى بعضه الطيالسي في مسنده: 1040 عن عمرو بن ثابت "عمن سمع عدي بن حاتم". وقد تبين لنا من روايات الطبري هنا أن سماك بن حرب سمعه من عباد بن حبيش ومن مري بن قطري، كلاهما عن عدي، وأن سماك بن حرب لم ينفرد بروايته أيضًا، إذ رواه إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي. وأن لم يعرفه الترمذي إلا من حديث سماك - لا ينفي أن يعرفه غيره من وجه آخر. وذكره ابن كثير 1: 54 من رواية أحمد في المسند، وأشار إلى رواية الترمذي، وإلى روايات الطبري هنا، ثم قال: "وقد روى حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها ". وذكره الحافظ في الإصابة، في ترجمة عدي 2: 229 من رواية أحمد والترمذي. وذكر السيوطي منه 1: 16 تفسير الحرفين، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه. وكذلك صنع الشوكاني 1: 15.(23/7)
يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة: أيّ القرآن أُنزل أوّل، فقال: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فقلت: يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله: أيّ القرآن أنزل أوّل؟ فقال: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ، فقلت: يقولون: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فقال: لا أخبرك إلا ما حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت في حِراء؛ فلما قضيت جواري هبطت، فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت عن يميني وعن شمالي وخلفي وقدّامي، فلم أر شيئا، فنظرت فوق رأسي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض، فخشيت منه، هكذا قال عثمان بن عمرو، إنما هو: فجثثت منه، ولقيت خديجة، فقلت دثروني، فدثروني، وصبوا عليّ ماءً، فأنزل الله عليّ (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) .
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن عليّ بن مبارك، عن يحيى بن أبي كثير، قال سألت أبا سلمة عن أوّل ما نزل من القرآن، قال: نزلت (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أوّل؛ قال: قلت: إنهم يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، فقال: سألت جابر بن عبد الله، فقال: لا أحدّثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاوَرْتُ بِحِراء؛ فلمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلمْ أرَ شَيْئا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أرَ شَيْئا، فَرَفَعْتُ رأسي فرأيْتُ شَيْئا، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصبُّوا عَليَّ ماء بارِدًا، فنزلت (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، قال: فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة، فحزن حزنًا، فجعل يعدو إلى شواهق رءوس الجبال ليتردّى منها، فكلما أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل عليه السلام فيقول: إنك نبيّ الله، فيسكن جأشه، وتسكن نفسه، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدث عن ذلك، قال: "بَيْنَما أنا أَمْشِي يَوْما إذ رأيْتُ المَلَكَ الَّذِي كان يأتِيني بِحرَاءَ على كُرْسِيّ بَينَ السَّماءِ والأرْضِ، فَجَثَثْتُ مِنْهُ رُعْبا، فَرَجَعْتُ إلى خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: "زَمِّلُونِي"، فزملناه: أي فدثرناه، فأنزل الله: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّر) قال الزهري: فكان أوّل شيء أنزل عليه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... ) حتى بلغ (مَا لَمْ يَعْلَمْ) .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ، فقال بعضهم: معنى(23/8)
ذلك: يأيُّها النائم في ثيابه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قال: يأيها النائم.
حدثنا بشر، ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) يقول: المتدثر في ثيابه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يأيُّها المتدثر النبوّة وأثقالها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: وسُئل داود عن هذه الآية (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فحدثنا عن عكرِمة أنه قال: دثِّرت هذا الأمر فقم به.
وقوله: (قُمْ فَأَنْذِرْ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قم من نومك فأنذر عذاب الله قومك الذين أشركوا بالله، وعبدوا غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُمْ فَأَنْذِرْ) : أي أنذر عذاب الله ووقائعه في الأمم، وشدّة نقمته.
وقوله: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يقول تعالى ذكره: وربك يا محمد فعظم بعبادته، والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد.
وقوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على غدرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: أما سمعت قول غَيلان بن سَلَمة:
وإنّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ
لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ (1)
__________
(1) الحديث 196 - حميد بن مسعدة السامي، شيخ الطبري: هو "السامي" بالسين المهملة، نص على ذلك الحافظ ابن حجر في التقريب. وهو نسبة إلى "سامة بن لؤي بن غالب". ووقع في نسخ الطبري -هنا وفيما يأتي 210- "الشامي" بالمعجمة، وهو تصحيف. و "الجريري"، بضم الجيم: هو سعيد بن إياس البصري. و "عبد الله بن شقيق العقيلي"، بضم العين وفتح القاف: تابعي كبير ثقة. وهذا الإسناد مرسل، لقول عبد الله بن شقيق: "أن رجلا". وسيأتي مرسلا أيضًا 197، 199 ولكنه سيأتي موصولا 198.(23/9)
حدثنا أبو كُريب: قال: ثنا مُصْعَب بن سلام، عن الأجلح، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: أتاه رجل وأنا جالس فقال: أرأيت قول الله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفيّ:
وإنّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ
لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ
حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثنا حفص بن غياث، عن الأجلح، عن عكرِمة، قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا تلبسها على غدرة، ولا على فجرة ثم تمثَّل بشعر غيلان بن سلمة هذا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن عكرِمة (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا تلبس ثيابك على معصية، ألم تسمع قول غيلان بن سَلَمَة الثقفيّ:
وإنّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ
لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني عطاء، أنه سمع ابن عباس يقول: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: من الإثم، ثم قال: نقيّ الثياب في كلام العرب.
حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثنا حفص بن غياث القاضي، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، عن ابن عباس، قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: في كلام العرب: نقيّ الثياب.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: من الذنوب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: من الذنوب.(23/10)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: هي كلمة من العربية كانت العرب تقولها: طهر ثيابك: أي من الذنوب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) يقول: طهرها من المعاصي، فكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دَنِسَ الثياب، وإذا وفى وأصلح قالوا: مطهَّر الثياب.
حدثنا ابن حميد، قال ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: من الإثم.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: من الإثم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) يقول: لا تلبس ثيابك على معصية.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: من الإثم.
قال ثنا وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: من الإثم.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن الأجلح، سمع عكرمة قال: لا تلبس ثيابك على معصية.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عامر وعطاء قالا من الخطايا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تلبس ثيابك من مكسب غير طيب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب، ويقال: لا تلبس ثيابك على معصية.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أصلح عملك.(23/11)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: عملك فأصلح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي رَزِين في قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: عملك فأصلحه، وكان الرجل إذا كان خبيث العمل، قالوا: فلان خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا: فلان طاهر الثياب.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لست بكاهن ولا ساحر، فأعرض عما قالوا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: اغسلها بالماء، وطهرها من النجاسة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عباس بن أبي طالب، قال: ثنا عليّ بن عبد الله بن جعفر، عن أحمد بن موسى بن أبى مريم صاحب اللؤلؤ، قال: أخبرنا ابن عون، عن محمد بن سيرين (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: اغسلها بالماء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره أن يتطهر، ويطهِّر ثيابه.
وهذا القول الذي قاله ابن سيرين وابن زيد في ذلك أظهر معانيه، والذي قاله ابن عباس، وعكرمة وابن زكريا قول عليه أكثر السلف من أنه عُنِيَ به: جسمك فطهر من الذنوب، والله أعلم بمراده من ذلك.
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة: (والرِّجْزَ) بكسر الراء، وقرأه بعض المكيين والمدنيين (وَالرُّجْزَ) بضم الراء، فمن ضمّ الراء وجهه إلى الأوثان، وقال: معنى الكلام: والأوثان فاهجر عبادتها، واترك خدمتها، ومن كسر الراء وجَّهه إلى العذاب، وقال: معناه: والعذاب فاهجر، أي ما أوجب لك العذاب من الأعمال فاهجر.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، والضمّ والكسر في ذلك لغتان بمعنى واحد، ولم نجد أحدًا من متقدّمي أهل التأويل فرّق بين تأويل ذلك، وإنما فرّق بين ذلك فيما بلغنا الكسائيّ.
واختلف أهل التأويل في معنى (الرُّجْزُ) في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو الأصنام.(23/12)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) يقول: السخط وهو الأصنام.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال: الأوثان.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل - قال أبو جعفر: أحسبه أنا - عن جابرٍ، عن مجاهد وعكرِمة (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال: الأوثان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) : إساف ونائلة، وهما صنمان كانا عند البيت يمسح وجوههما من أتى عليهما، فأمر الله نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يجتنبهما ويعتزلهما.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال: هي الأوثان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال: الرجز: آلهتهم التي كانوا يعبدون؛ أمره أن يهجرها، فلا يأتيها، ولا يقربها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والمعصية والإثم فاهجر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال: الإثم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) يقول: اهجر المعصية. وقد بيَّنا معنى الرجز فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع.
وقوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا تعط يا محمد عطية لتعطى أكثر منها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي،(23/13)
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تُعط عطية تلتمس بها أفضل منها.
حدثنا أبو حميد الحمصي أحمد بن المُغيرة، قال: ثني أبو حيوة شريح بن يزيد الحضرميّ، قال: ثني أرطاة عن ضمرة بن حبيب وأبي الأحوص في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط شيئا، لتُعْطَى أكثر منه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن عكرِمة، في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط شيئا لتُعْطَى أكثر منه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني من سمع عكرِمة يقول: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط العطية لتريد أن تأخذ أكثر منها.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل، عن منصور، عن إبراهيم (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط كيما تَزداد.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن مُغيرة، عن إبراهيم، في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط شيئا لتأخذ أكثر منه.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سلمة، عن الضحاك (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعطِ لتُعْطَى أكثر منه.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعطِ لتُعْطَى أكثر منه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط شيئا لتزداد.
حدثنا أبو كُرَيْبٍ قال: ثنا وكيع، عن ابن أبي روّاد، عن الضحاك، قال: هو الربا الحلال، كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
حدثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: ثنا وكيع، عن أبي حجيرة، عن الضحاك، هما رِبَوان: حلال، وحرام؛ فأما الحلال: فالهدايا، والحرام: فالربا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) يقول: لا تعطِ شيئا، إنما بك مجازاة الدنيا ومعارضها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَمْنُنْ(23/14)
تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط شيئا لتثاب أفضل منه، وقاله أيضا طاوس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: تعطي مالا مصانعة رجاء أفضل منه من الثواب في الدنيا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: لا تعط لتُعْطى أكثر منه.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تعط لتزداد.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك بن مزاحم (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: هي للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة، وللناس عامَّة مُوَسَّع عليهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تمنن عملك على ربك تستكثر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سفيان بن حسين، عن الحسن، في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تمنن عملك تستكثره على ربك.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تمنن تستكثر عملك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا يونس بن نافع أبو غانم، عن أبي سهل كثير بن زياد، عن الحسن (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) يقول: لا تمنن تستكثر عملك الصالح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا يكثر عملك في عينك، فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تضعف أن تستكثر من الخير. ووجَّهوا معنى قوله: (وَلا تَمْنُنْ) أي لا تضعف، من قولهم: حبل منين: إذا كان ضعيفا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو حميد بن المغيرة الحمصي، قال: ثنا عبد الله بن عمرو، قال: ثنا(23/15)
محمد بن سلمة، عن خَصِيف عن مجاهد، في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال: تمنن في كلام العرب: تضعف.
وقال آخرون في ذلك: لا تمنن بالنبوّة على الناس، تأخذ عليه منهم أجرًا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال: لا تمنن بالنبوّة والقرآن الذي أرسلناك به تستكثرهم به، تأخذ عليه عوضا من الدنيا.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال: معنى ذلك: ولا تمنن على ربك من أن تستكثر عملك الصالح.
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأن ذلك في سياق آيات تقدم فيهنّ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالجدّ في الدعاء إليه، والصبر على ما يَلْقَى من الأذى فيه، فهذه بأن تكون من أنواع تلك، أشبه منها بأن تكون من غيرها. وذُكر عن عبد الله بن مسعود أن ذلك في قراءته (ولا تمنن أن (1) تستكثر) .
وقوله: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) يقول تعالى ذكره: ولربك فاصبر على ما لقيت فيه من المكروه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل على اختلاف فيه بين أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) قال: على ما أوتيت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) قال: حمل أمرًا عظيما محاربة العرب، ثم العجم من بعد العرب في الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولربك فاصبر على عطيتك.
__________
(1) الحديث 198 - بديل، بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة: هو ابن ميسرة العقيلي، وهو تابعي ثقة. وهذه الرواية متصلة بإسناد صحيح. لأن عبد الله بن شقيق صرح فيها بانه أخبره "من سمع النبي صلى الله عليه وسلم "، وجهالة الصحابي لا تضر، كما هو معروف. والوصل بذكر الصحابي المبهم - زيادة من الثقة، فهي مقبولة.
وقد ذكر ابن كثير 1: 54 - 55 هذه الرواية الموصولة، ثم أشار إلى الروايات الثلاث المرسلة، ثم قال: " ووقع في رواية عروة تسمية: عبد الله بن عمرو، فالله أعلم". ولكنه لم يذكر من خرج رواية عروة التي يشير إليها. ثم قال ابن كثير: "وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم، قال: اليهود، قلت: الضالين؟ قال: النصارى". وأشار الحافظ في الفتح 8: 122 إلى رواية ابن مردويه هذه عن أبي ذر "بإسناد حسن". وذكر أيضًا أن رواية عبد الله بن شقيق الموصولة " أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم" - رواها أحمد. وهذه الروايات أيضًا عند السيوطي 1: 16، والشوكاني 1: 14 - 15. وسيأتي تفسير (الضالين) بهذه الأسانيد 210، 211، 212، 213. وسيأتي في 211 بيان من عروة الذي في الإسناد 197.(23/16)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) قال: اصبر على عطيتك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: اصبر على عطيتك لله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، في قوله: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) قال: عطيتك اصبر عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا (12) } .
يعني جل ثناؤه بقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) فذلك يومئذ يوم شديد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن فضيل وأسباط، عن مطرِّف، عن عطية العوفيِّ، عن ابن عباس، في قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسْتَمعُ مَتَى يُؤْمَرُ يَنْفُخُ فِيهِ"، فقال أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف نقول؟ فقال: تقولون: حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، عَلى اللهِ تَوَكَّلْنا".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، عن عكرِمة، في قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: إذا نُفخ في الصور.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن عكرِمة، في قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: إذا نُفخ في الصور.(23/17)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: في الصور، قال: هو شيء كهيئة البوق.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: هو يوم يُنفخ في الصور الذي ينفخ فيه، قال ابن عباس: إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أصحابه، فقال: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، ثُمَّ أقْبَلَ بأُذُنِهِ يَسْتَمِعُ مَتى يُؤْمَرُ بالصَّيْحَة؟ فاشتدّ ذلك على أصحابه، فأمرهم أن يقولوا: حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، على اللهِ تَوَكَّلْنا".
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) يقول: الصور.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال الحسن: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: إذا نُفخ في الصُّور.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) والناقور: الصور، والصور: الخلق.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله:: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) يعني: الصُّور.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع، قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: الناقور: الصور.
حدثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال: الصور.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) يقول: شديد.(23/18)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله تعالى ذكره (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) فبين الله على من يقع (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) .
وقوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كِلْ يا محمد أمر الذي خلقته في بطن أمه وحيدًا، لا شيء له من مال ولا ولد إليّ.
وذُكر أنه عُنِي بذلك: الوليد بن المغيرة المخزومي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا يُونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد، عن سعيد بن جُبير أو عكرِمة، عن ابن عباس، قال: أنزل الله في الوليد بن المغيرة قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) وقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ... ) إلى آخرها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) قال: خلقته وحده ليس معه مال ولا ولد.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن محمد بن شريك، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) قال: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكذلك الخلق كلهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) وهو الوليد بن المغيرة، أخرجه الله من بطن أمه وحيدًا، لا مال له ولا ولد، فرزقه الله المال والولد، والثروة والنماء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ... ) إلى قوله: (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ... ) حتى بلغ (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) قال: هذه الآية أُنزلت في الوليد بن المُغيرة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) يعني الوليد بن المغيرة (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) .
اختلف أهل التأويل في هذا المال الذي ذكره الله، وأخبر أنه جعله للوحيد ما(23/19)
هو؟ وما مبلغه؟ فقال بعضهم: كان ذلك دنانير، ومبلغها ألف دينار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أبيه، عن مجاهد (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) قال: كان ماله ألف دينار.
حدثنا صالح بن مسمار المروزي، قال: ثنا الحارث بن عمران الكوفيّ، قال: ثنا محمد بن سوقة، عن سعيد بن جُبير، في قوله: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) قال: ألف دينار.
وقال آخرون: كان ماله أربعة آلاف دينار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) قال: بلغني أنه أربعة آلاف دينار.
وقال آخرون: كان ماله أرضًا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، في قوله: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) قال: الأرض.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، مثله.
وقال آخرون: كان ذلك غلة شهر بشهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حلبس، إمام مسجد ابن علية، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عمر رضي الله عنه، في قوله: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) قال: غلة شهر بشهر.
حدثني أبو حفص الحيري، قال: ثنا حلبس الضُّبَعي، عن ابن جريج، عن عطاء مثله، ولم يقل: عن عمر.
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: ثنا غالب بن حلبس، قال: ثنا أبي، عن ابن جريج، عن عطاء مثله، ولم يقل: عن عمر.(23/20)
وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
حدثنا أحمد بن الوليد، قال: ثنا أبو بكر عياش، قال: ثنا حلبس بن محمد العجلي، عن ابن جريج عن عطاء، عن عمر، مثله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا) وهو الكثير الممدود، عدده أو مساحته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) } .
يقول تعالى ذكره: وجعلت له بنين شهودا، ذُكر أنهم كانوا عشرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أبيه، عن مجاهد (وَبَنِينَ شُهُودًا) قال: كان بنوه عشرة.
وقوله: (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) يقول تعالى ذكره: وبسطت له في العيش بسطًا.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) قال: بسط له.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) قال: من المال والولد.
وقوله: (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) يقول تعالى ذكره: ثم يأمل ويرجو أن أزيده من المال والولد على ما أعطيته (كَلا) يقول: ليس ذلك كما يأمل ويرجو من أن أزيده مالا وولدا، وتمهيدا في الدنيا (إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) يقول: إن هذا الذي خلقته وحيدا كان لآياتنا - وهي حجج الله على خلقه من الكتب والرسل - عنيدا، يعني معاندا للحقّ مجانبا له، كالبعير العنود؛ ومنه قول القائل:
إذَا نزلْتُ فاجْعَلانِي وَسَطا
إنّي كَبِيرٌ لا أُطِيقُ العُنَّدا (1)
__________
(1) الأثر 200 - أثر الضحاك عن ابن عباس لم يخرجوه. وسيأتي باقيه 215.(23/21)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) قال: جحودا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) قال محمد بن عمرو: معاندا لها. وقال الحارث: معاندا عنها، مجانبا لها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد، قوله: (عَنِيدًا) قال: معاندا للحقّ مجانبا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) كفورا بآيات الله جحودا بها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (لآيَاتِنَا عَنِيدًا) قال: مشاقا، وقيل: عنيدا، وهو من عاند معاندة فهو معاند، كما قيل: عام قابل، وإنما هو مقبل.
وقوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) يقول تعالى ذكره: سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له منها.
وقيل: إن الصعود جبل في النار يكلَّفُ أهل النار صعوده.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا محمد بن سعيد بن زائدة، قال: ثنا شريك، عن عمارة، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) قال: هو جبل في النار من نار، يكلَّفون أن يصعدوه، فإذا وضع(23/22)
يده ذابت، فإذا رفعها عادت، فإذا وضع رجله كذلك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عمرو بن الحارث، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصَّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يُصْعَدُ فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ثُمَّ يَهْوِي كَذلكَ مِنْهُ أبَدًا".
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) قال: مشقة من العذاب.
حدثني الحارث، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) أي عذابا لا راحة منه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) قال: مشقة من العذاب.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) قال: تعبا من العذاب.(23/23)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) } .
يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي خلقته وحيدا، فكَّر فيما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، وقدّر فيما يقول فيه (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) يقول: ثم لعن كيف قدّر النازل فيه (ثُمَّ نَظَرَ) يقول: ثم روّى في ذلك (ثُمَّ عَبَسَ) يقول: ثم قبض ما بين عينيه (وَبَسَرَ) يقول: كلح وجهه؛ ومنه قول توبة بن الحُمَيِّر:
وَقَدْ رَابَنِي مِنْها صُدُودٌ رأيتُهُ ... وإعْراضُها عَنْ حاجَتِي وبُسُورُها (1)
__________
(1) تقدم إليه بشيء: أمره بفعله أو إتيانه.(24/23)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت الأخبار عن الوحيد أنه فعل.
ذكر الرواية بذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عن عباد بن منصور، عن عكرِمة، أن الوليد بن المُغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فقال: أي عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا قال: لِمَ؟ قال: يعطونكه فإنك أتيت محمدا تتعرّض لما قِبَله، قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا قال: فقل فيه قولا يعلم قومك أنَّك مُنكر لما قال، وأنك كاره له؛ قال: فما أقول فيه، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه مني، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى، قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه؛ فلما فكَّر قال: هذا سحر يأثره عن غيره، فنزلت (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) قال قتادة: خرج من بطن أمه وحيدا، فنزلت هذه الآية حتى بلغ تسعة عشر.
حدثني محمد بن سعيد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ... ) إلى (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قُحافة رضي الله عنه، يسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة، فو الله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا: والله لئن صبأ الوليد لتصبأنّ قريش، فلما سمع بذلك أبو جهل قال: أنا والله أكفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه بيته، فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة قال: ألستُ أكثرهم مالا وولدا؟ فقال له أبو جهل:(24/24)
يتحدّثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قُحافة لتصيب من طعامه، قال الوليد: أقد تحدثت به عشيرتي، فلا يقصر عن سائر بني قُصيّ، لا أقرب أبا بكر ولا عمر ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ... ) إلى (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) ، زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس له بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وَما يعلى، وما أشكّ أنه سحر، فأنزل الله فيه: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ... ) الآية (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) : قبض ما بين عينيه وكلح.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَكَّرَ وَقَدَّرَ) قال: الوليد بن المغيرة يوم دار الندوة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) يعني الوليد بن المغيرة، دعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: حتى أنظر، ففكر (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) فجعل الله له سقر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا ... ) إلى قوله: (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) قال: هذا الوليد بن المغيرة قال: سأبتار لكم هذا الرجل الليلة، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجده قائما يصلي ويقترئ، وأتاهم فقالوا: مه، قال: سمعت قولا حلوا أخضر مثمرا يأخذ بالقلوب، فقالوا: هو شعر، فقال: لا والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد عَرضت عليّ الشعراء شعرهم نابغة وفلان وفلان؟ قالوا: فهو كاهن، فقال: لا والله ما هو بكاهن، قد عرضت عليّ الكهانة، قالوا: فهذا سحر الأوّلين اكتتبه، قال: لا أدري إن كان شيئا فعسى هو إذا سحر يؤثر، فقرأ: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) قال: قتل كيف قدّر حين قال: ليس بشعر، ثم قتل كيف قدّر حين قال: ليس بكهانة.
وقوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) يقول تعالى ذكره: ثم ولى عن الإيمان والتصديق(24/25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
بما أنزل الله من كتابه، واستكبر عن الإقرار بالحق (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) قال: يأثره عن غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) قال: يأخذه عن غيره.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي رزين (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) قال: يأثره عن غيره.
وقوله: (إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الوحيد في القرآن (إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ) ما هذا الذي يتلوه محمد إلا قول البشر، يقول: ما هو إلا كلام ابن آدم، وما هو بكلام الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) سأورده بابا من أبواب جهنم اسمه سقر، ولم يُجرَّ سقر لأنه اسم من أسماء جهنم (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) يقول تعالى ذكره: وأيّ شيء أدراك يا محمد، أيّ شيء سقر. ثم بين الله تعالى ذكره ما سقر، فقال: هي(24/26)
نار (لا تُبْقي) من فيها حيا (وَلا تَذَرُ) من فيها ميتا، ولكنها تحرقهم كلما جدّد خلقهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) قال: لا تميت ولا تحيي.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو ليلى، عن مرثد، في قوله: (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) قال: لا تبقي منهم شيئا أن تأكلهم، فإذا خلقوا لها لا تذرهم حتى تأخذهم فتأكلهم.
وقوله: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) يعني جلّ ثناؤه: مغيرة لبشر أهلها، واللّواحة من نعت سقر، وبالردّ عليها رُفعت، وحسُن الرفع فيها، وهي نكرة، وسقر معرفة، لما فيها من معنى المدح.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قال: الجلد.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن أبى رزين (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قال: تلفح الجلد لفحة، فتدعه أشدّ سوادا من الليل.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبي وشعيب بن الليث، عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، قال: قال زيد بن أسلم (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) : أي تلوَّح أجسادهم عليها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي حرّاقة للجلد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،(24/27)
عن أبيه، عن ابن عباس: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) يقول: تحرق بشرة الإنسان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قال: تغير البشر، تحرق البشر؛ يقال: قد لاحه استقباله السماء، ثم قال: النار تغير ألوانهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) غيرت جلودهم فاسودّت.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) يعني: بشر الإنسان، يقول: تحرق بشره.
ورُوي عن ابن عباس في ذلك، ما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) يقول: معرّضة، وأخشى أن يكون خبر عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس هذا غلطا، وأن يكون موضع معرّضة مغيرة، لكن صحَّف فيه.
وقوله: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) يقول تعالى ذكره: على سقر تسعة عشر من الخزنة.
وذُكر أن ذلك لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو جهل ما حدثني به محمد بن سعد قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ... ) إلى قوله: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) فلما سمع أبو جهل بذلك قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزَنة النار تسعة عشر وانتم الدَّهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؟ فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي أبا جهل، فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول له: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) فلما فعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل: والله لا تفعل أنت وربك شيئا، فأخزاه الله يوم بدر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) ذُكر لنا أن أبا جهل حين أُنزلت هذه الآية قال: يا معشر قريش، ما يستطيع كلّ(24/28)
عشرة منكم أن يغلبوا واحدا من خزَنة النار وأنتم الدَّهم (1) ؟ فصاحبكم يحدثكم أن عليها تسعة عشر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قال أبو جهل: يخبركم محمد أن خزَنة النار تسعة عشر، وأنتم الدَّهم ليجتمع كلّ عشرة على واحد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) قال: خزنتها تسعة عشر.
وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً) يقول تعالى ذكره: وما جعلنا خزَنة النار إلا ملائكة يقول لأبي جهل في قوله لقريش: أما يستطيع كلّ عشرة منكم أن تغلب منها واحدا؟ فمن ذا يغلب خزنة النار وهم الملائكة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا ابن زيد، في قوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً) قال: ما جعلناهم رجالا فيأخذ كلّ رجل رجلا كما قال هذا.
وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يقول: وما جعلنا عدّة هؤلاء الخزنة إلا فتنة للذين كفروا بالله من مُشركي قريش.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : إلا بلاء.
وإنما جعل الله الخبر عن عدّة خزنة جهنم فتنة للذين كفروا، لتكذيبهم بذلك، وقول بعضهم لأصحابه: أنا أكفيكموهم.
* ذكر الخبر عمن قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني
__________
(1) يقول: جعل الله ذلك سنة منه لجميع خلقه يستنون بها. فقدم قوله "منه لجميع خلقه".(24/29)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تِسْعَةَ عَشَرَ) قال: جعلوا فتنة، قال أبو الأشدّ بن الجمحي: لا يبلغون رتوتي حتى أجهضهم عن جهنم.
وقوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يقول تعالى ذكره: ليستيقن أهل التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدّة خزَنة جهنم، إذ وافق ذلك ما أنزل الله في كتابه على محمد صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) قال: وإنها في التوراة والإنجيل تسعة عشر، فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيمانًا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) قال: يجدونه مكتوبا عندهم عدّة خزَنة أهل النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يصدّق القرآن الكتب التي كانت قبله فيها كلها، التوراة والإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) قال: ليستيقن أهل الكتاب حين وافق عدّة خزَنة النار ما في كتبهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) قال: عدّة خزَنة جهنم تسعة عشر في التوراة والإنجيل.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أنك رسول الله.(24/30)
وقوله: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) يقول تعالى ذكره: وليزداد الذين آمنوا بالله تصديقا إلى تصديقهم بالله وبرسوله بتصديقهم بعدّة خزنة جهنم.
وقوله: (وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) يقول: ولا يشك أهل التوراة والإنجيل في حقيقة ذلك، والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ) يقول تعالى ذكره: وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق، والكافرون بالله من مشركي قريش (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا)
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي نفاق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا) يقول: حتى يخوّفنا بهؤلاء التسعة عشر.
وقوله: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يقول تعالى ذكره: كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين في خبر الله عن عدّة خزنة جهنم، أيّ شيء أراد الله بهذا الخبر من المثل حتى يخوّفنا بذكر عدتهم، ويهتدي به المؤمنون، فازدادوا بتصديقهم إلى إيمانهم إيمانا (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ) مِنْ خَلْقِهِ فيخذله عن إصابة الحقّ (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) منهم، فيوفقه لإصابة الصواب (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) من كثرتهم (إلا هُوَ) يعني: الله.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ) أي: من كثرتهم.
وقوله: (وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) يقول تعالى ذكره: وما النار التي وصفتها إلا تذكرة ذكر بها البشر، وهم بنو آدم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) يعني النار.(24/31)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) قال: النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) } .
يعني تعالى ذكره بقوله (كَلا) ليس القول كما يقول من زعم أنه يكفي أصحابَهُ المشركين خزنةُ جهنم حتى يجهضهم عنها، ثم أقسم ربنا تعالى فقال: (وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) يقول: والليل إذ ولَّى ذاهبا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) إذ ولَّى.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي؛ عن أبيه، عن ابن عباس (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) دبوره: إظلامه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة (إِذْ أَدْبَرَ) ، وبعض قرّاء مكة والكوفة (إذا دَبَرَ) .(24/32)
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقد اختلف أهل العلم بكلام العرب في ذلك، فقال بعض الكوفيين: هما لغتان، يقال: دبر النهار وأدبر، ودبر الصيف وأدبر، قال: وكذلك قَبل وأقبل؛ فإذا قالوا: أقبل الراكب وأدبر لم يقولوه إلا بالألف. وقال بعض البصريين: (واللَّيْل إذَا دَبَرَ) يعني: إذا دبر النهار وكان في آخره؛ قال: ويقال: دبرني: إذا جاء خلفي، وأدبر: إذا ولَّى.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان بمعنى، وذلك أنه محكيّ عن العرب: قبح الله ما قَبِل منه وما دبر. وأخرى أن أهل التفسير لم يميزوا في تفسيرهم بين القراءتين، وذلك دليل على أنهم فعلوا ذلك كذلك، لأنهما بمعنى واحد.
وقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) يقول تعالى ذكره: والصبح إذا أضاء.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) إذا أضاء وأقبل (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) يقول تعالى ذكره: إن جهنم لإحدى الكبر، يعني: الأمور العظام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) يعني: جهنم.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) قال: جهنم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) قال: هذه النار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) قال: هي النار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) يعني: جهنم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) يعني جهنم.
وقوله: (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) يقول تعالى ذكره: إن النار لإحدى الكبر، نذيرا لبنى آدم.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) ، وما الموصوف بذلك، فقال بعضهم: عُنِيَ بذلك النار، وقالوا: هي صفة للهاء التي في قوله (إنها) وقالوا: هي النذير، فعلى قول هؤلاء النذير نصب على القطع من إحدى الكبر؛ لأن إحدى(24/33)
الكبر معرفة، وقوله: (نَذِيرًا) نكرة، والكلام قد يحسُن الوقوف عليه دونه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: قال الحسن: والله ما أُنذر الناسُ بشيء أدهى منها، أو بداهية هي أدهى منها.
وقال آخرون: بل ذلك من صفة الله تعالى، وهو خبر من الله عن نفسه، أنه نذير لخلقه، وعلى هذا القول يجب أن يكون نصب قوله (نَذِيرًا) على الخروج من جملة الكلام المتقدم، فيكون معنى الكلام: وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة نذيرا للبشر، يعني: إنذارا لهم؛ فيكون قوله (نَذِيرًا) بمعنى إنذارا لهم؛ كما قال: (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) بمعنى إنذاري؛ ويكون أيضا بمعنى: إنها لإحدى الكُبَرِ؛ صيرنا ذلك كذلك نذيرا، فيكون قوله: (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) مؤدّيا عن معنى صيرنا ذلك كذلك، وهذا المعنى قصد من قال ذلك إن شاء الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن أبي رزين (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ) قال: جهنم (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) يقول الله: أنا لكم منها نذير فاتقوها.
وقال آخرون: بل ذلك من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: نصب نذيرا على الحال مما في قوله " قم "، وقالوا: معنى الكلام: قم نذيرا للبشر فأنذر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) قال: الخلق. قال: بنو آدم، البشر. فقيل له: محمد النذير؟ قال: نعم ينذرهم.
وقوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) يقول تعالى ذكره: نذيرًا للبشر لمن شاء منكم أيها الناس أن يتقدّم في طاعة الله، أو يتأخر في معصية الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) قال: من(24/34)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)
شاء اتبع طاعة الله، ومن شاء تأخر عنها.
حدثني بشر؛ قال: ثنا يزيد؛ قال: ثنا سعيد؛ عن قتادة (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) يتقدّم في طاعة الله، أو يتأخر في معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) } .
يقول تعالى ذكره: كلّ نفس مأمورة منهية بما عملت من معصية الله في الدنيا، رهينة في جهنم (إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) فإنهم غير مرتهنين، ولكنهم (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) يقول: مأخوذة بعملها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) قال: غلق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) قال: لا يحاسبون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) أصحابَ اليمين لا يرتهنون بذنوبهم، ولكن يغفرها الله لهم، وقرأ قول الله: (إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) قال: لا يؤاخذهم الله بسيئ أعمالهم، ولكن يغفرها الله لهم، ويتجاوز عنهم كما وعدهم.(24/35)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) قال: كل نفس سبقت له كلمة العذاب يرتهنه الله في النار، لا يرتهن الله أحدا من أهل الجنة، ألم تسمع أنه قال: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) يقول: ليسوا رهينة (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) قال: إن كان أحدهم سبقت له كلمة العذاب جُعلَ منزله في النار يكون فيها رهنا، وليس يرتهن أحد من أهل الجنة هم في جنات يتساءلون.
واختلف أهل التأويل في أصحاب اليمين الذين ذكرهم الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: هم أطفال المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن عثمان، عن زاذان، عن علي رضي الله عنه في هذه الآية (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) قال: هم الولدان.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عثمان أبي اليقظان، عن زاذان أبي عمر عن عليّ رضي الله عنه في قوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) قال: أطفال المسلمين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن زاذان أبي عمر، عن عليّ رضي الله عنه (إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) قال: أولاد المسلمين.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي اليقظان، عن زاذان، عن عليّ رضي الله عنه (إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) قال: هم الولدان.
وقال آخرون: هم الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان،(24/36)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
عن ابن عباس، قال: هم الملائكة، وإنما قال من قال: أصحاب اليمين في هذا الموضع: هم الولدان وأطفال المسلمين؛ ومن قال: هم الملائكة، لأن هؤلاء لم يكن لهم ذنوب، وقالوا: لم يكونوا ليسألوا المجرمين (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) إلا إنهم لم يقترفوا في الدنيا مآثم، ولو كانوا اقترفوها وعرفوها لم يكونوا ليسألوهم عما سلكهم في سقر، لأن كلّ من دخل من بني آدم ممن بلغ حدّ التكليف، ولزِمه فرض الأمر والنهي، قد علم أن أحدا لا يعاقب إلا على المعصية.
وقوله: (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) يقول: أصحاب اليمين في بساتين يتساءلون عن المجرمين الذين سلكوا في سقر، أيّ شيء سلككم في سقر؟ (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) يقول: قال المجرمون لهم: لم نك في الدنيا من المصلين لله (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) بخلا بما خوّلهم الله، ومنعا له من حقه.
(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) يقول: وكنا نخوض في الباطل وفيما يكرهه الله مع من يخوض فيه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) قال: كلما غوى غاوٍ غوى معه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) قال: يقولون: كلما غوى غاو غوينا معه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) } .(24/37)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) } .
وقوله: (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) يقول تعالى ذكره: قالوا: وكنا نكذّب بيوم المجازاة والثواب والعذاب، ولا نصدّق بثواب ولا عقاب ولا حساب (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) يقول: قالوا: حتى أتانا الموت الموقن به (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) يقول: فما يشفع لهم الذين شفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد، فتنفعهم شفاعتهم، وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله تعالى ذكره مشفع بعض خلقه في بعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/37)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله في قصة ذكرها في الشفاعة، قال: ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون، ويشفعهم الله فيقول: أنا أرحم الراحمين، فيخرج من النار أكثر مما أخرج من جميع الخلق من النار، ثم يقول: أنا أرحم الراحمين، ثم قرأ عبد الله يأيها الكفار (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) وعقد بيده أربعا، ثم قال: هل ترون في هؤلاء من خير، ألا ما يُترك فيها أحد فيه خير.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت عمي وإسماعيل بن أبي خالد، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، قال: قال عبد الله: لا يبقى في النار إلا أربعة، أو ذو الأربعة - الشك من أبي جعفر الطبري - ثم يتلو: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) تعلمن أن الله يشفع المومنين يوم القيامة. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " إنَّ مِنْ أُمَّتِي رَجُلا يُدْخِلُ اللهُ بِشَفاعَتِهِ الجَنَّةَ أكْثَرَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ".
قال الحسن: أكثر من ربيعة ومضر، كنا نحدَّث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور عن معمر، عن قتادة (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) قال: تعلمن أن الله يشفع بعضهم في بعض.
قال: ثنا أبو ثور، قال معمر: وأخبرني من سمع أنس بن مالك يقول: إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة والرجل.
قال: ثنا أبو ثور، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: يدخل الله بشفاعة رجل من هذه الأمة الجنة مثل بني تميم، أو قال: أكثر من بني تميم، وقال الحسن: مثل ربيعة ومضر.
وقوله: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) يقول: فما لهؤلاء المشركين عن(24/38)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)
تذكرة الله إياهم بهذا القرآن معرضين، لا يستمعون لها فيتعظوا ويعتبروا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي: عن هذا القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53) } .
يقول تعالى ذكره: فما لهؤلاء المشركين بالله عن التذكرة معرِضين، مولِّين عنها تولية الحُمُر المستنفرة (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (مُسْتَنْفِرَةٌ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة بكسر الفاء، وفي قراءة بعض المكيين أيضا بمعنى نافرة (1) .
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان معروفتان، صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وكان الفرّاء يقول: الفتح والكسر في ذلك كثيران في كلام العرب؛ وأنشد:
أمْسِكْ حِمَارَكَ إنَّهُ مُسْتَنْفِرٌ ... فِي إثْرِ أحْمِرَةٍ عَمَدْن لِغُرَّب (2)
وقوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) اختلف أهل التأويل في معنى القسورة، فقال بعضهم: هم الرماة.
__________
(1) في المطبوعة: "في افتتاح. . . " والضمير في "فبه" عائد إلى "ما أدبه به".
(2) في المطبوعة: "من إظهار"، "من دلالة شاهدة".(24/39)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس، في قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: الرماة.
حدثني ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن أبي موسى (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: الرماة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: هي الرماة.
قال ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (قَسْوَرَةٍ) قال: عصبَة قناص من الرماة. زاد الحارث في حديثه. قال: وقال بعضهم في القسورة: هو الأسد، وبعضهم: الرماة.
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سِماك، عن عكرِمة، في قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: القسورة: الرماة، فقال رجل لعكرِمة: هو الأسد بلسان الحبشة، فقال عكرِمة: اسم الأسد بلسان الحبشة عنبسة.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، عن عكرِمة، في قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: الرماة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن عبد الله السلولي، عن ابن عباس، قال: هي الرماة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) وهم الرماة القناص.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله:(24/40)
(فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: قسورة النبل.
وقال آخرون: هم القناص.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) يعني: رجال القَنْص.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جُبير في هذه الآية (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: هم القناص.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير قال: هم القناص.
وقال آخرون: هم جماعة الرجال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي حمزة، قال: سألت ابن عباس عن القسورة، فقال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب: الأسد، هي عصب الرجال.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث. قال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هي عِصب الرجال.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: سمعت أبي يحدّث، قال: ثنا داود، قال: ثني عباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم، قال: سئل ابن عباس عن القسورة، قال: جمع الرجال، ألم تسمع ما قالت فلانة في الجاهلية:
يا بِنْتَ لُؤَيّ خَيْرَةً لخَيْرَه ... أحْوَالُهُا في الحَيّ مِثلُ القَسْوَرَهْ (1)
__________
(1) معناه: أي ما يعنيه ويقصده.(24/41)
وقال آخرون: هي أصوات الرجال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: ركز الناس أصواتهم.
قال أبو كريب، قال سفيان: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) .
وقال آخرون: بل هو الأسد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: هو الأسد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن ابن سيلان، أن أبا هريرة كان يقول في قول الله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: هو الأسد.
حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا هشام، عن زيد بن أسلم، في قول الله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: الأسد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، في قول الله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: هو الأسد.
حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال ثني سلم بن قتيبة، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عليّ، بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، أنه سُئل عن قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: هو بالعربية: الأسد، وبالفارسية: شار، وبالنبطية: أريا، وبالحبشية: قسورة.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) يقول: الأسد.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، عن هشام بن سعد، عن(24/42)
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)
زيد بن أسلم، عن أبي هريرة قال: الأسد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال: القسورة: الأسد.
وقوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين في إعراضهم عن هذا القرآن أنهم لا يعلمون أنه من عند الله، ولكن كلّ رجل منهم يريد أن يؤتى كتابا من السماء ينزل عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) قال: قد قال قائلون من الناس: يا محمد إن سرّك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان، نؤمر فيه باتباعك، قال قتادة: يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) قال: إلى فلان من رب العالمين.
وقوله: (كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يزعمون من أنهم لو أوتوا صحفا منشَّرة صدّقوا، (بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) ، يقول: لكنهم لا يخافون عقاب الله، ولا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب؛ فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن تذكرة الله، وهوّن عليهم ترك الاستماع لوحيه وتنزيله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ) إنما أفسدهم أنهم كانوا لا يصدّقون بالآخرة، ولا يخافونها، هو الذي أفسدهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)(24/43)
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله: (كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) ليس الأمر كما يقول هؤلاء المشركون في هذا القرآن من أنه سحر يؤثر، وأنه قول البشر، ولكنه تذكرة من الله لخلقه، ذكرهم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي: القرآن.
وقوله: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) يقول تعالى ذكره: فمن شاء من عباد الله الذين ذكرهم الله بهذا القرآن ذكره، فاتعظ فاستعمل ما فيه من أمر الله ونهيه (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) يقول تعالى ذكره: وما يذكرون هذا القرآن فيتعظون به، ويستعملون ما فيه، إلا أن يشاء الله أن يذكروه؛ لأنه لا أحد يقدر على شيء إلا بأن يشاء الله يقدره عليه، ويعطيه القدرة عليه.
وقوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) يقول تعالى ذكره: الله أهل أن يتقي عباده عقابه على معصيتهم إياه، فيجتنبوا معاصيه، ويُسارعوا إلى طاعته، (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) يقول: هو أهل أن يغفر ذنوبهم إذا هم فعلوا ذلك، ولا يعاقبهم عليها مع توبتهم منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ربنا محقوق أن تتقى محارمه، وهو أهل المغفرة يغفر الذنوب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) قال: أهل أن تتقى محارمه، (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) : أهل أن يغفر الذنوب.
آخر تفسير سورة المدثر(24/44)
تفسير سورة القيامة(24/45)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار: (لا أُقْسِمُ) [لا] (1) مفصولة من أقسم، سوى الحسن والأعرج، فإنه ذكر عنهما أنهما كانا يقرآن ذلك (لأقسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ) بمعنى: أقسم بيوم القيامة، ثم أدخلت عليها لام القسم.
والقراءة التي لا أستجيز غيرها في هذا الموضع "لا" مفصولة، أقسم مبتدأة على ما عليه قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقد اختلف الذين قرءوا ذلك على الوجه الذي اخترنا قراءته في تأويله، فقال بعضهم "لا" صلة، وإنما معنى الكلام: أقسم بيوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم بن يناق، عن سعيد بن جُبير (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) قال: أقسم بيوم القيامة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن سعيد بن جُبير (لا أُقْسِم) قال: أقسم.
وقال آخرون منهم: بل دخلت "لا" توكيدًا للكلام.
__________
(1) الحديث 138- مضى مختصرًا، بهذا الإسناد 137. وفصلنا القول فيه هناك.(24/47)
* ذكر من قال ذلك:
سمعت أبا هشام الرفاعي يقول: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: قوله: (لا أُقْسِمُ) توكيد للقسم كقوله: لا والله. وقال بعض نحويِّي الكوفة: لا ردّ لكلام قد مضى من كلام المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار، ثم ابتدئ القسم، فقيل: أقسم بيوم القيامة، وكان يقول: كلّ يمين قبلها ردّ لكلام، فلا بدّ من تقديم "لا" قبلها، ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحدًا، واليمين التي تستأنف، ويقول: ألا ترى أنك تقول مبتدئا: والله إن الرسول لحقّ; وإذا قلت: لا والله إن الرسول لحقّ، فكأنك أكذبت قوما أنكروه.
واختلفوا أيضا في ذلك، هل هو قسم أم لا؟ فقال بعضهم: هو قسم أقسم ربنا بيوم القيامة، وبالنفس اللوّامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي الخير بن تميم، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي ابن عباس: ممن أنت؟ فقلت: من أهل العراق، فقال: أيهم؟ فقلت: من بني أسد، فقال: من حريبهم (1) ، أو ممن أنعم الله عليهم؟ فقلت: لا بل ممن أنعم الله عليهم، فقال لي: سل، فقلت: لا أقسم بيوم القيامة، فقال: يقسم ربك بما شاء من خلقه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال: أقسم بهما جميعا.
وقال آخرون: بل أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوّامة. وقال: معنى قوله: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) ولست أقسم بالنفس اللوّامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الحسن: أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوّامة.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إن الله أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة، وجعل "لا" ردا لكلام قد كان تقدّمه من قوم، وجوابا لهم.
__________
(1) الشعر للقطامي ديوانه: 41، ويأتي في تفسير آية سورة يوسف: 12 (ج 12 ص 94 بولاق) . يقول لزفر بن الحارث الكلابي، وكان أسره في حرب، فمن عليه وأعطاه مئة من الإبل، ورد عليه ماله. يقول: أأكفر بما وليتني، وقد أعطيت ما أعطيت. والعطاء بمعنى الإعطاء، ولذلك نصب به "المئة". والرتاع جمع راتع: يعني الإبل ترتع في مرعى خصيب تذهب فيه وتجيء.(24/48)
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب؛ لأن المعروف من كلام الناس في محاوراتهم إذا قال أحدهم: لا والله، لا فعلت كذا، أنه يقصد بلا ردّ الكلام، وبقوله: والله، ابتداء يمين، وكذلك قولهم: لا أقسم بالله لا فعلت كذا; فإذا كان المعروف من معنى ذلك ما وصفنا، فالواجب أن يكون سائر ما جاء من نظائره جاريا مجراه، ما لم يخرج شيء من ذلك عن المعروف بما يجب التسليم له. وبعد: فإن الجميع من الحجة مجمعون على أن قوله: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) قسم فكذلك قوله: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) إلا أن تأتي حجة تدل على أن أحدهما قسم والآخر خبر. وقد دللنا على أن قراءة من قرأ الحرف الأوّل لأقسم بوصل اللام بأقسم قراءة غير جائزة بخلافها ما عليه الحجة مجمعة، فتأويل الكلام إذا: لا ما الأمر كما تقولون أيها الناس من أن الله لا يبعث عباده بعد مماتهم أحياء، أقسم بيوم القيامة، وكانت جماعة تقول: قيامة كل نفس موتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان ومسعر، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة، قال: يقولون: القيامة القيامة، وإنما قيامة أحدهم: موته.
قال ثنا وكيع، عن مسعر وسفيان، عن أبي قبيس، قال: شهدت جنازة فيها علقمة، فلما دفن قال: أما هذا فقد قامت قيامته.
وقوله: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (اللَّوَّامَةِ) فقال بعضهم: معناه: ولا أقسم بالنفس التي تلوم على الخير والشرّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن سعيد بن جبير، في قوله: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال: تلوم على الخير والشرّ.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سِماك، عن عكرِمة (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال: تلوم على الخير والشرّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي الخير بن تميم، عن سعيد بن جُبير، قال: قلت لابن عباس (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال: هي النفس اللئوم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها تلوم على ما فات وتندم.(24/49)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال: تندم على ما فات وتلوم عليه.
وقال آخرون: بل اللوّامة: الفاجرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أي: الفاجرة.
وقال آخرون: بل هي المذمومة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) يقول: المذمومة.
وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها، فمتقاربات المعاني، وأشبه القول في ذلك بظاهر التنزيل أنها تلوم صاحبها على الخير والشرّ وتندم على ما فات، والقرّاء كلهم مجمعون على قراءة هذه بفصل "لا" من أقسم.
وقوله: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) يقول تعالى ذكره: أيظنّ ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرّقها، بلى قادرين على أعظم من ذلك، أن نسوي بنانه، وهي أصابع يديه ورجليه، فنجعلها شيئا واحدا كخفّ البعير، أو حافر الحمار، فكان لا يأخذ ما يأكل إلا بفيه كسائر البهائم، ولكنه فرق أصابع يديه يأخذ بها، ويتناول ويقبض إذا شاء ويبسط، فحسن خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي الخير بن تميم، عن سعيد بن جُبير، قال: قال لي ابن عباس: سل، فقلت: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) قال: لو شاء لجعله خفا أو حافرا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،(24/50)
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) قال: أنا قادر على أن أجعل كفه مجمرة مثل خفّ البعير.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن إسرائيل، عن مغيرة، عمن حدثه عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس (قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) قال: نجعله خفا أو حافرا.
قال: ثنا وكيع، عن النضر، عن عكرِمة (عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) قال: على أن نجعله مثل خفّ البعير، أو حافر الحمار.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) قال: جعلها يدا، وجعلها أصابع يقبضهنّ ويبسطهنّ، ولو شاء لجمعهنّ، فاتقيت الأرض بفيك، ولكن سوّاك خلقا حسنا. قال أبو رجاء: وسُئل عكرِمة فقال: لو شاء لجعلها كخفّ البعير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) رجليه، قال: كخفّ البعير فلا يعمل بهما شيئا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) قادر والله على أن يجعل بنانه كحافر الدابة، أو كخفّ البعير، ولو شاء لجعله كذلك، فإنما ينقي طعامه بفيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) قال: لو شاء جعل بنانه مثل خفّ البعير، أو حافر الدابة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) قال: البنان: الأصابع، يقول: نحن قادرون على أن نجعل بنانه مثل خفّ البعير.
واختلف أهل العربية في وجه نصب (قَادِرِينَ) فقال بعضهم: نصب لأنه واقع موقع نفعل، فلما ردّ إلى فاعل نصب، وقالوا: معنى الكلام: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى نقدر على أن نسوّي بنانه ; ثم صرف نقدر إلى قادرين. وكان بعض نحويِّي الكوفة يقول: نصب على الخروج من نجمع، كأنه قيل في الكلام: أيحسب أن لن نقوَى عليه؟ بل قادرين على أقوى منك. يريد: بلى نقوى مقتدرين على أكثر(24/51)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
من ذا. وقال: قول الناس بلى نقدر، فلما صرفت إلى قادرين نصبت خطأ، لأن الفعل لا ينصب بتحويله من يفعل إلى فاعل. ألا ترى أنك تقول: أتقوم إلينا، فإن حوّلتها إلى فاعل قلت: أقائم، وكان خطأ أن تقول قائما; قال: وقد كانوا يحتجون بقول الفرزدق:
عَليَّ قَسَم لا أشْتُمُ الدَّهْرَ مُسْلِما ... وَلا خارِجا مِنْ فِيَّ زُورُ كَلام (1)
فقالوا: إنما أراد: لا أشتم ولا يخرج، فلما صرفها إلى خارج نصبها، وإنما نصب لأنه أراد: عاهدت ربي لا شاتما أحدا، ولا خارجا من فيّ زور كلام ; وقوله: لا أشتم، في موضع نصب. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: نصب على نجمع، أي بل نجمعها قادرين على أن نسوّي بنانه، وهذا القول الثاني أشبه بالصحة على مذهب أهل العربية.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلا لا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) } .
يقول تعالى ذكره: ما يجهل ابن آدم أن ربه قادر على أن يجمع عظامه، ولكنه يريد أن يمضي أمامه قُدُما في معاصي الله، لا يثنيه عنها شيء، ولا يتوب منها أبدا،
__________
(1) لم أجد البيت. وأشعب: الطماع الذي يضرب به المثل في الطمع المستعر.(24/52)
ويسوّف التوبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي الخير بن تميم الضبي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في قوله: (بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) قال: يمضي قُدُمًا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) يعني الأمل، يقول الإنسان: أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة، ويقال: هو الكفر بالحقّ بين يدي القيامة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) قال: يمضي أمامه راكبا رأسه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) قال: قال الحسن: لا تلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قُدُما قدما، إلا من قد عصم الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قوله: (لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) قال: قُدُما في المعاصي.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عمرو، عن إسماعيل السدي (بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) قال: قُدُما.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن النضر، عن عكرِمة (بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) قال: قدما لا ينزع عن فجور.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير (لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) قال: سوف أتوب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه يركب رأسه في طلب الدنيا دائبا ولا يذكر الموت.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت(24/53)
الضحاك يقول في قوله: (بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) هو الأمل يؤمل الإنسان، أعيش وأصيب من الدنيا كذا، وأصيب كذا، ولا يذكر الموت.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بل يريد الإنسان الكافر ليكذب بيوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) يقول: الكافر يكذّب بالحساب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) قال: يكذّب بما أمامه يوم القيامة والحساب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بل يريد الإنسان ليكفر بالحقّ بين يدي القيامة، والهاء على هذا القول في قوله: (أمامَهُ) من ذكر القيامة، وقد ذكرنا الرواية بذلك قبل.
قوله: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) يقول تعالى ذكره: يسأل ابن آدم السائر دائبا في معصية الله قُدُما: متى يوم القيامة؟ تسويفا منه للتوبة، فبين الله له ذلك فقال: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... ) الآية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عطية، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، عن قتادة، قوله: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) يقول: متى يوم القيامة، قال: وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من سُئل عن يوم القيامة فليقرأ هذه السورة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) متى يكون ذلك، فقرأ: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قال: فكذلك يكون يوم القيامة.
وقوله: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه أبو جعفر القارئ ونافع وابن أبي إسحاق (فإذَا بَرَقَ) بفتح الراء، بمعنى شخص، وفُتِح عند الموت ; وقرأ ذلك شيبة وأبو عمرو وعامة قرّاء الكوفة (بَرِقَ) بكسر الراء، بمعنى: فزع وشقّ.
وقد حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثني حجاج، عن هارون، قال: سألت أبا عمرو ابن العلاء عنها، فقال: (بَرِقَ) بالكسر بمعنى حار،(24/54)
قال: وسألت عنها عبد الله بن أبي إسحاق فقال: (بَرَقَ) بالفتح، إنما برق الخيطل (1) والنار والبرق. وأما البصر فبرق عند الموت. قال: وأخبرت بذلك ابن أبي إسحاق، فقال: أخذت قراءتي عن الأشياخ نصر بن عاصم وأصحابه، فذكرت لأبي عمرو، فقال: لكن لا آخذ عن نصر ولا عن أصحابه، فكأنه يقول: آخذ عن أهل الحجاز.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب كسر الراء (فَإِذَا بَرِقَ) بمعنى: فزع فشُقّ وفُتِح من هول القيامة وفزع الموت. وبذلك جاءت أشعار العرب. أنشدني بعض الرواة عن أبي عُبيدة الكلابي:
لَمّا أتانِي ابْنُ صُبَيْحٍ رَاغِبا ... أعْطَيْتُهُ عَيْساء مِنْها فَبرَقْ (2)
وحُدثت عن أبي زكريا الفرّاء قال: أنشدني بعض العرب:
نَعانِي حَنانَةُ طُوبالَةً ... تَسَفُّ يَبيسا مِنَ الْعِشْرقِ
فَنَفْسَك فانْعَ وَلا تَنْعَنِي ... ودَاوِ الْكُلومَ وَلا تَبْرَقِ (3)
__________
(1) الشعر للحارث بن خالد المخزومي، الأغاني 9: 225- 226، وهذا البيت الذي من أجله أشخص الواثق إليه أبا عثمان المازني النحوي، وله قصة. انظر الأغاني 9: 234 وغيره، وفي المطبوعة: "أظلوم"، والصواب من المخطوطة، والأغاني وأمالي الشجري 1: 107 وغيرها. وهذه الشواهد السالفة استشهاد من الطبري على أن الأسماء تقوم مقام المصادر فتعمل عملها في النصب. وظليم: هي أم عمران، زوجة عبد الله بن مطيع، وكان الحارث ينسب بها، فلما مات زوجها تزوجها.
(2) أراد بقوله: "تصديرها": أي جعلها مصادر تصدر عنها صوادر الأفعال، وذلك كقولك: ذهب ذهابًا، فذهب صدرت عن قولك "ذهاب"، ويعمل عندئذ عمل الفعل. وعنى أنهم يخرجون المصدر على وزن الاسم فيعمل عمله، كقولك "الكلام" هو اسم ما تتكلم به، ولكنهم قالوا: كلمته كلامًا، فوضعوه موضع التكليم، وأخرجوا من "كلم" مصدرًا على وزن اسم ما تتكلم به، وهو الكلام، فكان المصدر: "كلامًا".
(3) الحديث 139- مضى هذا الخبر وتخريجه، برقم 137.(24/55)
بفتح الراء، وفسَّره أنه يقول: لا تفزع من هول الجراح التي بك ; قال: وكذلك يبرُق البصر يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ) يعني: ببرق البصر: الموت، وبروق البصر: هي الساعة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بَرِقَ الْبَصَرُ) قال: عند الموت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ) شخص البصر.
وقوله: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) يقول: ذهب ضوء القمر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) : ذهب ضوءه فلا ضوء له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن(24/56)
(وَخَسَفَ الْقَمَرُ) هو ضوءه، يقول: ذهب ضوءه.
وقوله: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) يقول تعالى ذكره: وجمع بين الشمس والقمر في ذهاب الضوء، فلا ضوء لواحد منهما، وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر لي (وجُمِعَ بَين الشَّمْس والقَمَرِ) وقيل: إنهما يجمعان ثم يكوّران، كما قال جلّ ثناؤه: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وإنما قيل: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) لما ذكرت من أن معناه جمع بينهما. وكان بعض نحويِّي الكوفة يقول: إنما قيل: وجمع على مذهب وجمع النوران، كأنه قيل: وجمع الضياءان، وهذا قول الكسائي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قال: كوّرا يوم القيامة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قال: جُمعا فرُمي بهما في الأرض.
وقوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال: كوّرت في الأرض والقمر معها.
قال أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن أبي شيبة الكوفيّ، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنه تلا هذه الآية يوما: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قال: يجمعان يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر، فيكون نار الله الكبرى.
وقوله: (يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) بفتح الفاء، قرأ ذلك قرّاء الأمصار، لأن العين في الفعل منه مكسورة، وإذا كانت العين من يفعل مكسورة، فإن العرب تفتحها في المصدر منه إذا نطقت به على مَفعَل، فتقول: فرّ يفرّ مفرّا، يعني فرًّا، كما قال الشاعر:
يا لَبَكْرٍ انْشِرُوا لي كُلَيْبا ... يا لَبَكْرٍ أيْنَ أيْنَ الْفِرَارُ (1)
__________
(1) قوله: "يوضح" ساقطة من المطبوعة. وفيها مكان: "أول كل. . . "، "في كل. . ".(24/57)
إذا أريد هذا المعنى من مفعل قالوا: أين المفرّ بفتح الفاء، وكذلك المدبّ من دبّ يدبّ، كما قال بعضهم:
كأنَّ بَقايا الأثْرِ فَوْقَ مُتُونِه ... مَدَبُّ الدَّبَى فَوْقَ النَّقا وَهْوَ سارِح (1)
وقد يُنشد بكسر الدال، والفتح فيها أكثر، وقد تنطق العرب بذلك، وهو مصدر بكسر العين. وزعم الفرّاء أنهما لغتان، وأنه سُمع: جاء على مَدبّ السيل، ومدِبّ السيل، وما في قميصه مصَحّ ومصِحّ. فأما البصريون فإنهم في المصدر يفتحون العين من مَفْعَل إذا كان الفعل على يَفعِل، وإنما يُجيزون كسرها إذا أريد بالمفعل المكان الذي يفرّ إليه، وكذلك المضرب: المكان الذي يضرب فيه إذا كُسرت الراء. ورُوِي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك بكسر الفاء، ويقول: إنما المفِرّ: مفِر الدابة حيث تفرّ.
والقراءة التي لا أستجيز غيرها الفتح في الفاء من المَفرّ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها، وأنها اللغة المعروفة في العرب إذا أريد بها الفرار، وهو في هذا الموضع الفرار. وتأويل الكلام: يقول الإنسان يوم يعاين أهوال يوم القيامة: أين المفرّ من هول هذا الذي قد نزل، ولا فرار.
يقول تعالى ذكره: (لا وَزَرَ) يقول جلّ ثناؤه: ليس هناك فرار ينفع صاحبه، لأنه لا ينجيه فِراره، ولا شيء يلجأ إليه من حصن ولا جبل ولا معقل، من أمر الله الذي قد حضر، وهو الوزر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) التذكية: النحر والذبح. ذكيت الشاة تذكية: ذبحتها.(24/58)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (كَلا لا وَزَرَ) يقول: لا حرز.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (كَلا لا وَزَرَ) يعني: لا حصن، ولا ملجأ.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا إبراهيم بن طريف، قال: سمعت مُطَرِّف بن الشِّخِّير يقرأ: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فلما أتى على: (كَلا لا وَزَرَ) قال: هو الجبل، إن الناس إذا فرّوا قالوا عليك بالوَزَر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مَهديّ، عن شعبة، عن أدهم، قال: سمعت مُطَرِّفا يقول: (كَلا لا وَزَرَ) قال: كلا لا جَبَل.
حدثنا نصر بن عليّ الجهضمي، قال: ثني أبي، عن خالد بن قيس، عن قتادة، عن الحسن، قال: (كَلا لا وَزَرَ) قال: لا جبل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (كَلا لا وَزَرَ) قال: كانت العرب تخيف بعضها بعضا، قال: كان الرجلان يكونان في ماشيتهما، فلا يشعران بشيء حتى تأتيهما الخيل، فيقول أحدهما لصاحبه، يا فلان الوَزَر الوَزَر، الجَبَل الجَبَل.
حدثني أبو حفص الحيريّ، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا أبو مودود، عن الحسن، في قوله: (كَلا لا وَزَرَ) قال: لا جبل.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي مودود، قال: سمعت الحسن فذكر نحوه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا وَزَرَ) لا ملجَأ ولا جبل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَلا لا وَزَرَ) لا جبل ولا حِرْز ولا منجى. قال الحسن: كانت العرب في الجاهلية إذا خشوا عدوّا قالوا: عليكم الوزر: أي عليكم الجبل.(24/59)
حدثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان عن سليمان التيمي، عن شبيب، عن أبي قلابة في قوله: (كَلا لا وَزَرَ) قال: لا حصن.
حدثنا أحمد بن هشام، قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا سفيان، عن سليمان التيمي، عن شبيب، عن أبي قلابة بمثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن شبيب، عن أبي قلابة مثله.
قال (1) ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا مسلم بن طهمان، عن قتادة، في قوله: (لا وَزَرَ) يقول: لا حصن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لا وَزَرَ) قال: لا جبل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن مولى للحسن، عن سعيد بن جُبير (لا وَزَرَ) : لا حصن.
قال ثنا وكيع، عن أبي حجير، عن الضحاك: لا حصن.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (كَلا لا وَزَرَ) يعني: الجبل بلغة حِمْير.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كَلا لا وَزَرَ) قال: لا مُتَغَيَّب يُتَغيب فيه من ذلك الأمر، لا منجَى له منه.
وقوله: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) يقول تعالى ذكره: إلى ربك أيها الإنسان يومئذ الاستقرار، وهو الذي يقرّ جميع خلقه مقرّهم.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) قال: استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وقرأ قول الله: (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) .
وقال آخرون: عني بذلك إلى ربك المنتهى.
__________
(1) استجاد أبو جعفر رضي الله عنه خير الرأي لحجته. والذي كتبه قبل، وما يأتي بعد، من أقوم ما قيل في شرح هذا الموضع الذي لجت فيه العقول والأقلام. وبيان ما قال أبو جعفر: إن قولك "اسم" في "بسم الله"، إنما هو اسم مصدر (أو اسم حدث) ، أي هو في الأصل اسم لما تفعل من تسميتك الشيء، مثل "الكلام" اسم حدث لما تفعل من التكليم، ومثل "العطاء" اسم حدث لما تفعل من الإعطاء، ومثل "الغسل"، اسم حدث لما تفعل من الاغتسال. وكأن أصله من قولك "سموت الشيء سموا"، فأماتوا فعله الثلاثي وبقي مصدره، "سمو"، فحذفوا واوه المتطرفة، فصار "سم" فأعاضوه منها ألفًا في أوله، فصار "اسم"، كما كان قولك: "كلام" من فعل ثلاثي هو "كلم كلامًا"، على مثال "ذهب ذهابًا"، فأماتوا الفعل الثلاثي وبقي مصدره "كلام"، فجعلوه اسم حدث لما تفعل من التكليم، ثم أخرجوا مصدر الرباعي على مخرج اسم هذا الحدث، فقالوا: "كلم يكلم كلامًا"، بمعنى "كلم يكلم تكليمًا".
فكذلك فعلوا في قولهم "سمى يسمى تسمية": أخرجوا لهذا الرباعي مصدرًا على مخرج اسم الحدث وهو "اسم"، فقالوا: "سمى يسمى اسمًا"؛ بمعنى "سمى يسمى تسمية". فقولك "كلام" بمعنى "تكليم" وقولك "اسم" بمعنى "تسمية" صُدِّرا على مخارج أسماء الأحداث. وإذن فالمضاف إلى اسمه تعالى في قولك "بسم الله" وأشباهها، إنما هو مصدر صدر على مخرج اسم الحدث، وهو اسم، من فعل رباعي هو "سمى يسمي"، فكان بمعنى مصدره وهو "تسمية". وهو في هذا المكان وأمثاله بمعنى المصدر "تسمية"، لا بمعنى اسم الحدث لما تفعل من التسمية. (انظر: 123- 124، كلام الطبري في "أله") .
وهذا الذي قاله أبو جعفر رضي الله عنه أبرع ما قيل في شرح هذا الحرف من كلام العرب. وقد أحسن النظر وأدقه، حتى خفي على جلة العلماء الذين تكلموا في شرح معنى "اسم" في "بسم الله" وأشباهها، فأغفلوه إغفالا لخفائه ووعورة مأتاه، وإلفهم للكلام في الذي افتتحوه من القول في "الاسم"، أهو المسمى أم غيره، أم هو صفة له، وما رسمه وما حده؟ وهذا باب غير الذي نحن فيه، فخلطوا فيه خلطًا، فجاء الطبري فمحص الحق تمحيصًا، وهو أرجح الآراء عندنا وأولاها بالتقديم، لمن وفق لفهمه، كما يقول أبو جعفر غفر الله له. وسيذكر بعد من الحجة ما يزيد المعنى وضوحًا وبيانًا. ولولا خوف الإطالة، لأتيت بالشواهد على ترجيح قول الطبري الذي أغفلوه، على كل رأي سبقه أو أتى بعده.(24/60)
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) : أي المنتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) } .
يقول تعالى ذكره: يُخْبَر الإنسان يومئذ، يعني يوم يُجْمَع الشمس والقمر فيكوّران بما قدّم وأخَّر.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) فقال بعضهم: معنى ذلك: بما قدّم من عمل خير، أو شرّ أمامه، مما عمله في الدنيا قبل مماته، وما أخَّر بعد مماته من سيئة وحسنة، أو سيئة يعمل بها من بعده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) يقول: ما عمل قبل موته، وما سَنّ فعُمِل به بعد موته.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد بن أبي مريم عن ابن مسعود قال: (بِمَا قَدَّمَ) من عمله (وأخَّرَ) من سنة عمل بها من بعده من خير أو شرّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يُنَبأُ الإنسان بما قدم من المعصية، وأخر من الطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) يقول: بما قدّم من المعصية، وأخَّر من الطاعة، فينبأ بذلك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ينبأ بأوّل عمله وآخره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور عن مجاهد (يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) قال: بأول عمله وآخره.(24/61)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم، مثله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: (بمَا قَدَّمَ) من طاعة (وأخَّرَ) من حقوق الله التي ضيَّعها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ) من طاعة الله (وأخَّرَ) مما ضيع من حقّ الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) قال: بما قَدّم من طاعته، وأخَّر من حقوق الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بما قدّم من خير أو شرّ مما عمله، وما أخَّر مما ترك عمله من طاعة الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) قال: ما أخر ما ترك من العمل لم يعمله، ما ترك من طاعة الله لم يعمل به، وما قدم: ما عمل من خير أو شرّ.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن ذلك خبر من الله أن الإنسان ينبأ بكلّ ما قدّم أمامه مما عمل من خير أو شرّ في حياته، وأخَّر بعده من سنة حسنة أو سيئة مما قدّم وأخَّر، كذلك ما قدّم من عمل عمله من خير أو شرّ، وأخَّر بعده من عمل كان عليه فضيَّعه، فلم يعمله مما قدّم وأخَّر، ولم يخصص الله من ذلك بعضا دون بعض، فكلّ ذلك مما ينبأ به الإنسان يوم القيامة.
وقوله: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) يقول تعالى ذكره: بل للإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه بعمله، ويشهدون عليه به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) يقول: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه،(24/62)
والبصيرة على هذا التأويل ما ذكره ابن عباس من جوارح ابن آدم وهي مرفوعة بقوله: (عَلَى نَفْسِهِ) ، والإنسان مرفوع بالعائد من ذكره في قوله: نفسه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بل الإنسان شاهد على نفسه وحده، ومن قال هذا القول جعل البصيرة خبرًا للإنسان، ورفع الإنسان بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) يقول: الإنسان شاهد على نفسه وحده.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) قال: شاهد عليها بعملها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) إذا شئت والله رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم، غافلا عن ذنوبه؛ قال: وكان يقال: إن في الإنجيل مكتوبا: يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك، ولا تبصر الجذع المعترض في عينك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) قال: هو شاهد على نفسه، وقرأ: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) ومن قال هذه المقالة يقول: أدخلت الهاء في قوله (بَصِيرَةٌ) وهي خبر للإنسان، كما يقال للرجل: أنت حجة على نفسك، وهذا قول بعض نحويِّي البصرة. وكان بعضهم يقول: أدخلت هذه الهاء في بصيرة وهي صفة للذكر، كما أدخلت في راوية وعلامة.
وقوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) اختلف أهل الرواية في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: بل للإنسان على نفسه شهود من نفسه، ولو اعتذر بالقول مما قد أتى من المآثم، وركب من المعاصي، وجادل بالباطل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) يعني الاعتذار، ألم تسمع أنه قال:(24/63)
(لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) وقال الله: (وألقوا إلى الله يومئذ السَّلَم) ، (كنا نعمل من سوء) (1) . وقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبير، في قولة: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) قال: شاهد على نفسه ولو اعتذر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) ولو جادل عنها، فهو بصيرة عليها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن عمران بن حدير، قال: سألت عكرِمة، عن قوله: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) قال: فسكت، فقلت له: إن الحسن يقول: ابن آدم عملك أولى بك، قال: صدق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) قال: معاذيرهم التي يعتذرون بها يوم القيامة فلا ينتفعون بها، قال: (يوم لا يؤذن لهم فيعتذرون) ويوم يؤذن لهم فيعتذرون فلا تنفعهم ويعتذرون بالكذب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بل للإنسان على نفسه من نفسه بصيرة ولو تجرّد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني نصر بن عليّ الجهضمي، قال: ثني أبي، عن خالد بن قيس، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن ابن عباس، في قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) قال: لو تجرّد.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا رَوّاد، عن أبي حمزة، عن السديّ في قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) ولو أرخى الستور، وأغلق الأبواب.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) لم تقبل.
__________
(1) ديوانه، القصيدة رقم: 21، والخزانة 2: 217، ثم يأتي في تفسير آية سورة التوبة: 90 (10: 144 بولاق) ، وآية سورة الرعد: 35 (13: 109) والشعر يقوله لابنتيه، إذ قال: تَمَنَّى ابنتَايَ أن يعيشَ أبُوهما ... وهَلْ أنا إلاَّ من ربيعة أو مُضَرْ!
ثم أمرهما بأمره فقال قبل بيت الشاهد: فقُومَا فقولاَ بالذي قد علمتُما ... ولا تَخْمِشا وجْهًا ولا تَحْلِقا شَعَرْ
وقولاَ: هو المرءُ الّذي لا خليلَه ... أَضاعَ، ولا خانَ الصديقَ، ولا غَدَرْ
فقوله "إلى الحول. . " أي افعلا ذلك إلى أن يحول الحول. والحول: السنة كاملة بأسرها. وقوله "اعتذر" هنا بمعنى أعذر: أي بلغ أقصى الغاية في العذر.(24/64)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثني أبي، عن خالد بن قيس، عن قتادة، عن الحسن: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) لم تُقبل معاذيره.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) قال: ولو اعتذر.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معناه: ولو اعتذر لأن ذلك أشبه المعاني بظاهر التنزيل، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر عن الإنسان أن عليه شاهدًا من نفسه بقوله: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) فكان الذي هو أولى أن يتبع ذلك، ولو جادل عنها بالباطل، واعتذر بغير الحقّ، فشهادة نفسه عليه به أحقّ وأولى من اعتذاره بالباطل.
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تحرّك يا محمد بالقرآن لسانك لتعجل به.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل له: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) فقال بعضهم: قيل له ذلك، لأنه كان إذا نزل عليه منه شيء عجل به، يريد حفظه من حبه إياه، فقيل له: لا تعجل به فإنَّا سَنحفظُه عليك.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن حُبير، عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن تعجَّل يريد حفظه، فقال الله تعالى ذكره: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) وقال ابن عباس: هكذا وحرّك شفتيه.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهبَّاريّ ويونس قالا ثنا سفيان، عن عمرو، عن سعيد بن جُبير، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن تعجَّل به يريد حفظه؛(24/65)
وقال يونس: يحرِّك شفتيه ليحفظه، فأنزل الله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهبَّاريّ، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي عائشة، سمع سعيد بن جُبير، عن ابن عباس مثله، وقال (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) قال: هكذا، وحرَّك سفيان فاه.
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا جرير، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قوله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، كان يحرّك به لسانه وشفتيه، فيشتدّ عليه، فكان يعرف ذلك فيه، فأنزل الله هذه الآية في "لا أقسم بيوم القيامة" (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن، حرّك شفتيه، فيعرف بذلك، فحاكاه سعيد، فقال: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: لتعجل بأخذه.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، قال: سمعت سعيد بن جُبير يقول: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) . قال: كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن، فيحرِّك به لسانه، يستعجل به، فقال: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ربعي بن علية، قال: ثنا داود بن أبى هند، عن الشعبيّ في هذه الآية: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: كان إذا نزل عليه الوحي عَجِل يتكلم به من حبه إياه، فنزل: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: لا تكلم بالذي أوحينا إليك حتى يقضى إليك وحيه، فإذا قضينا إليك وحيه، فتكلم به.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت(24/66)
الضحاك يقول في قوله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) قال: كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي من القرآن حرّك به لسانه مخافة أن ينساه.
وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله قيل له ذلك، أنه كان يُكثر تلاوة القرآن مخافة نسيانه، فقيل له: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) إن علينا أن نجمعه لك، ونقرئكه فلا تنسى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه، فقال الله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) إن علينا أن نجمعه لك، (وقرآنه) : أن نقرئك فلا تنسى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) قال: كان يستذكر القرآن مخافة النسيان، فقال له: كفيناكه يا محمد.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَيَّه، قال: ثنا أبو رجاء، عن الحسن، في قوله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّك به لسانه ليستذكره، فقال الله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) إنا سنحفظه عليك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يحرّك به لسانه مخافة النسيان، فأنزل الله ما تسمع.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن فيكثر مخافة أن ينسى.
وأشبه القولين بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، القول الذي ذُكر عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، وذلك أن قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ينبئ أنه إنما نهى عن تحريك اللسان به متعجلا فيه قبل جمعه، ومعلوم أن دراسته للتذكر إنما كانت تكون من النبيّ صلى الله عليه وسلم من بعد جمع الله له ما يدرس من ذلك.(24/67)
وقوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) يقول تعالى ذكره: إن علينا جمع هذا القرآن في صدرك يا محمد حتى نثبته فيه (وُقرآنَهُ) يقول: وقرآنه حتى تقرأه بعد أن جمعناه في صدرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) قال: في صدرك (وَقُرآنَهُ) قال: تقرؤه بعد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) أن نجمعه لك، (وَقُرآنَهُ) : أن نُقرئك فلا تنسى.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) يقول: إن علينا أن نجمعه لك حتى نثبته في قلبك.
وكان آخرون يتأوّلون قوله: (وَقُرآنَهُ) وتأليفه. وكان معنى الكلام عندهم: إن علينا جمعه في قلبك حتى تحفظه، وتأليفه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) يقول حفظه وتأليفه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال: حفظه وتأليفه. وكان قتادة وجَّه معنى القرآن إلى أنه مصدر من قول القائل: قد قَرَأَتْ هذه الناقةُ في بطنها جَنينا، إذا ضمت رحمها على ولد، كما قال عمرو بن كلثوم:
ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدْمَاءَ بِكْرٍ ... هِجانِ اللَّوْنِ لمْ تَقرأ جَنِينا (1)
__________
(1) هذا المقدم في العلم بلغة العرب، هو أبو عبيدة معمر بن المثنى، في كتابه مجاز القرآن: 16. وقد وقع بين ماضغى أسد! وهذا الذي يأتي كله تقريع مرير من أبي جعفر لأبي عبيدة.(24/68)
يعني بقوله: (لَمْ تَقرأ) لم تضمّ رحما على ولد. وأما ابن عباس والضحاك فإنما وجها ذلك إلى أنه مصدر من قول القائل: قرأت أقرأ قرآنا وقراءة.
وقوله: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) اختلف أهل التأويل في تأويله. فقال بعضهم: تأويله: فإذا أنزلناه إليك فاستمع قرآنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور وابن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) : فإذا أنزلناه إليك (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قال: فاستمع قرآنه.
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا جرير، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) : فإذا أنزلناه إليك فاستمع له.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا تُلي عليك فاتبع ما فيه من الشرائع والأحكام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) يقول: إذا تلي عليك فاتبع ما فيه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) يقول: اتبع حلالَه، واجتنب حرامه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) يقول: فاتبع حلاله، واجتنب حرامه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) يقول: اتبع ما فيه.
وقال آخرون: بل معناه: فإذا بيَّناه فاعمل به.(24/69)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) يقول: اعمل به.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: فإذا تُلي عليك فاعمل به من الأمر والنهي، واتبع ما أُمرت به فيه، لأنه قيل له: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) في صدرك (وقُرآنَهُ) ودللنا على أن معنى قوله: (وقُرآنَهُ) : وقراءته، فقد بين ذلك عن معنى قوله: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) يقول تعالى ذكره: ثم إن علينا بيان ما فيه من حلاله وحرامه، وأحكامه لك مفصلة.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) يقول: حلاله وحرامه، فذلك بيانه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) بيان حلاله، واجتناب حرامه، ومعصيته وطاعته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم إن علينا تبيانه بلسانك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) قال: تبيانه بلسانك.(24/70)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) } .
يقول تعالى ذكره لعباده المخاطبين بهذا القرآن المؤثرين زينة الحياة الدنيا على الآخرة: ليس الأمر كما تقولون أيها الناس من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم، ولا تجازون بأعمالكم، لكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم الدنيا العاجلة، وإيثاركم شهواتها على آجل الآخرة(24/70)
ونعيمها، فأنتم تومنون بالعاجلة، وتكذّبون بالآجلة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ) اختار أكثر الناس العاجلة، إلا من رحم الله وعصم.
وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) يقول تعالى ذكره: وجوه يومئذ، يعني يوم القيامة ناضرة: يقول حسنة جميلة من النعيم؛ يقال من ذلك: نَضُر وجه فلان: إذا حَسُن من النعمة، ونضَّرَ الله وجهه: إذا حسَّنه كذلك.
واختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم بالذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسماعيل البخاري، قال: ثنا آدم، قال: ثنا المبارك، عن الحسن (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: حسنة.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور عن مجاهد (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: نُضرة الوجوه: حُسنها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: الناضرة: الناعمة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: الوجوه الحسنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: من السرور والنعيم والغبطة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنها مسرورة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد، في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: مسرورة (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: أنها تنظر إلى ربها.(24/71)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن منصور الطوسي، وإبراهيم بن سعيد الجوهري قالا ثنا عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحويّ، عن عكرِمة قال: (تنظر إلى ربها نظرا) .
حدثتا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: أخبرني الحسين بن واقد في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) من النعيم (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: أخبرني يزيد النحوي، عن عكرِمة وإسماعيل بن أبي خالد، وأشياخ من أهل الكوفة، قال: تنظر إلى ربها نظرا.
حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، قال: ثنا آدم قال: ثنا المبارك عن الحسن، في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: حسنة (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنظر إلى الخالق، وحُقَّ لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي، في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره محيط بهم، فذلك قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ) .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها تنتظر الثواب من ربها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عمر بن عبيد، عن منصور، عن مجاهد (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنتظر منه الثواب.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنتظر الثواب من ربها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنتظر الثواب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور عن مجاهد (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنتظر الثواب من ربها، لا يراه من خلقه شيء.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن(24/72)
الأعمش، عن مجاهد (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: نضرة من النعيم (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنتظر رزقه وفضله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان أناس يقولون في حديث: "فيرون ربهم" فقلت لمجاهد: إن ناسا يقولون إنه يرى، قال: يَرى ولا يراه شيء.
قال ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنتظر من ربها ما أمر لها.
حدثني أبو الخطاب الحساني، قال: ثنا مالك، عن سفيان، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنتظر الثواب.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا الأشجعي، عن سفيان، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى مُلكِه وسرره وخدمه مسيرة ألف سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وإن أرفع أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى وجه الله بُكرة وعشية".
قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا أشجع، عن أبي الصهباء الموصلي، قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة، من يرى سرره وخدمه ومُلكهُ في مسيرة ألف سنة، فيرى أقصاه كما يرى أدناه، وإن أفضلهم منزلة، من ينظر إلى وجه الله غدوة وعشية".
وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الحسن وعكرِمة، من أن معنى ذلك تنظر إلى خالقها، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حدثني عليّ بن الحسين بن أبجر، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: ثنا إسرائيل بن يونس، عن ثوير، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أدْنى أهْلِ الجَنَّةِ مَنزلَةً، لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ ألْفَيْ سَنَةٍ، قال: وإنَّ أفضَلَهُمْ مَنزلَةً لَمَن يَنْظُرُ فِي وَجْهِ اللهِ كُلَّ يَوْم مَرَّتَينِ ; قال: ثم تلا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: بالبياض والصفاء، قال: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: تنظر كلّ يوم في وجه الله عزّ وجلّ".
وقوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ) يقول تعالى ذكره: ووجوه يومئذ متغيرة(24/73)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
الألوان، مسودة كالحة، يقال: بسرت وجهه أبسره بسًرا: إذا فعلت ذلك، وبسر وجهه فهو باسر بيِّن البسور.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (باسِرَةٌ) قال: كاشرة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ) أي: كالحة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (باسِرَةٌ) قال: عابسة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (باسِرَةٌ) قال: عابسة.
وقوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) يقول تعالى ذكره: تعلم أنه يفعل بها داهية، والفاقرة: الداهية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) قال: داهية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) أي: شرّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) قال: تظن أنها ستدخل النار، قال: تلك الفاقرة، وأصل الفاقرة: الوسم الذي يُفْقَر به على الأنف.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ(24/74)
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) } .
يقول تعالى ذكره: ليس الأمر كما يظنّ هؤلاء المشركون من أنهم لا يعاقبون على شركهم ومعصيتهم ربهم بل إذا بلغت نفس أحدهم التراقي عند مماته وحشرج بها.
وقال ابن زيد في قول الله: (كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ) قال: التراقي: نفسه.
حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) يقول تعالى ذكره: وقال أهله: من ذا يرقيه ليشفيه مما قد نزل به، وطلبوا له الأطباء والمداوين، فلم يغنوا عنه من أمر الله الذي قد نزل به شيئا.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (مَنْ رَاقٍ) فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب وأبو هشام، قالا ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرِمة (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) قال: هل من راق يرقي.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو هشام، قالا ثنا وكيع، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن شبيب، عن أبي قِلابة (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) قال: هل من طبيب شاف.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن شبيب، عن أبي قلابة، مثله.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن أبي بسطام، عن الضحاك بن مزاحم في قول الله تعالى ذكره: (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) قال: هو الطبيب.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن جويبر، عن الضحاك في (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) قال: هل من مداوٍ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) أي: التمسوا له الأطباء فلم يُغْنوا عنه من قضاء الله شيئا.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن يزيد في قوله: (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) قال: أين الأطباء، والرُّقاة: من يرقيه من الموت.(24/75)
وقال آخرون: بل هذا من قول الملائكة بعضهم لبعض، يقول بعضهم لبعض: من يَرقى بنفسه فيصعد بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس (كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) قال: إذا بلغت نفسه يرقى بها، قالت الملائكة: من يصعد بها، ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب؟
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، في قوله: (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) قال: بلغني عن أبي قلابة قال: هل من طبيب؟ قال: وبلغني عن أبي الجوزاء أنه قال: قالت الملائكة بعضهم لبعض: من يرقَى: ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب؟
وقوله: (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) يقول تعالى ذكره: وأيقن الذي قد نزل ذلك به أنه فراق الدنيا والأهل والمال والولد.
وبنحو الذي قلنا في ذاك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) أي: استيقن أنه الفراق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) قال: ليس أحد من خلق الله يدفع الموت، ولا ينكره، ولكن لا يدري يموت من ذلك المرض أو من غيره؟ فالظنّ كما هاهنا هذا.
وقوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: والتفَّت شدّة أمر الدنيا بشدّة أمر الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبى، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: الدنيا بالآخرة شدّة
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) يقول: آخر يوم من الدنيا، وأوّل يوم من الآخرة، فتلتقي الشدّة بالشدة، إلا من رحم الله.(24/76)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) يقول: والتفَّت الدنيا بالآخرة، وذلك ساق الدنيا والآخرة، ألم تسمع أنه يقول: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: التفّ أمر الدنيا بأمر الآخرة عند الموت.
حدثنا أبو كُريب وأبو هشام، قالا ثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، قال: آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: قال الحسن: ساق الدنيا بالآخرة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن مجاهد، قال: هو أمر الدنيا والآخرة عند الموت.
حدثني عليّ بن الحسين، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أبي سنان الشيباني، عن ثابت، عن الضحاك في قوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: أهل الدنيا يجهزون الجسد، وأهل الآخرة يجهزون الروح.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي سنان، عن الضحاك، مثله
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الضحاك، قال: اجتمع عليه أمران، الناس يجهِّزون جسده، والملائكة يجهزون روحه.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: ساق الدنيا بساق الآخرة.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا جعفر بن عون، عن أبي جعفر، عن الربيع مثله، وزاد: ويقال: التفافهما عند الموت.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن يمان، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: الدنيا والآخرة.
قال: ثنا ابن يمان، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، قال: أمر الدنيا بأمر الآخرة.(24/77)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: أمر الدنيا بأمر الآخرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: الشدّة بالشدّة، ساق الدنيا بساق الآخرة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سألت إسماعيل بن أبي خالد، فقال: عمل الدنيا بعمل الآخرة.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سلمة، عن الضحاك، قال: هما الدنيا والآخرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: العلماء يقولون فيه قولين: منهم من يقول: ساق الآخرة بساق الدنيا. وقال آخرون: قلّ ميت يموت إلا التفَّت إحدى ساقيه بالأخرى. قال ابن زيد: غير أنَّا لا نشكّ أنها ساق الآخرة، وقرأ: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) قال: لما التفَّت الآخرة بالدنيا، كان المساق إلى الله، قال: وهو أكثر قول من يقول ذلك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: التفَّت ساقا الميت إذا لفتا في الكفن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا بشير بن المهاجر، عن الحسن، في قوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: لفُّهما في الكفن.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا وكيع وابن اليمان، عن بشير بن المهاجر، عن الحسن، قال: هما ساقاك إذا لفَّتا في. الكفن.
حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا وكيع عن بشير بن المهاجر، عن الحسن، مثله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: التفاف ساقي الميت عند الموت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا حميد بن مسعدة، قال ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عامر (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: ساقا الميت.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب وعبد الأعلى، قالا ثنا داود، عن عامر قال: التفَّت ساقاه عند الموت.(24/78)
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني ابن أبى عديّ، عن داود، عن الشعبيّ مثله.
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد، عن داود، عن عامر، بنحوه.
حدثنا أبو كُريب وأبو هشام قالا ثنا وكيع، عن سفيان، عن حصين عن أبي مالك (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: عند الموت.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السديّ، عن أبي مالك، قال: التفَّت ساقاك عند الموت.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) لفَّهما أمر الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر قال: قال الحسن: ساقا ابن آدم عند الموت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل السديّ، عن أبي مالك (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: هما ساقاه إذا ضمت إحداهما بالأخرى.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال قتادة: أما رأيته إذا ضرب برجله رجله الأخرى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) ماتت رجلاه فلا يحملانه إلى شيء، فقد كان عليهما جوّالا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: ساقاه عند الموت.
وقال آخرون: عُنِيَ بذلك يبسهما عند الموت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: يبسهما عند الموت.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السديّ، مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: والتفّ أمر بأمر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب وأبو هشام قالا ثنا وكيع، قال: ثنا ابن أبي خالد، عن(24/79)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
أبي عيسى (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال: الأمر بالأمر.
وقال آخرون: بل عني بذلك: والتفّ بلاء ببلاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، قال: بلاء ببلاء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندي قول من قال: معنى ذلك: والتفَّت ساق الدنيا بساق الآخرة، وذلك شدّة كرب الموت بشدة هول المطلع، والذي يدل على أن ذلك تأويله، قوله: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) والعرب تقول لكلّ أمر اشتدّ: قد شمر عن ساقه، وكشف عن ساقه، ومنه قول الشاعر:
إذَا شَمَّرَتْ لَكَ عَنْ ساقها ... فَرِنها رَبِيعُ وَلا تَسأَم (1)
عني بقوله: (الْتَفَّتِ السَّاقُ بالسَّاقِ) التصقت إحدى الشِّدّتين بالأخرى، كما يقال للمرأة إذا التصقت إحدى فخذيها بالأخرى: لفَّاء.
وقوله: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) يقول: إلى ربك يا محمد يوم التفاف الساق بالساق مساقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) } .
يقول تعالى ذكره: فلم يصدّق بكتاب الله، ولم يصلّ له صلاة، ولكنه كذّب بكتاب الله، وتولى فأدبر عن طاعة الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) في المطبوعة: "إذا وأخر". وقوله "فرفع الاسم"، يعني ما في قول لبيد "ثم اسم"، وكان حقه أن ينصب على الإغراء لو قال: "ثم عليكما اسم السلام" بتقديم الإغراء.(24/80)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) لا صدّق بكتاب الله، ولا صلى لله (وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) كذّب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله.
وقوله: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) يقول تعالى ذكره: ثم مضى إلى أهله منصرفا إليهم، يتبختر في مِشيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي: يتبختر.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن ميسرة بن عبيد، عن زيد بن أسلم، في قوله: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) قال: يتبختر، قال: هي مشية بني مخزوم.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن إسماعيل بن أمية عن مجاهد (ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) قال: رأى رجلا من قريش يمشي، فقال: هكذا كان يمشي كما يمشي هذا، كان يتبختر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (يَتَمَطَّى) قال: يتبختر وهو أبو جهل بن هشام، كانت مِشيته.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في أبي جهل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَتَمَطَّى) قال: أبو جهل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) قال: هذا في أبي جهل متبخرا.(24/81)
وإنما عُني بقوله: (يَتَمَطَّى) يلوي مطاه تبخترا، والمطا: هو الظهر، ومنه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذَا مَشَتْ أُمَّتِي المُطَيطَاءَ " وذلك أن يلقي الرجل بيديه ويتكفأ.
وقوله (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) هذا وعيد من الله على وعيد لأبي جهل.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) وعيد على وعيد، كما تسمعون، زعم أن هذا أنزل في عدوّ الله أبي جهل. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ بمجامع ثيابه فقال: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) فقال عدوّ الله أبو جهل: أيوعدني محمد؟ والله ما تستطيع لي أنت ولا ربك شيئا، والله لأنا أعزّ من مشى بين جبليها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده، يعني بيد أبي جهل، فقال: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) فقال: يا محمد، ما تستطيع أنت وربك فيّ شيئا، إني لأعزّ من مشى بين جبليها، فلما كان يوم بدر أشرف عليهم فقال: لا يُعبد الله بعد هذا اليوم، وضرب الله عنقه، وقتله شرّ قِتلة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) قال: قال أبو جهل: إن محمدا ليوعدني، وأنا أعزّ أهل مكة والبطحاء، وقرأ: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، قال: قلت لسعيد بن جُبير: أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَل نفسه، أم أمر أمره الله به؟ قال: بل قاله من قِبَل نفسه، ثم أنزل الله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) .
وقوله: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) يقول تعالى ذكره: أيظنّ هذا الإنسان الكافر بالله أن يترك هملا أن لا يؤمر ولا ينهى، ولا يتعبد بعبادة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/82)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) يقول: هملا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) قال: لا يُؤمر، ولا يُنْهى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) قال السديّ: الذي لا يفترض عليه عمل ولا يعمل.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) } .
يقول تعالى ذكره: ألم يك هذا المنكر قدرة الله على إحيائه من بعد مماته، وإيجاده من بعد فنائه (نُطْفَةً) يعني: ماء قليلا في صلب الرجل من منيّ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (يُمْنَى) فقرأه عامة قرّاء المدينة والكوفة: (تُمْنَى) بالتاء بمعنى: تمنى النطفة، وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة والبصرة: (يُمْنَى) بالياء، بمعنى: يمنى المنيّ.
والصواب من القول أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً) يقول تعالى ذكره: ثم كان دما من بعد ما كان نطفة، ثم علقة، ثم سوّاه بشرًا سويا، ناطقا سميعا بصيرا (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى) يقول تعالى ذكره: فجعل من هذا الإنسان بعدما سوّاه خلقا سويا أولادًا له، ذكورا وإناثا (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) يقول تعالى ذكره: أليس الذي فعل ذلك فخلق هذا الإنسان من نطفة، ثم علقة حتى صيره إنسانا سويا، له أولاد ذكور وإناث، بقادر على أن يُحيي الموتى من مماتهم، فيوجدهم كما كانوا من قبل مماتهم.(24/83)
يقول: معلوم أن الذي قَدِر على خَلق الإنسان من نطفة من منيّ يمنى، حتى صيره بشرا سويًا، لا يُعجزه إحياء ميت من بعد مماته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ذلك قال: بلى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحانك وبلَى.
آخر تفسير سورة القيامة.(24/84)
تفسير سورة هل أتى على الإنسان(24/85)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ) قد أتى على الإنسان، وهل في هذا الموضع خبر لا جحد، وذلك كقول القائل لآخر يقرّره: هل أكرمتك؟ وقد أكرمه؛ أو هل زرتك؟ وقد زاره، وقد تكون جحدا في غير هذا الموضع، وذلك كقول القائل لآخر: هل يفعل مثل هذا أحد؟ بمعنى: أنه لا يفعل ذلك أحد. والإنسان الذي قال جل ثناؤه في هذا الموضع: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) : هو آدم صلى الله عليه وسلم كذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ) آدم أتى عليه (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) إنما خلق الإنسان ها هنا حديثا، ما يعلم من خليقة الله كانت بعد الإنسان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) قال: كان آدم صلى الله عليه وسلم آخر ما خلق من الخلق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) قال: آدم.
وقوله: (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) اختلف أهل التأويل في قدر هذا الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو أربعون سنة، وقالوا: مكثت طينة آدم مصوّرة لا تنفخ(24/87)
فيها الرّوح أربعين عامًا، فذلك قدر الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع، قالوا: ولذلك قيل: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) لأنه أتى عليه وهو جسم مصوّر لم تنفخ فيه الروح أربعون عاما، فكان شيئا، غير أنه لم يكن شيئا مذكورا، قالوا: ومعنى قوله: (لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) لم يكن شيئا له نباهة ولا رفعة، ولا شرف، إنما كان طينا لازبًا وحمأ مسنونا.
وقال آخرون: لا حدّ للحين في هذا الموضع؛ وقد يدخل هذا القول من أن الله أخبر أنه أتى على الإنسان حين من الدهر، وغير مفهوم في الكلام أن يقال: أتى على الإنسان حين قبل أن يوجد، وقبل أن يكون شيئا، وإذا أُريد ذلك قيل: أتى حين قبل أن يُخلق، ولم يقل أتى عليه. وأما الدهر في هذا الموضع، فلا حدّ له يوقف عليه.
وقوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) يقول تعالى ذكره: إنا خلقنا ذرّية آدم من نطفة، يعني: من ماء الرجل وماء المرأة، والنطفة: كلّ ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة، أو غير لك، كما قال عبد الله بن رواحة:
هَلْ أنْتِ إلا نُطْفَةٌ في شَنَّه (1)
وقوله: (أمْشاجٍ) يعني: أخلاط، واحدها: مشج ومشيج، مثل خدن وخدين؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج:
يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاج ... لَمْ يُكْسَ جِلْدًا في دَمٍ أمْشاجِ (2)
__________
(1) هذا رجز في خبر طويل، الخزانة 3: 17 قيل هزءًا برجل ألقوه في بئر ثم رجزوا به. والمائح: هو الرجل الذي ينزل إلى قرار البئر إذا قل ماؤها، فيلقي الدلاء فيملؤها بيده ويميح لأصحابه.
(2) الأول بغير شك أولى الأقوال بالصواب. فإنه كان قد أمر ابنتيه - كما قدمنا في أبياته السالفة، أن تقوما لتنوحا عليه بما أمرهما من ندبه وتأبينه ورثائه، وأن تفعلا ذلك منذ يموت إلى أن يحول عليه الحول، فلا معنى بعد أن يلقي السلام عليهما، أي تحية المفارق، بعد الحول، فقد فارقهما منذ حول كامل. وأولى به أن يدعو لهما، أو يستكفهما عما أمرهما به، إذ قضتا ما أمرهما على الوجه الذي أحب، "ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر"، كأنه قال: كفا عندئذ عما أمرتكما، فإن من بكى حولا فقد بلغ أقصى ما يسعه العذر. فسياق الشعر يقطع بترجيح ما ذهب إليه الطبري عامة، وإلى الجزم بأن معنى "ثم اسم السلام عليكما" هو: الزما ذكر الله، ودعا ذكرى، والبكاء علي، والوجد بي.(24/88)
يقال منه: مشجت هذا بهذا: إذا خلطته به، وهو ممشوج به ومشيج: أي مخلوط به، كما قال أبو ذؤيب:
كأنَّ الرّيشَ والفُوقَيْن مِنْه ... خِلالَ النَّصْل سِيطَ بِهِ مَشِيجُ (1)
واختلف أهل التأويل في معنى الأمشاج الذي عني بها في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب وأبو هشام الرفاعي قالا ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن عكرِمة (أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) قال: ماء الرجل وماء المرأة يمشج أحدهما بالآخر.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن عكرِمة قال: ماء الرجل وماء المرأة يختلطان.
قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا زكريا، عن عطية، عن ابن عباس، قال: ماء المرأة وماء الرجل يمشجان.
قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن السديّ، عمن حدّثه، عن ابن عباس، قال: ماء المرأة وماء الرجل يختلطان.
قال: ثنا عبد الله، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فهو أمشاج.
قال: ثنا أبو أُسامة، قال: ثنا المبارك، عن الحسن، قال: مُشج ماء المرأة مع ماء الرجل.
__________
(1) الحديث 140- هذا حديث موضوع، لا أصل له. وهو أطول من هذا، وسيأتي بعضه برقمي 145، 147، فصل الطبري كل قسم منه في موضعه، وفيه زيادة أخرى، في تفسير كلمات "أبجد هوز". إلخ. رواه بطوله ابن حبان الحافظ، في كتاب المجروحين، في ترجمة إسماعيل بن يحيى بن عبد الله التيمي، رقم: 44 ص85، وقال في إسماعيل هذا: "كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات، وما لا أصل له عن الأثبات، لا تحل الرواية عنه، ولا الاحتجاج به بحال". ثم ضرب مثلا من أكاذيبه، فروى الحديث بطوله، عن محمد بن يحيى بن رزين العطار عن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك، بالإسناد الثاني الذي هنا، من حديث أبي سعيد الخدري. وذكره ابن كثير في التفسير 1: 35 نقلا عن ابن مردويه، من حديث أبي سعيد وحده، جمع فيه الأقسام الثلاثة التي فرقت هنا. ثم أشار إلى رواية الطبري إياه. ثم قال: "وهذا غريب جدا، وقد يكون صحيحًا إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات"! وما أدري كيف فات الحافظ ابن كثير أن في إسناده هذا الكذاب، فتسقط روايته بمرة، ولا يحتاج إلى هذا التردد. وأما السيوطي، فقد ذكره في الدر المنثور 1: 8، ونسبه لابن جرير وابن عدي في الكامل وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق والثعلبي، ولم يغفل عن علته؛ فذكر أنه "بسند ضعيف جدا". وترجم الذهبي في الميزان 1: 117، وتبعه ابن حجر في لسان الميزان 1: 441- 442 لإسماعيل بن يحيى هذا، وفي ترجمته: "قال صالح بن محمد جزرة: كان يضع الحديث. وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب، لا تحل الرواية عنه. . . وقال أبو علي النيسابوري الحافظ والدارقطني والحاكم: كذاب". وقال ابن حجر: "مجمع على تركه". وذكر هو والذهبي هذا الحديث مثالا من أكاذيبه.
ثم إن إسناده الأول، الذي رواه إسماعيل بن يحيى عن أبي مليكة، فيه أيضًا راو مجهول، وهو "من حدثه عن ابن مسعود". وإسناده الثاني، الذي رواه إسماعيل هذا عن مسعر بن كدام، فيه أيضًا "عطية بن سعد بن جنادة العوفي"، وهو ضعيف، ضعفه أحمد وأبو حاتم وغيرهما.
والزيادة بين قوسين، في لقب إبراهيم بن العلاء من المخطوطة. و "زبريق": بكسر الزاي والراء بينهما ياء موحدة ساكنة. وهو لقب إبراهيم، فيما قيل. والصحيح أنه لقب أبيه، فقد قال البخاري في ترجمته في الكبير 1 / 1 / 307: "زعم إبراهيم أن أباه كان يدعى زبريق". وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 121: "إبراهيم بن العلاء. . . يعرف بابن الزبريق".(24/89)
قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة، وقد قال الله: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) .
قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، قال: خلق من تارات ماء الرجل وماء المرأة.
وقال آخرون: إنما عُني بذلك: إنا خلقنا الإنسان من نطفة ألوان ينتقل إليها، يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم كسي لحما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) الأمشاج: خلق من ألوان، خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي النطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم أنشأه خلقا آخر فهو ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرِمة، في هذه الآية (أمْشاجٍ) قال: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما.
حدثنا الرفاعي، قال: ثنا وهب بن جرير ويعقوب الحضْرَميّ، عن شعبة، عن سماك، عن عكرِمة، قال: نطفة، ثم علقة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) أطوار الخلق، طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا مضغة، وطورا عظاما، ثم كسى الله العظام لحما، ثم أنشأه خلقا آخر، أنبت له الشعر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) قال: الأم2شاج: اختلط الماء والدم، ثم كان علقة، ثم كان مضغة.
وقال آخرون: عُني بذلك اختلاف ألوان النطفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) يقول: مختلفة الألوان.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: ألوان النطفة.(24/90)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أيّ الماءين سبق أشبه عليه أعمامه وأخواله.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) قال: ألوان النطفة؛ نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة حمراء وخضراء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: بل هي العروق التي تكون في النطفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب وأبو هشام، قالا ثنا وكيع، قال: ثنا المسعودي، عن عبد الله بن المخارق، عن أبيه، عن عبد الله، قال: أمشاجها: عروقها.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا أُسامة بن زيد، عن أبيه، قال: هي العروق التي تكون في النطفة.
وأشبه هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) نطفة الرجل ونطفة المرأة، لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج، وهي إذا انتقلت فصارت علقة، فقد استحالت عن معنى النطفة فكيف تكون نطفة أمشاجا وهي علقة؟ وأما الذين قالوا: إن نطفة الرجل بيضاء وحمراء، فإن المعروف من نطفة الرجل أنها سحراء على لون واحد، وهي بيضاء تضرب إلى الحمرة، وإذا كانت لونا واحدا لم تكن ألوانا مختلفة، وأحسب أن الذين قالوا: هي العروق التي في النطفة قصدوا هذا المعنى.
وقد حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: إنما خلق الإنسان من الشيء القليل من النطفة. ألا ترى أن الولد إذا أسكت ترى له مثل الرّير؟ وإنما خلق ابن آدم من مثل ذلك من النطفة أمشاج نبتليه.
وقوله: (نَبْتَلِيهِ) نختبره. وكان بعض أهل العربية يقول: المعنى: جعلناه سميعًا بصيرا لنبتليه، فهي مقدّمة معناها التأخير، إنما المعنى خلقناه وجعلناه سميعًا بصيرا لنبتليه، ولا وجه عندي لما قال يصحّ، وذلك أن الابتلاء إنما هو بصحة الآلات وسلامة العقل من الآفات، وإن عدم السمع والبصر، وأما إخباره إيانا أنه جعل لنا أسماعا وأبصارا(24/91)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
في هذه الآية، فتذكير منه لنا بنعمه، وتنبيه على موضع الشكر؛ فأما الابتلاء فبالخلق مع صحة الفطرة، وسلامة العقل من الآفة، كما قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) .
وقوله: (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) يقول تعالى ذكره: فجعلناه ذا سمع يسمع به، وذا بصر يبصر به، إنعاما من الله على عباده بذلك، ورأفة منه لهم، وحجة له عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا (4) } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) إنا بينا له طريق الجنة، وعرّفناه سبيله، إن شكر، أو كفر. وإذا وُجِّه الكلام إلى هذا المعنى، كانت إما وإما في معنى الجزاء، وقد يجوز أن تكون إما وإما بمعنى واحد، كما قال: (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فيكون قوله: (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) حالا من الهاء التي في هديناه، فيكون معنى الكلام إذا وُجه ذلك إلى هذا التأويل: إنا هديناه السبيل، إما شقيا وإما سعيدا، وكان بعض نحويِّي البصرة يقول ذلك كما قال: (إما العذاب وإما الساعة) كأنك لم تذكر إما، قال: وإن شئت ابتدأت ما بعدها فرفعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) قال: الشقوة والسَّعادة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا) للنعم (وَإِمَّا كَفُورًا) لها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ... ) إلى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) قال: ننظر أيّ شيء يصنع، أيّ الطريقين يسلك، وأيّ الأمرين يأخذ، قال: وهذا الاختبار.(24/92)
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
وقوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ) يقول تعالى ذكره: إنا أعتدنا لمن كفر نعمتنا وخالف أمرنا سلاسل يُسْتَوْثَق بها منهم شدّا في الجحيم (وأغْلالا) يقول: وتشدّ بالأغلال فيها أيديهم إلى أعناقهم.
وقوله: (وَسَعِيرًا) يقول: ونارا تُسْعر عليهم فتتوقد.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) } .(24/93)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
القول في تأويل قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) } .
يقول تعالى ذكره: إن الذين برّوا بطاعتهم ربهم في أداء فرائضه، واجتناب معاصيه، يشربون من كأس، وهو كل إناء كان فيه شراب (كَانَ مِزَاجُها) يقول: كان مزاج ما فيها من الشراب (كافُورًا) يعني: في طيب رائحتها كالكافور. وقد قيل: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة، فمن قال ذلك، جعل نصب العين على الردّ على الكافور، تبيانا عنه، ومن جعل الكافور صفة للشراب نصبها، أعني العين عن الحال، وجعل خبر كان قوله: (كافُورًا) ، وقد يجوز نصب العين من وجه ثالث، وهو نصبها بإعمال يشربون فيها فيكون معنى الكلام: إن الأبرار يشربون عينا يشرب بها عباد الله، من كأس كان مزاجها كافورا. وقد يجوز أيضا نصبها على المدح، فأما عامة أهل التأويل فإنهم قالوا: الكافور صفة للشراب على ما ذكرت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مِزَاجُهَا كَافُورًا) قال: تمزج.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) قال: قوم تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك.
وقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: كان مزاج الكأس التي يشرب بها هؤلاء الأبرار كالكافور في طيب رائحته من عين يشرب بها عباد الله الذين يدخلهم الجنة، والعين على هذا التأويل نصب على الحال من الهاء التي في (مزاجها)(24/93)
ويعني بقوله: (يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) يُرْوَى بها ويُنتقع. وقيل: يشرب بها ويشربها بمعنى واحد. وذكر الفرّاء أن بعضهم أنشده:
شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَقَّعَتْ ... مَتى لُجَج خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ (1)
وعني بقوله: "متى لجج" من، ومثله: إنه يتكلم بكلام حسن، ويتكلم كلاما حسنا.
وقوله: (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) يقول تعالى ذكره: يفجرون تلك العين التي يشربون بها كيف شاءوا وحيث شاءوا من منازلهم وقصورهم تفجيرا، ويعني بالتفجير: الإسالة والإجراء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) قال: يعدّلونها حيث شاءوا.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) قال: يقودونها حيث شاءوا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)
__________
(1) الحديث 141- إسناد هذا الخبر ضعيف، كما فصلنا القول فيه، في إسناد الخبر 137. وهذا الذي هنا نقله السيوطي في الدر المنثور 1: 8 مع باقيه الآتي برقم 148 بالإسناد نفسه. ونسبه السيوطي لابن جرير (وكتب فيه: ابن جريج، خطأ مطبعيا) ، وابن أبي حاتم.(24/94)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
قال: مستقيد ماؤها لهم يفجرونها حيث شاءوا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) قال: يصرفونها حيث شاءوا.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا (9) } .
يقول تعالى ذكره: إن الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، برّوا بوفائهم لله بالنذور التي كانوا ينذرونها في طاعة الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) قال: إذا نذروا في حق الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والزكاة، والحجّ والعمرة، وما افترض عليهم، فسماهم الله بذلك الأبرار، فقال: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) قال: بطاعة الله، وبالصلاة، وبالحجّ، وبالعمرة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قوله: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) قال: في غير معصية، وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة الكلام عليه منه، وهو كان ذلك. وذلك أن معنى الكلام: إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، كانوا يوفون بالنذر، فترك ذكر كانوا لدلالة الكلام عليها، والنذر: هو كلّ ما أوجبه الإنسان على نفسه من فعل؛ ومنه قول عنترة:(24/95)
الشَّاتِمَيْ عرْضِي وَلَمْ أشْتُمْهُما ... والنَّاذِرَيْن إذا لَمْ ألْقَهُما دَمي (1)
وقوله: (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) يقول تعالى ذكره: ويخافون عقاب الله بتركهم الوفاء بما نذروا لله من برّ في يوم كان شرّه مستطيرا، ممتدّا طويلا فاشيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) استطار والله شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض، وأما رجل يقول عليه نذر أن لا يصل رحما، ولا يتصدّق، ولا يصنع خيرا، فإنه لا ينبغي أن يكفر عنه، ويأتي ذلك، ومنه قولهم: استطار الصدع في الزجاجة واستطال: إذا امتدّ، ولا يقال ذلك في الحائط؛ ومنه قول الأعشى:
فَبانَتْ وَقد أثأرَتْ فِي الفُؤَا ... دِ صَدْعا عَلى نَأْيِها مُسْتَطيرا (2)
يعني: ممتدّا فاشيا.
وقوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا) يقول تعالى ذكره: كان هؤلاء الأبرار يطعمون الطعام على حبهم إياه، وشهوتهم له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) قال: وهم يشتهونه.
__________
(1) قوله "لا تمانع"، أي لا اختلاف بينهم، يدعو بعضهم إلى دفع ما يقوله الآخر. وسيأتي مثله في ص: 126.
(2) ديوانه: 165. المده: جمع ماده. ومده فلانًا يمدهه مدهًا: نعت هيئته وجماله وأثنى عليه ومدحه. و "استرجعن": قلن" إنا لله وإنا إليه راجعون. يقلنها حسرة عليه كيف تنسك وهجر الدنيا، بعد الذي كان من شبابه وجماله وصبوته!(24/96)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو العريان، قال: سألت سليمان بن قيس أبا مقاتل بن سليمان، عن قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا) قال: على حبهم للطعام.
وقوله: (مِسْكينًا) يعني جلّ ثناؤه بقوله مسكينا: ذوي الحاجة الذين قد أذلتهم الحاجة، (ويَتِيمًا) وهو الطفل الذي قد مات أبوه ولا شيء له (وأسِيرًا) : وهو الحربيّ من أهل دار الحرب يُؤخذ قهرا بالغلبة، أو من أهل القبلة يُؤخذ فيُحبس بحقّ، فأثنى الله على هؤلاء الأبرار بإطعامهم هؤلاء تقرّبا بذلك إلى الله وطلب رضاه، ورحمة منهم لهم.
واختلف أهل العلم في الأسير الذي ذكره الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: بما حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) قال: لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وأسِيرًا) قال: كان أسراهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحقّ أن تطعمه.
قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو أن عكرِمة قال في قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) زعم أنه قال: كان الأسرى في ذلك الزمان المشرك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا حماد بن مسعدة، قال: ثنا أشعث، عن الحسن (وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) قال: ما كان أسراهم إلا المشركين.
وقال آخرون: عني بذلك: المسجون من أهل القبلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الأسير: المسجون.
حدثني أبو شيبة بن أبي شيبة، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثني أبي عن حجاج، قال: ثني عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جُبير في قوله الله: (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) من أهل القبلة وغيرهم، فسألت عطاء، فقال مثل ذلك.
حدثني علي بن سهل الرملي، قال: ثنا يحيى - يعني: ابن عيسى - عن سفيان،(24/97)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وأسِيرًا) قال: الأسير،: هو المحبوس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الأبرار بأنهم كانوا في الدنيا يطعمون الأسير، والأسير الذي قد وصفت صفته؛ واسم الأسير قد يشتمل على الفريقين، وقد عمّ الخبر عنهم أنهم يطعمونهم فالخبر على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له. وأما قول من قال: لم يكن لهم أسير يومئذ إلا أهل الشرك، فإن ذلك وإن كان كذلك، فلم يخصص بالخبر الموفون بالنذر يومئذ، وإنما هو خبر من الله عن كلّ من كانت هذه صفته يومئذ وبعده إلى يوم القيامة، وكذلك الأسير معنيّ به أسير المشركين والمسلمين يومئذ، وبعد ذلك إلى قيام الساعة.
وقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: يقولون: إنما نطعمكم إذا هم أطعموهم لوجه الله، يعنون طلب رضا الله، والقُربة إليه (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) يقولون للذين يطعمونهم ذلك الطعام: لا نريد منكم أيها الناس على إطعامناكم ثوابا ولا شكورا.
وفي قوله: (وَلا شُكُورًا) وجهان من المعنى: أحدهما أن يكون جمع الشكر كما الفُلوس جمع فَلس، والكفور جمع كُفْر. والآخر: أن يكون مصدرًا واحدًا في معنى جمع، كما يقال: قعد قعودا، وخرج خروجا.
وقد حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سالم، عن مجاهد (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) قال: أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب.
حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، عن سالم، عن سعيد بن جُبير (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) قال: أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)(24/98)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم أنهم يقولون لمن أطعموه من أهل الفاقة والحاجة: ما نطعمكم طعاما نطلب منكم عوضا على إطعامناكم جزاء ولا شكورا، ولكنا نطعمكم رجاء منا أن يؤمننا ربنا من عقوبته في يوم شديد هوله، عظيم أمره، تعبِس فيه الوجوه من شدّة مكارهه، ويطول بلاء أهله، ويشتدّ. والقمطرير: هو الشديد، يقال: هو يوم قمطرير، أو يوم قماطر، ويوم عصيب. وعصبصب، وقد اقمطرّ اليوم يقمطرّ اقمطرارا، وذلك أشدّ الأيام وأطوله في البلاء والشدّة؛ ومنه قول بعضهم:
بني عَمّنا هَلْ تَذْكُرُونَ بَلاءَنا ... عليكُمْ إذا ما كانَ يَوْمٌ قُماطِيرُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عن معناه، فقال بعضهم: هو أن يعبِس أحدهم، فيقبض بين عينيه حتى يسيل من بين عينيه مثل القطران.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا مصعب بن سلام التميمي، عن سعيد، عن عكرِمة، عن ابن عباس، في قوله: (عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) قال: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس (يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) قال: القمطرير: المُقَبِّض بين عينيه.
__________
(1) الخبران 142، 143- إسنادهما ضعيفان، من أجل "سفيان بن وكيع بن الجراح"، شيخ الطبري فيهما، وسفيان هذا: ضعيف، كان أبوه إمامًا حجة، وكان هو رجلا صالحًا، ولكن وراقه أفسد عليه حديثه، وأدخل عليه ما ليس من روايته. ونصحه العلماء أن يدعه فلم يفعل، فمن أجل ذلك تركوه. قال ابن حبان في كتاب المجروحين، رقم 470 ص238- 239: "فمن أجل إصراره على ما قيل له استحق الترك".
وهذان الخبران، سيذكرهما الطبري في تفسير آية سورة الأعراف: 127 (9: 18 بولاق) ، وهناك شيء من التحريف في أحدهما. ونقل معناهما السيوطي في الدر المنثور 3: 107.
والقراءة الصحيحة المعروفة: {ويذرك وآلهتك} . وأما هذه القراءة "وإلاهتك"، فقد نقلها صاحب إتحاف البشر: 229 عن ابن محيصن والحسن. ونقلها ابن خالويه في كتاب القراءات الشاذة: 45 عن علي وابن مسعود وابن عباس. وذكرها أبو حيان في البحر 4: 367 عن هؤلاء الثلاثة "وأنس وجماعة غيرهم".(24/99)
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس، عن قوله: (قَمْطَرِيرًا) قال: يُقَبِّض ما بين العينين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس (يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) قال: يقبِّض ما بين العينين.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) قال: يوم يقبِّض فيه الرجل ما بين عينيه ووجهه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) عبست فيه الوجوه، وقبضت ما بين أعينها كراهية ذلك اليوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (قَمْطَرِيرًا) قال: تُقبِّض فيه الجباه، وقوم يقولون: القمطرير: الشديد.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: المقبِّض ما بين العينين.
قال: وثنا وكيع، عن عمر بن ذرّ، عن مجاهد، قال: هو المقبض ما بين عينيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو، عن عكرِمة، قال: القمطرير: ما يخرج من جباههم مثل القطران، فيسيل على وجوهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (قَمْطَرِيرًا) قال: يُقبِّض الوجه بالبسور.
وقال آخرون: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (عَبُوسًا) يقول: ضيقا. وقوله: (قَمْطَرِيرًا) يقول: طويلا.
وقال آخرون: القمطرير: الشديد.(24/100)
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) قال: العَبوس: الشرّ، والقَمْطَرير: الشديد.
وقوله: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا)
يقول جل ثناؤه: فدفع الله عنهم ما كانوا في الدنيا يحذرون من شر اليوم العبوس القمطرير بما كانوا في الدنيا يعملون مما يرضي عنهم ربهم، لقَّاهم نضرة في وجوههم، وسرورا في قلوبهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل،
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) قال: نَضْرة في الوجوه، وسرورا في القلوب.
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) نضرة في وجوههم، وسرورا في قلوبهم.
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) قال: نعمة وسرورا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا (13) } .
يقول تعالى ذكره: وأثابهم الله بما صبروا في الدنيا على طاعته، والعمل بما يرضيه عنهم جنة وحريرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) يقول: وجزاهم بما صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصيته ومحارمه، جنة وحريرا.
وقوله: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ) يقول: متكئين في الجنة على السُّرر في(24/101)
الحجال، وهي الأرائك واحدتها أريكة. وقد بيَّنا ذلك بشواهده، وما فيه من أقوال أهل التأويل فيما مضى بما أغنى عن إعادته، غير أنا نذكر في هذا الموضع من الرواية بعض ما لم نذكره إن شاء الله تعالى قبل.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ) يعني: الحِجال.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ) كنا نُحدَّث أنها الحجال فيها الأسرّة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الحصين، عن مجاهد (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ) قال: السُّرُر في الحجال. ونصب (مُتَّكِئِينَ) فيها على الحال من الهاء والميم.
وقوله (لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا) يقول تعالى ذكره: لا يرَوْن فيها شمسا فيؤذيهم حرّها، ولا زمهريرا، وهو البرد الشديد، فيؤذيهم بردها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا زياد بن عبد الله الحساني، قال: ثنا مالك بن سعير، قال: ثنا الأعمش، عن مجاهد، قال: الزمهرير: البرد المفظع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله: (لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا) يعلم أن شدّة الحرّ تؤذي، وشدّة القرّ تؤذي، فوقاهم الله أذاهما.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن السُّدِّيّ، عن مرّة بن عبد الله قال في الزمهرير: إنه لون من العذاب، قال الله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّها، فَقالَتْ: رَبّ، أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَنَفِّسْنِي، فأذِنَ لَهَا فِي كُلِّ عامٍ بِنَفَسَيْنِ؛ فأشَدَّ ما تَجِدُونَ مِنَ البَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ وأشَدَّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ".(24/102)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا) وقَرُبت منهم ظلال أشجارها.
ولنصب دانية أوجه: أحدها: العطف به على قوله: (مُتَّكِئِين فِيها) . والثاني: العطف به على موضع قوله: (لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا) لأن موضعه نصب، وذلك أن معناه: متكئين فيها على الأرائك، غير رائين فيها شمسًا. والثالث: نصبه على المدح، كأنه قيل: متكئين فيها على الأرائك، ودانية بعد عليهم ظلالها، كما يقال: عند فلان جارية جميلة، وشابة بعد طرية، تضمر مع هذه الواو فعلا ناصبا للشابة، إذا أريد به المدح، ولم يُرَد به النَّسَق؛ وأُنِّثَتْ دانيةً لأن الظلال جمع. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله بالتذكير: (وَدَانِيا عَلَيْهِمْ ظِلالُها) وإنما ذكر لأنه فعل متقدّم، وهي في قراءة فيما بلغني: (وَدَانٍ) رفع على الاستئناف.
وقوله: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا) يقول: وذُلِّل لهم اجتناء ثمر شجرها، كيف شاءوا قعودا وقياما ومتكئين.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا) قال: إذا قام ارتفعت بقدره، وإن قعد تدلَّت حتى ينالها، وإن اضطجع تدلَّت حتى ينالها، فذلك تذليلها.
حدثنا بشر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا) قال: لا يردُّ أيديَهم عنها بُعد ولا شوك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) قال: الدانية: التي قد دنت عليهم ثمارها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا) قال: يتناوله كيف شاء جالسا ومتكئا.(24/103)
وقوله: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ) يقول تعالى ذكره: ويُطاف على هؤلاء الأبرار بآنية من الأواني التي يشربون فيها شرابهم، هي من فضة كانت قواريرًا، فجعلها فضة، وهي في صفاء القوارير، فلها بياض الفضة وصفاء الزجاج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ) يقول: آنية من فضة، وصفاؤها وتهيؤها كصفاء القوارير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد (من فضة) ، قال: فيها رقة القوارير في صفاء الفضة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) قال: صفاء القوارير وهي من فضة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) أي صفاء القوارير في بياض الفضة.
وقوله: (وأكْوَابٍ) يقول: ويُطاف مع الأواني بجرار ضِخام فيها الشراب، وكلّ جرّة ضخمة لا عروة لها فهي كوب.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وأكْوَابٍ) قال: ليس لها آذان.
وقد حدثنا ابن حميد: قال: ثنا مهران، عن سفيان بهذا الحديث بهذا الإسناد عن مجاهد، فقال: الأكواب: الأقداح.
وقوله: (كَانَتْ قَوَارِيرَ) يقول: كانت هذه الأواني والأكواب قواريرًا، فحوّلها الله فضة. وقيل: إنما قيل: ويطاف عليهم بآنية من فضة، ليدلّ بذلك على أن أرض الجنة فضة، لأن كل آنية تُتَّخذ، فإنما تُتَّخذ من تُرْبة الأرض التي فيها، فدلّ جلّ ثناؤه بوصفه الآنية متى يطاف بها على أهل الجنة أنها من فضة، ليعلم عباده أن تربة أرض الجنة فضة.(24/104)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله "قوارير، وسلاسل "، فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة غير حمزة: سَلاسِلا وقواريرا (قَوَارِيرًا) بإثبات الألف والتنوين وكذلك هي في مصاحفهم، وكان حمزة يُسْقط الألِفات من ذلك كله، ولا يجري شيئا منه، وكان أبو عمرو يُثبت الألف في الأولى من قوارير، ولا يثبتها في الثانية، وكلّ ذلك عندنا صواب، غير أن الذي ذَكَرت عن أبي عمرو أعجبهما إليّ، وذلك أن الأوّل من القوارير رأس آية، والتوفيق بين ذلك وبين سائر رءوس آيات السورة أعجب إليّ إذ كان ذلك بإثبات الألفات في أكثرها.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا (18) } .
يقول تعالى ذكره: (قَوَارِيرَا) في صفاء الصفاء من فضة الفضة من البياض (1) .
كما حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: قال الحسن، في قوله: (كَانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) قال: صفاء القوارير في بياض الفضة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن كثير، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله الله (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) قال: بياض الفضة في صفاء القوارير.
حدثني يعقوب، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: أخبرنا ابن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: (كَانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) قال: كان ترابها من فضة.
وقوله: (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) قال: صفاء الزجاج في بياض الفضة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قوله: (قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) قال: لو احتاج أهل الباطل (2) أن يعملوا إناء من فضة يرى ما فيه من خلفه، كما يرى ما في القوارير ما قدروا عليه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) قال: هي من فضة، وصفاؤها: صفاء القوارير في بياض الفضة.
__________
(1) الخبر 144- الحسين بن داود: اسمه "الحسين" ولقبه "سنيد"، بضم السين المهملة وفتح النون. واشتهر بهذا اللقب، وترجم به في التهذيب 4: 244- 245، وفي الجرح والتعديل 3 / 1 / 326. وحجاج: هو ابن محمد المصيصي، من شيوخ الإمام أحمد. وهذا الأثر عن مجاهد، سيرويه الطبري في تفسير آية الأعراف (9: 18 بولاق) - بإسناد آخر.
(2) الحديث 145- هو حديث لا أصل له. وهو جزء من الحديث الموضوع الذي روى الطبري بعضه فيما مضى 140، بهذا الإسناد. وفصلنا القول فيه هناك.(24/105)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) قال: على صفاء القوارير، وبياض الفضة.
وقوله: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) يقول: قدّروا تلك الآنية التي يُطاف عليهم بها تقديرا على قَدْر رِيِّهم لا تزيد ولا تنقص عن ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) قال: قُدّرت لريّ القوم.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) قال: قدر ريِّهم.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا عمر بن عبيد، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) قال: لا تنقص ولا تفيض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) قال: لا تَترع فتُهراق، ولا ينقصون من مائها فتنقص فهي ملأى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) لريِّهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) قدرت على ريّ القوم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) قال: قدّروها لريهم على قدر شربهم أهل الجنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) قال: ممتلئة لا تُهَراق، وليست بناقصة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قدّروها على قدر الكفّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه،(24/106)
عن ابن عباس: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) قال: قدرت للكفّ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: (قَدَّرُوها) بفتح القاف، بمعنى: قدّرها لهم السُّقاة الذين يطوفون بها عليهم. ورُوي عن الشعبيّ وغيره من المتقدمين أنهم قرءوا ذلك بضم القاف، بمعنى: قُدّرت عليهم، فلا زيادة فيها ولا نقصان.
والقراءة التي لا أستجير القراءة بغيرها فتح القاف، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا) يقول تعالى ذكره: ويُسْقَى هؤلاء القوم الأبرار في الجنة كأسا، وهي كلّ إناء كان فيه شراب، فإذا كان فارغا من الخمر لم يقل له: كأس، وإنما يقال له: إناء، كما يقال للطبق الذي تهدى فيه الهدية: المِهْدَى مقصورا ما دامت عليه الهدية فإذا فرغ مما عليه كان طبقا أو خِوَانا، ولم يكن مِهْدًى (كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا) يقول: كان مزاج شراب الكأس التي يُسقون منها زنجبيلا.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يمزج لهم شرابهم بالزنجبيل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا) قال: تمزج بالزنجبيل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا) قال: يأثُرُ لهم ما كانوا يشربون في الدنيا. زاد الحارث في حديثه: فَيُحَبِّبُهُ إليهم.
وقال بعضهم: الزنجبيل: اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا) رقيقة يشربها المقرّبون صِرْفا، وتمزج لسائل أهل الجنة. وقوله: (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا) يقول تعالى ذكره: عينا في الجنة تسمى سلسبيلا. قيل: عُنِي بقوله سلسبيلا سلسة مُنقادا ماؤها.(24/107)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا) عينا سلسة مستقيدا ماؤها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (تُسَمَّى سَلْسَبِيلا) قال: سلسة يصرفونها حيث شاءوا.
وقال آخرون: عُني بذلك أنها شديدة الجِرْيَةِ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا) قال: حديدة الجِرْية.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا الأشجعي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
قال: ثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: سلسة الجرية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا) حديدة الجِرْية.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
واختلف أهل العربية في معنى السلسبيل وفي إعرابه، فقال بعض نحويِّي البصرة، قال بعضهم: إن سلسبيل صفة للعين بالتسلسل. وقال بعضهم: إنما أراد عينا تسمى سلسبيلا أي: تسمى من طيبها السلسبيل أي: توصف للناس كما تقول: الأعوجّي والأرحبيّ والمهريّ من الإبل، وكما تنسب الخيل إذا وصفت إلى الخيل المعروفة المنسوبة كذلك تنسب العين إلى أنها تسمى، لأن القرآن نزل على كلام العرب، قال: وأنشدني يونس:
صَفْرَاءُ مِنْ نَبْعٍ يُسَمَّى سَهْمُها ... مِنْ طُولِ ما صَرَعَ الصُّيُودَ الصَّيِّبُ (1)
__________
(1) قوله: "أن يقال" من تمام قوله في السطر الثالث "ولكن الواجب-" خبر لكن.(24/108)
فرفع الصَّيِّبُ لأنه لم يرد أن يسمى بالصَّيب، إنما الصَّيب من صفة الاسم والسهم، وقوله: "يسمى سهمها" أي يذكر سهمها. قال: وقال بعضهم: لا بل هو اسم العين، وهو معرفة، ولكنه لما كان رأس آية، وكان مفتوحا، زيدت فيه الألف، كما قال: (كَانت قَوارِيرا) . وقال بعض نحويِّي الكوفة: السلسبيل: نعت أراد به سلس في الحلق، فلذلك حَرِيّ أن تسمى بسلاستها.
وقال آخر منهم: ذكروا أن السلسبيل اسم للعين، وذكروا أنه صفة للماء لسلسه وعذوبته؛ قال: ونرى أنه لو كان اسما للعين لكان ترك الإجراء فيه أكثر، ولم نر أحدا ترك إجراءها وهو جائز في العربية، لأن العرب تجري ما لا يجرى في الشعر، كما قال متمم بن نويرة:
فَمَا وَجْدُ أظْآرٍ ثَلاثٍ رَوَائمٍ ... رأيْنَ مخَرًّا مِنْ حُوَارٍ ومَصْرَعا (1)
فأجرى روائم، وهي مما لا يُجرَى.
والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله: (تُسَمَّى سَلْسَبِيلا) صفة للعين، وصفت بالسلاسة في الحلق، وفي حال الجري، وانقيادها لأهل الجنة يصرّفونها حيث شاءوا، كما قال مجاهد وقتادة؛ وإنما عني بقوله (تُسَمَّى) : توصف.
__________
(1) الأضداد لابن الأنباري: 163، والخزانة 4: 490، وقال: "لم أقف على تتمته وقائله، مع أنه مشهور، قلما خلا منه كتاب نحوي، والله أعلم".(24/109)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لإجماع أهل التأويل على أن قوله: (سَلْسَبِيلا) صفة لا اسم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) } .
يقول تعالى ذكره: ويطوف على هؤلاء الأبرار ولدان، وهم الوصفاء، مخلَّدون.
اختلف أهل التأويل في معنى: (مُخَلَّدُونَ) فقال بعضهم: معنى ذلك: أنهم لا يموتون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) أي: لا يموتون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: عني بذلك (وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) مُسَوّرون.
وقال آخرون: بل عني به أنهم مقرّطون. وقيل: عني به أنهم دائم شبابهم، لا يتغيرون عن تلك السنّ.
وذُكر عن العرب أنها تقول للرجل إذا كبر وثبت سواد شعره: إنه لمخلَّد؛ كذلك إذا كبر وثبت أضراسه وأسنانه قيل: إنه لمخلد، يراد به أنه ثابت الحال، وهذا تصحيح لما قال قتادة من أن معناه: لا يموتون، لأنهم إذا ثبتوا على حال واحدة فلم يتغيروا بهرم ولا شيب ولا موت، فهم مخلَّدون. وقيل: إن معنى قوله: (مُخَلَّدُوَن) مُسَوّرون بلغة حِمْير؛ وينشد لبعض شعرائهم:
وَمُخَلَّدَاتٌ باللُّجَيْنِ كأنَّمَا ... أعْجازُهُنَّ أقاوِزُ الْكُثْبانِ (1)
__________
(1) لا تمانع: أي لا اختلاف بينهم، يدعو بعضهم إلى دفع ما يقوله الآخر.(24/110)
وقوله: (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) يقول تعالى ذكره: إذا رأيت يا محمد هؤلاء الولدان مجتمعين أو مفترقين، تحسبهم في حُسنهم، ونقاء بياض وجوههم، وكثرتهم، لؤلؤًا مبدّدا، أو مجتَمِعا مصبوبا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) قال: من كثرتهم وحُسْنِهِم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ) من حسنهم وكثرتهم (لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) وقال قتادة: عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، قال: ما من أهل الجنة من أحد إلا ويسعى عليه ألف غلام، كلّ غلام على عملٍ ما عليه صاحبه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) قال: في كثرة اللؤلؤ وبياض اللؤلؤ.
وقوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا نظرت ببصرك يا محمد، ورميت بطرفك فيما أعطيتُ هؤلاء الأبرار في الجنة من الكرامة. وعُني بقوله: (ثَمَّ) الجنة (رَأَيْتَ نَعِيمًا) ، وذلك أن أدناهم منزلة من ينظر في مُلكه فيما قيل في مسيرة ألفي عام، يُرى أقصاه، كما يرى أدناه.
وقد اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله لم يذكر مفعول رأيت الأول، فقال بعض نحويِّي البصرة: إنما فعل ذلك لأنه يريد رؤية لا تتعدى، كما تقول: ظننت في الدار، أخبر بمكان ظنه، فأخبر بمكان رؤيته. وقال بعض نحويِّي الكوفة: إنما فعل ذلك لأن معناه: وإذا رأيت ما ثم رأيت نعيما، قال: وصلح إضمار ما كما قيل: لقد تقطع بينكم، يريد: ما بينكم، قال: ويقال: إذا رأيت ثم يريد: إذا نظرت ثم،(24/111)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
أي إذا رميت ببصرك هناك رأيت نعيما.
وقوله: (وَمُلْكًا كَبِيرًا) يقول: ورأيت مع النعيم الذي ترى لهم ثَمَّ مُلْكا كبيرا. وقيل: إن ذلك الملك الكبير: تسليم الملائكة عليهم، واستئذانهم عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثني من سمع مجاهدا يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) قال: تسليم الملائكة.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: (مُلْكًا كَبِيرًا) قال: بلغنا أنه تسليم الملائكة.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا الأشجعيّ، في قوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) قال: فسَّرها سفيان قال: تستأذن الملائكة عليهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) قال استئذان الملائكة عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) } .
يقول تعالى ذكره: فوقهم، يعني فوق هؤلاء الأبرار ثياب سُنْدُسٍ. وكان بعض أهل التأويل يتأوّل قوله: (عالِيَهُمْ) فوق حِجَالهم المثبتة عليهم (ثِيَابُ سُنْدُسٍ) وليس ذلك بالقول المدفوع، لأن ذلك إذا كان فوق حجالٍ هم فيها، فقد علاهم فهو عاليهم.
وقد اختلف أهل القراءة في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة وبعض قرّاء مكة (عَالِيهُمْ) بتسكين الياء. وكان عاصم وأبو عمرو وابن كثير يقرءونه بفتح الياء، فمن فتحها جعل قوله (عالِيَهُمْ) اسما مرافعا للثياب، مثل قول القائل: ظاهرهم ثياب سندس.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (ثِيَابُ سُنْدُسٍ) يعني: ثياب ديباج رقيق حسن، والسندس: هو ما رقّ من الديباج.(24/112)
وقوله: (خُضرٌ) اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه أبو جعفر القارئ وأبو عمرو برفع: (خُضْرٌ) على أنها نعت للثياب، وخفض (إستَبْرَقٍ) عطفا به على السندس، بمعنى: وثياب إستبرق. وقرأ ذلك عاصم وابن كثير (خُضْرٍ) خفضا (وإسْتَبْرَقٌ) رفعا، عطفا بالإستبرق على الثياب، بمعنى: عاليهم إستبرق، وتصييرا للخضر نعتا للسندس. وقرأ نافع ذلك: (خُضْرٌ) رفعا على أنها نعت للثياب (وإسْتَبْرَقٌ) رفعا عطفا به على الثياب. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: (خُضْرٍ وإسْتَبْرَقٍ) خفضا كلاهما. وقرأ ذلك ابن محيصن بترك إجراء الإستبرق: (وإسْتَبْرَقَ) بالفتح بمعنى: وثياب إستبرق، وفَتَحَ ذلك أنه وجَّهه إلى أنه اسم أعجميّ. ولكلّ هذه القراءات التي ذكرناها وجه ومذهب غير الذي سبق ذكرنا عن ابن محيصن، فإنها بعيدة من معروف كلام العرب، وذلك أن الإستبرق نكرة، والعرب تجري الأسماء النكرة وإن كانت أعجمية، والإستبرق: هو ما غَلُظ من الديباج. وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في ذلك فيما مضى قبل فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: الإستبرق: الديباج الغليظ.
وقوله: (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) يقول: وحلاهم ربهم أساور، وهي جمع أسورة من فضة.
وقوله: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) يقول تعالى ذكره: وسقى هؤلاء الأبرار ربُّهُم شرابا طهورا، ومن طهره أنه لا يصير بولا نجسا، ولكنه يصير رشحا من أبدانهم كرشح المسك.
كالذي حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم التيمي (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) قال: عرق يفيض من أعراضهم مثل ريح المسك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن منصور، عن إبراهيم التيمي، مثله.
قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم التيمي، قال: إن الرجل من أهل الجنة يقسَمُ له شهوة مئة رجل من أهل الدنيا، وأكلهم وهمتهم، فإذا أكل سقي شرابا طهورا، فيصير رشحا يخرج من جلده أطيب ريحًا من المسك الأذفر، ثم تعود شهوته.(24/113)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (شَرَابًا طَهُورًا) قال: ما ذكر الله من الأشربة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أبان، عن أبي قِلابة: إن أهل الجنة إذا أكلوا وشربوا ما شاءوا دَعَوا بالشراب الطهور فيشربونه، فتطهر بذلك بطونهم ويكون ما أكلوا وشربوا رَشْحا وريحَ مسك، فتضمر لذلك بطونهم.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي، عن أبي هريرة أو غيره "شكّ أبو جعفر الرازي" قال: صعد جبرائيل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به إلى السماء السابعة، فاستفتَح، فقيل له: من هذا؟ فقال: جبرائيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أو قد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيءُ جاء، قال: فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس على كرسيّ عند باب الجنة، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء، فقام الذين في ألوانهم شيء، فدخلوا نهرًا فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خَلَص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خَلَصت ألوانهم، فصارت مثل ألوان أصحابهم، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم، فقال: يا جبريل من هذا الأشمط، ومن هؤلاء البيض الوجوه، ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، وما هذه الأنهار التي اغتسلوا فيها، فجاءوا وقد صفت ألوانهم؟ قال: هذا أبوك إبراهيم، أوّل من شَمِط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه، فقوم لم يَلْبِسوا إيمانهم بظلم: وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا، فتاب الله عليهم. وأما الأنهار، فأوّلها رحمة الله، والثاني نعمة الله، والثالث سقاهم ربهم شرابا طهورا.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزيلا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) } .(24/114)
يقول تعالى ذكره: يقال لهؤلاء الأبرار حينئذ: إن هذا الذي أعطيناكم من الكرامة كان لكم ثوابا على ما كنتم في الدنيا تعملون من الصالحات (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) يقول: كان عملكم فيها مشكورا، حمدكم عليه ربكم، ورضيه لكم، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة عليه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) غفر لهم الذنب، وشكر لهم الحسن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: تلا قتادة: (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) قال: لقد شَكر الله سعيا قليلا.
وقوله: (إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزيلا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنا نحن نزلنا عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلا ابتلاء منا واختبارا (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) يقول: اصبر لما امتحنك به ربك من فرائضه، وتبليغ رسالاته، والقيام بما ألزمك القيام به في تنزيله الذي أوحاه إليك (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) يقول: ولا تطع في معصية الله من مشركي قومك آثما يريد بركوبه معاصيه، أو كفورا: يعنى جحودا لنعمه عنده، وآلائه قِبَلَه، فهو يكفر به، ويعبد غيره.
وقيل: إن الذي عني بهذا القول أبو جهل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) قال: نزلت في عدوّ الله أبي جهل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأنّ عنقه، فأنزل الله: (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) قال: الآثِم: المذنب الظالم والكفور، هذا كله واحد. وقيل: (أوْ كَفُورًا) والمعنى: ولا كفورًا. قال الفراء: "أو" هاهنا بمنزلة الواو، وفى الجحد والاستفهام والجزاء تكون بمعنى " لا ". فهذا من ذلك مع الجحد، ومنه قول الشاعر
لا وَجْدُ ثَكْلَى كما وَجِدَت وَلا ... وَجْدُ عَجُولٍ أضَلَّها رُبَعُ(24/115)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)
أوْ وَجْدُ شَيْخٍ أضَلَّ ناقَتَهُ ... يَوْمَ تَوَافَى الْحَجِيجُ فانْدَفَعُوا (1)
أراد: ولا وجدُ شيخ، قال: وقد يكون في العربية: لا تطيعنّ منهم من أثم أو كفر، فيكون المعنى في أو قريبا من معنى الواو، كقولك للرجل: لأعطينك سألت أو سكتّ، معناه: لأعطينك على كلّ حال.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا (25) } .
__________
(1) الأثر 146- نقله ابن كثير في التفسير 1: 40 عن هذا الموضع. و "السري بن يحيى ابن السري التميمي الكوفي"، شيخ الطبري، لم نجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 285، وقال: "لم يقض لنا السماع منه، وكتب إلينا بشيء من حديثه، وكان صدوقًا". و "العرزمي" المرويُّ عنه هذا الكلام هنا: ضعيف جدا، قال الإمام أحمد في المسند 6938: "لا يساوي حديثه شيئًا". وهو "محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي". وأما عمه "عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي"، فإنه تابعي ثقة، ولكنه قديم، مات سنة 145، فلم يدركه "عثمان بن زفر" المتوفى سنة 218. و "العرزمي" بفتح العين المهملة وسكون الراء وبعدها زاي، نسبة إلى "عرزم". ووقع هنا في الطبري وابن كثير "العرزمي"، بتقديم الزاي على الراء، وهو تصحيف.(24/116)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا (26) إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا (27) } .
يقول تعالى ذكره: (وَاذْكُرْ) يا محمد (اسْمَ رَبِّكَ) فادعه به بكرة في صلاة الصبح، وعشيا في صلاة الظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) يقول: ومن الليل فاسجد له في صلاتك، فسبحه ليلا طويلا يعني: أكثر الليل، كما قال جلّ ثناؤه: (قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا) يعني: الصلاة والتسبيح.(24/116)
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا) قال: بكرة: صلاة الصبح، وأصيلا صلاة الظهر الأصيل.
وقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا) قال: كان هذا أوّل شيء فريضة. وقرأ: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ) ، ثم قال: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ... ) إلى قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ... ) إلى آخر الآية، ثم قال: مُحِي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الناس، وجعله نافلة فقال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) قال: فجعلها نافلة.
وقوله: (إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المشركين بالله يحبون العاجلة، يعني، الدنيا، يقول: يحبون البقاء فيها وتعجبهم زينتها (وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا) يقول: ويدعون خلف ظهورهم العمل للآخرة، وما لهم فيه النجاة من عذاب الله يومئذ، وقد تأوّله بعضهم بمعنى: ويذرون أمامهم يوما ثقيلا وليس ذلك قولا مدفوعا، غير أن الذي قلناه أشبه بمعنى الكلمة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا) قال: الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (29) } .
يقول تعالى ذكره: نَحْنُ خَلَقْنَا هؤلاء المشركين بالله المخالفين أمره ونهيه (وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ) : وشددنا خلقهم، من قولهم: قد أُسِر هذا الرجل فأُحسِن أسره، بمعنى: قد خلِقَ فأُحسِن خَلْقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن(24/117)
أبيه، عن ابن عباس، قوله: (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ) يقول: شددنا خلقهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ) قال: خَلْقهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ) : خَلْقهم.
حدثنا بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: الأسْر: المفاصل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، سمعته - يعني: خلادا - يقول: سمعت أبا سعيد، وكان قرأ القرآن على أبي هريرة قال: ما قرأت القرآن إلا على أبي هريرة، هو أقرأني، وقال في هذه الآية (وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ) قال: هي المفاصل.
وقال آخرون: بل هو القوّة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ) قال: الأسر: القوّة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي اخترناه، وذلك أن الأسر، هو ما ذكرت عند العرب؛ ومنه قول الأخطل:
مِنْ كلّ مُجْتَنَبٍ شَدِيدٍ أسْرُه ... سَلِسِ الْقِيادِ تَخالُهُ مُخْتالا (1)
ومنه قول العامة: خذه بأسره: أي هو لك كله.
وقوله: (وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا) يقول: وإذا نحن شئنا أهلكنا هؤلاء
__________
(1) الحديث 147- هذا إسناد ضعيف، بل إسنادان ضعيفان، كما فصلنا فيما مضى: 140، 145.(24/118)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
وجئنا بآخرين سواهم من جنسهم أمثالهم من الخلق، مخالفين لهم في العمل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا) قال: بني آدم الذين خالفوا طاعة الله، قال: وأمثالهم من بني آدم.
قوله: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) يقول: إن هذه السورة تذكرة لمن تذكر واتعظ واعتبر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) قال: إن هذه السورة تذكرة.
وقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) يقول: فمن شاء أيها الناس اتخذ إلى رضا ربه بالعمل بطاعته، والانتهاء إلى أمره ونهيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) } .
يقول تعالى ذكره: (وَما تَشاءُونَ) اتخاذ السبيل إلى ربكم أيها الناس (إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ذلك لكم لأن الأمر إليه لا إليكم، وهو في قراءة عبد الله فيما ذُكر (وَما تَشاءُونَ إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ) .
وقوله (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) فلن يعدو منكم أحد ما سبق له في علمه بتدبيركم.
وقوله: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) يقول: يدخل ربكم من يشاء منكم في رحمته، فيتوب عليه حتى يموت تائبا من ضلالته، فيغفر له ذنوبه، ويُدخله جنته (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) يقول: الذين ظلموا أنفسهم، فماتوا على شركهم، أعدّ لهم في الآخرة عذابا مؤلما موجعا، وهو عذاب جهنم. ونصب قوله: (والظَّالمِينَ)(24/119)
لأن الواو ظرف لأعدّ، والمعنى: وأعد للظالمين عذابا أليما. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (ولِلظَّالِمِينَ أعَدَّ لَهُمْ) بتكرير اللام، وفد تفعل العرب ذلك، وينشد لبعضهم:
أقولُ لَهَا إذا سألَتْ طَلاقًا ... إلامَ تُسارِعينَ إلى فِرَاقي? (1)
ولآخر:
فأصْبَحْنَ لا يسأَلْنهُ عَنْ بِمَا بِهِ ... أصَعَّد فِي غاوِي الهَوَى أمْ تَصَوَّبا? (2)
بتكرير الباء، وإنما الكلام لا يسألنه عما به.
آخر تفسير سورة الإنسان.
__________
(1) جواب قوله "فإذ كان صحيحًا. . . " وما بينهما فصل.
(2) الحديث 148- نقله ابن كثير في التفسير 1: 41 عن هذا الموضع، وقد مضى الكلام في هذا الإسناد، وبيان ضعفه: 137، 141. والذي في الدر المنثور 1: 8- 9 "على من أحب أن يضعف عليه العذاب"، والظاهر أنه تصرف من ناسخ أو طابع.(24/120)
تفسير سورة والمرسلات(24/121)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) } .
اختلف أهل التأويل في معنى قول الله: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) فقال بعضهم: معنى ذلك: والرياح المرسلات يتبع بعضها بعضا، قالوا: والمرسَلات: هي الرياح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا المحاربي، عن المسعودي، عن سَلَمة بن كهَيل، عن أبي العُبيدين أنه سأل ابن مسعود فقال: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) قال: الريح.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا المسعودي، عن سَلَمة بن كهيل، عن أبي العُبيدين أنه سأل عبد الله بن مسعود، فذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم، عن أبي العُبيدين، قال: سألت عبد الله بن مسعود، فذكر نحوه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) يعني: الريح.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثني أبي، عن شعبة، عن إسماعيل السدي، عن أبي صالح صاحب الكلبي في قوله: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) قال: هي الرياح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) قال: الريح.(24/122)
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سَلَمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العُبيدين، قال: سألت عبد الله عن (المُرْسَلاتِ عُرْفا) قال: الريح.
ثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) قال: هي الريح.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والملائكة التي تُرسَل بالعرف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، قال: كان مسروق يقول في المرسلات: هي الملائكة.
حدثنا إسرائيل بن أبي إسرائيل، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: ثنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت أبا الضحى، عن مسروق، عن عبد الله في قوله: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) قال: الملائكة.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا جابر بن نوح ووكيع عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) قال: هي الرسل ترسل بالعُرف.
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، قال: سألت أبا صالح عن قوله: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) قال: هي الرسل ترسل بالمعروف؛ قالوا: فتأويل الكلام: والملائكة التي أرسلت بأمر الله ونهيه، وذلك هو العرف.
وقال بعضهم: عُني بقوله (عُرْفا) : متتابعا كعرف الفرس، كما قالت العرب: الناس إلى فلان عرف واحد، إذا توجهوا إليه فأكثروا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثت عن داود بن الزبرقان، عن صالح بن بريدة، في قوله: (عُرْفا) قال: يتبع بعضها بعضا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالمرسلات عرفا، وقد ترسل عُرْفا الملائكة، وترسل كذلك الرياح، ولا دلالة تدلّ على أن المعنيّ(24/124)
بذلك أحد الحِزْبين دون الآخر، وقد عمّ جلّ ثناؤه بإقسامه بكل ما كانت صفته ما وصف، فكلّ من كان صفته كذلك، فداخل في قسمه ذلك مَلَكا أو ريحا أو رسولا من بني آدم مرسلا.
وقوله: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) يقول جلّ ذكره: فالرياح العاصفات عصفا، يعني: الشديدات الهبوب السريعات الممرّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد، عن عُرْعرة أن رجلا قام إلى عليّ رضي الله عنه، فقال: ما العاصفات عصفا؟ قال: الريح.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا المحاربي، عن المسعودي، عن سَلَمة بن كهيل، عن أبي العُبيدين أنه سأل عبد الله بن مسعود، فقال: ما العاصفات عصفا؟ قال: الريح.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا المسعودي، عن سلمة بن كهيل، عن أبي العُبيدين، عن عبد الله، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العُبيدين قال: سألت عبد الله بن مسعود، فذكر مثله.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العُبيدين، قال: سألت عبد الله، فذكر مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) قال: الريح.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) قال: هي الرياح.
حدثنا عبد الحميد بن بَيَان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل قال: سألت أبا صالح عن قوله: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) قال: هي الرياح.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثني أبي، عن شعبة،(24/125)
عن إسماعيل السدي عن أبي صالح صاحب الكلبي، في قوله: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) قال: هي الرياح.
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا أبو معاوية الضرير وسعيد بن محمد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) قال: هي الريح.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن أبي صالح، مثله.
قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن خالد بن عُرْعرة، عن عليّ رضي الله عنه (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) قال: الريح.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) قال: الرياح.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
وقوله: (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: عُني بالناشرات نَشْرًا: الريح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا المحاربي، عن المسعودي، عن سَلَمة بن كهيل، عن أبي العُبيدين أنه سأل ابن مسعود عن (النَّاشِرَاتِ نَشْرًا) قال: الريح.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا المسعودي، عن سَلَمة بن كهيل، عن أبي العُبيدين، عن ابن مسعود، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم، عن أبي العُبيدين، قال: سألت عبد الله بن مسعود، فذكر مثله.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سَلَمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العُبيدين، قال: سألت عبد الله، فذكر مثله.
قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) قال: الريح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن إسماعيل السدي، عن أبي صالح صاحب الكلبي، في قوله: (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) قال:(24/126)
هي الرياح.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) قال: الرياح.
وقال آخرون: هي المطر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، قال: سألت أبا صالح، عن قوله: (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) قال المطر.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) قال: هي المطر.
قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن أبي صالح، مثله.
وقال آخرون: بل هي الملائكة التي تنشرُ الكتب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن هشام، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) قال: الملائكة تنشرُ الكتب.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا، ولم يَخْصُص شيئا من ذلك دون شيء، فالريح تنشر السحاب، والمطر ينشر الأرض، والملائكة تنشر الكتب، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فذلك على كل ما كان ناشرا.
وقوله: (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) اختلف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم: عُنِي: بذلك: الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) قال: الملائكة.
قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن أبي صالح (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) قال: الملائكة.
قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل، مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،(24/127)
عن أبيه، عن ابن عباس (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) قال: الملائكة.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) يعني القرآن ما فرق الله فيه بين الحقّ والباطل.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالفارقات، وهي الفاصلات بين الحق والباطل، ولم يخصص بذلك منهنّ بعضا دون بعض، فذلك قَسَم بكلّ فارقة بين الحقّ والباطل، مَلَكا كان أو قرآنا، أو غير ذلك.
وقوله: (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) يقول: فالمبلِّغات وحي الله رسله، وهي الملائكة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) يعني: الملائكة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) قال: هي الملائكة تلقي الذكر على الرسل وتبلغه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) قال: الملائكة تلقي القرآن.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) قال: الملائكة.
وقوله: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) يقول تعالى ذكره: فالملقيات ذكرا إلى الرسل إعذارا من الله إلى خلقه، وإنذارا منه لهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) قال: عذرًا من الله، ونُذْرا منه إلى خلقه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) : عذرا لله على خلقه، ونذرًا للمؤمنين ينتفعون به، ويأخذون به.(24/128)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) يعني: الملائكة.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام وبعض المكيين وبعض الكوفيين: (عُذْرًا) بالتخفيف، أو نُذْرا بالتثقيل: وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة وبعض البصريين بتخفيفهما، وقرأه آخرون من أهل البصرة بتثقيلهما والتخفيف فيهما أعجب إليّ وإن لم أدفع صحة التثقيل لأنهما مصدران بمعنى الإعذار والإنذار.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) } .
يقول تعالى ذكره: والمرسلات عرفا، إن الذي توعدون أيها الناس من الأمور لواقع، وهو كائن لا محالة، يعني بذلك يوم القيامة، وما ذكر الله أنه أعدّ لخلقه يومئذ من الثواب والعذاب.
وقوله: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) يقول: فإذا النجوم ذهب ضياؤها، فلم يكن لها نور ولا ضوء (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ) يقول: وإذا السماء شقِّقت وصدّعت (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ) يقول: وإذا الجبال نسفت من أصلها، فكانت هباء منبثا (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) يقول تعالى ذكره: وإذا الرسل أجلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) يقول: جمعت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،(24/129)
في قول الله: (أُقِّتَتْ) قال: أُجِّلَتْ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: قال مجاهد (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) قال: أجلت.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، جميعا عن سفيان، عن منصور عن إبراهيم (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) قال: أُوعِدَت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) قال: أُقتت ليوم القيامة، وقرأ: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) قال: والأجل: الميقات، وقرأ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) ، وقرأ: (إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) قال: إلى يوم القيامة، قال: لهم أجل إلى ذلك اليوم حتى يبلغوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) قال: وعدت.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة غير أبي جعفر، وعامة قرّاء الكوفة: (أُقِّتَتْ) بالألف وتشديد القاف، وقرأه بعض قرّاء البصرة بالواو وتشديد القاف (وُقِّتَتْ) وقرأه أبو جعفر (وُقِتَتْ) بالواو وتخفيف القاف.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن كل ذلك قراءات معروفات ولغات مشهورات بمعنى واحد، فبأيتها قرأ القارئ فمصيب، وإنما هو فُعِّلَتْ من الوقت، غير أن من العرب من يستثقل ضمة الواو، كما يستثقل كسرة الياء في أوّل الحرف فيهمزها، فيقول: هذه أجوه حسان بالهمزة، وينشد بعضهم:
يَحُل أحِيدَهُ ويُقالُ بَعْلٌ ... ومِثْلُ تَمَوُّلٍ مِنْهُ افْتِقارُ (1)
__________
(1) إشارة إلى ما مضى: 146، ووقع في الأصول هنا "العرزمي" أيضًا، بتقديم الزاي، وهو خطأ، كما بينا من قبل.(24/130)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
وقوله: (لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) يقول تعالى ذكره مُعَجِّبًا عباده من هول ذلك اليوم وشدّته: لأيِّ يوم أجِّلت الرسل ووقِّتت، ما أعظمه وأهوله؛ ثم بين ذلك: وأيّ يوم هو؟ فقال: أجلت (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) يقول: ليوم يفصل الله فيه بين خلقه القضاء، فيأخذ للمظلوم من الظالم، ويجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ) يوم يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة وإلى النار.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأيّ شيء أدراك يا محمد ما يوم الفصل، معظما بذلك أمره، وشدّة هوله.
كما حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ) تعظيما لذلك اليوم.
وقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول تعالى ذكره: الوادي الذي يسيل في جهنم من صديد أهلها للمكذّبين بيوم الفصل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ويل والله طويل.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) } .
يقول تعالى ذكره: ألم نهلك الأمم الماضين الذين كذّبوا رسلي، وجحدوا آياتي من قوم نوح وعاد وثمود، ثم نتبعهم الآخرين بعدهم، ممن سلك سبيلهم في الكفر بي وبرسولي، كقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين، فنهلكهم كما أهلكنا الأوّلين قبلهم، (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) يقول كما أهلكنا هؤلاء بكفرهم بي، وتكذيبهم(24/131)
برسلي، كذلك سنتي في أمثالهم من الأمم الكافرة، فنهلك المجرمين بإجرامهم إذا طغوا وبغوا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأخبار الله التي ذكرناها في هذه الآية، الجاحدين قُدرته على ما يشاء.(24/132)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) } .
يقول تعالى ذكره: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) أيها الناس (مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) يعني: من نطفة ضعيفة.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) يعنى بالمهين: الضعيف.
وقوله: (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) يقول: فجعلنا الماء المَهِين في رحمٍ استقرّ فيها فتمكن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) قال: الرحم.
وقوله: (إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) يقول: إلى وقت معلوم لخروجه من الرحم عند الله، (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة (فَقَدَّرْنا) بالتشديد. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة بالتخفيف.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وإن كنت أوثر التخفيف لقوله: (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) ، إذ كانت العرب قد تجمع بين اللغتين، كما قال: (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) فجمع بين التشديد(24/132)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
والتخفيف، كما قال الأعشى:
وأنْكَرَتْنِي وما كانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ الْحَوَادِثِ إلا الشَّيْبَ والصَّلعَا (1)
وقد يجوز أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحدا. فإنه محكيّ عن العرب، قُدِر عليه الموت، وقُدِّر - بالتخفيف والتشديد.
وعني بقوله: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) ما حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن ابن المبارك غن جويبر، عن الضحاك (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) قال: فملكنا فنعم المالكون.
وقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول جلّ ثناؤه: ويل يومئذ للمكذّبين بأن الله خلقهم من ماء مهين.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) } .
يقول تعالى ذكره: منبها عباده على نعمه عليهم: (أَلَمْ نَجْعَلِ) أيها الناس (الأرضَ) لكم (كِفاتًا) يقول: وعاء، تقول: هذا كفت هذا وكفيته، إذا كان وعاءه.
وإنما معنى الكلام: ألم نجعل الأرض كِفاتَ أحيائكم وأمواتكم، تكْفِت أحياءكم في المساكن والمنازل، فتضمهم فيها وتجمعهم، وأمواتَكم في بطونها في القبور، فيُدفَنون فيها.
__________
(1) الأثر 149- نقله السيوطي في الدر المنثور 1: 9 ونسبه للطبري وحده. وعطاء الخراساني هو عطاء بن أبي مسلم، وهو ثقة، وضعفه بعض الأئمة. وهو كثير الرواية عن التابعين، وكثير الإرسال عن الصحابة، في سماعه منهم خلاف. وأما الراوي عنه "أبو الأزهر نصر بن عمرو اللخمي"، فإني لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع، إلا قول الدولابي في الكنى والأسماء 1: 110: "أبو الأزهر الفلسطيني نصر بن عمرو اللخمي، روى عنه يحيى بن صالح الوحاظي".(24/133)
وجائز أن يكون عُني بقوله: (كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) تكفت أذاهم في حال حياتهم، وجيفهم بعد مماتهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا) يقول: كِنًّا.
حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا خالد، عن مسلم، عن زاذان أبي عمر، عن الربيع بن خثيم، عن عبد الله بن مسعود، أنه وجد قملة في ثوبه، فدفنها في المسجد ثم قال: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) .
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا مسلم الأعور، عن زاذان، عن ربيع بن خثيم، عن عبد الله، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، قال: قال مجاهد في الذي يرى القملة في ثوبه وهو في المسجد، ولا أدري قال في صلاة أم لا إن شئت فألقها، وإن شئت فوارها (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) .
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن شريك، عن بيان، عن الشعبيّ (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) قال: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا) قال: تكفت أذاهم (أحْياءً) تواريه (وأمْوَاتًا) يدفنون: تكفتهم.
وقد حدثني به ابن حميد مرّة أخرى، فقال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا) قال: تكفت أذاهم وما يخرج منهم (أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) قال: تكفتهم في الأحياء والأموات.
حدثني محمد بن عمرو، قال: تنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) قال: أحياء يكونون فيها، قال محمد بن عمرو: يغيبون فيها ما أرادوا، وقال الحارث: ويغيبون فيها ما أرادوا. وقوله: (أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) قال: يدفنون فيها.(24/134)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) يسكن فيها حيهم، ويدفن فيها ميتهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) قال: أحياء فوقها على ظهرها، وأمواتا يُقبرون فيها.
واختلف أهل العربية في الذي نصب (أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) فقال بعض نحويي البصرة: نصب على الحال. وقال بعض نحويي الكوفة: بل نصب ذلك بوقوع الكفات عليه، كأنك قلت: ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات، فإذا نوّنت نصبت كما يقرأ من يقرأ (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) وهذا القول أشبه عندي بالصواب.
وقوله: (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ) يقول تعالى ذكره: وجعلنا في الأرض جبالا ثابتات فيها، باذخات شاهقات.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ) يعني الجبال.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ) يقول: جبالا مشرفات.
وقوله: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) يقول: وأسقيناكم ماء عذبا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) يقول: عذبا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مَاءً فُرَاتًا) قال: عذبا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) : أي ماء عذبا.
حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرِمة، عن ابن عباس: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) قال: من أربعة أنهار: سيحانَ، وجيحان،(24/135)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
والنيلِ، والفراتِ، وكل ماء يشربه ابن آدم، فهو من هذه الأنهار، وهي تخرج من تحت صخرة من عند بيت المقدس، وأما سيحان فهو ببلخ، وأما جيحان فدجلة، وأما الفرات ففرات الكوفة، وأما النيل فهو بمصر.
وقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول: ويل يومئذ للمكذّبين بهذه النعم التي أنعمتها عليكم من خلقي الكافرين بها.
القول في تأويل قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) } .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بهذه النَّعم والحجج التي احتجّ بها عليهم يوم القيامة: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ) في الدنيا (تُكَذّبُونَ) من عذاب الله لأهل الكفر به (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) يعني تعالى ذكره: إلى ظلّ دخان ذي ثلاث شعب (لا ظَلِيلٍ) ، وذلك أنه يرتفع من وقودها الدخان فيما ذُكر، فإذا تصاعد تفرّق شعبا ثلاثا، فذلك قوله: (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) قال: دخان جهنم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) قال: هو كقوله: (نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) قال: والسرادق: دخان النار، فأحاط بهم سرادقها، ثم تفرّق، فكان ثلاث شعب، فقال: انطلقوا إلى ظلّ ذي ثلاث شعب: شعبة هاهنا، وشعبة هاهنا، وشعبة هاهنا (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) .
وقوله: (لا ظَلِيلٍ) يقول: لا هو يظلهم من حرّها (وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) ولا يُكِنُّهم من لهبها.(24/136)
وقوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) يقول تعالى ذكره: إن جهنم ترمي بشرر كالقصر، فقرأ ذلك قرّاء الأمصار: (كالْقَصْرِ) بجزم الصاد.
واختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في معناه، فقال بعضهم: هو واحد القصور.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) يقول: كالقصر العظيم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال: ذكر القصر (1) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يزيد بن يونس، عن أبي صخر في قول الله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال: كان القرظي يقول: إن على جهنم سورا فما خرج من وراء السور مما يرجع فيها في عظم القصر، ولون القار.
وقال آخرون: بل هو الغليظ من الخشب، كأصول النخل وما أشبه ذلك.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس، قال: سألت ابن عباس عن قوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال: القصر: خشب كنا ندّخره للشتاء ثلاث أذرع، وفوق ذلك، ودون ذلك كنا نسميه القصر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباس يقول في قوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال: القصر: خشب كان يُقْطع في الجاهلية ذراعا وأقلّ أو أكثر، يُعْمَد به.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباس يقول في قوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال: كنا في الجاهلية نقصر ذراعين أو ثلاث أذرع، وفوق ذلك ودون ذلك نسميه القصر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) فالقصر: الشجر المقطع، ويقال: القصر: النخل المقطوع.
__________
(1) لا يزال أهل الغباء في عصرنا يكتبونه، ويتبجحون بذكره في محاضراتهم وكتبهم، نقلا عن الذين يتتبعون ما سقط من الأقوال، وهم الأعاجم الذين يؤلفون فيما لا يحسنون باسم الاستشراق. ورد الطبري مفحم لمن كان له عن الجهل والخطأ رده تنهاه عن المكابرة.(24/137)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كالْقَصْرِ) قال: حزم الشجر، يعني الحزمة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في هذه الآية (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال: مثل قَصْر النخلة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) أصول الشجر، وأصول النخل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال: كأصل الشجر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) القصر: أصول الشجر العظام، كأنها أجواز الإبل الصفر وسط كل شيء جوزُه، وهي الأجواز.
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: قرأها الحسن: (كالْقَصْرِ) وقال: هو الجزل من الخشب قال: واحدته: قصرة وقصر، مثله: جمرة وجمر، وتمرة وتمر.
وذُكر عن ابن عباس أنه قرأ ذلك (كالْقَصَرِ) بتحريك الصاد.
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: أخبرني حسين المعلم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس أنه قرأها (كالقَصَرِ) بفتح القاف والصاد.
قال: وقال هارون: أخبرني أبو عمر أن ابن عباس قرأها: (كالقَصَرِ) وقال: قصر النخل، يعني الأعناق.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، وهو سكون الصاد، وأولى التأويلات به أنه القصر من القصور، وذلك لدلالة قوله: (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) على صحته، والعرب تشبه الإبل بالقصور المبنية، كما قال الأخطل في صفة ناقة:(24/138)
كأنها بُرْجُ رُوميٍّ يُشَيِّدُه ... لُزَّ بِجصّ وآجُرٍّ وأحْجارِ (1)
وقيل: (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) ولم يقل كالقصور، والشرر جمع، كما قيل: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ولم يقل الأدبار، لأن الدبر بمعنى الأدبار، وفعل ذلك توفيقا بين رءوس الآيات ومقاطع الكلام، لأن العرب تفعل ذلك كذلك، وبلسانها نزل القرآن. وقيل: كالقصر، ومعنى الكلام: كعظم القصر، كما قيل: (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ولم يقل: كعيون الذي يغشى عليه، لأن المراد في التشبيه الفعل لا العين.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، أنه سأل الأسود عن هذه الآية: (تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) فقال: مثل القصر.
وقوله: (جِمَالَةٌ صُفْرٌ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: كأن الشرر الذي ترمي به جهنم كالقصر جِمالات سود: أي أينق سود؛ وقالوا: الصفر في هذا الموضع، بمعنى السود قالوا: وإنما قيل لها صفر وهِي سود، لأن ألوان الإبل سود تضرب إلى الصفرة، ولذلك قيل لها صُفْر، كما سميت الظباء أدما، لما يعلوها في بياضها من الظلمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن عمرو البصري، قال: ثنا بدل بن المحبِّر، قال: ثنا عباد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن الحسن (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) قال: الأينق السود.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) كالنوق السود الذي رأيتم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (جِمَالَةٌ صُفْرٌ) قال: نوق سود.
__________
(1) لم أجد قائل البيت. واستشهد به ابن سيده في المخصص 17: 152، وعلق على البيت محمد محمود التركزي الشنقيطي، وادعى أن البيت مصنوع، وأن "بعض الرجال الذين يحبون إيجاد الشواهد المعدومة لدعاويهم المجردة، صنعه ولفقه، وأن الوضع والصنعة ظاهران فيه ظهور شمس الضحى، وركاكته تنادي جهارًا بصحة وضعه وصنعته، والصواب وهو الحق المجمع عليه، أن الشاعر الجاهلي المشار إليه، هو الشنفرى الأزدي، وهذا البيت ليس في شعره"، وأنه ملفق من قول الشنفرى: أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي، والتَلهُّفُ ضَلَّةٌ ... بما ضَرَبَتْ كَفُّ الفَتَاةِ هَجِينَهَا
والشنقيطي رحمه الله كان كثير الاستطالة، سريعًا إلى المباهاة بعلمه وروايته. والذي قاله من ادعاء الصنعة لا يقوم. وكفى بالبيت الذي يليه دليلا على فساد زعمه أن الدافع لصنعته: إيجاد الشواهد المعدومة، لدعاوى مجردة. وليس في البيت ركاكة ولا صنعة.(24/139)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران؛ وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، جميعا عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) قال: هي الإبل.
قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) قال: كالنوق السود الذي رأيتم.
وقال آخرون: بل عُني بذلك: قُلُوس السفن، شبَّه بها الشرر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعيد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) فالجِمالات الصفر: قلوس السفن التي تجمع فتوثق بها السفن.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سعيد، عن عبد الرحمن بن عابس، قال: سألت ابن عباس عن قوله: (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) قال: قُلُوس سفن البحر يجمل بعضها على بعض، حتى تكون كأوساط الرجال.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباس سئل عن (جِمَالَةٌ صُفْرٌ) فقال: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن عابس، قال: ثنا عبد الملك بن عبد الله، قال: ثنا هلال بن خباب، عن سعيد بن جُبير، في قوله: (جِمَالَةٌ صُفْرٌ) قال: قُلوس الجِسر.
حدثني محمد بن حويرة بن محمد المنقري، قال: ثنا عبد الملك بن عبد الله القطان، قال: ثنا هلال بن خَبَّاب، عن سعيد بن جُبير، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) قال: الحبال.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن عبد الله، عن ابن عباس (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) قال: قلوس سفن البحر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،(24/140)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
قوله: (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) قال: حبال الجسور.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كأنه قطع النُّحاس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) يقول: قطع النحاس.
وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: عُنِي بالجمالات الصفر: الإبل السود، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وأن الجِمالات جمع جِمال، نظير رِجال ورِجالات، وبُيوت وبُيوتات.
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين (جِمالاتٍ) بكسر الجيم والتاء على أنها جمع جِمال وقد يجوز أن يكون أريد بها جمع جِمالة، والجمالة جمع جَمَل كما الحجارة جمع حَجَر، والذِّكارة جمع ذَكَر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين (كأنه جمالات) بكسر الجيم على أنها جمع جمل جُمع على جمالة، كما ذكرت مِن جمع حجَر حِجارة. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ (جُمالاتٌ) بالتاء وضمّ الجيم كأنه جمع جُمالة من الشيء المجمل.
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال. ثنا حجاج، عن هارون، عن الحسين المعلم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس.
والصواب من القول في ذلك، أن لقارئ ذلك اختيارَ أيّ القراءتين شاء من كسر الجيم وقراءتها بالتاء، وكسر الجيم وقراءتها بالهاء التي تصير في الوصل تاء، لأنهما القراءتان المعروفتان في قرّاء الأمصار، فأما ضم الجيم فلا أستجيزه لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه.
وقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول تعالى ذكره: ويل يوم القيامة للمكذّبين هذا الوعيد الذي توعد الله به المكذّيين من عباده.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ(24/141)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
وَالأوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) } .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بثواب الله وعقابه: (هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) أهل التكذيب بثواب الله وعقابه (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) مما اجترموا في الدنيا من الذنوب.
فإن قال قائل: وكيف قيل: (هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) وقد علمت بخبر الله عنهم أنهم يقولون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا) وأنهم يقولون: (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) في نظائر ذلك مما أخبر الله ورسوله عنهم أنهم يقولونه. قيل: إن ذلك في بعض الأحوال دون بعض.
وقوله: (هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) يخبر عنهم أنهم لا ينطقون في بعض أحوال ذلك اليوم، لا أنهم لا ينطقون ذلك اليوم كله.
فإن قال: فهل من بُرهان يعلم به حقيقة ذلك؟ قيل: نعم، وذلك إضافة يوم إلى قوله: (لا يَنْطِقُونَ) والعرب لا تُضيف اليوم إلى فعل يفعل، إلا إذا أرادت الساعة من اليوم والوقت منه، وذلك كقولهم: آتيك يومَ يقدمُ فلان، وأتيتك يوم زارك أخوك، فمعلوم أن معنى ذلك: أتيتك ساعة زارك، أو آتيك ساعة يقدُم، وأنه لم يكن إتيانه إياه اليوم كله، لأن ذلك لو كان أخذ اليوم كله لم يضف اليوم إلى فعل ويفعل، ولكن فعل ذلك إذ كان اليوم بمعنى إذ وإذا اللتين يطلبان الأفعال دون الأسماء.
وقوله: (فَيَعْتَذِرُونَ) رفعا عطفا على قوله: (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) وإنما اختير ذلك على النصب وقبله جحد، لأنه رأس آية قرن بينه وبين سائر رءوس التي قبلها، ولو كان جاء نصبا كان جائزا، كما قال: (لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) وكلّ ذلك جائز فيه، أعني الرفع والنصب، كما قيل: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) رفعا ونصبا.
وقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول تعالى ذكره: ويل يومئذ للمكذّبين بخبر الله عن هؤلاء القوم، وما هو فاعل بهم يوم القيامة.
وقوله: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ) يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بالبعث يوم يبعثون: هذا يوم الفصل الذي يَفْصل الله فيه بالحقّ بين عباده (جَمَعْنَاكُمْ(24/142)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
وَالأوَّلِينَ) يقول: جمعناكم فيه لموعدكم الذي كنا نعدكم في الدنيا، الجمع فيه بينكم وبين سائر من كان قبلكم من الأمم الهالكة. فقد وفَّينا لكم بذلك (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) يقول: والله منجز لكم ما وعدكم في الدنيا من العقاب على تكذيبكم إياه بأنكم مبعوثون لهذا اليوم إن كانت لكم حيلة تحتالونها في التخلص من عقابه اليوم فاحتالوا.
وقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول: ويل يومئذ للمكذّبين بهذا الخبر.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) } .
يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه في الدنيا، واجتناب معاصيه (فِي ظِلالٍ) ظليلة، وكِنّ كَنِين، لا يصيبهم أذى حرّ ولا قرّ، إذ كان الكافرون بالله في ظلّ ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب (وَعُيُونٍ) أنهار تجري خلال أشجار جناتهم (وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) يأكلون منها كلما اشتهوا لا يخافون ضرّها، ولا عاقبة مكروهها.
وقوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول تعالى ذكره: يقال لهم: كلوا أيها القوم من هذه الفواكه، واشربوا من هذه العيون كلما اشتهيتم هنيئا: يقول: لا تكدير عليكم، ولا تنغيص فيما تأكلونه وتشربون منه، ولكنه لكم دائم، لا يزول، ومريء لا يورثكم أذى في أبدانكم.
وقوله: (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول جلّ ثناؤه: يقال لهم: هذا جزاء بما كنتم في الدنيا تعملون من طاعة الله، وتجتهدون فيما يقرّبكم منه.
وقوله: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يقول: إنا كما جزينا هؤلاء المتقين بما وصفنا من الجزاء على طاعتهم إيانا في الدنيا، كذلك نجزي ونثيب أهل الإحسان فى طاعتهم إيانا، وعبادتهم لنا في الدنيا على إحسانهم لا نضيع في الآخرة أجرهم.
وقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول: ويل للذين يكذّبون خبر الله عما(24/143)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
أخبرهم به به من تكريمه هؤلاء المتقين بما أكرمهم به يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) } .
يقول تعالى ذكره تهدّدا ووعيدا منه للمكذبين بالبعث: كلوا في بقية آجالكم، وتمتعوا ببقية أعماركم (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) مَسْنُونٌ بكم سنة من قبلكم من مجرمي الأمم الخالية التي متعت بأعمارها إلى بلوغ كتبها آجالها، ثم انتقم الله منها بكفرها، وتكذبيها رسلها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله: (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) قال: عُني به أهل الكفر.
وقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول تعالى ذكره: ويل يومئذ للمكذيين الذين كذّبوا خبر الله الذي أخبرهم به عما هو فاعل بهم في هذه الآية.
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المجرمين المكذّبين بوعيد الله أهل التكذيب به: اركعوا؛ لا يركعون.
واختلف أهل التأويل في الحين الذي يقال لهم فيه، فقال بعضهم: يقال ذلك في الآخرة حين يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) يقول: يُدْعون يوم القيامة إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا.
وقال آخرون: بل قيل ذلك لهم في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) عليكم بحسن الركوع، فإن الصلاة من الله بمكان. وقال(24/144)
قتادة عن ابن مسعود، أنه رأى رجلا يصلي ولا يركع، وآخر يجرّ إزاره، فضحك، قالوا: ما يُضحكك؟ قال: أضحكني رجلان، أما أحدهما فلا يقبل الله صلاته، وأما الآخر فلا ينظر الله إليه.
وقيل: عُني بالركوع في هذا الموضع الصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) قال: صَلَّوا.
وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: إن ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم المجرمين أنهم كانوا له مخالفين في أمره ونهيه، لا يأتمرون بأمره، ولا ينتهون عما نهاهم عنه.
وقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول: ويل للذين كذّبوا رسل الله، فردّوا عليهم ما بلغوا من أمر الله إياهم، ونهيه لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) } .
يقول تعالى ذكره: فبأي حديث بعد هذا القرآن، أي أنتم أيها القوم كذبتم به مع وضوح برهانه، وصحة دلائله، أنه حق من عند الله تؤمنون: يقول: تصدّقون.
وإنما أعلمهم تعالى ذكره أنهم إن لم يصدّقوا بهذه الأخبار التي أخبرهم بها في هذا القرآن مع صحة حججه على حقيقته لم يمكنهم الإقرار بحقيقة شيء من الأخبار التي لم يشاهدوا المخبَر عنه، ولم يعاينوه، وأنهم إن صدّقوا بشيء مما غاب عنهم لدليل قام عليه لزمهم مثل ذلك في أخبار هذا القرآن، والله أعلم.
آخر تفسير سورة والمرسلات(24/145)
تفسير سورة النبأ(24/147)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ (5) } .
يقول تعالى ذكره: عن أي شيء يتساءل هؤلاء المشركون بالله ورسوله من قريش يا محمد، وقيل ذلك له صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشا جعلت فيما ذُكر عنها تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوّته، والتصديق بما جاء به من عند الله، والإيمان بالبعث، فقال الله لنبيه: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون، و"في" و"عن" في هذا الموضع بمعنى واحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع بن الجراح، عن مِسعر، عن محمد بن جحادة، عن الحسن، قال: لما بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم، فأنزل الله: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) يعني: الخبر العظيم.
قال أبو جعفر، ثم أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الذي يتساءلونه، فقال: يتساءلون عن النبأ العظيم: يعني: عن الخبر العظيم.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالنبأ العظيم، فقال بعضهم: أريد به القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) قال: القرآن.
وقال آخرون: عني به البعث.(24/149)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) وهو البعث بعد الموت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد، عن قتادة (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) قال: النبأ العظيم: البعث بعد الموت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) قال: يوم القيامة؛ قال: قالوا هذا اليوم الذي تزعمون أنا نحيا فيه وآباؤنا، قال: فهم فيه مختلفون، لا يؤمنون به، فقال الله: بل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون: يوم القيامة لا يؤمنون به.
وكان بعض أهل العربية يقول: معنى ذلك: عمّ يتحدّث به قريش في القرآن، ثم أجاب فصارت عمّ كأنها في معنى: لأيّ شيء يتساءلون عن القرآن، ثم أخبر فقال: (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) بين مصدق ومكذِّب، فذلك إخلافهم، وقوله: (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) يقول تعالى ذكره: الذي صاروا هم فيه مختلفون فريقين: فريق به مصدّق، وفريق به مكذّب. يقول تعالى ذكره: فتساؤلهم بينهم في النبأ الذي هذه صفته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة: عن النبإ (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) البعث بعد الموت، فصار الناس فيه فريقين: مصدّق ومكذّب، فأما الموت فقد أقرّوا به لمعاينتهم إياه، واختلفوا في البعث بعد الموت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) صار الناس فيه رجلين: مصدّق، ومكذّب، فأما الموت فإنهم أقروا به كلهم لمعاينتهم إياه، واختلفوا في البعث بعد الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) قال: مصدّق ومكذّب.
وقوله: (كَلا) يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون الذين ينكرون بعث الله إياهم أحياء بعد مماتهم، وتوعدهم جل ثناؤه على هذا القول منهم،(24/150)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
فقال: (سَيَعْلَمُونَ) يقول: سيعلم هؤلاء الكفار المنُكرون وعيد الله أعداءه، ما الله فاعل بهم يوم القيامة، ثم أكد الوعيد بتكرير آخر، فقال: ما الأمر كما يزعمون من أن الله غير محييهم بعد مماتهم، ولا معاقبهم على كفرهم به، سيعلمون أن القول غير ما قالوا إذا لقوا الله، وأفضوا إلى ما قدّموا من سيئ أعمالهم.
وذُكر عن الضحاك بن مزاحم في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك (كَلا سَيَعْلَمُونَ) الكفار (ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ) المؤمنون، وكذلك كان يقرأها.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) } .
يقول تعالى ذكره معدّدا على هؤلاء المشركين نِعَمه وأياديه عندهم، وإحسانه إليهم، وكفرانهم ما أنعم به عليهم، ومتوعدهم بما أعدّ لهم عند ورودهم عليه من صنوف عقابه، وأليم عذابه، فقال لهم: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ) لكم (مِهادًا) تمتدونها وتفترشونها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سعيد، عن قتادة (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا) :أي بساطا (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) يقول: والجبال للأرض أوتادا أن تميد بكم (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا) ذُكرانا وإناثا، وطوالا وقصارا، أو ذوي دمامة وجمال، مثل قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) يعني به: صيرناهم (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) يقول: وجعلنا نومكم لكم راحة ودَعة، تهدءون به وتسكنون، كأنكم أموات لا تشعرون، وأنتم أحياء لم تفارقكم الأرواح، والسبت والسبات: هو السكون، ولذلك سمي السبت سبتا، لأنه يوم راحة ودعة (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) يقول تعالى ذكره: وجعلنا الليل لكم غشاء يتغشاكم سواده، وتغطيكم ظلمته، كما يغطي الثوب لابسه لتسكنوا فيه عن التصرّف لما كنتم تتصرّفون له نهارا؛ ومنه قول الشاعر:
فلمَّا لَبِسْن اللَّيْلَ أوْ حِينَ نَصَّبَتْ ... له مِنْ خَذا آذانِها وَهْوَ دَالِحُ (1)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "الطهوي" مكان السعدي، وهو خطأ. ليس سلامة طهويا.(24/151)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
يعني بقوله" لبسن الليل": أدخلن في سواده فاستترن به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قتادة (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) قال: سكنا. وقوله: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) يقول: وجعلنا النهار لكم ضياء لتنتشروا فيه لمعاشكم، وتتصرّفوا فيه لمصالح دنياكم، وابتغاء فضل الله فيه، وجعل جلّ ثناؤه النهار إذ كان سببا لتصرّف عباده لطلب المعاش فيه معاشا، كما في قول الشاعر:
وأخُو الهمومِ إذا الهُمُومُ تَحَضرَتْ ... جُنْحَ الظَّلامِ وِسادُهُ لا يَرْقُدُ (1)
فجعل الوساد هو الذي لا يرقد، والمعنى لصاحب الوساد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (النَّهَارَ مَعَاشًا) قال: يبتغون فيه من فضل الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) } .
يقول تعالى ذكره: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ) : وسقفنا فوقكم، فجعل السقف بناء، إذ كانت العرب تسمي سقوف البيوت - وهي سماؤها - بناءً وكانت السماء للأرض سقفا، فخاطبهم بلسانهم إذ كان التنزيل بِلسانهم، وقال (سَبْعًا شِدَادًا) إذ كانت وثاقا محكمة الخلق، لا صدوع فيهنّ ولا فطور، ولا يبليهنّ مرّ الليالي والأيام.
وقوله: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) يقول تعالى ذكره: وجعلنا سراجا، يعني بالسراج: الشمس وقوله: (وَهَّاجًا) يعني: وقادا مضيئا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) ديوانه: 19، وقد جاء في طبقات فحول الشعراء: 131 في نسب الشاعر: سلامة بن جندل بن عبد الرحمن"، وهذه رواية ابن سلام، وغيره يقول: "ابن عبد"، فإن صحت رواية ابن سلام، فهي دليل آخر قوي على فساد دعوى الشنقيطي.(24/152)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) يقول: مضيئا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) يقول: سراجا منيرا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (سِرَاجًا وَهَّاجًا) قال: يتلألأ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (سِرَاجًا وَهَّاجًا) قال: الوهاح: المنير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (سِرَاجًا وَهَّاجًا) قال: يتلألأ ضوءه.
وقوله: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بالمعصرات، فقال بعضهم: عُنِي بها الرياح التي تعصر في هبوبها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) فالمعصرات: الريح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، أنه كان يقرأ (وأنزلْنا بالمُعْصِرَاتِ) يعني: الرياح.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: الريح.
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: هي في بعض القراءات (وَأنزلْنا بالمُعْصِرَات) : الرياح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: المعصرات: الرياح، وقرأ قول الله: (الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ(24/153)
سَحَابًا ... ) إلى آخر الآية.
وقال آخرون: بل هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولمَّا تمطر، كالمرأة المعصر التي قد دنا أوان حيضها ولم تحض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: المعصرات: السحاب.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) يقول: من السحاب.
قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع: (الْمُعْصِرَاتِ) السحاب.
وقال آخرون: بل هي السماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن يقول: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: من السماء.
حدثنا بشر. قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: من السموات.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) قال: من السماء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه أنزل من المعصرات - وهي التي قد تحلبت بالماء من السحاب - ماء.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن القول في ذلك على أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرت، والرياح لا ماء فيها فينزل منها، وإنما ينزل بها، وكان يصحّ أن تكون الرياح لو كانت القراءة (وَأنزلنا بالمُعْصِرَاتِ) فلما كانت القراءة (مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) علم أن المعنيّ بذلك ما وصفت.
فإن ظنّ ظانّ أن الباء قد تعقب في مثل هذا الموضع من قيل ذلك، وإن كان كذلك، فالأغلب من معنى "من" غير ذلك، والتأويل على الأغلب من معنى الكلام. فإن قال: فإن السماء قد يجوز أن تكون مرادا بها. قيل: إن ذلك وإن كان كذلك،(24/154)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
فإن الأغلب من نزول الغيث من السحاب دون غيره.
وأما قوله: (مَاءً ثَجَّاجًا) يقول: ماء منصبا يتبع بعضه بعضا كثجّ دماء البدن، وذلك سفكها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (مَاءً ثَجَّاجًا) قال: منصبا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (مَاءً ثَجَّاجًا) ماء من السماء منصبا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مَاءً ثَجَّاجًا) قال: منصبًّا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: (مَاءً ثَجَّاجًا) قال: الثجاج: المنصبّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع (مَاءً ثَجَّاجًا) قال: منصبا.
قال: ثنا مهران، عن سفيان (مَاءً ثَجَّاجًا) قال: متتابعا.
وقال بعضهم: عُنِي بالثجَّاج: الكثير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب (مَاءً ثَجَّاجًا) قال: كثيرا، ولا يُعرف في كلام العرب من صفة الكثرة الثجّ، وإنما الثجّ: الصب المتتابع. ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أفْضَلُ الحَجِّ الْعَجُّ والثجّ" يعني بالثج: صبّ دماء الهدايا والبُدن بذبحها، يقال منه: ثججت دمه، فأنا أثجُّه ثجا، وقد ثجَّ الدم، فهو يثجّ ثجوجا.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ(24/155)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) } .
يقول تعالى ذكره: لنخرج بالماء الذي ننزله من المعصرات إلى الأرض حبا، والحب كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد، وهي جمع حبة، كما الشعير جمع شعيرة، وكما التمر جمع تمرة: وأما النبات فهو الكلأ الذي يُرْعى، من الحشيش والزروع.
وقوله: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) يقول: ولنخرج بذلك الغيث جنات، وهي البساتين، وقال: (وَجَنَّاتٍ) والمعنى: وثمر جنات، فترك ذكر الثمر استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره. وقوله: (أَلْفَافًا) يعني: ملتفة مجتمعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: مجتمعة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) يقول: وجنات التفّ بعضها ببعض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: ملتفة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: التفّ بعضها إلى بعض.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: التفّ بعضها إلى بعض.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: ملتفة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) قال: هي الملتفة، بعضها فوق بعض.
واختلف أهل العربية في واحد الألفاف، فكان بعض نحويي البصرة يقول:(24/156)
واحدها: لَفٌّ. وقال بعض نحويِّي الكوفة: واحدها: لف ولفيف، قال: وإن شئت كان الإلفاف جمعا واحده جمع أيضا، فتقول: جنة لفَّاء، وجنات لفّ، ثم يجمع اللَّفَّ ألفافا.
وقال آخر منهم: لم نسمع شجرة لفة، ولكن واحدها لفاء، وجمعها لفّ، وجمع لفّ: ألفاف، فهو جمع الجمع.
والصواب من القول في ذلك أن الألفاف جمع لفّ أو لفيف، وذلك أن أهل التأويل مجمعون على أن معناه: ملتفة، واللفاء، هي الغليظة، وليس الالتفاف من الغلظ في شيء، إلا أن يوجه إلى أنه غلظ الالتفاف، فيكون ذلك حينئذ وجها.
وقوله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) يقول تعالى ذكره: إن يوم يفصل الله فيه بين خلقه، فيأخذ فيه من بعضهم لبعض، كان ميقاتًا لما أنفذ الله لهؤلاء المكذّبين بالبعث، ولضربائهم من الخلق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) وهو يوم عظَّمه الله، يفصِل الله فيه بين الأوّلين والآخرين بأعمالهم.
وقوله: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) تَرْجَم بيوم ينفخ عن يوم الفصل، فكأنه قيل: يوم الفصل كان أجلا لما وعدنا هؤلاء القوم، يوم ينفخ في الصور، وقد بيَّنت معنى الصور فيما مضى قبل، وذكرت اختلاف أهل التأويل فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع، وهو قَرْن يُنْفَخ فيه عندنا.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سليمان التيميّ، عن أسلم، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "الصور: قرن".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) والصُّور: الخَلق.
وقوله: (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) يقول: فيجيئون زمرا زمرا، وجماعة جماعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:(24/157)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَفْوَاجًا) قال: زُمرًا زُمرًا.
وإنما قيل: (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) لأن كلّ أمة أرسل الله إليها رسولا تأتي مع الذي أرسل إليها كما قال: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)
وقوله: (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا) يقول تعالى ذكره: وشققت السماء فصدّعت، فكانت طُرقا، وكانت من قبل شدادا لا فطور فيها ولا صدوع. وقيل: معنى ذلك: وفُتحت السماء فكانت قِطعا كقطع الخشب المشقَّقة لأبواب الدور والمساكن، قالوا: ومعنى الكلام: وفُتحت السماء فكانت قِطعا كالأبواب، فلما أسقطت الكاف صارت الأبواب الخبر، كما يقال في الكلام: كان عبد الله أسدا، يعني: كالأسد.
وقوله: (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) يقول: ونُسفت الجبال فاجتثت من أصولها، فصيرت هباء منبثا، لعين الناظر، كالسراب الذي يظنّ من يراه من بُعد ماء، وهو في الحقيقة هباء.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: إن جهنم كانت ذات رَصْد لأهلها الذين كانوا يكذّبون في الدنيا بها وبالمعاد إلى الله في الآخرة، ولغيرهم من المصدّقين بها. ومعنى الكلام: إن جهنم كانت ذات ارتقاب ترقب من يجتازها وترصُدهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، عن عبد الله(24/158)
بن بكر بن عبد الله المازني، قال: كان الحسن إذا تلا هذه الآية: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) قال: ألا إنّ على الباب الرّصَد، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجئ بجواز احتبس.
حدثنِي يعقوب، قال: ثنا إسماعيل بن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) قال: لا يدخل الجنة أحد حي يجتاز النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) يُعْلِمُنا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى يَقطَع النار.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) قال: عليها ثلاث قناطر.
وقوله: (لِلطَّاغِينَ مَآبًا) يقول تعالى ذكره: إن جهنم للذين طَغَوا في الدنيا، فتجاوزوا حدود الله استكبارا على ربهم كانت منزلا ومرجعا يرجعون إليه، ومصيرا يصيرون إليه يسكنونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد. قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِلطَّاغِينَ مَآبًا) أي منزلا ومأوى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران عن سفيان (مآبًا) يقول: مرجعا ومنزلا.
وقوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء الطاغين في الدنيا لابثون في جهنم، فماكثون فيها أحقابا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (لابِثِينَ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (لابِثِينَ) بالألف. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة " لَبِثِينَ " بغير ألف، وأفصح القراءتين وأصحهما مخرجا في العربية قراءة من قرأ ذلك بالألف، وذلك أن العرب لا تكاد توقع الصفة إذا جاءت على فَعِل فتعملها في شيء، وتنصبه بها، لا يكادون أن يقولوا: هذا رجل بَخِل بماله، ولا عَسِر علينا، ولا هو خَصِم لنا؛ لأن فعل لا يأتي صفة إلا مدحا أو ذما، فلا يعمل المدح والذمّ في غيره، وإذا أرادوا إعمال ذلك في الاسم أو غيره جعلوه فاعلا فقالوا: هو باخل بماله، وهو طامع فيما عندنا، فلذلك قلت: إن (لابِثِينَ) أصح مخرجا في العربية وأفصح، ولم أُحِلّ قراءة من قرأ (لَبِثِينَ)(24/159)
وإن كان غيرها أفصح، لأن العرب ربما أعملت المدح في الأسماء، وقد يُنشد بيت لبيد:
أوْ مِسْحَلٌ عَمِلٌ عِضَادَةَ سَمْحَجٍ ... بِسَرَاتِهَا نَدَبٌ لَهُ وكُلُومُ (1)
فأعمل عَمِلٌ في عِضادة، ولو كانت عاملا كانت أفصح، ويُنشد أيضا:
... ... ... ... ... ... ... ... ... وبالفأس ضَرَّابٌ رُءُوسَ الكَرَانِفِ (2)
ومنه قول عباس بن مرداس:
أكَرَّ وأحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ ... وأضْرَبَ مِنَّا بالسُّيُوفِ الْقَوَانِسا (3)
__________
(1) الذي عناه الطبري، هو أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه "مجاز القرآن": 21، وقد نقل أكثر كلامه الآتي بنصه.
(2) حماسة أبي تمام 3: 135، والمؤتلف والمختلف للآمدي: 62.
(3) في المطبوعة: "أن معنى الله هو المعبود".(24/160)
وأما الأحقاب فجمع حُقْب، والحِقَب: جمع حِقْبة، كما قال الشاعر:
عِشْنا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حتى قيلَ لَن نَتَصَدَّعا (1)
فهذه جمعها حِقَب، ومن الأحقاب التي جمعها حقب (2) قول الله: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) فهذا واحد الأحقاب.
وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ مدة الحُقْب، فقال بعضهم: مدة ثلاث مئة سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا إسحاق بن سُويد، عن بشير بن كعب، في قوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) قال: بلغني أن الحُقب ثلاث مئة سنة، كلّ سنة ثلاث مئة وستون يوما، كل يوم ألف سنة.
وقال آخرون: بل مدة الحُقْب الواحد: ثمانون سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: ثني عمار الدُّهْنيّ، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لهلال الهَجرِيّ: ما تجدون الحُقْب في كتاب الله المنزل؟ قال: نجد ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهرا، كل شهر ثلاثون يوما، كل يوم ألف سنة.
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن عاصم بن أبي النَّجود، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أنه قال: الحُقب: ثمانون سنة، والسنة:
__________
(1) هذا الاحتجاج من أجود ما قيل، ودقته تدل على حسن نظر أبي جعفر فيما يعرض له. وتفسيره كله شاهد على ذلك. رحمة الله عليه.
(2) غيروه في المطبوعة: "لعباده".(24/161)
ستون وثلاث مئة يوم، واليوم: ألف سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبى سنان، عن ابن عباس، قال: الحُقْب: ثمانون سنة.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: ثنا الأعمش، عن سعيد، بن جُبير، في قوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) قال: الحقب: ثمانون سنة، السنة: ثلاث مئة وستون يوما، اليوم: سنة أو ألف سنة "الطبري يشكّ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) وهو ما لا انقطاع له، كلما مضى حُقْب جاء حُقْب بعده. وذُكر لنا أن الحُقْب ثمانون سنة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (أحْقابًا) قال: بلغنا أن الحقب ثمانون سنة من سني الآخرة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) لا يعلم عدّة هذه الأحقاب إلا الله، ولكن الحُقْب الواحد: ثمانون سنة، والسنة: ثلاث مئة وستون يوما، كل يوم من ذلك ألف سنة.
وقال آخرون: الحُقْب الواحد: سبعون ألف سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: ثني عمرو بن أبي سلمة، عن زهير، عن سالم، قال: سمعت الحسن يُسْأل عن قول الله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) قال: أما الأحقاب فليس لها عدّة إلا الخلود في النار؛ ولكن ذكروا أن الحُقْب الواحد سبعون ألف سنة، كلّ يوم من تلك الأيام السبعين ألفا كألف سنة مما تَعُدّون.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلِيّ، قال: ثنا أبو أُسامة، عن هشام، عن الحسن في قوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) قال: أما الأحقاب، فلا يَدرِي أحد ما هي، وأما الحُقْب الواحد: فسبعون ألف سنة، كلّ يوم كألف سنة.
ورُوي عن خالد بن معدان في هذه الآية أنها في أهل القِبلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عامر بن جَشْبٍ،(24/162)
عن خالد بن معدان في قوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) ، وقوله: (إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة.
فإن قال قائل: فما أنت قائل في هذا الحديث؟ قيل: الذي قاله قتادة عن الربيع بن أنس في ذلك أصحّ. فإن قال: فما للكفار عند الله عذاب إلا أحقابا، قيل: إن الربيع وقتادة قد قالا إن هذه الأحقاب لا انقضاء لها ولا انقطاع لها. وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: لابثين فيها أحقابا في هذا النوع من العذاب هو أنهم: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) فإذا انقضت تلك الأحقاب، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك، كما قال جلّ ثناؤه في كتابه: (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية.
وقد رُوي عن مقاتل بن حيان في ذلك ما حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سَلَمة، قال: سألت أبا معاذ الخراساني، عن قول الله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) فأخبرنا عن مقاتل بن حَيان، قال: منسوخة، نسختها (فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) ولا معنى لهذا القول؛ لأن قوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) خبر والأخبار لا يكون فيها نسخ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي.
وقوله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا) يقول: لا يطعمون فيها بردا يبرد حرّ السعير عنهم، إلا الغساق، ولا شرابا يرويهم من شدّة العطش الذي بهم، إلا الحميم. وقد زعم بعض أهل العلم بكلام العرب أن البرد في هذا الموضع النوم، وأن معنى الكلام: لا يذوقون فيها نوما ولا شرابا، واستشهد لقيله ذلك بقول الكنديّ:
بَرَدَتْ مَرَاشِفُها عَليَّ فَصَدَّني ... عَنْها وَعَنْ قُبُلاتِها البَرْدُ (1)
يعني بالبرد: النُّعاس، والنوم إن كان يُبرِد غليلَ العطش، فقيل له من أجل ذلك
__________
(1) الأثر 150- نقله ابن كثير في التفسير 1: 41- 42 عن هذا الموضع. والسيوطي في الدر المنثور 1: 9، ونسبه للطبري وحده. و "عوف" الراويه عن الحسن: هو عوف بن أبي جميلة العبدي، المعروف بابن الأعرابي، وهو ثقة ثبت.(24/163)
البرد فليس هو باسمه المعروف، وتأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب، دون غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) فاستثنى من الشراب الحميم، ومن البَرْد: الغَسَّاق.
وقوله: (إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) يقول تعالى ذكره: لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميمًا قد أغلي حتى انتهى حرّه، فهو كالمُهْل يَشْوِي الوجوه، ولا بردًا إلا غَسَّاقًا.
اختلف أهل التأويل في معنى الغَسَّاق، فقال بعضهم: هو ما سال من صديد أهل جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، ومحمد بن المثنى، قالا ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية بن سعد، في قوله: (حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) قال: هو الذي يَسيل من جلودهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: ثنا أبو عمرو، قال: زَعم عكرِمة أنه حدثهم في قوله: (وَغَسَّاقًا) قال: ما يخرج من أبصارهم من القيح والدم.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا عبد الرحمن قال: ثنا سفيان، عن منصور عن إبراهيم وأبي رَزِين (إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) قالا غُسالة أهل النار: لفظ ابن بشار؛ وأما ابن المثنى فقال في حديثه: ما يسيل من صديدهم.
وحدثنا ابن بشار مرّة أخرى عن عبد الرحمن، فقال كما قال ابن المثنى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين (وَغَسَّاقًا) قال: ما يَسِيل من صديدهم.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور وأبي رزين، عن إبراهيم مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (غَسَّاقًا) كنا نحدَّث أن الغَسَّاق: ما يسيل من بين جلده ولحمه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الضحاك بن مخلد، عن سفيان، أنه قال: بلغني(24/164)
أنه ما يسيل من دموعهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (وَغَسَّاقًا) قال: ما يسيل من صديدهم من البرد، قاله سفيان، وقال غيره: الدموع.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) قال: الحميم: دموع أعينهم في النار، يجتمع في خنادق النار فَيُسْقَونه والغساق: الصديد الذي يخرج من جلودهم، ما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم (إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) قال: الغساق: ما يقطر من جلودهم، وما يسيل من نتنهم.
وقال آخرون: الغساق: الزمهرير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) يقول: الزمهرير.
حدثنا أبو كُريب وأبو السائب وابن المثنى، قالوا: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، في قوله: (إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) قال: الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده.
قال: ثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد (إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) قال: الذي لا يستطيعونه من برده.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، الغساق: الذي لا يستطاع من برده.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر عن الربيع، قال: الغساق، الزمهرير.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن الربيع عن أبي العالية، قال: الغساق: الزمهرير.
وقال آخرون: هو المنتن، وهو بالطَّخارية.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن المسيب بن شريك، عن صالح بن حيان، عن عبد الله بن بُرَيدة،(24/165)
جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
قال: الغساق: بالطَّخارية: هو المُنْتِن.
والغساق عندي: هو الفعال، من قولهم: غَسَقَت عين فلان: إذا سالت دموعها، وغَسَق الجرح: إذا سال صديده، ومنه قول الله (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) يعني بالغاسق: الليل إذا لَبِسَ الأشياء وغطاها، وإنما أريد بذلك هجومه على الأشياء، هجوم السيل السائل. فإذا كان الغسَّاق هو ما وصفت من الشيء السائل، فالواجب أن يقال: الذي وعد الله هؤلاء القوم، وأخبر أنهم يذوقونه في الآخرة من الشراب هو السائل من الزمهرير في جهنم، الجامع مع شدّة برده النتن.
كما حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا رشدين بن سعد، قال: ثنا عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "لَوْ أنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهْرَاقُ إلى الدُّنْيا لأنْتَن أهْلَ الدُّنْيا".
حُدثت عن محمد بن حرب، قال: ثنا ابن لَهِيعة، عن أبي قبيل، عن أبي مالك، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "أتدرون أيّ شيء الغسَّاق؟ " قالوا: الله أعلم، قال: "هو القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهراق بالمغرب لأنتن أهل المشرق، ولو تهراق بالمشرق، لأنتن أهل المغرب".
فإن قال قائل: فإنك قد قلت: إن الغَساق: هو الزمهرير، والزمهرير، هو غاية البرد، فكيف يكون الزمهرير سائلا؟ قيل: إن البرد الذي لا يُستطاع ولا يُطاق يكون في صفة السائل من أجساد القوم من القيح والصديد.
القول في تأويل قوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا (30) } .
يقول تعالى ذكره: هذا العقاب الذي عُوقِب به هؤلاء الكفار في الآخرة فعلَه بهم ربهم جزاء، يعني: ثوابا لهم على أفعالهم وأقوالهم الرديئة التي كانوا يعملونها في الدنيا، وهو مصدر من قول القائل: وافق هذا العقاب هذا العلم وِفاقا.(24/166)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ عن ابن عباس، قوله: (جَزَاءً وِفَاقًا) يقول: وافَق أعمالهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (جَزَاءً وِفَاقًا) وافق الجزاء أعمال القوم أعمال السوء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع (جَزَاءً وِفَاقًا) قال: بحسب أعمالهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: ثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع، في قوله: (جَزَاءً وِفَاقًا) قال: ثواب وافَق أعمالهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (جَزَاءً وِفَاقًا) قال: عملوا شرّا فجزوا شرّا، وعملوا حسنا فجزوا حسنا، ثم قرأ قول الله: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (جَزَاءً وِفَاقًا) قال: جزاء وافق أعمال القوم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (جَزَاءً وِفَاقًا) قال: وافق الجزاء العمل.
وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا) يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء الكفار كانوا في الدنيا لا يخافون محاسبة الله إياهم في الآخرة على نعمه عليهم، وإحسانه إليهم، وسوء شكرهم له على ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا يَرْجُونَ حِسَابًا) قال: لا يبالون فيصدّقون بالغيب.(24/167)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا) أي: لا يخافون حسابا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا) قال: لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب، وكيف يرجو الحساب من لا يوقن أنه يحيا، ولا يوقن بالبعث، وقرأ قول الله: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ... ) إلى قوله: (أساطِيرُ الأوَّلِينَ) . وقرأ (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ... ) إلى قوله: (جَدِيدٍ) فقال بعضهم لبعض: ماله (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) الرجل مجنون حين يخبرنا بهذا.
وقوله: (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا) يقول تعالى ذكره: وكذّب هؤلاء الكفار بحُججِنا وأدلتنا تكذيبا. وقيل: (كِذَّابًا) ، ولم يقل تكذيبا تصديرا على فعله.
وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: قيل ذلك لأن فعل منه على أربعة فأراد أن يجعله مثل باب أفعلت، ومصدر أفعلت إفعالا فقال: كذّابا، فجعله على عدد مصدره، قال: وعلى هذا القياس تقول: قاتل قتالا قال: وهو من كلام العرب. وقال بعض نحويِّي الكوفة: هذه لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذّبت به كذّابا، وخَرَّقت القميص خِرَّاقا، وكلٌّ فَعَّلْت فمصدرها فِعَّال بلغتهم مشدّدة. قال: وقال لي أعرابي مرّة على المروة يستفتيني: ألحلق أحبّ إليك أم القِصَّار؟ قال: وأنشدني بعض بنِي كلاب:
لَقَدْ طالَ ما ثَبَّطَتْنِي عَنْ صَحَابَتِي ... وَعَنْ حِوَجٍ قِضَّاؤُها مِنْ شِفائِيَا (1)
وأجمعت القرّاء على تشديد الذال من الكِذّاب في هذا الموضع. وكان الكسائي
__________
(1) في المطبوعة: "ما يرى"، والصواب من المخطوطة وابن كثير 1: 42.(24/168)
خاصة يخفِّف الثانية، وذلك في قوله: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) ويقول: هو من قولهم: كاذبته كِذّابا ومكاذبة، ويشدّد هذه، ويقول قوله: (كذّبوا) يقيد الكذّاب بالمصدر.
وقوله: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) يقول تعالى ذكره: وكلّ شيء أحصيناه فكتبناه كتابا، كتبنا عدده ومبلغه وقدره، فلا يعزُب عنا علم شيء منه، ونصب كتابا، لأن في قوله: (أحصَيْناهُ) مصدر أثبتناه وكتبناه، كأنه قيل: وكلّ شيء كتبناه كتابا.
وقوله: (فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) يقول جلّ ثناؤه: يقال لهؤلاء الكفار في جهنم إذا شربوا الحميم والغَسَّاق: ذوقوا أيها القوم من عذاب الله الذي كنتم به في الدنيا تكذّبون، فلن نزيدكم إلا عذابًا على العذاب الذي أنتم فيه، لا تخفيفا منه، ولا ترفُّها.
وقد حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو، قال: لم تنزل على أهل النار آية أشد من هذه: (فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) قال: فهم في مزيد من العذاب أبدا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) ذُكر لنا أن عبد الله بن عمرو كان يقول: ما نزلت على أهل النار آية أشدّ منها (فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) فهم في مزيد من الله أبدا.(24/169)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) } .
يقول: إن للمتقين مَنجَى من النار إلى الجنة، ومخلصا منها لهم إليها، وظفرا بما طلبوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد(24/169)
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) قال: فازوا بأن نَجَوا من النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) إي والله مفازا من النار إلى الجنة، ومن عذاب الله إلى رحمته.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) قال: مفازا من النار إلى الجنة.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاومة، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) يقول: مُنْتَزَها (1) .
وقوله: (حَدَائِقَ) والحدائق: ترجمة وبيان عن المفاز، وجاز أن يترجم عنه، لأن المفاز مصدر من قول القائل: فاز فلان بهذا الشيء، إذا طلبه فظفر به، فكأنه قيل: إن للمتقين ظفرا بما طلبوا من حدائق وأعناب، والحدائق: جمع حديقة، وهي البساتين من النخل والأعناب والأشجار المُحَوَّط عليها الحيطان المحدقة بها، لإحداق الحيطان بها تسمى الحديقة حديقة، فإن لم تكن الحيطان بها محدقة، لم يَقُل لها حديقة، وإحداقها بها: اشتمالها عليها.
وقوله: (وأعْنابًا) يعني: وكرومَ أعناب، واستغنى بذكر الأعناب عن ذكر الكروم.
وقوله: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) يقول: ونواهد في سنّ واحدة.
وبنحو الذي قلنا قي ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَكَوَاعِبَ) يقول: ونواهد. وقوله: (أَتْرَابًا) يقول: مُسْتَوِيَات.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) يعني: النساء المستويات.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) قال: نواهد أترابا، يقول: لسن واحدة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، ثم وصف ما في الجنة
__________
(1) الحديث 151- هذا الإسناد سبق بيان ضعفه في 137. و "محمد بن العلاء" شيخ الطبري: هو "أبو كريب" نفسه في الإسناد السابق، مرة يسميه ومرة يكنيه. وهذا الحديث نقله ابن كثير في التفسير 1: 43، والسيوطي في الدر المنثور 1: 11، والشوكاني في تفسيره الذي سماه فتح القدير 1: 10، ونسبوه أيضًا لابن أبي حاتم في تفسيره.(24/170)
قال: (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا) (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) يعني بذلك النساء أترابا لسنٍّ واحدة.
حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: الكواعب: النواهد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) قال: الكواعب: التي قد نهدت وكَعَبَ ثديها، وقال: أترابا: مستويات، فلانة تربة فلانة، قال: الأتراب: اللِّدات.
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثنا يحيى بن سليمان، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) لِدَّات.
وقوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) يقول: وكأسا ملأى متتابعة على شاربيها بكثرة وامتلاء، وأصله من الدَّهْق: وهو متابعة الضغط على الإنسان بشدّة وعنف، وكذلك الكأس الدهاق: متابعتها على شاربيها بكثرة وامتلاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا مروان، قال: ثنا أبو يزيد يحيى بن ميسرة، عن مسلم بن نَسْطاس، قال: قال ابن عباس لغلامه: اسقني دهاقا، قال: فجاء بها الغلام ملأى، فقال ابن عباس: هذا الدِّهاق.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا موسى بن عمير، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قوله: (كَأْسًا دِهَاقًا) قال: ملأى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، أخبرني سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عباس يُسأل عن (كأْسًا دِهاقًا) قال: دراكا، قال يونس: قال ابن وهب: الذي يَتْبع بعضُه بعضا.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) يقول: ممتلئا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا حميد الطويل، عن ثابت البُنَانيّ، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، في قوله: (كَأْسًا دِهَاقًا) قال: دمادم (1) .
__________
(1) الحديث 152- نقله ابن كثير 1: 43 بإسناد الطبري هذا، وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 11 ونسبه للطبري والحاكم في تاريخ نيسابور والديلمي "بسند ضعيف". وإسناده ضعيف حقًا، بل هو إسناد لا تقوم له قائمة، كما سنذكر:
أما بقية بن الوليد، فالحق أنه ثقة، وإنما نعوا عليه التدليس، ولا موضع له هنا، فإنه صرح بالتحديث.
ولكن عيسى بن إبراهيم، وهو القرشي الهاشمي، كل البلاء منه في هذا الحديث، وفي أحاديث من نحوه، رواها بهذا الإسناد. وقد قال فيه البخاري في الضعفاء: 27: "منكر الحديث"، وكذلك النسائي: 22. وترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 271 - 272، وروى عن أبيه قال: "متروك الحديث"، وعن ابن معين: "ليس بشيء"، وقال ابن حبان في الضعفاء، الورقة 163: "لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد". وترجمته في الميزان ولسان الميزان فيها العجب.
وشيخه "موسى بن أبي حبيب" مثله: ضعيف تالف، وقال الذهبي في الميزان: "ضعفه أبو حاتم، وخبره ساقط. وله عن الحكم بن عمير، رجل قيل: له صحبة. والذي أراه أنه لم يلقه. وموسى -مع ضعفه- فمتأخر عن لقي صحابي كبير". فالبلاء من هذين أو من أحدهما.
حتى لقد شك بعض الحفاظ في وجود الصحابي نفسه "الحكم بن عمير"، من أجلهما! فترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 2 / 125، قال: "الحكم بن عمير: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يذكر السماع ولا لقاء، أحاديث منكرة، من رواية ابن أخيه موسى بن أبي حبيب، وهو شيخ ضعيف الحديث، ويروي عن موسى بن أبي حبيب عيسى بن إبراهيم، وهو ذاهب الحديث، سمعت أبي يقول ذلك".
وحتى إن الذهبي أنكر صحبته وترجم له في الميزان، وأخطأ في النقل فيه عن أبي حاتم، ذكر أنه ضعف الحكم! وكلام أبي حاتم -كما ترى- غير ذلك. وتعقبه الحافظ في لسان الميزان 2: 337 وأثبت أنه صحابي، بما ذكره ابن عبد البر وابن منده وأبو نعيم والترمذي وغيرهم، وأن الدارقطني قال: "كان بدريًا".
وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات (ص 54) في طبقة الصحابة، وقال: "يقال إن له صحبة". ونقل الحافظ هذا في اللسان عن ابن حبان، ولكن سها فزعم أنه ذكره "في ثقات التابعين".
وترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب، رقم 476: باسم "الحكم بن عمرو الثمالي، وثمالة في الأزد، شهد بدرًا، ورويت عنه أحاديث مناكير من أحاديث أهل الشأم، لا تصح". وتسمية أبيه باسم "عمرو" خطأ قديم في نسخ الاستيعاب، لأن ابن الأثير تبعه في أسد الغابة 1: 26، وأشار إلى الغلط فيه، ثم ترجمه على الصواب: "الحكم بن عمير الثمالي، من الأزد، وكان يسكن حمص". وحقق الحافظ ترجمته في الإصابة 2: 30 تحقيقًا جيدًا.(24/171)
قال ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: مَلأى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن يونس، عن الحسن (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: الملأى.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: مَلأى.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، في قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: مُتْرَعة مَلأى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: الدهاق: المَلأى المُتْرَعة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (كأْسًا دِهاقًا) قال: الدهاق: الممتلئة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كأْسًا دِهاقًا) قال: الدِّهاق المملوءة.
وقال آخرون: الدِّهاق: الصافية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن يحيى الأزديّ وعباس بن محمد، قالا ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: ثنا عمر بن عطاء، عن عكرِمة، في قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: صافية.
وقال آخرون: بل هي المتتابعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال سعيد بن جُبير في قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) دهاقًا: المتتابعة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،(24/172)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: المتتابع.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا جرير، عن حصين، عن عكرِمة، عن ابن عباس، في قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: الملأى المتتابعة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) قال: المتتابعة.
وقوله: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) يقول تعالى ذكره: لا يسمعون في الجنة لغوا، يعني باطلا من القول، ولا كذّابًا، يقول: ولا مكاذبة، أي لا يكذب بعضهم بعضا، وقرأت القرّاء في الأمصار بتشديد الذال على ما بيَّنت في قوله: (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا) سوى الكسائيّ فإنه خَفَّفها لما وصفت قبل، والتشديد أحبّ إليّ من التخفيف، وبالتشديد القراءة، ولا أرى قراءة ذلك بالتخفيف لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه، ومن التخفيف قول الأعشى:
فَصَدَقْتُها وكَذبْتُها ... والمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) قال: باطلا وإثمًا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) قال: وهي كذلك ليس فيها لغوٌ ولا كذَّاب.
القول في تأويل قوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
__________
(1) الخبر 153- هذا الإسناد صحيح، وسواء صح أم ضعف، فلا قيمة له، إذ منتهاه إلى كعب الأحبار. وما كان كلام كعب حجة قط، في التفسير وغيره. و "الصدفي": بفتح الصاد والدال المهملتين، نسبة إلى "الصدف" بفتح الصاد وكسر الدال، وهي قبيلة من حمير، نزلت مصر. و "السلولي"، هو: عبد الله بن ضمرة السلولي، تابعي ثقة.
وهذا الخبر -عن كعب- ذكره ابن كثير 1: 43 دون إسناد ولا نسبة. وذكر السيوطي 1: 11 ونسبه للطبري وابن أبي حاتم.(24/173)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً) أعطى الله هؤلاء المتقين ما وصف في هذه الآيات ثوابًا من ربك بأعمالهم، على طاعتهم إياه في الدنيا.
وقوله: (عَطاءً) يقول: تفضلا من الله عليهم بذلك الجزاء، وذلك أنه جزاهم بالواحد عشرا في بعض وفي بعض بالواحد سبع مِئَةٍ، فهذه الزيادة وإن كانت جزاء، فعطاء من الله.
وقوله: (حِسابًا) يقول: محاسبة لهم بأعمالهم لله في الدنيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) قال: عطاء منه حسابًا لما عملوا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) : أي عطاء كثيرا، فجزاهم بالعمل اليسير الخير الجسيم، الذي لا انقطاع له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة، في قوله: (عَطَاءً حِسَابًا) قال: عطاء كثيرا، وقال مجاهد: عطاء من الله حسابًا بأعمالهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قول الله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) فقرأ: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ... ) إلى (عَطَاءً حِسَابًا) قال: فهذه جزاء بأعمالهم عطاء الذي أعطاهم عملوا له واحدة، فجزاهم عشرا، وقرأ قول الله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ، وقرأ قول الله: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) قال: يزيد من يشاء، كان هذا كله عطاء، ولم يكن أعمالا يحسبه لهم، فجزاهم به حتى كأنهم عملوا له، قال: ولم يعملوا إنما عملوا عشرا، فأعطاهم مئة، وعملوا مئة، فأعطاهم ألفا، هذا كله عطاء، والعمل الأوّل، ثم حَسَب ذلك حتى كأنهم عملوا فجزاهم كما جزاهم بالذي عملوا.(24/174)
وقوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ) يقول جلّ ثناؤه: جزاء من ربك ربّ السموات السبع والأرض وما بينهما من الخلق.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة: (رَبُّ السَّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما الرَّحْمَنُ) بالرفع في كليهما. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة وبعض الكوفيين: (رَبِّ) خفضًا: (الرَّحْمَنُ) رفعًا ولكلّ ذلك عندنا وجه صحيح، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب، غير أن الخفض في الربّ، لقربه من قوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ) : أعجب إليّ، وأما (الرَّحْمَنُ) بالرفع فإنه أحسن لبعده من ذلك.
وقوله: (الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) يقول تعالى ذكره: الرحمن لا يقدر أحد من خلقه خطابه يوم القيامة، إلا من أذن له منهم وقال صوابًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) قال: كلاما.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) أي كلاما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) قال: لا يملكون أن يخاطبوا الله، والمخاطِب: المخاصم الذي يخاصم صاحبه.
وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) اختلف أهل العلم في معنى الروح في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو مَلَك من أعظم الملائكة خَلْقًا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن خلف العَسْقَلانيّ، قال: ثنا روّاد بن الجرّاح، عن أبي حمزة، عن الشعبيّ، عن علقمة، عن ابن مسعود، قال: الرُّوح: ملك في السماء الرابعة، هو أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة يسبح الله كلّ يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يخلق الله من كلّ تسبيحة مَلَكا من الملائكة، يجيء يوم القيامة صفًّا وحده.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس،(24/175)
قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) قال: هو ملك أعظم الملائكة خَلْقًا.
وقال آخرون: هو جبريل عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال: جبريل عليه السلام.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الضحاك (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال: الروح: جبريل عليه السلام.
حدثنا محمد بن خَلَف العَسْقَلانيّ، قال: ثنا روّاد بن الجرّاح، عن أبي حمزة عن الشعبىّ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال: الروح جبريل عليه السلام.
وقال آخرون: خَلْق من خلق الله في صورة بني آدم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: (الرُّوحُ) خَلْق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مسلم، عن مجاهد، قال: (الرُّوحُ) : خلق لهم أيد وأرجل، وأراه قال: ورءوس يأكلون الطعام، ليسوا ملائكة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: يشبهون الناس وليسوا بالناس.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن مجاهد، قال: (الرُّوحُ) خلق كخلق آدم.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) قال: الروح خلق من خلق الله يضعفون على الملائكة أضعافًا، لهم أيد وأرجل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن إسماعيل، عن أبي صالح مولى أم هانئ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) قال: الروح: خلق كالناس، وليسوا بالناس.
وقال آخرون: هم بنو آدم.(24/176)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال: هم بنو آدم، وهو قول الحسن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قال: الروح بنو آدم. وقال قتادة: هذا مما كان يكتمه ابن عباس.
وقال آخرون: قيل: ذلك أرواح بني آدم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) قال: يعني حين تقوم أرواح الناس مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تردّ الأرواح إلى الأجساد.
وقال آخرون: هو القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، كان أبي يقول: الروح: القرآن، وقرأ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ) .
والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ خَلْقَه لا يملكون منه خطابا، يوم يقوم الرُّوح، والرُّوح خَلْق من خَلْقِه، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذكرت، والله أعلم أيّ ذلك هو، ولا خبر بشيء من ذلك أنه المعنيّ به دون غيره يجب التسليم له، ولاحجة تدلّ عليه، وغير ضائر الجهل به.
وقيل: إنه يقول: سِمَاطان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا منصور بن عبد الرحمن، عن الشعبيّ، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ) قال: هما سِمَاطان (1) لربّ العالمين يوم القيامة؛ سِماط من الروح، وسِماط من الملائكة.
__________
(1) الحديث 154 - إسناده صحيح. علي بن الحسن بن عبدويه أبو الحسن الخراز، شيخ الطبري: ثقة، مترجم في تاريخ بغداد 11: 374 - 375. و "الخراز": ثبت في الطبري بالخاء والراء وآخره زاي. وفي تاريخ بغداد "الخزاز" بزاءين، ولم نستطع الترجيح بينهما. مسلم بن عبد الرحمن الجرمي: مترجم في لسان الميزان 6: 32 باسم "مسلم بن أبي مسلم" فلم يذكر اسم أبيه، وهو هو. ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 13: 100، قال: "مسلم بن أبي مسلم الجرمي، وهو مسلم بن عبد الرحمن"، وقال: "كان ثقة، نزل طرسوس، وبها كانت وفاته". و "الجرمي": رسمت في أصول الطبري ولسان الميزان "الحرمي" بدون نقط. ولكنهم لم ينصوا على ضبطه. وعادتهم في مثل هذا أن ينصوا على ضبط القليل والشاذ، وأن يدعوا الكثير الذي يأتي على الجادة في الضبط، والجادة في هذا الرسم "الجرمي" بالجيم، وبذلك رسم في تاريخ بغداد، فعن هذا أو ذاك رجحناه. و "محمد بن مصعب القرقساني"، و "مبارك بن فضالة": مختلف فيهما. وقد رجحنا توثيقهما في شرح المسند: الأول في 3048، والثاني في 521. و "الحسن": هو البصري، وقد أثبتنا في شرح صحيح ابن حبان، في الحديث 132 أنه سمع من الأسود بن سريع.
وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور 1: 12 عن تفسير الطبري. ورواه أحمد في المسند بمعناه مختصرًا 15650 (3: 435 حلبي) عن روح بن عبادة عن عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن الأسود بن سريع، قال: "قلت: يا رسول الله، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي؟ قال: أما إن ربك يحب الحمد". وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات أثبات. وذكره ابن كثير في التفسير 1: 43 عن المسند. وكذلك ذكره السيوطي، ونسبه أيضًا للنسائي والحاكم وغيرهما.
ورواه أحمد أيضًا 15654، والبخاري في الأدب المفرد: 51، بنحوه، في قصة مطولة، من رواية عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الأسود بن سريع.
ومعناه ثابت صحيح، من حديث ابن مسعود، في المسند 4153: "لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه". ورواه أيضًا البخاري ومسلم وغيرهما.(24/177)
وقوله: (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ) قيل: إنهم يُؤْذَن لهم في الكلام حين يُؤْمَر بأهل النار إلى النار، وبأهل الجنة إلى الجنة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: ثنا أبو عمرو - الذي يقصّ في طيئ - عن عكرمة، وقرأ هذه الآية: (إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) قال: يُمرّ بأناس من أهل النار على ملائكة، فيقولون: أين تذهبون بهؤلاء؟ فيقال: إلى النار، فيقولون: بما كَسَبت أيديهم، وما ظلمهم الله، ويمرّ بأناس من أهل الجنة على ملائكة، فيقال: أين تذهبون بهؤلاء؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: برحمة الله دخلتم الجنة، قال: فيُؤْذَن لهم في الكلام، أو نحو ذلك.
وقال آخرون: (إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ) بالتوحيد (وَقَالَ صَوَابًا) في الدنيا، فوحَّد الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) يقول: إلا من أذن له الربّ بشهادة أن لا إله إلا الله، وهي منتهى الصواب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَقَالَ صَوَابًا) قال: حقا في الدنيا وعمل به.
حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: (إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) قال: لا إله إلا الله.
قال أبو حفص: فحدثت به يحيى بن سعيد، فقال: أنا كتبته عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن أبي معاوية.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص بن عمر العَدَنيّ، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرِمة في قوله: (إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) قال: لا إله إلا الله.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه أنهم لا يتكلمون يوم يقوم الروح والملائكة صفا، إلا من أذن له منهم في الكلام الرحمن،(24/178)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
وقال صوابا، فالواجب أن يقال كما أخبر إذ لم يخبرنا في كتابه، ولا على لسان رسوله، أنه عَنَى بذلك نوعا من أنواع الصواب، والظاهر محتمل جميعه.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) } .
يقول تعالى ذكره: (ذَلِك الْيَوْمُ) يعني: يوم القيامة، وهو يوم يقوم الروح والملائكة صفا (الْحَقُّ) يقول: إنه حقّ كائن لا شكّ فيه.
وقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) يقول: فمن شاء من عباده اتخذ بالتصديق بهذا اليوم الحقّ، والاستعداد له، والعمل بما فيه النجاة له من أهواله (مآبًا) ، يعني: مرجعا، وهو مَفْعَلٌ من قولهم: آب فلان من سفره، كما قال عبيد:
وكُل ذِي غَيْبَةٍ يَئُوب ... وغائِبُ المَوْتِ لا يَئُوبُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) قال: اتخذوا إلى الله مآبًا بطاعته، وما يقرّبهم إليه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) قال: سبيلا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (مآبًا) يقول: مرجعا منزلا.
وقوله: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا) يقول: إنا حذّرناكم أيها الناس عذابًا قد دنا منكم وقرُب، وذلك (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) المؤمن (مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) من خير اكتسبه في الدنيا، أو شرّ سَلَفَهُ، فيرجو ثواب الله على صالح أعماله، ويخاف عقابه على سيئها.
__________
(1) انظر ما كتبناه آنفًا: 126 عن معنى "لا تمانع".(24/179)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) قال: المرء المؤمن يحذَر الصغيرة، ويخاف الكبيرة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن محمد بن جحَّادة، عن الحسن (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) قال: المرء المؤمن.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن محمد بن جحادة، عن الحسن، في قوله: (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) قال: المرء المؤمن.
وقوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) يقول تعالى ذكره: ويقول الكافر يومئذ تمنيا لما يلقى من عذاب الله الذي أعدّه لأصحابه الكافرين به، يا ليتني كنت ترابًا كالبهائم التي جُعِلت ترابًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ، قالا ثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو، قال: " إذا كان يوم القيامة، مُدّ الأديم، وحُشِر الدوابّ والبهائم والوحش، ثم يحصل القصاص بين الدوابّ، يقتصّ للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص بين الدوابّ، قال لها: كوني ترابا، قال: فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر؛ قال: وحدثني جعفر بن بُرْقَان، عن يزيد بن الأصمّ، عن أبي هريرة، قال: " إن الله يحشر الخلق كلهم، كل دابة وطائر وإنسان، يقول للبهائم والطير: كونوا ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرظيِّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَقْضِي اللهُ بَينَ خَلْقِهِ الجِنِّ والإنْسِ والبَهائم، وإنَّه لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ الجَمَّاءَ مِنَ القَرْناءِ، حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدَةٍ(24/180)
لأخْرَى، قالَ اللهُ: كُونُوا تُرَابًا، فَعِنْدَ ذلكَ يَقُولُ الكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) وهو الهالك المفرط العاجز، وما يمنعه أن يقول ذلك وقد راج عليه عَوْرَاتُ عمله، وقد استَقبل الرحمن وهو عليه غضبان، فتمنى الموت يومئذ، ولم يكن في الدنيا شيء أكرهَ عنده من الموت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، قال: إذا قُضِيَ بين الناس، وأمر بأهل النار إلى النار قيل لمؤمني الجنّ ولسائر الأمم سوى ولد آدم: عُودُوا ترابًا، فإذا نظر الكفار إليهم قد عادوا ترابًا، قال الكافر: يا ليتني يا ليتني كنت ترابًا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، في قوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) قال: إذا قيل للبهائم: كونوا ترابًا، قال الكافر: يا ليتني كنت ترابًا.
آخر تفسير سورة عم يتساءلون.(24/181)
تفسير سورة النازعات(24/183)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) } .
أقسم ربنا جلّ جلاله بالنازعات، واختلف أهل التأويل فيها، وما هي، وما تنزع؟ فقال بعضهم: هم الملائكة التي تنزع نفوس بني آدم، والمنزوع نفوس الآدميين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا النضر بن شُمَيل، قال: أخبرنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت أبا الضحى، عن مسروق، عن عبد الله (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: الملائكة.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق أنه كان يقول في النازعات: هي الملائكة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يوسف بن يعقوب، قال: ثنا شعبة، عن السُّدِّي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في النازعات قال: حين تنزع نفسه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: تنزع الأنفس.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: نزعت أرواحهم، ثم غرقت، ثم قذف بها في النار.
وقال آخرون: بل هو الموت ينزع النفوس.(24/185)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: الموت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق.
حدثنا الفضل بن إسحاق، قال: ثنا أبو قُتَيبة، قال: ثنا أبو العوّام، أنه سمع الحسن في (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: النجوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: النجوم.
وقال آخرون: هي القسيّ تنزع بالسهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن واصل بن السائب، عن عطاء (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: القسيّ.
وقال آخرون: هي النفس حين تُنزع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن السدّي (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) قال: النفس حين تَغرق في الصدر.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالنازعات غرقا، ولم يخصص نازعة دون نازعة، فكلّ نازعة غرقا، فداخلة في قسمه، ملكا كان أو موتا، أو نجما، أو قوسا، أو غير ذلك. والمعنى: والنازعات إغراقا كما يغرق النازع في القوس.
وقوله: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) اختلف أهل التأويل أيضا فيهنّ، وما هنّ، وما الذي ينشط، فقال بعضهم: هم الملائكة، تنشِط نفس المؤمن فتقبضُها، كما ينشط(24/186)
العقال من البعير إذا حُلّ عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: الملائكة.
وكان الفرّاء يقول: الذي سمعت من العرب أن يقولوا: أنشطت، وكأنما أنشط من عقال، ورَبْطُها: نشطها، والرابط: الناشط؛ قال: وإذا رَبَطْتَ الحبل في يد البعير فقد نشطته تنشطه، وأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته.
وقال آخرون: (النَّاشِطاتِ نَشْطا) هو الموت يَنْشِط نفسَ الإنسان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: الموت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يوسف بن يعقوب، قال: ثنا شعبة عن السديّ، عن ابن عباس (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: حين تَنشِط نفسه.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: نشطها حين تُنشط من القدمين.
وقال آخرون: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: النجوم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: هنّ النجوم.(24/187)
وقال آخرون: هي الأوهاق (1) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل بن السائب، عن عطاء (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قال: الأوهاق.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أقسم بالناشطات نشطا، وهي التي تنشط من موضع إلى موضع، فتذهب إليه، ولم يخصص الله بذلك شيئا دون شيء، بل عم القسم بجميع الناشطات والملائكة تنشط من موضع إلى موضع، وكذلك الموت، وكذلك النجوم والأوهاق وبقر الوحش أيضا تَنْشُط، كما قال الطِّرِمَّاح:
وَهَلْ بِحَلِيفِ الخَيْلِ مِمَّنْ عَهِدْتُه ... بِهِ غَيْرُ أُحْدانَ النَّوَاشِطِ رُوع (2)
يعني بالنواشط: بقر الوحش، لأنها تنشط من بلدة إلى بلدة، كما قال رؤبة بن العجَّاج:
تَنَشَّطَتْهُ كُلُّ مِغْلاةِ الْوَهْق (3)
والهموم تنشط صاحبها، كما قال هِيمان بن قحافة:
أمْسَتْ هُمُومِي تَنْشِطُ المَناشِطَا ... الشَّامَ بِي طَوْرًا وَطَوْرًا وَاسِطَا (4)
فكل ناشط فداخل فيما أقسم به إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بأن المعنيّ بالقسم من ذلك بعض دون بعض.
وقوله: (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) يقول تعالى ذكره: واللواتي تسبح سبحا.
__________
(1) تكلم العلماء في نقض ما ذهب إليه أبو جعفر من أن "الحمد والشكر" بمعنى، وأن أحدهما يوضع موضع الآخر، وهو ما ذهب إليه المبرد أيضًا. انظر القرطبي 1: 116، وابن كثير 1: 42، وأخطأ النقل عن القرطبي، فظنه استدل لصحة قول الطبري، وهو وهم. والذي قاله الطبري أقوى حجة وأعرق عربية من الذين ناقضوه. وقوله "مصدر أشكر"، وقوله "أن يصدر من الحمد"، يعني به المفعول المطلق. وانظر ما مضى: 117، تعليق: 1.
(2) في المطبوعة: "مبني على أن معناه"، أدخلوا عليه التبديل.
(3) سياق الكلام: "أن العرب من شأنها. . . حذف" وما بينهما فصل.
(4) تأتي في تفسير آية سورة المؤمنون: 87 (18: 27 بولاق) .، ونسبهما لبعض بني عامر، وكذلك في معاني القرآن للفراء 1: 170 وهما في البيان والتبيين 3: 184 منسوبان للوزيري، ولم أعرفه، وفيها اختلاف في الرواية. الرمس: القبر المسوى عليه التراب. يقول: أصبح قبرا يزار أو يناح عليه. ورواه الجاحظ: "سأصير ميتًا"، وهي لا شيء. والنواعج جمع ناعجة: وهي الإبل السراع، نعجت في سيرها، أي سارت في كل وجه من نشاطها. وفي البيان ومعاني الفراء "النواجع"، وليست بشيء.(24/188)
واختلف أهل التأويل في التي أقسم بها جلّ ثناؤه من السابحات، فقال بعضهم: هي الموت تسبح في نفس ابن آدم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) قال: الموت، هكذا وجدته في كتابي (1) .
وقد حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) قال: الملائكة، وهكذا وجدت هذا أيضا في كتابي، فإن يكن ما ذكرنا عن ابن حميد صحيحا، فإن مجاهدا كان يرى أن نزول الملائكة من السماء سبَّاحة، كما يقال للفرس الجواد: إنه لسابح إذا مرّ يُسرعُ.
وقال آخرون: هي النجوم تَسْبَح في فلكها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) قال: هِي النجوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: هي السفن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل بن السائب، عن عطاء (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) قال: السفن.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أقسم بالسابحات سبحا من خلقه، ولم يخصص من ذلك بعضا دون بعض، فذلك (2) كل سابح، لما وصفنا قبل في النازعات (3) .
وقوله: (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) اختلف أهل التأويل فيها، فقال بعضهم: هي الملائكة.
__________
(1) رواية الجاحظ: "فقال السائلون: من المسجى". وفي المعاني "السائرون".
(2) يأتي في تفسير آيات سورة البقرة: 7 / وسورة آل عمران: 49 / وسورة المائدة: 53 / وسورة الأنعام: 99 / وسورة الأنفال: 14 / وسورة يونس: 71 / وسورة الرحمن: 22. وهو بيت مستشهد به في كل كتاب.
(3) في المطبوعة: "في تنزيل قول الله".(24/189)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) قال: الملائكة.
وقد حدثنا بهذا الحديث أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) قال: الموت.
وقال آخرون: بل هي الخيل السابقة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن واصل بن السائب، عن عطاء (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) قال: الخيل.
وقال آخرون: بل هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) قال: هي النجوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
والقول عندنا في هذه مثل القول في سائر الأحرف الماضية.
وقوله: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) يقول: فالملائكة المدبرة ما أمرت به من أمر الله، وكذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) قال: هي الملائكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
وقوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) يقول تعالى ذكره: يوم ترجف الأرض والجبال للنفخة الأولى (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) تتبعها الأخرى بعدها، هي النفخة الثانية التي ردفت الأولى لبعث يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس،(24/190)
قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) يقول: النفخة الأولى.
وقوله: (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) يقول: النفخة الثانية.
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) يقول: تتبع الآخرة الأولى، والراجفة: النفخة الأولى، والرادفة: النفخة الآخرة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) قال: هما النفختان: أما الأولى فتميت الأحياء، وأما الثانية فتُحيي الموتى، ثم تلا الحسن: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) قال: هما الصيحتان، أما الأولى فتُميت كل شيء بإذن الله، وأما الأخرى فتُحيي كل شيء بإذن الله، إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " بَيْنَهُما أرْبَعُونَ" قال أصحابه: والله ما زادنا على ذلك. وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " يُبْعَثُ فِي تِلْك الأرْبَعِينَ مَطَرٌ يُقال لَهُ الْحَياةُ، حتى تَطِيبَ الأرْضُ وتَهْتَزَّ، وتَنْبُتَ أجْسادُ النَّاسِ نَباتَ البَقْل، ثُمَّ تُنْفَخُ الثَّانِيَةُ، فإذَا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد ابن أبي زياد عن رجل، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الصور، فقال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصور؟ قال: " قَرْنٌ". قال: فكيف هو؟ قال: " قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: الأولى نَفْخَةُ الفَزَع، والثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْق، والثَّالِثَةُ نَفْخَةُ القِيام، فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ إلا مَنْ شاء الله، ويأمر الله فيدِيمُها، ويطوّلها، ولا يفتر، وهي التي تقول: ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فَوَاق فيسير الله الجبال، فتكون سَرابًا، وتُرَجّ الأرضُ بأهلها رجًّا، وهي التي يقول: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبيد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبيّ، عن أبيه، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَوْمَ(24/191)
تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) فقال: " جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه".
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) : النفخة الأولى (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) : النفخة الأخرى.
وقال آخرون: في ذلك ما حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) قال: ترجف الأرض والجبال، وهي الزلزلة وقوله: (الرَّادِفَةُ) قال: هو قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) (فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) .
وقال آخرون: ترجف الأرض، والرادفة: الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) الأرض، وفي قوله: (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) قال: الرادفة: الساعة.
واختلف أهل العربية في موضع جواب قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) فقال بعض نحويِّي البصرة: قوله (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) : قسم والله أعلم على (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) وإن شئت جعلتها على (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) وهو كما قال الله وشاء أن يكون في كل هذا، وفي كلّ الأمور. وقال بعض نحويي الكُوفة: جواب القسم في النازعات: ما تُرِك لمعرفة السامعين بالمعنى، كأنه لو ظهر كان لَتُبْعَثُنّ ولتحاسبنّ. قال: ويدل على ذلك (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) . ألا ترى أنه كالجواب لقوله: (لَتُبْعَثُنَّ) إذ قال: (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) ، وقال آخر منهم نحو هذا، غير أنه قال: لا يجوز حذف اللام في جواب اليمين، لأنها إذا حذفت لم يُعرف موضعها، وذلك أنها تلي كلّ كلام.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن جواب القسم في هذا الموضع مما استغني عنه بدلالة الكلام، فترك ذكره.
وقوله: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) يقول تعالى ذكره: قلوب خَلْقٍ من خلقه يومئذ، خائفة من عظيم الهول النازل.(24/192)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) يقول: خائفة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَاجِفَةٌ) : خائفة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في (وَاجِفَةٌ) قال: خائفة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) يقول: خائفة، وجفت مما عاينت يومئذ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) قال: الواجفة: الخائفة.
وقوله: (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) يقول: أبصار أصحابها ذليلة مما قد علاها من الكآبة والحزن من الخوف والرعب الذي قد نزل بهم من عظيم هول ذلك اليوم.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) قال: خاشعة للذلّ الذي قد نزل بها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) يقول: ذليلة.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) } .
يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المكذّبون بالبعث من مشركي قريش إذا قيل لهم: إنكم مبعوثون من بعد الموت: أئنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات، فراجعون أحياء كما كنا قبل هلاكنا، وقبل مماتنا، وهو من قولهم: رجع فلان على حافرته: إذا(24/193)
رجع من حيث جاء؛ ومنه قول الشاعر:
أحافِرَةً عَلى صَلَعٍ وشَيْبٍ ... مَعاذَ اللهِ مِنْ سَفَهٍ وطَيْشٍ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (الْحَافِرَةِ) يقول: الحياة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) يقول: أئنا لنحيا بعد موتنا، ونبعث من مكاننا هذا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة يقول: (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) أئنا لمبعوثون خلقا جديدا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فِي الْحَافِرَةِ) قال: أي مردودون خَلقا جديدا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس أو محمد بن كعب القُرَظيّ (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) قال: في الحياة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) قال: في الحياة.
وقال آخرون: الحافرة: الأرض المحفورة التي حُفرت فيها قبورهم، فجعلوا ذلك نظير قوله: (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) . يعني مدفوق، وقالوا: الحافرة بمعنى المحفورة، ومعنى الكلام عندهم: أئنا لمردودون في قبورنا أمواتا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح،
__________
(1) انظر ما مضى آنفًا لحديث رقم: 151.(24/194)
عن مجاهد، قوله: (الْحَافِرَةِ) قال: الأرض: نبعث خلقا جديدا، قال: البعث.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) قال: الأرض، نبعث خلقا جديدا.
وقال آخرون: الحافرة: النار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قول الله: (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) قال: الحافرة: النار، وقرأ قول الله (تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) قال: ما أكثر أسماءها، هي النار، وهي الجحيم، وهي سَقَرُ، وهي جهنم، وهي الهاوية، وهي الحافرة، وهي لَظَى، وهي الحُطَمة.
وقوله: (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) اختلفت القرّاء قي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والحجاز والبصرة (نَخِرَةً) بمعنى: بالية. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (ناخِرَةً) بألف، بمعنى: أنها مجوّفة تنخَر الرياح في جوفها إذا مرّت بها. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول: الناخرة والنخرة سواء في المعنى، بمنزلة الطامع والطمِع، والباخل والبَخِل؛ وأفصح اللغتين عندنا وأشهرهما عندنا (نَخِرَةً) ، بغير ألف، بمعنى: بالية، غير أن رءوس الآي قبلها وبعدها جاءت بالألف، فأعجب إليّ لذلك أن تُلْحق ناخرة بها ليتفق هو وسائر رءوس الآيات، لولا ذلك كان أعجب القراءتين إليّ حذف الألف منها.
* ذكر من قال (نَخِرَةً) : بالية:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) فالنخرة: الفانية البالية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (عِظَامًا نَخِرَةً) قال: مرفوتة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا) تكذيبا بالبعث (نَاخِرَةً) بالية. قالوا: (تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) يقول جلّ ثناؤه عن قيل هؤلاء المكذّبين بالبعث، قالوا: تلك: يعنون تلك الرجعة أحياء بعد الممات، إذًا:(24/195)
يعنون الآن، كرّة: يعنون رجعة، خاسرة: يعنون غابنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) : أي رجعة خاسرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) قال: وأيّ كرّة أخسر منها، أُحيوا ثم صاروا إلى النار، فكانت كرّة سوء.
وقوله: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) يقول تعالى ذكره: فإنما هي صيحة واحدة، ونَفخة تنفخ في الصور، وذلك هو الزجرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) قال: صيحة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) قال: الزجرة: النفخة في الصور.
وقوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) يقول تعالى ذكره: فإذا هؤلاء المكذبون بالبعث المتعجبون من إحياء الله إياهم من بعد مماتهم، تكذيبا منهم بذلك بالساهرة، يعني بظهر الأرض، والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، وأراهم سموا ذلك بها، لأن فيه نوم الحيوان وسهرها، فوصف بصفة ما فيه؛ ومنه قول أُميَّة بن أبي الصَّلْت:
وفِيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ ... وَمَا فاهُوا بِهِ لَهُمُ مُقِيمُ (1)
__________
(1) ديوانه القصيدة: 15 / 32. وسيد كندة هو حجر أبو امرئ القيس. ورب معد: حذيفة بن بدر، كما يقول شارح ديوانه، وأنا في شك منه، فإن حذيفة بن بدر قتل بالهباءة. ولبيد يذكر خبتًا وعرعرًا، وهما موضعان غيره.(24/196)
ومنه قول أخي نهم يوم ذي قار لفرسه:
أَقْدِمْ "مِحاجُ" إنها الأساوِرَه ... وَلا يَهُولَنَّكَ رِجْلٌ نادِرَهْ ... فإنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ ... ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَها فِي الْحَافِرَهْ ... مِنْ بَعْدِ ما كُنْتَ عِظاما ناخِرَهْ (1)
واختلف أهل التأويل في معناها، فقال بعضهم مثل الذي قلنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرِمة، عن ابن عباس، في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: على الأرض، قال: فذكر شعرا قاله أُمية بن أبي الصلت، فقال:
عِنْدَنا صَيْدُ بَحْرٍ وصَيْدُ ساهِرَةٍ (2)
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا أبو محصن، عن حصين، عن عكرِمة، في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: الساهرة: الأرض، أما سمعت: لهم صيد بحر، وصيد ساهرة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
__________
(1) ديوانه: 89، والمخصص 7: 154. الطريف والطارف: المال المستحدث، خلاف التليد والتالد: وهو العتيق الذي ولد عندك.
(2) ديوانه: 25. سلأ السمن يسلؤه: طبخه وعالجه فأذاب زبده. والسلاء، بكسر السين: السمن. وحقن اللبن في الوطب، والماء في السقاء: حبسه فيه وعبأه. رب نحى السمن يربه: دهنه بالرب، وهو دبس كل ثمرة، وكانوا يدهنون أديم النحى بالرب حتى يمتنوه ويصلحوه، فتطيب رائحته، ويمنع السمن أن يرشح، من غير أن يفسد طعمه أو ريحه. وإذا لم يفعلوا ذلك بالنحى فسد السمن. وأديم مربوب: جدا قد أصلح بالرب. يقول: فعلوا فعل هذه الحمقاء، ففسد ما جهدوا في تدبيره وعمله.(24/197)
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) يعني: الأرض.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا عُمارة بن أبي حفصة، عن عكرِمة، في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: فإذا هم على وجه الأرض، قال: أو لم تسمعوا ما قال أُمية بن أبي الصلت لهم:
وفِيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ ... .......
حدثنا عمارة بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا عمارة، عن عكرمة، في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: فإذا هم على وجه الأرض، قال أمية:
وفِيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ ... .......
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) فإذا هم على وجه الأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بِالسَّاهِرَةِ) قال: المكان المستوي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما تباعد البعث في أعين القوم قال الله: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) يقول: فإذا هم بأعلى الأرض بعد ما كانوا في جوفها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (بِالسَّاهِرَةِ) قال: فإذا هم يخرجون من قبورهم فوق الأرض والأرض، الساهرة، قال: فإذا هم يخرجون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة وأبي الهيثم، عن سعيد بن جُبير (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: بالأرض.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جُبير، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حصين، عن عكرمة، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) : وجه الأرض.(24/198)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: الساهرة ظهر الأرض فوق ظهرها.
وقال آخرون: الساهرة: اسم مكان من الأرض بعينه معروف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثني الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي العاتكة، قوله: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: بالصُّقْع الذي بين جبل حسان وجبل أريحاء، يمدّه الله كيف يشاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: أرض بالشام.
وقال آخرون: هو جبل بعينه معروف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا الحسن بن بلال، قال: ثنا حماد، قال: أخبرنا أبو سنان، عن وهب بن منبه، قال في قول الله: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: الساهرة: جبل إلى جنب بيت المقدس.
وقال آخرون: هي جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان العقيلي، قال: ثني سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال: في جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) } .(24/199)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هل أتاك يا محمد حديث موسى بن عمران، وهل سمعت خبره حين ناجاه ربه بالواد المقدّس، يعني بالمقدّس: المطهر المبارك. وقد ذكرنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى، فأغنى عن إعادته في هذا(24/199)
الموضع، وكذلك بيَّنَّا معنى قوله: (طُوًى) وما قال فيه أهل التأويل، غير أنا نذكر بعض ذلك هاهنا.
وقد اختلف أهل التأويل في قوله: (طُوى) فقال بعضهم: هو اسم الوادي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (طُوًى) اسم الوادي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى) قال: اسم المقدّس طوى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى) كنا نحدّث أنه قدّس مرّتين، واسم الوادي طُوًى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: طأ الأرض حافيا.
* ذكر بعض من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى) قال: طأ الأرض بقدمك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن الوادي قدّس طوى: أي مرّتين، وقد بيَّنا ذلك كله ووجوهه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقرأ ذلك الحسن بكسر الطاء، وقال: بُثَّتْ فيه البركة والتقديس مرّتين. حدثنا بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة (طُوًى) بالضمّ ولم يجرّوه وقرأ ذلك بعض أهل الشأم والكوفة (طُوًى) بضمّ الطاء والتنوين.
وقوله: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) يقول تعالى ذكره: نادى موسى ربُّه: أن اذهب إلى فرعون، فحذفت " أن" إذ كان النداء قولا فكأنه قيل لموسى قال ربه: اذهب إلى فرعون. وقوله: (إِنَّهُ طَغَى) يقول: عتا وتجاوز حدّه في العدوان، والتكبر على ربه.
وقوله: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) يقول: فقل له: هل لك إلى أن تتطهَّر(24/200)
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
من دنس الكفر، وتؤمِن بربك؟
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) قال: إلى أن تُسلم. قال: والتزكي في القرآن كله: الإسلام، وقرأ قول الله: (وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) قال: من أسلم، وقرأ (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) قال: يسلم، وقرأ (وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى) . ألا يسلم.
حدثني سعيد بن عبد الله بن عبد الحَكَم، قال: ثنا حفص بن عُمَرَ العَدَنِيّ، عن الحكم بن أبان عن عكرمة، قول موسى لفرعون: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) هل لك إلى أن تقول: لا إله إلا الله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (تَزَكَّى) فقرأته عامة قرَّاء المدينة (تَزَّكَّى) بتشديد الزاي، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة (إِلَى أَنْ تَزَكَّى) بتخفيف الزاي. وكان أبو عمرو يقول فيما ذُكر عنه (تَزَّكَّى) بتشديد الزاي، بمعنى: تتصدّق بالزكاة، فتقول: تتزكى، ثم تدغم، وموسى لم يدع فرعون إلى أن يتصدّق وهو كافر، إنما دعاه إلى الإسلام، فقال: تزكى: أي تكون زاكيا مؤمنا، والتخفيف في الزاي هو أفصح القراءتين في العربية.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى (24) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه موسى: قل لفرعون: هل لك إلى أن أرشدك إلى ما يرضي ربك، وذلك الدين القيم (فَتَخْشَى) يقول: فتخشى عقابه بأداء ما ألزمك من فرائضه، واجتناب ما نهاك عنه من معاصيه.
قوله: (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) يقول تعالى ذكره: فأرى موسى فرعون الآية الكبرى، يعني الدلالة الكبرى، على أنه لله رسول أرسله إليه، فكانت تلك الآية يد موسى إذ أخرجها بيضاء للناظرين، وعصاه إذ تحوّلت ثعبانا مبينا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/201)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، عن محمد بن سيف أبي رجاء هكذا هو في كتابي وأظنه عن نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، قال: سمعت الحسن يقول في هذه الآية: (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) قال: يده وعصاه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) قال: عصاه ويده.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) قال: رأى يد موسى وعصاه، وهما آيتان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (الآيَةَ الْكُبْرَى) قال: عصاه ويده.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) قال: العصا والحية.
وقوله: (فَكَذَّبَ وَعَصَى) يقول: فكذّب فرعون موسى فيما أتاه من الآيات المعجزة، وعصاه فيما أمره به من طاعته ربه، وخَشيته إياه.
وقوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) يقول: ثم ولَّى مُعرضا عما دعاه إليه موسى من طاعته ربه، وخشيته وتوحيده. (يَسْعَى) يقول: يعمل في معصية الله، وفيما يُسخطه عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) قال: يعمل بالفساد.
وقوله: (فَحَشَرَ فَنَادَى) يقول: فجمع قومه وأتباعه، فنادى فيهم (فَقالَ) لهم: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) الذي كلّ ربّ دوني، وكذب الأحمق.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/202)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَحَشَرَ فَنَادَى) قال: صرخ وحشر قومه، فنادى فيهم، فلما اجتمعوا قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) .
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ) فعاقبه الله (نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) يقول: عقوبة الآخرة من كلمتيه، وهي قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) ، والأولى قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: سمعت أبا بكر، وسُئل عن هذا فقال: كان بينهما أربعون سنة، بين قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ، وقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) قال: هما كلمتاه، (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قيل له: مَن ذكره؟ قال: أبو حصين، فقيل له: عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس؟ قال: نعم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: أما الأولى فحين قال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ، وأما الآخرة فحين قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن أبي الوضَّاح، عن عبد الكريم الجَزريّ، عن مجاهد، في قوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: هو قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ، وقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) وكان بينهما أربعون سنة.(24/203)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عوانة، عن إسماعيل الأسدي، عن الشعبيّ بمثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن زكريا، عن عامر (نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: هما كلمتاه (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) و (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) فذلك قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) والآخرة في قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: أخبرني من سمع مجاهدا يقول: كان بين قول فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) وبين قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) أربعون سنة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) أما الأولى فحين قال فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ، وأما الآخرة فحين قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) فأخذه الله بكلمتيه كلتيهما، فأغرقه في اليم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: اختلفوا فيها فمنهم من قال: نكال الآخرة من كلمتيه، والأولى قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) وقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) .
وقال آخرون: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، عجَّل الله له الغرق مع ما أعدّ له من العذاب في الآخرة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة الجعفي، قال: كان بين كلمتي فرعون أربعون سنة، قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) ، وقوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن ثُوير، عن مجاهد، قال: مكث فرعون في قومه بعد ما قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) أربعين سنة.
قال آخرون: بل عُنِيَ بذلك: فأخذه الله نكال الدنيا والآخرة.(24/204)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوْذَة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: الدنيا والآخرة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: عقوبة الدنيا والآخرة، وهو قول قتادة.
وقال آخرون: الأولى عصيانه ربه وكفره به، والآخرة قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رَزين (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: الأولى تكذيبه وعصيانه، والآخرة قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) ، ثم قرأ: (فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) فهي الكلمة الآخرة.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك أنه أخذه بأوّل عمله وآخره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: أوّل عمله وآخره.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: أول أعماله وآخرها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبي: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: نكال الآخرة من المعصية والأولى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قوله: (نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى) قال: عمله للآخرة والأولى.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) يقول تعالى ذكره: إن في العقوبة التي عاقب الله بها فرعون في عاجل الدنيا، وفي أخذه إياه نكال الآخرة والأولى، عظة ومعتبرا لمن يخاف الله ويخشى عقابه، وأخرج نكال الآخرة مصدرا من قوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ) لأن قوله (فَأَخَذَهُ اللَّهُ) نكل به فجعل (نَكَالَ الآخِرَةِ) مصدرا من معناه لا من لفظه.
وقوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) يقول تعالى ذكره للمكذّبين بالبعث من قريش، القائلين: (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) أأنتم أيها الناس أشد خلقا، أم السماء بناها ربكم، فإن من بنى السماء فرفعها سقفا، هَيِّن عليه خلقكم(24/205)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
وخلق أمثالكم، وإحياؤكم بعد مماتكم وليس خلقكم بعد مماتكم بأشدّ من خلق السماء. وعني بقوله: (بَناها) : رفعها فجعلها للأرض سقفا.
وقوله: (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) يقول تعالى ذكره: فسوّى السماء، فلا شيء أرفع من شيء، ولا شيء أخفض من شيء، ولكن جميعها مستوي الارتفاع والامتداد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) يقول: رفع بناءها فسوّاها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) قال: رفع بناءها بغير عمد.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (رَفَعَ سَمْكَهَا) يقول: بُنيانها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) } .
وقوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) يقول تعالى ذكره: أظلم ليل السماء، فأضاف الليل إلى السماء، لأن الليل غروب الشمس، وغروبها وطلوعها فيها، فأضيف إليها لمَّا كان فيها، كما قيل: نجوم الليل، إذ كان فيه الطلوع والغروب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) يقول: أظلم ليلها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن(24/206)
أبيه، عن ابن عباس (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) يقول: أظلم ليلها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) قال: أظلم.
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) قال: أظلم ليلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) قال: أظلم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب. قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) قال: الظُّلمة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) يقول: أظلم ليلها.
حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحكم عن عكرمة (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) قال: أظلم ليلها.
وقوله: (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) يقول: وأخرج ضياءها، يعني: أبرز نهارها فأظهره، ونوّر ضحاها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) نوّرها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) يقول: نوّر ضياءها.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) قال: نهارها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَخْرَجَ(24/207)
ضُحَاهَا) قال: ضوء النهار.
وقوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) اختلف أهل التأويل في معنى قوله (بَعْدَ ذَلكَ) فقال بعضهم: دُحِيت الأرض من بعد خَلق السماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الأرض، وذلك أن الله خَلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) يعني: أن الله خلق السموات والأرض، فلما فرغ من السموات قبل أن يخلق أقوات الأرض فيها بعد خلق السماء، وأرسى الجبال، يعني بذلك دحْوَها الأقوات، ولم تكن تصلح أقوات الأرض ونباتها إلا بالليل والنهار، فذلك قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) ألم تسمع أنه قال: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دُحيت الأرض من تحت البيت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، قال: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، ومنه دُحيت الأرض.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والأرض مع ذلك دحاها، وقالوا: الأرض خُلِقت ودُحِيت قبل السماء، وذلك أن الله قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) . قالوا: فأخبر الله أنه سوّى السماوات بعد أن خلق ما في الأرض جميعا، قالوا فإذا كان ذلك كذلك، فلا وجه لقوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) إلا ما ذكرنا من أنه مع ذلك دحاها قالوا: وذلك كقول الله عز وجلّ: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) . بمعنى: مع ذلك زنيم، وكما يقال للرجل: أنت(24/208)
أحمق، وأنت بعد هذا لئيم الحسب، بمعنى: مع هذا، وكما قال جلّ ثناؤه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) : أي من قبل الذكر، واستشهد بقول الهُذَليّ:
حَمِدْتُ إلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إذْ نَجَا ... خِراشٌ وبَعْضُ الشِّر أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ (1)
وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن خَصِيفٍ، عن مجاهد (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) قال: مع ذلك دحاها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، أنه قال: والأرْضَ عِنْدَ ذَلكَ دَحاها.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا عليّ بن معبد، قال: ثنا محمد بن سلمة، عن خصيف، عن مجاهد (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) قال: مع ذلك دحاها.
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا روّاد بن الجرّاح، عن أبي حمزة، عن السدي في قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) قال: مع ذلك دحاها.
والقول الذي ذكرناه عن ابن عباس من أن الله تعالى خلق الأرض، وقدّر فيها أقواتها، ولم يدحها، ثم استوى إلى السماء، فسوّاهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج منها ماءها ومرعاها، وأرسى جبالها، أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، لأنه جلّ ثناؤه قال: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) والمعروف من معنى " بَعْدَ " أنه خلاف معنى " قَبْل " وليس في دحوِّ الله الأرض بعد تسويته السماوات السبع، وإغطاشه ليلها، وإخراجه ضحاها، ما يوجب أن تكون الأرض خُلقت بعد خلق السموات لأن الدحوّ إنما هو البسط في كلام العرب، والمدّ يقال منه: دحا يدحو دَحْوا، ودَحيْتُ أدْحي دَحْيا، لغتان؛ ومنه قول أُميَّة بن أبي الصلت:
دَارٌ دَحاها ثُمَّ أعْمَرَنا بِها ... وَأقامَ بالأخْرَى الَّتِي هي أمجدُ (2)
__________
(1) ديوانه: 29، ويأتي في تفسير آية سورة آل عمران: 79، (3: 233 بولاق) والمخصص 17: 154، والشعر يقوله للحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان، وهو الحارث الأعرج المشهور. قال ابن سيده: "ربوب: جمع رب، أي الملوك الذين كانوا قبلك ضيعوا أمري، وقد صارت الآن ربابتي إليك - أي تدبير أمري وإصلاحه - فهذا رب بمعنى مالك، كأنه قال: الذين كانوا يملكون أمري قبلك ضيعوه". وقال الطبري فيما سيأتي: "يعني بقوله: ربتني: ولي أمري والقيام به قبلك من يربه ويصلحه فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعت". والربابة: المملكة، وهي أيضًا الميثاق والعهد. وبها فسر هذا البيت، وأيدوه برواية من روى بدل"ربابتي"، "أمانتي". والأول أجود.
(2) في المطبوعة: "من الملوك الذين كانوا"، غيروه ليوافق ما ألفوا من العبارة.(24/209)
وقول أوس بن حجر في نعت غيث:
يَنْفِي الحصَى عن جديد الأرْضِ مُبْتَرِكٌ ... كأنَّه فاحِصٌ أو لاعِبٌ داحِي (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) : أي بسطها.
حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا رَوّاد، عن أبي حمزة، عن السدي (دَحَاها) قال: بسطها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان: (دَحَاها) بسطها.
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (دَحَاها) قال: حرثها شقَّها وقال: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) ، وقرأ: (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا ... ) حتى بلغ (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) ، وقال حين شقَّها أنْبتَ هذا منها، وقرأ (وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) .
وقوله: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا) يقول: فجَّر فيها الأنهار (وَمَرْعَاهَا) يقول: أنبت نَباتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَمَرْعَاهَا) ما خلق الله فيها من النبات، ومَاءهَا ما فجر فيها من الأنهار.
__________
(1) الحديث 155- سبق الكلام مفصلا في ضعف هذا الإسناد، برقم 137. وهذا الحديث في ابن كثير 1: 44، والدر المنثور 1: 13، والشوكاني 1: 11. ونسبه الأخيران أيضًا لابن أبي حاتم. وفي المطبوع وابن كثير "والأرض ومن فيهن".(24/210)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
وقوله: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) يقول: والجبال أثبتها فيها، وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره، وهو فيها، وذلك أن معنى الكلام: والجبال أرساها فيها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) أي: أثبتها لا تَمِيد بأهلها حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: تخلق عليّ آدم وذرّيته يلقون عليّ نتْنهم، ويعملون عليّ بالخطايا، فأرساها الله، فمنها ما ترون، ومنها ما لا ترون، فكان أوَّل قرار الأرض كلحم الجزور إذا نُحِر يحتلج لحمها.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) أنه خلق هذه الأشياء، وأخرج من الأرض ماءها ومرعاها منفعة لنا ومتاعا إلى حين.
وقوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) يقول تعالى ذكره: فإذا جاءت التي تطم على كلّ هائلة من الأمور، فتغمر ما سواها بعظيم هولها، وقيل: إنها اسم من أسماء يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) من أسماء يوم القيامة عظمه الله، وحذّره عباده.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا سهل بن عامر، قال: ثنا مالك بن مغول، عن القاسم بن الوليد، في قوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) قال: سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار.
وقوله: (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى) يقول: إذا جاءت الطامة يوم يتذكر الإنسان ما عمل في الدنيا من خير وشر، وذلك سعيه (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) يقول: وأظْهِرت الجحيم، وهي نار الله لمن يراها، يقول: لأبصار الناظرين.(24/211)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) } .
يقول تعالى ذكره: فأما من عتا على ربه، وعصاه واستكبر عن عبادته.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (طَغَى) قال: عصى.
قوله: (وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) يقول: وآثر متاع الحياة الدنيا على كرامة الآخرة، وما أعدّ الله فيها لأوليائه، فعمل للدنيا، وسعى لها، وترك العمل للآخرة (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) يقول: فإن نار الله التي اسمها الجحيم، هي منزله ومأواه، ومصيره الذي يصير إليه يوم القيامة.
وقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) يقول: وأما من خاف مسألة الله إياه عند وقوفه يوم القيامة بين يديه، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) يقول: ونهى نفسه عن هواها فيما يكرهه الله، ولا يرضاه منها، فزجرها عن ذلك، وخالف هواها إلى ما أمره به ربه (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) يقول: فإن الجنة هي مأواه ومنزله يوم القيامة.
وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في معنى قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ) فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) } .(24/212)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يسألك يا محمد هؤلاء المكذّبون بالبعث عن الساعة التي تبعث فيها الموتى من قبورهم (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) ، متى قيامها وظهورها. وكان الفرّاء يقول: إن قال القائل: إنما الإرساء للسفينة، والجبال الراسية وما أشبههنّ، فكيف وصف الساعة بالإرساء؟ قلت: هي بمنزلة السفينة إذا كانت جارية فرست، ورسوّها: قيامها؛ قال: وليس قيامها كقيام القائم، إنما هي كقولك: قد قام العدل، وقام الحقّ: أي ظهر وثبت.
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول الله لنبيه: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) يقول: في أيّ شيء أنت من ذكر الساعة والبحث عن شأنها. وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكثر ذكر الساعة، حتى نزلت هذه الآية.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن عُروة، عن عائشة، قالت: لم يزل النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة، حتى أنزل الله عزّ وجل: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن طارق بن شهاب، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر شأن الساعة حتى نزلت (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ... ) إلى (مَنْ يخْشاهَا) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) قال: الساعة.
وقوله: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا) يقول: إلى ربك منتهى علمها، أي إليه ينتهي علم الساعة، لا يعلم وقت قيامها غيره.
وقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) يقول تعالى ذكره لمحمد: إنما أنت رسول مبعوث بإنذار الساعة من يخاف عقاب الله فيها على إجرامه ولم تكلف علم وقت قيامها، يقول: فدع ما لم تكلف علمَه واعمل بما أمرت به من إنذار من أُمرت بإنذاره.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: (مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) فكان أبو جعفر القارئ وابن محيصن يقرأان (مُنْذِرٌ) بالتنوين، بمعنى: أنه منذر من يخشاها، وقرأ ذلك سائر قرّاء المدينة ومكة والكوفة والبصرة بإضافة (مُنْذِرُ) إلى (من) .(24/213)
والصواب من القول في ذلك عندي: أنهم قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) يقول جلّ ثناؤه: كأن هؤلاء المكذّبين بالساعة، يوم يرون أن الساعة قد قامت من عظيم هولها، لم يلبثوا في الدنيا إلا عشية يوم، أو ضحى تلك العشية، والعرب تقول: آتيك العشية أو غَدَاتَها، وآتيك الغداةَ أو عشيتها، فيجعلون معنى الغداة بمعنى أوّل النهار، والعشية: آخر النهار فكذلك قوله: (إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) إنما معناه إلا آخر يوم أو أوّله، وينشد هذا البيت:
نَحْنُ صَبَحْنا عامِرًا فِي دَارِها ... عَشِيَّةَ الهِلالِ أوْ سِرَارِها (1)
يعني: عشية الهلال، أو عشية سرار العشية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة.
آخر تفسير سورة النازعات.
__________
(1) ديوانه: 60، وطبقات فحول الشعراء: 64، وخندف: أم بني إلياس بن مضر، مدركة وطابخة، وتشعبت منهم قواعد العرب الكبرى.(24/214)
تفسير سورة عبس(24/215)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (عَبَسَ) قبض وجهه تكرّها، (وَتَوَلى) يقول: وأعرض (أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) يقول: لأن جاءه الأعمى. وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يطوّل الألف ويمدها من (أنْ جاءَهُ) فيقول: (آنْ جاءَهُ) ، وكأنّ معنى الكلام كان عنده: أأن جاءه الأعمى؟ عبس وتولى، كما قرأ من قرأ: (آنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) بمدّ الألف من "أن" وقصرها.
وذُكر أن الأعمى الذي ذكره الله في هذه الآية، هو ابن أمّ مكتوم، عوتب النبيّ صلى الله عليه وسلم بسببه.
* ذكر الأخبار الواردة بذلك
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: ثنا أبي، عن هشام بن عروة مما عرضه عليه عروة، عن عائشة قالت: أنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أمّ مكتوم قالت: أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني، قالت: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين، قالت: فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعْرِض عنه، ويُقْبِل على الآخر ويقول: "أتَرَى بِما أقُولُهُ بأسًا؟ فيقول: لا ففي هذا أُنزلت: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عُتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب،(24/217)
وكان يتصدّى لهم كثيرا، ويَعرض عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبد الله بن أمّ مكتوم، يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبيّ صلى الله عليه وسلم آية من القرآن، وقال: يا رسول الله، علمني مما علَّمك الله، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبس في وجهه وتوّلى، وكره كلامه، وأقبل على الآخرين؛ فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره، ثم خَفَق برأسه، ثم أنزل الله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) ، فلما نزل فيه أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلَّمه، وقال له: "ما حاجَتُك، هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيءٍ؟ " وإذا ذهب من عنده قال له: "هَلْ لكَ حاجَةٌ فِي شَيْء؟ " وذلك لما أنزل الله: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، قال: نزلت في ابن أمّ مكتوم (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) قال: رجل من بني فهر، يقال له: ابن أمّ مكتوم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) عبد الله بن زائدة، وهو ابن أمّ مكتوم، وجاءه يستقرئه، وهو يناجي أُميَّة بن خلف، رجل من عِلْية قريش، فأعرض عنه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيه ما تسمعون: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) إلى قوله: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم استخلفه بعد ذلك مرّتين على المدينة في غزوتين غزاهما يصلي بأهلها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أنه رآه يوم القادسية معه راية سوداء، وعليه درع له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: جاء ابن أمّ مكتوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبيَّ بن خَلَف، فأعرض عنه، فأنزل الله عليه: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يُكرمه(24/218)
قال أنس: فرأيته يوم القادسية عليه درع، ومعه راية سوداء.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) تصدّى رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من مشركي قريش كثير المال، ورجا أن يؤمن، وجاء رجل من الأنصار أعمى يقال له: عبد الله بن أمّ مكتوم، فجعل يسأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فكرهه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وتولى عنه، وأقبل على الغنيّ، فوعظ الله نبيه، فأكرمه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين غزاهما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وسألته عن قول الله عزّ وجلّ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) قال: جاء ابن أمّ مكتوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقائده يبصر، وهو لا يبصر، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى قائده يكفّ، وابن أمّ مكتوم يدفعه ولا يُبصر؛ قال: حتى عبس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاتبه الله في ذلك، فقال: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ... ) إلى قوله: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) قال ابن زيد: كان يقال: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَتَمَ من الوحي شيئا، كتم هذا عن نفسه، قال: وكان يتصدّى لهذا الشريف في جاهليته رجاء أن يسلم، وكان عن هذا يتلَّهى.
وقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا محمد لعلّ هذا الأعمى الذي عَبَست في وجهه يَزَّكَّى: يقول: يتطهَّر من ذنوبه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) يسلم.
وقوله: (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) يقول: أو يتذكَّر فتنفعه الذكرى: يعني: يعتبر فينفعه الاعتبار والاتعاظ، والقراءة على رفع: (فتَنْفَعهُ) عطفا به على قوله: (يَذَّكَّرُ) ، وقد رُوي عن عاصم النصب فيه والرفع، والنصب على أن تجعله جوابا بالفاء للعلّ، كما قال الشاعر:
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُوْلاتِها ... يُدِلْنَنا اللَّمَّةَ مِنْ لمَّاتِها(24/219)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
فَتَسْتَرِيحُ النَّفْسُ مِنْ زَفْراتها ... وتُنْقَعُ الغُلَّةُ مِن غُلاتِها (1)
"وتنقع" يُروى بالرفع والنصب.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أما من استغنى بماله فأنت له تتعرّض رجاء أن يُسلِم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) قال: نزلت في العباس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) قال عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة (وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى) يقول: وأي شيء عليك أن لا يتطهَّر من كفره فيُسلم؟ (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى) يقول: وأما هذا الأعمى الذي جاءك سعيا، وهو يخشى الله ويتقيه (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) يقول: فأنت عنه تعرض، وتشاغل عنه بغيره وتغافل.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) } .
يقول تعالى ذكره: (كَلا) ما الأمر كما تفعل يا محمد من أن تعبس في وجه من
__________
(1) الحديث 156- هو مختصر مما قبله: 155.(24/220)
جاءك يسعى وهو يخشى، وتتصدّى لمن استغنى (إنَّها تَذْكِرَة) يقول: إن هذه العظة وهذه السورة تذكرة: يقول: عظة وعبرة (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) يقول: فمن شاء من عباد الله ذكره، يقول: ذكر تنزيل الله ووحيه والهاء في قوله: "إنَّها" للسورة، وفي قوله: "ذَكَرَهُ" للتنزيل والوحي. (فِي صُحُفِ) يقول: إنها تذكرة (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) يعني: في اللوح المحفوظ، وهو المرفوع المطهر عند الله.
وقوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) يقول: الصحف المكرّمة بأيدي سفرة، جمع سافر.
واختلف أهل التأويل فيهم ما هم؟ فقال بعضهم: هم كَتَبة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) يقول: كَتَبة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال: الكَتَبة.
وقال آخرون: هم القرّاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال: هم القرّاء.
وقال آخرون: هم الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ) يعني: الملائكة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ) قال: السَّفَرة: الذين يُحْصون الأعمال.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الملائكة الذين يَسْفِرون بين الله ورسله بالوحي.
وسفير القوم: الذي يسعى بينهم بالصلح، يقال: سفرت بين القوم: إذا(24/221)
أصلحت بينهم، ومنه قول الشاعر:
ومَا أدَعُ السِّفارَةَ بَين قَوْمي ... ومَا أمْشِي بغِشّ إنْ مَشِيتُ (1)
وإذا وُجِّه التأويل إلى ما قلنا، احتمل الوجه الذي قاله القائلون: هم الكَتَبة، والذي قاله القائلون: هم القرّاء لأن الملائكة هي التي تقرأ الكتب، وتَسْفِر بين الله وبين رسله.
وقوله: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ) والبَررَة: جمع بارّ، كما الكفرة جمع كافر، والسحرة جمع ساحر، غير أن المعروف من كلام العرب إذا نطقوا بواحدة أن يقولوا: رجل بر، وامرأة برّة، وإذا جمعوا ردّوه إلى جمع فاعل، كما قالوا: رجل سري، ثم قالوا في جمعه: قوم سراة وكان القياس في واحده أن يكون ساريا، وقد حُكي سماعا من بعض العرب: قوم خِيَرَة بَرَرَة، وواحد الخيرة: خير، والبَررَة: برّ.
وقوله: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) يقول تعالى ذكره: لعن الإنسان الكافر ما أكفره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا عبد الحميد الحِماني، عن الأعمش، عن مجاهد قال: ما كان في القرآن قُتِلَ الإنسانُ أو فُعل بالإنسان، فإنما عنِي به: الكافر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) بلغني أنه: الكافر.
وفي قوله: (أكْفَرَهُ) وجهان: أحدهما: التعجب من كفره مع إحسان الله إليه، وأياديه عنده. والآخر: ما الذي أكفره، أي: أيّ شيء أكفره.
__________
(1) الخبر 157- إسناد صحيح. محمد بن سنان القزاز، شيخ الطبري: تكلموا فيه من أجل حديث واحد. والحق أنه لا بأس به، كما قال الدارقطني. وهو مترجم في التهذيب، وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 5: 343- 346. أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد، الحافظ الحجة. شبيب: هو ابن بشر البجلي، ووقع في التهذيب 4: 306 "الحلبي" وهو خطأ مطبعي، صوابه في التاريخ الكبير للبخاري 2 / 2 / 232 / 233 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 357- 358 والتقريب وغيرها، وهو ثقة، وثقه ابن معين.(24/222)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) } .
يقول تعالى ذكره: من أي شيء خلق الإنسان الكافر ربه حتي يتكبر ويتعظم عن طاعة ربه، والإقرار بتوحيده. ثم بين جلّ ثناؤه الذي منه خلقه، فقال: (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أحوالا نطفة تارة، ثم عَلَقة أخرى، ثم مُضغة، إلى أن أتت عليه أحواله وهو في رحم أمه. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) يقول: ثم يسَّره للسبيل، يعني للطريق.
واختلف أهل التأويل في السبيل الذي يسَّره لها، فقال بعضهم: هو خروجه من بطن أمه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) يعني بذلك: خروجه من بطن أمه يسَّره له.
حدثني ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: سبيل الرحم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن السديّ (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: أخرجه من بطن أمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: خروجه من بطن أمه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: أخرجه من بطن أمه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: طريق الحق والباطل، بيَّناه له وأعلمناه، وسهلنا له العمل به.(24/223)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: هو كقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: على نحو (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: سبيل الشقاء والسعادة، وهو كقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال الحسن، في قوله: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: سبيل الخير.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال: هداه للإسلام الذي يسَّره له، وأعلمه به، والسبيل سبيل الإسلام.
وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: ثم الطريق، وهو الخروج من بطن أمه يسَّره.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب، لأنه أشبههما بظاهر الآية، وذلك أن الخبر من الله قبلها وبعدها عن صفته خلقه وتدبيره جسمه، وتصريفه إياه في الأحوال، فالأولى أن يكون أوسط ذلك نظير ما قبله وما بعده.
وقوله: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) يقول: ثم قَبَضَ رُوحه، فأماته بعد ذلك. يعني بقوله: (أَقْبَرَهُ) صيره ذا قبر، والقابر: هو الدافن الميت بيده، كما قال الأعشى:
لَوْ أسْنَدَتْ مَيْتا إلى نَحْرِها ... عاشَ وَلمْ يُنْقَلْ إلى قابِرِ (1)
__________
(1) الخبر 158- إسناده حسن على الأقل، لأن عطاء بن السائب تغير حفظه في آخر عمره، وقيس بن الربيع قديم، لعله سمع منه قبل الاختلاط، ولكن لم نتبين ذلك بدليل صريح. ووقع في هذا الإسناد خطأ في المطبوع "حدثنا مصعب"، وصوابه من المخطوطة "حدثنا محمد بن مصعب"، وهو القرقساني، كما مضى في الإسناد 154.(24/224)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
والمقبر: هو الله، الذي أمر عباده أن يقبروه بعد وفاته، فصيره ذا قبر. والعرب تقول فيما ذُكر لي: بترت ذنَب البعير، والله أبتره، وعضبت قَرنَ الثور، والله أعضبه؛ وطردت عني فلانا، والله أطرده، صيره طريدا.
وقوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) يقول: ثم إذا شاء الله أنشره بعد مماته وأحياه، يقال: أنشر الله الميت بمعنى: أحياه، ونشر الميت بمعنى حيى هو بنفسه، ومنه قول الأعشى:
حتى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رأوْا ... يا عَجَبا لِلْمَيِّتِ النَّاشرِ (1)
وقوله: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) يقول تعالى ذكره: كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدّى حقّ الله عليه، في نفسه وماله، (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) لم يؤدّ ما فرض عليه من الفرائض ربُّه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) قال: لا يقضي أحد أبدًا ما افتُرِض عليه. وقال الحارث: كلّ ما افترض عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) } .
__________
(1) الخبر 159- إسناده حسن كالذي قبله. وأبو أحمد الزبيري: هو محمد بن عبد الله ابن الزبير الأسدي، من الثقات الكبار، من شيوخ أحمد بن حنبل وغيره من الحفاظ. وقيس: هو ابن الربيع. وهذه الأخبار الثلاثة 157- 159، ولفظها واحد، ذكرها ابن كثير 1: 44 خبرًا واحدًا دون إسناد. وذكرها السيوطي في الدر المنثور 1: 13 خبرًا واحدًا ونسبه إلى "الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وصححه، عن ابن عباس".(24/225)
يقول تعالى ذكره: فلينظر هذا الإنسان الكافر المُنكر توحيد الله إلى طعامه كيف دبَّره.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) وشرابه، قال: إلى مأكله ومشربه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) آية لهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة بكسر الألف من "أنَّا"، على وجه الاستئناف، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة "أنَّا" بفتح الألف، بمعنى: فلينظر الإنسان إلى أنا، فيجعل "أنَّا" في موضع خفض على نية تكرير الخافض، وقد يجوز أن يكون رفعا إذا فُتحت، بنية طعامه، (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان: فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) يقول: أنا أنزلنا الغيث من السماء إنزالا وصببناه عليها صبا (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا) يقول: ثم فتقنا الأرض فصدّعناها بالنبات (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا) يعني: حبّ الزرع، وهو كلّ ما أخرجته الأرض من الحبوب كالحنطة والشعير، وغير ذلك (وَعِنَبًا) يقول: وكرم عنب (وَقَضْبَا) يعني بالقضب: الرطبة، وأهل مكة يسمون القَتَّ القَضْب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَقَضْبا) يقول: الفِصفِصة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَضْبا) قال: والقضب: الفصافص.
قال أبو جعفر رحمه الله: الفِصفصة: الرَّطبة.(24/226)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وقَضْبا) يعني: الرطبة.
حدثنا بشر، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا يونس، عن الحسن، في قوله: (وَقَضْبا) قال: القضب: العَلَف.
وقوله: (وَزَيْتُونًا) وهو الزيتون الذي منه الزيت (وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلْبًا) وقد بينَّا أن الحديقة البستان المحوّط عليه. وقوله: (غُلْبا) يعني: غلاظا. ويعني بقوله: (غُلْبا) أشجارا في بساتين غلاظ.
والغلب: جمع أغلب، وهو الغليظ الرقبة من الرجال؛ ومنه قول الفرزدق:
عَوَى فأثارَ أغْلَبَ ضَيْغَميًّا ... فَوَيْل ابْنِ المَراغَةِ ما اسْتثارَا? (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في البيان عنه، فقال بعضهم: هو ما التفّ من الشجر واجتمع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، عن عاصم بن كُلَيب، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) قال: الحدائق: ما التفّ واجتمع.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) قال: طيبة.
وقال آخرون: الحدائق: نبت الشجر كله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا عصام، عن أبيه: الحدائق: نبت الشجر كلها.
__________
(1) الأثر 160 - أحمد بن عبد الرحيم البرقي: اشتهر بهذا، منسوبًا إلى جده، وكذلك أخوه "محمد" وهو: أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم. وقد مضت رواية الطبري عنه أيضًا برقم 22 باسم "ابن البرقي". ابن أبي مريم: هو سعيد. ابن لهيعة هو عبد الله. عطاء بن دينار المصري: ثقة، وثقه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما وروى ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 / 332 وفي المراسيل: 58 عن أحمد بن صالح، قال: " عطاء بن دينار، هو من ثقات أهل مصر، وتفسيره - فيما يروى عن سعيد بن جبير -: صحيفة، وليست له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير ". وروى في الجرح عن أبيه أبي حاتم، قال: " هو صالح الحديث، إلا أن التفسير أخذه من الديوان، فإن عبد الملك بن مروان كتب يسأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بن جبير بهذا التفسير إليه، فوجده عطاء بن دينار في الديوان، فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير".(24/227)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
حدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) قال: الشجر يستظلّ به في الجنة.
وقال آخرون: بل الغُلب: الطوال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) يقول: طوالا.
وقال آخرون: هو النخل الكرام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) والغلب: النخل الكرام.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) قال: النخل الكرام.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) عظام النخل العظيمة الجذع، قال: والغلب من الرجال: العظام الرقاب، يقال: هو أغلب الرقبة: عظيمها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرمة (حَدَائِقَ غُلْبًا) قال: عظام الأوساط.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) } .(24/228)
يقول تعالى ذكره: (وَفاكِهَةً) ما يأكله الناس من ثمار الأشجار، والأبّ: ما تأكله البهائم من العشب والنبات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن (وَفاكِهَةً) قال: ما يأكل ابن آدم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَفاكِهَةً) قال: ما أكل الناس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَفاكِهَةً) قال: أما الفاكهة فلكم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَفاكِهَةً) قال: الفاكهة لنا.
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا حميد، قال أنس بن مالك: قرأ عمر (عَبَسَ وَتَوَلَّى) حتى أتى على هذه الآية (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) قال: قد علمنا ما الفاكهة، فما الأبّ؟ ثم أحسبه " شك الطبري " قال: إن هذا لهو التكلف.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن حميد، عن أنس، قال: قرأ عمر بن الخطاب رضى الله عنه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فلما أتى على هذه الآية (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) قال: قد عرفنا الفاكهة. فما الأبّ؟ قال: لعمرك يا بن الخطاب إن هذا لهو التكلف.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن موسى بن أنس، عن أنس، قال: قرأ عمر: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) ومعه عصا في يده، فقال: ما الأبّ، ثم قال: بحسبنا ما قد علمنا، وألقى العصا من يده.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أنس، عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن هذا هو التكلف.
قال: وحدثني قتادة، عن أنس، عن عمر بنحو هذا الحديث كله.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ويعقوب قالوا: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت(24/229)
عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: عدّ سبعا جعل رزقه في سبعة، وجعله من سبعة، وقال في آخر ذلك: الأبّ: ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس.
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا عاصم، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الأبّ: نبت الأرض مما تأكله الدوابّ، ولا يأكله الناس.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: ثنا عبد الملك، عن سعيد بن جبير، قال: عدّ ابن عباس، وقال: الأبّ: ما أنبتت الأرض للأنعام، وهذا لفظ حديث أبي كريب. وقال أبو السائب في حديثه: قال: ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس وتأكل الأنعام.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الأبّ: الكلأ والمرعى كله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رَزين، قال: الأبّ النبات.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رَزين، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش أو غيره، عن مجاهد، قال: الأبّ: المرعى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: قال مجاهد: (وأبًّا) المرعى.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن مبارك، عن الحسن (وأبًّا) قال: الأبّ: ما تأكل الأنعام.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله (وأبًّا) قال: الأبّ: ما أكلت الأنعام.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: أما الأبّ: فلأنعامكم نعم من الله متظاهرة.
حدثنا ابن بشر، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا يونس، عن الحسن، في قوله: (وأبًّا) قال: الأبّ: العشب.(24/230)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، وقتادة، في قوله (وأبًّا) قال: هو ما تأكله الدوابّ.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وأبًّا) يعني: المرعى.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وأبًّا) قال: الأبّ لأنعامنا، قال: والأبّ: ما ترعى. وقرأ: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) .
قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس وعمرو بن الحارث، عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أنه سمع عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: قال الله: (وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) كلّ هذا قد علمناه، فما الأبّ؟ ثم ضرب بيده، ثم قال: لعمرك إن هذا لهو التكلف، واتبعوا ما يتبين لكم في هذا الكتاب، قال عمر: وما يتبين فعليكم به، وما لا فدعوه.
وقال آخرون: الأبّ: الثمار الرطبة.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وأبًّا) يقول: الثمار الرطبة.
وقوله: (مَتاعا لَكُمْ) يقول: أنبتنا هذه الأشياء التي يأكلها بنو آدم متاعا لكم أيها الناس، ومنفعة تتمتعون بها، وتنتفعون، والتي يأكلها الأنعام لأنعامكم، وأصل الأنعام الإبل، ثم تستعمل في كلّ راعية.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، في قوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) قال: متاعا لكم الفاكهة، ولأنعامكم العشب.
وقوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ) ذُكر أنها اسم من أسماء القيامة، وأحسبها مأخوذة من قولهم: صاخ فلان لصوت فلان: إذا استمع له، إلا أن هذا يقال منه: هو مُصِيخ له، ولعلّ الصوت هو الصاخّ، فإن يكن ذلك كذلك، فينبغي أن يكون قبل ذلك لنفخة الصور.(24/231)
ذكر من قال: هو اسم من أسماء القيامة
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ) قال: هذا من أسماء يوم القيامة عظَّمه الله، وحذّره عباده.
وقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) يقول: فإذا جاءت الصاخة في هذا اليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه. ويعني بقوله: يفرّ من أخيه: يفرّ عن أخيه (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ) يعني: زوجته التي كانت زوجته في الدنيا (وَبَنِيهِ) حذرا من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التَّبعات والمظالم.
وقال بعضهم: معنى قوله: (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) يفرّ عن أخيه لئلا يراه، وما ينزل به، (لكل امرئ) يعني: من الرجل وأخيه وأمه وأبيه، وسائر من ذُكر في هذه الآية (يَوْمَئِذٍ) يعني: يوم القيامة إذا جاءت الصاخَّة يوم القيامة (شَأْنٌ يُغْنِيهِ) يقول: أمر يغنيه، ويُشغِله عن شأن غيره.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أفضى إلى كلّ إنسان ما يشغله عن الناس.
حدثنا أبو عمارة المَرْوَزيّ الحسين بن حُريث، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن عائذ بن شريح، عن أنس قال: سألتْ عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إني سائلتك عن حديث أخبرني أنت به، قال:" إن كانَ عِنْدي مِنْهُ عِلْمٌ" قالت: يا نبيّ الله كيف يُحْشر الرجال؟ قال: " حفاةً عُرَاةً "، ثم انتظرت ساعة فقالت: يا نبيّ الله كيف يُحْشر النساء؟ قال: " كَذلك حُفاةً عُرَاةً "، قالت: واسوأتاه من يوم القيامة، قال: " وعَنْ ذلك تَسألِيني؟ إنَّهُ قَدْ نزلَتْ عليّ آيَة لا يَضُرُّكِ كانَ عَلَيْكِ ثيابٌ أمْ لا "، قالت: أيّ آية هي يا نبيّ الله؟ قال: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) قال: شأن قد شغله عن صاحبه.
وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) يقول تعالى ذكره: وجوه يومئذ مشرقة مضيئة، وهي وجوه المؤمنين الذين قد رضى الله عنهم، يقال: أسفر وجه فلان: إذا(24/232)
حَسُن، ومنه أسفر الصبح: إذا أضاء، وكلّ مضيء فهو مسفر، وأما سَفَر بغير ألف، فإنما يقال للمرأة إذا ألقت نقابها عن وجهها أو برقعها، يقال: قد سَفَرت المرأة عن وجهها إذا فعلت ذلك فهي سافر؛ ومنه قول تَوْبَة بن الحُمَيِّر:
وكُنْتُ إذا ما زُرْتُ لَيْلَى تَبرْقَعَتْ ... فَقَدْ رَابَنِي مِنْها الغَدَاةَ سُفُورُها (1)
يعني بقوله: " سفورها " إلقاءها برقعها عن وجهها.
(ضَاحِكَةٌ) يقول: ضاحكة من السرور بما أعطاها الله من النعيم والكرامة (مُسْتَبْشِرَةٌ) لما ترجو من الزيادة.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (مُسْفِرَةٌ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مُسْفِرَةٌ) يقول: مشرقة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) قال: هؤلاء أهل الجنة.
وقوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ) يقول تعالى ذكره: (وَوُجُوهٌ) وهي وجوه الكفار يومئذ عليها غبرة. ذُكر أن البهائم التي يصيرها الله ترابا يومئذ بعد القضاء بينها، يحوّل ذلك التراب غَبَرة في وجوه أهل الكفر (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) يقول: يغشى تلك الوجوه قَتَرة، وهي الغَبَرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) الأثر 161 - إسناده إلى مجاهد ضعيف. لأن سفيان، وهو الثوري، لم يسمع من مجاهد؛ لأن الثوري ولد سنة 97، ومجاهد مات سنة 100 أو بعدها بقليل، والظاهر عندي أن هذه الرواية من أغلاط مهران بن أبي عمر، راويها عن الثوري، فإن رواياته عن الثوري فيها اضطراب كما بينا في الحديث الماضي 11.
وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 44 دون نسبة ولا إسناد. وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 13، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد.(24/233)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) يقول: تغشاها ذلة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) قال: هذه وجوه أهل النار؛ قال: والقَتَرة من الغَبَرة، قال: وهما واحد، قال: فأما في الدنيا فإن القترة: ما ارتفع، فلحق بالسماء، ورفعته الريح، تسميه العرب القترة، وما كان أسفل في الأرض فهو الغبرة.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم يوم القيامة هم الكفرة بالله، كانوا في الدنيا الفجرة في دينهم، لا يبالون ما أتوا به من معاصي الله، وركبوا من محارمه، فجزاهم الله بسوء أعمالهم ما أخبر به عباده.
آخر تفسير سورة عبس.(24/234)
تفسير سورة إذا الشمس كورت(24/235)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) فقال بعضهم: معنى ذلك: إذا الشمس ذهب ضوءها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسين بن الحريث، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: ثني أبيّ بن كعب، قال: ستّ آيات قبل يوم القيامة: بينا الناس في أسواقهم، إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك، إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك، إذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحرّكت واضطربت واحترقت، وفزِعت الجنّ إلى الإنس، والإنس إلى الجنّ، واختلطت الدوابّ والطير والوحش، وماجوا بعضهم في بعض (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال: اختلطت (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) قال: أهملها أهلها (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: قالت الجنّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، قال: فانطلقوا إلى البحار، فإذا هي نار تأجج؛ قال: فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) يقول: أظلمت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) يعني: ذهبت.
حدثني محمد بن عمارة، حدثني عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل،(24/237)
عن أبي يحيى، عن مجاهد (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال: اضمحلت وذهبت.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، في قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال: ذهب ضوءها فلا ضوء لها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال: غوّرت، وهي بالفارسية، كور تكور.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أما تكوير الشمس: فذهابها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال: كوّرت كورا بالفارسية.
وقال آخرون: معنى ذلك: رمي بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثام بن عليّ، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال: نُكِّست.
حدثني محمد بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا إسماعيل، عن أبي صالح مثله.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت إسماعيل، سمع أبا صالح في قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال: أُلقيت.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خثيم (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال: رُمِي بها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم، مثله.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن يقال: (كُوِّرَتْ) كما قال الله جل ثناؤه، والتكوير في كلام العرب: جمع بعض الشيء إلى بعض، وذلك كتكوير العمامة، وهو لفها على الرأس، وكتكوير الكارة، وهي جمع الثياب بعضها إلى بعض، ولفها، وكذلك قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إنما معناه: جمع بعضها إلى بعض، ثم لفت فَرُمِي بها، وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوءها فعلى التأويل الذي تأوّلناه وبيَّناه لكلا القولين(24/238)
اللَّذين ذكرت عن أهل التأويل وجه صحيح، وذلك أنها إذا كُوِّرت ورُمي بها، ذهب ضوءها.
وقوله: (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) يقول: وإذا النجوم تناثرت من السماء فتساقطت، وأصل الانكدار: الانصباب، كما قال العجاج:
أبْصَرَ خِرْبانَ فَضَاءٍ فانْكَدَرْ (1)
يعني بقوله: انكدر: انصبّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) قال: تناثرت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم، مثله.
حدثني محمد بنُ عمارة، قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) قال: تناثرت.
حدثني محمد بن موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله: (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) قال: انتثرت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) قال: تساقطت وتهافتت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) قال: رُمِي بها من السماء إلى الأرض.
وقال آخرون: انكدرت: تغيرت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس
__________
(1) الأثر 162 - إسناده ضعيف، لإبهام الرجل راويه عن مجاهد. وهو يدل على غلط مهران في الإسناد قبله، إذ جعله عن الثوري عن مجاهد مباشرة، دون واسطة.(24/239)
(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) يقول: تغيرت.
وقوله: (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) يقول: وإذا الجبال سيرها الله، فكانت سرابا، وهباء منبثا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) قال: ذهبت.
قوله: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) والعشار: جمع عشراء، وهي التي قد أتى عليها عشرة أشهر من حملها. يقول تعالى ذكره: وإذا هذه الحوامل التي يَتَنافس أهلها فيها أُهملت فتركت، من شدة الهول النازل بهم فكيف بغيرها؟! .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسين بن الحريث، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: ثني أبيّ بن كعب (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) قال: إذا أهملها أهلها.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) قال: خلا منها أهلها لم تُحْلَب ولم تُصرّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) قال: لم تحلب ولم تصر، وتخلَّى منها أربابها.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، في قول الله: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) قال: سُيِّبت: تُرِكت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) قال: عشار الإبل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) قال: سيبها أهلها فلم تصر، ولم تحلب، ولم يكن في الدنيا مال أعجب إليهم منها.(24/240)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) قال: عشار الإبل سيبت.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) يقول: لا راعي لها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) فقال بعضهم: معنى ذلك: ماتت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن مسلم الطوسي، قال: ثنا عباد بن العوّام، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال: حَشْرُ البهائم: موتها، وحشر كل شيء: الموت، غير الجنّ والإنس، فإنهما يوقفان يوم القيامة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خيثم (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال: أتى عليها أمر الله، قال سفيان، قال أبي، فذكرته لعكرِمة، فقال: قال ابن عباس: حشرها: موتها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم، بنحوه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإذا الوحوش اختلطت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسين بن حريث، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، قال: ثني أُبيّ بن كعب (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال: اختلطت.(24/241)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: جُمعت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) هذه الخلائق موافية يوم القيامة، فيقضي الله فيها ما يشاء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى حشرت: جمعت، فأميتت لأن المعروف في كلام العرب من معنى الحشر: الجمع، ومنه قول الله: (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) يعني: مجموعة. وقوله: (فَحَشَرَ فَنَادَى) وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب الظاهر من تأويله، لا على الأنكر المجهول.
وقوله: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وإذا البحار اشتعلت نارا وحَمِيت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسين بن حريث، قال: ثنا الفضل بن موسى، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: ثني أبيُّ بن كعب (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: قالت الجنّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار، فإذا هي تأجج نارا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن سعيد بن المسيب، قال: قال عليّ رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ فقال: البحر، فقال: ما أراه إلا صادقا (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) مخففة.
حدثني حوثرة بن محمد المنقري، قال: ثنا أبو أُسامة، قال: ثنا مجالد، قال: أخبرني شيخ من بجيلة عن ابن عباس، في قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال: كوّر الله الشمس والقمر والنجوم في البحر، فيبعث عليها ريحا دبورا، فتنفخه حتى يصير نارا، فذلك قوله: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: إنها توقد يوم القيامة، زعموا ذلك التسجير في كلام العرب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، في قوله: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) قال: بمنزلة التنور المسجور (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) مثله.(24/242)
قال: ثنا مِهران، عن سفيان (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: أوقدت.
وقال آخرون: معنى ذلك: فاضت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خيثم (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: فاضت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبي، في قوله: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: مُلئت، ألا ترى أنه قال: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) يقول: فُجِّرت.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك أنه ذهب ماؤها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: غار ماؤها فذهب.
حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسين، في هذا الحرف (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: يبست.
حدثنا الحسين بن محمد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا أبو رجاء، عن الحسن، بمثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: يبست.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: مُلئت حتى فاضت، فانفجرت وسالت كما وصفها الله به في الموضع الآخر، فقال: " وَإذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ " والعرب تقول للنهر أو للرَّكيّ المملوء: ماء مسجور؛ ومنه قول لبيد:(24/243)
فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّرِيّ وَصَدَّعا ... مَسْجُورَةً مُتَجاوِرًا قُلامُها (1)
ويعني بالمسجورة: المملوءة ماء.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة (سُجِّرَتْ) بتشديد الجيم. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة: بتخفيف الجيم.
والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بضعهم: أُلحِقَ كلُّ إنسان بشكله، وقُرِنَ بين الضُّرَباءِ والأمثال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك، عن النعمان بن بشير، عن عمر رضي الله عنه (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: هما الرجلان يعمَلان العمل الواحد يدخلان به الجنة، ويدخلان به النار.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة، وقال: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) ، قال: ضرباءَهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: هما الرجلان يعملان العمل يدخلان به الجنة أو النار.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب أنه سمع النعمان بن بشير يقول: سمعت عمر بن الخطاب وهو يخطب، قال: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) ثم قال: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: أزواج في الجنة، وأزواج في النار.
__________
(1) الأثر 163 - سعيد: هو ابن أبي عروبة، وقد مضى أثر آخر عن قتادة بهذا الإسناد. 119 وهذا الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 13، وفي نسبته هناك خطأ مطبعي: " ابن جريج " بدل " ابن جرير ". وكلام ابن جريج سيأتي 165 مرويًا عنه لا راويًا.(24/244)
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن النعمان بن بشير، قال: سُئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن قول الله: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، وبين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار.
حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا محمد بن الصباح الدولابي، عن الوليد، عن سماك، عن النعمان بن بشير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والنعمان عن عمرو قال: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: الضرباء كلّ رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله، وذلك أن الله يقول: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) قال: هم الضرباء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: ألحق كلّ امرئ بشيعته.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: الأمثال من الناس جُمِع بينهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: لحق كلُّ إنسان بشيعته، اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: يحشر المرء مع صاحب عمله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع،: قال: يجيء المرء مع صاحب عمله.
وقال آخرون: بل عني بذلك أن الأرواح ردّت إلى الأجساد فزوّجت بها: أي جعلت لها زوجا.(24/245)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو، عن عكرِمة (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: الأرواح ترجع إلى الأجساد.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن الشعبيّ أنه قال في هذه الآية (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: زوّجت الأجساد فردّت الأرواح في الأجساد.
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن عكرِمة (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: ردّت الأرواح في الأجساد.
حدثني الحسن بن زريق الطهوي، قال: ثنا أسباط، عن أبيه، عن عكرمة، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا داود، عن الشعبيّ، في قوله: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال: زوّجت الأرواح الأجساد.
وأولى التأويلين في ذلك بالصحة، الذي تأوّله عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعلة التي اعتلّ بها، وذلك قول الله تعالى ذكره: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً) ، وقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) وذلك لا شكّ الأمثال والأشكال في الخير والشرّ، وكذلك قوله: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) بالقرناء والأمثال في الخير والشرّ.
وحدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال: سيأتي أوّلها والناس ينظرون، وسيأتي آخرها إذا النفوس زوّجت.
وقوله: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأه أبو الضحى مسلم بن صبيح (وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ) بمعنى: سألت الموءودة الوائدين: بأي ذنب قتلوها.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، في قوله: (وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ) قال: طلبت بدمائها.
حدثنا سوّار بن عبد الله العنبري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن الأعمش، قال: قال أبو الضحى (وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ) قال: سألت قَتَلَتها.(24/246)
ولو قرأ قارئ ممن قرأ (سألَتْ بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ) كان له وجه، وكان يكون معنى ذلك من قرأ (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) غير أنه إذا كان حكاية جاز فيه الوجهان، كما يقال: قال عبد الله: بأيّ ذنْبٍ ضُرب؛ كما قال عنترة:
الشَّاتِمَيْ عِرْضِي ولم أشْتُمْهُما ... والنَّاذِرَيْنِ إذَا لَقِيتُهُما دَمي (1)
وذلك أنهما كانا يقولان: إذا لقينا عنترة لنقتلنَّه، فحكى عنترة قولهما في شعره؛ وكذلك قول الآخر:
رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أخْبَرَانا ... أنَّا رأيْنا رَجُلا عُرْيانا (2)
بمعنى: أخبرانا أنهما، ولكنه جرى الكلام على مذهب الحكاية. وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الأمصار: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) بمعنى: سُئلت الموءودة بأيّ ذنب قُتلت، ومعنى قُتلت: قتلت غير أن ذلك ردّ إلى الخبر على وجه الحكاية على نحو القول الماضي قبل، وقد يتوجه معنى ذلك إلى أن يكون: وإذا الموءودة سألت قتلتها ووائديها، بأيّ ذنب قتلوها؟ ثم ردّ ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله، فقيل: بأيّ ذنب قتلت.
__________
(1) الأثر 164 - أبو جعفر: هو الرازي التميمي، وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم، وقال ابن عبد البر: "هو عندهم ثقة، عالم بتفسير القرآن". وله ترجمة وافية في تاريخ بغداد 11: 143 - 147. وهذا الأثر عن أبي العالية ذكره ابن كثير 1: 45 والسيوطي 1: 13 بأطول مما هنا قليلا، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، وقال ابن كثير: "وهذا كلام غريب، يحتاج مثله إلى دليل صحيح". وهذا حق.
(2) الأثر 165 - سبق الكلام على هذا الإسناد 144. وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1: 44 دون نسبة ولا إسناد.(24/247)
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ ذلك (سُئِلَتْ) بضم السين (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) على وجه الخبر، لإجماع الحجة من القراء عليه. والموءودة: المدفونة حية، وكذلك كانت العرب تفعل ببناتها؛ ومنه قول الفرزدق بن غالب:
وِمَّنا الذي أحْيا الوَئِيدَ وَغائِب ... وعَمْروٌ، ومنَّا حامِلونَ ودَافعُ (1)
يقال: وأده فهو يئده وأدا، ووأدة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ) هي في بعض القراءات: (سأَلَتْ بِأيّ ذَنْب قُتلَتْ) لا بذنب، كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاب الله ذلك عليهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية، قال: " فأعْتِقْ عَنْ كُلّ وَاحِدَةٍ بَدَنَةً".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) قال: كانت العرب من أفعل الناس لذلك.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خيثم بمثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ) قال: البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهنّ، وقرأ: (بِأَيِّ
__________
(1) في المطبوعة: "فاصل بين ذلك"، والذي في المخطوطة عربية جيدة.(24/248)
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
ذَنْبٍ قُتِلَتْ) .
وقوله: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) يقول تعالى ذكره: وإذا صحف أعمال العباد نُشرت لهم بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) صحيفتك يا ابن آدم تملى ما فيها، ثم تُطوى، ثم تُنشر عليك يوم القيامة.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة (نُشِرتْ) بتخفيف الشين، وكذلك قرأ أيضا بعض الكوفيين، وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة بتشديد الشين. واعتلّ من اعتل منهم لقراءته ذلك كذلك بقول الله: (أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) ولم يقل منشورة، وإنما حسن التشديد فيه لأنه خبر عن جماعة، كما يقال: هذه كباش مُذبَّحَةٌ، ولو أخبر عن الواحد بذلك كانت مخففة، فقيل مذبوحةٌ، فكذلك قوله منشورة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) } .
يقول تعالى ذكره: وإذا السماء نزعت وجُذبت ثم طُويت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كُشِطَتْ) قال: جُذبت. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله (قشِطَتْ) بالقاف، والقشْط والكَشْط بمعنى واحد وذلك تحويل من العرب الكاف قافا لتقارب مخرجيهما، كما قيل للكافور قافور، ولقُسط كُسْط، وذلك كثير في كلامهم إذا(24/249)
تقارب مخرج الحرفين أبدلوا من كلّ واحد منهما صاحبه، كقولهم للأثافي: أثاثي، وثوب فَرْقَبِيّ وثَرْقَبِيّ.
وقوله: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) يقول تعالى ذكره: وإذا الجحيم أوقد عليها فأُحميت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) سعرها غضب الله، وخطايا بني آدم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء المدينة (سُعِّرَتْ) بتشديد عينها بمعنى أوقد عليها مرة بعد مرّة، وقرأته عامة قرّاء الكوفة بالتخفيف. والقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقوله: (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) يقول تعالى ذكره: وإذا الجنة قرّبت وأُدنيت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) قال: إلى هذين ما جرى الحديث: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
حدثني ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) قال: إلى هذين ما جرى الحديث: فريق إلى الجنة، وفريق إلى النار. يعنى الربيع بقوله: إلى هذين ما جرى الحديث أن ابتداء الخبر (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ... ) إلى قوله: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) إنما عُدِّدت الأمور الكائنة التي نهايتها أحد هذين الأمرين، وذلك المصير إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
وقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) يقول تعالى ذكره: علمت نفس عند ذلك ما أحضرت من خير، فتصير به إلى الجنة، أو شرّ فتصير به إلى النار، يقول: يتبين له عند ذاك ما كان جاهلا به، وما الذي كان فيه صلاحه من غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا(24/250)
أَحْضَرَتْ) من عمل قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وإلى هذا جرى الحديث.
وقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) جواب لقوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وما بعدها، كما يقال: إذا قام عبد الله قعد عمرو.
وقوله: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) اختلف أهل التأويل في الخُنَّس الجوار الكنَّسِ فقال بعضهم: هي النجوم الدراريّ الخمسة تخنِس في مجراها فترجع وتكنس، فتستتر في بيوتها كما تكنس الظباء في المغار، والنجوم الخمسة: بَهْرام وزُحَل، وعُطارد، والزُّهَرَة، والمُشْتَرِي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عُرعُرة، أن رجلا قام إلى عليّ رضي الله عنه، فقال: ما (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) ؟ قال: هي الكواكب.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت خالد بن عُرعرة، قال: سمعت عليا عليه السلام، وسُئل عن (لا أُقْسِمُ بالخُنَّسِ الجَوَارِ الكُنَّسِ) قال: هي النجوم تخنس بالنهار، وتكنس بالليل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن عليّ رضي الله عنه، قال: النجوم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن رجل من مُراد، عن عليّ أنه قال: هل تدرون ما الخنس؟ هي النجوم تجري بالليل، وتخنس بالنهار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني جرير بن حازم، أنه سمع الحسن يسئل، فقيل: يا أبا سعيد ما الجواري الكُنَّس؟ قال: النجوم.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة بن خليفة، قال: ثنا عوف، عن بكر بن عبد الله، في قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) قال: هي النجوم الدراريّ، التي تجري تستقبل المشرق.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: هي النجوم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن رجل(24/251)
من مراد، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) قال: يعني النجوم تكنس بالنهار، وتبدو بالليل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) قال: هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن في قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) قال: هي النجوم تخنس بالنهار، والجوار الكنس: سيرهنّ إذا غبن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) قال: الخنس والجواري الكنس: النجوم الخنس، إنها تخنس تتأخر عن مطلعها، هي تتأخر كلّ عام لها في كلّ عام تأخر عن تعجيل ذلك الطلوع تخنس عنه. والكنس: تكنس بالنهار فلا تُرَى. قال: والجواري تجري بعد، فهذا الخنس الجواري الكنس.
وقال آخرون: هي بقر الوحش التي تكنس في كناسها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن عرفة قال: ثنا هشيم بن بشير، عن زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق السَّبيعيّ، عن أبي ميسرة، عن عبد الله بن مسعود أنه قال لأبي ميسرة: ما الجواري الكنس؟ قال: فقال بقر الوحش قال: فقال: وأنا أرى ذلك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عبد الله، في قوله: (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) : قال: بقر الوحش.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو ابن شرحبيل، قال: قال ابن مسعود: يا عمرو ما الجواري الكنس، أو ما تراها؟ قال عمرو: أراها البقر، قال عبد الله: وأنا أراها البقر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال: سألت عنها عبد الله، فذكر نحوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني جرير بن حازم، قال: ثني الحجاج بن المنذر، قال: سألت أبا الشَعثاء جابر بن زيد عن الجواري الكنس،(24/252)
قال: هي البقر إذا كَنَست كوانسها.
قال يونس: قال لي عبد الله بن وهب: هي البقر إذا فرّت من الذئاب، فذلك الذي أراد بقوله: كنست كوانسها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال جرير، وحدثني الصلت بن راشد، عن مجاهد مثل ذلك.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله: (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) قال: هي بقر الوحش.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، قال: سُئل مجاهد ونحن عند إبراهيم، عن قوله: (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) قال: لا أدري، فانتهره إبراهيم وقال: لِمَ لا تدري؟ فقال: إنهم يروُون عن عليّ رضي الله عنه: وكنا نسمع أنها البقر، فقال إبراهيم: هي البقر، الجواري الكنس: حِجَرة بقر الوحش التي تأوي إليها، والخنس الجوارى: البقر.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم ومجاهد أنهما تذاكرا هذه الآية (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) فقال إبراهيم لمجاهد: قل فيها ما سمعت، قال: فقال مجاهد: كنا نسمع فيها شيئا، وناس يقولون: إنها النجوم، قال: فقال إبراهيم: إنهم يكذبون على عليّ رضي الله عنه، هذا كما رَوَوْا عن علي رضي الله عنه، أنه ضمَّن الأسفل الأعلى، والأعلى الأسفل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن المغيرة، قال: سُئل مجاهد عن الجواري الكنس قال: لا أدري يزعمون أنها البقر؛ قال: فقال إبراهيم: ما لا تدري هي البقر، قال: يذكرون عن عليّ رضي الله عنه أنها النجوم، قال: يكذبون على عليّ عليه السلام.
وقال آخرون: هي الظباء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) يعني: الظباء.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر،(24/253)
عن سعيد بن جُبير (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) قال: الظباء.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلية، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) قال: كنا نقول: " أظنه قال": الظباء، حتى زعم سعيد بن جُبير أنه سأل ابن عباس عنها، فأعاد عليه قراءتها.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (الْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ِ) يعني الظباء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بأشياء تخنس أحيانا: أي تغيب، وتجري أحيانا وتكنس أخرى، وكنوسها: أن تأوي في مكانسها، والمكانس عند العرب: هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء، واحدها: مَكْنِس وكناس، كما قال الأعشى:
فلَمَّا لَحِقْنا الْحَيَّ أتْلَعَ أُنَّسٌ ... كمَا أتْلَعَتْ تَحْتَ المَكانِسِ رَبْرَبُ (1)
فهذه جمع مَكْنِس، وكما قال في الكناس طَرَفة بن العبد:
كأنَّ كِناسَيْ ضَالَةٍ يَكْنُفانِهَا ... وأطْرَ قِسِيٍّ تَحْتَ صُلْبٍ مُؤَيَّدِ (2)
وأما الدلالة على أن الكناس قد يكون للظباء، فقول أوس بن حَجَر:
__________
(1) ديوانه: 541، والنقائض: 38. طاف الخيال: ألم بك في الليل، واللمام: اللقاء اليسير. والزور: الزائر، يقال للواحد والمثنى والجمع: زور. "فارجع لزورك"، يقول: رد عليه السلام كما سلم عليك.
(2) في المطبوعة: "المعنى: الحمد لله. . . "(24/254)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
أَلَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أنزلَ مُزْنَةً ... وعُفْرُ الظِّباءِ في الكِناسِ تَقَمَّعُ (1)
فالكناس في كلام العرب ما وصفت، وغير مُنكر أن يستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء، فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أن المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء، فالصواب أن يُعَمّ بذلك كلّ ما كانت صفته الخنوس أحيانا والجري أخرى، والكنوس بآنات على ما وصف جلّ ثناؤه من صفتها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) } .
أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالليل إذا عسعس، يقول: وأقسم بالليل إذا عسعس.
واختلف أهل التأويل في قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) فقال بعضهم: عُنِيَ بقوله: (إِذَا عَسْعَسَ) إذا أدبر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) يقول: إذا أدبر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) يعني: إذا أدبر.
حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل
__________
(1) وهكذا ذهب أبو جعفر رحمه الله إلى أن "بسم الله الرحمن الرحيم" ليست آية من الفاتحة، واحتج لقوله بما ترى. وليس هذا موضع بسط الخلاف فيه، والدلالة على خلاف ما قال ابن جرير.
وقد حققت هذه المسألة، أقمت الدلائل الصحاح -في نظري وفقهي- على أنها آية من الفاتحة -: في شرحي لسنن الترمذي 2: 16 - 25. وفي الإشارة إليه غنية هنا. أحمد محمد شاكر.(24/255)
بن أبي خالد، عن رجل عن أبي ظَبيان، قال: كنت أتبع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو خارج نحو المشرق، فاستقبل الفجر، فقرأ هذه الآية: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، قال: خرج عليّ عليه السلام مما يلي باب السوق، وقد طلع الصبح أو الفجر، فقرأ: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) أين السائل عن الوتر، نعم ساعة الوتر هذه.
ثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) قال: إقباله، ويقال: إدباره.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) : إذا أدبر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِذَا عَسْعَسَ) قال: إذا أدبر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (إِذَا عَسْعَسَ) إذا أدبر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن مسعر، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، قال: خرج عليّ عليه السلام بعد ما أذّن المؤذّن بالصبح، فقال: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) أين السائل عن الوتر؟ قال: نعم ساعة الوتر هذه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) قال: عسعس تولى، وقال: تنفس الصبح من هاهنا، وأشار إلى المشرق طلاع الفجر.
وقال آخرون: عُني بقوله: (إِذَا عَسْعَسَ) إذا أقبل بظلامه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) قال: إذا غَشِيَ الناسَ.
حدثنا الحسين بن عليّ الصدائي، قال: ثني أبي، عن الفضيل، عن عطية (وَاللّيْلِ(24/256)
إِذَا عَسْعَسَ) قال: أشار بيده إلى المغرب.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: معنى ذلك: إذا أدبر، وذلك لقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) فدلّ بذلك على أن القسم بالليل مدبرًا، وبالنهار مقبلا والعرب تقول: عسعس الليل، وسَعْسَع الليل: إذا أدبر، ولم يبق منه إلا اليسير؛ ومن ذلك قول رُؤْبة بن العجاج:
يا هِنْدُ ما أسْرَعَ ما تَسَعْسَعا ... وَلَوْ رَجا تَبْعَ الصِّبا تَتَبَّعا (1)
فهذه لغة من قال: سعسع؛ وأما لغة من قال: عسعس، فقول علقمة بن قُرْط:
حتى إذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسا ... وانْجابَ عَنْها لَيْلُها وَعَسْعَسا (2)
يعني أدبر. وقد كان بعض أهل المعرفة بكلام العرب، يزعم أن عسعس: دنا من أوّله وأظلم. وقال الفراء: كان أبو البلاد النحوي ينشد بيتا:
عَسْعَسَ حتى لَوْ يشاءُ إدَّنا ... كانَ لَه مِنْ ضَوْئِهِ مَقْبَسُ (3)
يقول: لو يشاء إذ دنا، ولكنه أدغم الذال في الدال، قال الفراء: فكانوا يرون أن هذا البيت مصنوع.
وقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) يقول: وضوء النهار إذا أقبل وتبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) الجبرية والجبروت واحد، وهو من صفات الله العلي. الجبار: القاهر فوق عباده، يقهرهم على ما أراد من أمر ونهي، سبحانه وتعالى.
(2) الصغرة جمع صاغر: وهو الراضي بالذل المقر به. والأذلة جمع ذليل.
(3) الخبر 166 - سبق الكلام مفصلا في ضعف هذا الإسناد 137. وهذا الخبر، مع باقيه الآتي 167 نقله ابن كثير 1: 46 دون إسناد ولا نسبة، ونقله السيوطي 1: 14 ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم. وقال ابن كثير: " وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف. وهو ظاهر".(24/257)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) قال: إذا نشأ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) : إذا أضاء وأقبل.
وقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يقول تعالى ذكره: إن هذا القرآن لتنزيل رسول كريم؛ يعني: جبريل، نزله على محمد بن عبد الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أنه كان يقول: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني: جبريل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، أنه كان يقول: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) قال: هو جبريل.
وقوله: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) يقول تعالى ذكره: ذي قوّة، يعني: جبرائيل على ما كلف من أمر غير عاجز (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) يقول: هو مكين عند ربّ العرش العظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) } .
يقول تعالى ذكره: (مُطَاعٍ ثَمَّ) يعني جبريل صلى الله عليه وسلم، مطاع في السماء تطيعه الملائكة (أمِينٍ) يقول: أمين عند الله على وحيه ورسالته وغير ذلك مما ائتمنه عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(24/258)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا عمر بن شبيب المسلي، عن إسماعيل بن أبي خالد. عن أبي صالح: (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) قال جبريل عليه السلام، أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير إذن.
حدثنا محمد بن منصور الطوسي، قال: ثنا عمر بن شبيب، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: لا أعلمه إلا عن أبي صالح، مثله.
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الأقطع، قال: ثني أبي عمر بن خالد، عن معقل بن عبيد الله الجزري، قال: قال ميمون بن مِهْران في قوله: (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) قال: ذاكم جبريل عليه السلام.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) قال: يعني جبريل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ) مطاع عند الله (ثَمَّ أَمِينٍ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) يعني: جبريل عليه السلام.
وقوله: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) يقول تعالى ذكره: وما صاحبكم أيها الناس محمد بمجنون فيتكلم عن جنة، ويهذي هذيان المجانين (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا سليمان بن عمرو بن خالد البرقي، قال: ثنا أبي عمرو بن خالد، عن مَعْقل بن عبد الله الجَزَري، قال: قال ميمون بن مهران: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) قال: ذاكم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ) يقول تعالى ذكره: ولقد رآه أي محمدٌ جبريل صلى الله عليه وسلم في صورته بالناحية التي تبين الأشياء، فترى من قبَلها،(24/259)
وذلك من ناحية مطلع الشمس من قِبَل المشرق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد قوله: (بِالأفُقِ الْمُبِينِ) الأعلى. قال: بالأفق من نحو " أجياد".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (بِالأفُقِ الْمُبِينِ) قال: كنا نحدَّث أن الأفق حيث تطلع الشمس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ) كنا نحدَّث أنه الأفق الذي يجيء منه النهار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ) قال: رأى جبريل بالأفق المبين.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن الوليد بن العيزار، قال: سمعت أبا الأحوص يقول في قول الله: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ) قال: رأى جبريل له ستّ مئة جناح في صورته.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن عامر، قال: ما رأى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورته إلا مرّة واحدة، وكان يأتيه في صورة رجل يقال له: دَحْية، فأتاه يوم رآه في صورته قد سدّ الأفق كله، عليه سندس أخضر معلق الدّر، فذلك قول الله: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ) وذُكر أن هذه الآية في " إذا الشمس كوّرت ") (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) في جبريل، إلى قوله: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة (بِضَنِينٍ) بالضاد، بمعنى أنه غير بخيل عليهم بتعليمهم ما علَّمه الله، وأنزل إليه من كتابه. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين وبعض الكوفيين (بِظَنِينٍ) بالظاء، بمعنى أنه غير متهم فيما يخبرهم عن الله من الأنباء.
ذكر من قال ذلك بالضاد، وتأوّله على ما وصفنا من التأويل من أهل التأويل:(24/260)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن زِرّ (وَما هوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ) قال: الظَّنين: المتهم. وفي قراءتكم: (بِضَنِينٍ) والضنين: البخيل، والغيب: القرآن.
حدثنا بشر، قال: ثنا خالد بن عبد الله الواسطي، قال: ثنا مغيرة، عن إبراهيم (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) ببخيل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) قال: ما يضنّ عليكم بما يعلم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) قال: إن هذا القرآن غيب، فأعطاه الله محمدا، فبذله وعلَّمه ودعا إليه، والله ما ضنّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عاصم، عن زرّ (وَما هُوَ عَلى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ) قال: في قراءتنا بمتهم، ومن قرأها (بِضَنِينٍ) يقول: ببخيل.
حدثنا مهران، عن سفيان (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) قال: ببخيل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) الغيب: القرآن، لم يضنّ به على أحد من الناس أدّاه وبلَّغه، بعث الله به الروح الأمين جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدّى جبريل ما استودعه الله إلى محمد، وأدّى محمد ما استودعه الله وجبريل إلى العباد، ليس أحد منهم ضَنَّ، ولا كَتَم، ولا تَخَرَّص.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن عامر (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك بالظاء، وتأوّله على ما ذكرنا من أهل التأويل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، أنه قرأ: (بظَنينٍ) قال: ليس بمتهم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي المعلَّى، عن سعيد بن جُبير أنه كان يقرأ هذا الحرف (وَما هُوَ عَلى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ) فقلت(24/261)
لسعيد بن جُبير: ما الظنين؟ قال: ليس بمتهم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جُبير أنه قرأ: (وَما هُوَ عَلى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ) قلت: وما الظنين؟ قال: المتهم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَما هُوَ عَلى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ) يقول: ليس بمتهم على ما جاء به، وليس يظنّ بما أوتي.
حدثنا بشر، قال: ثنا خالد بن عبد الله الواسطيّ، قال: ثنا المغيرة، عن إبراهيم (وَما هُوَ عَلى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ) قال: بمتهم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن زِرّ (وَما هُوَ عَلى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ) قال: الغَيب: القرآن. وفي قراءتنا (بِظَنِينٍ) متهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (بِظَنِينٍ) قال: ليس على ما أنزل الله بمتهم.
وقد تأوّل ذلك بعض أهل العربية أن معناه: وما هو على الغيب بضعيف، ولكنه محتمِل له مطيق، ووجهه إلى قول العرب للرجل الضعيف: هو ظَنُون.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة، وإن اختلفت قراءتهم به، وذلك (بِضَنِينٍ) بالضاد، لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فإذا كان ذلك كذلك، فأولى التأويلين بالصواب في ذلك: تأويل من تأوّله، وما محمد على ما علَّمه الله من وحيه وتنزيله ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلَّموه.
وقوله: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) يقول تعالى ذكره: وما هذا القرآن بقول شيطان ملعون مطرود، ولكنه كلام الله ووحيه.
وقوله: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) ؟ يقول تعالى ذكره: فأين تذهبون عن هذا القرآن وتعدلون عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)(24/262)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
يقول: فأين تعدلون عن كتابي وطاعتي. وقيل: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) ولم يقل: فإلى أين تذهبون، كما يقال: ذهبت الشأم وذهبت السوق. وحُكي عن العرب سماعا: انطلق به الغَوْرَ، على معنى إلغاء الصفة، وقد ينشد لبعض بني عُقَيل:
تَصِيحُ بِنا حَنِيفةُ إذْ رأتْنا ... وأيَّ الأرْضِ تَذْهَبُ للصَّياح (1)
بمعنى: إلى أيّ الأرض تذهب واستجيز إلغاء الصفة في ذلك للاستعمال.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } .
يقول تعالى ذكره: (إنْ) هذا القرآن، وقوله: (هُوَ) من ذكر القرآن (إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) يقول: إلا تذكرة وعظة للعالمين من الجنّ والإنس (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) فجعل ذلك تعالى ذكره ذكرا لمن شاء من العالمين أن يستقيم، ولم يجعله ذكرا لجميعهم، فاللام في قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ) إبدال من اللام في للعالمين. وكان معنى الكلام: إن هو إلا ذكر لمن شاء منكم أن يستقيم على سبيل الحقّ فيتبعه، ويؤمن به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
__________
(1) في المخطوطة: "الملك على الملك"، وهما سواء.(24/263)
قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال: يتبع الحقّ.
وقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) يقول تعالى ذكره: وما تشاءون أيها الناس الاستقامة على الحقّ، إلا أن يشاء الله ذلك.
وذكر أن السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية، ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى لما نزلت (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل ذلك إلينا، إن شئنا استقمنا، فنزلت: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، قال: لما نزلت هذه الآية (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) .
حدثني ابن البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد، عن سليمان بن موسى، قال: لما نزلت هذه الآية: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل: ذلك إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) .
آخر تفسير سورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)(24/264)
تفسير سورة الانفطار(24/265)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) } .
يقول تعالى ذكره: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) انشقَّت، وإذا كواكبها انتثرت منها فتساقطت، (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) يقول: فجَّر بعضها في بعض، فملأ جميعها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في بعض ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس،(24/267)
في قوله: (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) يقول: بعضها في بعض.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) فُجِّر عذبها في مالحها، ومالحها في عذبها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) قال: فجِّر بعضها في بعض، فذهب ماؤها. وقال الكلبي: ملئت.
وقوله: (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) يقول: وإذا القبور أُثيرت فاستخرج من فيها من الموتى أحياء، يقال: بعثر فلان حوض فلان: إذا جعل أسفله أعلاه، يقال: بعثرة وبحثرة: لغتان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) يقول: بُحثت.
وقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) يقول تعالى ذكره: علمت كلّ نفس ما قدّمت لذلك اليوم من عمل صالح ينفعه، وأخرت وراءه من شيء سنَّه فعمل به.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: ثني عن القُرَظي، أنه قال في: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) قال: ما قدّمت مما عملت، وأما ما أخَّرت فالسنة يَسُنها الرجل يُعمل بها من بعده.
وقال آخرون: عُني بذلك ما قدّمت من الفرائض التي أدتها، وما أخَّرت من الفرائض التي ضيعتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، عن عكرِمة (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ) قال: ما افترض عليها (وَأَخَّرَتْ) قال: مما افترض عليها.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) قال: تعلم ما قدّمت من طاعة الله، وما أخرت مما أُمِرَت به من حقّ لله عليه لم تعمل به.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) قال: ما قدّمت من خير، وأخَّرت من حق الله عليها لم تعمل به.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، (مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) قال: ما قدمت من طاعة الله وما أخرت من حق الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) قال: ما قدّمت: عملت، وما أخرت: تركت وضيَّعت، وأخرت من العمل الصالح الذي دعاها الله إليه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما قدّمت من خير أو شرّ، وأخَّرت من خير أو شرّ.(24/268)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام، عن إبراهيم التيمي، قال: ذكروا عنده هذه الآية (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) قال: أنا مما أخَّرَ الحجاج.
وإنما اخترنا القول الذي ذكرناه، لأن كلّ ما عمل العبد من خير أو شرّ فهو مما قدّمه، وأن ما ضيَّع من حقّ الله عليه وفرّط فيه فلم يعمله، فهو مما قد قدّم من شرّ، وليس ذلك مما أخَّر من العمل، لأن العمل هو ما عمله. فأما ما لم يعمله فإنما هو سيئة قدّمها، فلذلك قلنا: ما أخر: هو ما سنه من سنة حسنة وسيئة، مما إذا عمل به العامل، كان له مثل أجر العامل بها أو وزره.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) } .
يقول تعالى ذكره: يا أيها الإنسان الكافر، أيّ شيء غرّك بربك الكريم، غرّ الإنسانَ به عدوُّه المسلَّط عليه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) شيء ما غرّ ابن آدم هذا العدوّ الشيطان.
وقوله: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) يقول: الذي خلقك أيها الإنسان فسوّى خلقك (فَعَدَلَكَ) واختلفت القرَّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرَّاء المدينة ومكة والشام والبصرة (فعدّلك) بتشديد الدال، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بتخفيفها، وكأن من قرأ ذلك بالتشديد وجَّه معنى الكلام إلى أنه جعلك معتدلا معدّل الخلق مقوَّما، وكأن الذين قرءوه بالتخفيف، وجَّهوا معنى الكلام إلى صرفك وأمالك إلى أيّ صورة شاء، إما إلى صورة حسنة، وإما إلى صورة قبيحة، أو إلى صورة بعض قراباته.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجبهما إليّ أن أقرأ به قراءة من قَرَأ ذلك بالتشديد، لأن دخول" في" للتعديل أحسن في العربية من دخولها للعدل، ألا ترى أنك تقول: عدّلتك في كذا، وصرفتك إليه، ولا تكاد تقول: عدلتك(24/269)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
إلى كذا وصرفتك فيه، فلذلك اخترت التشديد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك وذكرنا أن قارئي ذلك تأوّلوه، جاءت الرواية عن أهل التأويل أنهم قالوه.
ذكر الرواية بذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) قال: في أيّ شبه أب أو أم أو خال أو عمّ.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن إسماعيل، في قوله: (مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) قال: إن شاء في صورة كلب، وإن شاء في صورة حمار.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) قال: خنزيرا أو حماوا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن عكرِمة، في قوله: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) قال: إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير.
حدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا مطهر بن الهيثم، قال: ثنا موسى بن عليّ بن أبي رباح اللَّخمي، قال: ثني أبي، عن جدي، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: " ما وُلِدَ لَك؟ " قال: يا رسول الله ما عسَى أن يولد لي، إما غلام، وإما جارية، قال: "فَمَن يُشْبِهُ؟ " قال: يا رسول الله من عسى أن يشبه؟ إما أباه، وإما أمه؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم عندها: "مَهْ، لا تَقُولَنَّ هَكَذَا، إنَّ النُّطْفَةَ إذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أحْضَرَ اللهُ كُلَّ نَسَبٍ بَيْنَها وَبَينَ آدَمَ، أما قَرأْتَ هَذِهِ الآيَةَ فِي كتاب الله (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) قال: سَلَكَكَ ".
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) } .
يقول تعالى ذكره: ليس الأمر أيها الكافرون كما تقولون من أنكم على الحقّ في(24/270)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)
عبادتكم غير الله، ولكنكم تكذّبون بالثواب والعقاب، والجزاء والحساب.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) قال: بالحساب.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) قال: بيوم الحساب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) قال: يوم شدّة، يوم يدين الله العباد بأعمالهم.
وقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) يقول: وإن عليكم رُقَباء حافظين يحفظون أعمالكم، ويُحْصونها عليكم (كِرَامًا كَاتِبِينَ) يقول: كراما على الله كاتبين يكتبون أعمالكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: قال بعض أصحابنا، عن أيوب، في قوله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ) قال: يكتبون ما تقولون وما تَعْنُون.
وقوله: (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) يقول: يعلم هؤلاء الحافظون ما تفعلون من خير أو شرّ، يحصون ذلك عليكم.
وقوله: (إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) يقول جل ثناؤه: إن الذين برّوا بأداء فرائض الله، واجتنابِ معاصيه لفي نعيم الجنان ينعمون فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ(24/271)
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) } .
يقول تعالى ذكره: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ) الذين كفروا بربهم (لَفِي جَحِيمٍ) .
وقوله: (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ) يقول جلّ ثناؤه: يَصْلَى هؤلاء الفجار الجحيم يوم القيامة، يوم يُدان العباد بالأعمال، فيُجازَوْنَ بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (يَوْمَ الدينِ) من أسماء يوم القيامة، عظَّمه الله، وحذَّره عباده.
وقوله: (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) يقول تعالى ذكره: وما هؤلاء الفجار من الجحيم بخارجين أبدا، فغائبين عنها، ولكنهم فيها مخلَّدون ماكثون، وكذلك الأبرار في النعيم، وذلك نحو قوله: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) .
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أدراك يا محمد، أيّ وما أشعرك ما يوم الدين؟ يقول: أيُّ شيء يوم الحساب والمجازاة، معظما شأنه جلّ ذكره، بقيله ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ) تعظيما ليوم القيامة، يوم تدان فيه الناس بأعمالهم.
وقوله: (ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ) يقول: ثم أيّ شيء أشعرك يوم المجازاة والحساب يا محمد، تعظيما لأمره، ثم فسَّر جلّ ثناؤه بعض شأنه فقال: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) يقول: ذلك اليوم، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ) يقول: يوم لا تُغني نفس عن نفس شيئا، فتدفع عنها بليَّة نزلت بها، ولا تنفعها بنافعة، وقد كانت في الدنيا تحميها، وتدفع عنها من بغاها سوءا، فبطل ذلك يومئذ، لأن الأمر صار لله الذي لا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر، واضمحلت هنالك الممالك، وذهبت الرياسات، وحصل الملك للملك الجبار، وذلك قوله: (وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) يقول: والأمر كله(24/272)
يومئذ، يعني: الدين لله دون سائر خلقه، ليس لأحد من خلقه معه يومئذ أمر ولا نهي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) قال: ليس ثم أحد يومئذ يقضي شيئا، ولا يصنع شيئا إلا ربّ العالمين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) والأمر والله اليوم لله، ولكنه يومئذ لا ينازعه أحد.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ) فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة بنصب (يَوْمَ) إذ كانت إضافته غير محضة. وقرأه بعض قرّاء البصرة بضم (يَوْمُ) ورفعه ردّا على اليوم الأوّل، والرفع فيه أفصح في كلام العرب، وذلك أن اليوم مضاف إلى يفعل، والعرب إذا أضافت اليوم إلى تفعل أو يفعل أو أفعل، رفعوه فقالوا: هذا يوم أفعل كذا، وإذا أضافته إلى فعل ماض نصبوه؛ ومنه قول الشاعر:
عَلى حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ عَلى الصِّبا ... وَقُلْتُ ألَمَّا تَصْحُ والشَّيْبُ وَازِعُ (1)
آخر تفسير سورة (إذا السماء انفطرت) .
__________
(1) قوله "أغفل"، فعل لازم غير متعد. ومعناه: دخل في الغفلة والنسيان ووقع فيهما، وهي عربية معرقة، وإن لم توجد في المعاجم، وهي كقولهم: أنجد، دخل نجدًا، وأشباهها. وحسبك بها عربية أنها لغة الشافعي، أكثر من استعمالها في الرسالة والأم. من ذلك قوله في الرسالة: 42 رقم: 136: "وبالتقليد أغفل من أغفل منهم".(24/273)
تفسير سورة المطففين(24/275)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) } .
يقول تعالى ذكره: الوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم في أسفلها للذين يُطَففون، يعني: للذين ينقصون الناس، ويبخسونهم حقوقهم في مكاييلهم إذا كالوهم، أو موازينهم إذا وزنوا لهم عن الواجب لهم من الوفاء، وأصل ذلك من الشيء الطفيف، وهو القليل النزر، والمطفِّف: المقلِّل حقّ صاحب الحقّ عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن؛ ومنه قيل للقوم الذي يكونون سواء في حسبة أو عدد: هم سواء كطَفّ الصاع، يعني بذلك: كقرب الممتلئ منه ناقص عن الملء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ضِرار، عن عبد الله، قال: قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن إن أهل المدينة ليوفون الكيل، قال: وما يمنعهم من أن يوفوا الكيل، وقد قال الله: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) حتى بلغ: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: " لما قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل ".(24/277)
حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثنا سلم بن قتيبة، عن قسام الصيرفي، عن عكرمة قال: أشهد أن كلّ كيال ووزّان في النار، فقيل له في ذلك، فقال: إنه ليس منهم أحد يزن كما يتزن (1) ولا يكيل كما يكتال، وقد قال الله: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) .
وقوله: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) يقول تعالى ذكره: الذين إذا اكتالوا من الناس ما لهم قبلهم من حقّ، يستوفون لأنفسهم فيكتالونه منهم وافيا، و "على" و "مِن" في هذا الموضع يتعاقبان غير أنه إذا قيل: اكتلت منك، يراد: استوفيت منك.
وقوله: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) يقول: وإذا هم كالوا للناس أو وزنوا لهم. ومن لغة أهل الحجاز أن يقولوا: وزنتك حقك، وكلتك طعامك، بمعنى: وزنت لك وكلت لك. ومن وجَّه الكلام إلى هذا المعنى جعل الوقف على "هم"، وجعل "هم" في موضع نصب. وكان عيسى بن عمر فيما ذُكر عنه يجعلهما حرفين، ويقف على كالوا، وعلى وزنوا، ثم يبتدئ هم يخسرون. فمن وجَّه الكلام إلى هذا المعنى جعل "هم" في موضع رفع، وجعل كالوا ووزنوا مكتفيين بأنفسهما.
والصواب في ذلك عندي الوقف على "هم"، لأن كالوا ووزنوا لو كانا مكتفيين، وكانت هم كلاما مستأنفا، كانت كتابة كالوا ووزنوا بألف فاصلة بينها وبين هم مع كل واحد منهما، إذ كان بذلك جرى الكتاب في نظائر ذلك إذا لم يكن متصلا به شيء من كنايات المفعول، فكتابهم ذلك في هذا الموضع بغير ألف أوضح الدليل على أن قوله: (هُمْ) إنما هو كناية أسماء المفعول بهم. فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا على ما بيَّنا.
وقوله: (يُخْسِرُونَ) يقول: ينقصونهم. وقوله: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) يقول تعالى ذكره: ألا يظنّ هؤلاء المطففون الناس في مكاييلهم وموازينهم أنهم مبعوثون من قبورهم بعد مماتهم ليوم عظيم شأنه: هائل أمره، فظيع هوله.
وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فيوم يقوم تفسير عن اليوم الأول المخفوض، ولكنه لما لم يعد عليه اللام ردّ إلى "مبعوثون"، فكأنه قال: ألا يظنّ أولئك
__________
(1) سياق العبارة: "ويسأل زاعم ذلك، الفرق. . . من أصل أو دلالة "، وما بينهما فصل.(24/278)
أنهم مبعوثون يوم يقوم الناس وقد يجوز نصبه وهو بمعنى الخفض، لأنها إضافة غير محضة، ولو خفض ردّا على اليوم الأوّل لم يكن لحنا، ولو رفع جاز، كما قال الشاعر:
وكُنتُ كَذي رِجْلَينِ: رِجلٍ صَحِيحةٍ ... وَرِجْلٍ رمَى فِيها الزَّمان فشُلَّتِ (1)
وذُكر أن الناس يقومون لربّ العالمين يوم القيامة حتى يلجمهم العرق، فبعض يقول: مقدار ثلثمائة عام، وبعض يقول: مقدار أربعين عاما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم " (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ".
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا ابن عون، عن نافع، قال: قال ابن عمر: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) حتى يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ النَّاس يُوقَفُون يَوْمَ الْقِيامَةِ لِعَظَمَةِ اللهِ، حتى إنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إلى أنْصَافِ آذَانِهِمْ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: " (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) يَوْم الْقِيامَةِ لِعَظَمَة الرَّحْمَنِ"، ثم ذكر مثله.
__________
(1) الشعر لجاهلي مخضرم هو حضرمي بن عامر الأسدي، وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من بني أسد فأسلموا جميعًا. وسبب قوله هذا الشعر: أن إخوته كانوا تسعة، فجلسوا على بئر فانخسفت بهم، فورثهم، فحسده ابن عمه جزء بن مالك بن مجمع، وقال له: من مثلك؟ مات إخوتك فورثتهم، فأصبحت ناعمًا جذلا. وما كاد، حتى جلس جزء وإخوة له تسعة على بئر فانخسفت بإخوته ونجا هو، فبلغ ذلك حضرميًا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، كلمة وافقت قدرًا وأبقت حقدًا. يعني قوله لجزء: "فلاقيت مثلها عجلا". وأزننته بشيء: اتهمته به. انظر أمالي القالي 1: 67، والكامل 1: 41 - 42 وغيرهما.(24/279)
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا آدم، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر قال: " تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: يَقُومُونَ حتى يَبْلُغَ الرَّشْحُ إلى أنْصَاف آذانِهِمْ ".
حدثنا أحمد بن محمد بن حبيب، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبي، عن صالح، قال: ثنا نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) يَوْمَ الْقِيامَةِ، حتى يَغِيبَ أحَدُهُمْ إلى أنصَافِ أذُنَيْهِ فِي رَشْحِهِ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة بن سعيد، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: يقومون مئة سنة.
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) يَوْمَ الْقِيامَةِ، حتَّى إنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُ الرجل إلى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى وابن وكيع، قالا ثنا يحيى، عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يَقُومُ النَّاسُ لِربّ الْعالمِين حتى يَقُومَ أحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إلى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ".
حدثني محمد بن إبراهيم السليمي المعروف بابن صدران، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق قال: ثنا عبد السلام بن عجلان، قال: ثنا يزيد المدني، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبشير الغفاري: "كَيْفَ أنْتَ صَانِعٌ فِي: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِربّ الْعَالمِين مِقْدَارَ ثَلثِمائَةِ سَنَةٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيا، لا يأتِيُهْم خَبرٌ مِنَ السَّماءِ، وَلا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بأمْر"، قال بشير: المستعان الله يا رسول الله، قال: "إذَا أنْتَ أوَيْتَ إلى فِراشِكَ فَتَعَوَّذْ بالله مِنْ كُرَب يَوْمِ القِيامَة، وَسُوءِ الْحِساب".(24/280)
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: يمكثون أربعين عاما رافعي رءوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق كلّ برّ وفاجر، قال: فينادي مناد: أليس عدلا من ربكم أن خلقكم ثم صوّركم، ثم رزقكم، ثم توليتم غيره أن يولي كلّ عبد منكم ما تولى في الدنيا؟ قالوا: بلى، ثم ذكر الحديث بطوله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن سكن، قال: حدث عبد الله، وهو عند عمر (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: إذا كان يوم القيامة يقوم الناس بين يدي ربّ العالمين أربعين عاما، شاخصة أبصارهم إلى السماء حفاة عراة يلجمهم العرق، ولا يكلّمهم بشر أربعين عاما، ثم ذكر نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: ذُكر لنا أن كعبا كان يقول: يقومون ثلثمائة سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران وسعيد، عن قتادة (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: كان كعب يقول: يقومون مقدار ثلثمائة سنة.
قال: قتادة: وحدثنا العلاء بن زياد العدويّ، قال: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المومن حتى يكون كإحدى صلاته المكتوبة.
قال: ثنا مهران، قال: ثنا العمريّ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: يَقُومُ الرَّجُلُ فِي رَشْحِهِ إلى أنْصَافِ أُذُنَيهِ".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: " (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) حتى يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
قال يعقوب، قال إسماعيل: قلت لابن عون: ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: " نَعَمْ إنْ شاءَ اللهُ ".
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثني عمي، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يَقُومُ النَّاسُ لِربّ الْعَالمِين، حتى إنَّ أحَدَهُمْ لَيَغِيبُ فِي رَشْحِهِ إلى نِصْف أُذُنَيْهِ".(24/281)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) } .
يقول تعالى ذكره: (كَلا) ، أي ليس الأمر كما يظنّ هؤلاء الكفار، أنهم غير مبعوثين ولا معذّبين، إن كتابهم الذي كتب فيه أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا (لَفِي سِجِّينٍ) وهي الأرض السابعة السفلى، وهو "فعيل" من السجن، كما قيل: رجل سِكِّير من السكر، وفِسيق من الفسق.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: مثل الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن مغيث بن سميّ: (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قال: في الأرض السابعة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن مغيث بن سميّ، قال: (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قال: الأرض السفلى، قال: إبليس مُوثَق بالحديد والسلاسل في الأرض السفلى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف، قال: كنا جلوسا إلى كعب أنا وربيع بن خيثم وخالد بن عُرْعرة، ورهط من أصحابنا، فأقبل ابن عباس، فجلس إلى جنب كعب، فقال: يا كعب أخبرني عن سِجِّين، فقال كعب: أما سجِّين: فإنها الأرض السابعة السفلى، وفيها أرواح الكفار تحت حدّ إبليس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) ذُكر أن عبد الله بن عمرو كان يقول: هي الأرض السفلى فيها أرواح الكفار، وأعمالهم أعمال السوء.
حدثنا ابن عبد الأ24-283على، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فِي سِجِّينٍ) قال: في أسفل الأرض السابعة.(24/282)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) يقول: أعمالهم في كتاب في الأرض السفلى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (لَفِي سِجِّينٍ) قال: عملهم في الأرض السابعة لا يصعد.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. (1)
حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد، قال: ثنا مطرِّف بن مازن قاضي اليمن، عن معمر، عن قتادة قال: (سِجِّينٍ) الأرض السابعة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لَفِي سِجِّينٍ) يقول: في الأرض السفلى.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا قتادة، في قوله: (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قال: الأرض السابعة السفلي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قال: يقال سجين: الأرض السافلة، وسجين: بالسماء الدنيا.
وقال آخرون: بل ذلك حدّ إبليس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمِّي، عن حفص بن حميد، عن شمر، قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار، فقال له ابن عباس: حدِّثني عن قول الله: (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ... ) الآية، قال كعب: إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ويُهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها، فتهبط فتد24-284خل تحت سبع أرضين، حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو حدّ إبليس، فيخرج لها من سجين من تحت حدّ إبليس، رَقّ فيرقم ويختم ويوضع تحت حدّ إبليس بمعرفتها
__________
(1) نسبه في اللسان (قرن) ومجاز القرآن: 100 إلى رجل من بني أسد والبيت في سيبويه 1: 295 / 2: 7، 65، وهو شاهد مشهور. "وبني شاب قرناها" يعني قومًا، يقول: بني التي يقال لها: شاب قرناها، أي يا بني العجوز الراعية، لا هم لها إلا أن تصر، أي تشد الصرار على الضرع حتى تجتمع الدرة، ثم تحلب. وذلك ذم لها. والقرن: الضفيرة.(24/283)
الهلاك إلى يوم القيامة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قال: تحت حدّ إبليس.
وقال آخرون: هو جبّ في جهنم مفتوح، ورووا في ذلك خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا به إسحاق بن وهب الواسطي، قال: ثنا مسعود بن مسكان الواسطي، قال: ثنا نضر بن خُزيمة الواسطي، عن شعيب بن صفوان، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الفَلَقُ جُبّ فِي جَهَنَّمَ مُغَطًّى، وأما سِجِّينٌ فمَفْتُوحٌ".
وقال بعض أهل العربية: ذكروا أن سجين: الصخرة التي تحت الأرض، قال: ويُرَى أن سجين صفة من صفاتها، لأنه لو كان لها اسما لم يجر، قال: وإن قلت: أجريته لأني ذهبت بالصخرة إلى أنها الحجر الذي فيه الكتاب كان وجها.
وإنما اخترت القول الذي اخترت في معنى قوله: (سِجِّينٍ) لما حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، قال: ثنا الأعمش، قال: ثنا المنهال بن عمرو، عن زاذان أبي عمرو، عن البراء، قال: (سِجِّينٍ) الأرض السفلى.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن المنهال، عن زاذان، عن البراء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وذكر نفس الفاجر، وأنَّهُ يُصعَدُ بها إلى السَّماء، قال: " فَيَصْعَدُون بها فَلا يمُرُّونَ بِها عَلى مَلإ مِنَ المَلائِكَة إلا قالُوا: ما هَذَا الرُّوحُ الخَبِيثُ؟ قال: فَيَقُولُونَ: فُلانٌ بأقْبَحِ أسمَائِهِ التي كان يُسَمَّى بها في الدنيا حتى يَنْتَهوا بِهَا إلى السَّماء الدُّنْيا، فيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ. فَلا يُفْتَحُ لَهُ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) فَيَقُولُ اللهُ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي أسْفَلِ الأرْضِ فِي سجِّينٍ فِي الأرْضِ السُّفْلَى".
حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثنا يحيى بن سليم، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (24-285 كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قال: سجين: صخرة في الأرض السابعة، فيجعل كتاب الفجار تحتها.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه(24/284)
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
وسلم: وأيّ شيء أدراك يا محمد، أيّ شيء ذلك الكتاب، ثم بين ذلك تعالى ذكره، فقال: هو (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) وعنى بالمرقوم: المكتوب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة فِي (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) قال: كتاب مكتوب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ) قال: رقم لهم بشرٍّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) قال: المرقوم: المكتوب.
وقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول تعالى ذكره: ويل يومئذ للمكذبين بهذه الآيات، (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) ، يقول: الذين يكذبون بيوم الحساب والمجازاة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) قال: أهل الشرك يكذّبون بالدين، وقرأ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ ... ) إلى آخر الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (13) كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) } .
يقول تعالى ذكره: وما يُكذّبُ بيوم الدين (إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ) اعتدى على الله في قوله، فخالف أمره (أثِيمٍ) بربه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قال الله: (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي بيوم الدين، إلا كلّ معتد في قوله، أثيم بربه، (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) يقول تعالى ذكره: إذا قُرئ عليه حججنا وأدلتنا التي بيَّنَاها في كتابنا الذي أنزلناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم(24/285)
(قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) يقول: قال: هذا ما سطَّره الأوّلون فكتبوه، من الأحاديث والأخبار.
وقوله: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) يقول تعالى ذكره مكذّبا لهم في قيلهم ذلك: (كَلا) ، ما ذلك كذلك، ولكنه (رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) . يقول: غلب على قلوبهم وغَمَرها وأحاطت بها الذنوب فغطتها، يقال منه: رانت الخمر على عقله، فهي تَرِين عليه رَيْنا، وذلك إذا سكر، فغلبت على عقله؛ ومنه قول أبي زُبيد الطائي:
ثُمَّ لَمَّا رآهُ رَانَتْ بِهِ الخَم ... رُ وأن لا تَرِينَهُ باتِّقاء (1)
يعني: ترينه بمخافة، يقول: سكر فهو لا ينتبه؛ ومنه قول الراجز:
لم نَروَ حتى هَجَّرَت وَرِينَ بي ... وَرِينَ بالسَّاقي الَّذي أمْسَى مَعِي (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاء الأثَر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو خالد، عن ابن عجلان، عن القَعْقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا أذنَبَ العَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَة سَوْدَاءُ، فإنْ تابَ صُقِلَ مِنْها، فإنْ عادَ عادَتْ حتى تَعْظُمَ فِي قَلْبِهِ، فذلكَ الرَّانُ الَّذي قَالَ الله: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ".
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: ثنا ابن عَجلان، عن القَعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المُؤْمَنَ إذَا أذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فإن تابَ وَنزعَ وَاسْتَغْفَرَ صَقَلَتْ
__________
(1) انظر: 151، 155.
(2) عطف على قوله: " ولو كان علم. . . ".(24/286)
قَلْبَهُ، فإنْ زَادَ زَادَتْ حتى تَعْلُو قَلْبَهُ، فَذَلكَ الرَّانُ الَّذي قال الله: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ".
حدثني عليّ بن سهيل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن محمد بن عَجْلان، عن القَعقَاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الْعَبْدَ إذَا أذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فإنْ تابَ مِنْهَا صُقِلَ قَلْبُهُ، فإنْ زَادَ زَادَتْ فَذلكَ قَوْلُ اللهِ: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ".
حدثني أبو صالح الضَّراري محمد بن إسماعيل، قال: أخبرني طارق بن عبد العزيز، عن ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول إلله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْعَبْدَ إذَا أخْطأَ خَطِيئَةً كَانَتْ نُكْتَةٌ فِي قَلْبِهِ، فإنْ تَاب واسْتَغْفَرَ وَنزعَ صَقَلَتْ قَلْبَهُ، وَذَلكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللهُ: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) قال: أبو صالح: كذا قال: صقلت، وقال غيره: سَقَلت.
حدثني عليّ بن سهيل الرمليّ، قال: ثنا الوليد، عن خُلَيد، عن الحسن، قال: وقرأ (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) قال: الذنب على الذنب حتى يموت قلبه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) قال: الذنب على الذنب حتى يَعمى القلب فيموت.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن مجاهد (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) قال: العبد يعمل بالذنوب فتحيط بالقلب، ثم ترتفع، حتى تغشى القلب.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، قال: أرانا مجاهد بيده، قال: كانوا يرون القلب في مثل هذا يعني: الكفّ، فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضمّ أصبعا أخرى، فإذا أذنب ضمّ أصبعا أخرى، حتى ضمّ أصابعه كلها، ثم يطبع عليه بطابع، قال مجاهد: وكانوا يرون أن ذلك الرَّيْن.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: القلب مثل الكفّ، فإذا أذنب الذنب قبض أصبعا، حتى يقبض أصابعه كلها، وإن أصحابنا يرون أنه الران.
حدثنا أبو كُرَيب مرة أخرى بإسناده عن مجاهد قال: القلب(24/287)
مثل الكفّ، وإذا أذنب انقبض وقبض أصبعه، فإذا أذنب انقبض حتى ينقبض كله، ثم يطبع عليه، فكانوا يرون أن ذلك هو الران (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) قال: الخطايا حتى غمرته.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) انبثت على قلبه الخطايا حتى غمرته.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) يقول: يطبع.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) قال: طبع على قلوبهم ما كسبوا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن طلحة، عن عطاء (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) قال: غشيت على قلوبهم فهوت بها، فلا يفزعون، ولا يتحاشون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الحسن (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) قال: هو الذنب حتى يموت القلب.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) قال: الران: الطبع يطبع القلب مثل الراحة، فيذنب الذنب فيصير هكذا، وعقد سفيان الخنصر، ثم يذنب الذنب فيصير هكذا، وقَبض سفيان كفه، فيطبع عليه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أعمال السوء، أي والله ذنب على ذنب، وذنب على ذنب حتى مات قلبه واسودّ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله:(24/288)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
(كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) قال: هذا الذنب على الذنب، حتى يَرِين على القلب فيسودّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) قال: غلب على قلوبهم ذُنُوبهم، فَلا يخْلُص إليها معها خير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) قال: الرجل يذنب الذنب، فيحيط الذنب بقلبه حتى تغشى الذنوب عليه. قال مجاهد: وهي مثل الآية التي في سورة البقرة (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) } .
يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يقول هؤلاء المكذّبون بيوم الدين، من أن لهم عند الله زُلْفة، إنهم يومئذ عن ربهم لمحجوبون، فلا يرونه، ولا يرون شيئا من كرامته يصل إليهم.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فقال بعضهم: معنى ذلك: إنهم محجوبون عن كرامته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن خليد، عن قتادة (كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) هو لا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية بن الوليد، قال: ثنا جرير، قال: ثني نمران أبو الحسن الذماري، عن ابن أبي مليكة أنه كان يقول في هذه الآية (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قال: المنان والمختال والذي يقتطع أموال الناس بيمينه بالباطل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنهم محجوبون عن رؤية ربهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمار الرازي، قال: ثنا أبو معمر المنقري، قال: ثنا عبد الوارث(24/289)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
بن سعيد، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن في قوله: (كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قال: يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون كلّ يوم غُدْوة وعشية، أو كلاما هذا معناه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم أنهم عن رؤيته محجوبون. ويُحتمل أن يكون مرادًا به الحجاب عن كرامته، وأن يكون مرادًا به الحجاب عن ذلك كله، ولا دلالة في الآية تدلّ على أنه مراد بذلك الحجاب عن معنى منه دون معنى، ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت حجته. فالصواب أن يقال: هم محجوبون عن رؤيته، وعن كرامته إذ كان الخبر عاما، لا دلالة على خصوصه.
وقوله: (إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) يقول تعالى ذكره: ثم إنهم لوَارِدُو الجحيم، فمشويُّون فيها، ثم يقال: (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) يقول جلّ ثناؤه: ثم يقال لهؤلاء المكذّبين بيوم الدين: هذا العذاب الذي أنتم فيه اليوم، هو العذاب الذي كنتم في الدنيا تخبرون أنكم ذائقوه، فتكذّبون به، وتنكرونه، فذوقوه الآن، فقد صَلَيْتُم به.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) } .
يقول تعالى ذكره: (كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) والأبرار: جمع برّ، وهم الذين برّوا الله بأداء فرائضه، واجتناب محارمه. وقد كان الحسن يقول: هم الذين لا يؤذون شيئًا حتى الذَّرّ.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشام، عن شيخ، عن الحسن، قال: سُئل عن الأبرار، قال: الذين لا يؤذون الذرّ.
حدثنا إسحاق بن زيد الخطابي، قال: ثنا الفريابي، عن السري بن يحيى، عن الحسن، قال: الأبرار: هم الذين لا يؤذون الذرّ.
وقوله: (لَفِي عِلِّيِّينَ) اختلف أهل التأويل في معنى عليين، فقال بعضهم:(24/290)
هي السماء السابعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف، قال: سأل ابن عباس كعبًا وأنا حاضر عن العليين، فقال كعب: هي السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله - يعني: الْعَتَكي - عن قتادة، في قوله: (إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) قال: في السماء العليا.
حدثني عليّ بن الحسين الأزدي، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أُسامة بن زيد، عن أبيه، في قوله: (إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) قال: في السماء السابعة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عِلِّيِّينَ) قال: السماء السابعة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لَفِي عِلِّيِّينَ) في السماء عند الله.
وقال آخرون: بل العِليُّون: قائمة العرش اليمنى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) ذُكر لنا أن كعبًا كان يقول: هي قائمة العرش اليمنى.
حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد، قال: ثنا مُطَرِّف بن مازن، قاضي اليمن، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) قال: عليون: قائمة العرش اليمنى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فِي عِلِّيِّينَ) قال: فوق السماء السابعة، عند قائمة العرش اليمنى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمِّي، عن حفص، عن شمر بن عطية، قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فسأله، فقال: حدثْنِي عن قول الله: (إِنَّ(24/291)
كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ... ) الآية، فقال كعب: إن الروح المؤمنة إذا قُبِضت، صُعد بها، فَفُتحت لها أبواب السماء، وتلقَّتها الملائكة بالبُشرَى، ثم عَرَجُوا معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لها من عند العرش فيُرقَم رَقّ، ثم يختم بمعرفتها النجاة بحساب يوم القيامة، وتشهد الملائكة المقرّبون.
وقال آخرون: بل عُنِي بالعليين: الجَنَّة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) قال: الجنة.
وقال آخرون: عند سِدْرَةِ المنتهى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني جعفر بن محمد البزوري من أهل الكوفة، قال: ثنا يعلى بن عبيد، عن الأجلح، عن الضحاك قال: إذا قبض روح العبد المؤمن عرج به إلى السماء، فتنطلق معه المقرّبون إلى السماء الثانية، قال الأجلح: قلت: وما المقرّبون؟ قال: أقربهم إلى السماء الثانية، فتنطلق معه المقرّبون إلى السماء الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، حتى تنتهي به إلى سِدْرَة المنتهى. قال الأجلح: قلت للضحاك: لِمَ تُسمَّى سِدْرَة المنتهى؟ قال: لأنه يَنْتَهِي إليها كلّ شيء من أمر الله، لا يعدوها، فتقول: ربّ عبدك فلان، وهو أعلم به منهم، فيبعث الله إليهم بصَكّ مختوم يؤمِّنه من العذاب، فذلك قول الله: (كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) .
وقال آخرون: بل عُنِي بالعِلِّيِّينَ: في السماء عند الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) يقول: أعمالُهُم في كتاب عند الله في السماء.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن كتاب الأبرار في عليين؛ والعليون: جمع معناه: شيء فوق شيء، وعلوّ فوق علوّ، وارتفاع(24/292)
بعد ارتفاع، فلذلك جُمعت بالياء والنون، كجمع الرجال، إذا لم يكن له بناء من واحده واثنيه، كما حُكِيَ عن بعض العرب سماعًا أطْعَمَنَا مَرَقَةَ مَرَقَيْنِ: يعني اللحم المطبوخ (1) كما قال الشاعر:
قَدْ رَوَيَتْ إلا الدُّهَيْدِهِينَا ... قَلَيُّصَاتٍ وَأُبَيْكِرِينَا (2)
فقال: وأبيكرينا، فجمعها بالنون إذ لم يقصد عددًا معلومًا من البكارة، بل أراد عددًا لا يحدّ آخره، وكما قال الآخر:
فَأَصْبَحَتِ المَذَاهِبُ قَدْ أذَاعَتْ ... بِهَا الإعْصَارُ بَعْدَ الْوَابِلينَا (3)
يعني: مطرًا بعد مطر غير محدود العدد، وكذلك تفعل العرب في كلّ جمع لم يكن بناء له من واحده واثنيه، فجمعه في جميع الإناث والذكران بالنون على ما قد بيَّنا، ومن ذلك قولهم للرجال والنساء: عشرون وثلاثون. فإذا كان ذلك كالذي ذكرنا، فبين أنّ قوله: (لَفِي عِلِّيِّينَ) معناه: في علوّ وارتفاع في سماء فوق سماء، وعلوّ فوق علوّ وجائز أن يكون ذلك إلى السماء السابعة،
__________
(1) جواب " لو كان علم. . . وكان عقل ".
(2) ديوان الهذليين 2: 101. في المطبوعة: "جلدة" وهو خطأ وقوله "جدة" يعني شبابه الجديد. والجدة: نقيض البلى. والتراب الأعفر: الأبيض، قل أن يطأه الناس لجدبه. وخالد: صديق له من قومه، يرثيه.
(3) القسم الثاني من ديوانه: 46، وقال ابن سلام في طبقات فحول الشعراء: ص 50 وذكر البيت وبيتًا معه، أنهما قد رويا عن الشعبي (ابن سعد 6: 178) ، وهما يحملان على لبيد، ثم قال: "ولا اختلاف في أن هذا مصنوع تكثر به الأحاديث، ويستعان به على السهر عند الملوك والملوك لا تستقصي". أجهش بالبكاء: تهيأ له وخنقه بكاؤه.(24/293)
وإلى سدرة المنتهى، وإلى قائمة العرش، ولا خبر يقطع العذر بأنه معنيّ به بعض ذلك دون بعض.
والصواب أن يقال في ذلك، كما قال جلّ ثناؤه: إن كتاب أعمال الأبرار لفي ارتفاع إلى حدّ قد علم الله جلّ وعزّ منتهاه، ولا علم عندنا بغايته، غير أن ذلك لا يقصر عن السماء السابعة، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مُعَجِّبه من عليين: وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما عليون.
وقوله: (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) يقول جلّ ثناؤه: إن كتاب الأبرار لفي عليين، (كتاب مرقوم) : أي مكتوب بأمان من الله إياه من النار يوم القيامة، والفوز بالجنة، كما قد ذكرناه قبل عن كعب الأحبار والضحاك بن مُزَاحم.
وكما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) رقم.
وقوله: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يقول: يشهد ذلك الكتاب المكتوب بأمان الله للبَرّ من عباده من النار، وفوزه بالجنة، المقرّبون من ملائكته من كلّ سماء من السموات السبع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) قال: كلّ أهل السماء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) من ملائكة الله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) قال: يشهده مقرّبو أهل كلّ سماء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) قال: الملائكة.
وقوله: (إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) يقول تعالى ذكره: إن الأبرار الذين بَرّوا(24/294)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
باتقاء الله وأداء فرائضه، لفي نعيم دائم، لا يزول يوم القيامة، وذلك نعيمهم في الجنان.
القول في تأويل قوله تعالى: {عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) } .
يعني تعالى ذكره بقوله: (عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ) على السرر في الحجال من اللؤلؤ والياقوت ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة والنعيم، والحَبْرة في الجنان.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَلَى الأرَائِكِ) قال: من اللؤلؤ والياقوت.
قال: ثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حصين، عن مجاهد، عن ابن عباس (الأرَائِكِ) السُّررُ في الحَجال.
وقوله: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) يقول تعالى ذكره: تعرف في الأبرار الذين وصف الله صفتهم (نضرة النعيم) ، يعني: حُسنه وبريقه وتلألؤه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (تَعْرِفُ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى أبي جعفر القارئ (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ) بفتح التاء من تعرف على وجه الخطاب (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) بنصب نضرة. وقرأ ذلك أبو جعفر: (تُعْرَفُ) بضم التاء على وجه ما لم يسمّ فاعله (فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ) برفع نضرة.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا: ما عليه قرّاء الأمصار، وذلك فتح التاء من (تَعْرِفُ) ونصب (نَضْرَةَ) .
وقوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) يقول: يُسقى هؤلاء الأبرار من خمر صرف لا غشّ فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن(24/295)
عباس، في قوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) قال: من الخمر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) يعني بالرحيق: الخمر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) قال: خمر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الرحيق: الخمر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (رَحِيقٍ) قال: هو الخمر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) يقول: الخمر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) الرحيق المختوم: الخمر، قال حسان:
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عَلَيْهِمُ ... بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ (1)
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) قال: هو الخمر.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله قال: الرحيق: الخمر.
وأما قوله: (مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معنى ذلك: ممزوج مخلوط، مِزاجه وخِلطه مِسك.
__________
(1) الكامل للمبرد 1: 191، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم 1: 52، المخصص 17: 155.(24/296)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن يزيد بن معاوية، وعلقمة عن عبد الله بن مسعود (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: ليس بخاتم، ولكن خلط.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن أشعث بن سليم، عن يزيد بن معاوية، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: أما إنه ليس بالخاتم الذي يختم، أما سمعتم المرأة من نسائكم تقول: طيب كذا وكذا خلطه مسك.
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ، قال: ثنا أيوب، عن أشعث بن أبي الشعثاء عمن ذكره عن علقمة، في قوله: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: خلطه مسك.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله (مختوم) قال: ممزوج (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: طعمه وريحه.
قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن يزيد بن معاوية، عن علقمة (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: طعمه وريحه مسك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن آخر شرابهم يُخْتم بمسك يجعل فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ) يقول: الخمر خُتِمَ بالمسك.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: طيَّب الله لهم الخمر، فكان آخر شيء جعل فيها حتى تختم المسك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: عاقبته مسك قوم تُمزَج لهم بالكافور، وتختم بالمسك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: عاقبته مِسك.(24/297)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: طيَّب الله لهم الخمر، فوجدوا فيها في آخر شيء منها ريح المسك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا حاتم بن وردان، قال: ثنا أبو حمزة، عن إبراهيم والحسن في هذه الآية: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: عاقبته مسك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن جابر عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي الدرداء (خِتَامُهُ مِسْكٌ) فالشراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم، ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها.
وقال آخرون: عُنِي بقوله: (مَخْتُومٍ) مُطَيَّن (خِتَامُهُ مِسْكٌ) طينه مسك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح. عن مجاهد، قوله: (مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ) قال: طينه مسك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مَخْتُومٍ) الخمر (خِتَامُهُ مِسْكٌ) : ختامه عند الله مسك، وختامها اليوم في الدنيا طين.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معنى ذلك: آخره وعاقبته مسك: أي هي طيبة الريح، إن ريحها في آخر شربهم يختم لها بريح المسك.
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة؛ لأنه لا وجه للختم في كلام العرب إلا الطبع والفراغ، كقولهم: ختم فلان القرآن: إذا أتى على آخره، فإذا كان لا وجه للطبع على شراب أهل الجنة، يفهم إذا كان شرابهم جاريًا، جري الماء في الأنهار، ولم يكن معتقًا في الدنان فيطين عليها وتختم، تعين أن الصحيح من ذلك الوجه الآخر وهو العاقبة والمشروب آخرًا، وهو الذي ختم به الشراب. وأما الختم بمعنى:: المزج، فلا نعلمه مسموعًا من كلام العرب.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: (خِتَامُهُ مِسْكٌ)(24/298)
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
سوى الكسائيّ، فإنه كان يقرأه (خاتَمَهُ مِسْكٌ) .
والصواب من القول عندنا في ذلك ما عليه قرأة الأمصار، وهو (خِتَامُهُ) لإجماع الحجة من القرّاء عليه، والختام والخاتم وإن اختلفا في اللفظ، فإنهما متقاربان في المعنى غير أن الخاتم اسم، والختام مصدر؛ ومنه قول الفرزدق.
فَبِتْنَ بِجَانبيَّ مُصَرَّعاتٍ ... وَبِتُّ أفُضُّ أغْلاقَ الخِتامِ (1)
ونظير ذلك قولهم: هو كريم الطبائع والطباع.
وقوله: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) يقول تعالى ذكره: وفي هذا النعيم الذي وصف جل ثناؤه أنه أعطى هؤلاء الأبرار في القيامة، فليتنافس المتنافسون. والتنافس: أن يَنفِس الرجل على الرجل بالشيء يكون له، ويتمنى أن يكون له دونه، وهو مأخوذ من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس، وتطلبه وتشتهيه، وكان معناه في ذلك. فليجدّ الناس فيه، وإليه فليستبقوا في طلبه، ولتحرص عليه نفوسهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) } .
يقول تعالى ذكره: ومزاج هذا الرحيق من تسنيم؛ والتسنيم: التفعيل من قول القائل: سنَّمتهم العين تسنيمًا: إذا أجريتها عليهم من فوقهم، فكان معناه في هذا الموضع: ومزاجه من ماء ينزل عليهم من فوقهم فينحدر عليهم. وقد كان مجاهد والكلبيّ يقولان في ذلك كذلك.
__________
(1) الكامل للمبرد 1: 192 منسوبًا إلى يزيد بن أبي الصعق الكلابي، وكذلك في جمهرة الأمثال للعسكري: 196، والمخصص 17: 155، وفي اللسان (زنأ) و (دان) منسوبين إلى خويلد بن نوفل الكلابي، وفي الخزانة 4: 230 إلى بعض الكلابيين. يقولون: إن الحارث بن أبي شمر الغساني كان إذا أعجبته امرأة من قيس عيلان بعث إليها واغتصبها، فأخذ بنت يزيد بن الصعق الكلابي، وكان أبوها غائبًا، فلما قدم أخبر. فوفد إليه فوقف بين يديه وقال: يَا أَيُّهَا المَلِكُ المُقِيتُ! أمَا تَرى ... لَيْلاً وصُبْحًا كَيْف يَخْتَلِفَانِ ?
هَلْ تَسْتَطِيعُ الشَّمْسَ أن تَأتِي بها ... لَيْلاً ? وهل لَكَ بِالْمَلِيك يَدَانِ?
يَا حَارِ، أيْقِنْ أنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(24/299)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تَسْنِيمٍ) قال: تسنيم: يعلو.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبيّ، في قوله: (تَسْنِيمٍ) قال: تسنيم ينصبّ عليهم من فوقهم، وهو شراب المقرّبين. وأما سائر أهل التأويل، فقالوا: هو عين يمزج بها الرحيق لأصحاب اليمين، وأما المقرّبون، فيشربونها صِرْفًا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله في قوله: (مِنْ تَسْنِيمٍ) قال: عين في الجنة يشربها المقرّبون، وتمزج لأصحاب اليمين.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) قال: يشربه المقرّبون صرفا، ويمزج لأصحاب اليمين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مالك بن الحارث، عن مسروق (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) قال: عين في الجنة يشربها المقرّبون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين.
قال ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) قال: يشرب بها المقرّبون صِرفًا، وتمزج لأصحاب اليمين.
حدثني طلحة بن يحيى اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن مالك بن الحارث، في قوله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) قال: في الجنة عين يشرب منها المقرّبون صرفا، وتمزج لسائر أهل الجنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قوله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) صرفًا، ويمزج فيها لمن دونهم.(24/300)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مالك بن الحارث، في قوله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) قال: التسنيم: عين في الجنة يشربها المقرّبون صرفا، وتمزج لسائر أهل الجنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قوله (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) قال: عين يشرب بها المقرّبون، ويمزج فيها لمن دونهم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) عينًا من ماء الجنة تُمزج به الخمر.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) قال: خفايا أخفاها الله لأهل الجنة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) قال: هو أشرف شراب في الجنة. هو للمقرّبين صرف، وهو لأهل الجنة مزاج.
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) شراب شريف، عين في الجنة يشربها المقرّبون صرفا، وتمزج لسائر أهل الجنة.
حدثني يونس. قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) قال: بلغنا أنها عين تخرج من تحت العرش، وهي مزاج هذه الخمر، يعني مزاج الرحيق.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (مِنْ تَسْنِيمٍ) شراب اسمه تسنيم وهو من أشرف الشراب. فتأويل الكلام: ومزاج الرحيق من عين تُسَنَّم عليهم من فوقهم، فتنصبّ عليهم (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) من الله صرفا، وتمزج لأهل الجنة.
واختلفت أهل العربية في وجه نصب قوله: (عَيْنًا) قال بعض نحويي البصرة: إن شئت جعلت نصبه على يسقون عينا، وإن شئت جعلته مدحا، فيقطع من أوّل الكلام، فكأنك تقول: أعني: عينا.(24/301)
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
وقال بعض نحويي الكوفة: نصب العين على وجهين: أحدهما: أن ينوي من تسنيم عَيْن، فإذا نوَّنت نصبت، كما قال: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا) وكما قال: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً) . والوجه الآخر: أن ينوي من ماء سُنِّم عينًا، كقولك: رفع عينا يشرب بها. قال: وإن لم يكن التسنيم اسما للماء فالعين نكرة، والتسنيم معرفة، وإن كان اسمًا للماء فالعين نكرة (1) فخرجت نصبا. وقال آخر من البصريين: (مِنْ تَسْنِيمٍ) معرفة، ثم قال: (عَيْنا) فجاءت نكرة، فنصبتها صفة لها. وقال آخر نُصبت بمعنى: من ماء يَتَسَنَّم عينا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن التسنيم اسم معرفة والعين نكرة، فنصبت لذلك إذ كانت صفة له.
وإنما قلنا: ذلك هو الصواب لما قد قدّمنا من الرواية عن أهل التأويل، أن التسنيم هو العين، فكان معلومًا بذلك أن العين إذ كانت منصوبة وهي نكرة، وأن التسنيم معرفة.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) يقول تعالى ذكره: إن الذين اكتسبوا المآثم، فكفروا بالله في الدنيا، كانوا فيها من الذين أقرّوا بوحدانية الله، وصدّقوا به (يضحكون) ، استهزاء منهم بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) في الدنيا، يقولون: والله إن هؤلاء لكذَبة وما هم على شيء استهزاء بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) } .
__________
(1) الخبر 167 - سبق تخريجه في الخبر 166.(24/302)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
يقول تعالى ذكره: وكان هؤلاء الذين أجرموا إذا مرّ الذين آمنوا بهم يتغامزون؛ يقول: كان بعضهم يغمز بعضا بالمؤمن، استهزاء به وسخرية.
وقوله: (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَاكِِهِينَ) يقول: وكان هؤلاء المجرمون إذا انصرفوا إلى أهلهم من مجالسهم انصرفوا ناعمين معجَبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (انْقَلَبُوا فَاكِِهِينَ) قال: معجبين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَاكِِهِينَ) قال: انقلب ناعما، قال: هذا في الدنيا، ثم أعقب النار في الآخرة.
وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يفرق بين معنى فاكهين وفكهين، فيقول: معنى فاكهين: ناعمين، وفكهين: مَرِحين. وكان غيره يقول: ذلك بمعنى واحد، وإنما هو بمنزلة طامع وطَمِع، وباخل وبخل.
وقوله: (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ) يقول تعالى ذكره: وإذا رأى المجرمون المؤمنين قالوا لهم: إن هؤلاء لضالون عن محجة الحقّ، وسبيل القصد (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) يقول جل ثناؤه: وما بعث هؤلاء الكفار القائلون للمؤمنين (إن هؤلاء لضالون) حافظين عليهم أعمالهم. يقول: إنما كُلِّفوا الإيمان بالله، والعمل بطاعته، ولم يُجعلوا رُقباء على غيرهم يحفظون عليهم أعمالهم ويتفقدونها.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) } .(24/303)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
القول في تأويل قوله تعالى: {عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) } .
يقول تعالى ذكره: (فَالْيَوْمَ) وذلك يوم القيامة (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله في الدنيا (مِنَ الْكُفَّارِ) فيها (يَضْحَكُونَ عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ) يقول: على سررهم التي في الحجال(24/303)
ينظرون إليهم وهم في الجنة، والكفار في النار يعذّبون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ) قال: يعني: السُّرر المرفوعة عليها الحِجال. وكان ابن عباس يقول: إن السور الذي بين الجنة والنار يُفتح لهم فيه أبواب، فينظر المؤمنون إلى أهل النار، والمؤمنون على السرر ينظرون 24-305كيف يعذّبون، فيضحكون منهم، فيكون ذلك مما أقرّ الله به أعينهم، كيف ينتقم الله منهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) ذُكر لنا أن كعبا كان يقول: إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدّو كان له في الدنيا، اطلع من بعض الكوى، قال الله جل ثناؤه: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) أي في وسط النار، وذُكر لنا أنه رأى جماجم القوم تغلي.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال كعب: إن بين أهل الجنة وبين أهل النار كوى، لا يشاء رجل من أهل الجنة أن ينظر إلى غيره من أهل النار إلا فعل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ) كان ابن عباس يقول: السور بين أهل الجنة والنار، فيفتح لأهل الجنة أبواب، فينظرون وهم على السُّرر إلى أهل النار كيف يعذّبون، فيضحكون منهم، ويكون ذلك مما أقرّ الله به أعينهم، كيف ينتقم الله منهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) قال: يُجاء بالكفار حتى ينظروا إلى أهل الجنة في الجنة، على سرر، فحين ينظرون إليهم تغلق دونهم الأبواب، ويضحك أهل الجنة منهم، فهو قوله: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ) .(24/304)
وقوله: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) يقول تعالى ذكره: هل أثيب الكفار وجُزُوا ثواب ما كانوا في الدنيا يفعلون بالمؤمنين من سخريتهم منهم، وضحكهم بهم بضحك المؤمنين منهم في الآخرة، والمؤمنون على الأرائك ينظرون، وهم في النار يعذّبون.
و (ثُوِّبَ) فعل من الثواب والجزاء، يقال منه: ثوّب فلان فلانًا على صنيعه، وأثابه منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) قال: جزي.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) حين كانوا يسخرون.
آخر تفسير سورة ويل للمطففين.(24/305)
تفسير سورة إذا السماء انشقت(24/307)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) } .
يقول تعالى ذكره: إذا السماء تصدّعت وتقطَّعت فكانت أبوابًا.
وقوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) يقول: وَسَمِعَت السموات في تصدّعها وتشققها لربها وأطاعت له في أمره إياها، والعرب تقول: أذن لك في هذا الأمر أذنًا بمعنى: استمع لك، ومنه الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أذِنَ اللهُ لِشَيءٍ كأَذَنِهِ لنَبِيّ يَتَغَنَّى بالقُرآنِ" يعني بذلك: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبيّ يتغنى بالقرآن، ومنه قول الشاعر:
صُمّ إذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا (1)
وأصل قولهم في الطاعة سمع له من الاستماع، يقال منه: سمعت لك، بمعنى سمعت قولك، وأطعت فيما قلتَ وأمرت.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن
__________
(1) الخبر 168 - هذا الإسناد من أكثر الأسانيد دورانًا في تفسير الطبري، إن لم يكن أكثرها، فلا يكاد يخلو تفسير آية من رواية بهذا الإسناد. وقد عرض الطبري نفسه في (ص 121 بولاق، سطر: 28 وما بعده) ، فقال، وقد ذكر الخبر عن ابن مسعود وابن عباس بهذا الإسناد: "فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كان بإسناده مرتابًا. . . . ". ولم يبين علة ارتيابه في إسناده، وهو مع ارتيابه قد أكثر من الرواية به. ولكنه لم يجعلها حجة قط.
بيد أني أراه إسنادا يحتاج إلى بحث دقيق. ولأئمة الحديث كلام فيه وفي بعض رجاله. وقد تتبعت ما قالوا وما يدعو إليه بحثه، ما استطعت، وبدا لي فيه رأي، أرجو أن يكون صوابًا، إن شاء الله. وما توفيقي إلا بالله:
أما شيخ الطبري، وهو "موسى بن هارون الهمداني": فما وجدت له ترجمة، ولا ذكرًا في شيء مما بين يدي من المراجع، إلا ما يرويه عنه الطبري أيضًا في تاريخه، وهو أكثر من خمسين موضعًا في الجزئين الأول والثاني منه. وما بنا حاجة إلى ترجمته من جهة الجرح والتعديل، فإن هذا التفسير الذي يرويه عن عمرو بن حماد، معروف عند أهل العلم بالحديث. وما هو إلا رواية كتاب، لا رواية حديث بعينه.
"وعمرو بن حماد": هو عمرو بن حماد بن طلحة القناد، وقد ينسب إلى جده، فيقال عمرو بن طلحة، وهو ثقة، روى عنه مسلم في صحيحه، وترجمه ابن سعد في الطبقات 6: 285، وقال: "وكان ثقة إن شاء الله" مات سنة 222. وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 / 228، وروى عن أبيه ويحيى بن معين أنهما قالا فيه: "صدوق".
أسباط بن نصر الهمداني: مختلف فيه، وضعفه أحمد، وذكره ابن حبان في الثقات: 410، ةترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 53 فلم يذكر فيه جرحًا، وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 332، وروى عن يحيى بن معين قال: "أسباط بن نصر ثقة". وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند، في الحديث 1286.
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي: هو السدي الكبير، قرشي بالولاء، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة، من بني عبد مناف، كما نص على ذلك البخاري في تاريخيه: الصغير: 141 - 142، والكبير 1 / 1 / 361، وهو تابعي، سمع أنسًا، كما نص على ذلك البخاري أيضًا، وروى عن غيره من الصحابة، وعن كثير من التابعين. وهو ثقة. أخرج له مسلم في صحيحه، وثقه أحمد بن حنبل، فيما روى ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 184، وروى أيضًا عن أحمد، قال: "قال لي يحيى بن معين يومًا عند عبد الرحمن بن مهدي: السدي ضعيف، فغضب عبد الرحمن، وكره ما قال": وفي الميزان والتهذيب "أن الشعبي قيل له: إن السدي قد أعطي حظًا من علم القرآن، فقال: قد أعطي حظًا من جهل بالقرآن! ". وعندي أن هذه الكلمة من الشعبي قد تكون أساسا لقول كل من تكلم في السدي بغير حق. ولذلك لم يعبأ البخاري بهذا القول من الشعبي، ولم يروه، بل روى في الكبير عن مسدد عن يحيى قال: " سمعت ابن أبي خالد يقول: السدي أعلم بالقرآن من الشعبي". وروى في تاريخيه عن ابن المديني عن يحيى، وهو القطان، قال: "ما رأيت أحدًا يذكر السدي إلا بخير، وما تركه أحد". وفي التهذيب: "قال العجلي: ثقة عالم بالتفسير راوية له". وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند 807. وتوفي السدي سنة 127.
و"السدي": بضم السين وتشديد الدال المهملتين، نسبة إلى "السدة"، وهي الباب، لأنه كان يجلس إلى سدة الجامع بالكوفة، ويبيع بها المقانع.
أبو مالك: هو الغفاري، واسمه غزوان. وهو تابعي كوفي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 108، وابن سعد في الطبقات 6: 206، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 2 / 55، وروى توثيقه يحيى بن معين.
أبو صالح: هو مولى أم هانئ بنت أبي طالب، واسمه باذام، ويقال باذان. وهو تابعي ثقة، رجحنا توثيقه في شرح المسند 2030، وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 144، وروى عن محمد بن بشار، قال: "ترك ابن مهدي حديث أبي صالح". وكذلك روى ابن أبي حاتم في ترجمته في الجرح والتعديل 1 / 1 / 431 - 432 عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي. ولكنه أيضًا عن يحيى بن سعيد القطان، قال: " لم أرَ أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ، وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان". وروى أيضًا عن يحيى بن معين، قال: " أبو صالح مولى أم هانئ ليس به بأس، فإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وإذا روى عنه غير الكلبي فليس به بأس، لأن الكلبي يحدث به مرة من رأيه، ومرة عن أبي صالح، ومرة عن أبي صالح عن ابن عباس". يعني بهذا أن الطعن فيما يروي عنه هو في رواية الكلبي، كما هو ظاهر.
هذا عن القسم الأول من هذا الإسناد. فإنه في حقيقته إسنادان أو ثلاثة. أولهما هذا المتصل بابن عباس.
والقسم الثاني، أو الإسناد الثاني: "وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود". والذي يروي عن مرة الهمداني: هو السدي نفسه.
ومرة: هو ابن شراحيل الهمداني الكوفي، وهو تابعي ثقة، من كبار التابعين، ليس فيه خلاف بينهم.
والقسم الثالث، أو الإسناد الثالث: "وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
وهذا أيضًا من رواية السدي نفسه عن ناس من الصحابة.
فالسدي يروي هذه التفاسير لآيات من القرآن: عن اثنين من التابعين عن ابن عباس، وعن تابعي واحد عن ابن مسعود، ومن رواية نفسه عن ناس من الصحابة.
وللعلماء الأئمة الأقدمين كلام في هذا التفسير، بهذه الأسانيد، قد يوهم أنه من تأليف من دون السدي من الرواة عنه، إلا أني استيقنت بعدُ، أنه كتاب ألفه السدي.
فمن ذلك قول ابن سعد في ترجمة "عمرو بن حماد القناد" 6: 285: "صاحب تفسير أسباط بن نصر عن السدي". وقال في ترجمة "أسباط بن نصر" 6: 261: "وكان راوية السدي، روى عنه التفسير". وقال قبل ذلك في ترجمة "السدي" 6: 225: "إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، صاحب التفسير". وقال قبل ذلك أيضًا، في ترجمة "أبي مالك الغفاري" 6: 206: "أبو مالك الغفاري صاحب التفسير، وكان قليل الحديث".
ولكن الذي يرجح أنه كتاب ألفه السدي، جمع فيه التفسير، بهذه الطرق الثلاث، قول أحمد بن حنبل في التهذيب 1: 314، في ترجمة السدي: "إنه ليحسن الحديث، إلا أن هذا التفسير الذي يجئ به، قد جعل له إسنادًا، واستكلفه". وقول الحافظ في التهذيب أيضًا 1: 315: "قد أخرج الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما، في تفاسيرهم، تفسير السدي، مفرقًا في السور، من طريق أسباط بن نصر عنه".
وقول السيوطي في الإتقان 2: 224 فيما نقل عن الخليل في الإرشاد: "وتفسير إسماعيل السدي، يورده بأسانيد إلى ابن مسعود وابن عباس. وروى عن السدي الأئمة، مثل الثوري وشعبة. ولكن التفسير الذي جمعه، رواه أسباط بن نصر. وأسباط لم يتفقوا عليه. غير أن أمثل التفاسير تفسير السدي". ثم قال السيوطي: "وتفسير السدي، [الذي] أشار إليه، يورد منه ابن جرير كثيرًا، من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، و [عن] ناس من الصحابة. هكذا. ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئًا، لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد. والحاكم يخرج منه في مستدركه أشياء، ويصححه، لكن من طريق مرة عن ابن مسعود وناس، فقط، دون الطريق الأول، وقد قال ابن كثير: إن هذا الإسناد يروي به السدي أشياء فيها غرابة".
وأول ما نشير إليه في هذه الأقوال: التناقض بين قولي الحافظ ابن حجر والسيوطي، في أن ابن أبي حاتم أخرج تفسير السدي مفرقًا في تفسيره، كما صنع الطبري، في نقل الحافظ، وأنه أعرض عنه، في نقل السيوطي. ولست أستطيع الجزم في ذلك بشيء، إذ لم أرَ تفسير ابن أبي حاتم. ولكني أميل إلى ترجيح نقل ابن حجر، بأنه أكثر تثبتًا ودقة في النقل من السيوطي.
ثم قد صدق السيوطي فيما نقل عن الحاكم. فإنه يروي بعض هذا التفسير في المستدرك، بإسناده، إلى أحمد بن نصر: "حدثنا عمرو بن طلحة القناد حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، عن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم". ثم يصححه على شرط مسلم، ويوافقه الذهبي في تلخيصه. من ذلك في المستدرك 2: 258، 260، 273، 321.
والحاكم في ذلك على صواب، فإن مسلمًا أخرج لجميع رجال هذا الإسناد. من عمرو بن حماد بن طلحة القناد إلى مرة الهمداني. ولم يخرج لأبي صالح باذام ولا لأبي مالك الغفاري، في القسم الأول من الإسناد الذي روى به السدي تفاسيره.
أما كلمة الإمام أحمد بن حنبل في السدي "إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به، قد جعل له إسنادًا واستكلفه" فإنه لا يريد ما قد يفهم من ظاهرها: أنه اصطنع إسنادا لا أصل له؛ إذ لو كان ذلك، لكان -عنده- كذابًا وضاعًا للرواية. ولكنه يريد -فيما أرى، والله أعلم- أنه جمع هذه التفاسير، من روايته عن هؤلاء الناس: عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، ثم ساقها كلها مفصلة، على الآيات التي ورد فيها شيء من التفسير، عن هذا أو ذاك أو أولئك، وجعل لها كلها هذا الإسناد، وتكلف أن يسوقها به مساقًا واحدًا.
أعني: أنه جمع مفرق هذه التفاسير في كتاب واحد، جعل له في أوله هذه الأسانيد. يريد بها أن ما رواه من التفاسير في هذا الكتاب، لا يخرج عن هذه الأسانيد. ولا أكاد أعقل أنه يروي كل حرف من هذه التفاسير عنهم جميعا. فهو كتاب مؤلف في التفسير، مرجع فيه إلى الرواية عن هؤلاء، في الجملة، لا في التفصيل.
إنما الذي أوقع الناس في هذه الشبهة، تفريق هذه التفاسير في مواضعها، مثل صنيع الطبري بين أيدينا، ومثل صنيع ابن أبي حاتم، فيما نقل الحافظ ابن حجر، ومثل صنيع الحاكم في المستدرك. فأنا أكاد أجزم أن هذا التفريق خطأ منهم، لأنه يوهم القارئ أن كل حرف من هذه التفاسير مروي بهذه الأسانيد كلها، لأنهم يسوقونها كاملة عند كل إسناد، والحاكم يختار منها إسنادًا واحدًا يذكره عند كل تفسير منها يريد روايته. وقد يكون ما رواه الحاكم -مثلا- بالإسناد إلى ابن مسعود، ليس مما روى السدي عن ابن مسعود نصًا. بل لعله مما رواه من تفسير ابن عباس، او مما رواه ناس من الصحابة، روى عن كل واحد منهم شيئًا، فأسند الجملة، ولم يسند التفاصيل.
ولم يكن السدي ببدع في ذلك، ولا يكون هذا جرحًا فيه ولا قدحًا. إنما يريد إسناد هذه التفاسير إلى الصحابة، بعضها عن ابن عباس، وبعضها عن ابن مسعود، وبعضها عن غيرهما منهم. وقد صنع غيره من حفاظ الحديث وأئمته نحوًا مما صنع، فما كان ذلك بمطعن فيهم، بل تقبلها الحفاظ بعدهم، وأخرجوها في دواوينهم. ويحضرني الآن من ذلك صنيع معاصره: ابن شهاب الزهري الإمام. فقد روى قصة حديث الإفك، فقال: "أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا. وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضا "، إلخ.
فذكر الحديث بطوله. وهو في صحيح مسلم 2: 333 - 335. وسيأتي في تفسير الطبري (18: 71 - 74 بولاق) . ورواه الإمام أحمد والبخاري في صحيحه، كما في تفسير ابن كثير 6: 68 - 73. ثم قال ابن كثير: " وهكذا رواه ابن إسحاق عن الزهري كذلك، قال: " وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة، وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة ". وإسناد ابن إسحاق الأخير في الطبري أيضًا. والإسنادان كلاهما رواهما ابن إسحاق عن الزهري، في السيرة (ص 731 من سيرة ابن هشام) .
والمثل على ذلك كثيرة، يعسر الآن تتبعها.
وقد أفادنا هذا البحث أن تفسير السدي من أوائل الكتب التي ألفت في رواية الأحاديث والآثار.
وهو من طبقة عالية، من طبقة شيوخ مالك من التابعين.
وبعد: فأما هذا الخبر بعينه، فقد رواه الحاكم في المستدرك 2: 258، بالإسناد الذي أشرنا إليه، من رواية السدي عن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". وافقه الذهبي. ونقله السيوطي في الدر المنثور 1: 14 عن ابن جرير والحاكم، وصححه، عن ابن مسعود وناس من الصحابة ".(24/309)
ابن عباس، قوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) قال: سمعت لربها.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) قال: سمعت وأطاعت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) قال: سمعت.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) قال: سمعت وأطاعت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) : أي سمعت وأطاعت.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) قال: سمعت وأطاعت.
وقوله: (وَحُقَّتْ) يقول: وحقق الله عليها الاستماع بالانشقاق والانتهاء إلى طاعته في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (وَحُقَّتْ) قال: حُقِّقَت لطاعة ربها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر، عن سعيد بن جُبير (وَحُقَّتْ) وحُقّ لها.
وقوله: (وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ) يقول تعالى ذكره: وإذا الأرض بُسِطَتْ، فزيدت في سعتها.
كالذي حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، عن عليّ بن حسين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَدَّ اللهُ(24/310)
الأرْضَ حَتّى لا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ النَّاسِ إلا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ، فَأَكُونَ أوَّلَ مَنْ يُدْعَي، وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَاللهِ ما رآهُ قَبْلَهَا، فأقُولُ يَا رَبّ إنَّ هَذَا أخْبَرَنِي أنَّكَ أرْسَلْتَهُ إليَّ، فَيَقُولُ: صَدَقَ، ثُمَّ أشْفَعُ فَأَقُولُ: يَا رَبّ عِبَادُكَ عَبَدُوكَ فِي أطْرَافِ الأرْضِ. - قال-: وَهُوَ المَقَامُ الْمَحْمُودُ".
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مُدَّتْ) قال: يوم القيامة.
وقوله: (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) يقول جلّ ثناؤه: وألقت الأرض ما في بطنها من الموتى إلى ظهرها وتخلَّتْ منهم إلى الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) قال: أخرجت ما فيها من الموتى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) قال: أخرجت أثقالها وما فيها.
وقوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) يقول: وسمعت الأرض في إلقائها ما في بطنها من الموتى إلى ظهرها أحياء، أمر ربها وأطاعت (وَحُقَّتْ) يقول: وحقَّقها الله للاستماع لأمره في ذلك، والانتهاء إلى طاعته.
واختلف أهل العربية في موقع جواب قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) ، وقوله: (وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ) فقال بعض نحويي البصرة: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) على معنى قوله: (يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) إذا السماء انشقت، على التقديم والتأخير.
وقال بعض نحويي الكوفة: قال بعض المفسرين: جواب (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) قوله: (وَأَذِنَتْ) قال: ونرى أنه رأي ارتآه المفسر، وشبَّهه بقول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) لأنا لم نسمع جوابًا بالواو في إذا مبتدأة، ولا كلام قبلها،(24/311)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
ولا في إذا، إذا ابتدئت. قال: وإنما تجيب العرب بالواو في قوله: حتى إذا كان، وفلما أن كان، لم يجاوزوا ذلك؛ قال: والجواب في (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) وفي (إِذَا الأرْضُ مُدَّتْ) كالمتروك؛ لأن المعنى معروف قد تردّد في القرآن معناه، فعرف وإن شئت كان جوابه: يأيُّها الإنسان، كقول القائل: إذا كان كذا وكذا، فيأيها الناس ترون ما عملتم من خير أو شرّ، تجعل (يأيُّهَا الإنسان) هو الجواب، وتضمر فيه الفاء، وقد فُسَّر جواب (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فيما يلقى الإنسان من ثواب وعقاب، فكأن المعنى: ترى الثواب والعقاب إذا السماء انشقَّتْ.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن جوابه محذوف ترك استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه. ومعنى الكلام: (إذا السماء انشقت) رأى الإنسان ما قدّم من خير أو شرّ، وقد بين ذلك قوله: (يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) والآياتُ بعدها.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) } .
يقول تعالى ذكره: يأيُّها الإنسان إنك عامل إلى ربك عملا فملاقيه به خيرًا كان عملك ذلك أو شرًا، يقول: فليكن عملك مما يُنجيك من سُخْطه، ويوجب لك رضاه، ولا يكن مما يُسخطه عليك فتهلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) يقول: تعمل عملا تلقى الله به خيرًا كان أو شرًّا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) إن كدحك يا ابن آدم لضعيف، فمن(24/312)
استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل، ولا قوّة إلا بالله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا) قال: عامل له عملا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسمعته يقول في ذلك: (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا) قال: عامل إلى ربك عملا قال: كدحا: العمل.
وقوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) يقول تعالى ذكره: فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) بأن ينظر في أعماله، فيغفر له سيئها، ويُجازى على حُسنها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وجاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزُّبير، عن عائشة، قالت: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا" قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: "أن يُنْظَرَ فِي سَيِّئاتِهِ فَيُتَجَاوَزُ عَنْهُ، إنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَئِذٍ هَلَكَ".
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير، عن عباد بن عبد الله بن الزيير، عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: "اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا"، فلما انصرف قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: "يُنْظَرُ فِي كِتَابِهِ، وَيُتَجَاوَزُ عَنْهُ، إنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَئِذٍ يا عَائِشَةُ هَلَكَ".
حدثنا نصر بن عليّ الجَهْضَمِيّ، قال: ثنا مسلم، عن الحريش بن الخرّيت أخي الزبير، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: من نُوقش الحساب، أو من حوسب عذّب، قال: ثم قالت: إنما الحساب اليسير: عَرْض على الله وهو يراهم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، وحدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أن رسول الله(24/313)
صلى الله عليه وسلم، قال: "مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذَّبَ"، فقلت: أليس الله يقول: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) قال: "لَيْسَ ذَلِكَ الْحِسَابُ إنَّمَا ذلكَ العَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِبَ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا أبو عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّهُ لَيْسَ أحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ القِيَامَةِ إلا مُعَذَّبًا"، فقلت: أليس يقول الله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) ؟ قال: "ذَلِكَ الْعَرضُ، إنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذّبَ"، وقال بيده على أصبعه كأنه ينكته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) قال: الحساب اليسير: الذي يغفر ذنوبه، ويتقبَّل حسناته، ويسير الحساب الذي يعفى عنه، وقرأ: (وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) ، وقرأ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن عثمان بن الأسود، قال: ثني ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: يا رسول الله (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) قال: "ذَلِكَ الْعَرْضُ يَا عَائِشَةُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عثمان بن عمرو وأبو داود، قالا ثنا أبو عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حُوسِبَ عُذّبَ "، قَالَتْ: فقلت: أليس الله يقول: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) قال: "ذَلِكَ الْعَرْضُ يَا عَائِشَةُ، وَمَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذّبَ".
إن قال قائل: وكيف قيل: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ) ، والمحاسبة لا تكون إلا من اثنين، والله القائم بأعمالهم ولا أحد له قِبَل ربه طَلِبة فيحاسبه؟ قيل: إن ذلك تقرير من الله للعبد بذنوبه، وإقرار من العبد بها وبما أحصاه كتاب عمله، فذلك المحاسبة على ما وصفنا، ولذلك قيل: يحاسب.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن أبي يونس القشيري، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلا هَلَكَ" قالت: فقلت: يا رسول الله(24/314)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) فقال: "ذَلِكَ الْعَرْضُ، لَيْس أحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلا هَلَكَ".
وقوله: (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) يقول: وينصرف هذا المحاسَبُ حسابًا يسيرًا إلى أهله في الجنة مسرورًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) قال: إلى أهْلٍ أعدّ الله لهم الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) } .
يقول تعالى ذكره: وأما من أعطي كتابه منكم أيها الناس يومئذ وراء ظهره، وذلك أن جعل يده اليمنى إلى عنقه وجعل الشمال من يديه وراء ظهره، فيتناول كتابه بشماله من وراء ظهره، ولذلك وصفهم جلَّ ثناؤه أحيانًا أنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم، وأحيانًا أنهم يؤتونها من وراء ظهورهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) قال: يجعل يده من وراء ظهره.
وقوله: (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا) يقول: فسوف ينادي بالهلاك، وهو أن يقول: واثبوراه، واويلاه، وهو من قولهم: دعا فلان لهفه: إذا قال: والهفاه.(24/315)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
وقد ذكرنا معنى الثبور فيما مضى بشواهده، وما فيه من الرواية.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَدْعُو ثُبُورًا) قال: يدعو بالهلاك.
وقوله: (وَيَصْلَى سَعِيرًا) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء مكة والمدينة والشام: (وَيُصَلَّى) بضم الياء وتشديد اللام، بمعنى: أن الله يصليهم تصلية بعد تصلية، وإنضاجة بعد إنضاجة، كما قال تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) ، واستشهدوا لتصحيح قراءتهم ذلك كذلك، بقوله: (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) وقرأ ذلك بعض المدنيين وعامة قرّاء الكوفة والبصرة: (وَيَصْلَى) بفتح الياء وتخفيف اللام، بمعنى: أنهم يَصْلونها ويَرِدونها، فيحترقون فيها، واستشهدوا لتصحيح قراءتهم ذلك كذلك بقول الله: (يَصْلَوْنَهَا) و (إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ) .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا) يقول تعالى ذكره: إنه كان في أهله في الدنيا مسرورا لما فيه من خلافه أمرَ الله، وركوبه معاصيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا) : أي في الدنيا.
وقوله: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى) يقول تعالى ذكره: إنّ هذا الذي أُوتي كتابه وراء ظهره يوم القيامة، ظنّ في الدنيا أن لن يرجع إلينا، ولن يُبعث بعد مماته، فلم يكن يبالي ما ركب من المآثم؛ لأنه لم يكن يرجو ثوابًا، ولم يكن يخشى عقابًا،(24/316)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
يقال منه: حار فلان عن هذا الأمر: إذا رجع عنه، ومنه الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ" يعني بذلك: من الرجُوع إلى الكفر، بعد الإيمان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) يقول: يُبعث.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى) قال: أن لا يرجع إلينا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) : أن لا مَعَادَ له ولا رجعة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَنْ لَنْ يَحُورَ) قال: أن لن ينقلب: يقول: أن لن يبعث.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، (ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) قال: يرجع.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَنْ لَنْ يَحُورَ) قال: أن لن ينقلب.
وقوله: (بَلَى) يقول تعالى ذكره: بلى لَيَحُورَنَّ وَلَيَرْجِعَنّ إلى ربه حيا كما كان قبل مماته.
وقوله: (إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا) يقول جلّ ثناؤه: إن ربّ هذا الذي ظن أن لن يحور، كان به بصيرا، إذ هو في الدنيا بما كان يعمل فيها من المعاصي، وما إليه يصير أمره في الآخرة، عالم بذلك كلِّه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لا(24/317)
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) } .
وهذا قَسَمٌ أقسم ربنا بالشفق، والشفق: الحمرة في الأفق من ناحية المغرب من الشمس في قول بعضهم.
واختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: هو الحمرة كما قلنا، وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق.
وقال آخرون: هو النهار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسيّ، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا العوّام بن حوشب، قال: قلت لمجاهد: الشفق، قال: لا تقل الشفق، إن الشفق من الشمس، ولكن قل: حمرة الأفق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: الشفق، قال: النهار كله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) قال: النهار.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: الشفق: هو اسم للحمرة والبياض، وقالوا: هو من الأضداد.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أقسم بالنهار مدبرا، والليل مقبلا. وأما الشفق الذي تَحُلّ به صلاة العشاء، فإنه للحمرة عندنا للعلة التي قد بيَّنَّاها في كتابنا كتاب الصلاة.
وقوله: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) يقول: والليل وما جمع مما سكن وهدأ فيه من ذي روح كان يطير، أو يَدِب نهارًا، يقال منه: وسَقْتُه أسِقُه وَسْقا، ومنه طعام موسُوق، وهو المجموع في غرائر أو وعاء، ومنه الوَسْق، وهو الطعام المجتمع الكثير مما يُكال أو يوزن، يقال: هو ستون صاعًا، وبه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(24/318)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَمَا وَسَقَ) يقول: وما جمع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عباس في هذه الآية (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) قال: وما جمع. وقال ابن عباس:
مُسْتَوْسِقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا (1)
حدثني يعقوب قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سأل حفص الحسن عن قوله: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) قال: وما جمع.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) قال: وما جمع، يقول: ما آوى فيه من دابة.
__________
(1) الأثر 169 - نقله السيوطي 1: 14 ونسبه لعبد الرزاق وعبد بن حميد. وهو ظاهر في رواية الطبري هذه - أنه من مصنف عبد الرزاق. ونسبه الشوكاني 1: 12 لهما وللطبري.(24/319)
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) : وما لفّ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) قال: وما أظلم عليه، وما أدخل فيه. وقال ابن عباس:
* مُسْتَوْسِقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ حَادِيا *
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) يقول: وما جمع من نجم أو دابة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمَا وَسَقَ) قال: وما جمع.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) قال: وما جمع مجتمع فيه الأشياء التي يجمعها الله التي تأوي إليه، وأشياء تكون في الليل لا تكون في النهار ما جمع مما فيه ما يأوي إليه، فهو مما جمع.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن منصور، عن مجاهد: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) يقول: ما لُفّ عليه.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) قال: وما دخل فيه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) : وما جمع.
قال: ثنا وكيع، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس (وَمَا وَسَقَ) : وما جمع، ألم تسمع قول الشاعر:
* مُسْتَوْسِقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا *
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة، في قوله: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) قال: ما حاز إذا جاء الليل.
وقال آخرون: معنى ذلك: وما ساق.(24/320)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الله بن أحمد المَرْوَزيّ، قال: ثنا عليّ بن الحسن، قال: ثنا حسين، قال: سمعت عكرمة وسئل (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) قال: ما ساق من ظلمة، فإذَا كان الليل، ذهب كلّ شيء إلى مأواه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسن، عن عكرمة (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) يقول: ما ساق من ظلمة إذا جاء الليل ساق كل شيء إلى مأواه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) قال: ما ساق معه من ظلمة إذا أقبل.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) يعني: وما ساق الليل من شيء جمعه النجوم، ويقال: والليل وما جمع.
وقوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) يقول: وبالقمر إذا تمّ واستوى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) يقول: إذا استوى.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال: إذا اجتمع واستوى.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال: إذا استوى.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُليّة، عن أبي رجاء، قال: سأل حفص الحسن، عن قوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال: إذا اجتمع، إذا امتلأ.
حدثني أبو كدينة، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد، في قوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال: لثلاث عَشْرة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.(24/321)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
قال ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (إِذَا اتَّسَقَ) قال: إذا استوى.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) : إذا استوى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِذَا اتَّسَقَ) : إذا استدار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) : إذا استوى.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال: إذا اجتمع فاستوى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال: إذا استوى.
وقوله: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأه عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه وابن عباس وعامة قرّاء مكة والكوفة (لَتَرْكَبَنَّ) بفتح التاء والباء. واختلف قارئو ذلك كذلك في معناه، فقال بعضهم: لَتَرْكَبنَ يا محمد أنت حالا بعد حال، وأمرًا بعد أمر من الشدائد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد، أن ابن عباس كان يقرأ: (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم حالا بعد حال.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عُلَيَة، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رجل حدّثه، عن ابن عباس في (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: منزلا بعد منزل.(24/322)
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) يقول: حالا بعد حال.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) يعني: منزلا بعد منزل، ويقال: أمرًا بعد أمر، وحالا بعد حال.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: سمعت مجاهدًا، عن ابن عباس (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة في قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: حالا بعد حال.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوْذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: حالا بعد حال.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سأل حفص الحسن عن قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: منزلا عن منزل، وحالا بعد حال.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شريك، عن موسى بن أبي عائشة، قال: سألت مرّة عن قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: حالا بعد حال.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: حالا بعد حال.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: حالا بعد حال.
قال ثنا وكيع، عن نصر، عن عكرِمة، قال: حالا بعد حال.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: لَتَرْكَبُنَّ الأمور حالا بعد حال.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لَتَرْكَبَنَّ(24/323)
طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) يقول: حالا بعد حال، ومنزلا عن منزل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) منزلا بعد منزل، وحالا بعد حال.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن منصور، عن مجاهد (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: أمرًا بعد أمر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: أمرًا بعد أمر.
وقال آخرون ممن قرأ هذه المقالة، وقرأ هذه القراءة عُنِي بذلك: لتركبنّ أنت يا محمد سماء بعد سماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الحسن وأبو العالية (لَتَرْكَبَنَّ) يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم (طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) السموات.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن أبي الضحى، عن مسروق (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: أنت يا محمد سماء عن سماء.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن الشعبيّ، قال: سماء بعد سماء.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: سماء فوق سماء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لتركَبَنّ الآخرة بعد الأولى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: الآخرة بعد الأولى.
وقال آخرون ممن قرأ هذه القراءة: إنما عُنِي بذلك أنها تتغير ضروبًا من التغيير، وتُشَقَّقُ بالغمام مرّة وتحمرّ أخرى، فتصير وردة كالدهان، وتكون أخرى كالمهل.(24/324)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن قيس بن وهب، عن مرّة، عن ابن مسعود (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: السماء مرّة كالدِّهان، ومرّة تَشَقَّق.
حدثنا ابن المثني، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: سمعت أبا الزرقاء الهَمْداني، وليس بأبي الزرقاء الذي يحدث في المسح على الجوربين، قال: سمعت مُرّة الهمداني، قال: سمعت عبد الله يقول في هذه الآية (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: السماء.
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ، قال: ثنا عليّ بن غراب، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: هي السماء تغبرّ وتحمرّ وتَشَقَّق.
حدثنا أبو السائب، قال: ثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، في قوله: (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: هي السماء تَشَقَّق، ثم تحمرّ، ثم تنفطر؛ قال: وقال ابن عباس: حالا بعد حال.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: قرأ عبد الله هذا الحرف (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: السماء حالا بعد حال، ومنزلة بعد منزلة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قال: هي السماء.
حدثنا مهران، عن سفيان، عن أبي فروة، عن مرّة، عن ابن مسعود أنه قرأها نصبًا، قال: هي السماء.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: هي السماء تغير لونًا بعد لون.
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين (لَتَرْكَبُنَّ) بالتاء، وبضم الباء على وجه الخطاب للناس كافة أنهم يركبون أحوال الشدّة حالا بعد حال. وقد ذكر بعضهم أنه قرأ ذلك بالياء وبضم الباء، على وجه الخبر عن الناس كافة، أنهم يفعلون ذلك.
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب: قراءة من قرأ بالتاء وبفتح الباء،(24/325)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
لأن تأويل أهل التأويل من جميعهم بذلك ورد وإن كان للقراءات الأخَر وجوه مفهومة. وإذا كان الصواب من القراءة في ذلك ما ذكرنا فالصواب من التأويل قول من قال (لَتَرْكَبَنَّ) أنت يا محمد حالا بعد حال، وأمرًا بعد أمر من الشدائد. والمراد بذلك -وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهًا- جميع الناس، أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا.
وإنما قلنا: عُنِي بذلك ما ذكرنا أن الكلام قبل قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) جرى بخطاب الجميع، وكذلك بعده، فكان أشبه أن يكون ذلك نظير ما قبله وما بعده.
وقوله: (طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) من قول العرب: وقع فلان في بنات طبق: إذا وقع في أمر شديد.
وقوله: (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يقول تعالى ذكره: فما لهؤلاء المشركين لا يصدّقون بتوحيد الله، ولا يقرّون بالبعث بعد الموت، وقد أقسم لهم ربهم بأنهم راكبون طبقًا عن طبق مع ما قد عاينوا من حججه بحقيقة توحيده.
وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) قال: بهذا الحديث، وبهذا الأمر.
وقوله: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) يقول تعالى ذكره: وإذا قُرئ عليهم كتاب ربهم لا يخضعون ولا يستكينون، وقد بيَّنا معنى السجود قبلُ بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) } .
قوله: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) يقول تعالى ذكره: بل الذين كفروا يكذبون بآيات الله وتنزيله.
وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ) يقول تعالى ذكره: والله أعلم بما تُوعيه صدور هؤلاء المشركين من التكذيب بكتاب الله ورسوله.(24/326)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُوعُونَ) قال: يكتمون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ) قال: المرءُ يُوعِي متاعه وماله هذا في هذا، وهذا في هذا، هكذا يعرف الله ما يوعون من الأعمال، والأعمال السيئة مما تُوعيه قلوبهم، ويجتمع فيها من هذه الأعمال الخير والشر، فالقلوب وعاء هذه الأعمال كلها، الخير والشرّ، يعلم ما يسرّون وما يعلنون، ولقد وَعَى لكم ما لا يدري أحد ما هو من القرآن وغير ذلك، فاتقوا الله وإياكم أن تدخلوا على مكارم هذه الأعمال بعض هذه الخبث ما يفسدها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (يُوعُونَ) قال في صدورهم. وقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) يقول جلّ ثناؤه: فبشر يا محمد هؤلاء المكذّبين بآيات الله بعذاب أليم لهم عند الله موجع (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: إلا الذين تابوا منهم وصدّقوا، وأقرّوا بتوحيده، ونبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبالبعث بعد الممات. (وعملوا الصالحات) : يقول: وأدَّوا فرائض الله، واجتنبوا ركوب ما حرّم الله عليهم ركوبه.
وقوله: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات: ثواب غير محسوب ولا منقوص.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يقول: غير منقوص.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يعني: غير محسوب.
آخر تفسير سورة (إذا السماء انشقَّت)(24/327)
تفسير سورة البروج(24/329)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه وتق24-331دست أسماؤه: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) } .
قال أبو جعفر رحمه الله: قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) أقسم الله جلّ ثناؤه بالسماء ذات البروج.
واختلف أهل التأويل في معنى البروج في هذا الموضع، فقال بعضهم: عُنِي بذلك: والسماء ذات القصور. قالوا: والبروج: القصور.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) قال ابن عباس: قصور في السماء، قال غيره: بل هي الكواكب.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (الْبُرُوجِ) يزعمون أنها قصور في السماء، ويقال: هي الكواكب.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: والسماء ذات النجوم، وقالوا: نجومها: بروجها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ذَاتِ الْبُرُوجِ) قال: البروج: النجوم.(24/331)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) قال: النجوم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) وبروجها: نجومها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والسماء ذات الرمل والماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسن بن قزعة، قال: ثنا حصين بن نمير، عن سفيان بن حسين، في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) قال: ذات الرمل والماء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: معنى ذلك: والسماء ذات منازل الشمس والقمر، وذلك أن البروج جمع برج، وهي منازل تتخذ عالية عن الأرض مرتفعة، ومن ذلك قول الله: (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) هي منازل مرتفعة عالية في السماء، وهي اثنا عشر برجًا، فمسير القمر في كلّ برج منها يومان وثلث، فذلك ثمانية وعشرون منزلا ثم يستسرّ ليلتين، ومسير الشمس في كلّ برج منها شهر.
وقوله: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يقول تعالى ذكره: وأقسم باليوم الذي وعدته عبادي لفصل القضاء بينهم، وذلك يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن نمير وإسحاق الرازي، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ".
قال: ثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثله.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا يونس، قال: أنبأني عمار، قال: قال أبو هريرة: "الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ". قال يونس، وكذلك الحسن.(24/332)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يعني: يوم القيامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) قال: القيامة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن يونس بن عبيد، عن عمار بن أبي عمار، مولى بني هاشم، عن أبي هريرة (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ".
حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، قال: ثني أبي، قال: ثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " (الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ) يوم القيامة".
وقوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وأقسم بشاهد، قالوا: وهو يوم الجمعة، ومشهود قالوا: وهو يوم عرفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب قال: أخبرنا ابن علية، قال: أخبرنا يونس، قال: أنبأني عمار، قال: قال أبو هريرة: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة؛ قال يونس، وكذلك قال الحسن.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت حارثة بن مضرِّب، يحدّث عن عليّ رضى الله عنه أنه قال في هذه الآية (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: الشاهد يوم الجمعة،(24/333)
والمشهود: يوم عرفة؛ ويقال: الشاهد: الإنسان، والمشهود: يوم القيامة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) : يومان عظيمان من أيام الدنيا، كنا نحدّث أن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَشَاهِدٍ) يوم الجمعة، (وَمَشْهُودٍ) : يوم عرفة.
حدثنا أبو كريب، قال ثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وَشاَهِدٍ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَمَشْهُودٍ: يَوْمُ عَرَفَةَ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن نمير وإسحاق الرازي، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ".
حدثنا سهل بن موسى، قال: ثنا ابن أبي فديك، عن ابن حرملة، عن سعيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ سَيدَ الأيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الْشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن موسى بن عبيد، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْشَّاهِدُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللهَ بِخَيْرٍ إلا اسْتَجَابَ لَهُ، وَلا يَسْتَعِيذُهُ مِنْ شَرٍّ إلا أعَاذَهُ".
حدثني محمد بن عوف، قال: ثنا محمد بن إسماعيل، قال: ثني أبي، قال: ثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال(24/334)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَإنَّ الْمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ خِيَرةُ اللهِ لَنَا".
حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، قال: سيد الأيام يوم الجمعة، وهو شاهد.
وقال آخرون: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن عليّ بن زيد، عن يوسف المكيّ، عن ابن عباس قال: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة، ثم قرأ (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن شباك، قال: سأل رجل الحسن بن عليّ، عن (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: سألتَ أحدًا قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير، فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة؛ قال: لا ولكن الشاهد: محمد، ثم قرأ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) والمشهود: يوم القيامة، ثم قرأ: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن أبي الضحى، عن الحسن بن عليّ، قال: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة.
حدثني سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن حَرْملة، عن سعيد بن المسيب: (وَمَشْهُودٍ) :يوم القيامة.
وقال آخرون: الشاهد: الإنسان، والمشهود: يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ، قال: ثنا أسباط، عن عبد الملك، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: الشاهد: ابن آدم، والمشهود يوم القيامة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وشاهد ومشهود) قال: الإنسان، وقوله:(24/335)
(ومشهود) قال: يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: الشاهد: الإنسان، والمشهود: يوم القيامة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن خالد الحذّاء، عن عكرِمة، في قوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: شاهد: ابن آدم، ومشهود: يوم القيامة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَشاَهِدٍ) يعني الإنسان (وَمَشْهُودٍ) يوم القيامة، قال الله: (وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) .
وقال آخرون: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم الجمعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، في قوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم الجمعة، فذلك قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) .
وقال آخرون: الشاهد: الله، والمشهود: يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَشَاهِدٍ) يقول الله: (وَمَشْهُودٍ) يقول: يوم القيامة.
وقال آخرون: الشاهد: يوم الأضحى، والمشهود: يوم الجمعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن شباك، قال: سأل رجل الحسن بن عليّ، عن (َشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: سألت أحدًا قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير، فقالا يوم الذبح، ويوم الجمعة.
وقال آخرون: الشاهد: يوم الأضحى، والمشهود، يوم عَرَفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن(24/336)
مجاهد، عن ابن عباس: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال: الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة.
وقال آخرون: المشهود: يوم الجمعة، وَرَوَوْا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسيّ، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَكْثِرُوا عَليَّ الصَّلاةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلائِكَةُ".
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن يقال: إن الله أقسم بشاهد شهد، ومشهود شهد، ولم يخبرنا مع إقسامه بذلك أيّ شاهد وأيّ مشهود أراد، وكلّ الذي ذكرنا أن العلماء قالوا: هو المعنيّ مما يستحقّ أن يُقال له: (َشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) .
وقوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) يقول: لعن أصحاب الأخدود. وكان بعضهم يقول: معنى قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) خبر من الله عن النار أنها قتلتهم.
وقد اختلف أهل العلم في أصحاب الأخدود؛ من هم؟ فقال بعضهم: قوم كانوا أهل كتاب من بقايا المجوس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر عن ابن أبزي، قال: لما رجع المهاجرون من بعض غزواتهم، بلغهم نعي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال بعضهم لبعض: أيّ الأحكام تجري في المجوس، وإنهم ليسوا بأهل كتاب، وليسوا من مشركي العرب، فقال عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه: قد كانوا أهل كتاب، وقد كانت الخمر أُحلَّت لهم، فشربها ملك من ملوكهم حتى ثمل منها، فتناول أخته فوقع عليها، فلما ذهب عنه السكر قال لها: ويحك، فما المخرج مما ابتليتُ به؟ فقالت: اخطب الناس، فقل: يأُّيها الناس إن الله قد أحلّ نكاح الأخوات، فقام خطيبًا، فقال: يأيُّها الناس إن الله قد أحلّ نكاح الأخوات، فقال الناس: إنا نبرأ(24/337)
إلى الله من هذا القول، ما أتانا به نبيٌّ، ولا وجدناه في كتاب الله، فرجع إليها نادمًا، فقال لها: ويحك، إن الناس قد أبوا عليّ أن يقرّوا بذلك، فقالت: ابسط عليهم السِّياط، ففعل، فبسط عليهم السياط، فأبَوا أن يقرّوا، فرجع إليها نادمًا، فقال: إنهم أبوا أن يقرّوا، فقالت: اخطبهم، فإن أبوا فجرّد فيهم السيف، ففعل، فأبى عليه الناس، فقال لها: قد أبى عليّ الناس، فقالت: خدّ لهم الأخدود، ثم اعرض عليها أهل مملكتك، فمن أقرّ، وإلا فاقذفه في النار، ففعل، ثم عرض عليها أهل مملكته، فمن لم يقرّ منهم قذفه في النار، فأنزل الله فيهم: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) إلى (أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) حرّقوهم (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) فلم يزالوا منذ ذلك يستحلون نكاح الأخوات والبنات والأمهات.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) قال: حُدِّثنا أنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول: هم ناس بمذارع اليمن، اقتتل مؤمنوها وكفارها، فظهر مؤمنوها على كفارها، ثم اقتتلوا الثانية، فظهر مؤمنوها على كفارها ثم أخذ بعضهم على بعض عهدًا ومواثيق أن لا يغدر بعضهم ببعض، فغدر بهم الكفار فأخذوهم أخذًا، ثم إن رجلا من المؤمنين قال لهم: هل لكم إلى خير، توقدون نارًا ثم تعرضوننا عليها، فمن تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون، ومن لا اقتحم النار، فاسترحتم منه، قال: فأجَّجوا نارًا وعُرِضوا عليها، فجعلوا يقتحمونها صناديدهم، ثم بقيت منهم عجوز كأنها نكصت، فقال لها طفل في حجرها: يا أماه امضي ولا تنافقي. قصّ الله عليكم نبأهم وحديثهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) قال: يعني القاتلين الذين قتلوهم يوم قتلوا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) قال: هم ناس من بني إسرائيل خدّوا أخدودًا في الأرض، ثم أوقدوا فيها نارًا، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء، فعُرِضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني(24/338)
الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) قال: كان شقوق في الأرض بنَجْرَان كانوا يعذّبون فيها الناس.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) يزعمون أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل، أخذوا رجالا ونساء، فخدّوا لهم أخدودًا، ثم أوقدوا فيها النيران، فأقاموا المؤمنين عليها، فقالوا: تكفرون أو نقذفكم في النار.
حدثني محمد بن معمر، قال: ثني حرمي بن عمارة، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا ثابت البُنانيّ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مَلِكٌ، وَكَانَ لَهُ ساحِرٌ، فَأَتَى السَّاحِرُ الْمَلِكَ فَقَالَ: قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَدَنَا أجَلِي، فَادْفَعْ لِي غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ "، قال: " فَدَفَعَ إلَيْهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ "، قَالَ: " فَكَانَ الغُلامُ يَخْتَلِفُ إلى السَّاحِرِ، وكَانَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَبَيْنَ المَلِكِ رَاهِبٌ "، قال: " فَكَانَ الغُلامُ إذَا مَرَّ بالرَّاهِبِ قَعَدَ إلَيْهِ فَسَمِعَ مِنْ كَلامِهِ، فَأُعْجِبَ بِكَلامِهِ، فَكَانَ الغُلامُ إذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ وَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟ وَإذَا أَتَى أَهْلَهُ قَعَدَ عِنْدَ الرَّاهِبِ يَسْمَعُ كَلامَهُ، فَإذَا رَجَعَ إلى أَهْلِهِ ضَرَبُوهُ وَقَالُوا: مَا حَبَسَكَ؟ فَشَكَا ذَلِكَ إلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إذَا قَالَ لَكَ السَّاحِرُ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإذَا قَالَ أَهْلُكَ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ مَرَّ في طَرِيقٍ وَإذَا دَابَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الطَّرِيقِ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ لا تَدَعُهُمْ يَجُوزُونَ، فَقَالَ الْغُلامُ: الآنَ أَعْلَمُ: أَمْرُ السَّاحِرِ أَرْضَى عِنْدَ اللهِ أَمْ أَمْرُ الرَّاهِبِ؟ قَالَ: فَأَخَذَ حَجَرًا "، قَالَ: فَقَالَ: " اللَّهُمْ إنْ كَانَ أمْرُ الرَّاهِبِ أحَبَّ إلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ، فَإنِّي أَرْمِي بِحَجَرِي هَذَا فَيَقْتُلَهُ وَيَمُرُّ النَّاسُ، قَالَ: فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَجَازَ النَّاسُ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّاهِبَ "، قَالَ: وَأَتَاهُ الْغُلامُ فَقَالَ الرَّاهِبُ لِلْغُلامِ: إنَّكَ خَيْرٌ مِنِّي، وَإنِ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّنَّ عَلَيَّ "؛ قَالَ: " وَكَانَ الْغُلامُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَسَائِرَ الأدوَاءِ، وَكَانَ لِلْمَلِكِ جَلِيسٌ، قَالَ: فَعَمِيَ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: إنَّ هَاهُنَا غُلامًا يُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَسَائِرَ الأدْوَاءِ فَلَوْ أَتَيْتَهُ؟ قَالَ: " فَاتَّخَذَ لَهُ هَدَايا "؛ قَالَ: " ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: يَا غُلامُ، إنْ أَبْرَأْتَنِي فَهَذِهِ الهَدَايَا كُلُّهَا لَكَ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِطَبِيبٍ يشْفِيكَ، وَلَكِنَّ اللهَ يَشْفِي، فَإذَا آمَنْتَ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَشْفِيَكَ "، قَالَ: " فَآمَنَ(24/339)
الأعْمَى، فَدَعَا اللهَ فَشَفَاهُ، فَقَعَدَ الأعْمَى إلى الْمَلِكِ كَمَا كَانَ يَقْعُدُ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: أَلَيْسَ كُنْتَ أَعْمَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَنْ شَفَاكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيرِي؟ قَالَ: نَعَمْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ "، قَالَ: " فَأَخَدَهُ بِالْعَذَابِ فَقَالَ: لَتَدُلَّنِي عَلَى مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا "، قَالَ: " فَدَلَّ عَلَى الغلامِ، فَدَعَا الغُلامَ فَقَالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ "، قَالَ: " فَأَبَى الْغُلامُ "؛ قَالَ: فَأَخَذَهُ بِالْعَذَابِ "، قَالَ: " فَدَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَأَخَذَ الرَّاهِبَ فَقَالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكِ فَأَبَى "، قَالَ: " فَوَضَعَ المِنْشَارَ عَلَى هَامَتِهِ فَشَقَّهُ حَتّى بَلَغَ الأرْضَ "، قَالَ: " وَأَخَذَ الأعْمَى فَقَالَ: لَتَرْجِعَنَّ أوْ لأقْتُلَنَّكَ "، قَالَ: " فَأَبَى الأعْمَى، فَوَضَعَ المِنْشَارَ عَلَى هَامَتِهِ فَشَقَّهُ حَتّى بَلَغَ الأرْضَ، ثُمَّ قَالَ لِلْغُلامِ: لَتَرْجِعَنَّ أوْ لأقْتُلَنَّكَ "، قال: " فَأَبَى "، قَالَ: " فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ حَتَّى تَبْلُغُوا بِهِ ذِرْوَةَ الْجَبَلِ، فَإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإلا فَدَهْدِهُوهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا بِه ذِرْوَةَ الْجَبَلِ فَوَقَعُوا فَمَاتُوا كُلُّهُمْ. وَجَاءَ الغُلامُ يَتَلَمَّسُ حَتّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: أَيْنَ أصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهمُ اللهُ. قَالَ: فَاذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ البَحْرَ، فَإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإلا فَغَرِّقُوهُ " قال: " فَذَهَبُوا بِهِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ قَالَ الْغُلامُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ. وَجَاءَ الغُلامُ يَتَلَمَّسُ حَتّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ المَلِكُ: أَيْنَ أصْحَابُكَ؟ قَالَ: دَعَوْتُ اللهَ فَكَفَانِِيهمْ، قَالَ: لأقْتُلَنَّكَ، قَالَ: مَا أَنْتَ بِقَاتِلِي حَتّى تَصْنَعَ مَا آمُرُكَ "، قَالَ: " فَقَالَ الْغُلامُ لِلْمَلِكِ: اجْمَعِ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اصْلُبْنِي، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي فَارْمِنِي وَقُلْ: باسْمِ رَبِّ الْغُلامِ فَإِنَّكَ سَتَقْتُلُنِي "، قَالَ: " فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ "، قَالَ: " وَصَلَبَهُ وَأَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَوَضَعَهُ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ رَمَى، فَقَالَ: باسْمِ رَبِّ الغُلامِ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِ الْغُلامِ، فَوَضَعَ يَدَهُ هَكَذَا عَلَى صُدْغِهِ وَمَاتَ الْغُلامُ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، فَقَالُوا للْمَلِكِ: مَا صَنَعْتَ، الَّذي كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَقَعَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَأُخِذَتْ، وَخَدَّ الأخْدُودَ وضَرَّمَ فِيهِ النِّيرَانَ، وَأَخَذَهُمْ وَقَالَ: إنْ رَجَعُوا وَإلا فَأَلْقُوهُمْ فِي النَّارِ "، قَالَ: " فَكَانُوا يُلْقُونَهُمْ فِي النَّارِ "، قَالَ: " فَجَاءتِ امْرأةٌ مَعَها صَبِيٌّ لَهَا "، قَالَ: " فَلَمَّا ذَهَبَتْ تَقْتَحِمُ وَجَدَتْ حَرَّ النَّارِ، فَنَكَصَتْ "، قَالَ: " فَقَالَ لَهَا صَبِيُّهَا يا أُمَّاهُ امْضِي فَإنَّكِ عَلَى الْحَقِّ، فَاقْتَحَمَتْ فِي النَّارِ".
وقال آخرون: بل الذين أحرقتهم النار هم الكفار الذين فتنوا المؤمنين.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن عمار، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: كان أصحاب الأخدود قومًا مؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، وإن جبارًا من عَبَدَة الأوثان أرسل إليهم، فعرض عليهم الدخول في دينه، فأبوا، فخدّ أخدودًا، وأوقد فيه نارًا، ثم خيرهم بين الدخول في دينه، وبين إلقائهم في النار، فاختاروا إلقاءهم في النار، على الرجوع عن دينهم، فألقوا في النار، فنجَّى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار من الحريق، بأن قبض أرواحهم قبل أن تمسهم النار، وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم، فذلك قول الله: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) في الآخرة (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) في الدنيا.
واختُلف في موضع جواب القسم بقوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) فقال بعضهم: جوابه: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: وقع القسم هاهنا (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) . وقال بعض نحويي البصرة: موضع قسمها - والله أعلم - على (قتل أصحاب الأخدود) ، أضمر اللام كما قال: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ... قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) يريد: إن شاء الله لقد أفلح من زكَّاها، فألقى اللام، وإن شئت قلت على التقديم، كأنه قال: قتل أصحاب الأخدود، والسماء ذات البروج.
وقال بعض نحويي الكوفة: يقال في التفسير: إن جواب القسم في قوله: (قُتِلَ) كما كان قسم (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ) هذا في التفسير، قالوا: ولم نجد العرب تدع القسم بغير لام يستقبل بها أو "لا" أو "إن" أو "ما"، فإن يكن ذلك كذلك، فكأنه مما ترك فيه الجواب، ثم استؤنف موضع الجواب بالخبر، كما قيل: " يأَيُّهَا الإنسان " في كثير من الكلام.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: جواب القسم في ذلك متروك، والخبر مستأنف؛ لأن علامة جواب القسم لا تحذفها العرب من الكلام إذا أجابته.(24/340)
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
وأولي التأويلين بقوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) : لُعِنَ أصحاب الأخدود الذين ألقوا المؤمنين والمؤمنات في الأخدود.
وإنما قلت: ذلك أولى التأويلين بالصواب؛ للذي ذكرنا عن الربيع من العلة، وهو أن الله أخبر أن لهم عذاب الحريق مع عذاب جهنم، ولو لم يكونوا أحرقوا في الدنيا، لم يكن لقوله: (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) معنى مفهوم، مع إخباره أن لهم عذاب جهنم؛ لأن عذاب جهنم هو عذاب الحريق مع سائر أنواع عذابها في الآخرة، والأخدود: الحفرة تحفر في الأرض.
وقوله: (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) فقوله (النار) : ردّ على الأخدود، ولذلك خفضت، وإنما جاز ردّها عليه وهي غيره، لأنها كانت فيه، فكأنها إذ كانت فيه هو، فجرى الكلام عليه لمعرفة المخاطبين به بمعناه، وكأنه قيل: قتل أصحاب النار ذَاتِ الْوَقُودِ، ويعني بقوله:: (ذَاتِ الْوَقُودِ) ذات الحطب الجزل، وذلك إذا فتحت الواو، فأما الوقود بضم الواو، فهو الاتقاد.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) } .
يقول تعالى ذكره: النار ذات الوقود، إذ هؤلاء الكفار من أصحاب الأخدود عليها، يعني على النار، فقال عليها، والمعنى أنهم قعود على حافة الأخدود، فقيل: على النار، والمعنى: لشفير الأخدود، لمعرفة السامعين معناه.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ) يعني بذلك المؤمنين، وهذا التأويل الذي تأوّله قتادة على مذهب من قال: قُتل أصحاب الأخدود من أهل الأيمان.
وقد دلَّلْنا على أن الصواب من تأويل ذلك غير هذا القول الذي وجَّه تأويله قتادةُ قبله.
وقوله: (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) يعني: حضور.(24/342)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) يعني بذلك الكفار.
وقوله: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وما وجد هؤلاء الكفار الذين فتنوا المؤمنين على المؤمنين والمؤمنات بالنار في شيء، ولا فعلوا بهم ما فعلوا بسبب، إلا من أجل أنهم آمنوا بالله، وقال: (إلا أن يؤمنوا بالله) لأن المعنى إلا إيمانهم بالله، فلذلك حَسُنَ في موضعه (يؤمنوا) ، إذ كان الإيمان لهم صفة (الْعَزِيزِ) يقول: الشديد في انتقامه ممن انتقم منه (الْحَمِيدِ) يقول: المحمود بإحسانه إلى خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) } .
يقول تعالى ذكره: الذي له سلطان السموات السبع والأرضين وما فيهنّ (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يقول تعالى ذكره: والله على فِعْل هؤلاء الكفار من أصحاب الأخدود بالمؤمنين الذين فتنوهم شاهد، وعلى غير ذلك من أفعالهم وأفعال جميع خلقه، وهو مجازيهم جزاءهم.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) يقول: إن الذين ابْتَلَوُا المؤمنين والمؤمنات بالله بتعذيبهم، وإحراقهم بالنار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) حرّقوا المؤمنين والمؤمنات.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني(24/343)