وقوله: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) يقول: وقضى الله بين النبيين الذين جيء بهم، والشهداء وأممها بالعدل، فأسكن أهل الإيمان بالله، وبما جاءت به رسله الجنة. وأهل الكفر به، ومما جاءت به رسله النار (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يقول: وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي ابتدأ خلقهم الذي له الألوهية، وملك جميع ما في السموات والأرض من الخلق من ملك وجن وإنس، وغير ذلك من أصناف الخلق.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ... الآية، كلها قال: فتح أول الخلق بالحمد لله، فقال: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وختم بالحمد فقال: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
آخر تفسير سورة الزمر(21/344)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
تفسير سورة غافر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) }
اختلف أهل التأويل فى معنى قوله (حم) فقال بعضهم: هو حروف مقطعة من اسم الله الذي هو الرحمن الرحيم، وهو الحاء والميم منه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد لله بن أحمد بن شبُّويه المَروزي، قال: ثنا عليّ بن الحسن، قال: ثني أبي، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: الر، وحم، ون، حروف الرحمن مقطعة.
وقال آخرون: هو قسم أقسمه الله، وهو(21/345)
اسم من أسماء الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: (حم) : قسم أقسمه الله، وهو اسم من أسماء الله.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله (حم) : من حروف أسماء الله.
وقال آخرون: يل هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (حم) قال: اسم من أسماء القرآن. وقال آخرون: هو حروف هجاء.
وقال آخرون: بل هو اسم، واحتجوا لقولهم ذلك بقول شريح بن أوفى العبسي:
يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلا تَلا حم قَبْلَ التَّقَدُّمِ (1)
ويقول الكُمَيت:
وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حامِيمَ آيَةً ... تَأوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ (2)
وحُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال: قال يونس، يعني الجرمي: ومن قال هذا القول فهو منكَر عليه، لأن السورة (حم) ساكنة الحروف، فخرجت مخرج التهجي، وهذه أسماء سور خرجت متحركات، وإذا سميت سورة بشيء
__________
(1) البيت لشريح بن أوفى العبسي، كما قال أبو عبيد في مجاز القرآن (217 ب) وكما في (اللسان: حمم) وقال: وأنشده غير أبي عبيد للأشتر النخعي. وقال: قال ابن مسعود:" آل حاميم" ديباج القرآن. قال الفراء: هو كقولك آل فلان وآل فلان. وقال الجوهري: أما قول العامة" الحواميم" فليس من كلام العرب. قال أبو عبيد:" الحواميم": سور في القرآن، على غير قياس، وأنشد: وبالطواسين التي قد ثلثت ... وبالحواميم التي قد سبعت
قال: والأولى أن تجمع" بذوات حاميم". وأنشد أبو عبيد في" حاميم" لشريح بن أوفى العبسي:" يذكرني حاميم ... البيت" قال: وأنشده غيره للأشتر النخعي. والضمير في" يذكرني": هو لمحمد بن طلحة، وقتله الأشتر أو شريح. (أي في يوم الجمل) اهـ.
(2) البيت للكميت بن زيد الأسدي" مجاز القرآن لأبي عبيدة 218 - 1) وديوانه طبعه الموسوعات بالقاهرة 18. وآل حاميم وذوات حاميم: السور التي أولها" حم" نص الحريري في درة الغواص، على أنه يقال: آل حاميم، وذوات حاميم، وآل طسم، ولا يقال: حواميم ولا طواسيم. اهـ. والآية هي هي قوله تعالى في سورة الشورى:" قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى". وفي سورة الأحزاب من آل حاميم:" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". والتقي: الساكت عن التفضيل، والمعرب: الناطق به، رواية البيت في مجاز القرآن: وجدنا لكم في حم آية ... وفي غيرها آي، وأي يعرب
ثنا قال: قال يونس: من قال بهذا القول، فهو منكر عليه، لأن السورة" حم" ساكنة الحروف، فخرجت مخرج حروف التهجي وهذه أسماء سور خرجن متحركات؛ وإذا سميت سورة بشيء من هذه الأحرف (كذا) ، دخلها الإعراب. اهـ. وقول المؤلف: يعني الجرمي: نبهنا عليه فيما مضى، لأن الجرمي اسمه صالح بن إسحاق أبو عمر.(21/348)
من هذه الأحرف المجزومة دخله الإعراب.
والقول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها، وقد بيَّنا ذلك، في قوله: (الم) ، ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع، إذ كان القول في حم، وجميع ما جاء في القرآن على هذا الوجه، أعني حروف التهجي قولا واحدا.
وقوله: (تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) يقول الله تعالى ذكره: من الله العزيز في انتقامه من أعدائه، العليم يما يعملون من الأعمال وغيرها تنزيل هذا الكتاب; فالتنزيل مرفوع بقوله: (مِنَ اللَّهِ) .
وفي قوله: (غَافِرِ الذَّنْبِ) وجهان ; أحدهما: أن يكون بمعنى يغفر ذنوب العباد، وإذا أريد هذا المعنى، كان خفض غافر وقابل من وجهين، أحدهما من نية تكرير"من"، فيكون معنى الكلام حينئذ: تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، من غافر الذنب، وقابل التوب، لأن غافر الذنب نكرة، وليس بالأفصح أن يكون نعتا للمعرفة، وهو نكرة، والآخر أن يكون أجرى في إعرابه، وهو نكرة على إعراب الأول كالنعت له، لوقوعه بينه وبين قوله: (ذِي الطَّوْلِ) وهو معرفة.. وقد يجوز أن يكون أتبع إعرابه وهو نكرة إعراب الأول، إذ كان مدحا، وكان المدح يتبع إعرابه ما قبله أحيانا، ويعدل به عن إعراب الأول أحيانا بالنصب والرفع كما قال الشاعر:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذِينَ همُ ... سُمُّ العُدَاةِ وآفَةُ الجُزُرِ النَّازِلينَ بِكُلّ مُعْتَركٍ ... والطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الأزُر (1)
__________
(1) البيتان لخرنق بنت هفان من قصيدة رثت بها زوجها بشر بن عمرو بن مرثد الضبعي، وابنها علقمة بن بشر وجماعة من قومها قتلوا في معركة (خزاية الأدب الكبرى للبغدادي 2: 306) ومحل الشاهد في البيتين أنه يجوز قطع نعت المعرفة بالواو، فقولها: والطيبون نعت مقطوع بالواو من قومي، للمدح والتعظيم، يجعله خبر مبتدأ محذوف، أي هم الطيبون. وقوله" النازلين": مقطوع فالنصب، مع أنه نعت لقومي المرفوع. وإنما نصب بفعل مقدر أي أمدح أو أعني، أو نحوهما، واستشهد بهما المؤلف (الطبري) على أن قوله تعالى:" غافر الذنب" نعت للفظ" الله" المجرور بمن، ويجوز في هذا النعت الجر على الإتباع، كما يجوز فيه القطع بالنصب، بتقدير فعل: أي أخص غافر الذنب، أو بالرفع، بتقدير مبتدإ: أي هو غافر الذنب.(21/349)
وكما قال جلّ ثناؤه (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) فرفع فعال وهو نكرة محضة، وأتبع إعراب الغفور الودود; والآخر: أن يكون معناه: أن ذلك من صفته تعالى، إذ كان لم يزل لذنوب العباد غفورا من قبل نزول هذه الآية وفي حال نزولها، ومن بعد ذلك، فيكون عند ذلك معرفة صحيحة ونعتا على الصحة. وقال: (غَافِرِ الذَّنْبِ) ولم يقل الذنوب، لأنه أريد به الفعل، وأما قوله: (وَقَابِلِ التَّوْبِ) فإن التوب قد يكون جمع توبة، كما يجمع الدَّومة دَوما والعَومة عَوما من عومة السفينة، كما قال الشاعر:
عَوْمَ السَّفِينَ فَلَمَّا حالَ دُونَهُمُ (1)
وقد يكون مصدر تاب يتوب توبا.
وقد حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، قال: جاء رجل إلى عمر، فقال: إني قتلت، فهل لي من توبة؟ قال: نعم، اعمل ولا تيأس، ثم قرأ: (حم تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) .
وقوله: (شَدِيدُ الْعِقَابِ) يقول تعالى ذكره: شديد عقابه لمن عاقبه من أهل العصيان له، فلا تتكلوا على سعة رحمته، ولكن كونوا منه على حذر، باجتناب معاصيه، وأداء فرائضه، فإنه كما أن لا يؤيس أهل الإجرام والآثام من عفوه، وقبول توبة من تاب منهم من جرمه، كذلك لا يؤمنهم من عقابه
__________
(1) هذا صدر بيت لم نعرف قائله، ولا عجزه. استشهد به المؤلف على أن التوب في قوله تعالى:" قابل التوب": قد يكون جمع توبة كما يجمع الدومة دوما، والعومة عوما، من عوم السفينة.(21/350)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
وانتقامه منهم بما استحلوا من محارمه، وركبوا من معاصيه.
وقوله: (ذِي الطَّوْلِ) يقول: ذي الفضل والنعم المبسوطة على من شاء من خلقه; يقال منه: إن فلانا لذو طول على أصحابه، إذا كان ذا فضل عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (ذِي الطَّوْلِ) يقول: ذي السعة والغنى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (ذِي الطَّوْلِ) الغنى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ذِي الطَّوْلِ) : أي ذي النعم.
وقال بعضهم: الطول: القدرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله (ذِي الطَّوْلِ) قال: الطول القدرة، ذاك الطول.
وقوله: (لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يقول: لا معبود تصلح له العبادة إلا الله العزيز العليم، الذي صفته ما وصف جلّ ثناؤه، فلا تعبدوا شيئا سواه (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يقول تعالى ذكره: إلى الله مصيركم ومرجعكم أيها الناس، فإياه فاعبدوا، فإنه لا ينفعكم شيء عبدتموه عند ذلك سواه.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ(21/351)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) }
يقول تعالى ذكره: ما يخاصم في حجج الله وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها، إلا الذين جحدوا توحيده.
وقوله: (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) يقول جلّ ثناؤه: فلا يخدعك يا محمد تصرفهم في البلاد وبقاؤهم ومكثهم فيها، مع كفرهم بربهم، فتحسب أنهم إنما أمهلوا وتقلبوا، فتصرّفوا في البلاد مع كفرهم بالله، ولم يعاجلوا بالنقمة والعذاب على كفرهم لأنهم على شيء من الحق فإنا لم نمهلهم لذلك، ولكن ليبلغ الكتاب أجله، ولتحقّ عليهم كلمة العذاب، عذاب ربك.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أسفارهم فيها، ومجيئهم وذهابهم.
ثم قصّ على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قصص الأمم المكذّبة رسلها، وأخبره أنهم كانوا من جدالهم لرسله على مثل الذي عليه قومه الذين أرسل إليهم، وإنه أحلّ بهم من نقمته عند بلوغهم أمدهم بعد إعذار رسله إليهم، وإنذارهم بأسه ما قد ذكر في كتابه إعلاما منه بذلك نبيه، أن سنته في قومه الذين سلكوا سبيل أولئك في تكذيبه وجداله سنته من إحلال نقمته بهم، وسطوته بهم، فقال تعالى ذكره: كذبت قبل قومك المكذبين لرسالتك إليهم رسولا المجادليك بالباطل قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهم الأمم الذين تحزبوا وتجمعوا على رسلهم بالتكذيب لها، كعاد وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مَدْيَن وأشباههم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/352)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) قال: الكفار.
وقوله: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) يقول تعالى ذكره: وهمت كل أمة من هذه الأمم المكذّبة رسلها، المتحزّبة على أنبيائها، برسولهم الذي أرسل إليهم ليأخذوه فيقتلوه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) : أي ليقتلوه، وقيل برسولهم; وقد قيل: كل أمة، فوجَّهت الهاء والميم إلى الرجل دون لفظ الأمة، وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله"برسولها"، يعني برسول الأمة.
وقوله: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) يقول: وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم إياه وخصومتهم له الحق الذي جاءهم به من عند الله، من الدخول في طاعته، والإقرار بتوحيده، والبراءة من عبادة ما سواه، كما يخاصمك كفار قومك يا محمد بالباطل.
وقوله: (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) يقول تعالى ذكره: فأخذت الذين هموا برسولهم ليأخذوه بالعذاب من عندي، فكيف كان عقابي إياهم، الم أهلكهم فأجعلهم للخلق عبرة، ولمن بعدهم عظة؟ وأجعل ديارهم ومساكنهم منهم خلاء، وللوحوش ثواء.
وقد حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) قال: شديد والله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) }(21/353)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
يقول تعالى ذكره: وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها التي قصصت عليك يا محمد قصصها عذابي، وحل بها عقابي بتكذيبهم رسلهم، وجدالهم إياهم بالباطل، ليدحضوا به الحق، كذلك وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك، الذين يجادلون في آيات الله.
وقوله: (أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) اختلف أهل العربية في موضع قوله (أنَّهُمْ) ، فقال بعض نحويّي البصرة: معنى ذلك: حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار: أي لأنهم، أو بأنهم، وليس أنهم في موضع مفعول ليس مثل قولك: أحققت أنهم لو كان كذلك كان أيضا أحققت، لأنهم. وكان غيره يقول:"أنهم" بدل من الكلمة، كأنه أحقت الكلمة حقا أنهم أصحاب النار.
والصواب من القول في ذلك، أن قوله"أنهم" ترجمة عن الكلمة، بمعنى: وكذلك حقّ عليهم عذاب النار، الذي وعد الله أهل الكفر به.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) }
يقول تعالى ذكره: الذين يحملون عرش الله من ملائكته، ومن حول عرشه، ممن يحفّ به من الملائكة (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يقول: يصلون لربهم بحمده وشكره (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) يقول: ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه، ويشهدون بذلك، لا يستكبرون عن عبادته (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يقول: ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقرّوا بمثل إقرارهم من توحيد الله، والبراءة من كلّ معبود سواه ذنوبهم، فيعفوها عنهم.(21/354)
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) لأهل لا اله إلا الله.
وقوله: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) ، وفي هذا الكلام محذوف، وهو يقولون; ومعنى الكلام ويستغفرون للذين آمنوا يقولون: يا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما. ويعني بقوله: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) : وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من خلقك، فعلمت كل شيء، فلم يخف عليك شيء، ورحمت خلقك، ووسعتهم برحمتك.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب الرحمة والعلم، فقال بعض نحويّي البصرة: انتصاب ذلك كانتصاب لك مثله عبدا، لأنك قد جعلت وسعت كلّ شيء، وهو مفعول له، والفاعل التاء، وجاء بالرحمة والعلم تفسيرا، وقد شغلت عنهما الفعل كما شغلت المثل بالهاء، فلذلك نصبته تشبيها بالمفعول بعد الفاعل; وقال غيره: هو من المنقول، وهو مفسر، وسعت رحمته وعلمه، ووسع هو كلّ شيء رحمة، كما تقول: طابت به نفسي، طبت به نفسا،. قال: أما لك مثله عبدا، فإن المقادير لا تكون إلا معلومة مثل عندي رطل زيتا، والمثل غير معلوم، ولكن لفظه لفظ المعرفة والعبد نكرة، فلذلك نصب العبد، وله أن يرفع، واستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر:
ما في مَعَدّ والقبائِلِ كُلِّها ... قَحْطَانَ مِثْلُكَ وَاحِدٌ مَعْدُودُ (1)
وقال: ردّ"الواحد" على"مثل" لأنه نكرة، قال: ولو قلت: ما مثلك رجل،
__________
(1) لم اقف على قائله. واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى:" ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما" وقد اختلف أهل العربية في نصب رحمة.... الخ. والشاهد في البيت قوله" مثلك واحد"؛ فيجوز في" واحد" أن يرد على" مثلك" بطريق البدل منه. ويجوز أيضا أن يكون تفسيرا. أي تمييزا لمثل، لأنه وإن كان معرفة في لفظه، فهو نكرة في معناه، فاحتاج من أجل ذلك إلى التفسير" التمييز" مثل قولك: لك مثله أرضا، وعندي فدان أرضا، ورطل زيتا. لأن المقادير لا تكون إلا معلومة، وقوله" مثلك" في المعنى ألفاظ المقادير. وأما نصب رحمة في الآية، فقد بينه المؤلف.(21/355)
ومثلك رجل، ومثلك رجلا جاز، لأن مثل يكون نكرة، وإن كان لفظها معرفة.
وقوله: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) يقول: فاصفح عن جرم من تاب من الشرك بك من عبادك، فرجع إلى توحيدك، واتبع أمرك ونهيك.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاده (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) من الشرك.
وقوله: (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) يقول: وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه، ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه، وذلك الدخول في الإسلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) : أي طاعتك وقوله: (وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) يقول: واصرف عن الذين تابوا من الشرك، واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة.(21/356)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن دعاء ملائكته لأهل الإيمان به من عباده، تقول: يا (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) يعني: بساتين إقامة (الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) يعني التي وعدت أهل الإنابة إلى طاعتك أن تدخلهموها (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) يقول: وأدخل مع هؤلاء الذين تابوا (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) جنات عدن من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، فعمل بما يرضيك عنه من الأعمال الصالحة في الدنيا، وذكر أنه يدخل مع الرجل أبواه وولده وزوجته(21/356)
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
الجنة، وإن لم يكونوا عملوا عمله بفضل رحمة الله إياه.
كما حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى بن يمان العجلي، قال: ثنا شريك، عن سعيد، قال: يدخل الرجل الجنة، فيقول: أين أبي، أين أمي، أين ولدي، أين زوجتي، فيقال: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: كنت أعمل لي ولهم، فيقال: أدخلوهم الجنة; ثم قرأ (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) .
فمن إذن، إذ كان ذلك معناه، في موضع نصب عطفا على الهاء والميم في قوله (وَأَدْخِلْهُمْ) وجائز أن يكون نصبا على العطف على الهاء والميم في وعدتهم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يقول: أنك أنت يا ربنا العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) }
يعني تعالى ذكره بقوله مخبرا عن قيل ملائكته: وقِهِم: اصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم التي كانوا أتوها قبل توبتهم وإنابتهم، يقولون: لا يؤاخذهم بذلك، فتعذبهم به (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) يقول: ومن تصرف عنه سوء عاقبة سيئاته بذلك يوم القيامة، فقد رحمته، فنجيته من عذابك (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه من نجا من النار وأدخل الجنة فقد فاز، وذلك لا شك هو الفوز العظيم.
وبنحو الذي قلنا في معنى السيئات قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ) : أي العذاب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معمر بن بشير، قال: ثنا ابن المبارك، عن(21/357)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
معمر، عن قتادة وعن مطرف قال: وجدنا أنصح العباد للعباد ملائكة وأغش العباد للعباد الشياطين، وتلا (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ... الآية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال مطرف: وجدنا أغشّ عباد الله لعباد الله الشياطين، ووجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ينادون في النار يوم القيامة إذا دخلوها، فمقتوا بدخولهموها أنفسهم حين عاينوا ما أعدّ الله لهم فيها من أنواع العذاب، فيقال لهم: لمقت الله إياكم أيها القوم في الدنيا، إذ تدعون فيها للإيمان بالله فتكفرون، أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم لما حل بكم من سخط الله عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ) قال: مقتوا أنفسهم حين رأوا أعمالهم، ومقت الله إياهم في الدنيا، إذ يدعون إلى الإيمان، فيكفرون أكبر.(21/358)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) يقول: لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا، فتركوه، وأبوا أن يقبلوا، أكبر مما مقتوا أنفسهم، حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) في النار (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ) في الدنيا (فَتَكْفُرُونَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ) ... الآية، قال: لما دخلوا النار مقتوا أنفسهم في معاصي الله التي ركبوها، فنودوا: إن مقت الله إياكم حين دعاكم إلى الإسلام أشد من مقتكم أنفسكم اليوم حين دخلتم النار.
واختلف أهل العربية في وجه دخول هذه اللام في قوله: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ) فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة: هي لام الابتداء، كان ينادون يقال لهم، لأن في النداء قول. قال: ومثله في الإعراب يقال: لزيد أفضل من عمرو. وقال بعض نحويِّي الكوفة: المعنى فيه: ينادون إن مقت الله إياكم، ولكن اللام تكفي من أن تقول في الكلام: ناديت أنّ زيدا قائم، قال: ومثله قوله: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) اللام بمنزلة"إن" في كل كلام ضارع القول مثل ينادون ويخبرون، وأشباه ذلك.
وقال آخر غيره منهم: هذه لام اليمين، تدخل مع الحكاية، وما ضارع الحكاية لتدلّ على أن ما بعدها ائتناف. قال: ولا يجوز في جوابات الإيمان أن تقوم مقام اليمين، لأن اللام كانت معها النون أو لم تكن، فاكتفي بها من اليمين، لأنها لا تقع إلا معها.(21/359)
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: دخلت لتؤذن أن ما بعدها ائتناف وأنها لام اليمين.
وقوله: (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قد أتينا عليه في سورة البقرة، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع، ولكنا نذكر بعض ما قال بعضهم فيه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان.
وحُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول فى قوله: (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) هو قول الله (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال: هو كقوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا) ... الآية.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، في قوله: (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال: هي كالتي في البقرة (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) .
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال: خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا، ثم أحييتنا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، في قوله: (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قالوا: كانوا أمواتا فأحياهم الله، ثم(21/360)
أماتهم، ثم أحياهم.
وقال آخرون فيه ما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال: أميتوا في الدنيا، ثم أحيوا في قبورهم، فسئلوا أو خوطبوا، ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحيوا في الآخرة.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فقرأ حتى بلغ (الْمُبْطِلُونَ) قال: فنساهم الفعل، وأخذ عليهم الميثاق، قال: وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصرى، فخلق منه حواء، ذكره عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: وذلك قول الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً) قال: بث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا، وقرأ: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) قال: خلقا بعد ذلك، قال: فلما أخذ عليهم الميثاق، أماتهم ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله: (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا) ، وقرأ قول الله: (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) قال: يومئذ، وقرأ قول الله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) .
وقوله: (فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا) يقول: فأقررنا بما عملنا من الذنوب في الدنيا (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) يقول: فهل إلى خروج من النار لنا سبيل، لنرجع إلى الدنيا، فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) : فهل إلى كرّة إلى الدنيا.(21/361)
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) }
وفي هذا الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من ذكره عليه; وهو: فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك هذا الذي لكم من العذاب أيها الكافرون (بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) ، فأنكرتم أن تكون الألوهة له خالصة، وقلتم (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) .
(وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) يقول: وإن يجعل لله شريك تصدّقوا من جعل ذلك له (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) يقول: فالقضاء لله العلي على كل شيء، الكبير الذي كل شيء دونه متصاغرا له اليوم.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره: الذي يريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته (وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا) يقول ينزل لكم من أرزاقكم من السماء بإدرار الغيث الذي يخرج به أقواتكم من الأرض، وغذاء أنعامكم عليكم (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ) يقول: وما يتذكر حجج الله التي جعلها أدلة على وحدانيته، فيعتبر بها ويتعظ، ويعلم حقيقة ما تدل عليه، إلا من ينيب، يقول: إلا من يرجع إلى توحيده، ويقبل على طاعته.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِلا مَنْ يُنِيبُ) قال: من يقبل إلى طاعة الله.
وقوله: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد(21/362)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وللمؤمنين به، فاعبدوا الله أيها المؤمنون له، مخلصين له الطاعة غير مشركين به شيئا مما دونه (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) يقول: ولو كره عبادتكم إياه مخلصين له الطاعة الكافرون المشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأنداد.
القول في تأويل قوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) }
يقول تعالى ذكره: هو رفيع الدرجات; ورفع قوله: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) على الابتداء; ولو جاء نصبا على الرد على قوله: فادعوا الله، كان صوابا. (ذُو الْعَرْشِ) يقول: ذو السرير المحيط بما دونه.
وقوله: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يقول: ينزل الوحي من أمره على من يشاء من عباده.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع، فقال بعضهم: عني به الوحي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاده، قوله: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) قال: الوحي من أمره.
وقال آخرون: عني به القرآن والكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ، قال: ثنا عيد الرحمن بن(21/363)
المحاربيّ، عن جُوَيبر، عن الضحاك في قوله: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) قال: يعني بالروح: الكتاب ينزله على من يشاء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) ، وقرأ: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) قال: هذا القرآن هو الروح، أوحاه الله إلى جبريل، وجبريل روح نزل به على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقرأ: (نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ) قال. فالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه هي الروح، لينذر بها ما قال الله يوم التلاق، (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) قال: الروح: القرآن، كان أبي يقوله، قال ابن زيد: يقومون له صفا بين السماء والأرض حين ينزل جل جلاله.
وقال آخرون: عني به النبوّة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قول الله: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) قال: النبوّة على من يشاء.
وهذه الأقوال متقاربات المعاني، وإن اختلفت ألفاظ أصحابها بها.
وقوله: (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) يقول: لينذر من يلقي الروح عليه من عباده من أمر الله بإنذاره من خلقه عذاب يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، وهو يوم التلاق، وذلك يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: (يَوْمَ التَّلاقِ) من أسماء يوم القيامة، عظمه الله، وحذّره عباده.(21/364)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوْمَ التَّلاقِ) : يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، والخالق والخلق.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (يَوْمَ التَّلاقِ) تلقي أهل السماء وأهل الأرض.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (يَوْمَ التَّلاقِ) قال: يوم القيامة. قال: يوم تتلاقى العباد.
وقوله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) يعني بقوله (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ) يعني المنذرين الذين أرسل الله إليهم رسله لينذروهم وهم ظاهرون يعني للناظرين لا يحول بينهم وبينهم جبل ولا شجر، ولا يستر بعضهم عن بعض ساتر، ولكنهم بقاع صفصف لا أمت فيه ولا عوج. و"هم" من قوله: (يَوْمِهِمْ) في موضع رفع بما بعده، كقول القائل: فعلت ذلك يوم الحجاج أمير.
واختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم تخفض هم بيوم وقد أضيف إليه؟ فقال بعض نحويي البصرة: أضاف يوم إلى هم في المعنى، فلذلك لا ينوّن اليوم، كما قال: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) وقال: (هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) ومعناه: هذا يوم فتنتهم، ولكن لما ابتدأ بالاسم، وبنى عليه لم يقدر على جرّه، وكانت الإضافة في المعنى إلى الفتنة، وهذا إنما يكون إذا كان اليوم في معنى إذ، وإلا فهو قبيح; ألا ترى أنك تقول: ليتك زمن زيد أمير: أي إذ زيد أمير، ولو قلت: ألقاك زمن زيدٌ أمير، لم يحسن. وقال غيره: معنى ذلك: أن الأوقات جعلت بمعنى إذ وإذا، فلذلك بقيت عل نصبها في الرفع والخفض والنصب، فقال: (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) فنصبوا، والموضع خفض، وذلك دليل على أنه جعل موضعَ الأداة، ويجوز أن يعرب بوجوه الإعراب، لأنه ظهر ظهور الأسماء; ألا ترى أنه لا يعود عليه العائد كما يعود على الأسماء، فإن عاد العائد نوّن وأعرب ولم يضف، فقيل: أعجبني يوم فيه تقول، لما أن خرج من معنى الأداة، وعاد عليه الذكر صار اسما صحيحا. وقال: وجائز فى إذ أن تقول: أتيتك إذ تقوم،(21/365)
كما تقول: أتيتك يوم يجلس القاضي، فيكون زمنا معلوما، فأما أتيتك يوم تقوم فلا مؤنة فيه وهو جائز عند جميعهم، وقال: وهذه التي تسمى إضافة غير محضة.
والصواب من القول عندي في ذلك، أن نصب يوم وسائر الأزمنة في مثل هذا الموضع نظير نصب الأدوات لوقوعها مواقعها، وإذا أعربت بوجوه الإعراب، فلأنها ظهرت ظهور الأسماء، فعوملت معاملتها.
وقوله: (لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ) أي ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا (شَيْءٌ) .
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) ولكنهم برزوا له يوم القيامة، فلا يستترون بحبل ولا مدر.
وقوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) يعني بذلك: يقول الربّ: لمن الملك اليوم; وترك ذكر"يقول" استغناء بدلالة الكلام عليه. وقوله: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) وقد ذكرنا الرواية الواردة بذلك فيما مضى قبل. ومعنى الكلام: يقول الربّ: لمن السلطان اليوم؟ وذلك يوم القيامة، فيحيب نفسه فيقول: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ) الذي لا مثل له ولا شبيه (القَهَّارِ) لكلّ شيء سواه بقدرته، الغالب بعزّته.(21/366)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
القول في تأويل قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله يوم القيامة حين يبعث خلقه من قبورهم لموقف الحساب: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) يقول: اليوم يثاب كلّ عامل بعمله، فيوفى أجر عمله، فعامل الخير يجزى الخير، وعامل الشر يجزى جزاءه.(21/366)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
وقوله: (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) يقول: لا بخس على أحد فيما استوجبه من أجر عمله في الدنيا، فينقص منه إن كان محسنا، ولا حُمِل على مسيء إثم ذنب لم يعمله فيعاقب عليه (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يقول: إن الله ذو سرعة في محاسبة عباده يومئذ على أعمالهم التي عملوها في الدنيا; ذُكر أن ذلك اليوم لا يَنْتَصِف حتى يقيل أهل الجنة في الحنة، وأهل النار في النار، وقد فرغ من حسابهم، والقضاء بينهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) }
يقول تعالى ذكره لنبيه: وأنذر يا محمد مشركي قومك يوم الآزفة، يعنى يوم القيامة، أن يوافوا الله فيه بأعمالهم الخبيثة، فيستحقوا من الله عقابه الأليم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (يَوْمَ الآزِفَةِ) قال: يوم القيامة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ) يوم القيامة.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَنْذِرْهُمْ(21/367)
يَوْمَ الآزِفَةِ) قال: يوم القيامة.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ) قال: يوم القيامة، وقرأ: (أَزِفَتِ الآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) .
وقوله: (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) يقول تعالى ذكره: إذ قلوب العباد من مخافة عقاب الله لدى حناجرهم قد شخصت من صدورهم، فتعلقت بحلوقهم كاظميها، يرومون ردّها إلى مواضعها من صدورهم فلا ترجع، ولا هي تخرج من أبدانهم فيموتوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ) قال: قد وقعت القلوب في الحناجر من المخافة، فلا هي تخرج ولا تعود إلى أمكنتها.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) قال: شخصت أفئدتهم عن أمكنتها، فنشبت في حلوقهم، فلم تخرج من أجوافهم فيموتوا، ولم ترجع إلى أمكنتها فتستقرّ.
واختلف أهل العربية في وجه النصب (كَاظِمِينَ) فقال بعض نحويِّي البصرة: انتصابه على الحال، كأنه أراد: إذ القلوب لدى الحناجر في هذه الحال. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: الألف واللام بدل من الإضافة، كأنه قال: إذا قلوبهم لدى حناجرهم في حال كظمهم. وقال آخر منهم: هو نصب على القطع من المعنى الذي يرجع من ذكرهم في القلوب والحناجر، المعمى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين. قال: فإن شئت جعلت قطعة من الهاء التي في قوله (وَأَنْذِرْهُمْ) قال: والأول أجود في العربية، وقد تقدّم بيان وجه ذلك.(21/368)
وقوله: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ) يقول جلّ ثناؤه: ما للكافرين بالله يومئذ من حميم يحم (1) لهم، فيدفع عنهم عظيم ما نزل بهم من عذاب الله، ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم فيطاع فيما شفع، ويُجاب فيما سأل.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ) قال: من يعنيه أمرهم، ولا شفيع لهم. وقوله: (يطاع) صلة للشفيع. ومعنى الكلام: ما للظالمين من حميم ولا شفيع إذا شفع أطيع فيما شفع، فأجيب وقبلت شفاعته له.
وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ) يقول جلّ ذكره مخبرا عن صفة نفسه: يعلم ربكم ما خانت أعين عباده، وما أخفته صدورهم، يعني: وما أضمرته قلوبهم; يقول: لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى ما يحدث به نفسه، ويضمره قلبه إذا نظر ماذا يريد بنظره، وما ينوي ذلك بقلبه (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) يقول: والله تعالى ذكره يقضي في الذي خانته الأعين بنظرها، وأخفته الصدور عند نظر العيون بالحق، فيجزي الذين أغمضوا أبصارهم، وصرفوها عن محارمه حذارَ الموقف بين يديه، ومسألته عنه بالحُسنى، والذين ردّدوا النظر، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش إذا قدّرت، جزاءها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الله بن أحمد المَرْوَزِيّ، قال: ثنا عليّ بن حسين بن واقد قال: ثني أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: ثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس
__________
(1) في اللسان: حمنى: الأمر وأحمني: أهمني. وقال الأزهري: أحمني هذا الأمر واحتممت له، كأنه اهتمام بحميم قريب.(21/369)
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ) إذا نظرت إليها تريد الخيانة أم لا (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) إذا قدرت عليها أتزني بها أم لا؟ قال: ثم سكت، ثم قال: ألا أخبركم بالتي تليها؟ قلت نعم، قال: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) قال الحسن: فقلت للأعمش: حدثني الكلبيّ، إلا أنه قال: إن الله قادر على أن يجزي بالسيئة السيئة، وبالحسنة عشرا. وقال الأعمش: إن الذي عند الكلبيّ عندي، ما خرج مني إلا بحقير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ) قال: نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (خَائِنَةَ الأعْيُنِ) : أي يعلم همزه بعينه، وإغماضه فيما لا يحبّ الله ولا يرضاه.
وقوله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) يقول: والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون بالله من قومك من دونه لا يقضون بشيء، لأنها لا تعلم شيئا، ولا تقدر على شيء، يقول جلّ ثناؤه لهم: فاعبدوا الذي يقدر على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فيجزي محسنكم بالإحسان، والمسيء بالإساءة، لا ما لا يقدر على شيء ولا يعلم شيئا، فيعرف المحسن من المسيء، فيثيب المحسن، ويعاقب المسيء.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يقول: إن الله هو السميع لما تنطق به ألسنتكم أيها الناس، البصير بما تفعلون من الأفعال، محيط بكل ذلك محصيه عليكم، ليجازي جميعكم جزاءه يوم الجزاء.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة:"وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ" بالتاء على وجه الخطاب. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بالياء على وجه الخبر.(21/370)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) }
يقول تعالى ذكره: أو لم يسر هؤلاء المقيمون على شركهم بالله، المكذبون رسوله من قريش، في البلاد، (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول: فيروا ما الذي كان خاتمة أمم الذين كانوا من قبلهم من الأمم الذين سلكوا سبيلهم، في الكفر بالله، وتكذيب رسله (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) يقول: كانت تلك الأمم الذين كانوا من قبلهم أشد منهم بطشا، وأبقى في الأرض آثارا، فلم تنفعهم شدة قواهم، وعظم أجسامهم، إذ جاءهم أمر الله، وأخذهم بما أجرموا من معاصيه، واكتسبوا من الآثام، ولكنه أباد جمعهم، وصارت مساكنهم خاوية منهم بما ظلموا (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) يقول: وما كان لهم من عذاب الله إذ جاءهم، من واق يقيهم، فيدفعه عنهم.
كالذي حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) يقيهم، ولا ينفعهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) }
يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعلت بهؤلاء الأمم الذين من قبل مشركي(21/371)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
قريش من إهلاكناهم بذنوبهم فعلنا بهم بأنهم كانت تأتيهم رسل الله إليهم بالبيّنات، يعني بالآيات الدالات على حقيقة ما تدعوهم إليه من توحيد الله، والانتهاء إلى طاعته (فَكَفَرُوا) يقول: فانكروا رسالتها، وجحدوا توحيد الله، وأبوا أن يطيعوا الله (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ) يقول: فأخذهم الله بعذابه فأهلكهم (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) يقول: إن الله ذو قوّة لا يقهره شيء، ولا يغلبه، ولا يعجزه شيء أراده، شديد عقابه من عاقب من خلقه، وهذا وعيد من الله مشركي قريش، المكذّبين رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول لهم جلّ ثناؤه: فاحذروا أيها القوم أن تسلكوا سبيلهم في تكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وجحود توحيد الله، ومخالفة أمره ونهيه فيسلك بكم في تعجيل الهلاك لكم مسلَكَهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) }
يقول تعالى ذكره مُسَلِّيا نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، عما كان يلقى من مشركي قومه من قريش، بإعلامه ما لقي موسى ممن أرسل إليه من التكذيب، ومخيره أنه معليه عليهم، وجاعل دائرة السَّوْء على من حادّه وشاقَّه، كسنته في موسى صلوات الله عليه، إذ أعلاه، وأهلك عدوه فرعون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا) : يعني بأدلته. (وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) : كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، (وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) : أي عذر مبين، يقول: وحججه المبينة لمن يراها أنها حجة محققة ما يدعو إليه موسى (إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) يقول: فقال هؤلاء الذين أرسل إليهم موسى لموسى: هو ساحر يسحر العصا، فيرى الناظر إليها أنها حية تسعى.
(كَذَّابٌ) يقول: يكذب على الله، ويزعم أنه أرسله إلى الناس رسولا.(21/372)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (25) }
يقول تعالى ذكره: فلما جاء موسى هؤلاء الذين أرسله الله إليهم بالحق من عندنا، وذلك مجيئه إياهم بتوحيد الله، والعمل بطاعته، مع إقامة الحجة عليهم، بأن الله ابتعثه إليهم بالدعاء إلى ذلك (قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله (مَعَهُ) من بني إسرائيل (وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ) يقول: واستبقوا نساءهم للخدمة.
فإن قال قائل: وكيف قيل (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ) ، وإنما كان قتل فرعون الولدان من بني إسرائيل حذار المولود الذي كان أخبر أنه على رأسه ذهاب ملكه، وهلاك قومه، وذلك كان فيما يقال قبل أن يبعث الله موسى نبيًّا؟ قيل: إن هذا الأمر بقتل أبناء الذين آمنوا مع موسى، واستحياء نسائهم، كان أمرا من فرعون وملئه من بعد الأمر الأول الذي كان من فرعون قبل مولد موسى.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاده: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ) قال: هذا قتل غير القتل الأوّل الذي كان.
وقوله: (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) يقول: وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله إلا في جوز عن سبيل الحقّ، وصدّ عن قصد المحجة، وأخذ على غير هدى.(21/373)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ(21/373)
الْفَسَادَ (26) }
يقول تعالى ذكره: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ) لملئه: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) يقول: إني أخاف أن يغير دينكم الذي أنتم عليه بسحره.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والشأم والبصرة:"وَأَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الفَسَادَ" بغير ألف، وكذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: (أوْ أن) بالألف، وكذلك ذلك في مصاحفهم"يَظْهَرَ فِي الأرْضِ" بفتح الياء ورفع الفساد.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متقاربتا المعنى، وذلك أن الفساد إذا أظهره مظهرا كان ظاهرا، وإذا ظهر فبإظهار مظهره يظهر، ففي القراءة بإحدى القرّاءتين فى ذلك دليل واضح على صحة معنى الأخرى. وأما القراءة في: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ) بالألف وبحذفها، فإنهما أيضا متقاربتا المعنى، وذلك أن الشيء إذا بدل إلى خلافه فلا شك أن خلافه المبدل إليه الأوّل هو الظاهر دون المبدل، فسواء عطف على خبره عن خوفه من موسى أن يبدّل دينهم بالواو أو بأو، لأن تبديل دينهم كان عنده ظهور الفساد، وظهور الفساد كان عنده هو تبديل الدين.
فتأويل الكلام إن: إني أخاف من موسى أن يغير دينكم الذي أنتم عليه، أو أن يظهر في أرضكم أرض مصر، عبادة ربه الذي يدعوكم إلى عبادته، وذلك كان عنده هو الفساد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ(21/374)
) : أي أمركم الذي أنتم عليه (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ) والفساد عنده أن يعمل بطاعة الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) }
يقول تعالى ذكره: وقال موسى لفرعون وملئه: إني استجرت أيها القوم بربي وربكم، من كلّ متكبر عليه، تكبر عن توحيده، والإقرار بألوهيته وطاعته، لا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه خلقه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء; وإنما خص موسى صلوات الله وسلامه عليه، الاستعاذة بالله ممن لا يؤمن بيوم الحساب، لأن من لم يؤمن بيوم الحساب مصدقا، لم يكن للثواب على الإحسان راجيا، ولا للعقاب على الإساءة، وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفا، ولذلك كان استجارته من هذا الصنف من الناس خاصة.
وقوله: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) اختلف أهل العلم في هذا الرجل المؤمن، فقال بعضهم: كان من قوم فرعون، غير أنه كان قد آمن بموسى، وكان يُسِرّ إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) قال: هو ابن عم فرعون.
ويقال: هو الذي نجا(21/375)
مع موسى، فمن قال هذا القول، وتأوّل هذا التأويل، كان صوابا الوقف إذا أراد القارئ الوقف على قوله: (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ، لأن ذلك خبر متناه قد تمّ.
وقال آخرون: بل كان الرجل إسرائيليا، ولكنه كان يكتم إيمانه من آل فرعون.
والصواب على هذا القول لمن أراد الوقف أن يجعل وقفه على قوله: (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) لأن قوله: (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) صلة لقوله: (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) فتمامه قوله: يكتم إيمانه، وقد ذكر أن اسم هذا الرجل المؤمن من آل فرعون: جبريل، كذلك حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي القول الذي قاله السديّ من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون، قد أصغى لكلامه، واستمع منه ما قاله، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله. وقيله ما قاله. وقال له: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، ولو كان إسرائليا لكان حريا أن يعاجل هذا القاتل له، ولملئه ما قال بالعقوبة على قوله، لأنه لم يكن يستنصح بني إسرائيل، لاعتداده إياهم أعداء له، فكيف بقوله عن قتل موسى لو وجد إليه سبيلا؟ ولكنه لما كان من ملأ قومه، استمع قوله، وكفّ عما كان همّ به في موسى.
وقوله: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) يقول: أتقتلون أيها القوم موسى لأن يقول ربي الله؟ فإن في موضع نصب لما وصفت. (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) يقول: وقد جاءكم بالآيات الواضحات على حقيقة ما يقول من ذلك. وتلك البيّنات من الآيات يده وعصاه.
كما حدثنا ابن حميد، قال. ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) بعصاه وبيده.
وقوله: (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) يقول: وإن يك موسى كاذبا في قيله: إن الله أرسله إليك يأمركم بعبادته، وترك دينكم الذي أنتم عليه، فإنما(21/376)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
إثم كذبه عليه دونكم (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) يقول: وإن يك صادقا في قيله ذلك، أصابكم الذي وعدكم من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون، فلا حاجة بكم إلى قتله، فتزيدوا ربكم بذلك إلى سخطه عليكم بكفركم سخطا (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) يقول: إن الله لا يوفّق للحقّ من هو متعد إلى فعل ما ليس له فعله، كذّاب عليه يكذب، ويقول عليه الباطل وغير الحقّ.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الإسراف الذي ذكره المؤمن في هذا الموضع، فقال بعضهم: عني به الشرك، وأراد: إن الله لا يهدي من هو مشرك به مفتر عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال. ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) : مشرك أسرف على نفسه بالشرك.
وقال آخرون: عنى به من هو قتَّال سفَّاك للدماء بغير حق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) قال: المسرف: هو صاحب الدم، ويقال: هم المشركون.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هذا المؤمن أنه عمّ بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) والشرك من الإسراف، وسفك الدم بغير حقّ من الإسراف، وقد كان مجتمعا في فرعون الأمران كلاهما، فالحقّ أن يعم ذلك كما أخبر جلّ ثناؤه عن قائله، أنه عم القول بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا(21/377)
أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ) يعني: أرض مصر، يقول: لكم السلطان اليوم والملك ظاهرين أنتم على بنى إسرائيل في أرض مصر (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ) يقول: فمن يدفع عنا بأس الله وسطوته إن حل بنا، وعقوبته أن جاءتنا، قال فرعون (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى) يقول: قال فرعون مجيبا لهذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: ما رأيكم أيها الناس من الرأي والنصيحة إلا ما أرى لنفسي ولكم صلاحا وصوابا، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. يقول: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصواب في أمر موسى وقتله، فإنكم إن لم تقتلوه بدل دينكم، وأظهر في أرضكم الفساد.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) }
يقول تعالى ذكره: وقال المؤمن من آل فرعون لفرعون وملثه: يا قوم إني أخاف عليكم بقتلكم موسى إن قتلتموه مثل يوم الأحزاب الذين تحزّبوا على رسل الله نوح وهود وصالح، فأهلكهم الله بتجرّئهم عليه، فيهلككم كما أهلكهم.
وقوله: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) يقول: يفعل ذلك بكم فيهلككم مثل سنته في قوم نوح وعاد وثمود وفعله بهم. وقد بيَّنا معنى الدأب فيما مضى بشواهده، المغنية عن إعادته، مع ذكر أقوال أهل التأويل فيه.
وقد حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) يقول: مثل حال.(21/378)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) قال: مثل ما أصابهم.
وقوله: (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني قوم إبراهيم، وقوم لوط، وهم أيضا من الأحزاب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) قال: هم الأحزاب.
وقوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه: وما أهلك الله هذه الأحزاب من هذه الأمم ظلما منه لهم بغير جرم اجترموه بينهم وبينه، لأنه لا يريد ظلم عباده، ولا يشاؤه، ولكنه أهلكهم بإجرامهم وكفرهم به، وخلافهم أمره.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن لفرعون وقومه: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ) بقتلكم موسى إن قتلتموه عقاب الله (يَوْمَ التَّنَادِ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (يَوْمَ التَّنَادِ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: (يَوْمَ التَّنَادِ) بتخفيف الدال، وترك إثبات الياء، بمعنى التفاعل، من تنادى القوم تناديا، كما قال جلّ ثناؤه: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ) وقال: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ) فلذلك تأوله قارئو ذلك كذلك.(21/379)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاريّ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة أنه قال في هذه الآية (يَوْمَ التَّنَادِ) قال: يوم ينادي أهل النار أهل الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) يوم ينادي أهل الجنة أهل النار (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) وينادي أهل النار أهل الجنة (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَوْمَ التَّنَادِ) قال: يوم القيامة ينادي أهل الجنة أهل النار.
وقد روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في معنى ذلك على هذه القراءة تأويل آخر على غير هذا الوجه.
وهو ما حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظيّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:"يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فَفَزِعَ أهْلُ السَّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ الله، وَيَأْمُرُهُ الله أنْ يُدِيمَهَا وَيُطَوِّلَهَا فَلا يَفْتَرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللهُ: (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ) فَيُسَيِّرُ اللهُ الجِبَالَ فَتَكُونَ سَرَابًا، فَتُرَجُّ الأرْضُ بأهْلِها رَجًّا، وَهِيَ التي يَقُولُ اللهُ: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) فَتَكُونُ كالسَّفِينَة المُرْتَعَةِ فِي البَحْرِ تَضرِبُها الأمْوَاجُ تَكْفَأُ بأهْلِهَا، أوْ كالقِنْدِيلِ المُعَلَّقِ بالعَرْشِ تَرُجُّهُ الأرْوَاحُ، فَتَمِيدُ النَّاسَ عَلى ظَهْرِها، فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ، وَتَشِيبُ الوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حتى تأتي الأقْطارَ، فَتَلَقَّاها المَلائِكَةُ، فَتَضْرِبُ وُجُوهَها، فَتَرْجِعَ وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي(21/380)
يَقُولُ الله: (يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) ".
فعلى هذا التأويل معنى الكلام: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضا من فزع نفخة الفزع.
وقرأ ذلك آخرون:"يَوْمَ التَّنَادِّ" بتشديد الدال، بمعنى: التفاعل من النَّدّ، وذلك إذا هربوا فنَدُّوا في الأرض، كما تَنِدّ الإبل: إذا شَرَدَت على أربابها.
* ذكر من قال ذلك، وذكر المعنى الذي قَصَد بقراءته ذلك كذلك.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ، قال: ثنا أبو أسامة، عن الأجلح، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، قال: إذا كان يوم القيامة، أمر الله السماء الدنيا فتشقَّقت بأهلها، ونزل من فيها من الملائكة، فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فصفوا صفا دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض نَدُّوا فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا السبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قول الله: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) وذلك قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) وقوله: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) وذلك قوله: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) .
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله (يَوْمَ التَّنَادِ) قال: تَنِدون ورُوِي عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك:"يَوْمَ التَّنَادِي" بإثبات الياء وتخفيف الدال.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، وهو تخفيف الدال وبغير إثبات الياء، وذلك أن ذلك هو القراءة التي عليها الحجة مجمعة من قرّاء الأمصار، وغير جائز خلافها فيما جاءت به نقلا. فإذا كان ذلك هو(21/381)
الصواب، فمعنى الكلام: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضا، إما من هول ما قد عاينوا من عظيم سلطان الله، وفظاعة ما غشيهم من كرب ذلك اليوم، وإما لتذكير بعضُهم بعضا إنجاز إلله إياهم الوعد الذي وعدهم في الدنيا، واستغاثة من بعضهم ببعض، مما لقي من عظيم البلاء فيه.
وقوله: (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) فتأويله على التأويل الذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"يَوْمَ يُوَلُّونَ هارِبينَ فِي الأرْضِ حِذَارَ عَذَابِ اللهِ وَعِقابِهِ عِنْدَ مُعَايَنَتِهم جَهَنَّمَ".
وتأويله على التأويل الذي قاله قَتادة في معنى (يَوْمَ التَّنَادِ) : يوم تولُّون مُنْصَرِفِينَ عن موقف الحساب إلى جهنم.
وبنحو ذلك روي الخبر عنه، وعمن قال نحو مقالته في معنى (يَوْمَ التَّنَادِ) .
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا بشر، قال. ثنا يزيد، قال. ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) : أي منطَلقا بكم إلى النار.
وأولى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي رُوي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإن كان الذي قاله قتادة في ذلك غير بعيد من الحقّ، وبه قال جماعه من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال. ثنا أبو عاصم، قال. ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) قال: فارّين غير معجزين.
وقوله: (مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) يقول: ما لكم من الله مانع يمنعكم، وناصر ينصركم.(21/382)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال. ثنا سعيد، عن قتادة (مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) : أي من ناصر.
وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) يقول: ومن يخذله الله فلم يوفّقه لرشده، فما له من موفّق يوفّقه له.(21/383)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) }
يقول تعالى ذكره: ولقد جاءكم يوسف بن يعقوب يا قوم من قبل موسى بالواضحات من حجج الله.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ) قال: قبل موسى.
وقوله: (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ) يقول: فلم تزالوا مرتابين فيما أتاكم به يوسف من عند ربكم غير موقني القلوب بحقيقته (حَتَّى إِذَا هَلَكَ) يقول: حتى إذا مات يوسف قلتم أيها القوم: لن يبعث الله من بعد يوسف إليكم رسولا بالدعاء إلى الحقّ (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) يقول: هكذا يصد الله عن إصابة الحقّ وقصد السبيل من هو كافر به مرتاب، شاكّ فى حقيقة أخبار رسله.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ(21/383)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) فقوله"الذين" مردود على"من" في قوله (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) . وتأويل الكلام: كذلك يضلّ الله أهل الإسراف والغلوّ في ضلالهم بكفرهم باقله، واجترائهم على معاصيه، المرتابين في أخبار رسله، الذين يخاصمون في حججه التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحُجَج (بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) يقول: بغير حجة أتتهم من عند ربهم يدفعون بها حقيقة الحُجَج التي أتتهم بها الرسل; و"الذين" إذا كان معنى الكلام ما ذكرنا في موضع نصب ردًّا على"مَن".
وقوله: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ) يقول: كبر ذلك الجدال الذي يجادلونه في آيات الله مقتا عند الله، (وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله; وإنما نصب قوله: (مَقْتا) لما في قوله (كَبُرَ) من ضمير الجدال، وهو نظير قوله: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) فنصب كلمة من نصبها، لأنه جعل في قوله: (كَبُرَتْ) ضمير قولهم: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) وأما من لم يضمر ذلك فإنه رفع الكلمة.
وقوله: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) يقول: كما طبع الله على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر على الله أن يوحده، ويصدّق رسله. جبار: يعني متعظم عن اتباع الحقّ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار، خلا أبي عمرو بن العلاء، على: (كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) بإضافة القلب إلى المتكبر، بمعنى الخبر عن أن الله طبع على قلوب المتكبرين كلها; ومن كان ذلك قراءته، كان قوله"جبار". من نعت"متكبر". وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ(21/384)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
ذلك "كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ على قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ".
حدثني بذلك ابن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثني حجاج، عن هارون أنه كذلك في حرف ابن مسعود، وهذا الذي ذُكر عن ابن مسعود من قراءته يحقق قراءة من قرأ ذلك بإضافة قلب إلى المتكبر، لأن تقديم"كل" قبل القلب وتأخيرها بعده لا يغير المعنى، بل معنى ذلك في الحالتين واحد. وقد حُكي عن بعض العرب سماعا: هو يرجِّل شعره يوم كلّ جمعة، يعني: كلّ يوم جمعة. وأما أبو عمرو فقرأ ذلك بتنوين القلب وترك إضافته إلى متكبر، وجعل المتكبر والجبار من صفة القلب.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بإضافة القلب إلى المتكبر، لأن التكبر فعل الفاعل بقلبه، كما أن القاتل إذا قتل قتيلا وإن كان قتله بيده، فإن الفعل مضاف إليه، وإنما القلب جارحة من جوارح المتكبر. وإن كان بها التكبر، فإن الفعل إلى فاعله مضاف، نظير الذي قلنا في القتل، وذلك وإن كان كما قلنا، فإن الأخرى غير مدفوعة، لأن العرب لا تمنع أن تقول: بطشت يد فلان، ورأت عيناه كذا، وفهم قلبه، فتضيف الأفعال إلى الجوارح، وإن كانت في الحقيقة لأصحابها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ (37) }
يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لما وعظه المؤمن من آله بما وعظه به وزجره عن قتل موسى نبيّ الله وحذره من بأس الله على قيله أقتله ما حذره لوزيره وزير السوء هامان: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ) يعني بناء.(21/385)
وقد بيَّنا معنى الصرح فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
(لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ) اختلف أهل التأويل في معنى الأسباب في هذا الموضع، فقال بعضهم: أسباب السموات: طرقها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن هشام، قال: ثنا عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السديّ، عن أبي صالح (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) قال: طرق السموات.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) قال: طُرُق السموات.
وقال آخرون: عني بأسباب السموات: أبواب السموات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا) وكان أول من بنى بهذا الآجر وطبخه (لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) : أي أبواب السموات.
وقال آخرون: بل عُنِي به مَنزل السماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) قال: مَنزل السماء.
وقد بيَّنا فيما مضى قبل، أن السبب: هو كل ما تسبب به إلى الوصول إلى ما يطلب من حبل وسلم وطريق وغير ذلك.
فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: معناه لعلي أبلغ من أسباب السموات أسبابا أتسيب بها إلى رؤية إله موسى، طرقا كانت تلك الأسباب منها،(21/386)
أو أبوابا، أو منازل، أو غير ذلك.
وقوله: (فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) اختلف القرّاء في قراءة قوله: (فَأَطَّلِعَ) فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار:"فَأَطَّلِعُ" بضم العين: ردًا على قوله: (أَبْلُغُ الأسْبَابَ) وعطفا به عليه. وذكر عن حميد الأعرج أنه قرأ (فَأَطَّلِعَ) نصبا جوابا للعلي، وقد ذكر الفرّاء أن بعض العرب أنشده:
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُولاتِها ... يُدِلْنَنا اللَّمَّةَ مِنْ لَمَّاتِها فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفَرَاتِهَا (1)
فنصب فتستريح على أنها جواب للعلّ.
والقراءة التي لا أستجيز غيرها الرفع في ذلك، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله: (وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا) يقول: وإني لأظنّ موسى كاذبا فيما يقول ويدّعي من أن له في السماء ربا أرسله إلينا.
وقوله: (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) يقول الله تعالى ذكره: وهكذا
__________
(1) هذه أبيات من مشطور الرجز. قال الفراء في معاني القرآن (228 مصورة الجامعة) وقوله" لعلي أبلغ الأسباب فأطلع" بالرفع، يرده على قوله" أبلغ". ومن جعله جوابا" للعلي" نصبه. وقد قرأ به بعض القراء، قال: وأنشدني بعض العرب:" عل صروف الدهر.... الأبيات"، فنصب على الجواب بلعل. والرجز لم يعلم قائله. وعل: لغة في لعل. والدولات: جمع دولة في المال. وبالفتح في الحرب. وقيل هما واحد. ويدلننا: من الإدالة، وهي الغلبة. والملة، بالفتح: الشدة. وهي مفعول ثان ليدلننا. والشاهد في" فتستريح" حيث نصب في جواب لعل، الذي هو أداة الترجي. قاله الفراء. وهو الصحيح، لثبوت ذلك في القرآن:" لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى". والزفرات جمع زفرة، وهي المرة من الزفر، وهو أن يملأ الرجل صدره هواء، بالشهيق، ثم يزفر به أي يخرجه ويرمى به، وذلك عند الغم الحزن. والأصل: تحريك الفاء في الجمع، على نحو سجدة وسجدات. وسكن هنا للضرورة.(21/387)
زين الله لفرعون حين عتا عليه وتمرّد، قبيحَ عمله، حتى سوّلت له نفسه بلوغ أسباب السموات، ليطلع إلى إله موسى.
وقوله: (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة: (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) بضم الصاد، على وجه ما لم يُسَمّ فاعله.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) قال: فُعِل ذلك به، زين له سوء عمله، وصُدَّ عن السبيل.
وقرا ذلك حميد وأبو عمرو وعامة قرّاء البصرة"وَصَدَّ" بفتح الصاد، بمعنى: وأعرض فرعون عن سبيل الله التي ابتُعث بها موسى استكبارا.
والصواب من القول فى ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ) يقول تعالى ذكره: وما احتيال فرعون الذي يحتال للاطلاع إلى إله موسى، إلا في خسار وذهاب مال وغبن، لأنه ذهبت نفقته التي أنفقها على الصرح باطلا ولم ينل بما أنفق شيئا مما أراده، فذلك هو الخسار والتباب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ) يقول: في خُسران.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا،، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فِي تَبَابٍ) قال: خسار.(21/388)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ) : أي في ضلال وخسار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ) قال: التَّباب والضَّلال واحد.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن المؤمن بالله من آل فرعون (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ) من قوم فرعون لقومه: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) يقول: إن اتبعتموني فقبلتم مني ما أقول لكم، بينت لكم طريق الصواب الذي ترشدون إذا أخذتم فيه وسلكتموه وذلك هو دين الله الذي ابتعث به موسى. يقول: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ) يقول لقومه: ما هذه الحياة الدنيا العاجلة التي عجلت لكم في هذه الدار إلا متاع تستمتعون بها إلى أجل أنتم بالغوه، ثم تموتون وتزول عنكم (وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) يقول: وإن الدار الآخرة، وهي دار القرار التي تستقرّون فيها فلا تموتون ولا تزول عنكم، يقول: فلها فاعملوا، وإياها فاطلبوا.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) استقرت الجنة بأهلها، واستقرّت النار بأهلها.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى(21/389)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) }
يقول: من عمل بمعصية الله في هذه الحياة الدنيا، فلا يجزيه الله في الآخرة إلا سيئة مثلها، وذلك أن يعاقبه بها; (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) يقول: ومن عمل بطاعة الله فى الدنيا، وائتمر لأمره، وانتهى فيها عما نهاه عنه من رجل أو امرأة، وهو مؤمن بالله (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) يقول: فالذين يعملون ذلك من عباد الله يدخلون في الآخرة الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا) أي شركا،"السيئة عند قتادة شرك" (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا) ، أي خيرا (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) .
وقوله: (يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) يقول: يرزقهم الله في الجنة من ثمارها، وما فيها من نعيمها ولذاتها بغير حساب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) قال: لا والله ما هناكم مكيال ولا ميزان.(21/390)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن لقومه من الكفرة: (مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ) من عذاب الله وعقوبته بالإيمان به، واتباع رسوله موسى،(21/390)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
وتصديقه فيما جاءكم به من عند ربه (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) يقول: وتدعونني إلى عمل أهل النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ) قال: الإيمان بالله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) قال هذا مومن آل فرعون، قال: يدعونه إلى دينهم والإقامة معهم.
وقوله: (تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) يقول: وأشرك بالله في عبادته أوثانا، لست أعلم أنه يصلح لي عبادتها وإشراكها فى عبادة الله، لأن الله لم يأذن لي في ذلك بخبر ولا عقل.
وقوله: (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) يقول: وأنا أدعوكم إلى عبادة العزيز في انتقامه ممن كفر به، الذي لا يمنعه إذا انتقم من عدوّ له شيء، الغفار لمن تاب إليه بعد معصيته إياه، لعفوه عنه، فلا يضرّه شيء مع عفوه عنه، يقول: فهذا الذي هذه الصفة صفته فاعبدوا، لا ما لا ضرّ عنده ولا نفع.
القول في تأويل قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) }
يقول: حقا أن الذي تدعونني إليه من الأوثان، ليس له دعاء في الدنيا ولا في الآخرة، لأنه جماد لا ينطق، ولا يفهم شيئا.(21/391)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا) قال: الوثن ليس بشيء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ) : أي لا ينفع ولا يضرّ.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ) (1) .
وقوله: (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ) يقول: وأن مرجعنا ومنقلبنا بعد مماتنا إلى الله (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) يقول: وإن المشركين بالله المتعدّين حدوده، القتلة النفوس التي حرم الله قتلها، هم أصحاب نار جهنم عند مرجعنا إلى الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في معنى المسرفين في هذا الموضع، فقال بعضهم: هم سفاكو الدماء بغير حقها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) قال: هم السفَّاكون الدماء بغير حقها.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قول الله (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) قال: هم السفاكون الدماء
__________
(1) سقط التفسير من قلم الناسخ، والذي في ابن كثير عنه:" لا يجيب داعيه، لا في الدنيا ولا في الآخرة". اهـ.(21/392)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
بغير حقها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) قال: السفاكون الدماء بغير حقها، هم أصحاب النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) قال: سماهم الله مسرفين، فرعون ومن معه.
وقال آخرون: هم المشركون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) : أي المشركون. وقد بيَّنا معنى الإسراف فيما مضى قبل بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع.
وإنما اخترنا في تأويل ذلك في هذا الموضع ما اخترنا، لأن قائل هذا القول لفرعون وقومه، إنما قصد فرعون به لكفره، وما كان همّ به من قتل موسى، وكان فرعون عاليا عاتيا في كفر. سفاكا للدماء التي كان محرّما عليه سفكها، وكلّ ذلك من الإسراف، فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وقومه:(21/393)
فستذكرون أيها القوم إذا عاينتم عقاب الله قد حل بكم، ولقيتم ما لقيتموه صدق ما أقول، وحقيقة ما أخبركم به من أن المسرفين هم أصحاب النار.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ) ، فقلت له: أو ذلك في الأخرة؟ قال: نعم.
وقوله: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) يقول: وأسلم أمري إلى الله، وأجعله إليه وأتوكل عليه، فإنه الكافي من توكل عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) قال: أجعل أمري إلى الله.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) يقول: إن الله عالم بأمور عباده، ومن المطيع منهم، والعاصي له، والمستحق جميل الثواب، والمستوجب سيئ العقاب.
وقوله: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) يقول تعالى ذكره: فدفع الله عن هذا المؤمن من آل فرعون بإيمانه وتصديق رسوله موسى، مكروه ما كان فرعون ينال به أهل الخلاف عليه من العذاب والبلاء، فنجاه منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) قال: وكان قبطيا من قوم فرعون، فنجا مع موسى، قال: وذكر لنا أنه بين يدي موسى يومئذ يسير ويقول: أين أمرت يا نبيّ الله؟ فيقول:(21/394)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
أمامك، فيقول له المؤمن: وهل أمامي إلا البحر؟ فيقول موسى: لا والله ما كَذبتُ ولا كُذبتُ، ثم يسير ساعة ويقول: أين أمرت يا نبيّ الله؟ فيقول: أمامك، فيقول: وهل أمامي إلا البحر، فيقول: لا والله ما كذبت، ولا كذبت، حتى أتى على البحر فضربه بعصاه، فانفلق اثني عشر طريقا، لكل سبط طريق.
وقوله: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) يقول: وحل بآل فرعون ووجب عليهم; وعني بآل فرعون في هذا الموضع تباعه وأهل طاعته من قومه.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قول الله: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) قال: قوم فرعون.
وعني بقوله: (سُوءَ الْعَذَابِ) : مأ ساءهم من عذاب الله، وذلك نار جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) }
يقول تعالى ذكره مبيِّنا عن سوء العذاب الذي حلّ بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون ذلك الذي حاق بهم من سوء عذاب الله (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا) إنهم لما هلكوا وغرقهم الله، جعلت أرواحهم في أجواف طير سود، فهي تعرض على النار كلّ يوم مرتين (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) إلى أن تقوم الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي قيس، عن الهذيل بن شرحبيل، قال: أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار، وذلك عرضها.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: بلغني أن أرواح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدوّا وعشيًّا،(21/395)
حتى تقوم الساعة.
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي، قال: سمعت الأوزاعيّ وسأله رجل فقال: رحمك الله، رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا، فوجا فوحا، لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشيّ رجع مثلُها سُودا، قال: وفطنتم إلى ذلك؟ قالوا: نعم، قال: إن تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يُعرضون على النار غدوّا وعشيًّا، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها، وصارت سوداء، فتنبت عليها من الليل رياض بيض، وتتناثر السود، ثم تغدو، ويُعرضون على النار غدوّا وعشيا، ثم ترجع إلى وكورها، فذلك دَأبُها في الدنيا; فإذا كان يوم القيامة، قال الله (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) قالوا: وكانوا يقولون: إنهم ستّ مئة ألف مقاتل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني حرملة، عن سليمان بن حميد، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: ليس في الآخرة ليل ولا نصف نهار، وإنما هو بُكرة وعشيّ، وذلك في القرآن في آل فرعون (يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) وكذلك قال لأهل الجنة (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) .
وقيل: عنى بذلك: أنهم يعرضون على منازلهم في النار تعذيبا لهم غدوّا وعشيّا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) قال: يعرضون عليها صباحا ومساء، يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم، توبيخا ونقمة وصغارا لهم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح،(21/396)
عن مجاهد، قوله: (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) قال: ما كانت الدنيا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أن آل فرعون يعرضون على النار غدوّا وعشيّا. وجائز أن يكون ذلك العرض على النار على نحو ما ذكرناه عن الهذيل ومن قال مثل قوله، وأن يكون كما قال قتادة، ولا خبر يوجب الحجة بأن ذلك المعني به، فلا في ذلك إلا ما دل عليه ظاهر القرآن، وهم أنهم يعرضون على النار غدوا وعشيا، وأصل الغدو والعشي مصادر جعلت أوقاتا.
وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك: إنما هو مصدر، كما تقول: أتيته ظلاما; جعله ظرفا وهو مصدر. قال: ولو قلت: موعدك غدوة، أو موعدك ظلام، فرفعته، كما تقول: موعدك يوم الجمعة، لم يحسن، لأن هذه المصادر وما أشبهها من نحو سحر لا تجعل إلا ظرفا; قال: والظرف كله ليس بمتمكن; وقال نحويو الكوفة: لم يسمع في هذه الأوقات، وإن كانت مصادر، إلا التعريب: موعدك يوم موعدك صباح ورواح، كما قال جلّ ثناؤه: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) فرفع، وذكروا أنهم سمعوا: إنما الطيلسان شهران (1) قالوا: ولم يسمع في الأوقات النكرات إلا الرفع إلا قولهم: إنما سخاؤك أحيانا، وقالوا: إنما جاز ذلك لأنه بمعنى: إنما سخاؤك الحين بعد الحين، فلما كان تأويله الإضافة نصب.
وقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء أهل الحجاز والعراق سوى عاصم وأبي عمرو (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) بفتح الألف من أدخلوا في الوصل والقطع بمعنى: الأمر بإدخالهم النار. وإذا قُرئ ذلك كذلك، كان الآل نصبا بوقوع أدخلوا عليه، وقرأ ذلك عاصم وأبو عمرو:"وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أُدْخِلُوا" بوصل الألف وسقوطها في الوصل من اللفظ، وبضمها إذا ابتدئ بعد الوقف على
__________
(1) الطيلسان: شيء كان يضعه العلماء والكبراء حول أعناقهم وعلى أكتافهم اتقاء البرد. يريد أن مدة لبس الطيلسان شهران.(21/397)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
الساعة، ومن قرأ ذلك كذلك، كان الآل على قراءته نصبا بالنداء، لأن معنى الكلام على قراءته: ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فمعنى الكلام إذن: ويوم تقوم الساعة يقال لآل فرعون: ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب، فهذا على قراءة من وصل الألف من ادخلوا ولم يقطع، ومعناه على القراءة الأخرى، ويوم تقوم الساعة يقول الله لملائكته (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) ، (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ) يقول: وإذ يتخاصمون في النار. وعنى بذلك: إذ يتخاصم الذين أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإنذارهم من مشركي قومه في النار، فيقول الضعفاء منهم وهم المتبعون على الشرك بالله (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا) تقول لرؤسائهم الذين اتبعوهم على الضلالة: إنا كنا لكم في الدنيا تبعا على الكفر بالله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) اليوم (عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ) يعنون حظا فتخففوه عنا، فقد كنا نسارع في محبتكم في الدنيا، ومن قبلكم أتينا، لولا أنتم لكنا في الدنيا مؤمنين، فلم يصبنا اليوم هذا البلاء; والتبع يكون واحدا وجماعة في قول بعض نحويي البصرة، وفي قول بعض نحويي الكوفة جمع لا واحد له، لأنه كالمصدر. قال: وإن شئت كان واحده تابع، فيكون مثل خائل وخول، وغائب وغيب.(21/398)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)
والصواب من القول في ذلك عندي أنه جمع واحده. تابع، وقد يجوز أن يكون واحدا فيكون جمعه أتباع. فأجابهم المتبوعون بما أخبر الله عنهم; قال الذين استكبروا، وهم الرؤساء المتبوعون على الضلالة في الدنيا: إنا أيها القوم وأنتم كلنا في هذه النار مخلدون، لا خلاص لنا منها (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) بفصل قضائه، فأسكن أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فلا نحن مما نحن فيه من البلاء خارجون، ولا هم مما فيه من النعيم منتقلون، ورفع قوله (كُلّ) بقوله (فِيهَا) ولم ينصب على النعت.
وقد اختلف في جواز النصب في ذلك في الكلام. وكان بعض نحويي البصرة يقول: إذا لم يضف"كلّ" لم يجز الاتباع. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: ذلك جائز في الحذف وغير الحذف، لأن أسماءها إذا حُذفت اكتفي بها منها. وقد بيَّنا الصواب من القول في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) }(21/399)
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (50) }
يقول تعالى ذكره: وقال أهل جهنم لخزنتها وقوّامها، استغاثة بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء، ورجاء أن يجدوا من عندهم فرجا (ادْعُوا رَبَّكُمْ) لنا (يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا) واحدا، يعني قدر يوم واحد من أيام الدنيا (مِنَ الْعَذَابِ) الذي نحن فيه. وإنما قلنا: معنى ذلك: قدر يوم من أيام الدنيا، لأن الآخرة يوم لا ليل فيه، فيقال: خفف عنهم يوما واحدا.
وقوله: (قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) يقول تعالى ذكره: قالت خزنة جهنم لهم: أو لم تك تأتيكم في الدنيا رسلكم بالبيّنات من الحجج(21/399)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
على توحيد الله، فتوحدوه وتؤمنوا به، وتتبرّءوا مما دونه من الآلهة؟ قالوا: بلى، قد أتتنا رسلنا بذلك.
وقوله: (قَالُوا فَادْعُوا) يقول جلّ ثناؤه: قالت الخزنة لهم: فادعوا إذن ربكم الذي أتتكم الرسل بالدعاء إلى الإيمان به.
وقوله: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) يقول: قد دعوا وما دعاؤهم إلا في ضلال، لأنه دعاء لا ينفعهم، ولا يستجاب لهم، بل يقال لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) }
يقول القائل: وما معنى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه، ومثَّلوا به، كشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما. ومنهم من همّ بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله، والمؤمنين به في الحياة الدنيا، وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به؟ قيل: إن لقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وجهين كلاهما صحيح معناه. أحدهما أن يكون معناه: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما بإعلائناهم على من كذّبنا وإظفارنا بهم، حتى يقهروهم غلبة، ويذلوهم بالظفر ذلة، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان، فأعطاهما من المُلْك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكالذي فعل بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإظهاره على من كذّبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذّبهم وعاداهم، كالذي فعل(21/400)
تعالى ذكره بنوح وقومه، من تغريق قومه وإنجائه منهم، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكهم غرقا، ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذّبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتله من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم، فهذا أحد وجهيه. وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن الفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ قول الله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) قد كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون، وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قوما فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوا منهم. والوجه الآخر: أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين، والمراد واحد، فيكون تأويل الكلام حينئذ: إنا لننصر رسولنا محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والذين آمنوا به في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، كما بيَّنا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع، والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصا بعينه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة (وَيَوْمَ يَقُومُ) بالياء. وينفع أيضا بالياء، وقرأ ذلك بعض أهل مكة وبعض قرّاء البصرة:"تَقُومُ" بالتاء، و"تَنْفَعُ" بالتاء.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.(21/401)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
وقد بيَّنا فيما مضى أن العرب تذكر فعل الرجل وتؤنث إذا تقدّم بما أغنى عن إعادته.
وعني بقوله: (وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة رسلها بالشهادة بأن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم، وأن الأمم كذّبتهم. والأشهاد: جمع شهيد، كما الأشراف: جمع شريف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاد. (وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) من ملائكة الله وأنبيائه، والمؤمنين به.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) يوم القيامة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، في قول الله: (وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) قال الملائكة.
وقوله: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) يقول تعالى ذكره: ذلك يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم لأنهم لا يعتذرون إن اعتذروا إلا بباطل، وذلك أن الله قد أعذر إليهم في الدنيا، وتابع عليهم الحجج فيها فلا حجة لهم في الآخرة إلا الاعتصام بالكذب بأن يقولوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) .
وقوله: (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) يقول: وللظالمين اللعنة، وهي البعد من رحمة الله (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) يقول: ولهم مع اللعنة من الله شرّ ما في الدار الآخرة، وهو العذاب الأليم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ (54)(21/402)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ (55) }
يقول تعالى ذكره (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى) البيان للحقّ الذي بعثناه به كما آتينا ذلك محمدا فكذّب به فرعون وقومه، كما كذّبت قريش محمدا (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ) يقول: وأورثنا بني إسرائيل التوراة، فعلَّمناهموها، وأنزلنا اليهم (هُدًى) يعني بيانا لأمر دينهم، وما ألزمناهم من فرائضها، (وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ) يقول: وتذكيرا منا لأهل الحجا والعقول منهم بها.
وقوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فاصبر يا محمد لأمر ربك، وانفذ لما أرسلك به من الرسالة، وبلِّغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنزل إليك، وأيقن بحقيقة وعد الله الذي وعدك من نصرتك، ونصرة من صدّقك وآمن بك، على من كذّبك، وأنكر ما جئته به من عند ربك، وإن وعد الله حقّ لا خلف له وهو منجز له (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) يقول: وسله غفران ذنوبك وعفوه لك عنه (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) يقول: وصلّ بالشكر منك لربك (بِالْعَشِيِّ) وذلك من زوال الشمس إلى الليل (وَالإبْكَارِ) وذلك من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس. وقد وجه قوم الإبكار إلى أنه من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى، وخروج وقت الضحى، والمعروف عند العرب القول الأوّل.
واختلف أهل العربية في وجه عطف الإبكار والباء غير حسن دخولها فيه على العشيّ، والباء تحسن فيه، فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: وسبح بحمد ربك بالعشي وفي الإبكار. وقال: قد يقال: بالدار زيد، يراد: فى الدار زيد، وقال غيره: إنما قيل ذلك كذلك، لأن معنى الكلام: صل بالحمد بهذين الوقتين وفي هذين الوقتين، فإدخال الباء في واحد فيهما.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي(21/403)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين يخاصمونك يا محمد فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات (بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) يقول: بغير حجة جاءتهم من عند الله بمخاصمتك فيها (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ) يقول: ما في صدورهم إلا كبر يتكبرون من أجله عن اتباعك، وقبول الحق الذي أتيتهم به حسدا منهم على الفضل الذي آتاك الله، والكرامة التي أكرمك بها من النبوّة (مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) يقول: الذي حسدوك عليه أمر ليسوا بُمدركيه ولا نائليه، لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس بالأمر الذي يدرك بالأمانيّ; وقد قيل: إن معناه: إن في صدورهم إلا عظمة ما هم ببالغي تلك العظمة لأن الله مذلُّهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال. ثني أبو عاصم، قال. ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ) قال: عظمة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاد.، قوله. (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) لم يأتهم بذاك سلطان.
وقوله: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يقول تعالى ذكره: فاستجر بالله يا محمد من شرّ هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان، ومن الكبر أن يعرض فى قلبك منه شيء (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يقول: إن الله هو السميع لما يقول هؤلاء المجادلون في آيات الله وغيرهم من قول البصير بما تمله(21/404)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
جوارحهم، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) }
يقول تعالى ذكره: لابتداع السموات والأرض وإنشاؤها من غير شيء أعظم أيها الناس عندكم إن كنتم مستعظمي خلق الناس، وإنشائهم من غير شيء من خلق الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن خلق جميع ذلك هين على الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) }
وما يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا، وهو مثل الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه، فيتدبرها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته وقُدرته على خلق ما شاء من شيء، ويؤمن به ويصدّق. والبصير الذي يرى بعينيه ما شخص لهما ويبصره، وذلك مئل للمؤمن الذي يرى بعينيه حجج الله، فيتفكَّر فيها ويتعظ، ويعلم ما دلت عليه من توحيد صانعه، وعظيم سلطانه وقُدرته على خلق ما يشاء; يقول جلّ ثناؤه: كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول جلّ ثناؤه: ولا يستوي أيضا كذلك المؤمنون بالله ورسوله، المطيعون لربهم، ولا المسيء، وهو الكافر بربه، العاصي له، المخالف أمره (قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ) يقول جل ثناؤه: قليلا ما تتذكرون أيها الناس حجج الله، فتعتبرون وتتعظون; يقول: لو تذكرتم آياته واعتبرتم، لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على إحيائه من فني من خلقه من بعد الفناء، وإعادتهم لحياتهم من بعد وفاتهم، وعلمتم قبح شرككم من تشركون في عبادة ربكم.(21/405)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (تَتَذَكَّرُونَ) فقرأت ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة:"يَتَذَكَّرُونَ" بالياء على وجه الخبر، وقرأته عامة قرّاء الكوفة: (تَتَذَكَّرُونَ) بالتاء على وجه الخطاب، والقول في ذلك أن القراءة بهما صواب.(21/406)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) }
يقول تعالى ذكره: إن الساعة التي يحيي الله فيها الموتى للثواب والعقاب لجائية أيها الناس لا شكّ في مجيئها; يقول: فأيقنوا بمجيئها، وأنكم مبعوثون من بعد مماتكم، ومجازون بأعمالكم، فتوبوا إلى ربكم (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) يقول: ولكن أكثر قريش لا يصدّقون بمجيئها.
وقوله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) يقول تعالى ذكره: ويقول ربكم أيها الناس لكم ادعوني: يقول: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني من الأوثان والأصنام وغير ذلك (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) يقول: أُجِبْ دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) يقول: وحَّدوني أغفر لكم.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا عبد الله بن داود، عن الأعمش، عن زرّ، عن يسيع الحضرمي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ" وقرأ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:(21/406)
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) .
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، والأعمش عن زرّ، عن يسيع الحضرمي، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول:"الدُّعاءُ هُوَ العبادَةُ، (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ... الآية.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن زرّ، عن يسيع قال أبو موسى: هكذا قال غندر، عن سعيد، عن منصور، عن زرّ، عن يسيع، عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"إنَّ الدُّعاءَ هُوَ العِبَادَةُ" (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن زر، عن يسيع عن النعمان بن بشير، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بمثله.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا يوسف بن العرف الباهلي، عن الحسن بن أبي جعفر، عن محمد بن جحادة، عن يسيع الحضرمي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"إنَّ عِبَادَتي دُعائي" ثُم تلا هذه الآية:(21/407)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) قال:"عَنْ دُعائي".
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا عمارة، عن ثابت، قال: قالت لأنس: يا أبا حمزة أبلغك أن الدعاء نصف العبادة؟ قال: لا بل هو العبادة كلها.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: أخبرنا منصور، عن زر، عن يسيع الحضرمي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ، ثم قرأ هذه الآية (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هاشم بن القاسم، عن الأشجعي، قال: قيل لسفيان: ادع الله، قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) يقول: إن الذين يتعظمون عن إفرادي بالعبادة، وإفراد الألوهة لي (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) بمعنى: صاغرين. وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الدخر بما أغني عن إعادته في هذا الموضع.
وقد قيل: إن معنى قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) : إن الذين يستكبرون عن دعائي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) قال: عن دعائي.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (دَاخِرِينَ) قال: صاغرين.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) }
يقول تعالى ذكره: الله الذي لا تصلح الألوهة إلا له، ولا تنبغي العبادة لغيره، الذي صفته أنه جعل لكم أيها الناس الليل سكنا لتسكنوا فيه، فتهدءوا من التصرّف والاضطراب للمعاش، والأسباب التي كنتم تتصرفون فيها في نهاركم (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) يقول: وجعل النهار مبصرا من اضطرب فيه لمعاشه، وطلب حاجاته، نعمة منه بذلك عليكم (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) يقول: إن إلله(21/408)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
لمتفضل عليكم أيها الناس بما لا كفء له من الفضل (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) يقول: ولكن أكثرهم لا يشكرونه بالطاعة له، وإخلاص الألوهة والعبادة له، ولا يد تقدمت له عنده استوجب بها منه الشكر عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره: الذي فعل هذه الأفعال، وأنعم عليكم هذه النعم أيها الناس، الله مالككم ومصلح أموركم، وهو خالقكم وخالق كلّ شيء (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) يقول: لا معبود تصلح له العبادة غيره، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) يقول: فأي وجه تأخذون، وإلى أين تذهبون عنه، فتعبدون سواه؟.
وقوله: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) يقول: كذهابكم عنه أيها القوم، وانصرافكم عن الحقّ إلى الباطل، والرشد إلى الضلال، ذهب عنه الذين كانوا من قبلكم من الأمم بآيات الله، يعني: بحجج الله وأدلته يكذّبون فلا يؤمنون; يقول: فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم، وركبتم محجتهم في الضلال.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) }
يقول تعالى ذكره: (اللهُ) الذي له الألوهة خالصة أيها الناس (الَّذِي(21/409)
جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ) التي أنتم على ظهرها سكان (قَرَارًا) تستقرون عليها، وتسكنون فوقها، (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) : بناها فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم، وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) يقول: وخلقكم فأحسن خلقكم (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) يقول: ورزقكم من حلال الرزق، ولذيذات المطاعم والمشارب. وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) يقول تعالى ذكره: فالذي فعل هذه الأفعال، وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم، هو الله الذي لا تنبغي الألوهة إلا له، وربكم الذي لا تصلح الربوبية لغيره، لا الذي لا ينفع ولا يضر، ولا يخلق ولا يرزق (فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) يقول: فتبارك الله مالك جميع الخلق جنهم وإنسهم، وسائر أجناس الخلق غيرهم (هُوَ الْحَيُّ) يقول: هو الحي الذي لا يموت، الدائم الحياة، وكل شيء سواه فمنقطع الحياة غير دائمها (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) يقول: لا معبود بحق تجوز عبادته، وتصلح الألوهة له إلا الله الذي هذه الصفات صفاته، فادعوه أيها الناس مخلصين له الدين، مخلصين له الطاعة، مفردين له الألوهة، لا تشركوا في عبادته شيئا سواه، من وثن وصنم، ولا تجعلوا له ندا ولا عدلا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يقول: الشعر لله الذي هو مالك جميع أجناس الخلق، من ملك وجن وإنس وغيرهم، لا للآلهة والأوثان التي لا تملك شيئا، ولا تقدر على ضرّ ولا نفع، بل هو مملوك، إن ناله نائل بسوء لم يقدر له عن نفسه دفعًا.
وكان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال: لا إله إلا الله، أن يتبع ذلك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) تأولا منهم هذه الآية، بأنها أمر من الله بقيل ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي، قال: أخبرنا الحسين بن واقد، قال: ثنا الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: من قال لا إله إلا الله، فليقل على إثرها: الحمد لله ربّ العالمين، فذلك قوله: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .(21/410)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري (1) قال: ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير، قال:"إذا قال أحدكم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فليقل: الحمد لله ربّ العالمين، ثم قال: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
حدثني محمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير أنه كان يستحب إذا قال: لا إله إلا الله، يتبعها الحمد لله، ثم قرأ هذه الآية: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن سعيد بن جبير، قال: إذا قال أحدكم لا إله إلا الله وحده، فليقل بأثرها: الحمد لله رب العالمين، ثم قرا (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك من قريش (إِنِّي نُهِيتُ) أيها القوم (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) من الآلهة والأوثان (لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي) يقول: لما جاءني الآيات الواضحات من عند ربي، وذلك آيات كتاب الله الذي أنزله (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ
__________
(1) كذا في التقريب والتهذيب. وفي الخلاصة: عبد الحميد بن بيان اليشكري، أبو الحسن العطار الواسطي توفى سنة 244 هـ.(21/411)
الْعَالَمِينَ) يقول: وأمرني ربي أن أذلّ لربّ كلّ شيء، ومالك كلّ خلق بالخضوع، وأخضع له بالطاعة دون غيره من الأشياء.(21/412)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره آمرًا نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بتنبيه مشركي قومه على حججه عليهم في وحدانيته: قل يا محمد لقومك: أمرت أن أسلم لرب العالمين الذي صفته هذه الصفات. وهي أنه خلق أباكم آدم (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ) خلقكم (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) بعد أن كنتم نطفا (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا) من بطون أمهاتكم صغارا، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، فتتكامل قواكم، ويتناهى شبابكم، وتمام خلقكم شيوخا (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أن يبلغ الشيخوخة (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى) يقول: ولتبلغوا ميقاتا مؤقتا لحياتكم، وأجلا محدودا لا تجاوزونه، ولا تتقدمون قبله (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يقول: وكي تعقلوا حجج الله عليكما بذلك، وتتدبروا آياته فتعرفوا بها أنه لا إله غيره فعل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهم يا محمد: (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) يقول قل لهم: ومن صفته جلّ ثناؤه أنه هو الذي يحيي من يشاء بعد مماته، ويميت من يشاء من الأحياء بعد حياته و (إِذَا قَضَى أَمْرًا)(21/412)
يقول: وإذا قضى كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ) يعني للذي يريد تكوينه كن، فيكون ما أراد تكوينه موجودا بغير معاناة، ولا كلفة مؤنة.
وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) يقول لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ألم تر يا محمد هؤلاء المشركين من قومك، الذين يخاصمونك في حجج الله وآياته (أَنَّى يُصْرَفُونَ) يقول: أيّ وجه يصرفون عن الحق، ويعدلون عن الرشد.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَنَّى يُصْرَفُونَ) : أنى يكذبون ويعدلون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَنَّى يُصْرَفُونَ) قال: يُصْرَفون عن الحقّ.
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عنى بها أهل القدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن داود بن أبي هند. عن محمد بن سيرين، قال: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية، فإني لا أدري فيمن نزلت: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) إلى قوله: (لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ) .
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن ابن سيرين، قال: إن لم يكن أهل القدر الذين يخوضون في آيات الله فلا علم لنا به.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أبي الخير(21/413)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
الزيادي، عن أبي قبيل، قال: أخبرني عقبة بن عامر الجهني، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:"سَيَهْلِكُ مِنْ أُمَّتِي أهْلُ الكِتَابِ، وأهْلُ اللِّينِ" فقال عقبة: يا رسول الله، وما أهل الكتاب؟ قال:"قَوْمٌ يَتَعَلَّمُونَ كِتابَ الله يُجادلُونَ الَّذينَ آمَنُوا"، فقال عقبة: يا رسول الله، وما أهل اللين؟ قال:"قَوْمٌ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، ويُضَيِّعُونَ الصَّلَوَاتِ". قال أبو قبيل: لا أحسب المكذّبين بالقدر إلا الذين يجادلون الذين آمنوا، وأما أهل اللين، فلا أحسبهم إلا أهل العمود (1) ليس عليهم إمام جماعة، ولا يعرفون شهر رمضان.
وقال آخرون: بل عنى به أهل الشرك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) قال: هؤلاء المشركون.
والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن زيد; وقد بين الله حقيقة ذلك بقوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) }
__________
(1) كذا في الأصل، ولم أجد معنى للعمود في النهاية لابن الأثير، ولعله محرف عن (العمور) بضم العين، جمع عمر، بفتح فسكون وبضمتين، وهو من النخيل، وهو الحسوق الطويل. يريد أصحاب هذه النخل الملازمين لها، يجادلون في الدين، بلا علم ولا فقه.(21/414)
يقول تعالى ذكره: ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذّبوا بكتاب الله، وهو هذا القرآن; و"الذين" الثانية في موضع خفض ردّا لها على"الذين" الأولى على وجه النعت (وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا) يقول: وكذّبوا أيضا مع تكذيبهم بكتاب الله بما أرسلنا به رسلنا من إخلاص العبادة لله، والبراءة مما يعبد دونه من الآلهة والأنداد، والإقرار بالبعث بعد الممات للثواب والعقاب. وقوله: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) ، وهذا تهديد من الله المشركين به; يقول جلّ ثناؤه: فسوف يعلم هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله، المكذبون بالكتاب حقيقة ما تخبرهم به يا محمد، وصحة ما هم به اليوم مكذّبون من هذا الكتاب، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم. وقرأت قراءة الأمصار: والسلاسل، برفعها عطفا بها على الأغلال على المعنى الذي بينَّت. وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرؤه"والسَّلاسِلَ يُسْحَبونَ" بنصب السلاسل في الحميم. وقد حكي أيضا عنه أنه كان يقول: إنما هو وهم في السلاسل يسحبون، ولا يجيز أهل ألعلم بالعربية خفض الاسم والخافض مضمر. وكان بعضهم يقول في ذلك: لو أن متوهما قال: إنما المعنى: إذ أعناقهم في الأغلال والسلال يسبحون. حاز الخفض في السلاسل على هذا المذهب، وقال: مثله، مما رد إلى المعنى. قول الشاعر:
قَدْ سَالَم الحَيَّاتُ مِنْهُ القَدمَا ... الأفْعُوَانَ والشُّجاعَ الأرْقَما (1)
فنصب الشُّجاع والحيات قبل ذلك مرفوعة، لأن المعنى: قد سالمت رجله الحيات وسالمتها، فلما احتاج إلى نصب القافية، جعل الفعل من القدم واقعا على
__________
(1) البيتان من مشطور الرجز (اللسان: شجع) . قال الشجاع: الحية، وفي الحديث:" يجيء كنز أحدهم يوم القيامة شجاها أقرع". وأنشد الأحمر:" قد سالم الحيات.... البيتين". نصب الشجاع والأفعوان بمعنى الكلام، لأن الحيات إذا سالمت القدم، فقد سالمها القدم، فكأنه قال: سالم القدم الحيات؛ ثم جعل الأفعوان بدلا منها. اهـ. وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة" 289") نصب الشجاع والحيات قبل ذلك مرفوعة، لأن المعنى قد سالمت رجله الحيات وسالمتها. فلما احتاج إلى نصب القافية، جعل الفعل من القدم واقعا على الحيات. اهـ.(21/415)
الحيات.
والصواب من القراءة عندنا فى ذلك ما عليه قراء الأمصار، لإجماع الحجة عليه، وهو رفع السلاسل عطفا بها على ما في قوله: (فِي أَعْنَاقِهِمْ) من ذكر الأغلال.
وقوله: (يُسَبِّحُونَ) يقول: يسحب هؤلاء الذين كذّبوا في الدنيا بالكتاب زبانية العذاب يوم القيامة في الحميم، وهو ما قد انتهى حَرُّه، وبلغ غايته.
وقوله (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) يقول: ثم في نار جهنم يحرقون، يقول: تسجر بها جهنم: أي توقد بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (يُسْجَرُونَ) قال: يوقد بهم النار.
حدثنا محمد. قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) قال: يحرقون في النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال. قال ابن زيد، في قوله: (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) قال: يسجرون في النار: يوقد عليهم فيها.
وقوله: (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) يقول: ثم قيل: أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياها من دون الله من آلهتكم وأوثانكم حتى يغيثوكم فينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب، فإن المعبود يغيث من عبد وخدمه; وإنما يقال هذا لهم توبيخا وتقريعا على ما كان منهم في الدنيا من الكفر بالله وطاعة الشيطان، فأجاب المساكين عند ذلك فقالوا: ضلوا عنا: يقول: عدلوا عنا، فأخذوا غير طريقنا، وتركونا في هذا البلاء، بل ما ضلوا عنا، ولكنا لم نكن(21/416)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
ندعو من قبل في الدنيا شيئا: أي لم نكن نعبد شيئا; يقول الله تعالى ذكره: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ) يقول: كما أضل هؤلاء الذين ضل عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله من الآلهة والأوثان آلهتهم وأوثانهم، كذلك يضل الله أهل الكفر به عنه، وعن رحمته وعبادته، فلا يرحمهم فينجيهم من النار، ولا يغيثهم فيخفف عنهم ما هم فيه من البلاء.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) هذا الذي فعلنا اليوم بكم أيها القوم من تعذيبنا كم العذاب الذي أنتم فيه، بفرحكم الذي كنتم تفرحونه في الدنيا، بغير ما أذن لكم به من الباطل والمعاصي، وبمر حكم فيها، والمرح: هو الأشر والبطر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) إلى (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) قال: الفرح والمرح: الفخر والخُيَلاء، والعمل في الأرض بالخطيئة، وكان ذلك في الشرك، وهو مثل قوله لقارون: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) وذلك في الشرك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ(21/417)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
تَمْرَحُونَ) قال: تبطرون وتأشَرُون.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (تَمْرَحُونَ) قال: تبطرون.
وقوله: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) يقول تعالى ذكره لهم: ادخلوا أبواب جهنم السبعة من كل باب منها جزء مقسوم منكم (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) يقول: فبئس منزل المتكبرين في الدنيا على الله أن يوحدوه، ويؤمنوا برسله اليوم جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فاصبر يا محمد على ما يجادلك به هؤلاء المشركون في آيات الله التي أنزلناها عليك، وعلى تكذيبهم إياك، فإن الله منجِز لك فيهم ما وعدك من الظفر عليهم، والعلو عليهم، وإحلال العقاب بهم، كسنتنا في موسى بن عمران ومن كذّبه (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) يقول جلّ ثناؤه: فإما نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من العذاب والنقمة أن يحل بهم (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن يَحِلَّ ذلك بهم (فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) يقول: فإلينا مصيرك ومصيرهم، فنحكم عند ذلك بينك وبينهم بالحقّ بتخليدناهم في النار، وإكرامناك بجوارنا في جنات النعيم.(21/418)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) }(21/418)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا) يا محمد (رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ) إلى أممها (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ) يقول: من أولئك الذين أرسلنا إلى أممهم من قصصنا عليك نبأهم (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) نبأهم.
وذُكر عن أنس أنهم ثمانية آلاف.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا عليّ بن شعيب السمسار، قال: ثنا معن بن عيسى، قال: ثنا إبراهيم بن المهاجر بن مسمار، عن محمد بن المنكدر، عن يزيد بن أبان، عن أنس بن مالك، قال: بعث النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعد ثمانية آلاف من الأنبياء، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل.
حدثنا أبو كُرَيب قال: ثنا يونس، عن عتبة بن عتيبة البصريّ العبدي، عن أبي سهل عن وهب بن عبد الله بن كعب بن سور الأزديّ، عن سلمان، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:"بعث الله أربعة آلاف نبيّ".
حدثني أحمد بن الحسين الترمذي، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن ابن عبد الله بن يحيى، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، في قوله: (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) قال: بعث الله عبدا حبشيا نبيا، فهو الذي لم نقصص عليك.
وقوله: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه) يقول تعالى ذكره: وما جعلنا لرسول ممن أرسلناه من قبلك الذين قصصناهم عليك، والذين لم نقصصهم عليك إلى أممها أن يأتي قومه بآية فاصلة بينه وبينهم، إلا بإذن الله له بذلك، فيأتيهم بها; يقول جلّ ثناؤه لنبيه: فلذلك لم يجعل لك أن تأتي قومك بما يسألونك من الآيات دون إذننا لك بذلك، كما لم نجعل لمن قبلك من رسلنا إلا أن نأذن له به (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) يعني بالعدل، وهو أن ينجي رسله والذين آمنوا معهم (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ) يقول: وهلك(21/419)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
هنالك الذين أبطلوا في قيلهم الكذب، وافترائهم على الله وادعائهم له شريكا.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) }
يقول تعالى ذكره: (اللهُ) الذي لا تصلح الألوهة إلا له أيها المشركون به من قريش (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ) من الإبل والبقر والغنم والخيل، وغير ذلك من البهائم التي يقتنيها أهل الإسلام لمركب أو لمطعم (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا) يعني: الخيل والحمير (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) يعني الإبل والبقر والغنم. وقال: (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا) ومعناه: لتركبوا منها بعضا ومنها بعضا تأكلون، فحذف استغناء بدلالة الكلام على ما حذف.
وقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ) وذلك أن جعل لكم من جلودها بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم، ويوم إقامتكم، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين.
وقوله: (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) يقول: ولتبلغوا بالحمولة على بعضها، وذلك الإبل حاجة في صدروكم لم تكونوا بالغيها لولا هي، إلا بشق أنفسكم، كما قال جلّ ثناؤه: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلِتَبْلُغُوا(21/420)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) يعني الإبل تحمل أثقالكم إلى بلد.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) لحاجتكم ما كانت. وقوله: (وَعَلَيْهَا) يعني: وعلى هذه الإبل، وما جانسها من الأنعام المركوبة (وَعَلَى الْفُلْكِ) يعني: وعلى السفن (تُحْمَلُونَ) يقول نحملكم على هذه في البر، وعلى هذه في البحر (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) يقول: ويريكم حججه، (فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) يقول: فأي حجج الله التي يريكم أيها الناس في السماء والأرض تنكرون صحتها، فتكذبون من أجل فسادها بتوحيد الله، وتدعون من دونه إلها.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) }
يقول تعالى ذكره: أفلم يسر يا محمد هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركي قومك في البلاد، فإنهم أهل سفر إلى الشأم واليمن، رحلتهم في الشتاء والصيف، فينظروا فيما وطئوا من البلاد إلى وقائعنا بمن أوقعنا به من الأمم قبلهم، ويروا ما أحللنا بهم من بأسنا بتكذيبهم رسلنا، وجحودهم آياتنا، كيف كان عقبى تكذيبهم (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) يقول: كان أولئك الذين من قبل هؤلاء المكذبيك من قريش أكثر عددا من هؤلاء وأشد بطشا، وأقوى قوة، وأبقى في الأرض آثارا، لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا ويتخذون مصانع.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَآثَارًا فِي الأرْضِ) المشي بأرجلهم.(21/421)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
(فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يقول: فلما جاءهم بأسنا وسطوتنا،. لم يغن عنهم ما كانوا يعملون من البيوت في الجبال، ولم يدفع عنهم ذلك شيئا. ولكنهم بادوا جميعا فهلكوا. وقد قيل: إن معنى قوله: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ) فأيّ شيء أغني عنهم; وعلى هذا التأويل يجب أن يكون"ما" الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع. يقول: فلهؤلاء المجادليك من قومك يا محمد في أولئك معتبر إن اعتبروا، ومتعظ إن اتعظوا، وإن بأسنا إذا حلّ بالقوم المجرمين لم يدفعه دافع، ولم يمنعه مانع، وهو بهم إن لم ينيبوا إلى تصديقك واقع.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) }
يقول تعالى ذكره: فلما جاءت هؤلاء الأمم الذين من قبل قريش المكذّبة رسلها رُسُلُهُمْ الذين أرسلهم الله إليهم بالبيّنات، يعني: بالواضحات من حجج عزّ وجلّ (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) يقول: فرحوا جهلا منهم بما عندهم من العلم وقالوا: لن نُبْعَثَ، ولن يُعذّبنا الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) قال: قولهم: نحن أعلم منهم، لن نُعَذَّبَ، ولن نُبْعَثَ.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) بجهالتهم.(21/422)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
وقوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) يقول: وحاق بهم من عذاب الله ما كانوا يستعجلون رسلهم به استهزاء وسخرية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ما جاءتهم به رسلهم من الحقّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) }
يقول تعالى ذكره: فلما رأت هذه الأمم المكذّبة رسلها بأسنا، يعني عقاب الله الذي وعدتهم به رسلُهم قد حلّ بهم.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) قال: النقمات التي نزلت بهم.
وقوله (قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) يقول: قالوا: أقررنا بتوحيد الله، وصدقنا أنه لا آله غيره (وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) يقول: وجحدنا الآلهة التي كنا قبل وقتنا هذا نشركها في عبادتنا الله ونعبدها معه، ونتخذها آلهة، فبرئنا منها.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) }(21/423)
يقول تعالى ذكره: فلم يك ينفعهم تصديقهم في الدنيا بتوحيد الله عند معاينة عقابه قد نزل، وعذابه قد حل، لأنهم صدقوا حين لا ينفع التصديق مصدقا، إذ كان قد مضى حكم الله في السابق من علمه، أن من تاب بعد نزول العذاب من الله على تكذيبه لم تنفعه توبته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) : لما رأوا عذاب الله في الدنيا لم ينفعهم الإيمان عند ذلك.
وقوله: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) يقول: ترك الله تبارك وتعالى إقالتهم، وقبول التوبة منهم، ومراجعتهم الإيمان بالله، وتصديق رسلهم بعد معاينتهم بأسه، قد نزل بهم سنته التي قد مضت في خلقه، فلذلك لم يقلهم ولم يقبل توبتهم في تلك الحال.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) يقول: كذلك كانت سنة الله في الذين خلوا من قبل إذا عاينوا عذاب الله لم ينفعهم إيمانهم عند ذلك.
وقوله: (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) يقول: وهلك عند مجيء بأس الله، فغبنت صفقته ووضُع في بيعه الآخرة بالدنيا، والمغفرة بالعذاب، والإيمان بالكفر، الكافرون بربهم الجاحدون توحيد خالقهم، المتخذون من دونه آلهة يعبدونهم من دون بارئهم
آخر تفسير سورة حم المؤمن(21/424)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
تفسير سورة فصلت
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {حم (1) تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) }
قال أبو جعفر: قد تقدم القول منا فيما مضى قبلُ في معنى (حم) والقول في هذا الموضع كالقول في ذلك.
وقوله: (تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يقول تعالى ذكره: هذا القرآن تنزيل من عند الرحمن الرحيم نزله على نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) يقول: كتاب بينت آياته.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) قال: بينت آياته.
وقوله: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) يقول تعالى ذكره: فُصلت آياته هكذا.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب القرآن، فقال بعض نحويّي البصرة قوله: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ) الكتاب خبر لمبتدأ أخبر أن التنزيل كتاب، ثم قال: (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) شغل الفعل بالآيات حتى صارت بمنزلة الفاعل، فنصب القرآن، وقال: (بَشِيرًا وَنَذِيرًا) على أنه صفة، وإن شئت جعلت نصبه على المدح كأنه حين ذكره أقبل في مدحته، فقال: ذكرنا قرآنا عربيا بشيرا ونذيرا، وذكرناه قرآنا عربيا، وكان فيما مضى من ذكره دليل على ما أضمر.(21/425)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
وقال بعض نحويّي الكوفة: نصب قرآنا على الفعل: أي فصلت آياته كذلك. قال: وقد يكون النصب فيه على القطع، لأن الكلام تامّ عند قوله"آيَاتُهُ". قال: ولو كان رفعا على أنه من نعت الكتاب كان صوابا، كما قال في موضع آخر: (كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) وقال: وكذلك قوله: (بَشِيرًا وَنَذِيرًا) فيه ما في (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) .
وقوله: (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يقول: فصلت آيات هذا الكتاب قرآنا عربيا لقوم يعلمون اللسان العربي.
بشيرا لهم يبشرهم إن هم آمنوا به، وعملوا بما أنزل فيه من حدود الله وفرائضه بالجنة، (وَنَذِيرًا) يقول ومنذرا من كذب به ولم يعمل بما فيه بأمر الله في عاجل الدنيا، وخلود الأبد في نار جهنم في آجل الآخرة.
وقوله: (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) يقول تعالى ذكره: فاستكبر عن الإصغاء له وتدبر ما فيه من حجج الله، وأعرض عنه أكثر هؤلاء القوم الذين أنزل هذا القرآن بشيرا لهم ونذيرا، وهم قوم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. يقول: فهم لا يصغون له فيسمعوه إعراضا عنه واستكبارا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون المعرضون عن آيات الله من مشركي قريش إذ دعاهم محمد نبيّ الله إلى الإقرار بتوحيد الله وتصديق ما في هذا القرآن من أمر الله ونهيه، وسائر ما أنزل فيه (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) يقول: في أغطية (مِمَّا تَدْعُونَا) يا محمد (إِلَيْهِ) من توحيد الله، وتصديقك فيما جئتنا به، لا نفقه ما تقول (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) وهو الثقل، لا نسمع ما تدعونا إليه استثقالا لما يدعو إليه وكراهة له. وقد مضى البيان قبل عن معاني هذه الأحرف(21/428)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
بشواهده، وذكر ما قال أهل التأويل فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع.
وقد: حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) قال: عليها أغطية كالجَعْبة للنَّبْل.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) قال: عليها أغطية (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) قال: صمم.
وقوله: (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) يقولون: ومن بيننا وبينك يا محمد ساتر لا نجتمع من أجله نحن وأنت، فيرى بعضنا بعضا، وذلك الحجاب هو اختلافهم في الدين، لأن دينهم كان عبادة الأوثان، ودين محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عبادة الله وحده لا شريك له، فذلك هو الحجاب الذي زعموا أنه بينهم وبين نبيّ الله، وذلك هو خلاف بعضهم بعضا في الدين.
وأدخلت"من" في قوله (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) والمعنى: وبيننا وبينكَ حِجابٌ، توكيدا للكلام.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المعرضين عن آيات الله من قومك: أيها القوم، ما أنا إلا بشر من بني آدم مثلكم في الجنس والصورة والهيئة(21/429)
لست بمَلك (يُوحَى إِلَيَّ) يوحي الله إلى أن لا معبود لكم تصلح عبادته إلا معبود واحد. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) يقول: فاستقيموا إليه بالطاعة، ووجهوا إليه وجوهكم بالرغبة والعبادة دون الآلهة والأوثان.
يقول: وسلوه العفو لكم عن ذنوبكم التي سلفت منكم بالتوبة من شرككم، يتب عليكم ويغفر لكم.
وقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) يقول تعالى ذكره: وصديد أهل النار، وما يسيل منهم للمدعين لله شريكا العابدين الأوثان دونه الذين لا يؤتون الزكاة.
اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: معناه: الذين لا يعطون الله الطاعة التي تطهرهم، وتزكي أبدانهم، ولا يوحدونه; وذلك قول يذكر عن ابن عباس.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله.
حدثني سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) : الذين لا يقولون لا إله إلا الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين لا يقرّون بزكاة أموالهم التي فرضها الله فيها، ولا يعطونها أهلها. وقد ذكرنا أيضا قائلي ذلك قبلُ.
وقد حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) قال: لا يقرّون بها ولا يؤمنون بها. وكان يقال: إن الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك;(21/430)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
وقد كان أهل الردّة بعد نبيّ الله قالوا: أما الصلاة فنصلِّي، وأما الزكاة فوالله لا تغصب أموالنا; قال: فقال أبو بكر: والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه; والله لو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) قال: لو زَكَّوا وهم مشركون لم ينفعهم.
والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: معناه: لا يؤدّون زكاة أموالهم; وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة، وأن في قوله: (وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) دليلا على أن ذلك كذلك، لأن الكفار الذين عنوا بهذه الآية كانوا لا يشهدون أن لا إله إلا الله، فلو كان قوله: (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) مرادا به الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله لم يكن لقوله: (وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) معنى، لأنه معلوم أن من لا يشهد أن لا إله إلا الله لا يؤمن بالآخرة، وفي إتباع الله قوله: (وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) قوله (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) ما ينبئ عن أن الزكاة في هذا الموضع معنيّ بها زكاة الأموال.
وقوله: (وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) يقول: وهم بقيام الساعة، وبعث الله خلقه أحياء من قبورهم، من بعد بلائهم وفنائهم منكرون.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم الله به ورسوله، وانتهوا عما نهاهم عنه، وذلك هو الصالحات من الأعمال. (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يقول: لمن فعل ذلك أجر غير منقوص عما وعدهم أن(21/431)
يأجرهم عليه.
وقد اختلف في تأويل ذلك أهل التأويل، وقد بيَّناه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال بعضهم: غير منقوص. وقال بعضهم: غير ممنون عليهم.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يقول: غير منقوص.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، قوله: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال: محسوب.
وقوله: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) وذلك يوم الأحد ويوم الاثنين; وبذلك جاءت الأخبار عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقالته العلماء، وقد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما مضى قبل، ونذكر بعض ما لم نذكره قبل إن شاء الله.
* ذكر بعض ما لم نذكره فيما مضى من الأخبار بذلك:
حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال هناد: قرأت سائر الحديث على أبي بكر"أن اليهود أتت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فسألته عن خلق السموات والأرض، قال:"خَلَقَ اللهُ الأرْضَ يَوْمَ الأحَد وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الجِبَالَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وَما فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الأرْبَعاء الشَّجَرَ وَالمَاءَ وَالمَدَائِنَ وَالعُمْرَانَ والخَرَابَ، فَهَذِهِ أرْبَعَةٌ، ثُمَّ قال: أئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادًا، ذلك رَبُّ العَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِها(21/432)
وَبَارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أقْوَاتَهَا في أرْبَعَةِ أيَّامٍ سَوَاءً للسَّائِلِينَ لِمَنْ سأل. قالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الجُمْعَةِ النُّجُومَ والشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالمَلائِكَةَ إلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ الآجَالِ حِينَ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ، وفِي الثَّانِيَةِ ألْقَى الآفَةَ على كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الجَنَّةَ، وَأَمَرَ إبْلِيسَ بالسُّجُودِ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ" قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال:"ثُمَّ اسْتَوَى على العَرْشِ"، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: ثم استراح; فغضب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم غضبا شديدا، فنزل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) .
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن غالب بن غلاب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق يوما واحدا فسماه الأحد، ثم خلق ثانيا فسماه الإثنين، ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء، ثم خلق خامسا فسماه الخميس; قال: فخلق الأرض في يومين: الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، فذلك قول الناس: هو يوم ثقيل، وخلق مواضع الأنهار والأشجار يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحوش والهوامّ والسباع يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة، ففرغ من خلق كلّ شيء يوم الجمعة.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) في الأحد والإثنين.
وقد قيل غير ذلك.
وذلك ما حدثني القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن علي قالا ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بيدي فقال:"خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيها الجِبالَ يَوْمَ الأحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ،(21/433)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأرْبَعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابّ يوم الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ العَصْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ آخِرِ خَلْق في آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ ساعاتِ الجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إلى اللَّيْلِ".
وقوله: (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا) يقول: وتجعلون لمن خلق ذلك كذلك أندادا، وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معاصي الله، وقد بيَّنا معنى الندّ بشواهده فيما مضى قبل.
وقوله: (ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) يقول: الذي فعل هذا الفعل، وخلق الأرض في يومين، مالك جميع الجن والإنس، وسائر أجناس الخلق، وكل ما دونه مملوك له، فكيف يجوز أن يكون له ندّ؟! هل يكون المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء ندّا لمالكه القادر عليه؟.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) }
يقول تعالى ذكره: وجعل في الأرض التي خلق في يومين جبالا رواسي، وهي الثوابت في الأرض من فوقها، يعني: من فوق الأرض على ظهرها.
وقوله: (وَبَارَكَ فِيهَا) يقول: وبارك في الأرض فجعلها دائمة الخير لأهلها.
وقد ذُكر عن السديّ في ذلك ما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: (وَبَارَكَ فِيهَا) قال: أنبت شجرها. (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)(21/434)
اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: أرزاقها.
حدثني موسى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: قدر فيها أرزاق العباد، ذلك الأقوات.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) يقول: أقواتها لأهلها.
وقال آخرون: بل معناه: وقدر فيها ما يصلحها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن خليد بن دعلج، عن قتادة، قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: صلاحها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدر فيها جبالها وأنهارها وأشجارها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) : خلق فيها جبالها وأنهارها وبحارها وشجرها، وساكنها من الدواب كلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: جبالها ودوابها وأنهارها وبحارها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدر فيها أقواتها من المطر.(21/435)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: من المطر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الآخر منها لمعاش، بعضهم من بعض بالتجارة من بلدة إلى بلدة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: ثنا أبو محصن، قال: ثنا حسين، عن عكرمة، في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: اليمانيّ باليمن، والسابريّ بسابور.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا أبو محصن، عن حصين، قال: قال عكرمة (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) اليمانية باليمن، والسابرية بسابور، وأشباه هذا.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت حصينا عن عكرمة في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: في كل أرض قوت لا يصلح في غيرها، اليماني باليمن، والسابري بسابور.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: البلد يكون فيه القوت أو الشيء لا يكون لغيره، ألا ترى أن السابري إنما يكون بسابور، وأن العصب إنما يكون باليمن ونحو ذلك.
حدثني إسماعيل بن سيف، قال: ثنا ابن عبد الواحد بن زياد، عن خصيف، عن مجاهد، في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: السابريّ بسابور، والطيالسة من الريّ.(21/436)
حدثني إسماعيل، قال: ثنا أبو النضر صاحب البصري، قال: ثنا أبو عوانة، عن مطرف، عن الضحاك في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: السابريّ بسابور، والطيالسة من الريّ.
فى قوله (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: السابريّ من سابور، والطيالسة من الريّ، والحِبَر من اليمن.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات أهلها، وذلك ما يقوتهم من الغذاء، ويصلحهم من المعاش، ولم يخصص جلّ ثناؤه بقوله (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) أنه قَدّر فيها قوتا دون قوت، بل عم الخبر عن تقديره فيها جميع الأقوات، ومما يقوت أهلها ما لا يصلحهم غيره من الغذاء، وذلك لا يكون إلا بالمطر والتصرّف في البلاد لما خصّ به بعضا دون بعض، ومما أخرج من الجبال من الجواهر، ومن البحر من المآكل والحليّ، ولا قول في ذلك أصح مما قال جلّ ثناؤه: قدّر في الأرض أقوات أهلها، لما وصفنا من العلة.
وقال جلّ ثناؤه: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) لما ذكرنا قبل من الخبر الذي روينا عن ابن عباس، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه فرغ من خلق الأرض وجميع أسبابها ومنافعها من الأشجار والماء والمدائن والعمران والخراب في أربعة أيام، أوّلهنّ يوم الأحد، وآخرهن يوم الأربعاء.
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: خلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء.
وقال بعض نحويي البصرة: قال. خلق الأرض في يومين، ثم قال في أربعة أيام، لأنه يعني أن هذا مع الأول أربعة أيام، كما تقول: تزوّجت أمس امرأة، واليوم ثنتين، وإحداهما التي تزوّجتها أمس.
وقوله: (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم:(21/437)
تأويله: سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض، وجعل فيها الرواسي من فوقها والبركة، وقدّر فيها الأقوات بأهلها، وجَدَهُ كما أخبر الله أربعه أيام لا يزدن على ذلك ولا ينقصن منه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) من سأل عن ذلك وجده، كما قال الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) قال: من سأل فهو كما قال الله.
حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) يقول: من سأل فهكذا الأمر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: سواء لمن سأل ربه شيئا مما به الحاجة إليه من الرزق، فإن الله قد قدّر له من الأقوات في الأرض، على قدر مسألة كل سائل منهم لو سأله لما نفذ من علمه فيهم قبل أن يخلقهم.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) قال: قدّر ذلك على قدر مسائلهم، يعلم ذلك أنه لا يكون من مسائلهم شيء إلا شيء قد علمه قبل أن يكون. واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء الأمصار غير أبي جعفر والحسن البصري: (سَوَاءً) بالنصب. وقرأه أبو جعفر القارئ:"سَوَاءٌ" بالرفع. وقرأ الحسن:"سَوَاءٍ" بالجر.
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار، وذلك قراءته بالنصب لإجماع الحجة من القراء عليه، ولصحة معناه. وذلك أن معنى الكلام: قدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم إليه الحاجة، وعلى ما يصلحهم.(21/438)
وقد ذُكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك:"وَقَسَّمَ فِيهَا أقْوَاتَهَا".
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب سواءً، فقال بعض نحويي البصرة: من نصبه جعله مصدرا، كأنه قال: استواء. قال: وقد قرئ بالجر وجعل اسما للمستويات: أي في أربعة أيام تامَّة. وقال بعض نحويي الكوفة: من خفض سواء، جعلها من نعت الأيام، وإن شئت من نعت الأربعة، ومن نصبها جعلها متصلة بالأقوات. قال: وقد ترفع كأنه ابتداء، كأنه قال: ذلك (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) يقول: لمن أراد علمه.
والصواب من القول في ذلك أن يكون نصبه إذا نصب حالا من الأقوات، إذ كانت سواء قد شبهت بالأسماء النكرة، فقيل: مررت بقوم سواء، فصارت تتبع النكرات، وإذا تبعت النكرات انقطعت من المعارف فنصبت، فقيل: مررت بإخوتك سواء، وقد يجوز أن يكون إذا لم يدخلها تثنية ولا جمع أن تشبه بالمصادر. وأما إذا رُفعت، فإنما ترفع ابتداء بضمير ذلك ونحوه، وإذا جرت فعلى الاتباع للأيام أو للأربعة.
وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) يعني تعالى ذكره: ثم استوى إلى السماء، ثم ارتفع إلى السماء.
وقد بيَّنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى قبل.
وقوله: (فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) يقول جلّ ثناؤه: فقال الله للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما، أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم، وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات، وتشقَّقِي عن الأنهار (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) جئنا بما أحدثت فينا من خلقك، مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج،(21/439)
عن سليمان بن موسى، عن مجاهد، عن ابن عباس، (فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) قال: قال الله للسموات: أطلعي شمسي وقمري، وأطلعي نجومي، وقال للأرض: شققي أنهارك وأخرجي ثمارك، فقالتا: أعطينا طائعين.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس، في قوله (اِئْتِيَا) : أعطيا. وفي قوله: (قَالَتَا أَتَيْنَا) قالتا: أعطينا.
وقيل: أتينا طائعين، ولم يقل طائعتين، والسماء والأرض مؤنثتان، لأن النون والألف اللتين هما كناية أسمائهما في قوله (أَتَيْنَا) نظيره كناية أسماء المخبرين من الرجال عن أنفسهم، فأجرى قوله (طَائِعِينَ) على ما جرى به الخبر عن الرجال كذلك. وقد كان بعض أهل العربية يقول: ذهب به إلى السموات والأرض ومن فيهنّ.
وقال آخرون منهم: قيل ذلك كذلك لأنهما لما تكلمتا أشبهتا الذكور من بني آدم.(21/440)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) }
يقول تعالى ذكره: ففرغ من خلقهنّ سبع سموات في يومين، وذلك يوم الخميس ويوم الجمعة.
كما حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: استوى إلى السماء وهي دخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ففتقها، فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة. وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض.(21/440)
وقوله: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) يقول: وألقى في كل سماء من السموات السبع ما أراد من الخلق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) قال: ما أمر الله به وأراده.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) قال: خلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد، وما لا يعلم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) : خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها.
وقوله: (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا) يقول تعالى ذكره: وزيَّنا السماء الدنيا إليكم أيها الناس بالكواكب وهي المصابيح.
كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) قال: ثم زين السماء بالكواكب، فجعلها زينة (وَحِفْظًا) من الشياطين.
واختلف أهل العربية في وجه نصبه قوله: (وَحِفْظًا) فقال بعض نحويي البصرة: نصب بمعنى: وحفظناها حفظا، كأنه قال: ونحفظها حفظا، لأنه حين قال:"زَيَّنَّاهَا بِمَصَابِيحَ" قد أخبر أنه قد نظر في أمرها وتعهدها، فهذا يدلّ على الحفظ، كأنه قال: وحفظناها حفظا. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: نصب ذلك على معنى: وحفظا زيناها، لأن الواو لو سقطت لكان إنا زينا السماء الدنيا حفظا; وهذا القول الثاني أقرب عندنا للصحة من الأوّل.(21/441)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
وقد بيَّنا العلة في نظير ذلك في غير موضع من هذا الكتاب، فأغنى ذلك عن إعادته.
وقوله: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفت لكم من خلقي السماء والأرض وما فيهما، وتزييني السماء الدنيا بزينة الكواكب، على ما بينت تقدير العزيز في نقمته من أعدائه، العليم بسرائر عباده وعلانيتهم، وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره: فإن أعرض هؤلاء المشركون عن هذه الحجة التي بيَّنتها لهم يا محمد، ونبهتهم عليها فلم يؤمنوا بها ولم يقروا أن فاعل ذلك هو الله الذي لا إله غيره، فقل لهم: أنذرتكم أيها الناس صاعقة تهلككم مثل صاعقة عاد وثمود.
وقد بيَّنا فيما مضى أن معنى الصاعقة: كلّ ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته. وقيل في هذا الموضع عنى بها وقيعة من الله وعذاب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) قال: يقول: أنذرتكم وقيعة عاد وثمود، قال: عذاب مثل عذاب عاد وثمود.
وقوله: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) يقول: فقل: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقه عاد وثمود التي أهلكتهم، إذ جاءت عادا وثمود(21/442)
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
الرسل من بين أيديهم; فقوله"إذ" من صلة صاعقة. وعنى بقوله: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) الرسل التي أتت آباء الذين هلكوا بالصاعقة من هاتين الأمتين.
وعنى بقوله: (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) : من خلف الرسل الذين بعثوا إلى آبائهم رسلا إليهم، وذلك أن الله بعث إلى عاد هودا، فكذبوه من بعد رسل قد كانت تقدمته إلى آبائهم أيضا، فكذبوهم، فأهلكوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا) ... إلى قوله: (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) قال: الرسل التي كانت قبل هود، والرسل الذين كانوا بعده، بعث الله قبله رسلا وبعث من بعده رسلا.
وقوله: (أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ) يقول تعالى ذكره: جاءتهم الرسل بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له.
قالوا: (لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً) يقول جل ثناؤه: فقالوا لرسلهم إذ دعوهم إلى الإقرار بتوحيد الله: لو شاء ربنا أن نوحده، ولا نعبد من دونه شيئا غيره، لأنزل إلينا ملائكة من السماء رسلا بما تدعوننا أنتم إليه، ولم يرسلكم وأنتم بشر مثلنا، ولكنه رضي عبادتنا ما نعبد، فلذلك لم يرسل إلينا بالنهي عن ذلك ملائكة.
وقوله: (فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) يقول: قال لرسلهم: فإنا بالذي أرسلكم به ربكم إلينا جاحدون غير مصدّقين به.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) }(21/443)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
يقول تعالى ذكره: (فَأَمَّا عَادٌ) قوم هود (فَاسْتَكْبَرُوا) على ربهم وتجبروا (فِي الأرْضِ) تكبرا وعتوّا بغير ما أذن الله لهم به (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ) وأعطاهم ما أعطاهم من عظم الخلق، وشدة البطش (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فيحذروا عقابه، ويتقوا سطوته لكفرهم به، وتكذيبهم رسله. يقول: وكانوا بأدلتنا وحججنا عليهم يجحدون.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) }
يقول تعالى ذكره: فأرسلنا على عاد ريحا صرصرا.
واختلف أهل التأويل في معنى الصرصر، فقال بعضهم: عني بذلك أنها ريح شديدة.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (رِيحًا صَرْصَرًا) قال: شديدة.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (رِيحًا صَرْصَرًا) شديدة السَّموم عليهم.
وقال آخرون: بل عنى بها أنها باردة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا) قال: الصرصر: الباردة.(21/444)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (رِيحًا صَرْصَرًا) قال: باردة.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (رِيحًا صَرْصَرًا) قال: باردة ذات الصوت.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت. الضحاك يقول، في قوله: (رِيحًا صَرْصَرًا) يقول: ريحا فيها برد شديد.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد، وذلك أن قوله: (صَرْصَرًا) إنما هو صوت الريح إذا هبت بشدة، فسمع لها كقول القائل: صرر، ثم جعل ذلك من أجل التضعيف الذي في الراء، فقال ثم أبدلت إحدى الراءات صادا لكثرة الراءات، كما قيل في ردده: ردرده، وفي نههه: نهنهه، كما قال رؤبة?
فالْيَوْمَ قَدْ تُنَهْنِهُني ... وَأَوَّلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالْمُسَفَّهِ (1)
وكما قيل في كففه: كفكفه، كما قال النابغة?
أُكَفكِفُ عَبْرَةً غَلَبَتْ عُدَاتِي ... إذَا نَهْنَهْتُهَا عادَت ذُباحا (2)
وقد قيل: إن النهر الذي يسمى صرصرا، إنما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه، وإنه"فعلل" من صرر نظير الريح الصرصر.
__________
(1) البيتان في ديوانه (طبع ليبسج 166) وهما أل (19، 20) ونهنهني زجرني وكفنى. يقول هذا بعد أن كبر وضعف. والأول: الرجوع. والحلم العقل. والسفه: المنسوب إلى السفه. يقول: كنت أستجيب لدواعي الصبا ما دمت شابا، أما اليوم وقد علتني كبرة، ورجع إلى ما عزب من عقلي، فقد كفني عن الطيش حلمي وعقلى، فلا أفعل ما كنت أفعل في الشباب.
(2) نسب المؤلف البيت إلى النابغة، ولم أجده في الديوان ولا في شروحه المختلفة. ومعنى أكفكف العبرة: أردها. وقوله غلبت عداتي: أي أنهم كانوا حراصا على أن أبكي بما يسيئون إلى، فغلبتهم عبرتي التي حبستها، ونهنهتها: كففتها ورددتها. وذباحا: ذبحا. ذبحا. يريد أنه حبس عبرته، وكان حبسها كالذبح من شدة الألم لأن البكاء يخفف ما يضطرم في النفس من ألم وغيظ ونحوه. والبيت عند المؤلف شاهد على أن كفكف ونهنه وصرصر ونحوها من الفعل الرباعي المضعف: أصلها: كفف ونهه وصرر، فلما اجتمع فيه ثلاث أحرف أمثال، أبدلت إحدى الراءات من نوع فاء الكلمة. وهذا مذهب لبعض النحويين الكوفيين، والله أعلم.(21/445)
وقوله: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) اختلف أهل التأويل في تأويل النحسات، فقال بعضهم: عني بها المتتابعات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: أيام متتابعات أنزل الله فيهن العذاب.
وقال آخرون: عني بذلك المشائيم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: مشائيم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) أيام والله كانت مشئومات على القوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: النحسات: المشئومات النكدات.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: أيام مشئومات عليهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أيام ذات شر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قوله: (أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: النحس: الشر; أرسل عليهم ريح شر ليس فيها من الخير شيء.
وقال آخرون: النحسات: الشداد.(21/446)
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: شداد.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بها: أيام مشائيم ذات نحوس، لأن ذلك هو المعروف من معنى النحس في كلام العرب.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقراته عامة قراء الأمصار غير نافع وأبي عمرو (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) بكسر الحاء، وقرأه نافع وأبو عمرو:"نَحْسَاتٍ" بسكون الحاء. وكان أبو عمرو فيما ذكر لنا عنه يحتج لتسكينه الحاء بقوله: (يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) وأن الحاء فيه ساكنة.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما قرّاء علماء مع اتفاق معنييهما، وذلك أن تحريك الحاء وتسكينها في ذلك لغتان معروفتان، يقال هذا يوم نحْس، ويوم نَحِس، بكسر الحاء وسكونها; قال الفرّاء: أنشدني بعض العرب?
أبْلِغْ جُذَاما وَلَخْما أنَّ إخْوَتَهُمْ ... طَيَّا وَبَهْرَاءَ قَوْمٌ نَصْرُهُمْ نَحِسُ (1)
وأما من السكون فقول الله (يَوْمِ نَحْسٍ) ; منه قول الراجز?
يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْما شَمْسا ... نَجْمَيْنِ بالسَّعْدِ وَنَجْما نَحْسا (2)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 289) عند قوله تعالى:" في أيام نحسات". قال: العوام على تثقيلها بكسر الحاء. وقد خفف بعض أهل المدينة (بسكون الحاء) . قال وقد سمعت بعض العرب ينشد:" أبلغ جذاما ... البيت" فهذا لمن ثقل. ومن خفف بناه على قوله" في يوم نحس مستمر" وفي (اللسان: نحس) وقرأ أبو عمرو:" فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات" بسكون الحاء. قال الأزهري: هي جمع أيام نحسة ثم جمع الجمع (بسكون الحاء فيهما) . وقرأت في أيام نحسات (بكسر الحاء) وهي المشؤمات عليهم في الوجهين. اهـ.
(2) البيتان من مشطور الرجز، ولم نعرف قائلهما. واستشهد المؤلف بهما على أن النحس فيه لغتان: سكون الحاء، كهذا البيت وكسرها كالشاهد الذي قبله. وعلى هاتين اللغتين جاءت قراءة من قرأ قوله تعالى:" في أيام نحسات" وقد سبق القول عليه في الشاهد السابق.(21/447)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
فمن كان في لغته:"يوْمٌ نَحْسٌ" قال:"في أيَّامٍ نَحْساتٍ"، ومن كان في لغته: (يَوْمِ نَحْسٍ) قال: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) ، وقد قال بعضهم: النحْس بسكون الحاء: هو الشؤم نفسه، وإن إضافة اليوم إلى النحس، إنما هو إضافة إلى الشوم، وإن النحِس بكسر الحاء نعت لليوم بأنه مشئوم، ولذلك قيل: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) لأنها أيام مشائيم.
وقوله: (لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يقول جل ثناؤه: ولعذابنا إياهم في الآخرة أخزى لهم وأشد إهانة وإذلالا. يقول: وهم يعني عادا لا ينصرهم من الله يوم القيامة إذا عذبهم ناصر، فينقذهم منه، أو ينتصر لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) }
يقول تعالى ذكره: فبينا لهم سبيل الحق وطريق الرشد.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) : أي بيَّنا لهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) بينا لهم سبيل الخير والشرّ.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) بينا لهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) قال: أعلمناهم الهدى والضلالة، ونهيناهم أن يتبعوا الضلالة، وأمرناهم أن يتبعوا الهدى.(21/448)
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (ثَمُودُ) فقرأته عامة القراء من الأمصار غير الأعمش وعبد الله بن أبي إسحاق برفع ثمود، وترك إجرائها على أنها اسم للأمة التي تعرف بذلك. وأما الأعمش فإنه ذكر عنه أنه كان يجري ذلك في القرآن كله إلا في قوله: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) فإنه كان لا يجريه في هذا الموضع خاصة من أجل أنه في خطّ المصحف في هذا الموضع بغير ألف، وكان يوجه ثمود إلى أنه اسم رجل بعينه معروف، أو اسم جيل معروف. وأما ابن إسحاق فإنه كان يقرؤه نصبا. وأما ثمود بغير إجراء، وذلك وإن كان له في العربية وجه معروف، فإن أفصحَ منه وأصحّ في الإعراب عند أهل العربية الرفع لطلب أما الأسماء وأن الأفعال لا تليها، وإنما تعمل العرب الأفعال التي بعد الأسماء فيها إذا حسن تقديمها قبلها والفعل في أما لا يحسن تقديمه قبل الاسم; ألا ترى أنه لا يقال: وأما هدينا فثمود، كما يقال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الرفع وترك الإجراء; أما الرفع فلما وصفت، وأما ترك الإجراء فلأنه اسم للأمة.
وقوله: (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) يقول: فاختاروا العمى على البيان الذي بينت لهم، والهدى الذي عرفتهم، بأخذهم طريق الضلال على الهدى، يعني على البيان الذي بينه لهم، من توحيد الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط. عن السديّ (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) قال: اختاروا الضلالة والعمى على الهدى.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) قال: أرسل الله إليهم الرسل بالهدى فاستحبوا العمى على الهدى.(21/449)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى) يقول: بينا لهم، فاستحبوا العمى على الهدى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) قال: استحبوا الضلالة على الهدى، وقرأ: و (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) ... إلى آخر الآية، قال: فزين لثمود عملها القبيح، وقرأ: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) ... إلى آخر الآية.
وقوله: (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يقول: فأهلكتهم من العذاب المذل المهين لهم مهلكة أذلتهم وأخزتهم; والهون: هو الهوان.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (عَذَابَ الْهُونِ) قال: الهوان.
وقوله: (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) من الآثام بكفرهم بالله قبل ذلك، وخلافهم إياه، وتكذيبهم رسله.
وقوله: (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) يقول: ونجينا الذين آمنوا من العذاب الذي أخذهم بكفرهم بالله، الذين وحدوا الله، وصدقوا رسله.
يقول: وكانوا يخافون الله أن يحل بهم من العقوبة على كفرهم لو كفروا ما حل بالذين هلكوا منهم، فآمنوا اتقاء الله وخوف وعيده، وصدقوا رسله، وخلعوا الآلهة والأنداد.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) }(21/450)
يقول تعالى ذكره: ويوم يجمع هؤلاء المشركون أعداء الله إلى النار، إلى نار جهنم، فهم يحبس أولهم على آخرهم.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال: يحبس أوّلهم على آخرهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال: عليهم وزعة تردّ أولاهم على أُخراهم.
وقوله: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ) يقول: حتى إذا ما جاءوا النار شهد عليهم سمعهم بما كانوا يصغون به في الدنيا إليه، ويسمعون له، وأبصارهم بما كانوا ينظرون إليه في الدنيا (وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
وقد قيل: عني بالجلود في هذا الموضع: الفروج.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن الحكم الثقفي، رجل من آل أبي عقيل رفع الحديث، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا) إنما عني فروجهم، ولكن كني عنها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا حرملة، أنه سمع عبيد الله بن أبي جعفر، يقول (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) قال: جلودهم: الفروج.
وهذا القول الذي ذكرناه عمن ذكرنا عنه في معنى الجلود، وإن كان معنى يحتمله التأويل، فليس بالأغلب على معنى الجلود ولا بالأشهر، وغير جائز نقل معنى ذلك المعروف على الشيء الأقرب إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها.(21/451)
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ(21/451)
عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين يحشرون إلى النار من أعداء الله سبحانه لجلودهم إذ شهدت عليهم بما كانوا في الدنيا يعملون: لم شهدتم علينا بما كنا نعمل في الدنيا؟.
فأجابتهم جلودهم: (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فنطقنا; وذكر أن هذه الجوارح تشهد على أهلها عند استشهاد الله إياها عليهم إذا هم أنكروا الأفعال التي كانوا فعلوها في الدنيا بما سخط الله، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر الأخبار التي رُويت عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
حدثنا أحمد بن حازم الغفاريّ، قال: أخبرنا عليّ بن قادم الفزاري، قال: أخبرنا شريك، عن عبيد المُكْتِب، عن الشعبيّ، عن أنس، قال: ضحك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذات يوم حتى بدت نواجذه، ثم قال:"ألا تَسْأَلُونِي ممَّ ضَحِكْتُ؟ " قالوا: ممّ ضحكتَ يا رسول الله؟ قال:"عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ العَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ! قال: يقُولُ: يا رَبّ ألَيْسَ وَعَدْتَنِي أنْ لا تَظْلِمَنِي؟ قالَ: فإنَّ لكَ ذلكَ، قال: فإنّي لا أقْبَلُ عليَّ شاهدًا إلا مِنْ نَفْسِي، قالَ: أوَلَيْس كفَى بِي شَهِيدًا، وَبالمَلائِكَةِ الكرَام الكاتبين؟ قالَ فَيُخْتمُ عَلى فِيه، وَتَتَكَلَّمُ أرْكانُهُ بِمَا كانَ يَعْمَلُ، قالَ: فَيَقُولُ لَهُنَّ: بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقنا، عَنْكُنَّ كُنْتُ أُجادِلُ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبيد المكتب، عن فضيل بن عمرو، عن الشعبي، عن أنس، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه.(21/452)
حدثني عباس بن أبي طالب، قال: ثنا يحيى بن أبي بكر، عن شبل، قال: سمعت أبا قزعة يحدّث عمرو بن دينار، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال، وأشار بيده إلى الشأم، قال:"هاهُنا إلى هاهُنا تحْشَرُونَ رُكْبانا وَمُشاةً على وُجُوهِكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، على أفْوَاهِكُمْ الفِدامُ، تُوَقُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أنْتُمْ آخِرُها وأكْرَمُها على الله، وإن أوَّلَ ما يُعْرِبُ مِنْ أحَدِكُمْ فَخِذُهُ".
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا الحريري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: وتَجِيئُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ على أفْوَاهِكُمْ الفِدامُ، وإنَّ أوَّلَ ما يَتَكَلَّمُ مِنَ الآدَمِيّ فَخِذُهُ وكَفُّهُ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن بمز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم"ما لي أُمْسكُ بحُجَزِكُمْ مِنَ النَّارِ؟ ألا إن رَبِّي داعيَّ وإنَّهُ سائِلي هَلْ بَلَّغْت عِبادَهُ؟ وإنّي قائِلٌ: رَبّ قَدْ بَلَّغْتُهُمْ، فَيُبَلِّغَ شاهدُكُمْ غائِبَكُمْ، ثُمَّ إنَّكُمْ مُدَّعُونَ مُفَدَّمَةً أفْوَاهُكُمْ بالفِدامِ، ثُمَّ إنَّ أوَّل ما يُبِينُ عَنْ أَحْدِكَمْ لفَخِذُهُ وكَفُّهُ".
حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا الهيثم بن خارجة، عن إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زُرْعة، عن شريح بن عبيد، عن عقبة، سمع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول:"إنَّ أوَّل عَظْمٍ تَكَلَّمَ مِنَ الإنْسانِ يَوْمَ يخْتَمُ على الأفْوَاهِ فَخِذُه ُمِنَ الرِّجْل الشمال".
وقوله: (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يقول تعالى ذكره: والله خلقكم الخلق الأول ولم تكونوا شيئا. يقول: وإليه مصيركم من بعد مماتكم. (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) في الدنيا (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ) يوم القيامة (سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) ، فقال بعضهم: معناه: وما كنتم تستخفون.(21/453)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) : أي تَسْتَخْفُونَ منها.
وقال آخرون: معناه: وما كنتم تتقون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) قال: تتقون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كنتم تظنون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) يقول: وما كنتم تظنون (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ) حتى بلغ (كَثِيرًا مِمَّا) كنتم (1) (تَعْمَلُونَ) ، والله إن عليك يا ابن آدم لشهودا غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سر أمرك وعلانيتك، فإنه لا يخفي عليه خافية، الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظنّ فليفعل، ولا قوّة إلا بالله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: وما كنتم تَستَخْفُون، فتتركوا ركوب محارم الله في الدنيا حذرا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم اليوم.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن المعروف من معاني الاستتار الاستخفاء.
__________
(1) الظاهر أن لفظة" كنتم" زيدت سهوًا من المؤلف في الموضعين.(21/454)
فإن قال قائل: وكيف يستخفي الإنسان عن نفسه مما يأتي؟ قيل: قد بيَّنا أن معنى ذلك إنما هو الأماني، وفي تركه إتيانه إخفاؤه عن نفسه.
وقوله: (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا كنتم (1) تَعْمَلُونَ) يقول جلّ ثناؤه: ولكن حسبتم حين ركبتم في الدنيا من معاصي الله أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من أعمالكم الخبيثة، فلذلك لم تستتروا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم، فتتركوا ركوب ما حرّم الله عليكم.
وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل نفر تدارَءُوا بينهم في علم الله بما يقولونه ويتكلمون سرًا.
* ذكر الخبر بذلك.
حدثني ابن يحيى القطعي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا قيس، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر الأزدي، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنت مستترا بأستار الكعبة، فدخل ثلاثة نفر، ثَقَفيان وقُرشيّ، أو قُرشيان وثَقَفي، كثير شحوم بطونهما، قليل فقه قلوبهما، فتكلموا بكلام لم أفهمه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ فقال الرجلان: إذا رفعنا أصواتنا سمع، وإذا لم نرفع لم يسمع، فأتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذكرت له ذلك، فنزلت هذه الآية: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ) ... إلى آخر الآية.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبد الله بن مسعود، قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ دخل ثلاثة نفر، ثقفي وختناه قرشيان، قليل فقه قلوبهما، كثير شحوم بطونهما، فتحدثوا بينهم بحديث، فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: إنه يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا خفضنا. وقال الآخر: إذا كان يسمع منه شيئا فهو يسمعه كله، قال: فأتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
__________
(1) الظاهر أن لفظة" كنتم" زيدت سهوًا من المؤلف في الموضعين.(21/455)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
وَسَلَّم، فذكرت ذلك له، فنزلت هذه الآية: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ) ... حتى بلغ (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثني منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله بنحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) }
يقول تعالى ذكره: وهذا الذي كان منكم في الدنيا من ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من قبائح أعمالكم ومساويها، هو ظنكم الذي ظننتم بربكم في الدنيا أرداكم، يعني أهلككم. يقال منه: أردى فلانا كذا وكذا: إذا أهلكه، وردي هو: إذا هلك، فهو يردى ردى; ومنه قول الأعشى?
أفِي الطَّوْفِ خِفْتِ عَليَّ الرَّدَى ... وكَمْ مِنْ ردًى أهْلَهُ لَمْ يَرِمْ (1)
يعني: وكم من هالك أهله لم يرم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (أَرْدَاكُمْ) قال: أهلككم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: تلا الحسن: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) فقال: إنما عمل الناس
__________
(1) هذا البيت للأعشى يخاطب ابنته. وقد سبق القول فيه مفصلا في الجزء (23: 62) وموضع الشاهد هنا هو (الردى) بمعنى الهلاك. وهو مصدر ردي (كفرح) يردى ردى. ومنه قوله تعالى:" وذلكم ظنكم الذي ظننتم الذي بربكم أرداكم".(21/456)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
على قدر ظنونهم بربهم; فأما المؤمن فأحسن بالله الظن، فأحسن العمل; وأما الكافر والمنافق، فأساءا الظن فأساءا العمل، قال ربكم: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ) ... حتى بلغ: الخاسرين. قال معمر: وحدثني وجل: أنه يؤمر برجل إلى النار، فيلتفت فيقول: يا ربّ ما كان هذا ظني بك، قال: وما كان ظنك بي؟ قال: كان ظني أن تغفر لي ولا تعذّبني، قال: فإني عند ظنك بي".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: الظنّ ظنان، فظنّ منج، وظنّ مُرْدٍ قال: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ) قال (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) ، وهذا الظنّ المنجي ظنا يقينا، وقال ها هنا: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) هذا ظنّ مُرْدٍ.
وقوله: وقال الكافرون (إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) وذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول ويروي ذلك عن ربه:"عَبْدِي عِنْدَ ظنِّه بِي، وأنا مَعَهُ إذَا دَعانِي". وموضع قوله: (ذَلِكُمْ) رفع بقوله ظنكم. وإذا كان ذلك كذلك، كان قوله: (أَرْدَاكُمْ) في موضع نصب بمعنى: مرديا لكم. وقد يُحتمل أن يكون في موضع رفع بالاستئناف، بمعنى: مردٍ لكم، كما قال: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً) في قراءة من قرأه بالرفع. فمعنى الكلام: هذا الظنّ الذي ظننتم بربكم من أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون هو الذي أهلككم، لأنكم من أجل هذا الظنّ اجترأتم على محارم الله فقدمتم عليها، وركبتم ما نهاكم الله عنه، فأهلككم ذلك وأرداكم. يقول: فأصبحتم اليوم من الهالكين، قد غبنتم ببيعكم منازلكم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) }(21/457)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
يقول تعالى ذكره: فإن يصبر هؤلاء الذين يحشرون إلى النار على النار، فالنار مسكن لهم ومنزل. يقول: وإن يسألوا العُتبى، وهي الرجعة لهم إلى الذي يحبون بتخفيف العذاب عنهم. يقول: فليسوا بالقوم الذين يرجع بهم إلى الجنة، فيخفف عنهم ما هم فيه من العذاب، وذلك كقوله جلّ ثناؤه مخبرا عنهم: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا) ... إلى قوله (وَلا تُكَلِّمُونِ) وكقولهم لخزنة جهنم: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ) ... إلى قوله: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) }
يعنى تعالى ذكره بقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ) وبعثنا لهم نُظراء من الشياطين، فجعلناهم لهم قرناء قرنَّاهم بهم يزيِّنون لهم قبائح أعمالهم، فزينوا لهم ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ) قال: الشيطان.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ) قال: شياطين.
وقوله: (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) يقول: فزين لهؤلاء الكفار قرناؤُهم من الشياطين ما بين أيديهم من أمر الدنيا. فحسنوا ذلك لهم وحبَّبوه(21/458)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)
إليهم حتى آثروه على أمر الآخرة (وَمَا خَلْفَهُمْ) يقول: وحسَّنوا لهم أيضا ما بعد مماتهم بأن دعوهم إلى التكذيب بالمعاد، وأن من هلك منهم، فلن يُبعث، وأن لا ثواب ولا عقاب حتى صدّقوهم على ذلك، وسهل عليهم فعل كلّ ما يشتهونه، وركوب كلّ ما يلتذونه من الفواحش باستحسانهم ذلك لأنفسهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الدنيا (وَمَا خَلْفَهُمْ) من أمر الآخرة.
وقوله: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) يقول تعالى ذكره: ووجب لهم العذاب بركوبهم ما ركبوا مما زين لهم قرناؤهم وهم من الشياطين.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) قال: العذاب. (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) ، يقول تعالى ذكره: وحق على هؤلاء الذين قيضنا لهم قُرَناء من الشياطين، فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم العذاب في أمم قد مضت قبلهم من ضربائهم، حق عليهم من عذابنا مثل الذي حَقّ على هؤلاء بعضهم من الجن وبعضهم من الإنس.
(إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) يقول: إن تلك الأمم الذين حق عليهم عذابنا من الجنّ والإنس، كانوا مغبونين ببيعهم رضا الله ورحمته بسخطه وعذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) }
يقول تعالى ذكره: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله من مشركي قريش:(21/459)
(لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) يقول: قالوا للذين يطيعونهم من أوليائهم من المشركين: لا تسمعوا لقارئ هذا القرآن إذا قرأه، ولا تصغوا له، ولا تتبعوا ما فيه فتعملوا به.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) قال: هذا قول المشركين، قالوا: لا تتبعوا هذا القرآن والهوا عنه.
وقوله: (وَالْغَوْا فِيهِ) يقول: الغطوا بالباطل من القول إذا سمعتم قارئه يقرؤه كَيْما لا تسمعوه، ولا تفهموا ما فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد، في قول الله: (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) قال: المكاء والتصفير، وتخليط من القول على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا قرأ، قريش تفعله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَالْغَوْا فِيهِ) قال: بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا قرأ القرآن، قريش تفعله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) : أي اجحدوا به وأنكروه وعادوه، قال: هذا قول مشركي العرب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال بعضهم(21/460)
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
في قوله: (وَالْغَوْا فِيهِ) قال: تحدثوا وصيحوا كيما لا تسمعوه.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) يقول: لعلكم بفعلكم ذلك تصدون من أراد استماعه عن استماعه، فلا يسمعه، وإذا لم يسمعه ولم يفهمه لم يتبعه، فتغلبون بذلك من فعلكم محمدا.
قال الله جل ثناؤه: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله من مشركي قريش الذين قالوا هذا القول عذابا شديدا في الآخرة (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) يقول: ولنثيبنهم على فعلهم ذلك وغيره من أفعالهم بأقبح جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره: هذا الجزاء الذي يجزى به هؤلاء الذين كفروا من مشركي قريش جزاء أعداء الله; ثم ابتدأ جلّ ثناؤه الخبر عن صفة ذلك الجزاء، وما هو فقال: هو النار، فالنار بيان عن الجزاء، وترجمة عنه، وهي مرفوعة بالردّ عليه; ثم قال: (لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ) يعني لهؤلاء المشركين بالله في النار دار الخلد يعني دار المكث واللبث، إلى غير نهاية ولا أمد; والدار التي أخبر جلّ ثناؤه أنها لهم في النار هي النار، وحسن ذلك لاختلاف اللفظين، كما يقال: لك من بلدتك دار صالحة، ومن الكوفة دار كريمة، والدار: هي الكوفة والبلدة، فيحسن ذلك لاختلاف الألفاظ، وقد ذكر لنا أنها في قراءة ابن مسعود:"ذَلكَ جَزَاءُ أعْدَاء اللهِ النَّارُ دَارُ الخُلْدِ" ففي ذلك تصحيح ما قلنا من التأويل في ذلك، وذلك أنه ترجم بالدار عن النار.
وقوله: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) يقول: فعلنا هذا الذي فعلنا بهؤلاء من مجازاتنا إياهم النار على فعلهم جزاء منا بجحودهم في الدنيا بآياتنا التي احتججنا بها عليهم.(21/461)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ (29) }
يقول تعالى ذكره: وقال الذين كفروا بالله ورسوله يوم القيامة بعد ما أدخلوا جهنم: يا ربنا أرنا اللذين أضلانا من خلقك من جنهم وإنسهم. وقيل: إن الذي هو من الجنّ إبليس، والذي هو من الإنس ابن آدم الذي قتل أخاه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ثابت الحداد، عن حبة العرنيّ (1) عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: (أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) قال: إبليس الأبالسة وابن آدم الذي قتل أخاه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن مالك بن حصين، عن أبيه عن عليّ رضي الله عنه في قوله: (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) قال: إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك وابن مالك، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) قال: ابن آدم الذي قتل أخاه، وإبليس الأبالسة.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السيديّ، عن
__________
(1) كذا في خلاصة الخزرجي، حبة بن جوين العرني، بضم المهملة الأولى، أبو قدامة الكوفي؛ عن علي؛ وعنه سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة. قال العجلي: ثقة؛ وقال ابن سعد: مات سنة ست وسبعين. وفي الأصل: العوفي، تحريف.(21/462)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في قوله: (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) ... الآية، فإنهما ابن آدم القاتل، وإبليس الأبالسة. فأما ابن آدم فيدعو به كلّ صاحب كبيرة دخل النار من أجل الدعوة. وأما إبليس فيدعو به كل صاحب شرك، يدعوانهما في النار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن قتادة (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) هو الشيطان، وابن آدم الذي قتل أخاه.
وقوله (نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ) يقول: نجعل هذين اللذين أضلانا تحت أقدامنا، لأن أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض، وكل ما سفل منها فهو أشد على أهله، وعذاب أهله أغلظ، ولذلك سأل هؤلاء الكفار ربهم أن يريهم اللذين أضلاهم ليجعلوهما أسفل منهم ليكونا في أشد العذاب في الدرك الأسفل من النار.(21/463)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) }
يقول تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) وحده لا شريك له، ويرثوا من الآلهة والأنداد، (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به، وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن رسوله الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقاله أهل التأويل على اختلاف منهم، في معنى قوله: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) ذُكر الخبر بذلك عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا سالم بن قتيبة أبو قتيبة، قال: ثنا(21/463)
سهيل بن أبي حزم القطعي، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرأ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال:"قد قالها الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام".
وقال بعضهم: معناه: ولم يشركوا به شيئا. ولكن تموا على التوحيد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار. قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن عمران، قال: قد قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.
حدثنا ابن وكيع. قال: ثنا أبي، عن سفيان بإسناده، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، مثله.
قال ثنا جرير بن عبد الحميد. وعبد الله بن إدريس عن الشيياني، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن الأسود بن هلال، عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: قالوا: ربنا الله ثم عملوا بها، قال: لقد حملتموها على غير المحمل (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) الذين لم يعدلوها بشرك ولا غيره.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا ثنا إدريس، قال: أخبرنا الشيباني، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن الأسود بن هلال المحاربي، قال: قال أبو بكر: ما تقولون في هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: ربنا الله ثم استقاموا من ذنب، قال: فقال أبو بكر: لقد حملتم على غير المحمل، قالوا: ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: أي على: لا إله إلا الله.(21/464)
قال: ثنا حكام عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به.
قال: ثنا حكام عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد، قوله (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به.
قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن منصور، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال مثل ذلك.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: تموا على ذلك.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم استقاموا على طاعته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: ثنا يونس بن يزيد عن الزهري، قال: تلا عمر رضي الله عنه على المنبر: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: استقاموا ولله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعلب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال استقاموا على طاعة الله. وكان الحسن إذا تلاها قال: اللهمَّ فأنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) يقول: على أداء فرائضه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(21/465)
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: على عبادة الله وعلى طاعته.
وقوله: (تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) يقول: تتهبط عليهم الملائكة عند نزول الموت بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد، في قوله: (تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) قال: عند الموت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) قال: عند الموت.
وقوله: (أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) يقول: تتنزل عليهم الملائكة بأن لا تخافوا ولا تحزنوا; فإن في موضع نصب إذا كان ذلك معناه.
وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرأ ذلك" تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا " بمعنى: تتنزل عليهم قائلة: لا تخافوا، ولا تحزنوا. وعنى بقوله: (أَلا تَخَافُوا) ما تقدمون عليه من بعد مماتكم (وَلا تَحْزَنُوا) على ما تخلفونه وراءكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَلا(21/466)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) قال لا تخافوا ما أمامكم، ولا تحزنوا على ما بعدكم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا يحيى بن حسان، عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) قال: لا تخافوا ما تقدمون عليه من أمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم من أهل وولد، فإنا نخلفكم في ذلك كله.
وقيل: إن ذلك في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّة) فذلك في الآخرة.
وقوله: (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) يقول: وسروا بأن لكم في الآخرة الجنة التي كنتم توعدونها في الدنيا على إيمانكم بالله، واستقامتكم على طاعته.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ملائكته التي تتنزل على هؤلاء المؤمنين الذين استقاموا على طاعته عند موتهم: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ) أيها القوم (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) كنا نتولاكم فيها; وذكر أنهم الحفظة الذين كانوا يكتبون أعمالهم.(21/467)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة.
وقوله: (وَفِي الآخِرَةِ) يقول: وفي الآخرة أيضا نحن أولياؤكم، كما كنا لكم في الدنيا أولياء، يقول: ولكم في الآخرة عند الله ما تشتهي أنفسكم من اللّذات والشهوات.
وقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) يقول: ولكم في الآخرة ما تدّعون. وقوله: (نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) يقول: أعطاكم ذلك ربكم نزلا لكم من ربّ غفور لذنوبكم، رحيم بكم أن يعاقبكم بعد توبتكم; ونصب نزلا على المصدر من معنى قوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) لأن في ذلك تأويل أنزلكم ربكم بما يشتهون من النعيم نزلا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) }
يقول تعالى ذكره: ومن أحسن أيها الناس قولا ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال:(21/468)
تلا الحسن: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال: هذا حبيب الله، هذا وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحبّ الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، فهذا خليفة الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) ... الآية، قال: هذا عبد صدّق قولَه عملُه، ومولَجه مخرجُه، وسرَّه علانيته، وشاهده مغيبه، وإن المنافق عبد خالف قوله عمله، ومولجه مخرجه، وسرَّه علانيته، وشاهده مغيبه.
واختلف أهل العلم في الذي أريد بهذه الصفة من الناس، فقال بعضهم: عني بها نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) قال: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين دعا إلى الإسلام.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال: هذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقال آخرون: عُني به المؤذّن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب البصري، قال: ثنا عمرو بن جرير البجلي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، في قول الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) قال: المؤذن (وَعَمِلَ صَالِحًا) قال: الصلاة ما بين الأذان إلى الإقامة.(21/469)
وقوله: (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يقول: وقال: إنني ممن خضع لله بالطاعة، وذل له بالعبودة، وخشع له بالإيمان بوحدانيته.
وقوله: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ) يقول تعالى ذكره: ولا تستوي حسنة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، فأحسنوا في قولهم، وإجابتهم وبهم إلى ما دعاهم إليه من طاعته، ودعوا عباد الله إلى مثل الذي أجابوا ربهم إليه، وسيئة الذين قالوا: (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فكذلك لا تستوي عند الله أحوالهم ومنازلهم، ولكنها تختلف كما وصف جلّ ثناؤه أنه خالف بينهما، وقال جلّ ثناؤه: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ) فكرر لا والمعنى: لا تستوي الحسنة ولا السيئة، لأن كلّ ما كان غير مساو شيئا، فالشيء الذي هو له غير مساو غير مساويه، كما أن كل ما كان مساويا لشيء فالآخر الذي هو له مساو، مساو له، فيقال: فلان مساو فلانا، وفلان له مساو، فكذلك فلان ليس مساويا لفلان، لا فلان مساويا له، فلذلك كرّرت لا مع السيئة، ولو لم تكن مكرّرة معها كان الكلام صحيحا. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: يجوز أن يقال: الثانية زائدة; يريد: لا يستوي عبد الله وزيد، فزيدت لا توكيدا، كما قال (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ) أي لأن يعلم، وكما قال: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) . وقد كان بعضهم ينكر قوله هذا في: (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) ، وفي قوله: (لا أُقْسِمُ) فيقول: لا الثانية في قوله: (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) أن لا يقدرون ردّت إلى موضعها، لأن النفي إنما لحق يقدرون لا العلم، كما يقال: لا أظنّ زيدا لا يقوم، بمعنى: أظن زيدا لا يقوم; قال: وربما استوثقوا فجاءوا به أوّلا وآخرا، وربما اكتفوا بالأول من الثاني.
وحُكي سماعا من العرب: ما كأني أعرفها: أي كأني لا أعرفها. قال: وأما"لا" في قوله (لا أُقْسِمُ) فإنما هو جواب، والقسم بعدها مستأنف، ولا يكون حرف الجحد مبتدأ صلة.(21/470)
وإنما عنى يقوله. (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَة) ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به والعمل بمعصيته.
وقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك، ويعفوك عمن أساء إليك إساءة المسيء، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم، ويلقاك من قِبلهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في تأويله.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوُّهم، كأنه وليّ حميم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ادفع بالسلام على من أساء إليك إساءته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: بالسلام.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن مجاهد (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: السلام عليك إذا لقيته.
وقوله: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) يقول تعالى ذكره: افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء إليك بإحسانك الذي أمرتك به إليه، فيصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة، كأنه من ملاطفته إياك. وبرّه لك، وليّ لك من بني أعمامك، قريب النسب بك، والحميم: هو القريب.(21/471)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد. قال: ثنا سعيد،، عن قتادة (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) : أي كأنه وليّ قريب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) }
يقول تعالى ذكره: وما يعطى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا لله على المكاره، والأمور الشاقة; وقال: (وَمَا يُلَقَّاهَا) ولم يقل: وما يلقاه، لأن معنى الكلام: وما يلقى هذه الفعلة من دفع السيئة بالتي هي أحسن.
وقوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) . يقول: وما يلقى هذه إلا ذو نصيب وجدّ له سابق في المبرات عظيم.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) : ذو جدّ.
وقيل: إن ذلك الحظ الذي أخبر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية أنه لهؤلاء القوم هو الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا) ... الآية. والحظّ العظيم: الجنة. ذكر لنا أن أبا بكر رضي الله عنه شتمه رجل ونبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شاهد، فعفا عنه ساعة، ثم إن أبا بكر جاش به الغضب، فردّ عليه، فقام النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فاتبعه أبو بكر، فقال يا رسول الله شتمني الرجل، فعفوت وصفحت وأنت قاعد، فلما أخذت أنتصر قمت يا نبيّ الله، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"إنَّهُ كانَ يَرُدُّ عَنْكَ مَلَكٌ من المَلائكَةِ، فَلَمَّا قَرُبْتَ تَنْتَصِرُ ذَهَبَ المَلَكُ وَجاءَ(21/472)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
الشَّيْطانُ، فَوَاللهِ ما كُنْتُ لأجالِسَ الشَّيْطانَ يا أبا بَكْرٍ".
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) يقول: الذين أعدّ الله لهم الجنة.
وقوله: (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) ... الآية، يقول تعالى ذكره: وإما يلقين الشيطان يا محمد في نفسك وسوسة من حديث النفس إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة، ودعائك إلى مساءته، فاستجر بالله واعتصم من خطواته، إن الله هو السميع لاستعاذتك منه واستجارتك به من نزغاته، ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك، العليم بما ألقى في نفسك من نزغاته، وحدثتك به نفسك ومما يذهب ذلك من قبلك، وغير ذلك من أمورك وأمور خلقه.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ) قال: وسوسة وحديث النفس (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ) هذا الغضب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) }
يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالته على وحدانيته، وعظيم سلطانه، اختلاف الليل والنهار، ومعاقبة كلّ واحد منهما صاحبه، والشمس والقمر، لا الشمس تدرك القمر (وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي(21/473)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) لا تسجدوا أيها الناس للشمس ولا للقمر، فإنهما وإن جريا في الفلك بمنافعكم، فإنما يجريان به لكم بإجراء الله إياهما لكم طائعين له في جريهما ومسيرهما، لا بأنهما يقدران بأنفسهما على سير وجري دون إجراء الله إياهما وتسييرهما، أو يستطيعان لكم نفعا أو ضرّا، وإنما الله مسخرهما لكم لمنافعكم ومصالحكم، فله فاسجدوا، وإياه فاعبدوا دونها، فإنه إن شاء طمس ضوءهما، فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلا ولا تبصرون شيئا. وقيل: (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) فجمع بالهاء والنون، لأن المراد من الكلام: واسجدوا لله الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر، وذلك جمع، وأنث كنايتهن، وإن كان من شأن العرب إذا جمعوا الذكر إلى الأنثى أن يخرجوا كنايتهما بلفظ كناية المذكر فيقولوا: أخواك وأختاك كلموني، ولا يقولوا: كلمنني، لأن من شأنهم أن يؤنثوا أخبار الذكور من غير بني آدم في الجمع، فيقولوا: رأيت مع عمرو أثوابا فأخذتهن منه. وأعجبني خواتيم لزيد قبضتهنّ منه.
وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) يقول: إن كنتم تعبدون الله، وتذلون له بالطاعة; وإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة، ولا تشركوا في طاعتكم إياه وعبادتكموه شيئا سواه، فإن العبادة لا تصلح لغيره ولا تنبغي لشيء سواه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) }
يقول تعالى ذكره: فإن استكبر يا محمد هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم من مشركي قريش، وتعظموا عن أن يسجدوا لله الذي خلقهم وخلق الشمس والقمر، فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك، ولا يتعظمون عنه، بل يسبحون له، ويصلون ليلا ونهارًا، (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) يقول وهم لا يفترون عن عبادتهم، ولا يملون الصلاة له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/474)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي. عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) قال: يعني محمدا، يقول: عبادي، ملائكة صافون يسبحون ولا يستكبرون.(21/475)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }
يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله أيضا وأدلته على قدرته على نشر الموتى من بعد بلاها، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها أنك يا محمد ترى الأرض دارسة غبراء، لا نبات بها ولا زرع.
كما حدثنا بشر، قاله: ثنا يزيد، قاله: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً) : أي غبراء متهشمة.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً) قال: يابسة متهمشة.
(فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ) يقول تعالى ذكره: فإذا أنزلنا من السماء غيثا على هذه الأرض الخاشعة اهتزت بالنبات. يقول: تحرّكت به.
كما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال. ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (اهْتَزَّتْ) قال: بالنبات (وَرَبَتْ) يقول: انتفخت.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، (وَرَبَتْ) انتفخت.(21/475)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) يعرف الغيث في سحتها وربوها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَرَبَتْ) للنبات، قال: ارتفعت قبل أن تنبت.
وقوله: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى) يقول تعالى ذكره: إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة فأخرج منها النبات، وجعلها تهتزّ بالزرع من بعد يبسها ودثورها بالمطر الذي أنزل عليها لقادر أن يحيي أموات بني آدم من بعد مماتهم بالماء الذي ينزل من السماء لإحيائهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: كما يحيي الأرض بالمطر، كذلك يحيي الموتى بالماء يوم القيامة بين النفختين. يعني بذلك تأويل قوله: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى) .
وقوله: (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد على إحياء خلقه بعد مماتهم وعلى كل ما يشاء ذو قدرة لا يعجزه شيء أراده، ولا يتعذّر عليه فعل شيء شاءه.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) }
يعني جلّ ثناؤه بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا) إن الذين يميلون عن الحق في حججنا وأدلتنا، ويعدلون عنها تكذيبا بها وجحودا لها.(21/476)
وقد بيَّنت فيما مضى معنى اللحد بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع.
وسنذكر بعض اختلاف المختلفين في المراد به من معناه في هذا الموضع.
اختلف أهل التأويل في المراد به من معنى الإلحاد في هذا الموضع، فقال بعضهم: أريد به معارضة المشركين القرآن باللغط والصفير استهزاء به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا) قال: المُكَاء وما ذكر معه.
وقال بعضهم: أريد به الخبر عن كذبهم في آيات الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا) قال: يكذّبون في آياتنا.
وقال آخرون: أريد به يعاندون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا) قال: يشاقُّون: يعاندون.
وقال آخرون: أريد به الكفر والشرك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) قال: هؤلاء أهل الشرك وقال: الإلحاد: الكفر والشرك.(21/477)
وقال آخرون: أريد به الخبر عن تبديلهم معاني كتاب الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) قال: هو أن يوضع الكلام على غير موضعه. وكل هذه الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك في قريبات المعاني، وذلك أن اللحد والإلحاد: هو الميل، وقد يكون ميلا عن آيات الله، وعدولا عنها بالتكذيب بها، ويكون بالاستهزاء مكاء وتصدية، ويكون مفارقة لها وعنادا، ويكون تحريفا لها وتغييرا لمعانيها.
ولا قول أولى بالصحة في ذلك مما قلنا، وأن يعم الخبر عنهم بأنهم ألحدوا في آيات الله، كما عمّ ذلك ربنا تبارك وتعالى.
وقوله: (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) يقول تعالى ذكره: نحن بهم عالمون لا يخفون علينا، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا، وذلك تهديد من الله جلّ ثناؤه لهم بقوله: سيعلمون عند ورودهم علينا ماذا يلقون من أليم عذابنا. ثم أخبر جلّ ثناؤه عما هو فاعل بهم عند ورودهم عليه، فقال: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يلحدون في آياتنا اليوم في الدنيا يوم القيامة عذاب النار، ثم قال الله: أفهذا الذي يلقى في النار خير، أم الذي يأتي يوم القيامة آمنا من عذاب الله لإيمانه بالله جلّ جلاله؟ هذا الكافر، إنه إن آمن بآيات الله، واتبع امر الله ونهيه، أمنه يوم القيامة مما حذره منه من عقابه إن ورد عليه يومئذ به كافرا.
وقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) وهذا أيضا وعيد لهم من الله خرج مخرج الأمر، وكذلك كان مجاهد يقول: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) قال: هذا وعيد.
وقوله: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يقول جلّ ثناؤه: إن الله أيها الناس بأعمالكم التي تعملونها ذو خبرة وعلم لا يخفي عليه منها، ولا من غيرها شيء.(21/478)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا هذا القرآن وكذّبوا به لما جاءهم، وعنى بالذكر القرآن.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) كفروا بالقرآن.
وقوله: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) يقول تعالى ذكره: وإن هذا الذكر لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه، وحفظه من كل من أراد له تبديلا أو تحريفا، أو تغييرا، من إنسي وجني وشيطان مارد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) يقول: أعزه الله لأنه كلامه، وحفظه من الباطل.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) قال: عزيز من الشيطان.
وقوله: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) اختلف أهل التأويل في تأويله فقال بعضهم: معناه: لا يأتيه النكير من بين يديه ولا من خلفه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) قال: النكير من بين يديه ولا من خلفه.(21/479)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
وقال آخرون: معنى ذلك: لا يستطيع الشيطان أن ينقص منه حقا، ولا يزيد فيه باطلا قالوا: والباطل هو الشيطان.
وقوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) من قبل الحق (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) من قبل الباطل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) الباطل: إبليس لا يستطيع أن ينقص منه حقا، ولا يزيد فيه باطلا.
وقال آخرون: معناه: إن الباطل لا يطيق أن يزيد فيه شيئا من الحروف ولا ينقص، منه شيئا منها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) قال: الباطل: هو الشيطان لا يستطيع أن يزيد فيه حرفا ولا ينقص.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: معناه: لا يستطيع ذو باطل بكيده تغييره بكيده، وتبديل شيء من معانيه عما هو به، وذلك هو الإتيان من بين يديه، ولا إلحاق ما ليس منه فيه، وذلك إتيانه من خلفه.
وقوله: (تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) يقول تعالى ذكره: هو تنزيل من عند ذي حكمة بتدبير عباده، وصرفهم فيما فيه مصالحهم، (حَمِيدٌ) يقول: محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) }(21/480)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذّبون ما جئتهم به من عند ربك إلا ما قد قاله من قبلهم من الأمم الذين كانوا من قبلك، يقول له: فاصبر على ما نالك من أذى منهم، كما صبر أولو العزم من الرسل، (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) يعزي نبيّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كما تسمعون، يقول: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) .
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) قال: ما يقولون إلا ما قد قال المشركون للرسل من قبلك.
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) يقول: إن ربك لذو مغفرة لذنوب التائبين إليه من ذنوبهم بالصفح عنهم (وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) يقول: وهو ذو عقاب مؤلم لمن أصرّ على كفره وذنوبه، فمات على الإصرار على ذلك قبل التوبة منه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) }
يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزلناه يا محمد أعجميا لقال قومك من قريش: (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) يعني: هلا بينت أدلته وما فيه من آية، فنفقهه ونعلم ما هو وما فيه، أأعجميّ، يعني أنهم كانوا يقولون إنكارا(21/481)
له: أأعجميّ هذا القرآن ولسان الذي أنزل عليه عربي؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) قال: لو كان هذا القران أعجميا لقالوا: القرآن أعجميّ، ومحمد عربيّ.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني محمد بن أبي عديّ، عن داود بن أبي هند، عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير في هذه الآية: (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) قال: الرسول عربيّ، واللسان أعجميّ.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا أبو داود عن سعيد بن جبير في قوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) قرآن أعجميّ ولسان عربيّ.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن محمد بن أبي موسى، عن عبد الله بن مطيع بنحوه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) فجعل عربيا، أعجميّ الكلام وعربيّ الرجل.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) يقول: بُينت آياته، أأعجميّ وعربيّ، نحن قوم عرب ما لنا وللعجمة.
وقد خالف هذا القول الذي ذكرناه عن هؤلاء آخرون، فقالوا: معنى ذلك (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) بعضها عربيّ، وبعضها عجميّ. وهذا التأويل على(21/482)
تأويل من قرأ (أَعْجَمِيّ) بترك الاستفهام فيه، وحمله خبرا من الله تعالى عن قيل المشركين ذلك، يعني: هلا فصلت آياته، منها عجميّ تعرفه العجم، ومنها عربيّ تفقهه العرب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا، فأنزل الله (لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) فأنزل الله بعد هذه الآية كل لسان، فيه (حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) قال: فارسية أعربت سنك وكل.
وقرأت قراء الأمصار: (أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) على وجه الاستفهام، وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك: أعجميّ بهمزة واحدة على غير مذهب الاستفهام، على المعنى الذي ذكرناه عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا القراءة التي عليها قراء الأمصار لإجماع الحجة عليها على مذهب الاستفهام.
وقوله: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهم: هو، ويعني بقوله (هُوَ) القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله، وصدقوا بما جاءهم به من عند ربهم (هُدًى) يعني بيان للحق (وَشِفَاءٌ) يعني أنه شفاء من الجهل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال. ثنا سعيد، عن قتادة (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) قال: جمله الله نورا وبركة وشفاء للمؤمنين.
حدثنا محمد، قال. ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) قال: القرآن.(21/483)
وقوله: (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) يقول تعالى ذكره: والذين لا يؤمنون بالله ورسوله، وما جاءهم به من عند الله في آذانهم ثقل عن استماع هذا القرآن، وصمم لا يستمعونه ولكنهم يعرضون عنه، (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) يقول: وهذا القرآن على قلوب هؤلاء المكذّبين به عمى عنه، فلا يبصرون حججه عليهم، وما فيه من مواعظه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) عموا وصموا عن القرآن، فلا ينتفعون به، ولا يرغبون فيه.
حدثنا محمد، قال. ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ) قال: صمم (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) قال: عميت قلوبهم عنه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) قال: العمى: الكفر.
وقرأت قرّاء الأمصار: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) بفتح الميم. وذُكر عن ابن عباس أنه قرأ:"وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمٍ" بكسر الميم على وجه النعت للقرآن.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار.
وقوله: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) اختلف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم: معنى ذلك: تشبيه من الله جلّ ثناؤه، لعمى قلوبهم عن فهم ما أنزل في القرآن من حججه ومواعظه ببعيد، فهم كما مع صوت من بعيد نودي، فلم يفهم ما نودي، كقول العرب للرجل القليل الفهم: إنك لتنادى من بعيد، وكقولهم للفهم: إنك لتأخذ الأمور من قريب.(21/484)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن بعض أصحابه، عن مجاهد (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) قال: بعيد من قلوبهم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج عن مجاهد، بنحوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) قال: ضيعوا أن يقبلوا الأمر من قريب، يتوبون ويؤمنون، فيقبل منهم، فأبوا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنهم ينادون يوم القيامة من مكان بعيد منهم بأشنع أسمائهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أجلح، عن الضحاك بن مزاحم (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) قال: ينادَى الرجل بأشنع اسمه.
واختلف أهل العربية في موضع تمام قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) فقال بعضهم: تمامه: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) وجعل قائلو هذا القول خبر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) - (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) ; وقال بعض نحويي البصرة: يجوز ذلك ويجوز أن بكون على الأخبار التي في القرآن يستغنى بها، كما استغنت أشياء عن الخبر إذا طال الكلام، وعرف المعنى، نحو قوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ) . وما أشبه ذلك.
قال: وحدثني شيخ من أهل العلم، قال: سمعت عيسى بن عمر يسأل عمرو بن عبيد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) أين خبره؟ فقال عمرو:(21/485)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
معناه في التفسير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت جواب (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ () أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) وإن شئت كان جوابه في قوله: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) ، فيكون جوابه معلوما، فترك فيكون أعرب الوجهين وأشبهه بما جاء في القرآن.
وقال آخرون: بل ذلك مما انصرف عن الخبر عما ابتدئ به إلى الخبر عن الذي بعده من الذكر; فعلى هذا القول ترك الخبر عن الذين كفروا بالذكر، وجعل الخبر عن الذكر فتمامه على هذا القول; وإنه لكتاب عزيز; فكان معنى الكلام عند قائل هذا القول: إن الذكر الذي كفر به هؤلاء المشركون لما جاءهم، وإنه لكتاب عزيز، وشبهه بقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: هو مما ترك خبره اكتفاء بمعرفة السامعين بمعناه لما تطاول الكلام.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) }
يقول تعالى ذكره: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) يا محمد، يعني التوراة، كما آتيناك الفرقان، (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) يقول: فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يقول: ولولا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم أنه أخر عذابهم إلى يوم القيامة.(21/486)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) قال: أخروا إلى يوم القيامة.
وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يقول: وإن الفريق المبطل منهم لفي شكّ مما قالوا فيه (مُريب) يقول: يريبهم قولهم فيه ما قالوا، لأنهم قالوا بغير ثبت، وإنما قالوه ظنًّا.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (46) }
يقول تعالى ذكره: من عمل بطاعة الله في هذه الدنيا، فائتمر لأمره، وانتهى عما نهاه عنه (فَلِنَفْسِهِ) يقول: فلنفسه عمل ذلك الصالح من العمل، لأنه يجازى عليه جزاءه، فيستوجب في المعاد من الله الجنة، والنجاة من النار. (وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) يقول: ومن عمل بمعاصي الله فيها، فعلى نفسه جنى، لأنه أكسبها بذلك سخط الله، والعقاب الأليم. (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) يقول تعالى ذكره: وما ربك يا محمد بحامل عقوبة ذنب مذنب على غير مكتسبه، بل لا يعاقب أحدا إلا على جرمه الذي اكتسبه في الدنيا، أو على سبب استحقه به منه، والله أعلم.(21/487)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) }
يقول تعالى ذكره: إلى الله يرد العالمون به علم الساعة، فإنه لا يعلم ما قيامها غيره. (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا) يقول: وما تظهر من ثمرة شجرة من أكمامها التي هي متغيبة فيها، فتخرج منها بارزة. ((21/487)
وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى) يقول: وما تحمل من أنثى من حمل حين تحمله، ولا تضع ولدها إلا بعلم من الله، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مِنْ أَكْمَامِهَا) قال: حين تطلع.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا) قال: من طلعها والأكمام جمع كمة (1) وهو كل ظرف لماء أو غيره، والعرب تدعو قشر الكفراة كمَّا.
واختلفت القراء في قراءة قوله: (مِنْ ثَمَرَاتٍ) فقرأت ذلك قرّاء المدينة: (مِنْ ثَمَرَاتٍ) على الجماع، وقرأت قراء الكوفة"من ثمرات" على لفظ الواحدة، وبأي القراءتين قرئ ذلك فهو عندنا صواب لتقارب معنييهما مع شهرتهما في القراءة.
وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي) يقول تعالى ذكره: ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين به في الدنيا الأوثان والأصنام: أين شركائي الذين كنتم تشركونهم في عبادتكم إياي؟. (قَالُوا آذَنَّاكَ) يقول: أعلمناك (مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) يقول: قال هؤلاء المشركون لربهم يومئذ: ما منا من شهيد يشهد أن لك شريكا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثما أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن
__________
(1) لعل الأصل: جمع كم، بلا تاء، لأن الأكمام جمع" كم" لا جمع كمة. انظر (اللسان: كم) .(21/488)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
ابن عباس، قوله (آذَنَّاكَ) يقول: أعلمناك.
حدثني محمد، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) قالوا: أطعناك (1) ما منا من شهيد على أن لك شريكا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) }
يقول تعالى ذكره: وضلّ عن هؤلاء المشركين يوم القيامة آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، فأخذ بها طريق غير طريقهم، فلم تنفعهم، ولم تدفع عنهم شيئا من عذاب الله الذي حلّ بهم.
وقوله: (وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) يقول: وأيقنوا حينئذ ما لهم من ملجأ: أي ليس لهم ملجأ يلجئون إليه من عذاب الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) : استيقنوا أنه ليس لهم ملجأ.
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أبطل عمل الظنّ في هذا الموضع، فقال بعض أهل البصرة فعل ذلك، لأن معنى قوله: (وَظَنُّوا) : استيقنوا. قال: و"ما" هاهنا حرف وليس باسم، والفعل لا يعمل في مثل هذا، فلذلك جعل الفعل ملغى. وقال بعضهم: ليس يلغي الفعل وهو عامل في المعنى
__________
(1) كذا في الأصل. ولعله" أطلعناك"، ليكون فيه معنى العلم.(21/489)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
إلا لعلة. قال: والعلة أنه حكاية، فإذا وقع على ما لم يعمل فيه كان حكاية وتمنيا، وإذا عمل فهو على أصله.
وقوله: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) يقول تعالى ذكره: لا يمل الكافر بالله من دعاء الخير، يعني من دعائه بالخير، ومسألته إياه ربه. والخير في هذا الموضع: المال وصحة الجسم، يقول: لا يملّ من طلب ذلك. (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) يقول: وإن ناله ضرّ في نفسه من سُقم أو جهد في معيشته، أو احتباس من رزقه (فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) يقول: فإنه ذو يأس من روح الله وفرجه، قنوط من رحمته، ومن أن يكشف ذلك الشرّ النازل به عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) يقول: الكافر (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) : قانط من الخير.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ) قال: لا يملّ. وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله:"لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دَعَاءٍ بالخَيْرِ".
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) }
يقول تعالى ذكره: ولئن نحن كشفنا عن هذا الكافر ما أصابه من سقم ف(21/490)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
ي نفسه وضرّ، وشدّة في معيشته وجهد، رحمة منا، فوهبنا له العافية في نفسه بعد السقم، ورزقناه مالا فوسعنا عليه في معيشته من بعد الجهد والضرّ. (لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي) عند الله، لأن الله راض عني برضاه عملي، وما أنا عليه مقيم.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي) : أي بعملي، وأنا محقوق بهذا. يقول: وما أحسب القيامة قائمة يوم تقوم. يقول: وإن قامت أيضا القيامة، ورددت إلى الله حيا بعد مماتي. يقول: إن لي عنده غنى ومالا.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) يقول: غنى. يقول تعالى ذكره: فلنخبرن هؤلاء الكفار بالله، المتمنين عليه الأباطيل يوم يرجعون إليه بما عملوا في الدنيا من المعاصي، واجترحوا من السيئات، ثم لنجازينّ جميعهم على ذلك جزاءهم.
وذلك العذاب الغليظ تخليدهم في نار جهنم، لا يموتون فيها ولا يحيون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) }
يقول تعالى ذكره: وإذا نحن أنعمنا على الكافر، فكشفنا ما به من ضرّ، ورزقناه غنى وسعة، ووهبنا له صحة جسم وعافية، أعرض عما دعوناه إليه من طاعته، وصدّ عنه (وَنَأَى بِجَانِبِهِ) يقول: وبعد من إجابتنا إلى ما دعوناه إليه، ويعني بجانبه بناحيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/491)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ) يقول: أعرض: صدّ بوجهه، ونأى بجانبه: يقول: تباعد.
وقوله: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) يعني بالعريض: الكثير.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) يقول: كثير، وذلك قول الناس: أطال فلان الدعاء: إذا أكثر، وكذلك أعرض دعاءه.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (قُلْ) يا محمد للمكذّبين بما جئتهم به من عند ربك من هذا القرآن (أَرَأَيْتُمْ) أيها القوم (إِنْ كَانَ) هذا الذي تكذبون به (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) ألستم في فراق وبعد من الصواب، فجعل مكان التفريق الخبر، فقال: (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) إذا كان مفهوما معناه.
وقوله: (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) يقول: قل لهم من أشد ذهابا عن قصد السبيل، وأسلك لغير طريق الصواب، ممن هو في فراق لأمر الله وخوف له، بعيد من الرشاد.
القول في تأويل قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) }(21/492)
يقول تعالى ذكره: سنري هؤلاء المكذّبين، ما أنزلنا على محمد عبدنا من الذكر، آياتنا في الآفاق.
واختلف أهل التأويل في معنى الآيات التي وعد الله هؤلاء القوم أن يريهم، فقال بعضهم: عني بالآيات في الآفاق وقائع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها، وبقوله: (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فتح مكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أبي قيس، عن المنهال، في قوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ) قال: ظهور محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على الناس.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ) يقول: ما نفتح لك يا محمد من الآفاق (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) في أهل مكة، يقول: نفتح لك مكة.
وقال آخرون: عنى بذلك أنه يريهم نجوم الليل وقمره، وشمس النهار، وذلك ما وعدهم أنه يريهم في الآفاق. وقالوا: عنى بالآفاق: آفاق السماء، وبقوله: (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) سبيل الغائط والبول.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) قال: آفاق السموات: نجومها وشمسها وقمرها اللاتي يجرين، وآيات فى أنفسهم أيضا.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الأول، وهو ما قاله السديّ، وذلك أن الله عزّ وجلّ وعد نبيّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذّبين آيات في الآفاق، وغير معقول أن يكون تهدّدهم بأن(21/493)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
يريهم ما هم راءوه، بل الواجب أن يكون ذلك وعدا منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا راؤه قبل من ظهور نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم، فأما النجوم والشمس والقمر، فقد كانوا يرونها كثيرا قبل وبعد ولا وجه لتهددهم بأنه يريهم ذلك.
وقوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) يقول جلّ ثناؤه: أري هؤلاء المشركين وقائعنا بأطرافهم وبهم حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا إلى محمد، وأوحينا إليه من الوعد له بأنا مظهرو ما بعثناه به من الدين على الأديان كلها، ولو كره المشركون.
وقوله: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يقول تعالى ذكره: أولم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على كل شيء مما يفعله خلقه، لا يعزب عنه علم شيء منه، وهو مجازيهم على أعمالهم، المحسن بالإحسان، والمسيء جزاءه.
وفي قوله: (أنَّهُ) وجهان:
أحدهما: أن يكون في موضع خفض على وجه تكرير الباء، فيكون معنى الكلام حينئذ: أولم يكف بربك بأنه على كلّ شيء شهيد؟ والآخر: أن يكون في موضع رفع رفعا، بقوله: يكف، فيكون معنى الكلام: أولم يكف بربك شهادته على كل شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) }
يقول تعالى ذكره: ألا إن هؤلاء المكذّبين بآيات الله في شكّ من لقاء ربهم، يعني أنهم في شك من البعث بعد الممات، ومعادهم إلى ربهم.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ) يقول: في شك.(21/494)
وقوله: (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) يقول تعالى ذكره: ألا أن الله بكل شيء مما خلق محيط علما بجميعه، وقدرة عليه، لا يعزب عنه علم شيء منه أراده فيفوته، ولكن المقتدر عليه العالم بمكانه.
آخر تفسير سورة فصلت(21/495)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
تفسير سورة الشورى
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) }
قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في معاني حروف الهجاء التي افتتحت بها أوائل ما افتتح بها من سور القرآن، وبينا الصواب من قولهم في ذلك عندنا بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع إذ كانت هذه الحروف نظيرة الماضية منها.
وقد ذكرنا عن حُذيفة في معنى هذه خاصة قولا وهو ما حدثنا به أحمد بن زهير، قال: ثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: ثنا أبو المُغيرة عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، عن أرطأة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال له وعنده حُذيفة بن اليمان، أخبرني عن تفسير قول الله: (حم عسق) قال: فأطرق ثم أعرض عنه، ثم كرّر مقالته فأعرض فلم يجبه بشيء وكره مقالته، ثم كرّرها الثالثة فلم يجبه شيئا، فقال له حُذيفة: أنا أنبئك بها، قد عرفت بم كرهها; نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق، تبنى عليه مدينتان يشقّ النهر بينهما شقا، فإذا أذن الله في زوال مُلكهم، وانقطاع دولتهم ومدتهم، بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت، كأنها لم تكن مكانها، وتصبح صاحبتها متعجبة، كيف أفلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فذلك قوله: (حم عسق)(21/497)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
يعني: عزيمة من الله وفتنة وقضاء حم، عين: يعني عدلا منه، سين: يعني سيكون، وقاف: يعني واقع بهاتين المدينتين.
وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرأه"حم. سق" بغير عين، ويقول: إن السين: عمر كل فرقة كائنة وإن القاف: كل جماعة كائنة; ويقول: إن عليا إنما كان يعلم العين بها. وذُكر أن ذلك في مصحف عبد الله (1) على مثل الذي ذكر عن ابن عباس من قراءته من غير عين.
وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يقول تعالى ذكره: هكذا يوحي إليك يا محمد والى الذين من قبلك من أنبيائه. وقيل: إن حم عين سين قد أوحيت إلى كل نبي بعث، كما أوحيت إلى نبينا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ولذلك قيل: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ) في انتقامه من أعدائه (الحَكِيمُ) في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) }
يقول تعالى ذكره: (لِلَّهِ) ملك (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) من الأشياء كلها (وَهُوَ الْعَلِيُّ) يقول: وهو ذو علوّ وارتفاع على كل شيء، والأشياء كلها دونه، لأنهم في سلطانه، جارية عليهم قدرته، ماضية فيهم مشيئته (العَظِيمُ) الذي له العظمة والكبرياء والجبرية.
وقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) يقول تعالى ذكره: تكاد
__________
(1) عبد الله: هو ابن مسعود رضي الله عنه، معلم أهل الكوفة القرآن.(21/500)
السموات يتشققن من فوق الأرضين، من عظمة الرحمن وجلاله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) قال: يعني من ثقل الرحمن وعظمته تبارك وتعالى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) : أي من عظمة الله وجلاله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ) قال: يتشقَّقن في قوله: (مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: منشقّ به.
حدثنا عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) يقول: يتصدعن من عظمة الله.
حدثنا محمد بن منصور الطوسي، قال: ثنا حسين بن محمد، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: جاء رجل إلى كعب فقال: يا كعب أين ربنا؟ فقال له الناس: دقّ الله تعالى، أفتسال عن هذا؟ فقال كعب: دعوه، فإن يك عالما ازداد، وإن يك جاهلا تعلم. سألت أين ربنا، وهو على العرش العظيم متكئ، واضع إحدى رجليه على الأخرى، ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، حتى تمّ سبع أرضين، ثم من الأرض إلى السماء مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، والله على العرم متكئ، ثم تفطر السموات.(21/501)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
ثم قال كعب: اقرءوا إن شئتم (مِنْ فَوْقِهِنَّ) .... الآية.
وقوله: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يقول تعالى ذكره: والملائكة يصلون بطاعة ربهم وشكرهم له من هيبة جلاله وعظمته.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قال: والملائكة يسبحون له من عظمته.
وقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ) يقول: ويسألون ربهم المغفرة لذنوب من في الأرض من أهل الإيمان به.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ) قال: للمؤمنين.
يقول الله عزّ وجلّ: ألا إن الله هو الغفور لذنوب مؤمني عباده، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) يا محمد من مشركي قومك (مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) آلهة يتولونها ويعبدونها (اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) يحصي عليهم أفعالهم، ويحفظ أعمالهم، ليجازيهم بها يوم القيامة جزاءهم. (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)
يقول: ولست أنت يا محمد بالوكيل عليهم بحفظ أعمالهم، إنما أنت منذر، فبلغهم ما أرسلت به إليهم، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا(21/502)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) }
يقول تعالى ذكره: وهكذا (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا محمد (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) بلسان العرب، لأن الذين أرسلتك إليهم قوم عرب، فأوحينا إليك هذا القرآن بألسنتهم، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره، لأنا لا نرسل رسولا إلا بلسان قومه، ليبين لهم (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) وهي مكة (وَمَنْ حَوْلَهَا) يقول: ومن حول أم القرى من سائر الناس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) قال: مكة.
وقوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) يقول عزّ وجلّ: وتنذر عقاب الله في يوم الجمع عباده لموقف الحساب والعرض. وقيل: وتنذر يوم الجمع، والمعنى: وتنذرهم يوم الجمع، كما قيل: يخوّف أولياءه، والمعنى: يخوّفكم أولياءه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) قال: يوم القيامة.
وقوله: (لا رَيْبَ فِيهِ) يقول: لا شكّ فيه.
وقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) يقول: منهم فريق في الجنة، وهم الذين آمنوا بالله واتبعوا ما جاءهم به رسوله (وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) يقول: ومنهم فريق في الموقدة من نار الله المسعورة على(21/503)
أهلها، وهم الذين كفروا بالله، وخالفوا ما جاءهم به رسوله.
وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي قبيل المعافريّ، عن شفيّ الأصبحيّ، عن رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال:"خرج علينا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وفى يده كتابان، فقال:"هل تدرون ما هذا؟ " فقلنا: لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله، قال:"هَذَا كِتابٌ مِنْ رَبّ العَالمِينَ، فِيهِ أسْمَاءُ أهْلِ الجَنَّة، وأسْمَاءُ آبائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ"، ثُمَّ أجْمَلَ (1) على آخِرِهِمْ، فَلا يُزَاد فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أبَدًا، وهَذَا كِتَابُ أهْلِ النَّارِ بأسْمائِهِمْ وأسْمَاءِ آبَائِهِمْ"، ثُمَّ أجْمَلَ على آخِرِهِمْ،"فَلا يُزَادُ ولا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أبَدًا"، قال أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ففيم إذن نعمل إن كان هذا أمر قد فُرغ منه؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"بَلْ سَدِّدُوا وقَارِبُوا، فإنَّ صَاحبَ الجَنَّة يُخْتَمُ لَهُ بعَمَلِ الْجَنَّةِ وإنْ عَمِلَ أيَّ عَمَلٍ، وَصَاحِبُ النَّارِ يُخْتَمُ لَه بعَمَلِ النَّارِ وإنْ عَمِلَ أيَّ عَمَلٍ، فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ" ثم قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بيديه فنبذهما:"فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الخَلْقِ، فَرِيقٌ في الجَنَّةِ، وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ" قالوا: سبحان الله، فلم نعمل وننصب؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"العَمَلُ إلى خَوَاتِمِهِ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث وحيوة بن شريح، عن يحيى بن أبي أسيد، أن أبا فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن الله تعالى ذكره لما خلق آدم نفضه نفض المزود، فأخرج منه كلّ ذرية، فخرج أمثال النغف، فقبضهم قبضتين، ثم قال: شقي وسعيد، ثم ألقاهما، ثم قبضهما فقال: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) ".
قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي شُبُّويه، حدثه عن ابن حجيرة أنه بلغه أن موسى قال: يا ربّ خلقك الذين خلقتهم، جعلت منهم فريقا في الجنة،
__________
(1) أجمل: أي ذكر جملة عددهم في آخر الكتاب.(21/504)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
وفريقا في السعير، لو ما أدخلتهم كلهم الجنة قال: يا موسى ارفع زرعك، فرفع، قال: قد رفعت، قال: ارفع، فرفع، فلم يترك شيئا، قال: يا رب قد رفعت، قال: ارفع، قال: قد رفعت إلا ما لا خير فيه، قال: كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه. وقيل: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) فرفع. وقد تقدم الكلام قبل ذلك بقوله: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) بالنصب، لأنه أريد به الابتداء، كما يقال: رأيت العسكر مقتول أو منهزم، بمعنى: منهم مقتول، ومنهم منهزم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) }
يقول تعالى ذكره: ولو أراد الله أن يجمع خلقه على هدى، ويجعلهم على ملة واحدة لفعل، و (لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) يقول: أهل ملة واحدة، وجماعة مجتمعة على دين واحد.
يقول: لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة، ولكن يدخل من يشاء، من عباده في رحمته، يعني أنه يدخله في رحمته بتوفيقه إياه للدخول في دينه، الذي ابتعث به نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
يقول: والكافرون بالله ما لهم من ولي يتولاهم يوم القيامة، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله حين يعاقبهم، فينقذهم من عذابه، ويقتص لهم ممن عاقبهم، وإنما قيل هذا لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تسلية له عما كان يناله من الهمّ بتولية قومه عنه، وأمرا له بترك إدخال المكروه على نفسه من أجل إدبار من أدبر عنه منهم، فلم يستجب لما دعاه إليه من الحق، وإعلاما له أن أمور عباده بيده، وأنه الهادي إلى الحق من شاء، والمضل من أراد دونه، ودون كلّ أحد سواه.(21/505)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) }
يقول تعالى ذكره: أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله أولياء من دون الله يتولونهم. (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ) يقول: فالله هو وليّ أوليائه، وإياه فليتخذوا وليا لا الآلهة والأوثان، ولا ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا. (وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى) يقول: والله يحيي الموتى من بعد مماتهم، فيحشرهم يوم القيامة. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: والله القادر على إحياء خلقه من بعد مماتهم وعلى غير ذلك، إنه ذو قدرة على كل شيء.
وقوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وما اختلفتم أيها الناس فيه من شيء فتنازعتم بينكم، فحكمه إلى الله. يقول: فإن الله هو الذي يقضي بينكم ويفصل فيه الحكم.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) قال ابن عمرو في حديثه: فهو يحكم فيه، وقال الحارث: فالله يحكم فيه.
وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) يقول لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء المشركين بالله هذا الذي هذه الصفات صفاته ربي، لا آلهتكم التي تدعون من دونه، التي لا تقدر على شيء (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في أموري، وإليه فوضت أسبابي، وبه وثقت (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) يقول: وإليه أرجع في أموري وأتوب من ذنوبي.(21/506)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) }
يقول تعالى ذكره: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) ، خالق السموات السبع والأرض. كما:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: خالق.
وقوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) يقول تعالى ذكره: زوّجكم ربكم من أنفسكم أزواجا. وإنما قال جلّ ثناؤه: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم، فهو من الرجال. (وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا) يقول جلّ ثناؤه: وجعل لكم من الأنعام أزواجا من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ذكورا وإناثا، ومن كل جنس من ذلك. (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) يقول: يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام. وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) في هذا الموضع، فقال بعضهم: معنى ذلك: يخلقكم فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيع، عن مجاهد، في قوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال: نسل بعد نسل من الناس والأنعام.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (يَذْرَؤُكُمْ) قال: يخلقكم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد(21/507)
الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد، في قوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال: نسلا بعد نسل من الناس والأنعام.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال ثنا شعبة، عن منصور، أنه قال في هذه الآية: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال يخلقكم.
وقال آخرون: بل معناه: يعيشكم فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) يقول: يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال: يعيشكم فيه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال: عيش من الله يعيشكم فيه. وهذان القولان وإن اختلفا في اللفظ من قائليهما فقد يحتمل توجيههما إلى معنى واحد، وهو أن يكون القائل في معناه يعيشكم فيه، أراد بقوله ذلك: يحييكم بعيشكم به كما يحيي من لم يخلق بتكوينه إياه، ونفخه الروح فيه حتى يعيش حيا. وقد بينت معنى ذرء الله الخلق فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته.
وقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس هو كشيء، وأدخل المثل في الكلام توكيدًا للكلام إذا اختلف اللفظ به وبالكاف، وهما بمعنى واحد، كما قيل:
ما إن نديت بشيء أنت تكرهه (1)
__________
(1) هذا مصراع أول من بيت للنابغة الذبياني. وعجزه: * إذن فلا رفعت سوطي إلى يدي *
(انظر مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي) ورواية الشطر الأول فيه: * ما قلت من سييء مما أتيت به *
قال شارحه: يقول: إذا كنت قلت هذا الذي بلغك، فشلت يدي حتى لا أطيق رفع السوط على خفته. وروى في اللسان والتاج كرواية المؤلف، قال الزبيدي: يقال: ما نديني من فلان شيء أكرهه، أي ما بلني ولا أصابني. وما نديت له كفى بشر وما نديت بشيء.
ومحل الشاهد في البيت عند المؤلف قوله" ما إن" حيث أدخل حرف النفي" ما" على حرف النفي" إن" لاختلاف لفظهما، توكيدا للكلام. وهو نظير إدخال كاف التشبيه، على كلمة" مثل" التي تفيد التشبيه، في قوله تعالى (ليس كمثله شيء) ، لتوكيد الكلام؛ لاختلاف اللفظين.(21/508)
فأدخل على"ما" وهي حرف جحد"إن" وهي أيضًا حرف جحد، لاختلاف اللفظ بهما، وإن اتفق معناهما توكيدا للكلام، وكما قال أوس بن حجر:
وَقَتْلَى كمِثْلِ جذُوعِ النَّخيلْ ... تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ (1)
ومعنى ذلك: كجذوع النخيل، وكما قال الآخر:
سَعْدُ بْنُ زيد إذَا أبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ ... ما إن كمِثْلِهِمِ فِي النَّاسِ مِنْ أحَدٍ (2)
والآخر: أن يكون معناه: ليس مثل شيء، وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام، كقول الراجز:
* وَصَالِياتٍ كَكَما يُؤْثَفَيْنِ (3)
__________
(1) وهذا الشاهد من كلام أوس بن حجر التميمي، وهو شاعر جاهلي مشهور، شاهد كالشاهد السابق، أدل فيه أداة التشبيه" الكاف" على أختها في المعنى" مثل" لاختلاف لفظهما، توكيدا للكلام، وهو نظير" ما" في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) .
(2) لم أقف على قائل هذا البيت. وقد استشهد به المؤلف على إدخال أداتي التشبيه (الكاف، ومثل) معا على شيء واحد، فهو في معنى الشاهدين قبله.
(3) هذا بيت من عدة أبيات من مشطور الرجز، ينسبان على خطام المجاشعي، ونسبهما الجوهري في الصحاح، والصقلي في شرحه لأبيات الإيضاح للفارسي، إلى هميان بن قحافة. وبيت الشاهد آخرها بيتا. (انظر الأبيات في هامش صفحة 282 من الجزء الأول من سر صناعة الإعراب لابن جنى طبعة شركة مصطفى البابي الحبي وأولاده) وفيه: الصاليات: الأثافي التي توضع عليها القدور وقد صليت النار حتى اسودت. ويؤثفين: يجعلن أثافي للقدر، وهي جمع أثفية، يقال أثفى القدر يثفيها: جعل لها أثافي. ومحل الشاهد قوله" كما" فإن الكاف الأولى حرف، والثانية اسم بمعنى مثل. والمعنى: لم يبق إلا حجارة منصوبة كمثل الأثافي. واستشهد به المؤلف على دخول الكاف على الكاف لتوكيد الكلام.(21/509)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
فأدخل على الكاف كافا توكيدا للتشبيه، وكما قال الآخر:
تَنْفِي الغَيادِيقُ عَلى الطَّرِيقِ ... قَلَّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ (1)
فأدخل الكاف مع"عن"، وقد بيَّنا هذا في موضع غير هذا المكان بشرح هو أبلغ من هذا الشرح، فلذلك تجوّزنا في البيان عنه في هذا الموضع.
وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يقول جلّ ثناؤه واصفا نفسه بما هو به، وهو يعني نفسه: السميع لما تنطق به خلقه من قول، البصير لأعمالهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا يعزب عنه علم شيء منه، وهو محيط بجميعه، محصٍ صغيره وكبيره (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) من خير أو شرّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) : له مفاتيح خزائن السموات والأرض وبيده مغاليق الخير والشر ومفاتيحها، فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) لم أقف على قائل البيت. ولم يتضح لي معناه تماما، ولعل فيه تحريفا من الناسخ. وموضع الشاهد فيه واضح، وهو دخول" عن" على الكاف في قوله"كبيضة" فإما أن تكون الكاف زائدة، أي عن بيضة، وإما أن تكون الكاف اسما بمعنى مثل في محل جر.(21/510)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: مفاتيح بالفارسية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: مفاتيح السموات والأرض. وعن الحسن بمثل ذلك.
ثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: خزائن السموات والأرض.
وقوله: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) يقول: يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه، ويبسط له، ويكثر ماله ويغنيه. ويقدر: يقول: ويقتر على من يشاء منهم فيضيقه ويفقره. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول: إن الله تبارك وتعالى بكل ما يفعل من توسيعه على من يوسع، وتقتيره على من يقتر، ومن الذي يُصلحه البسط عليه في الرزق، ويفسده من خلقه، والذي يصلحه التقتير عليه ويفسده، وغير ذلك من الأمور، ذو علم لا يخفى عليه موضع البسط والتقتير وغيره، من صلاح تدبير خلقه.
يقول تعالى ذكره: فإلى من له مقاليد السموات والأرض الذي صفته ما وصفت لكم في هذه الآيات أيها الناس فارغبوا، وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين لا الأوثان والآلهة والأصنام، التي لا تملك لكم ضرّا ولا نفعا.
القول في تأويل قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ(21/511)
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) }
يقول تعالى ذكره: (شَرَعَ لَكُمْ) ربكم أيها الناس (مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) أن يعمله (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يقول لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وشرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك يا محمد، فأمرناك به (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) يقول: شرع لكم من الدين، أن أقيموا الدين"فأن" إذ كان ذلك معنى الكلام، في موضع نصب على الترجمة بها عن"ما" التي في قوله: (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) . ويجوز أن تكون في موضع خفض ردّا على الهاء التي في قوله: (بِهِ) ، وتفسيرا عنها، فيكون معنى الكلام حينئذ: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. وجائز أن تكون في موضع رفع على الاستئناف، فيكون معنى الكلام حينئذ: شرع لكم من الدين ما وصى به، وهو أن أقيموا الدين. وإذ كان معنى الكلام ما وصفت، فمعلوم أن الذي أوصى به جميع هؤلاء الأنبياء وصية واحدة، وهي إقامة الدين الحق، ولا تتفرقوا فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) قال: ما أوصاك به وأنبيائه، كلهم دين واحد.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) قال: هو الدين كله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) بعث نوح حين بعث بالشريعة بتحليل(21/512)
الحلال، وتحريم الحرام (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) .
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) قال: الحلال والحرام.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) .... إلى آخر الآية، قال: حسبك ما قيل لك.
وعنى بقوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض، كما قد بينا فيما مضى قبل في قوله: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) قال: اعملوا به.
وقوله: (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) يقول: ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتم بالقيام به، كما اختلف الأحزاب من قبلكم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) تعلموا أن الفرقة هلكة، وأن الجماعة ثقة.
وقوله: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: كبر على المشركين بالله من قومك يا محمد ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لله، وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَبُرَ عَلَى(21/513)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) قال: أنكرها المشركون، وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلا الله، فصادمها إبليس وجنوده، فأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها.
وقوله: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يقول: الله يصطفي إليه من يشاء من خلقه، ويختار لنفسه، وولايته من أحبّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يقول: ويوفق للعمل بطاعته، واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحق من أقبل إلى طاعته، وراجع التوبة من معاصيه.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) : من يقبل إلى طاعة الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) }
يقول تعالى ذكره: وما تفرّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا أحزابا، إلا من بعد ما جاءهم العلم، بأن الذي أمرهم الله به، وبعث به نوحا، هو إقامة الدين الحقّ، وأن لا تتفرّقوا فيه.(21/514)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) فقال: إياكم والفرقة فإنها هلكة (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) يقول: بغيا من بعضكم على بعض وحسدا وعداوة على طلب الدنيا. (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يقول جلّ ثناؤه: ولولا قول سبق يا محمد من ربك لا يعاجلهم بالعذاب، ولكنه أخر ذلك إلى أجل مسمى، وذلك الأجل المسمى فيما ذُكر: يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال: يوم القيامة.
وقوله: (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يقول: لفرغ ربك من الحكم بين هؤلاء المختلفين في الحق الذي بعث به نبيه نوحا من بعد علمهم به، بإهلاكه أهل الباطل منهم، وإظهاره أهل الحقّ عليهم.
وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يقول: وإن الذين أتاهم الله من بعد هؤلاء المختلفين في الحقّ كتابه التوراة والإنجيل. (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يقول: لفي شكّ من الدين الذين وصّى الله به نوحا، وأوحاه إليك يا محمد، وأمركما بإقامته مريب.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) قال: اليهود والنصارى.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ(21/515)
وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) }
يقول تعالى ذكره: فإلى ذلك الدين الذي شَرَع لكم، ووصّى به نوحا، وأوحاه إليك يا محمد، فادع عباد الله، واستقم على العمل به، ولا تزغ عنه، واثبت عليه كما أمرك ربك بالاستقامة. وقيل: فلذلك فادع، والمعنى: فإلى ذلك، فوضعت اللام موضع إلى، كما قيل: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) وقد بيَّنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا.
وكان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك، في قوله: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ) إلى معنى هذا، ويقول: معنى الكلام: فإلى هذا القرآن فادع واستقم. والذي قال من هذا القول قريب المعنى مما قلناه، غير أن الذي قلنا في ذلك أولى بتأويل الكلام، لأنه في سياق خبر الله جلّ ثناؤه عما شرع لكم من الدين لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإقامته، ولم يأت من الكلام ما يدلّ على انصرافه عنه إلى غيره.
وقوله: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) يقول تعالى ذكره: ولا تتبع يا محمد أهواء الذين شكُّوا في الحقّ الذي شرعه الله لكم من الذين أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم، فتشك فيه، كالذي شكوا فيه.
يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: صدّقت بما أنزل الله من كتاب كائنا ما كان ذلك الكتاب، توراة كان أو إنجيلا أو زبورا أو صحف إبراهيم، لا أكذب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب، وتصديقكم ببعض.
وقوله: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه.(21/516)
كالذي حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) قال: أمر نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعدل، فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه. والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من الشديد، وبالعدل يصدّق الله الصادق، ويكذّب الكاذب، وبالعدل يردّ المعتدي ويوبخه.
ذكر لنا أن نبي الله داود عليه السلام: كان يقول: ثلاث من كن فيه أعجبني جدا: القصد في الفاقة والغنى، والعدل في الرضا والغضب، والخشية في السر والعلانية; وثلاث من كن فيه أهلكه: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وأربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: لسان ذاكر، وقلب شاكر، وبدن صابر، وزوجة مؤمنة.
واختلف أهل العربية في معنى اللام التي في قوله: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) فقال بعض نحويي البصرة: معناها: كي، وأمرت كي أعدل; وقال غيره: معنى الكلام: وأمرت بالعدل، والأمر واقع على ما بعده، وليست اللام التي في لأعدل بشرط; قال: (وَأُمِرْتُ) تقع على"أن" وعلى"كي" واللام أمرت أن أعبد، وكي أعبد، ولأعبد. قال: وكذلك كلّ من طالب الاستقبال، ففيه هذه الأوجه الثلاثة.
والصواب من القول في ذلك عندي أن الأمر عامل في معنى لأعدل، لأن معناه: وأمرت بالعدل بينكم.
وقوله: (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) يقول: الله مالكنا ومالككم معشر الأحزاب ما أهل الكتابين التوراة والإنجيل.
يقول: لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال، ولكم ثواب ما اكتسبتم منها.
وقوله: (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) يقول: لا خصومة بيننا وبينكم. كما:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; والحارث،(21/517)
قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم) قال: لا خصومة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله عز وجل: (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) لا خصومة بيننا وبينكم، وقرأ: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .... إلى آخر الآية.
وقوله: (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا) يقول: الله يجمع بيننا يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يقول: وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا.(21/518)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) }
يقول تعالى ذكره: والذين يخاصمون في دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من بعد ما استجاب له الناس، فدخلوا فيه من الذين أورثوا الكتاب (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) يقول: خصومتهم التي يخاصمون فيه باطلة ذاهبة عند ربهم (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) يقول: وعليهم من الله غضب، ولهم في الآخرة عذاب شديد، وهو عذاب النار.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود خاصموا أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في دينهم، وطمعوا أن يصدوهم عنه، ويردوهم عن الإسلام إلى الكفر.
* ذكر الرواية عمن ذكر ذلك عنه:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)(21/518)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
قال: هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين، ويصدّونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله. وقال: هم أهل الضلالة كان استجيب لهم على ضلالتهم، وهم يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) قال: طمع رجال بأن تعود الجاهلية.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، أنه قال في هذه الآية (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) قال: بعد ما دخل الناس في الإسلام.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قال: هم اليهود والنصارى، قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) ..... الآية، قال: هم اليهود والنصارى حاجوا أصحاب نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن أولى بالله منكم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ) .... إلى آخر الآية، قال: نهاه عن الخصومة.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ(21/519)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) }
يقول تعالى ذكره: (اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ) هذا (الكِتَابَ) يعني القرآن (بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) يقول: وأنزل الميزان وهو العدل، ليقضي بين الناس بالإنصاف، ويحكم فيهم بحكم الله الذي أمر به في كتابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) قال: العدل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) قال: الميزان: العدل.
وقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) يقول تعالى ذكره: وأيّ شيء يدريك ويعلمك، لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة قريب (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا) : يقول: يستعجلك يا محمد بمجيئها الذين لا يوقنون بمجيئها، ظنا منهم أنها غير جائية (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا) يقول: والذين صدّقوا بمجيئها، ووعد الله إياهم الحشر فيها، (مُشْفِقُونَ مِنْهَا) يقول: وَجِلون من مجيئها، خائفون من قيامها، لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) يقول: ويوقنون أن مجيئها الحقّ اليقين، لا يمترون في مجيئها (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ) يقول تعالى ذكره: ألا إن الذين يخاصمون في قيام الساعة ويجادلون فيه (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) يقول: لفي جَور عن طريق الهدى، وزيغ عن سبيل الحقّ والرشاد، بعيد من الصواب.(21/520)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) }
يقول تعالى ذكره: الله ذو لطف بعباده، يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقتر على من يشاء منهم. (وَهُوَ الْقَوِيُّ) الذي لا يغلبه ذو أيد لشدته، ولا يمتنع عليه إذا أراد عقابه بقدرته (العَزِيزُ) في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه. (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) يقول تعالى ذكره: من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في حرثه: يقول: نزد له في عمله الحسن، فنجعل له بالواحدة عشرا، إلى ما شاء ربنا من الزيادة (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) يقول: ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للآخرة، نؤته منها ما قسمنا له منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) ... إلى (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) قال: يقول: من كان إنما يعمل للدنيا نؤته منها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا) .... الآية، يقول: من آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبا في الآخرة إلا النار، ولم نزده بذلك(21/521)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
من الدنيا شيئا إلا رزقا قد فرغ منه وقسم له.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) قال: من كان يريد الآخرة وعملها نزد له في عمله (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) ... إلى آخر الآية، قال: من أراد الدنيا وعملها آتيناه منها، ولم نجعل له في الآخرة من نصيب، الحرث العمل، من عمل للآخرة أعطاه الله، ومن عمل للدنيا أعطاه الله.
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) قال: من كان يريد عمل الآخرة نزد له في عمله.
وقوله: (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) قال: للكافر عذاب أليم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) }
يقول تعالى ذكره: أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) يقول: ابتدعوا لهم من الدين ما لم يبح الله لهم ابتداعه (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يقول تعالى ذكره: ولولا السابق من الله في أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنه مضى من قيله إنهم مؤخرون بالعقوبة إلى قيام الساعة، لفرغ من الحكم بينكم وبينهم بتعجيله العذاب لهم في الدنيا، ولكن لهم في الآخرة من العذاب الأليم، كما قال جلّ ثناؤه: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: وإن الكافرين بالله لهم يوم القيامة عذاب مؤلم مُوجع.(21/522)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
القول في تأويل قوله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ترى يا محمد الكافرين بالله يوم القيامة (مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) يقول: وَجِلين خائفين من عقاب الله على ما كسبوا في الدنيا من أعمالهم الخبيثة. (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) يقول: والذين هم مشفقون منه من عذاب الله نازل بهم، وهم ذائقوه لا محالة.
وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ) يقول تعالى ذكره: والذين آمنوا بالله وأطاعوه فيما أمر ونهى في الدنيا في روضات البساتين في الآخرة. ويعني بالروضات: جمع روضة، وهي المكان الذي يكثر نبته، ولا تقول العرب لمواضع الأشجار رياض; ومنه قول أبي النجم.
والنَّغضَ مِثْلَ الأجْرَبِ المُدَّجَّلِ ... حَدائِقَ الرَّوْضِ التي لَمْ تُحْلَلِ (1)
يعني بالروض: جمع روضة. وإنما عنى جل ثناؤه بذلك: الخبر عما هم
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز، لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي والأرجوزة بتمامها في مجلة المجمع العلمي (مجلد 8: 472) وروى البيت الأول منهما وفسره ابن قتيبة في كتابه (المعاني الكبير، طبع الهند 332 - 333) والنغض من أسماء الظليم، لأنه يحرك رأسه إذا عدا. والمدجل: المهنوء بالقطران. وشبهه بالأجرب، لأنه قد أسن وذهب ريشه من أرفاغه. وفي (اللسان: دجل) : شدة طلي الجرب بالقطران. والمدجل: المهنوء بالقطران. ونغض برأسه ينغض نغضا: حركه. وإنما سمي الظليم نغضا، لأنه إذا عجل في مشيته ارتفع وانخفض. اهـ. والنغض منصوب بالفعل" راعت" في البيت قبله، أي راقبته ونظرت إليه. والحدائق: جمع حديقة، وهي القطعة من الزرع؛ وكل بستان كان عليه حائط فهو حديقة. وما لم يكن عليه حائط، لم يقل له حديقة. وقال الزجاج: الحدائق البساتين والشجر الملتف. وحدائق الروض: ما أعشب منه والتف. يقال: روضة بني فلان ما هي إلا حديقة. وإذا لم يكن فيها عشب فهي روضة (اللسان: حدق) ونصب قوله حدائق بقوله" تبقلت من أول التبقل" وهو بيت في أول الأرجوزة. والتي لم تحال: التي لم توطأ ولم ترعها الحيوانات، فيقل نبتها.(21/523)
فيه من السرور والنعيم.
كما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ) إلى آخر الآية. قال في رياض الجنة ونعيمها.
وقوله: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يقول للذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في الآخرة ما تشتهيه أنفسهم، وتلذّه أعينهم، ذلك هوالفوز الكبير، يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعطاهم الله من هذا النعيم، وهذه الكرامة في الآخرة: هو الفضل من الله عليهم، الكبير الذي يفضل كلّ نعيم وكرامة في الدنيا من بعض أهلها على بعض.(21/524)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) }
يقول تعالى ذكره: هذا الذي أخبرتكم أيها الناس أني أعددته للذين آمنوا وعملوا الصالحات في الآخرة من النعيم والكرامة، البشرى التي يبشر الله عباده الذين آمنوا به في الدنيا، وعملوا بطاعته فيها. (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد للذين يمارونك في الساعة من مشركي قومك: لا أسألكم أيها القوم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم ثوابا وجزاء، وعوضا من موالكم تعطوننيه (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) . فقال(21/524)
بعضهم: معناه: إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، وتصلوا رحمي بيني وبينكم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن ابن عباس، في قوله: (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبينهم قرابة، فقال:"قل لا أسألكم عليه أجرا أن تودّوني في القرابة التي بيني وبينكم".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: سئل عنها ابن عباس، فقال ابن جبير: هم قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت، إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن بطن من بطون قريش إلا وله فيهم قرابة، قال: فنزلت (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال:"إلا القرابة التي بيني وبينكم أن تصلوها".
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: كان لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرابة في جميع قريش، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال:"يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونُصرتي منكم".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال لقريش:"لا أسألكم من أموالكم شيئا، ولكن أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم، فإنكم قومي وأحقّ من أطاعني وأجابني".(21/525)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة، قال: إن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان واسطا من قريش، كان له في كلّ بطن من قريش نسب، فقال: ولا أسْألُكُمْ على ما أدْعُوكُمْ إلَيْهِ إلا أنْ تَحْفظُوني في قَرَابَتِي، قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ".
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم واسط النسب من قريش، ليس حيّ من أحياء قريش إلا وقد ولدوه; قال: فقال الله عز وجل: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) :"إلا أن تودّوني لقرابتي منكم وتحفظوني".
حدثنا أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من بني هاشم وأمه من بني زهرة وأم أبيه من بني مخزوم، فقال:"احفظوني في قرابتي".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرمي، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن عكرمة، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: تعرفون قرابتي، وتصدّقونني بما جئت به، وتمنعوني.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وإن الله تبارك وتعالى أمر محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن لا يسأل الناس على هذا القرآن أجرا إلا أن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة، وكلّ بطون قريش قد ولدته وبينه وبينهم قرابة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أن تتبعوني، وتصدقوني وتصلوا رحمي.(21/526)
حدثنا محمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، فى قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلا لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيهم ولادة، فقال: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني لقرابتي منكم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يعني قريشا. يقول: إنما أنا رجل منكم، فأعينوني على عدويّ، واحفظوا قرابتي، وإن الذي جئتكم به لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى، أن تودّوني لقرابتي، وتعينوني على عدويّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: يقول: إلا أن تودّوني لقرابتي كما توادّون في قرابتكم وتواصلون بها، ليس هذا الذي جئت به يقطع ذلك عني، فلست أبتغي على الذي جئت به أجرا آخذه على ذلك منكم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن عطاء بن دينار، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يقول: لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا، إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، وتمنعوني من الناس.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: كل قريش كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرابة، فقال: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني بالقرابة التي بيني وبينكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل لمن تبعك من المؤمنين: لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا إلا أن تودّوا قرابتي.(21/527)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا إسماعيل بن أبان، قال: ثنا الصباح بن يحيى المريّ، عن السديّ، عن أبي الديلم قال: لما جيء بعليّ بن الحسين رضي الله عنهما أسيرا، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قربى الفتنة، فقال له عليّ بن الحسين رضي الله عنهما: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أقرأت آل حم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم، قال: ما قرأت (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ؟ قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال نعم.
حدثنا أبو كُرَيب قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا عبد السلام، قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا، فكأنهم فخروا، قال ابن عباس، أو العباس، شكّ عبد السلام: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأتاهم في مجالسهم، فقال:"يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ألَمْ تَكُونُوا أذِلَّةً فأعَزَّكُمُ الله بِي؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ألَمْ تَكُونُوا ضُلالا فَهَدَاكُمْ الله بِي؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"أفلا تُجِيبُونِي؟ " قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال:"ألا تقولون: ألَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فآوَيْناكَ، أوَلَمْ يُكَذِّبُوكَ فَصَدَّقْنَاكَ، أوَلَمْ يَخْذُلُوكَ فَنَصَرْنَاكَ؟ " قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله، قال: فنزلت (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) .
حدثني يعقوب، قال: ثنا مروان، عن يحيى بن كثير، عن أبي العالية، عن سعيد بن جُبير، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: هي قُربى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ومحمد بن خلف قالا ثنا عبيد الله قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق قال: سألت عمرو بن شعيبٍ، عن قول الله(21/528)
عزّ وجلّ: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: قُربى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل لا أسألكم أيها الناس على ما جئتكم به أجرا إلا أن تودّدوا إلى الله، وتتقربوا بالعمل الصالح والطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود ومحمد بن داود أخوه أيضًا قالا ثنا عاصم بن عليّ، قال: ثنا قزعة بن سويد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"قل لا أسألُكُمْ على ما أَتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ البَيِّنَاتِ والهُدَى أجْرًا إلا أنْ تَوَدَّدُوا الله وتَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بطاعَتِهِ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن أنه قال في هذه الآية (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: القُربى إلى الله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عوف، عن الحسن، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: إلا التقرّب إلى الله، والتودّد إليه بالعمل الصالح.
بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الحسن: في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قل لا أسألكم على ما جئتكم به، وعلى هذا الكتاب أجرا، إلا المودّة في القربى، إلا أن تودّدوا إلى الله بما يقرّبكم إليه، وعمل بطاعته.
قال بشر: قال يزيد: وحدثنيه يونس، عن الحسن، حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلا أن توددوا إلى الله فيما يقرّبكم إليه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلا أن تصلوا قرابتكم.(21/529)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن عبد الله بن القاسم، في قوله: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: أمرت أن تصل قرابتك.
وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال: معناه: قل لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش، إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم.
وإنما قلت: هذا التأويل أولى بتأويل الآية لدخول"في" في قوله: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ، ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال: إلا أن تودوا قرابتي، أو تقربوا إلى الله، لم يكن لدخول"في" في الكلام في هذا الموضع وجه معروف، ولكان التنزيل: إلا مودّة القُربى إن عُنِي به الأمر بمودّة قرابة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أو إلا المودّة بالقُرْبَى، أو ذا القربى إن عُنِي به التودّد والتقرب. وفي دخول"في" في الكلام أوضح الدليل على أن معناه: إلا مودّتي في قرابتي منكم، وأن الألف واللام فى المودّة أدخلتا بدلا من الإضافة، كما قيل: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) وقوله:"إلا" في هذا الموضع استثناء منقطع. ومعنى الكلام: قل لا أسألكم عليه أجرا، لكني أسألكم المودّة في القُربى، فالمودّة منصوبة على المعنى الذي ذكرت. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: هي منصوبة بمضمر من الفعل، بمعنى: إلا أن أذكر مودّة قرابتي.
وقوله: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) يقول تعالى ذكره: ومن يعمل حسنة، وذلك أن يعمل عملا يطيع الله فيه من المؤمنين (نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) يقول: نضاعف عمله ذلك الحسن، فنجعل له مكان الواحد عشرا إلى ما شئنا من الجزاء والثواب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/530)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قول الله عز وجل: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) قال: يعمل حسنة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) قال: من يعمل خيرا نزد له. الاقتراف: العمل.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) يقول: إن الله غفور لذنوب عباده، شكور لحسناتهم وطاعتهم إياه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) للذنوب (شَكُورٌ) للحسنات يضاعفها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) قال: غفر لهم الذنوب، وشكر لهم نعما هو أعطاهم إياها، وجعلها فيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) }
يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون بالله: (افْتَرَى) محمد (عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) فجاء بهذا الذي يتلوه علينا اختلاقا من قبل نفسه. وقوله: (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ) يا محمد يطبع على قلبك، فتنس هذا القرآن الذي أُنزل إليك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/531)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) فينسيك القرآن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، فى قوله: (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) قال: إن يشأ الله أنساك ما قد أتاك.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قول الله عزّ وجلّ: (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) قال: يطبع.
وقوله: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ) يقول: ويذهب الله بالباطل فيمحقه. (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) التي أنزلها إليك يا محمد فيثبته.
وقوله: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ) في موضع رفع بالابتداء، ولكنه حُذفت منه الواو في المصحف، كما حُذفت من قوله: (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) ومن قوله: (وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ) وليس بجزم على العطف على يختم.
وقوله: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما في صدور خلقه، وما تنطوي عليه ضمائرهم، لا يخفى عليه من أمورهم شيء، يقول لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لو حدّثت نفسك أن تفتري على الله كذبا، لطبعت على قلبك، وأذهبت الذي أتيتك من وحيي، لأني أمحو الباطل فأذهبه، وأحقّ الحقّ، وإنما هذا إخبار من الله الكافرين به، الزاعمين أن محمدا افترى هذا القرآن من قبل نفسه، فأخبرهم أنه إن فعل لفعل به ما أخبر به في هذه الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) }
يقول تعالى ذكره: والله الذي يقبل مراجعة العبد إذا رجع إلى توحيد الله وطاعته من بعد كفره (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) يقول: ويعفو له أن يعاقبه على(21/532)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
سيئاته من الأعمال، وهي معاصيه التي تاب منها (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة"يَفْعَلُونَ" بالياء، بمعنى: ويعلم ما يفعل عباده، وقرأته عامة قراء الكوفة (تَفْعَلُونَ) بالتاء على وجه الخطاب.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن الياء أعجب إلي، لأن الكلام من قبل ذلك جرى على الخبر، وذلك قوله: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) ويعني جلّ ثناؤه بقوله: (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) ويعلم ربكم أيها الناس ما تفعلون من خير وشر، لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو مجازيكم على كل ذلك جزاءه، فاتقوا الله في أنفسكم، واحذروا أن تركبوا ما تستحقون به منه العقوبة.
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن شريك عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث، قال: أتينا عبد الله نسأله عن هذه الآية: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) قال: فوجدنا عنده أناسا أو رجالا يسألونه عن رجل أصاب من امرأة حراما، ثم تزوجها، فتلا هذه الآية (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) }
يقول تعالى ذكره: ويجيب الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه لبعضهم دعاء بعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/533)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام، قال: ثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن سلمة بن سبرة، قال: خطبنا معاذ، فقال: أنتم المؤمنون، وأنتم أهل الجنة، والله إني لأرجو أن من تصيبون من فارس والروم يدخلون الجنة، ذلك بأن أحدهم إذا عمل لأحدكم العمل قال: أحسنت رحمك الله، أحسنت غفر الله لك، ثم قرأ: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) .
وقوله: (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) يقول تعالى ذكره: ويزيد الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع إجابته إياهم دعاءهم، وإعطائه إياهم مسألتهم من فضله على مسألتهم إياه، بأن يعطيهم ما لم يسألوه. وقيل: إن ذلك الفضل الذي ضمن جلّ ثناؤه أن يزيدهموه، هو أن يشفعهم في إخوان إخوانهم إذا هم شفعوا في إخوانهم، فشفعوا فيهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن إبراهيم النخعيّ في قول الله عزّ وجلّ: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: يُشَفَّعُون في إخوانهم، ويزيدهم من فضله، قال: يشفعون في إخوان إخوانهم.
وقوله: (وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) يقول جلّ ثناؤه: والكافرون بالله لهم يوم القيامة عذاب شديد على كفرهم به.
واختلف أهل العربية في معنى قوله (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) فقال بعضهم: أي استجاب فجعلهم هم الفاعلين، فالذين في قوله رفع والفعل لهم. وتأويل الكلام على هذا المذهب: واستجاب الذين آمنوا وعملوا الصالحات لربهم إلى الإيمان به، والعمل بطاعته إذا دعاهم إلى ذلك.(21/534)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
وقال آخر منهم: بل معنى ذلك: ويجيب الذين آمنوا. وهذا القول يحتمل وجهين: أحدهما الرفع، بمعنى ويجيب الله الذين آمنوا. والآخر ما قاله صاحب القول الذي ذكرنا.
وقال بعض نحوي الكوفة (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) يكون"الَّذِينَ" في موضع نصب بمعنى: ويجيب الله الذين آمنوا. وقد جاء في التنزيل (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) والمعنى: فأجاب لهم ربهم، إلا أنك إذا قلت استجاب، أدخلت اللام في المفعول؛ وإذا قلت أجاب حذفت اللام، ويكون استجابهم بمعنى: استجاب لهم، كما قال جلّ ثناؤه: (وإذا كالوهم أو وزنوهم) والمعنى والله أعلم: وإذا كالوا لهم، أو وزنوا لهم (يُخْسِرُونَ) . قال: ويكون"الَّذِينَ" في موضع رفع إن يجعل الفعل لهم، أي الذين آمنوا يستجيبون لله، ويزيدهم على إجابتهم، والتصديق به من فضله. وقد بيَّنا الصواب في ذلك من القول على ما تأوّله معاذ ومن ذكرنا قوله فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) }
ذكر أن هذه الآية نزلت من أجل قوم من أهل الفاقة من المسلمين تمنوا سعة الدنيا والغنى، فمال جلّ ثناؤه: ولو بسط الله الرزق لعباده، فوسعه وكثره عندهم لبغوا، فتجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم إلى غير الذي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم، ولكنه ينزل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه.
* ذكر من قال ذلك:
يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال أبو هانئ: سمعت عمرو بن حريث وغيره يقولون: إنما أزلت هذه الآية في أصحاب الصُّفَّة (وَلَوْ(21/535)
بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ) ذلك بأنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا.
* حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقري، قال: ثنا حيوة، قال: أخبرني أبو هانئ، أنه سمع عمرو بن حريث يقول: إنما نزلت هذه الآية، ثم ذكر مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ) ... الآية قال: كان يقال: خير الرزق ما لا يُطغيك ولا يُلهيك.
وذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:"أخْوَفُ ما أخافُ على أمَّتِي زَهْرَةُ الدُّنْيا وكَثْرَتُها". فقال له قاتل: يا نبيّ الله هل يأتي الخير بالشرّ؟ فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وهَلْ يَأتِي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ " فأنزل الله عليه عند ذلك، وكان إذا نزل عليه كرب (1) لذلك، وتربَّد وجهه، حتى إذا سرّي عن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:"هَلْ يَأْتِي الخَيْرُ بالشَّرِّ" يقولها ثلاثا:"إنَّ الخَيْرَ لا يأتِي إلا بالخَيْرِ"، يقولها ثلاثا. وكان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وتر الكلام: ولكنه والله ما كان ربيع قط إلا أحبط أو ألمّ فأما عبد أعطاه الله مالا فوضعه فى سبيل الله التي افترض وارتضى، فذلك عبد أريد به خير، وعزم له على الخير، وأما عبد أعطاه الله مالا فوضعه في شهواته ولذّاته، وعدل عن حقّ الله عليه، فذلك عبد أريد به شرّ، وعزم له على شرّ".
وقوله: (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله بما يصلح عباده ويفسدهم من غنى وفقر وسعة وإقتار، وغير ذلك من مصالحهم ومضارهم، ذو خبرة، وعلم، بصير بتدبيرهم، وصرفهم فيما فيه صلاحهم.
__________
(1) في (اللسان: كرب) : وفي الحديث: كان إذا أتاه الوحي كرب له، أي أصابه الكرب فهو مكروب.(21/536)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) }
يقول تعالى ذكره: والله الذي ينزل المطر من السماء فيغيثكم به أيها الناس (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) يقول: من بعد ما يئس من نزوله ومجيئه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أجدبت الأرض، وقنط الناس، قال: مطروا إذن.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) قال: يئسوا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين قحط المطر، وقنط الناس قال: مطرتم (وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) .
وقوله: (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) يقول: وهو الذي يليكم بإحسانه وفضله، الحميد بأياديه عندكم، ونعمه عليكم في خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) }(21/537)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
يقول تعالى ذكره: ومن حججه عليكم أيها الناس أنه القادر على إحيائكم بعد فنائكم، وبعثكم من قبوركم من بعد بلائكم، خلقه السموات والأرض. وما بثّ فيهما من دابة،
يعني وما فرّق في السموات والأرض من دابة.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) قال: الناس والملائكة.
يقول: وهو على جمع ما بث فيهما من دابة إذا شاء جمعه، ذو قدرة لا يتعذر عليه، كما لم يتعذر عليه خلقه وتفريقه، يقول تعالى ذكره: فكذلك هو القادر على جمع خلقه بحشر يوم القيامة بعد تفرق أوصالهم في القبور.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) }
يقول تعالى ذكره: وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) يقول: فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، قال: قرأت في كتاب أبي قلابة، قال: نزلت: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وأبو بكر رضي الله عنه يأكل، فأمسك فقال: يا(21/538)
رسول الله إني لراء ما عملت من خير أو شر؟ فقال:"أرَأيْتَ ما رَأَيْتَ مِمَّا تَكْرَهُ فَهُوَ مِنْ مَثَاقِيلِ ذَرّ الشَّرّ، وَتَدَّخِر مَثاقِيلَ الخَيْرِ حتى تُعْطاهُ يَوْمَ القِيامَةِ"، قال: قال أبو إدريس: فأرى مصداقها في كتاب الله، قال: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) .
قال أبو جعفر: حدّث هذا الحديث الهيثم بن الربيع، فقال فيه أيوب عن أبي قلابة، عن أنس، أن أبا بكر رضي الله عنه كان جالسا عند النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذكر الحديث، وهو غلط، والصواب عن أبي إدريس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) .... الآية"ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول:"لا يُصِيبُ ابْنُ آدَمَ خَدْش عُودٍ، ولا عَثْرَةُ قَدَم، ولا اخْتِلاجُ عِرْقٍ إلا بذَنْب، ومَا يَعْفُو عَنْهُ أكْثَرُ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) .... الآية، قال: يعجل للمؤمنين عقوبتهم بذنوبهم ولا يؤاخذون بها في الآخرة.
وقال آخرون: بل عنى بذلك: وما عوقبتم في الدنيا من عقوبة بحدّ حددتموه على ذنب استوجبتموه عليه فبما كسبت أيديكم يمول: فيما عملتم من معصية الله (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فلا يوجب عليكم فيها حدّا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) ... الآية، قال: هذا في الحدود. وقال قتادة: بلغنا أنه ما من رجل يصيبه عثرة قدم ولا خدش عود أو كذا وكذا إلا بذنب، أو يعفو، وما يعفو أكثر.
وقوله: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ) يقول: وما أنتم أيها الناس بمفيتي ربكم(21/539)
بأنفسكم إذا أراد عقوبتكم على ذنوبكم التي أذنبتموها، ومعصيتكم إياه التي ركبتموها هربا في الأرض، فمعجزيه، حتى لا يقدر عليكم، ولكنكم حيث كنتم في سلطانه وقبضته، جارية فيكم مشيئته (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ) يليكم بالدفاع عنكم إذا أراد عقوبتكم على معصيتكم إياه (وَلا نَصِيرٍ) يقول: ولا لكم من دونه نصير ينصركم إذا هو عاقبكم، فينتصر لكم منه، فاحذروا أيها الناس معاصيه، واتقوه أن تخالفوه فيما أمركم أو نهاكم، فإنه لا دافع لعقوبته عمن أحلها به.(21/540)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) }
يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله أيها الناس عليكم بأنه القادر على كل ما يشاء، وأنه لا يتعذّر عليه فعل شيء أراده، السفن الجارية في البحر. والجواري: جمع جارية، وهي السائرة في البحر.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قوله: (الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ) قال: السفن.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ) قال: الجواري: السفن.
وقوله: (كَالأعْلامِ) يعني كالجبال: واحدها علم; ومنه قول الشاعر:
..................... كَأَنَّه عَلَمٌ فِي رأسِه نَارُ (1)
__________
(1) هذا عجز بيت للخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمي، من قصيدة ترثي بها أخاها صخرا (معاهد التنصيص للعباسي) وصدره. وإن صخرا لتأتم الهداة به
وقد استشهد به المؤلف عند قوله تعالى: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام) على أن الأعلام في البيت جمع علم بالتحريك، وهو الجبل. وقد كان العرب يوقدون النار في أعالي الجبال، لهداية الغريب والجائع ونحوهما.(21/540)
يعني: جَبَل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (كَالأعْلامِ) قال: كالجبال.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: الأعلام: الجبال.
وقوله: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) يقول تعالى ذكره: إن يشأ الله الذي قد أجرى هذه السفن في البحر أن لا تجري فيه، أسكن الريح التي تجري بها فيه، فثبتن في موضع واحد، ووقفن على ظهر الماء لا تجري، فلا تتقدّم ولا تتأخر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) سفن هذا البحر تجري بالريح فإذا أمسكت عنها الريح ركدت، قال الله عزّ وجلّ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) .
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) لا تجري.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن(21/541)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
ابن عباس، قوله: (فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) يقول: وقوفا.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يقول: إن في جري هذه الجواري في البحر بقُدرة الله لعظة وعبرة وحجة بينة على قُدرة الله على ما يشاء، لكل ذي صبر على طاعة الله، شكور لنعمه وأياديه عنده.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) }
يقول تعالى ذكره: أو يوبق هذه الجواري في البحر بما كسبت ركبانها من الذنوب، واجترموا من الآثام، وجزم يوبقهنّ، عطفا على (يُسْكِنِ الرِّيحَ) ومعنى الكلام إن يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره، (أَوْ يُوبِقْهُنَّ) ويعني بقوله: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ) أو يهلكهنّ بالغرق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ) يقول: يهلكهنّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ) : أو يهلكهنّ.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَوْ يُوبِقْهُنَّ) قال: يغرقهن بما كسبوا.(21/542)
وبنحو الذي قلنا في قوله: (بِمَا كَسَبُوا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا) : أي بذنوب أهلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا) قال: بذنوب أهلها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا) قال: يوبقهنّ بما كسبت أصحابهنّ.
وقوله: (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) يقول: ويصفح تعالى ذكره عن كثير من ذنوبكم فلا يعاقب عليها.
وقوله: (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا) يقول جلّ ثناؤه: ويعلم الذين يخاصمون رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من المشركين في آياته وعبره وأدلته على توحيده.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة"وَيَعْلَمُ الَّذِينَ"رفعا على الاستئناف، كما قال في سورة براءة: (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) وقرأته قرّاء الكوفة والبصرة (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ) نصبا كما قال في سورة آل عمران (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) على الصرف; وكما قال النابغة:
فإنْ يَهْلِكْ أبو قابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ والشَّهْرُ الحَرَامُ وَنُمْسِكَ بَعْدَهُ بذنَاب عَيْشٍ ... أجَبِّ الظَّهْرِ لَهُ سَنامُ (1)
__________
(1) البيتان للنابغة الذبياني من مقطوعة يخاطب بها عصام بن شهبرة الجرمي حاجب النعمان، ويسأله عما بلغه من مرضه (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا ص 191) وقوله:" ربيع الناس" جعل النعمان بمنزلة الربيع في الحصب، لكثرة عطائه، وهو موضع الأمن من كل مخافة لمستجير وغيره، مثل الشهر الحرام. و" أجب الظهر": لا سنام له. ويجوز في الظهر: الرفع والنصب والجر يقول: نبقى بعده في شدة من العيش وسوء حال. وذناب الشيء: ذنبه. والشاهد في البيتين في قوله" ونأخذ" فإنه يجوز فيه الرفع على الاستئناف، والنصب بتقدير" أن"، والجزم بالعطف على يهلك (فرائد القلائد للعيني) . وقال الفراء في معاني القرآن (الروقة 292) وقوله" ويعف عن كثير ويعلم الذين": مردودة على الجزم إلا أنه صرف (النصف على الصرف مذهب للفراء في العطف على المجزوم كما في الآية، وفي المفعول معه، وفي خبر المبتدأ إذا كان ظرفا) قال: والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب، كقول الشاعر:" فإن يهلك ... " البيتين. والرفع جائز في المنصوب على الصرف. وقد قرأ بذلك قوم، فرفعوا ويعلم الذين يجادلون. ومثله مما استؤنف فرفع:" ويتوب الله من بعد ذلك على من يشاء" في براءة. ولو جزم" ويعلم" جازم كان مصيبا. اهـ.(21/543)
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) يقول تعالى ذكره: ما لهم من محيص من عقاب الله إذا عاقبهم على ذنوبهم، وكفرهم به، ولا لهم منه ملجأ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط عن السديّ، قوله: (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) : ما لهم من ملجأ.
وقوله: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يقول تعالى ذكره: فما أعطيتم أيها الناس من شيء من رياش الدنيا من المال والبنين، فمتاع الحياة الدنيا، يقول تعالى ذكره: فهو متاع لكم تتمتعون به في الحياة الدنيا، وليس من دار الآخرة، ولا مما ينفعكم في معادكم. (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) يقول تعالى ذكره: والذي عند الله لأهل طاعته والإيمان به في الآخرة، خير مما أوتيتموه في الدنيا من متاعها وأبقى، لأن ما أوتيتم في الدنيا فإنه نافد، وما عند الله من النعيم في جنانه لأهل طاعته باق غير نافذ.
(لِلَّذِينَ آمَنُوا) يقول: وما عند الله للذين آمنوا به، وعليه يتوكلون في أمورهم، وإليه يقومون في أسبابهم، وبه يثقون، خير وأبقى مما أوتيتموه من متاع الحياة الدنيا.(21/544)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) }
يقول تعالى ذكره: وما عند الله للذين آمنوا (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ) ، وكبائر فواحش الإثم، قد بينَّا اختلاف أهل التأويل فيها وبينَّا الصواب من القول عندنا فيها فى سورة النساء، فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا. (وَالْفَوَاحِشَ) قيل: إنها الزنى.
* ذكر من قال ذلك:
محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَالْفَوَاحِشَ) قال: الفواحش: الزنى.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (كَبَائِرَ الإثْمِ) فقرأته عامة قرّاء المدينة على الجماع كذلك في النجم، وقرأته عامة قرّاء الكوفة"كبير الإثم" على التوحيد فيهما جميعا; وكأن من قرأ ذلك كذلك، عنى بكبير الإثم: الشرك، كما كان الفرّاء يقول: كأني أستحب لمن قرأ كبائر الإثم أن يخفض الفواحش، لتكون الكبائر مضافة إلى مجموع إذ كانت جمعا، وقال: ما سمعت أحدا من القرّاء خفض الفواحش.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء على تقارب معنييهما، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) يقول تعالى ذكره: وإذا ما غضبوا على من اجترم إليهم جرما، هم يغفرون لمن أجرم إليهم ذنبه، ويصفحون عنه عقوبة ذنبه.
وقوله: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) يقول تعالى ذكره:(21/545)
والذين أجابوا لربهم حين دعاهم إلى توحيده، والإقرار بوحدانيته والبراءة من عبادة كل ما يعبد دونه (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) المفروضة بحدودها في أوقاتها.
وكان ابن زيد يقول: عنى بقوله: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ) ... الآية الأنصار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ(21/546)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) قال: فبدأ بهم (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ) الأنصار (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) وليس فيهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ليس فيهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أيضا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) }
يقول تعالى ذكره: والذين إذا بغى عليهم باغ، واعتدى عليهم هم ينتصرون.
ثم اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره، المنتصر منه بعد بغيه عليه، فقال بعضهم: هو المشرك إذا بغى على المسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب قال: قال ابن زيد: ذكر المهاجرين صنفين، صنفا عفا، وصنفا انتصر، وقرأ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) قال: فبدأ بهم (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ) ... إلى قوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) وهم الأنصار. ثم ذكر الصنف الثالث فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُون) من المشركين.
وقال آخرون: بل هو كلّ باغ بغى فحمد المنتصر منه
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، فى قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُون) قال: ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا.
وهذا القول الثاني أولى في ذلك بالصواب، لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى، بل حمد كلّ منتصر بحقّ ممن بغى عليه.
فإن قال قائل: وما في الانتصار من المدح؟ قيل: إن في إقامة الظالم على سبيل الحقّ وعقوبته بما هو له أهل تقويما له، وفي ذلك أعظم المدح.
وقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) وقد بينا فيما مضى معنى ذلك، وأن معناه: وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه، فهي وإن كانت عقوبة من الله أوجبها عليه، فهي مساءة له. والسيئة: إنما هي الفعلة من السوء، وذلك نظير قول الله عز وجل (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا) وقد قيل: إن معنى ذلك: أن يجاب القائل الكلمة القزعة بمثلها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: قال لي أبو بشر: سمعت. ابن أبي نجيح يقول في قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) قال: يقول أخزاه الله، فيقول: أخزاه الله.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) قال: إذا شتمك بشتمة فاشمته مثلها من غير أن تعتدي.(21/547)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
وكان ابن زيد يقول في ذلك بما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) من المشركين (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ) ... الآية، ليس أمركم أن تعفوا عنهم لأنه أحبهم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) ، ثم نسخ هذا كله وأمره بالجهاد.
فعلى قول ابن زيد هذا تأويل الكلام: وجزاء سيئة من المشركين إليك، سيئة مثلها منكم إليهم، وإن عفوتم وأصلحتم في العفو، فأجركم في عفوكم عنهم إلى الله، إنه لا يحب الكافرين; وهذا على قوله كقول الله عز وجل (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) وللذي قال من ذلك وجه. غير أن الصواب عندنا: أن تحمل الآية على الظاهر ما لم ينقله إلى الباطن ما يجب التسليم لها، ولم يثبت حجة في قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) أنه مراد به المشركون دون المسلمين، ولا بأن هذه الآية منسوخة، فنسلم لها بأن ذلك كذلك.
وقوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) يقول جل ثناؤه: فمن عفا عمن أساء إليه إساءته إليه، فغفرها له، ولم يعاقبه بها، وهو على عقوبته عليها قادر ابتغاء وجه الله، فأجر عفوه ذلك على الله، والله مثيبه عليه ثوابه. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) يقول: إن الله لا يحب أهل الظلم الذين يتعدّون على الناس، فيسيئون إليهم بغير ما أذن الله لهم فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) }(21/548)
يقول تعالى ذكره: ولمن انتصر ممن ظلمه ممن بعد ظلمه إياه (فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) يقول: فأولئك المنتصرون منهم لا سبيل للمنتصر منهم عليهم بعقوبة لا أذى، لأنهم انتصروا منهم بحقّ، ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك له عليه، ولم يتعد، لم يظلم، فيكون عليه سبيل.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك، فقال بعضهم: عني به كلّ منتصر ممن أساء إليه، مسلما كان المسيء أو كافرا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا معاذ، قال: ثنا ابن عون، قال: كنت أسأل عن الانتصار (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) . .. الآية، فحدثني علي بن زيد بن جدعان، عن أمّ محمد امرأة أبيه، قال ابن عون: زعموا أنها كانت تدخل على أمّ المؤمنين قالت: قالت أم المؤمنين: دخل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وعندنا زينب بنت جحش، فجعل يصنع بيده شيئا، ولم يفطن لها، فقلت بيده حتى فطَّنته لها، فأمسك، وأقبلت زينب تقحم (1) عائشة، فنهاها، فأبت أن تنتهي، فقال لعائشة:"سُبيها" فسبتها وغلبتها وانطلقت زينب فأتت عليا، فقالت: إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم، فجاءت فاطمة، فقال لها:"إنها حبة أبيك وربّ الكعبة"، فانصرفت وقالت لعليّ: إني قلت له كذا وكذا، فقال كذا وكذا; قال: وجاء عليّ إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فكلَّمه في ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) ... الآية، قال: هذا في الخمش (2) يكون بين الناس.
__________
(1) في النهاية لابن الأثير في حديث عائشة: أقبلت زينب تقحم لها، أي تتعرض لشتمها، وتدخل عليها فيه؛ كأنها أقبلت تشتمها من غير روية ولا تثبت.
(2) المقصود بالخمش: ما كان دون القتل والدية من قطع أو جدع أو جرح أو ضرب أو نهب ونحو ذلك. من أنواع الأذى التي لا قصاص فيها (انظر النهاية لابن الأثير) .(21/549)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) قال: هذا فيما يكون بين الناس من القصاص، فأما لو ظلمك رجل لم يحلّ لك أن تظلمه.
وقال آخرون: بل عُنِيَ به الانتصار من أهل الشرك، وقال: هذا منسوخ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) قال: لمن انتصر بعد ظلمه من المؤمنين انتصر من المشركين وهذا قد نسخ، وليس هذا في أهل الإسلام، ولكن في أهل الإسلام الذي قال الله تبارك وتعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) .
والصواب من القول أن يقال: إنه معنيّ به كل منتصر من ظالمه، وأن الآية محكمة غير منسوخة للعلة التي بينت في الآية قبلها.
وقوله: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) يقول تبارك وتعالى: إنما الطريق لكم أيها الناس على الذين يتعدّون على الناس ظلما وعدوانا، بأن يعاقبوهم بظلمهم لا على من انتصر ممن ظلمه، فأخذ منه حقه.
وقوله: (وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يقول: ويتجاوزون في أرض الله الحدّ الذي أباح لهم ربهم إلى ما لم يأذن لهم فيه، فيفسدون فيها بغير الحق.
يقول: فهؤلاء الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، لهم عذاب من الله يوم القيامة في جهنم مؤلم موجع.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) }(21/550)
يقول تعالى ذكره: ولمن صبر على إساءة إليه، وغفر للمسيء إليه جرمه إليه، فلم ينتصر منه، وهو على الانتصار منه قادر ابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه. (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) يقول: إن صبره ذلك وغفرانه ذنب المسيء إليه، لمن عزم الأمور التي ندب إليها (1) عباده، وعزم عليهم العمل به. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) يقول: ومن خذله الله عن الرشاد، فليس له من ولي يليه، فيهديه لسبيل الصواب، ويسدده من بعد إضلال الله إياه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وترى الكافرين بالله يا محمد يوم القيامة لما عاينوا عذاب الله يقولون لربهم: (هَلْ) لنا يا رب (إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) وذلك كقوله (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) ... الآية، استعتب المساكين في غير حين الاستعتاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) يقول: إلى الدنيا.
واختلف أهل العربية في وجه دخول"إنَّ" في قوله: (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) مع دخول اللام في قوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) فكان نحوي أهل البصرة يقول في ذلك: أما اللام التي في قوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) فلام الابتداء، وأما إن ذلك فمعناه والله أعلم: إن ذلك منه من عزم الأمور، وقال: قد تقول: مررت بالدار الذراع بدرهم: أي الذراع منها بدرهم، ومررت ببرّ قفيز بدرهم، أي قفيز منه بدرهم. قال: وأما ابتداء"إنَّ" في هذا الموضع، فمثل (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
__________
(1) كذا في الأصول. ولعل فيه تحريفا من الناسخ، وأصل العبارة: الذي ندب إليه، بدليل ما بعده.(21/551)
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) يجوز ابتداء الكلام، وهذا إذا طال الكلام في هذا الموضع.
وكان بعضهم يستخطئ هذا القول ويقول: إن العرب إذا أدخلت اللام في أوائل الجزاء أجابته بجوابات الأيمان بما، ولا وإنَّ واللام: قال: وهذا من ذاك، كما قال: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) فجاء بلا وباللام جوابا للام الأولى. قال: ولو قال: لئن قمت إني لقائم لجاز ولا حاجة به إلى العائد، لأن الجواب في اليمين قد يكون فيه العائد، وقد لا يكون; ألا ترى أنك تقول: لئن قمت لأقومنّ، ولا أقوم، وإني لقائم فلا تأتي بعائد. قال: وأما قولهم: مررت بدار الذراع بدرهم وببرّ قفيز بدرهم، فلا بد من أن يتصل بالأوّل بالعائد، وإنما يحذف العائد فيه، لأن الثاني تبعيض للأولّ مررت ببر بعضه بدرهم، وبعضه بدرهم; فلما كان المعنى التبعيض حذف العائد. قال: وأما ابتداء"إن" فى كل موضع إذا طال الكلام، فلا يجوز أن تبتدئ إلا بمعنى: قل إن الموت الذي تفرّون منه، فإنه جواب للجزاء، كأنه قال: ما فررتم منه من الموت، فهو ملاقيكم.
وهذا القول الثاني عندي أولى في ذلك بالصواب للعلل التي ذكرناها.(21/552)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) }
يقول تعالى ذكره: وترى يا محمد الظالمين يعرضون على النار (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) يقول: خاضعين متذللين.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:(21/552)
الخشوع: الخوف والخشية لله عزّ وجلّ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ: (لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) ... إلى قوله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) قال: قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم وخشعوا له.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (خَاشِعِينَ) قال: خاضعين من الذلّ.
وقوله: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) يقول: ينظر هؤلاء الظالمون إلى النار حين يعرضون عليها من طرف خفي.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) فقال بعضهم: معناه: من طرف ذليل. وكأن معنى الكلام: من طرف قد خَفِيَ من ذلَّةٍ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) ... إلى قوله: (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) يعني بالخفيّ: الذليل.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله عز وجل: (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) قال: ذليل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يسارقون النظر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) قال: يسارقون النظر.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) قال: يسارقون النظر.(21/553)
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
واختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحويي البصرة في ذلك: جعل الطرف العين، كأنه قال: ونظرهم من عين ضعيفة، والله أعلم. قال: وقال يونس: إن (مِنْ طَرْفٍ) مثل بطرف، كما تقول العرب: ضربته في السيف، وضربته بالسيف.
وقال آخر منهم: إنما قيل: (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) لأنه لا يفتح عينيه، إنما ينظر ببعضها.
وقال آخرون منهم: إنما قيل: (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) لأنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم، لأنهم يُحشرُون عُميا.
والصواب من القول في ذلك، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ومجاهد، وهو أن معناه: أنهم ينظرون إلى النار من طرف ذليل، وصفه الله جلّ ثناؤه بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم، حتى كادت أعينهم أن تغور، فتذهب.
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يقول تعالى ذكره: وقال الذين آمنوا بالله ورسوله: إن المغبونين الذين غبنوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة في الجنة.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال: غبنوا أنفسهم وأهليهم في الجنة.
وقوله: (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) يقول تعالى ذكره: ألا إن الكافرين يوم القيامة في عذاب لهم من الله مقيم عليهم، ثابت لا يزول عنهم، ولا يَبيد، ولا يخفّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا(21/554)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) }
يقول تعالى ذكره: ولم يكن لهؤلاء الكافرين حين يعذبهم الله يوم القيامة أولياء يمنعونهم من عذاب الله ولا ينتصرون لهم من ربهم على ما نالهم به من العذاب من دون الله. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) يقول: ومن يخذله عن طريق الحق فما له من طريق إلى الوصول إليه، لأن الهداية والإضلال بيده دون كلّ أحد سواه.
وقوله: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) يقول تعالى ذكره للكافرين به: أجيبوا أيها الناس داعي الله وآمنوا به واتبعوه على ما جاءكم به من عند ربكم. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) يقول: لا شيء يرد مجيئه إذا جاء الله به، وذلك يوم القيامة. (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذ) يقول جلّ ثناؤه: ما لكم أيها الناس من معقل تحترزون فيه، وتلجئون إليه، فتعتصمون به من النازل بكم من عذاب الله على كفركم به، كان في الدنيا (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) يقول: ولا أنتم تقدرون لما يحلّ بكم من عقابه يومئذ على تغييره، ولا على انتصار منه إذا عاقبكم بما عاقبكم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ) قال: من مَحْرَز.
وقوله: (مِنْ نَكِيرٍ) قال: ناصر ينصركم.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذ) تلجئون إليه (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) يقول: من عز تعتزون.(21/555)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ (48) }
يقول تعالى ذكره: فإن أعرض هؤلاء المشركون يا محمد عما أتيتهم به من الحق، ودعوتهم إليه من الرشد، فلم يستجيبوا لك، وأبوا قبوله منك، فدعهم، فإنا لن نرسلك إليهم رقيبا عليهم، تحفظ عليهم أعمالهم وتحصيها. (إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ) يقول: ما عليك يا محمد إلا أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم من الرسالة، فإذا بلغتهم ذلك، فقد قضيت ما عليك. يقول تعالى ذكره: فإنا إذا أغنينا ابن آدم فأعطيناه من عندنا سعة، وذلك هو الرحمة التي ذكرها جلّ ثناؤه، فرح بها: يقول: سر بما أعطيناه من الغنى، ورزقناه من السعة وكثرة المال. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) يقول: وإن أصابتهم فاقة وفقر وضيق عيش. (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يقول: بما أسلفت من معصية الله عقوبة له على معصيته إياه، جحد نعمة الله، وأيس من الخير (فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ) يقول تعالى ذكره: فإن الإنسان جحود نعم ربه، يعدد المصائب ويجحد النعم. وإنما قال: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) فأخرج الهاء والميم مخرج كناية جمع الذكور، وقد ذكر الإنسان قبل ذلك بمعنى الواحد، لأنه بمعنى الجمع.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) }
يقول تعالى ذكره: لله سلطان السموات السبع والأرضين، يفعل في(21/556)
سلطانه ما يشاء، ويخلق ما يحبّ خلقَه، يهب لمن يشاء من خلقه من الولد الإناث دون الذكور، بأن يجعل كل ما حملت زوجته من حمل منه أنثى (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) يقول: ويهب لمن يشاء منهم الذكور، بأن يجعل كل حمل حملته امرأته ذكرا لا أنثى فيهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) قال: يخلط بينهم يقول: التزويج: أن تلد المرأة غلاما، ثم تلد جارية، ثم تلد غلاما، ثم تلد جارية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) قادر والله ربنا على ذلك أن يهب للرجل ذكورا ليست معهم أنثى، وأن يهب للرجل ذكرانا وإناثا، فيجمعهم له جميعا، (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) لا يولد له.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قول الله عزّ وجلّ: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) ليست معهم إناث (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) قال: يهب لهم إناثا وذكرانا، ويجعل من يشاء عقيما لا يُولَد له.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) يقول: لا يُلْقِح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) لا يلد واحدا ولا اثنين.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد الله، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) ليس فيهم أنثى (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) تلد المرأة ذكرا مرّة وأنثى مرّة (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) لا يولد له.(21/557)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
وقال ابن زيد: في معنى قوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) قال: أو يجعل في الواحد ذكرا وأنثى توأما، هذا قوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) .
وقوله: (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يخلق، وقدرة على خلق ما يشاء لا يعزب عنه علم شيء من خلقه، ولا يعجزه شيء أراد خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) }
يقول تعالى ذكره: وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه ربه إلا وحيا يوحي الله إليه كيف شاء، أو إلهاما (1) وإما غيره (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول: أو يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه، كما كلم موسى نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا) يقول: أو يرسل الله من ملائكته رسولا إما جبرائيل، وإما غيره (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) يقول: فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ما يشاء، يعني: ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهي، وغير ذلك من الرسالة والوحي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله عز وجل: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا) يوحي إليه (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) موسى كلمه الله من وراء حجاب، (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) قال: جبرائيل يأتي بالوحي.
__________
(1) كذا في الخط، ولعله إما إلقاء أو إلهاما الخ.(21/558)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا) فيوحي، فقرأته عامة قرّاء الأمصار (فَيُوحِيَ) بنصب الياء عطفا على (يُرْسِلَ) ، ونصبوا (يُرْسِلَ) عطفا بها على موضع الوحي، ومعناه، لأن معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يرسل إليه رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء. وقرأ ذلك نافع المدني"فَيُوحِي" بإرسال الياء بمعنى الرفع عطفا به على (يُرْسِلَ) ، وبرفع (يُرْسِلُ) على الابتداء.
وقوله: (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) يقول تعالى ذكره إنه يعني نفسه جلّ ثناؤه: ذو علو على كل شيء وارتفاع عليه، واقتدار. حكيم: يقول: ذو حكمة في تدبيره خلقه.(21/559)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ (53) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) وكما كنا نوحي في سائر رسلنا، كذلك أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، روحا من أمرنا: يقول: وحيا ورحمة من أمرنا.
واختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع، فقال بعضهم: عنى به الرحمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة،(21/559)
عن الحسن في قوله: (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) قال: رحمة من أمرنا.
وقال آخرون: معناه: وحيا من أمرنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) قال: وحيا من أمرنا.
وقد بيَّنا معنى الروح فيما مضى بذكر اختلاف أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما كنت تدري يا محمد أي شيء الكتاب ولا الإيمان اللذين أعطيناكهما.
(وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) يقول: ولكن جعلنا هذا القرآن، وهو الكتاب نورا، يعني ضياء للناس، يستضيئون بضوئه الذي بين الله فيه، وهو بيانه الذي بين فيه، مما لهم فيه في العمل به الرشاد، ومن النار النجاة (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) يقول: نهدي بهذا القرآن، فالهاء فى قوله"به" من ذكر الكتاب.
ويعني بقوله: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ) : نسدد إلى سبيل الصواب، وذلك الإيمان بالله (مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) يقول: نهدي به من نشاء هدايته إلى الطريق المستقيم من عبادنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) يعني بالقرآن.
وقال جل ثناؤه (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ) فوحد الهاء، وقد ذكر قبل الكتاب والإيمان، لأنه قصد به الخبر عن(21/560)
الكتاب. وقال بعضهم: عنى به الإيمان والكتاب، ولكن وحد الهاء، لأن أسماء الأفعال يجمع جميعها الفعل، كما يقال: إقبالك وإدبارك يعجبني، فيوحدهما وهما اثنان.
وقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وإنك يا محمد لتهدي إلى صراط مستقيم عبادنا، بالدعاء إلى الله، والبيان لهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال تبارك وتعالى (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) داع يدعوهم إلى الله عز وجل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال: لكل قوم هاد.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: تدعو إلى دين مستقيم.
يقول جلّ ثناؤه: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، وهو الإسلام، طريق الله الذي دعا إليه عباده، الذي له ملك جميع ما في السموات وما في الأرض، لا شريك له في ذلك. والصراط الثاني: ترجمة عن الصراط الأول.
وقوله جلّ ثناؤه: (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ) يقول جلّ ثناؤه: ألا إلى الله أيها الناس تصير أموركم في الآخرة، فيقضي بينكم بالعدل.
فإن قال قائل: أو ليست أمورهم في الدنيا إليه؟ قيل: هي وإن كان إليه تدبير جميع ذلك، فإن لهم حكاما وولاة ينظرون بينهم، وليس لهم يوم القيامة حاكم ولا سلطان غيره، فلذلك قيل: إليه تصير الأمور هنالك وإن كانت الأمور كلها إليه وبيده قضاؤها وتدبيرها في كلّ حال.
آخر تفسير سورة حم عسق(21/561)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
تفسير سورة الزخرف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) }
قد بينَّا فيما مضى قوله (حم) بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) قسم من الله تعالى أقسم بهذا الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) لمن تدبَّره وفكَّر في عبره وعظاته هداه ورشده وأدلته على حقيته، وأنه تنزيل من حكيم حميد، لا اختلاق من محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولا افتراء من أحد (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) يقول: إنا أنزلناه قرآنا عربيا بلسان العرب، إذا كنتم أيها المنذرون به من رهط محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عربا (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يقول: معانيه وما فيه من مواعظ، ولم ينزله بلسان العجم، فيجعله أعجميا، فتقولوا نحن: نحن عرب، وهذا كلام أعجمي لا نفقه معانيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) هو هذا الكتاب المبين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) مبين والله بركته، وهداه ورشده.(21/562)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) }
يقول تعالى ذكره: وإن هذا الكتاب أصل الكتاب الذي منه نسخ هذا الكتاب عندنا لعليّ: يقول: لذو علوّ ورفعة، حكيم: قد أحكمت آياته، ثم فصلت فهو ذو حكمة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن القاسم بن أبي بزة، قال: ثنا عروة بن عامر، أنه سمع ابن عباس يقول: أول ما خلق الله القلم، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق، قال: والكتاب عنده، قال: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) . يعني القرآن في أمّ الكتاب الذي عند الله منه نسخ.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية بن سعد في قول الله تبارك وتعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) يعني القرآن في أمّ الكتاب الذي عند الله منه نسخ.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت مالكا يروي عن عمران، عن عكرمة (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا) قال: أمّ الكتاب القرآن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا) قال: أمّ الكتاب: أصل الكتاب وجملته.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ) : أي جملة الكتاب أي أصل الكتاب.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ) يقول: في الكتاب الذي عند الله في الأصل.(21/566)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
وقوله: (لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) وقد ذكرنا معناه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) يخبر عن منزلته وفضله وشرفه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: أفنضرب عنكم ونترككم أيها المشركون فيما تحسبون، فلا نذكركم بعقابنا من أجل أنكم قوم مشركون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) قال: تكذّبون بالقرآن ثم لا تعاقبون عليه.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: اخبرنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) قال: بالعذاب.
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) قال: أفنضرب عنكم العذاب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني(21/567)
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) يقول: أحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أفنترك تذكيركم بهذا القرآن، ولا نذكركم به، لأن كنتم قوما مسرفين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) : أي مشركين، والله لو كان هذا القرآن رفع حين ردّه أوائل هذه الأمة لهلكوا، فدعاهم إليه عشرين سنة، أو ما شاء الله من ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) قال: لو أن هذه الأمة لم يؤمنوا لضرب عنهم الذكر صفحا، قال: الذكر ما أنزل عليهم مما أمرهم الله به ونهاهم صفحا، لا يذكر لكم منه شيئا.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوّله: أفنضرب عنكم العذاب فنترككم ونعرض عنكم، لأن كنتم قوما مسرفين لا تؤمنون بربكم.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تبارك وتعالى أتبع ذلك خبره عن الأمم السالفة قبل الأمم التي توعدها بهذه الآية في تكذيبها رسلها، وما أحل بها من نقمته، ففي ذلك دليل على أن قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) وعيد منه للمخاطبين به من أهل الشرك، إذ سلكوا في التكذيب بما جاءهم عن الله رسولهم مسلك الماضين قبلهم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة"إنْ كُنْتُمْ" بكسر الألف من"إن" بمعنى: أفنضرب عنكم الذكر صفحا إذ كنتم قوما مسرفين. وقرأه بعض قرّاء أهل مكة والكوفة وعامة قرّاء البصرة"أنْ" بفتح الألف من"أنْ"، بمعنى: لأن كنتم.(21/568)
واختلف أهل العربية في وجه فتح الألف من أن في هذا الموضع، فقال بعض نحويي البصرة: فتحت لأن معنى الكلام: لأن كنتم. وقال بعض نحويي الكوفة: من فتحها فكأنه أراد شيئا ماضيا، فقال: وأنت تقول في الكلام: أتيت أن حرمتني، تريد: إذ حرمتني، ويكسر إذا أردت: أتيت إن تحرمني. ومثله: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ) و (أنْ صَدُّوكُمْ) بكسر وبفتح.
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) قال: والعرب تنشد قول الفرزدق?
أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قُتَيْبَةَ حُزَّتا ... جِهارًا وَلمْ تَجْزَعْ لقَتْلِ ابنِ حَازِمِ (1)
قال: وينشد?
أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخَلِيطُ المُوَدّعُ ... وَحَبْلُ الصَّفَا مِنْ عَزَّةَ المُتَقَطِّعُ (2)
__________
(1) البيت من شواهد النحويين ومن شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 294) قال عند قوله تعالى في سورة الزخرف: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم (قرأ الأعمش: (إن كنتم) بالكسر. وقرأ عاصم والحسن (أن كنتم) بفتح أن، كأنهم أرادوا شيئا ماضيا، وأنت تقول في الكلام: أأسبك أن حرمتني، وتكسر إذا أردت: أأسبك إن تحرمني؟ ومثله: (لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم) تكسر إن وتفتح ومثله (فعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا) . والعرب تنشد. قول الفرزدق" أتجزع إن أذنا قتيبة ... " البيت. بالفتح والكسر. ورواية البيت في شرح شواهد المغني للسيوطي:" أتغضب" في مكان" أتجزع" قال: وضمير تغضب راجع على قيس. والحز: القطع. وابن خازم: عبد الله بن خازم، بمعجمتين، كما ضبطه الدارقطني وغيره أمير خراسان، وليها سنتين، ثم ثار به أهل خرسان، فقتلوه، وحملوا رأسه إلى عبد الملك بن مروان. وقتيبة بن مسلم الباهلي، من أكبر قواد المسلمين، وفاتحي بلاد الشرق، وهو الذي افتتح خوارزم وسمرقند وبخارى. وقتل سنة سبع وتسعين رحمه الله. والظاهر أن قول المؤلف" أتيت أن حرمتني". فيه تصحيف من الناسخ لقول الفراء في معاني القرآن" أأسبك حرمتني".
(2) البيت لكثير عزة، وهو من شواهد الفراء أورده بعد الشاهد السابق، قال: أنشدوني" أتجزع أن بان" ... البيت. ثم قال: وفي كل واحد من البيتين، ما في صاحبه من الفتح والكسر.(21/569)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
قال: وفي كل واحد من البيتين ما في صاحبه من الكسر والفتح.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الكسر والفتح في الألف في هذا الموضع قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن العرب إذا تقدم"أن" وهي بمعنى الجزاء فعل مستقبل كسروا ألفها أحيانا، فمحضوا لها الجزاء، فقالوا: أقوم إن قمت، وفتحوها أحيانا، وهم ينوون ذلك المعنى، فقالوا: أقوم أن قمت بتأويل، لأن قمت، فإذا كان الذي تقدمها من الفعل ماضيا لم يتكلموا إلا بفتح الألف من"أن" فقالوا: قمت أن قمت، وبذلك جاء التنزيل، وتتابع شعر الشعراء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ) يا محمد في القرون الأولين الذين مضوا قبل قرنك الذي بعثت فيه كما أرسلناك في قومك من قريش. (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) يقول وما كان يأتي قرنا من أولئك القرون وأمة من أولئك الأمم الأولين لنا من نبيّ يدعوهم إلى الهدى وطريق الحق، إلا كان الذين يأتيهم ذلك من تلك الأمم نبيهم الذي أرسله إليهم يستهزئون سخرية منهم بهم كاستهزاء قومك بك يا محمد. يقول: فلا يعظمن عليك ما يفعل بك قومك، ولا يشقنّ عليك، فإنهم إنما سلكوا في استهزائهم بك مسلك أسلافهم، ومنهاج أئمتهم الماضين من أهل الكفر بالله.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ (8) }(21/570)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
يقول تعالى ذكره: فأهلكنا أشدّ من هؤلاء المستهزئين بأنبيائهم بطشا إذا بطشوا فلم يعجزونا بقواهم وشدة بطشهم، ولم يقدروا على الامتناع من بأسنا إذ أتاهم، فالذين هم أضعف منهم قوة أحرى أن لا يقدروا على الامتناع من نقمنا إذا حلَّت بهم. يقول جلّ ثناؤه: ومضى لهؤلاء المشركين المستهزئين بك ولمن قبلهم من ضربائهم مثلنا لهم في أمثالهم من مكذّبي رسلنا الذين أهلكناهم، يقول: فليتوقع هؤلاء الذين يستهزئون بك يا محمد من عقوبتنا مثل الذي أحللناه بأولئك الذين أقاموا على تكذيبك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ) قال: عقوبة الأولين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مَثَلُ الأوَّلِينَ) قال: سُنتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك: من خلق السموات السبع والأرضين، فأحدثهن وأنشأهن؟ ليقولنّ: خلقهنّ العزيز في سلطانه(21/571)
وانتقامه من أعدائه، العليم بهن وما فيهنّ من الأشياء، لا يخفى عليه شيء. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا)
يقول: الذي مهد لكم الأرض، فجعلها لكم وطاء توطئونها بأقدامكم، وتمشون عليها بأرجلكم. (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا) يقول: وسهل لكم فيها طرقا تتطرّقونها من بلدة إلى بلدة، لمعايشكم ومتاجركم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا) أي طرقا. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا) قال: بساطا (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا) قال: الطرق. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) يقول: لكي تهتدوا بتلك السبل إلى حيث أردتم من البلدان والقرى والأمصار، لولا ذلك لم تطيقوا براح أفنيتكم ودوركم، ولكنها نعمة أنعم بها عليكم.(21/572)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره: (وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ) يعني: ما نزل جلّ ثناؤه من الأمطار من السماء بقدر: يقول: بمقدار حاجتكم إليه، فلم يجعله كالطوفان، فيكون عذابا كالذي أنزل على قوم نوح، ولا جعله قليلا لا ينبت به النبات والزرع من قلته، ولكن جعله غيثا، حيا للأرض الميتة محييا. (فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) يقول جلّ ثناؤه: فأحيينا به بلده من بلادكم ميتا، يعني مجدبة لا نبات بها ولا زرع، قد درست من الجدوب، وتعفنت من القحوط (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) يقول تعالى ذكره:(21/572)
كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزلناه من السماء من هذه البلدة الميتة بعد جدوبها وقحوطها النبات والزرع، كذلك أيها الناس تخرجون من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض رفاتًا بالماء الذي أنزله إليها لإحيائكم من بعد مماتكم منها أحياء كهيئتكم التي بها قبل مماتكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ) .... الآية، كما أحيا الله هذه الأرض الميتة بهذا الماء كذلك تبعثون يوم القيامة.
وقيل: أنشرنا به، لأن معناه: أحيينا به، ولو وصفت الأرض بأنها أحييت، قيل: نشرت الأرض، كما قال الأعشى:?
حتى يَقُولَ النَّاسُ ممَّا رأوْا يا عَجَبا للْمَيِّتِ النَّاشِرِ (1)
وقوله: (وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا) يقول تعالى ذكره: والذي خلق كلّ شيء فزوّجه، أي (2) خلق الذكور من الإناث أزواجا، الإناث من الذكور
__________
(1) البيت للأعشى ميمون بن قيس من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة ويمدح عامر بن الطفيل، في المنافرة التي جرت بينهما (ديوانه 139) وعلقمة بن علاثة صحابي، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شيخ، فأسلم وبايع. والبيت: من شواهد (أبي عبيدة في مجاز القرآن الورقة 220 - 1) عند قوله تعالى في سورة الزخرف: (فأنشرنا به بلدة ميتا) قال: أحيينا. ونشرت الأرض: حييت، قال الأعشى:" حتى يقول ... " البيت. وفي (اللسان: نشر) : ونشر الله الميت ينشره نشرا ونشورا. وأنشره، أحياه فنشر هو، قال الأعشى:" حتى يقول الناس ... البيت". اهـ.
(2) في الأصل: أن. ولعله من تحريف الناسخ.(21/573)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
أزواجا (لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ) وهي السفن (وَالأنْعَامِ) وهي البهائم (مَا تَرْكَبُونَ) يقول: جعل لكم من السفن ما تركبونه في البحار إلى حيث قصدتم واعتمدتم في سيركم فيها لمعايشكم ومطالبكم، ومن الأنعام ما تركبونه في البر إلى حيث أردتم من البلدان، كالإبل والخيل والبغال والحمير.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره: كي تستوا على ظهور ما تركبون.
واختلف أهل العربية في وجه توحيد الهاء في قوله: (عَلَى ظُهُورِهِ) وتذكيرها، فقال بعض نحويي البصرة: تذكيره يعود على ما تركبون، وما هو مذكر، كما يقال: عندي من النساء من يوافقك ويسرك، وقد تذكر الأنعام وتؤنث. وقد قال في موضع آخر: (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) وقال في موضع آخر: (بُطُونِهَا) وقال بعض نحوييّ الكوفة: أضيفت الظهور إلى الواحد، لأن ذلك الواحد في معنى جمع بمنزلة الجند والجيش. قال: فإن قيل: فهلا قلت: لتستووا على ظهره، فجعلت الظهر واحدا إذا أضفته إلى واحد. قلت: إن الواحد فيه معنى الجمع، فردّت الظهور إلى المعنى، ولم يقل ظهره، فيكون كالواحد الذي معناه ولفظه واحد. وكذلك تقول: قد كثر نساء الجند، وقلت: ورفع الجند أعينه ولم يقل عينه. قال: وكذلك كلّ ما أضفت إليه من الأسماء الموصوفة، فأخرجها على الجمع، وإذا أضفت إليه اسما في معنى فعل جاز جمعه وتوحيده، مثل قولك: رفع العسكر صوتَه، وأصواته أجود وجاز هذا لأن الفعل لا صورة له في الاثنين إلا الصورة في الواحد.
وقال آخر منهم: قيل: لتستووا على ظهره، لأنه وصف للفلك،(21/574)
ولكنه وحد الهاء، لأن الفلك بتأويل جمع، فجمع، الظهور ووحد الهاء، لأن أفعال كل واحد تأويله الجمع توحد وتجمع مثل: الجند منهزم ومنهزمون، فإذا جاءت الأسماء خرج على الأسماء لا غير، فقلت: الجند رجال، فلذلك جمعت الظهور ووحدت الهاء، ولو كان مثل الصوت وأشباهه جاز الجند رافع صوته وأصواته.
قوله: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) يقول تعالى ذكره: ثم تذكروا نعمة ربكم التي أنعمها عليكم بتسخيره ذلك لكم مراكب في البر والبحر (إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) فتعظموه وتمجدوه، وتقولوا تنزيها لله الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه من هذه الفلك والأنعام، مما يصفه به المشركون، وتشرك معه في العبادة من الأوثان والأصنام (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهباري، قالا ثنا المحاربيّ، عن عاصم الأحول، عن أبي هاشم عن أبي مجلز، قال: ركبت دابة، فقلت: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ، فسمعني رجل من أهل البيت; قال أبو كُرَيب والهباريّ: قال المحاربيّ: فسمعت سفيان يقول: هو الحسن بن علي رضوان الله تعالى عليهما، فقال: أهكذا أمرت؟ قال: قلت: كيف أقول؟ قال: تقول الحمد لله الذي هدانا الإسلام، الحمد لله الذي من علينا بمحمد عليه الصلاة والسلام، الحمد لله الذي جعلنا في خير أمة أُخرجت للناس، فإذا أنت قد ذكرت نعما عظاما، ثم يقول بعد ذلك (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) .(21/575)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، أن الحسن بن عليّ رضى الله عنه، رأى رجلا ركب دابة، فقال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا، ثم ذكر نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك تقولون: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وإذا ركبتم الإبل قلتم: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) ويعلمكم ما تقولون إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعا تقولون: اللهمّ أنزلنا منزلا مباركًا وأنت خير المنزلين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه كان إذا ركب قال: اللهمّ هذا من منك وفضلك، ثم يقول: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) .
وقوله: (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) وما كنا له مطيقين ولا ضابطين، من قولهم: قد أقرنت لهذا: إذا صرت له قرنا وأطقته، وفلان مقرن لفلان: أي ضابط له مُطِيق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) يقول: مطيقين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ: (مُقْرِنِينَ) قال: الإبل والخيل والبغال والحمير.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مُطِيقين، لا والله لا في الأيدي ولا في القوّة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) قال: في القوّة.(21/576)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) قال: مُطِيقين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله جلّ ثناؤه: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) قال: لسنا له مطيقين، قال: لا نطيقها إلا بك، لولا أنت ما قوينا عليها ولا أطقناها.
وقوله: (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) يقول جلّ ثناؤه: وليقولوا أيضا: وإنا إلى ربنا من بعد مماتنا لصائرون إليه راجعون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) }
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيبا، وذلك قولهم للملائكة: هم بنات الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني في محمد بن عمرو، قال: ثنا عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) قال: ولدا وبنات من الملائكة.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) قال: البنات.
وقال آخرون: عنى بالجزء ها هنا: العدل.(21/577)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) : أي عدلا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) : أي عدلا.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لأن الله جلّ ثناؤه أتبع ذلك قوله: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) توبيخًا لهم على قولهم ذلك، فكان معلوما أن توبيخه إياهم بذلك إنما هو عما أخبر عنهم من قيلهم ما قالوا في إضافة البنات إلى الله جلّ ثناؤه.
وقوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لذو جحد لنعم ربه التي أنعمها عليه مبين: يقول: يبين كفرانه نعمه عليه، لمن تأمله بفكر قلبه، وتدبر حاله.
وقوله: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ) يقول جلّ ثناؤه موبخا هؤلاء المشركين الذين وصفوه بأن الملائكة بناته: اتخذ ربكم أيها الجاهلون مما يخلق بنات، وأنتم لا ترضون لأنفسكم، وأصفاكم بالبنين. يقول: وأخلصكم بالبنين، فجعلهم لكم. (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا) يقول تعالى ذكره: وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين الجاعلين لله من عباده حزءا بما ضرب للرحمن مثلا يقول: بما مثل لله، فشبهه شبها، وذلك ما وصفه به من أن له بنات.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا) قال: ولدا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (بِمَا(21/578)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا) بما جعل لله.
وقوله: (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) يقول تعالى ذكره: ظلّ وجه هذا الذي بشَّر بما ضرب للرحمن مثلا من البنات مسودّا من سوء ما بشر به. (وَهُوَ كَظِيمٌ) يقول: وهو حزين.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَهُوَ كَظِيمٌ) : أي حزين.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) }
يقول تعالى ذكره: أو من ينبت في الحلية ويزين بها (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ) يقول: وهو في مخاصمة من خاصمه عند الخصام غير مبين، ومن خصمه ببرهان وحجة، لعجزه وضعفه، جعلتموه جزء الله من خلقه وزعمتم أنه نصيبه منهم، وفي الكلام متروك استغنى بدلالة ما ذكر منه وهو ما ذكرت.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) ، فقال بعضهم: عُنِي بذلك الجواري والنساء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) قال: يعني المرأة.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن علقمة، عن مرثد، عن مجاهد، قال: رخص للنساء في الحرير والذهب، وقرأ (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) قال: يعني المرأة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: قال ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني(21/579)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) قال: الجواري جعلتموهنّ للرحمن ولدا، كيف تحكمون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) قال: الجواري يسفههنّ بذلك، غير مبين بضعفهنّ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) يقول: جعلوا له البنات وهم إذا بشِّر أحدهم بهنّ ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم. قال: وأما قوله: (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) يقول: قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) قال: النساء.
وقال آخرون: عُنِي بذلك أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) ... الآية، قال: هذه تماثيلهم التي يضربونها من فضة وذهب يعبدونها هم الذين أنشئوها، ضربوها من تلك الحلية، ثم عبدوها (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) قال: لا يتكلم، وقرأ (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك الجواري والنساء، لأن ذلك عقيب خبر الله عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات، وقلة معرفتهم بحقه، وتحليتهم إياه من الصفات والبخل، وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم، والمنعم عليهم النعم التي عددها في أول هذه السورة ما لا(21/580)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
يرضونه لأنفسهم، فاتباع ذلك من الكلام ما كان نظيرا له أشبه وأولى من اتباعه ما لم يجر له ذكر.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين والكوفيين"أوْ مَنْ يَنْشَأُ" بفتح الياء والتخفيف من نَشَأَ ينشأ. وقرأته عامة قرّاء الكوفة (يُنَشَّأُ) بضم الياء وتشديد الشين من نَشَّأْتُهُ فهو يُنَشَّأُ. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار، متقاربتا المعنى، لأن المُنَشَّأ من الإنشاء ناشئ، والناشئ منشأ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله"أوَ مَنْ لا يُنشَّأُ إلا فِي الحلْية"، وفي"من" وجوه من الإعراب الرفع على الاستئناف والنصب على إضمار يجعلون كأنه قيل: أو من ينشأ في الحلية يجعلون بنات الله. وقد يجوز النصب فيه أيضا على الردّ على قوله: أم اتخذ مما يخلق بنات أو من ينشأ في الحلية، فيردّ"من" على البنات، والخفض على الردّ على"ما" التي في قوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون بالله ملائكته الذين هم عباد الرحمن.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة"الذين هم عند الرحمن" بالنون، فكأنهم تأولوا في ذلك قول الله جلّ ثناؤه: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ) فتأويل الكلام على هذه القراءة: وجعلوا ملائكة الله الذين هم عنده يسبحونه ويقدسونه إناثا، فقالوا: هم بنات الله جهلا منهم بحق الله، وجرأة منهم على قيل الكذب والباطل. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة(21/581)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) بمعنى: جمع عبد. فمعنى الكلام على قراءة هؤلاء: وجعلوا ملائكة الله الذين هم خلقه وعباده بنات الله، فأنثوهم بوصفهم إياهم بأنهم إناث.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن الملائكة عباد الله وعنده.
واختلفوا أيضًا في قراءة قوله: (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة"أشهدوا خلقهم" بضم الألف، على وجه ما لم يسمّ فاعله، بمعنى: أأشهد الله هؤلاء المشركين الجاعلين ملائكة الله إناثا، خلق ملائكته الذين هم عنده، فعلموا ما هم، وأنهم إناث، فوصفوهم بذلك، لعلمهم بهم، وبرؤيتهم إياهم، ثم رد ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله.
وقرئ بفتح الألف، بمعنى: أشهدوا هم ذلك فعلموه؟ والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ) يقول تعالى ذكره: ستكتب شهادة هؤلاء القائلين: الملائكة بنات الله في الدنيا، بما شهدوا به عليهم، ويسألون عن شهادتهم تلك في الآخرة أن يأتوا ببرهان على حقيقتها، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون من قريش: لو شاء الرحمن ما عبدنا أوثاننا التي نعبدها من دونه، وإنما لم يحلّ بنا عقوبة على عبادتنا إياها(21/582)
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
لرضاه منا بعبادتناها.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) للأوثان يقول الله عزّ وجلّ. (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) يقول: ما لهم بحقيقة ما يقولون من ذلك من علم، وإنما يقولونه تخرّصا وتكذّبا، لأنهم لا خبر عندهم مني بذلك ولا بُرْهان. وإنما يقولونه ظنا وحسبانا. (إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) يقول: ما هم إلا متخرّصون هذا القول الذي قالوه، وذلك قولهم (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) .
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك، ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) ما يعلمون قُدرة الله على ذلك.
وقوله: (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ) يقول تعالى ذكره ما (1) آتينا هؤلاء المتخرّصين القائلين لو شاء الرحمن ما عبدنا الآلهة كتابا بحقيقة ما يقولون من ذلك، من قبل هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد. (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) يقول: فهم بذلك الكتاب الذي جاءهم من عندي من قبل هذا القرآن، مستمسكون يعملون به، ويدينون بما فيه، ويحتجون به عليك.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره: ما آتينا هؤلاء القائلين: لو شاء الرحمن ما عبدنا هؤلاء
__________
(1) ما: ساقطة من المطبوعة.(21/583)
الأوثان بالأمر بعبادتها، كتابا من عندنا، ولكنهم قالوا: وجدنا آباءنا الذين كانوا قبلنا يعبدونها، فنحن نعبدها كما كانوا يعبدونها; وعنى جلّ ثناؤه بقوله: (بَلْ (1) وَجَدْنَا آباءنَا على أُمَّةٍ) . بل وجدنا آباءنا على دين وملة، وذلك هو عبادتهم الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (عَلَى أُمَّةٍ) : مِلَّة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) يقول: وجدنا آباءنا على دين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) قال: قد قال ذلك مشركو قريش: إنا وجدنا آباءنا على دين.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط عن السديّ (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) قال: على دين.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (عَلَى أُمَّةٍ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار (عَلَى أُمَّةٍ) بضم الألف بالمعنى الذي وصفت من الدين والملة والسنة. وذُكر عن مجاهد وعمر بن عبد العزيز أنهما قرأاه"على إمَّةٍ" بكسر الألف. وقد اختلف في معناها إذا كسرت ألفها، فكان بعضهم يوجه تأويلها إذا كسرت على أنها الطريقة وأنها مصدر من قول القائل: أممت القوم فأنا أؤمهم إمَّة. وذُكر عن العرب سماعا:
__________
(1) التلاوة: (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة) .(21/584)
ما أحسن عمته وإمته وجلسته إذا كان مصدرا. ووجهه بعضهم إذا كُسرت ألفها إلى أنها الإمة التي بمعنى النعيم والمُلك، كما قال عدي بن زيد. ثُمَّ بَعْدَ الفَلاحِ والمُلْكِ والإم ... ة وَارَتهُمْ هُناكَ القُبور (1)
وقال: أراد إمامة الملك ونعيمه. وقال بعضهم: (الأمَّة بالضم، والإمَّة بالكسر بمعنى واحد) .
والصواب من القراءة في ذلك الذي لا أستجيز غيره: الضم في الألف لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وأما الذين كسروها فإني لا أراهم قصدوا بكسرها إلا معنى الطريقة والمنهاج، على ما ذكرناه قبل، لا النعمة والملك، لأنه لا وجه لأن يقال: إنا وجدنا آباءنا على نعمة ونحن لهم متبعون في ذلك، لأن الاتباع إنما يكون في الملل والأديان وما أشبه ذلك لا في الملك والنعمة، لأن الاتباع في الملك ليس بالأمر الذي يصل إليه كلّ من أراده.
وقوله: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) يقول: وإنا على آثار آبائنا فيما كانوا عليه من دينهم مهتدون، يعني: لهم متبعون على منهاجهم.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) يقول: وإنا على دينهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّا عَلَى
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي (اللسان: أمم) وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن، عند قوله تعالى (إنا وجدنا آباءنا على أمة) (الورقة 294) قال: قرأها القراء بضم الألف من" أمة"، وكسرها مجاهد، وعمر بن عبد العزيز. وكأن الإمة: الطريقة، والمصدر من أممت القوم؛ فإن العرب تقول: ما أحسن إمته وعمته وجلسته، إذا كان مصدرا. والأمة أيضا: الملك والنعيم. قال عدي:" ثم بعد الفلاج ... " البيت. فكأنه أراد إمامة الملك ونعيمه. اهـ. وفي اللسان: والأمة (بالضم) والكسر الدين. والأمة (بالكسر) لغة في الأمة (بالضم) وهي الطريقة والدين. اهـ.(21/585)
آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) يقول: وإنا متبعوهم على ذلك.(21/586)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره: وهكذا كما فعل هؤلاء المشركون من قريش فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله، وقالوا مثل قولهم، لم نرسل من قبلك يا محمد في قرية، يعني إلى أهلها رسلا تنذرهم عقابنا على كفرهم بنا فأنذروهم وحذروهم سخطنا، وحلول عقوبتنا بهم (إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا) ، وهم رؤساؤهم وكبراؤهم.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا) قال: رؤساؤهم وأشرافهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا) قادتهم ورءوسهم فى الشرك.
وقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) يقول: قالوا: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ) يعني: وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون بفعلهم نفعل كالذي فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون; يقول جلّ ثناؤه لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فإنما سلك مشركو قومك منهاج من قبلهم من إخوانهم من أهل الشرك بالله في إجابتهم إياك بما أجابوك به، وردّهم ما ردّوا عليك من النصيحة، واحتجاجهم بما احتجوا به لمُقامهم على دينهم الباطل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/586)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) قال بفعلهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) فاتبعوهم على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، القائلين إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) أيها القوم من عند ربكم (بِأَهْدَى) إلى طريق الحق، وأدل لكم على سبيل الرشاد (مِمَّا وَجَدْتُمْ) أنتم عليه آبائكم من الدين والمِلَّة. (قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) يقول: فقال ذلك لهم، فأجابوه بأن قالوا له كما قال الذين من قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها لأنبيائها: إنا بما أرسلتم به يا أيها القوم كافرون، يعني: جاحدون منكرون.
وقرأ ذلك قرّاء الأمصار سوى أبي جعفر " قل أولو جئتكم " بالتاء. وذُكر عن أبي جعفر القارئ أنه قرأه"قُلْ أوَ لَوْ جِئْنَاكُمْ" بالنون والألف.
والقراءة عندنا ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) }(21/587)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
يقول تعالى ذكره: فانتقمنا من هؤلاء المكذّبة رسلها من الأمم الكافرة بربها، بإحلالنا العقوبة بهم، فانظر يا محمد كيف كان عقبى أمرهم، إذ كذّبوا بآيات الله. ويعني بقوله: (عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) آخر أمر الذين كذبوا رسل الله إلام صار، يقول: ألم نهلكهم فنجعلهم عبرة لغيرهم؟
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) قال: شر والله، أخذهم بخسف وغرق، ثم أهلكهم فأدخلهم النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ) الذين كانوا يعبدون ما يعبده مشركو قومك يا محمد (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) من دون الله، فكذّبوه، فانتقمنا منهم كما انتقمنا ممن قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها. وقيل: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) فوضع البراء وهو مصدر موضع النعت، والعرب لا تثني البراء ولا تجمع ولا تؤنث، فتقول: نحن البراء والخلاء: لِما ذكرت أنه مصدر، وإذا قالوا: هو بريء منك ثنوا وجمعوا وأنَّثوا، فقالوا: هما بريئان منك، وهم بريئون منك. وذُكر أنها في قراءة عبد الله:"إنَّنِي بَرِيءٌ" بالياء، وقد يجمع برئ: براء وأبراء. (إِلا الَّذِي فَطَرَنِي) يقول: إني بريء مما تعبدون من شيء إلا من الذي فطرني، يعني الذي خلقني (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) يقول: فإنه سيقومني للدين الحقّ، ويوفقني لاتباع سبيل الرشد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/588)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ) ... الآية، قال: كايدهم، كانوا يقولون: إن الله ربنا (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فلم يبرأ من ربه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) يقول: إنني بريء مما تعبدون"إلا الذي خلقني".
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِلا الَّذِي فَطَرَنِي) قال: خلقني. وقوله: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) يقول تعالى ذكره: وجعل قوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي) وهو قول: لا إله إلا الله، كلمة باقية في عقبه، وهم ذريّته، فلم يزل فى ذريّته من يقول ذلك من بعده.
واختلف أهل التأويل في معنى الكلمة التي جعلها خليل الرحمن باقية في عقبه، فقال بعضهم: بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) قال: لا إله إلا الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً) قال: شهادة أن لا إله إلا الله، والتوحيد لم يزل في ذريته من يقولها من بعده.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) قال: التوحيد والإخلاص، ولا يزال في ذريّته من يوحد الله ويعبده.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) قال: لا إله إلا الله.
وقال آخرون: الكلمة التي جعلها الله في عقبه اسم(21/589)
الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) فقرأ (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: جعل هذه باقية في عقبه، قال: الإسلام، وقرأ (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) فقرأ (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)
وبنحو ما قلنا في معنى العقب قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فِي عَقِبِهِ) قال: ولده.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) قال: يعني من خلَفه.
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فِي عَقِبِهِ) قال: في عقب إبراهيم آل محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا ابن أبي فديك، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب أنه كان يقول: العقب: الولد، وولد الولد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (فِي عَقِبِهِ) قال: عقبه: ذرّيته.
وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يقول: ليرجعوا إلى طاعة ربهم، ويثوبوا إلى عبادته، ويتوبوا من كفرهم وذنوبهم.(21/590)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : أي يتوبون، أو يذَّكرون.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) }
يقول تعالى ذكره: (بَلْ مَتَّعْتُ) يا محمد (هَؤُلاءِ) المشركين من قومك (وَآبَاءَهُمْ) من قبلهم بالحياة، فلم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم (حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ) يعني جلّ ثناؤه بالحقّ: هذا القرآن: يقول: لم أهلكهم بالعذاب حتى أنزلت عليهم الكتاب، وبعثت فيهم رسولا مبينا. يعني بقوله: (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) : محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والمبين: أنه يبين لهم بالحجج التي يحتج بها عليهم أنه لله رسول محقّ فيما يقول (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ) يقول جلّ ثناؤه: ولما جاء هؤلاء المشركين القرآنُ من عند الله، ورسول من الله أرسله إليهم بالدعاء إليه (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ) يقول: هذا الذي جاءنا به هذا الرسول سحر يسحرنا به، ليس بوحي من الله (وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ) يقول: قالوا: وإنا به جاحدون، ننكر أن يكون هذا من الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ) قال: هؤلاء قريش قالوا القرآن الذي جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: هذا سحر.(21/591)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) }
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش لما جاءهم القرآن من عند الله: هذا سحر، فإن كان حقا فهلا نزل على رجل عظيم من إحدى هاتين القريتين مكة أو الطائف.
واختلف في الرجل الذي وصفوه بأنه عظيم، فقالوا: هلا نزل عليه هذا القرآن، فقال بعضهم: هلا نزل على الوليد بن المُغيرة المخزومي من أهل مكة، أو حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من أهل الطائف؟.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال: يعني بالعظيم: الوليد بن المغيرة القرشيّ، أو حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وبالقريتين: مكة والطائف.
وقال آخرون: بل عُنِي به عُتْبةُ بن ربيعة من أهل مكة، وابن(21/592)
عبد ياليل، من أهل الطائف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال عتبة بن ربيعة من أهل مكة، وابن عبد ياليل الثقفي من الطائف.
وقال آخرون: بل عني به من أهل مكة: الوليد بن المُغيرة، ومن أهل الطائف: ابن مسعود (1) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال: الرجل: الوليد بن المغيرة، قال: لو كان ما يقول محمد حقا أنزل عليّ هذا، أو على ابن مسعود الثقفي، والقريتان: الطائف ومكة، وابن مسعود الثقفي من الطائف اسمه عروة بن مسعود.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) والقريتان: مكة والطائف; قال: قد قال ذلك مشركو قريش، قال: بلغنا أنه ليس فخذ من قريش إلا قد ادّعته، وقالوا: هو منا، فكنا نحدّث أن الرجلين: الوليد بن المغيرة، وعروة الثقفي أبو مسعود، يقولون: هلا كان أنزل على أحد هذين الرجلين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب: قال ابن زيد، في قوله: (لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال: كان أحد العظيمين عروة بن مسعود الثقفي، كان عظيم أهل الطائف.
وقال آخرون: بل عني به من أهل مكة: الوليد بن المغيرة، ومن أهل الطائف: كنانة بن عَبد بنِ عمرو.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال: الوليد بن المغيرة
__________
(1) هو عروة بن مسعود الثقفي، كما تكرر في الروايات، لا أبو مسعود، كما في هذه الرواية؛ فلعلها من تحريف الناسخ.(21/593)
القرشي، وكنانة بن عبد بن عمرو بن عمير، عظيم أهل الطائف.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال جلّ ثناؤه، مخبرا عن هؤلاء المشركين (وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) إذ كان جائزا أن يكون بعض هؤلاء، ولم يضع الله تبارك وتعالى لنا الدلالة على الذين عنوا منهم في كتابه، ولا على لسان رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والاختلاف فيه موجود على ما بيَّنت.
وقوله: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) يقول تعالى ذكره: أهؤلاء القائلون: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يا محمد، يقسمون رحمة ربك بين خلقه، فيجعلون كرامته لمن شاءوا، وفضله لمن أرادوا، أم الله الذي يقسم ذلك، فيعطيه من أحبّ، ويحرمه مَنْ شاء؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس، قال: لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك، ومن أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) وقال (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) يعني: أهل الكتب الماضية، أبشرا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أتتكم، وإن كانوا بشرا فلا تنكرون أن يكون محمد رسولا قال: ثم قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم; قال: فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا، وإذا كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة فـ (لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يقولون: أشرف من محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يسمى ريحانة قريش، هذا(21/594)
من مكة، ومسعود بن عمرو بن عبيد الله الثقفي من أهل الطائف، قال: يقول الله عزّ وجلّ ردّا عليهم (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) أنا أفعل ما شئت.
وقوله: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يقول تعالى ذكره: بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا من خلقنا، فنجعل من شئنا رسولا ومن أردنا صديقا، ونتخذ من أردنا خليلا كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات، فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة، بل جعلنا هذا غنيا، وهذا فقيرا، وهذا ملكًا، وهذا مملوكًا (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الله تبارك وتعالى (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فتلقاه ضعيف الحيلة، عي اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة، سليط اللسان، وهو مقتور عليه، قال الله جلّ ثناؤه: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) كما قسم بينهم صورهم وأخلاقهم تبارك ربنا وتعالى.
وقوله: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) يقول: ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل، يقول: جعل تعالى ذكره بعضا لبعض سببا فى المعاش، في الدنيا.
وقد اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) فقال بعضهم: معناه ما قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله:(21/595)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
(لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) قال: يستخدم بعضهم بعضا في السخرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) قال: هم بنو آدم جميعا، قال: وهذا عبد هذا، ورفع هذا على هذا درجة، فهو يسخره بالعمل، يستعمله به، كما يقال: سخر فلان فلانا.
وقال بعضهم: بل عنى بذلك: ليملك بعضهم بعضا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك، في قوله: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) يعني بذلك: العبيد والخدم سخر لهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) مِلْكة.
وقوله: (وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) يقول تعالى ذكره: ورحمة ربك يا محمد بإدخالهم الجنة خير لهم مما يجمعون من الأموال في الدنيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) يعني الجنة.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَرَحْمَةُ رَبِّكَ) يقول: الجنة خير مما يجمعون في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً(21/596)
وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً) : جماعة واحدة.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي لم يؤمن اجتماعهم عليه، لو فعل ما قال جلّ ثناؤه، وما به لم يفعله من أجله، فقال بعضهم: ذلك اجتماعهم على الكفر. وقال:(21/597)
معنى الكلام: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على الكفر، فيصيرَ جميعهم كفارا (لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ) .
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) يقول الله سبحانه: لولا أن أجعل الناس كلهم كفارا، لجعلت للكفار لبيوتهم سقفا من فضة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة بن خليفة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) قال: لولا أن يكون الناس كفارا أجمعون، يميلون إلى الدنيا، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال، تم قال: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها، وما فعل ذلك، فكيف لو فعله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) : أي كفارا كلهم.
حدثنا محمد بن عيد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) قال: لولا أن يكون الناس كفارا.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال. ثما أسباط، عن السديّ (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) يقول: كفارا على دين واحد.
وقال آخرون: اجتماعهم على طلب الدنيا وترك طلب الآخرة. وقال: معنى الكلام: ولولا أن يكون الناس أمة واحده على طلب الدنيا ورفض الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) قال: لولا أن يختار الناس دنياهم على دينهم، لجعلنا هذا لأهل الكفر.
وقوله: (لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ) يقول تعالى ذكره: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن فى الدنيا سقفا، يعني أعالي بيوتهم، وهي السطوح فضة
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ) السقف: أعلى البيوت.
واختلف أهل العربية فى تكرير اللام التي في قوله: (لِمَنْ يَكْفُرُ) وفي قوله: (لِبُيُوتِهِمْ) ، فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنها أدخلت في البيوت على البدل. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت حملتها في (لِبُيُوتِهِمْ) مكرّرة، كما في (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) وإن شئت جعلت اللامين مختلفتين، كأن الثانية في معنى على، كأنه قال: جعلنا لهم على بيوتهم سقفا. قال: وتقول العرب للرجل في وجهه: جعلت لك لقومك الأعطية: أي جعلته من أجلك لهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله:"سقفا" فقرأته عامة قرّاء أهل مكة وبعض المدنيين وعامة البصريين (سَقْفا) بفتح السين وسكون القاف اعتبارا منهم ذلك بقوله: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) وتوجيها منهم ذلك إلى أنه بلفظ واحد معناه الجمع. وقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة (سُقُفًا) بضم السين والقاف، ووجهوها إلى أنها جمع سقيفة أو سقوف. وإذا وجهت إلى أنها جمع سقوف كانت جمع الجمع، لأن السقوف: جمع سقف، ثم تجمع السقوف سقفا، فيكون ذلك نظير قراءة من قرأه"فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ" بضم الراء والهاء، وهي الجمع، واحدها(21/598)
رهان ورهون، وواحد الرهون والرهان: رهن.
وكذلك قراءة من قرأ"كُلُوا مِنْ ثُمُرِهِ" بضم الثاء والميم، ونظير قول الراجز?
حتى إذَا ابْتَلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ (1)
وقد زعم بعضهم أن السُّقُف بضم السين والقاف جمع سقف، والرُّهُن بضم الراء والهاء جمع رهن، فأغفل وجه الصواب في ذلك، وذلك أنه غير موجود في كلام العرب اسم على تقدير فعل بفتح الفاء وسكون العين مجموعا على فعل، فيجعل السُّقُف والرُّهُن مثله.
والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، معروفتان في قراءة الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) يقول: ومراقي ودَرَجا عليها يصعدون، فيظهرون على السقف والمعارج: هي الدرج نفسها، كما قال المثنى بن جندل?
يا رَبّ ربَّ البَيْتِ ذي المَعَارِج (2)
__________
(1) البيت في (اللسان: حلق) ، ولم ينسبه، ولعله لرؤبة. قال: الحلق: مساغ الطعام والشراب في المريء، والجمع القليل: أحلاق، والكثير: حلوق، وحلق. الأخيرة ككتب عزيزة. أنشد الفارسي: * حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق *
وفي معاني القرآن للفراء (الورقة 295) قال عند قوله تعالى: (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا) : والسقف قرأها عاصم والأعمش" سقفا" (أي بضم السين والقاف) . وإن شئت جعلت واحدها" سقيفة"، وإن شئت جعلت" سقوفا"، فيكون جمع الجمع، كما قال الشاعر: * حتى إذَا بُلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ *
* أهْوَى لأدْنى فَقْرَةٍ عَلى شَفَقٍ *
ومثله قراءة من قرأ:" كلوا من ثمره" (بضم الثاء والميم) ، وهو جمع، وواحده: ثمار وكقول من قرأ:" فرهن مقبوضة" واحدها" رهان" و" رهون". اهـ.
(2) البيت نسبه المؤلف إلى المثنى بن جندل. ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن، (الورقة 220 - ب) إلى جندل بن المثنى، وهو الصواب، وهو جندل بن المثنى الطهوي، كما في سمط اللآلي (702) . والمعارج: جمع معراج، وهي كما في (اللسان: عرج) المصاعد والدرج. واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى: (ومعارج عليها يظهرون) . قال أبو عبيدة: المعارج: الدرج. قال جندل ابن المثنى: * يا رب رب البيت ذي المعارج *(21/599)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَمَعَارِجَ) قال: معارج من فضة، وهي درج.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) : أي دَرجا عليها يصعدون.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) قال: المعارج: المراقي.
حدثنا محمد، قال: ثنا ابن ثور، عن حمر، عن قتادة، في قوله: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) قال: درج عليها يرفعون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن ابن عباس قوله: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) قال: درج عليها يصعدون إلى الغرف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) قال: المعارج: درج من فضة.(21/600)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ(21/600)
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) }
يقول تعالى ذكره: وجعلنا لبيوتهم أبوابا من فضة، وسُرُرا من فضة.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، وسررا قال: سرر فضة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله: (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ) قال: الأبواب من فضة، والسرر من فضة عليها يتكئون، يقول: على السرر يتكئون.
وقوله: (وَزُخْرُفًا) يقول: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفا، وهو الذهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَزُخْرُفًا) وهو الذهب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَزُخْرُفًا) قال: الذهب. وقال الحسن: بيت من زُخرف، قال: ذهب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَزُخْرُفًا) الزخرف: الذهب، قال: قد والله كانت تكره ثياب الشهرة. وذُكر لنا أن نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول:"إيَّاكُمْ والحُمْرَةَ فإنَّها مِنْ أحَبّ الزّينَةِ إلى الشَّيْطَانِ".
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَزُخْرُفًا) قال: الذهب.(21/601)
حدثنا أحمد (1) قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَزُخْرُفًا) قال: الذهب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَزُخْرُفًا) لجعلنا هذا لأهل الكفر، يعني لبيوتهم سقفا من فضة وما ذكر معها. والزخرف سمي هذا الذي سمي السقف، والمعارج والأبواب والسرر من الأثاث والفرش والمتاع.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَزُخْرُفًا) يقول: ذهبا. والزخرف على قول ابن زيد: هذا هو ما تتخذه الناس من منازلهم من الفرش والأمتعة والآلات.
وفي نصب الزخرف وجهان: أحدهما: أن يكون معناه: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف، فلما لم يكرّر عليه من نصب على إعمال الفعل فيه ذلك، والمعنى فيه: فكأنه قيل: وزخرفا يجعل ذلك لهم منه. والوجه الثاني: أن يكون معطوفا على السرر، فيكون معناه: لجعلنا لهم هذه الأشياء من فضة، وجعلنا لهم مع ذلك ذهبا يكون لهم غنى يستغنون بها، ولو كان التنزيل جاء بخفض الزخرف لكان: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف، فكان الزخرف يكون معطوفا على الفضة. وأما المعارج فإنها جُمعت على مفاعل، وواحدها معراج، على جمع معرج، كما يجمع المفتاح مفاتح على جمع مفتح، لأنهما لغتان: معرج، ومفتح، ولو جمع معاريج كان صوابا، كما يجمع المفتاح مفاتيح، إذ كان واحده معراج.
وقوله: (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يقول تعالى ذكره: وما كل هذه الأشياء التي ذكرت من السقف من الفضة والمعارج والأبواب والسرر من الفضة والزخرف، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا. (وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) يقول تعالى ذكره: وزين الدار الآخرة وبهاؤها عند ربك
__________
(1) يظهر أن هذا مكرر.(21/602)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
للمتقين، الذين اتقوا الله فخافوا عقابه، فجدوا في طاعته، وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم من خلق الله.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) خصوصا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) }
يقول تعالى ذكره: ومن يعرض عن ذكر الله فلم يخف سطوته، ولم يخش عقابه (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) يقول: نجعل له شيطانا يغويه فهو له قرين: يقول: فهو للشيطان قرين، أي يصير كذلك، وأصل العشو: النظر بغير ثبت لعلة في العين، يقال منه: عشا فلان يعشو عشوا وعشوّا: إذا ضعف بصره، وأظلمت عينه، كأن عليه غشاوة، كما قال الشاعر?
مَتى تَأتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِ ... تَجِدْ حَطَبا جَزْلا وَنارًا تَأَجَّجا (1)
__________
(1) هذا بيت مركب من شطرين من بيتين مختلفين؛ فصدره للحطيئة من قصدية مدح بها بغيض بن عامر بن شماس بن لأي بن أنف الناقة التميمي. وعجزه من بيت لعبد بن الحر من قصيدة قالها وهو في حبس مصعب بن الزبير في الكوفة وبيت الحطيئة بتمامه كما في (خزانة الأدب الكبير للبغدادي 3: 662) : مَتى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نَارِهِ ... تجِدْ خَيرَ نارٍ عِنْدَها خَيرُ مُوقِدِ
وبيت عبد الله بن الحر بتمامه هو، كما في (الخزانة 3: 663) : َتى تَأْتِنا تُلْمِمْ بِنا فِي دِيارِنا ... تَجِدْ حَطَبا جَزْلا وناراً تَأجَّجا
واستشهد المؤلف بالبيت عند قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن) . قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 220) : أي تظلم عينه عنه، كأن عليها غشاوة. وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 295) : يريد: ومن يعرض عنه. ومن قرأها (ومن يعش) فتح الشين، فمعناه: من يعم عنه. وقال القتيبي (اللسان: عشي) معنى قوله (ومن يعش عن ذكر الرحمن) أي يظلم بصره. قال: وهذا قول أبي عبيدة. ثم ذهب يرد قول الفراء ويقول: لم أر أحداً يجيزه: عشوت عن الشيء: أعرضت عنه. إنما يقال: تعايشت عن الشيء: أي تغافلت عنه، كأني لم أره. وكذلك تعاميت. قال: وعشوت إلى النار: أي استدللت عليها ببصر ضعيف. وقال الأزهري يرد كلام ابن قتيبة: أغفل القتيبي موضع الصواب، واعترض مع غفلته على الفراء. والعرب تقول: عشوت إلى النار أعشو عشوا، أي قصدتها مهتديا. وعشوت عنها: أي أعرضت عنها. فيفرقون بين إلى وعن موصولين بالفعل. اهـ.(21/603)
يعني: متى تفتقر فتأته يعنك. وأما إذا ذهب البصر ولم يبصر، فإنه يقال فيه: عَشِيَ فلان يَعْشَى عَشًى منقوص، ومنه قول الأعشى?
رأتْ رَجُلا غَائِبَ الوَافِدَيْنِ ... مُخْتَلِفَ الخَلْقِ أعْشَى ضَرِيرا (1)
يقال منه: رجل أعشى وامرأة عشواء. وإنما معنى الكلام: ومن لا ينظر في حجج الله بالإعراض منه عنه إلا نظرًا ضعيفًا، كنظر من قد عَشِيَ بصره (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) يقول: إذا أعرض عن ذكر الله نقيض له شيطانا (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) .
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله:
__________
(1) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة، ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة 95) الضمير في رأت يعود على امرأة ذكرها من أول القصيدة، وسماها ليلى. والوافدان: العينان. ومختلف الخلق: غيرته السن والأحداث عما عهدته عليه من النضرة والقوة. والأعشى الذي به سوء في عينيه، أو هو الذي لا يبصر ليلاً، أو هو الأعمى. وهو الأقرب لقوله بعده" ضريرا". وفعله عشي يعشى عشى، مثل عمي يعمى. وهو غير عشا إلى الشيء يعشو إذا نظر إليه وأقبل عليه؛ أو عشا عنه يعشو عشا: إذا أعرض عنه؛ كما بيناه في الشاهد الذي قبله. اهـ.(21/604)
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) قال: يعرض.
وقد تأوّله بعضهم بمعنى. ومن يعمَ، ومن تأوّل ذلك كذلك، فيحب أن تكون قراءته (وَمَنْ يَعْشُ) بفتح الشين على ما بيَّنت قيل.
* ذكر من تأوّله كذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) قال: من يعمَ عن ذكر الرحمن.
وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) يقول تعالى ذكره: وإن الشياطين ليصدّون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله، عن سبيل الحقّ، فيزينون لهم الضلالة، ويكرهون إليهم الإيمان بالله، والعمل بطاعته (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) يقول: ويظن المشركون بالله بتحسين الشياطين لهم ما هم عليه من الضلالة، أنهم على الحق والصواب، يخبر تعالى ذكره عنهم أنهم من الذي هم عليه من الشرك على شكّ وعلى غير بصيرة. وقال جلّ ثناؤه: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) فأخرج ذكرهم مخرج ذكر الجميع، وإنما ذُكر قبل واحدا، فقال: (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) لأن الشيطان وإن كان لفظه واحدا، ففي معنى جمع.
القول في تأويل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) فقرأته عامة قرّاء الحجاز سوى ابن محيصن، وبعض الكوفيين وبعض الشاميين"حتى إذا جاءنا" على التوحيد بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا الذي عَشِي عن ذكر الرحمن، وقرينه الذي(21/605)
قيض له من الشياطين. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة وابن محيصن: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) على التوحيد، بمعنى: حتى إذا جاءنا هذا العاشي من بني آدم عن ذكر الرحمن.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى وذلك أن في خبر الله تبارك وتعالى عن حال أحد الفريقين عند مقدمه عليه فيما أقرنا فيه في الدنيا، الكفاية للسامع عن خبر الآخر، إذ كان الخبر عن حال أحدهما معلوما به خبر حال الآخر، وهما مع ذلك قراءتان مستفيضتان في قرءة الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: حتى إذَا جاءنا هو وقرينه جميعا.
وقوله: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) يقول تعالى ذكره: قال أحد هذين القرينين لصاحبه الآخر: وددت أن بيني وبينك بعد المشرقين: أى بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهما على الآخر، كما قيل: شبه القمرين، وكما قال الشاعر?
أخَذْنا بآفاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ ... لنَا قَمَرَاهَا والنُّجُومُ الطَّوَالِعُ (1)
__________
(1) البيت للفرزدق (ديوانه طبعة الصاوي 519) . قال: وقمراها: الشمس والقمر، ثناهما تغليبا. ورواه المبرد في الكامل:" أخذنا بأطراف" في موضع، ورواه في آخر بآفاق. اهـ. واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى: (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) : أي بعد ما بين المشرق والمغرب. وأخذ كلامه من كلام الفراء في معاني القرآن (الورقة 295) قال الفراء: يريد ما بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف. ويقال إنه أراد المشرق والمغرب، فقال المشرقين، وهو أشبه الوجهين بالصواب؛ لأن العرب قد تجمع الاسمين، على تسمية أشهرهما فيقال: جاءك الزهدمان، وإنما أحدهما زهم (أي والآخر: كردم العبسيان كما تقدم في شاهد سابق) وقال الشاعر:" أخذنا بآفاق السماء ... " البيت.(21/606)
وكما قال الآخر?
فَبَصْرَةُ الأزْدِ مِنَّا والعِرَاقُ لنَا ... والمَوْصِلانِ وَمِنَّا مِصْرُ والحَرَمُ (1)
يعني: الموصل والجزيرة، فقال: الموصلان، فغلب الموصل.
وقد قيل: عنى بقوله (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) : مشرق الشتاء، ومشرق الصيف، وذلك أن الشمس تطلع في الشتاء من مشرق، وفي الصيف من مشرق غيره; وكذلك المغرب تغرب في مغربين مختلفين، كما قال جلّ ثناؤه: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) .
وذُكر أن هذا قول أحدهما لصاحبه عند لزوم كل واحد منهما صاحبه حتى يورده جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن سعيد الجريري، قال: بلغني أن الكافر إذا بُعث يوم القيامة من قبره، سفع بيده الشيطان، فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار، فذلك حين يقول: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين، فبئس القرين. وأما المؤمن فيوكَّل به ملك فهو معه حتى قال: إما يفصل بين الناس، أو نصير إلى ما شاء الله.
وقوله: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) أيها العاشون عن ذكر الله في الدنيا (إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) يقول: لن يخفف عنكم اليوم من عذاب الله اشتراككم فيه، لأن لكل واحد منكم نصيبه منه، و"أنَّ" من قوله (أنَّكُمْ) في موضع رفع لما ذكرت أن معناه: لن ينفعكم اشتراككم.
__________
(1) هذا الشاهد في معنى الذي قبله. استشهد به الفراء أيضا في معاني القرآن كسابقه، على أن الشيئين المختلفي اللفظ، قد يجمعان بلفظ واحد، فيقال البصرتان، البصرة والكوفة، والموصلان للموصل والجزيرة. وكل هذا من باب تغليب الأشهر من اللفظين على الآخر. قال: وأنشدني رجل من طيئ:" فبصرة الأزد منا ... " البيت، يريد الجزيرة والموصل.(21/607)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) : من قد سلبه الله استماع حججه التي احتجّ بها في هذا الكتاب فأصمه عنه، أو تهدي إلى طريق الهدى من أعمى الله قلبه عن إبصاره، واستحوذ عليه الشيطان، فزين له الردى (وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول: أو تهدي من كان في جور عن قصد السبيل، سالك غير سبيل الحقّ، قد أبان ضلاله أنه عن الحقّ زائل، وعن قصد السبيل جائر: يقول جلّ ثناؤه: ليس ذلك إليك، إنما ذلك إلى الله الذي بيده صرف قلوب خلقه كيف شاء، وإنما أنت منذر، فبلغهم النذارة.
وقوله: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) اختلف أهل التأويل في المعنيين بهذا الوعيد، فقال بعضهم: عني به أهل الإسلام من أمة نبينا عليه الصلاة والسلام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: ثني أبي، عن أبي الأشهب، عن الحسن، في قوله: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) قال: لقد كانت بعد نبي الله نقمة شديدة، فأكرم الله جلّ ثناؤه نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يريه في أمته ما كان من النقمة بعده.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) فذهب الله بنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ولم ير في أمته إلا الذي تقرّ به عينه، وأبقى الله النقمة بعده، وليس من نبيّ إلا وقد رأى(21/608)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
في أمته العقوبة، أو قال ما لا يشتهي. ذُكر لنا أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أُري الذي لقيت أمته بعده، فما زال منقبضا ما انبسط ضاحكا حتى لقي الله تبارك وتعالى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: تلا قتادة (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) فقال: ذهب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبقيت النقمة، ولم ير الله نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى، ولم يكن نبيّ قطّ إلا رأى العقوبة في أمته، إلا نبيكم صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. قال: وذُكر لنا أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أري ما يصيب أمته بعده، فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله.
وقال آخرون: بل عنى به أهل الشرك من قريش، وقالوا: قد أري الله نبيه عليه الصلاة والسلام فيهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) كما انتقمنا من الأمم الماضية. (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ) فقد أراه الله ذلك وأظهره عليه. وهذا القول الثاني أولى التأويلين في ذلك بالصواب وذلك أن ذلك في سياق خبر الله عن المشركين فلأن يكون ذلك تهديدا لهم أولى من أن يكون وعيدا لمن لم يجر له ذكر. فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: فإن نذهب بك يا محمد من بين أظهر هؤلاء المشركين، فنخرجك من بينهم (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) ، كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأمم المكذّبة رسلها. (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ) يا محمد من الظفر بهم، وإعلائك عليهم (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أن نظهرك عليهم، ونخزيهم بيدك وأيدي المؤمنين بك.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ(21/609)
إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فتمسك يا محمد بما يأمرك به هذا القرآن الذي أوحاه إليك ربك، (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومنهاج سديد، وذلك هو دين الله الذي أمر به، وهو الإسلام.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي الإسلام.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
وقوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك من قريش (وَسَوْفَ تُسْأَلُون) يقول: وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه، وهل عملتم بما أمركم ربكم فيه، وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه؟.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) يقول: إن القرآن شرف لك.
حدثني عمرو بن مالك، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) قال: يقول للرجل: من أنت؟ فيقول: من العرب، فيقال: من أيّ العرب؟ فيقول: من قريش.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وهو هذا القرآن.(21/610)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) قال: شرف لك ولقومك، يعني القرآن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) قال: أولم تكن النبوّة والقرآن الذي أنزل على نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذكرا له ولقومه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) }
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) ومن الذين أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بمسألتهم ذلك، فقال بعضهم الذين أمر بمسألتهم ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، مؤمنو أهل الكتابين: التوراة، والإنجيل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: في قراءة عبد الله بن مسعود"وَاسأَلْ الَّذِينَ أرْسَلْنا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلنا".
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) إنها قراءة عبد الله:"سل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) يقول: سل أهل التوراة والإنجيل: هل جاءتهم(21/611)
الرسل إلا بالتوحيد أن يوحدوا الله وحده؟ قال: وفي بعض القراءة:"واسأل الذين أرسلنا إليهم رسلنا قبلك". (أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في بعض الحروف"واسْأَلْ الَّذِينَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا" سل أهل الكتاب: أما كانت الرسل تأتيهم بالتوحيد؟ أما كانت تأتي بالإخلاص؟.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) في قراءة ابن مسعود"سَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ" يعني: مؤمني أهل الكتاب.
وقال آخرون: بل الذي أمر بمسألتهم ذلك الأنبياء الذين جُمِعوا له ليلة أُسرِي به ببيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ) ... الآية، قال: جمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس، فأمهم، وصلى بهم، فقال الله له: سلهم، قال: فكان أشدّ إيمانا ويقينا بالله وبما جاء من الله أن يسألهم، وقرأ (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) قال: فلم يكن فى شكّ، ولم يسأل الأنبياء، ولا الذين يقرءون الكتاب. قال: ونادى جبرائيل صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقلت في نفسي:"الآن يؤمنا أبونا إبراهيم"; قال:"فدفع جبرائيل في ظهري"، قال: تقدم يا محمد فصلّ، وقرأ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) ... حتى بلغ (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) .
وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عني به: سل مؤمني أهل الكتابين.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يقال: سل الرسل، فيكون معناه: سل(21/612)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
المؤمنين بهم وبكتابهم؟ قيل: جاز ذلك من أجل أن المؤمنين بهم وبكتبهم أهل بلاغ عنهم ما أتوهم به عن ربهم، فالخبر عنهم وعما جاءوا به من ربهم إذا صحَّ بمعنى خبرهم، والمسألة عما جاءوا به بمعنى مسألتهم إذا كان المسئول من أهل العلم بهم والصدق عليهم، وذلك نظير أمر الله جلّ ثناؤه إيانا برد ما تنازعنا فيه إلى الله وإلى الرسول، يقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) ومعلوم أن معنى ذلك: فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله، لأن الرد إلى ذلك رد إلى الله والرسول. وكذلك قوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) إنما معناه: فاسأل كتب الذين أرسلنا من قبلك من الرسل، فإنك تعلم صحة ذلك من قبلنا، فاستغنى بذكر الرسل من ذكر الكتب، إذ كان معلوما ما معناه.
وقوله: (أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) يقول: أمرناهم بعبادة الآلهة من دون إلله فيما جاءوهم به، أو أتوهم بالأمر بذلك من عندنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) ؟ أتتهم الرسل يأمرونهم بعبادة الآلهة من دون الله؟ وقيل: (آلِهَةً يُعْبَدُونَ) ، فأخرج الخبر عن الآلهة مخرج الخبر عن ذكور بني آدم، ولم يقل: تعبد، ولا يعبدن، فتؤنث وهي حجارة، أو بعض الجماد كما يفعل في الخبر عن بعض الجماد. وإنما فعل ذلك كذلك، إذ كانت تعبد وتعظم تعظيم الناس ملوكهم وسراتهم، فأجري الخبر عنها مُجْرى الخبر عن المملوك والأشراف من بني آدم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ(21/613)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) }
يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا يا محمد موسى بحججنا إلى فرعون وأشراف قومه، كما أرسلناك إلى هؤلاء المشركين من قومك، فقال لهم موسى: إني رسول رب العالمين، كما قلت أنت لقومك من قريش. إني رسول الله إليكم.
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) يقول: فلما جاء موسى فرعون وملأه بحججنا وأدلتنا على صدق قوله، فيما يدعوهم إليه من توحيد الله والبراءة من عبادة الآلهة، إذا فرعون وقومه مما جاءهم به موسى من الآيات والعبر يضحكون; كما أن قومك مما جئتهم به من الآيات والعبر يسخرون، وهذا تسلية من الله عزّ وجلّ نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عما كان يلقى من مشركي قومه، وإعلام منه له، أن قومه من أهل الشرك لن يعدو أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله، وندب منه نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى الاستنان في الصبر عليهم بسنن أولي العزم من الرسل، وإخبار منه له أن عقبى مردتهم إلى البوار والهلاك كسنته في المتمردين عليه قبلهم، وإظفاره بهم، وإعلائه أمره، كالذي فعل بموسى عليه السلام، وقومه الذين آمنوا به من إظهارهم على فرعون وملئه.(21/614)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) }
يقول تعالى ذكره: وما نرى فرعون وملأه آية، يعني: حجته لنا عليه بحقيقة ما يدعوه إليه رسولنا موسى (إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) يقول: إلا التي نريه من ذلك أعظم في الحجة عليهم وأوكد من التي مضت قبلها من الآيات، وأدل على صحة ما يأمره به موسى من توحيد الله.
وقوله: (وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ) يقول: وأنزلنا بهم العذاب، وذلك كأخذه(21/614)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
تعالى ذكره إياهم بالسنين، ونقص من الثمرات، وبالجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يقول: ليرجعوا عن كفرهم بالله إلى توحيده وطاعته، والتوبة مما هم عليه مقيمون من معاصيهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي يتوبون، أو يذكرون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) }
يقول تعالى ذكره: وقال فرعون وملؤه لموسى: (يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) وعنوا بقولهم"بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ": بعهده الذي عهد إليك أنا إن آمنا بك واتبعناك، كُشف عنا الرِّجْز.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) قال لئن آمنا ليكشفن عنا العذاب.
إن قال لنا قائل: وما وجه قيلهم يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك، وكيف سموه ساحرا وهم يسألونه أن يدعو لهم ربه ليكشف عنهم العذاب؟ قيل: إن الساحر كان عندهم معناه: العالم، ولم يكن السحر عندهم ذما، وإنما دعوه بهذا الاسم، لأن معناه عندهم كان: يا أيها العالم.
وقوله: (إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ) يقول: قالوا: إنا لمتبعوك فمصدّقوك فيما جئتنا(21/615)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
به، وموحدو الله فمبصرو سبيل الرشاد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ) قال: قالوا يا موسى: ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك.
وقوله: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) يقول تعالى ذكره: فلما رفعنا عنهم العذاب الذي أنزلنا بهم، الذي وعدوا أنهم إن كشف عنهم اهتدوا لسبيل الحق، إذا هم بعد كشفنا ذلك عنهم ينكثون العهد الذي عاهدونا: يقول: يغدرون ويصرّون على ضلالهم، ويتمادون في غيهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) : أي يغدرون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) }
يقول تعالى ذكره: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) من القبط، فـ (قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) يعنى بقوله: (مِنْ تَحْتِي) : من بين يدي في الجنان.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَهَذِهِ(21/616)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) قال: كانت لهم جنات وأنهار ماء.
وقوله: (أَفَلا تُبْصِرُونَ) يقول: أفلا تبصرون أيها القوم ما أنا فيه من النعيم والخير، وما فيه موسى من الفقر وعيّ اللسان، افتخر بملكه مصر عدوّ الله، وما قد مكَّن له من الدنيا استدراجا من الله له، وحسب أن الذي هو فيه من ذلك ناله بيده وحوله، وأن موسى إنما لم يصل إلى الذي يصفه، فنسبه من أجل ذلك إلى المهانة محتجًا على جهلة قومه بأن موسى عليه السلام لو كان محقًا فيما يأتي به من الآيات والعبر، ولم يكن ذلك سحرا، لأكسب نفسه من الملك والنعمة، مثل الذي هو فيه من ذلك جهلا بالله واغترارًا منه بإملائه إياه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) }
يقوله تعالى ذكره مخبرًا عن قيل فرعون لقومه بعد احتجاجه عليهم بملكه وسلطانه، وبيان لسانه وتمام خلقه، وفضل ما بينه وبين موسى بالصفات التي وصف بها نفسه وموسى: أنا خير أيها القوم، وصفتي هذه الصفة التي وصفت لكم (أم هذا الذي هو مهين) لا شيء له من الملك والأموال مع العلة التي في جسده، والآفة التي بلسانه، فلا يكاد من أجلها يبين كلامه؟.
وقد اختُلف في معنى قوله: (أمْ) في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناها: بل أنا خير، وقالوا. ذلك خير، لا استفهام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد: قال: ثنا أحمد قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) قال: بل أنا خير من هذا.(21/617)
وبنحو ذلك كان يقول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة.
وقال بعض نحويي الكوفة، هو من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله. قال: وإن شئت رددته على قوله: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) ؟ وإذا وجه الكلام إلى أنه استفهام، وجب أن يكون في الكلام محذوف استغني بذكر ما ذكر مما ترك ذكره، ويكون معنى الكلام حينئذ: أنا خير أيها القوم من هذا الذي هو مهين، أم هو؟.
وذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ ذلك"أما أنا خَيْرٌ".
حدثنا بذلك عن الفرّاء قال: أخبرني بعض المشيخة أنه بلغه أن بعض القرّاء قرأ كذلك، ولو كانت هذه القراءة قراءة مستفيضة في قَرَأة الأمصار لكانت صحيحة، وكان معناها حسنا، غير أنها خلاف ما عليه قرّاء الأمصار، فلا أستجيز القراءة بها، وعلى هذه القراءة لو صحت لا كلفة له في معناها ولا مؤنة.
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار. وأولى التأويلات بالكلام إذ كان ذلك كذلك، تأويل من جعل: أم أنا (خَيْرٌ) ؟ من الاستفهام الذي جعل بأم، لاتصاله بما قبله من الكلام، ووجهه إلى أنه بمعنى: أأنا خير من هذا الذي هو مهين؟ أم هو؟ ثم ترك ذكر أم هو، لما في الكلام من الدليل عليه.
وعني بقوله: (مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) : من هذا الذي هو ضعيف لقلة ماله، وأنه ليس له من الملك والسلطان ماله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) قال: ضعيف.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) قال: المهين: الضعيف.(21/618)
وقوله: (وَلا يَكَادُ يُبِينُ) يقول: ولا يكاد يبين الكلام من عِيّ لسانه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا يَكَادُ يُبِينُ) : أي عَييّ اللسان.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَلا يَكَادُ يُبِينُ) الكلام.
وقوله: (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) يقول: فهلا ألقي على موسى إن كان صادقا أنه رسول رب العالمين أسورة من ذهب، وهو جمع سوار، وهو القُلْب الذي يجعل في اليد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) يقول: أقلبة من ذهب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) : أي أقلبة من ذهب.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة" فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ". وذُكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه (أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي ما عليه قَرَأة الأمصار، وإن كانت الأخرى صحيحة المعنى.(21/619)
واختلف أهل العربية في واحد الأساورة، والأسورة، فقال بعض نحوييّ البصرة: الأسورة جمع إسوار قال: والأساورة جمع الأسورة; وقال: ومن قرأ ذلك أساورة، فإنه أراد أساوير والله أعلم، فجعل الهاء عوضا من الياء، مثل الزنادقة صارت الهاء فيها عوضا من الياء التي في زناديق. وقال بعض نحوييّ الكوفة: من قرأ أساورة جعل واحدها إسوار; ومن قرأ أسورة جعل واحدها سوار; وقال: قد تكون الأساورة جمع أسورة كما يقال في جمع الأسقية الأساقي، وفي جمع الأكرع الأكارع. وقال آخر منهم قد قيل في سوار اليد: يجوز فيه أسوار وإسوار; قال: فيجوز على هذه اللغة أن يكون أساورة جمعه. وحُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: واحد الأساورة إسوار; قال: وتصديقه في قراءة أبيّ بن كعب"فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ" فإن كان ما حكي من الرواية من أنه يجوز أن يقال في سوار اليد إسوار، فلا مؤنة في جمعه أساورة، ولست أعلم ذلك صحيحا عن العرب برواية عنها، وذلك أن المعروف في كلامهم من معنى الإسوار: الرجل الرامي، الحاذق بالرمي من رجال العجم. وأما الذي يُلبس في اليد، فإن المعروف من أسمائه عندهم سوارا. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالأساورة أن يكون جمع أسورة على ما قاله الذي ذكرنا قوله في ذلك.
وقوله: (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) يقول: أو هلا إن كان صادقا جاء معه الملائكة مقترنين قد اقترن بعضهم ببعض، فتتابَعُوا يشهدون له بأنه لله رسول إليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة على تأويله، فقال بعضهم: يمشون معا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال أبو عاصم، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن نجيح، عن(21/620)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
مجاهد، في قوله: (الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) قال: يمشون معا.
وقال آخرون: متتابعين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا زيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) : أي متتابعين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: يقارن بعضهم بعضا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) قال: يقارن بعضهم بعضا.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) }
يقول تعالى ذكره: فاستخفّ فرعون خلقا من قومه من القبط، بقوله الذي أخبر الله تبارك وتعالى عنه أنه قال لهم، فقبلوا ذلك منه فأطاعوه، وكذّبوا موسى، قال الله: وإنما أطاعوا فاستجابوا لما دعاهم إليه عدوّ الله من تصديقه، وتكذيب موسى، لأنهم كانوا قوما عن طاعة الله خارجين بخذلانه إياهم، وطبعه على قلوبهم. يقول الله تبارك وتعالى: (فَلَمَّا آسَفُونَا) يعني بقوله: آسفونا: أغضبونا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/621)
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فَلَمَّا آسَفُونَا) يقول: أسخطونا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (فَلَمَّا آسَفُونَا) يقول: لما أغضبونا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَلَمَّا آسَفُونَا) : أغضبونا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا) قال: أغضبوا ربهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَلَمَّا آسَفُونَا) قال: أغضبونا.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَلَمَّا آسَفُونَا) قال: أغضبونا، وهو على قول يعقوب: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) قال: يا حَزني على يوسف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) قال: أغضبونا، وقوله: (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) يقول: انتقمنا منهم بعاجل العذاب الذي عجلناه لهم، فأغرقناهم جميعا في البحر.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة غير عاصم(21/622)
"فَجَعَلْنَاهُمْ سُلُفًا" بضم السين واللام، توجيها ذلك منهم إلى جمع سليف من الناس، وهو المتقدّم أمام القوم. وحكى الفرّاء أنه سمع القاسم بن معن يذكر أنه سمع العرب تقول: مضى سليف من الناس. وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وعاصم: (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا) بفتح السين واللام.
وإذا قرئ كذلك احتمل أن يكون مرادا به الجماعة والواحد والذكر والأنثى، لأنه يقال للقوم: أنتم لنا سلف، وقد يجمع فيقال: هم أسلاف; ومنه الخبر الذي روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال:"يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ أسْلافًا".
وكان حُميد الأعرج يقرأ ذلك:"فَجَعَلْنَاهُمْ سُلَفًا" بضم السين وفتح اللام، توجيها منه ذلك إلى جمع سلفة من الناس، مثل أمة منهم وقطعة.
وأولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بفتح السين واللام، لأنها اللغة الجوداء، والكلام المعروف عند العرب، وأحقّ اللغات أن يقرأ بها كتاب الله من لغات العرب أفصحها وأشهرها فيهم. فتأويل الكلام إذن: فجعلنا هؤلاء الذين أغرقناهم من قوم فرعون في البحر مقدّمة يتقدمون إلى النار، كفار قومك يا محمد من قريش، وكفار قومك لهم بالأثر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ) قال: قوم فرعون كفارهم سلفا لكفار أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا) في النار.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر: (فَجَعَلْنَاهُمْ(21/623)
سَلَفًا) قال: سلفا إلى النار.
وقوله: (وَمَثَلا لِلآخِرِينَ) يقول: وعبرة وعظة يتعظ بهم مَنْ بعدهم من الأمم، فينتهوا عن الكفر بالله. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، مجاهد (وَمَثَلا لِلآخِرِينَ) قال: عبرة لمن بعدهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا أبو ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمَثَلا لِلآخِرِينَ) : أي عظة للآخرين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَثَلا لِلآخِرِينَ) : أي عظة لمن بعدهم.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا) قال: عبرة.
وقوله: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا) يقول تعالى ذكره: ولما شبه الله عيسى في إحداثه وإنشائه إياه من غير فحل بآدم، فمثله به بأنه خلقه من تراب من غير فحل، إذا قومك يا محمد من ذلك يضجون ويقولون: ما يريد محمد منا إلا أن نتخذه إلها نعبده، كما عبدت النصارى المسيح.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال: يضجون; قال: قالت قريش: إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى.(21/624)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: لما ذُكر عيسى ابن مريم جزعت قريش من ذلك، وقالوا: يا محمد ما ذكرت عيسى ابن مريم (1) وقالوا: ما يريد محمد إلا أن نصنع به كما صنعت النصارى بعيسى ابن مريم، فقال الله عزّ وجلّ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا) .
حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما ذكر عيسى في القرآن قال مشركو قريش: يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى؟ قال: وقالوا: إنما يريد أن نحبه كما أحبَّت النصارى عيسى.
وقال آخرون: بل عنى بذلك قول الله عزّ وجلّ (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) قيل المشركين عند نزولها: قد رضينا بأن تكون آلهتنا مع عيسى وعُزَير والملائكة، لأن كل هؤلاء مما يعبد من دون الله، قال الله عزّ وجلّ: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) وقالوا: أآلهتنا خير أم هو؟.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال: يعني قريشا لما قيل لهم (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) فقالت له قريش: فما ابن مريم؟ قال: ذاك عبد الله ورسوله، فقالوا: والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا، فقال الله عزّ وجلّ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (يَصُدُّونَ) فقرأته عامة قرّاء المدينة، وجماعة من قرّاء الكوفة:"يصُدُّونَ" بضم الصاد. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة
__________
(1) كذا في الأصل، ولم يتم الكلام؛ ولعله اكتفى بدلالة ما بعده عليه.(21/625)
والبصرة (يَصُدُّونَ) بكسر الصاد.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين ذلك إذا قُرئ بضم الصاد، وإذا قُرئ بكسرها، فقال بعض نحوييّ البصرة، ووافقه عليه بعض الكوفيين: هما لغتان بمعنى واحد، مثل يشُدّ ويشِدّ، ويَنُمُّ ويَنِمّ من النميمة. وقال آخر: منهم من كسر الصاد فمجازها يضجون، ومن ضمها فمجازها يعدلون. وقال بعض من كسرها: فإنه أراد يضجون، ومن ضمها فإنه أراد الصدود عن الحقّ.
وحُدثت عن الفرّاء قال: ثني أبو بكر بن عياش، أن عاصما ترك يصدّون من قراءة أبي عبد الرحمن، وقرأ يصدّون، قال: قال أبو بكر. حدثني عاصم، عن أبي رزين، عن أبي يحيى، أن ابن عباس لقي ابن أخي عبيد بن عمير، فقال: إن عمك لعربيّ، فما له يُلحن في قوله:"إذَا قُومُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ"، وإنما هي (يَصُدُّونَ) .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، ولغتان مشهورتان بمعنى واحد، ولم نجد أهل التأويل فرقوا بين معنى ذلك إذا قرئ بالضم والكسر، ولو كان مختلفا معناه، لقد كان الاختلاف في تأويله بين أهله موجودا وجود اختلاف القراءة فيه باختلاف اللغتين، ولكن لما لم يكن مختلف المعنى لم يختلفوا في أن تأويله: يضجون ويجزعون، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب.
* ذكر ما قلنا في تأويل ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال: يضجون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) يقول: يضجون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن(21/626)
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
المُغيرة الضبيّ، عن الصعب بن عثمان قال: كان ابن عباس يقرأ (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) ، وكان يفسرها يقول: يضجون.
ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال: يضجون.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة عن عاصم عن أبي رزين، عن ابن عباس بمثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال: يضجون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) : أي يجزعون ويضجون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قرأها (يَصُدُّونَ) : أي يضجون، وقرأ عليّ رضي الله عنه (يَصُدُّونَ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال: يضجون.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال: يضجون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ (60) }(21/627)
يقول تعالى ذكره: وقال مشركو قومك يا محمد: آلهتنا التي نعبدها خير؟ أم محمد فنعبد محمدا؟ ونترك آلهتنا؟.
وذُكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب: " أآلهتنا خير أم هذا ".
* ذكر الرواية بذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور عن معمر، عن قتادة أن في حرف أبي بن كعب " وقالوا أآلهتنا خير أم هذا " يعنون محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون: بل عنى بذلك: آلهتنا خير أم عيسى؟.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) قال: خاصموه، فقالوا: يزعم أن كلّ من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعُزير والملائكة هؤلاء قد عُبدوا من دون الله، قال: فأنزل الله براءة عيسى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ) قال: عبد هؤلاء عيسى، ونحن نعبد الملائكة.
وقوله: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) .... إلى (فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ) . وقوله تعالى ذكره: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا) يقول تعالى ذكره: ما مثلوا لك هذا المثل يا محمد ولا قالوا لك هذا القول إلا جدلا وخصومة يخاصمونك به (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) يقول جلّ ثناؤه: ما بقومك يا محمد هؤلاء المشركين في محاجتهم إياك بما يحاجونك به طلب الحق (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) يلتمسون الخصومة بالباطل.(21/628)
وذُكر عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال:" ما ضل قوم عن الحق إلا أوتوا الجدل".
* ذكر الرواية ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يعلى، قال: ثنا الحجاج بن دينار، عن أبي غالب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، وقرأ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا) ... الآية.
حدثني موسى بن عبد الرحمن الكندي وأبو كُرَيب قالا ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا حجاج بن دينار، عن أبي أُمامة"أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن، فغضب غضبا شديدًا، حتى كأنما صبّ على وجهه الخلّ، ثم قال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"لا تَضْرِبُوا كِتَابَ الله بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فإنَّهُ ما ضَلَّ قَوْمٌ قَطُّ إلا أُوتُوا الجَدَلَ"، ثم تلا (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) .
وقوله: (إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) يقول تعالى ذكره: فما عيسى إلا عبد من عبادنا، أنعمنا عليه بالتوفيق والإيمان، وجعلناه مثلا لبني إسرائيل، يقول: وجعلناه آية لبني إسرائيل، وحجة لنا عليهم بإرسالناه إليهم بالدعاء إلينا، وليس هو كما تقول النصارى من أنه ابن الله تعالى، تعالى الله عن ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) يعني بذلك عيسى ابن مريم، ما عدا ذلك عيسى ابن مريم، إن كان إلا عبدا أنعم الله عليه.
وبنحو الذي قلنا أيضا في قوله: (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) قالوا.(21/629)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن قتادة (مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أحسبه قال: آية لبني إسرائيل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أي آية.
قوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ) يقول تعالى ذكره: ولو نشاء معشر بني آدم أهلكناكم، فأفنينا جميعكم، وجعلنا بدلا منكم في الأرض ملائكة يخلفونكم فيها يعبدونني وذلك نحو قوله تعالى ذكره: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) وكما قال: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أن منهم من قال: معناه: يخلف بعضهم بعضا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ) يقول: يخلف بعضهم بعضا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ) قال: يعمرون الأرض بدلا منكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ) قال: يخلف بعضهم بعضا، مكان بني آدم.(21/630)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ) لو شاء الله لجعل في الأرض ملائكة يخلف بعضهم بعضا.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ) قال: خلفا منكم.(21/631)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) }
اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله: (وَإِنَّهُ) وما المعنيّ بها، ومن ذكر ما هي، فقال بعضهم: هي من ذكر عيسى، وهي عائدة عليه. وقالوا: معنى الكلام: وإن عيسى ظهوره علم يعلم به مجيء الساعة، لأن ظهوره من أشراطها ونزوله إلى الأرض دليل على فناء الدنيا، وإقبال الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن يحيى، عن ابن عباس، (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قال: خروج عيسى ابن مريم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس بمثله، إلا أنه قال: نزول عيسى ابن مريم.
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسيّ، قال: ثنا غالب بن قائد، قال: ثنا قيس، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ"وَإِنَّهُ(21/631)
لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ" قال: نزول عيسى ابن مريم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عطية، عن فضيل بن مرزوق، عن جابر، قال: كان ابن عباس يقول: ما أدري علم الناس بتفسير هذه الآية، أم لم يفطنوا لها؟ "وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ" قال: نزول عيسى ابن مريم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وَإِنَّهُ لَعَلْمٌ للسَّاعَةِ" قال: نزول عيسى ابن مريم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك وعوف عن الحسن أنهما قالا في قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قالا نزول عيسى ابن مريم وقرأها أحدهما"وَإِنَّهُ لَعَلْمٌ للسَّاعَةِ".
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قال: آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة"وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ" قال: نزول عيسى ابن مريم علم للساعة: القيامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله:"وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ" قال: نزول عيسى ابن مريم علم للساعة.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قال: خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) يعني خروج عيسى ابن مريم ونزوله من السماء قبل يوم القيامة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قال: نزول عيسى ابن مريم علم للساعة حين ينزل.
وقال آخرون: الهاء التي في قوله: (وَإنَّهُ) من ذكر القرآن، وقالوا: معنى(21/632)
الكلام: وإن هذا القرآن لعلم للساعة يعلمكم بقيامها، ويخبركم عنها وعن أهوالها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول:"وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ" هذا القرآن.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: كان ناس يقولون: القرآن علم للساعة. واجتمعت قرّاء الأمصار في قراءة قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) على كسر العين من العلم. ورُوي عن ابن عباس ما ذكرت عنه في فتحها، وعن قتادة والضحاك.
والصواب من القراءة في ذلك: الكسر في العين، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ، وإنه لذكر للساعة، فذلك مصحح قراءة الذين قرءوا بكسر العين من قوله: (لَعِلْمٌ) .
وقوله: (فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا) يقول: فلا تشكنّ فيها وفي مجيئها أيها الناس.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا) قال: تشكون فيها.
وقوله: (وَاتَّبِعُونَ) يقول تعالى ذكره: وأطيعون فاعملوا بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) يقول: اتباعكم إياي أيها الناس في أمري ونهي صراط مستقيم، يقول: طريق لا اعوجاج فيه، بل هو قويم.
وقوله: (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) يقول جلّ ثناؤه: ولا يعدلنكم الشيطان عن طاعتي فيما آمركم وأنهاكم، فتخالفوه إلى غيره، وتجوروا عن الصراط المستقيم فتضلوا (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) يقول: إن الشيطان لكم عدوّ يدعوكم إلى ما فيه هلاككم، ويصدّكم عن قصد السبيل، ليوردكم المهالك، مبين قد أبان لكم عداوته، بامتناعه من السجود لأبيكم آدم، وإدلائه بالغرور حتى أخرجه من(21/633)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
الجنة حسدًا وبغيًا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) }
يقول تعالى ذكره: ولم جاء عيسى بني إسرائيل بالبينات، يعني بالواضحات من الأدلة. وقيل: عُني بالبيِّنات: الإنجيل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ) أي بالإنجيل. وقوله: (قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) قيل: عُني بالحكمة في هذا الموضع: النبوّة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) قال: النبوّة.
وقد بيَّنت معنى الحكمة فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده، وذكرت اختلاف المختلفين في تأويله، فأغنى ذلك عن إعادته.
وقوله: (وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) يقول: ولأبين لكم معشر بني إسرائيل بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح،(21/634)
عن مجاهد، قوله: (وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) قال: من تبديل التوراة.
وقد قيل: معنى البعض في هذا الموضع بمعنى الكلّ، وجعلوا ذلك نظير قول لبيد?
تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَهَا ... أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها (1)
قالوا: الموت لا يعتلق بعض النفوس، وإنما المعنى: أو يعتلق النفوس حمامها، وليس لما قال هذا القائل كبير معنى، لأن عيسى إنما قال لهم: (وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ، لأنه قد كان بينهم اختلاف كثير في أسباب دينهم ودنياهم، فقال لهم: أبين لكم بعض ذلك، وهو أمر دينهم دون ما هم فيه مختلفون من أمر دنياهم، فلذلك خص ما أخبرهم أنه يبينه لهم. وأما قول لبيد:"أو يعتلق بعض النفوس"، فإنه إنما قال ذلك أيضا كذلك، لأنه أراد: أو يعتلق نفسه حمامها، فنفسه من بين النفوس لا شكّ أنها بعض لا كل.
وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) يقول: فاتقوا ربكم أيها الناس بطاعته، وخافوه باجتناب معاصيه، وأطيعون فيما أمرتكم به من اتقاء الله واتباع أمره، وقبول نصيحتي لكم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) يقول: إن الله الذي يستوجب
__________
(1) البيت للبيد (مجاز القرآن لأبي عبيدة. الورقة 221) أنشده عند قوله تعالى: (لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) قال: البعض هاهنا: كله. قال لبيد:" تراك ... البيت". وفي شرح الزوزني للمعلقات السبع (ص 116) يقول: إني تراك أماكن إذا لم أرضها إلا أن يرتبط نفسي حمامها، فلا يمكنها البراح. وأراد ببعض النفوس هنا: نفسه. هذا أوجه الأقوال وأحسنها. ومن جعل بعض النفوس بمعنى كل النفوس، فقد أخطأ لأن بعضا لا يفيد العموم والاستيعاب. وتحرير المعنى: إني لا أترك الأماكن أجتويها وأقلبها، إلا أن أموت. وقال التبريزي في شرح القصائد العشر، (ص 160) يقول: أترك الأمكنة إذا رأيت فيها ما يكره إلا أن يدركني الموت. وأراد بالنفوس نفسه، ويعتلق: يحبس. والحمام: الموت. ويقال القدر. وقوله أو يعتلق مجزوم عطفا على قوله: إذا لم أرضها. اهـ.(21/635)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له، ربي وربكم جميعا، فاعبدوه وحده، لا تشكروا معه في عبادته شيئا، فإنه لا يصلح، ولا ينبغي أن يُعبد شيء سواه.
وقوله: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) يقول: هذا الذي أمرتكم به من اتقاء الله وطاعتي، وإفراد الله بالألوهة، هو الطريق المستقيم، وهو دين الله الذي لا يقبل من أحد من عباده غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) }
اختلف أهل التأويل في المعنيين بالأحزاب، الذين ذكرهم الله فى هذا الموضع، فقال بعضهم: عنى بذلك: الجماعة التي تناظرت في أمر عيسى، واختلفت فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) قال: هم الأربعة الذين أخرجهم بنو إسرائيل يقولون في عيسى. وقال آخرون: بل هم اليهود والنصارى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) قال: اليهود والنصارى. والصواب من القول في ذلك أن يقال: معنى ذلك: فاختلف الفرق المختلفون في عيسى ابن مريم من بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء الله والعمل بطاعته، وهم اليهود والنصارى، ومن اختلف فيه من(21/636)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
النصارى، لأن جميعهم كانوا أحزابا مبتسلين (1) مختلفي الأهواء مع بيانه لهم أمر نفسه، وقوله لهم: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) .
وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) يقول تعالى ذكره فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا بالله، الذين قالوا في عيسى ابن مريم بخلاف ما وصف عيسى به نفسه في هذه الآية (مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) يقول: من عذاب يوم مؤلم، ووصف اليوم بالإيلام، إذ كان العذاب الذي يؤلمهم فيه، وذلك يوم القيامة.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) قال: من عذاب يوم القيامة.
وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) يقول: هل ينظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى ابن مريم، القائلون فيه الباطل من القول، إلا الساعة التي فيها تقوم القيامة فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يقول: وهم لا يعلمون بمجيئها.
القول في تأويل قوله تعالى: {الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) }
يقول تعالى ذكره: المتخالون يوم القيامة على معاصي الله في الدنيا، بعضهم لبعض عدوّ، يتبرأ بعضهم من بعض، إلا الذين كانوا تخالّوا فيها على تقوى الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) كذا في الأصل. ولعل الصواب" متبسلين" بتقديم التاء على الباء. قال في اللسان: تبسل الرجل: عبس من الغضب أو الشجاعة أما ابتسل الرجل بتقديم الباء، فمعناه: أخذ على رقيته أجرا. اهـ.(21/637)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) فكلّ خُلَّةٍ على معصية الله في الدنيا متعادون.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) فكلّ خُلَّةٍ هي عداوة إلا خلة المتقين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، أن عليا رضي الله عنه قال: خليلان مؤمنان، وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا ربّ إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير، وينهاني عن الشرّ ويخبرني أني ملاقيك يا ربّ فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول: ليثن أحدكما على صاحبه فيقول: يا ربّ إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير، وينهاني عن الشرّ، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول: نعم الخليل، ونعم الأخ، ونعم الصاحب; قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا ربّ إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشرّ، وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، فيقول: بئس الأخ، وبئس الخليل، وبئس الصاحب.
وقوله: (يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) وفي هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة ما ذكر عليه. ومعنى الكلام: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، فإنهم يقال لهم: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم من عقابي، فإني قد أمنتكم منه برضاي عنكم، ولا أنتم تحزنون على فراق الدنيا فإن الذي قدمتم عليه خير لكم مما فارقتموه منها.
وذُكر أن الناس ينادون هذا النداء يوم القيامة، فيطمع فيها من ليس من(21/638)
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
أهلها حتى يسمع قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) فييأس منها عند ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادي مناد: يا عباد الله لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، فيرجوها الناس كلهم، قال: فيتبعها (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: فييأس الناس منها غير المسلمين.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) }
وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا) يقول تعالى ذكره: يا عبادي الذين آمنوا وهم الذين صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم، وكانوا مسلمين، يقول: وكانوا أهل خضوع لله بقلوبهم، وقبول منهم لما جاءتهم به رسلهم عن ربهم على دين إبراهيم خليل الرحمن صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، حنفاء لا يهود ولا نصارى، ولا أهل أوثان.
وقوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) يقول جلّ ثناؤه: ادخلوا الجنة أنتم أيها المؤمنون وأزواجكم مغبوطين بكرامة الله، مسرورين بما أعطاكم اليوم ربكم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (تُحْبَرُونَ) وقد ذكرنا ما قد قيل في ذلك فيما مضى، وبيَّنا الصحيح من القول فيه عندنا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا نذكر بعض ما لم يُذكر هنالك من أقوال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ(21/639)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) : أي تَنْعَمون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (تُحْبَرُونَ) قال: تنعمون.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (تُحْبَرُونَ) قال: تكرمون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) قال: تنعمون.
القول في تأويل قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) }
يقول تعالى ذكره: يُطاف على هؤلاء الذين آمنوا بآياته في الدنيا إذا دخلوا الجنة في الآخرة بصحاف من ذهب، وهي جمع للكثير من الصَّحْفة، والصَّحْفة: القصعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ) قال: القصاع.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر، عن شعبة، قال:"إنّ أدنى أهل الجنة منزلة، من له قصر فيه سبعون ألف خادم، في يد كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبها، لو فتح بابه فضافه أهل الدنيا لأوسعهم".(21/640)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القميّ، جعفر، عن سعيد، قال:"إن أخسّ أهل الجنة منزلا من له سبعون ألف خادم، مع كل خادم صحفة من ذهب، لو نزل به جميع أهل الأرض لأوسعهم، لا يستعين عليهم بشيء من غيره، وذلك في قول الله تبارك وتعالى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ولهم (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ) ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو، قال:"ما أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام، كلّ غلام على عمل ما عليه صاحبه".
وقوله: (وَأَكْوَابٍ) وهي جمع كوب، والكوب: الإبريق المستدير الرأس، الذي لا أذن له ولا خرطوم، وإياه عنى الأعشى بقوله?
صَرِيفِيَّةٌ طَيِّبٌ طَعْمُهَا ... لَهَا زَبَدٌ بَيْنَ كُوب وَدَنّ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال حدثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَكْوَابٍ) قال: الأكواب التي ليست لها آذان.
ومعنى الكلام: يطاف عليهم فيها بالطعام في صحاف من ذهب، وبالشرب في أكواب من ذهب، فاستغنى بذكر الصحاف والأكواب من ذكر الطعام والشراب، الذي يكون فيها لمعرفة السامعين بمعناه"وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي (2) الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ" يقول تعالى ذكره:
__________
(1) البيت لأعشى بن قيس بني ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة ص 17) وصريفية، منسوبة إلى صريفون: موضع بالعراق مشهور بجودة خمره. وقيل نسبت إلى الصريف وهو اللبن ساعة يحلب جعلها صريفية لأنها أخذت من الدن ساعتئذ أحضرت، كأنها أخذت قبل أن تمزج. والزبد. ما يعلوها عند تحريكها من الدن إلى الكوب من الفقاقيع. والكوب: الكوز الذي لا عروة له. أو هو الكوز المستدير الرأس الذي لا أذن له.
(2) قراءة مشهورة متواترة بحذف الهاء.(21/641)
لكم في الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون، وتلذّ أعينكم (وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يقول: وأنتم فيها ماكثون، لا تخرجون منها أبدا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن سابط أن رجلا قال: يا رسول الله إني أُحِبُّ الخَيْلَ، فهل في الجنة خيل؟ فقال:"إنْ يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ إنْ شاءَ، فَلا تَشاءُ أنْ تَرْكَبَ فَرَسًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ تَطيرُ بِكَ فِي أيّ الجَنَّة شِئْتَ إلا فَعَلَتْ"، فقال أعرابيّ: يا رسول الله إني أحبّ الإبلَ، فهل في الجنة إبل؟ فقال:"يا أعرابيّ إنْ يُدْخِلْكَ اللهُ الجَنَّةَ إنْ شاءَ اللهُ، فَفِيها ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنَاك".
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار، عن محمد بن سعد الأنصاري، عن أبي ظبية السلفي، قال: إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة، قال: فتقول: ما أُمْطِرُكُمْ؟ قال: فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أترابا.
حدثنا ابن عرفة، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن عليّ بن أبي الوليد، قال: قيل لمجاهد في الجنة سماع؟ قال: إن فيها لشجرا يقال له العيص، له سماع لم يسمع السامعون إلى مثله.
حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: أخبرنا معاوية بن صالح، قال: ثني سليمان بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة، يقول:"إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير، فيقع متفلقا نضيجا في كفه، فيأكل منه حتى تنتهي نفسه، ثم يطير، ويشتهي الشراب، فيقع الإبريق في يده، ويشرب منه ما يريد، ثم يرجع إلى مكانه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ) فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام: (مَا تَشْتَهِيهِ) بزيادة هاء، وكذلك ذلك في مصاحفهم. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق"تَشْتَهِي" بغير هاء، وكذلك هو في مصاحفهم.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان بمعنى واحد،(21/642)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) }
يقول تعالى ذكره: يقال لهم: وهذه الجنة التي أورثكموها الله عن أهل النار الذين أدخلهم جهنم بما كنتم في الدنيا تعملون من الخيرات.
(لَكُمْ فِيهَا) يقول: لكم في الجنة فاكهة كثيرة من كلّ نوع (مِنْهَا تَأْكُلُونَ) يقول: من الفاكهة تأكلون ما اشتهيتم.(21/643)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) }
يقول تعالى ذكره (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) وهم الذين اجترموا في الدنيا الكفر بالله، فاجترموا به في الآخرة (فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) يقول: هم فيه ماكثون.
لا يفتر عنهم، يقول: لا يخفف عنهم العذاب وأصل الفتور: الضعف (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) يقول: وهم في عذاب جهنم مبلسون، والهاء في فيه من ذكر العذاب. ويذكر أن ذلك في قراءة عبد الله:"وَهُمْ فِيهَا مُبْلِسُونَ" والمعنى: وهم في جهنم مبلسون، والمبلس في هذا الموضع: هو الآيس من النجاة الذي قد قنط فاستسلم للعذاب والبلاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/643)
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) : أي مستسلمون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) قال: آيسون.
وقال آخرون بما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) متغير حالهم.
وقد بينَّا فيما مضى معنى الإبلاس بشواهده، وذكر المختلفين فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) يقول تعالى ذكره: وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم ما أخبرناكم أيها الناس أنا فعلنا بهم من التعذيب بعذاب جهنم (وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) بعبادتهم في الدنيا غير من كان عليهم عبادته، وكفرهم بالله، وجحودهم توحيده.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) }
يقول تعالى ذكره: ونادى هؤلاء المجرمون بعد ما أدخلهم الله جهنم، فنالهم فيها من البلاء ما نالهم، مالكا خازن جهنم (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) قال: ليمتنا ربك، فيفرغ من إماتتنا، فذكر أن مالكا لا يجيبهم في وقت قيلهم له ذلك، ويدعهم ألف عام بعد ذلك، ثم يجيبهم، فيقول لهم: (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن(21/640)
السائب، عن أبي الحسن، عن ابن عباس (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) فأجابهم بعد ألف سنة (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن رجل من جيرانه يقال له الحسن، عن نوف في قوله: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) قال: يتركهم مئة سنة مما تعدون، ثم يناديهم فيقول: يا أهل النار إنكم ماكثون.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن عمرو، قال: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) قال: فخلى عنهم أربعين عاما لا يجيبهم، ثم أجابهم: (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) : قالوا (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) فخلى عنهم مثلي الدنيا، ثم أجابهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) قال: فوالله ما نبس القوم بعد الكلمة، إن كان إلا الزفيرُ والشهيق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو، قال: إن أهل جهنم يدعون مالكا أربعين عاما فلا يجيبهم، ثم يقول: (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) ، ثم ينادون ربهم (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) فيدعهم أو يخلي عنهم مثل الدنيا، ثم يردّ عليهم (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) قال: فما نبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق في نار جهنم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن الحسن، عن نوف (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) قال: يتركهم مئة سنة مما تعدّون، ثم ناداهم فاستجابوا له، فقال: إنكم ماكثون.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط عن السديّ، في قوله: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) قال: مالك خازن النار، قال: فمكثوا ألف سنة مما تعدون، قال: فأجابهم بعد ألف عام: إنكم ماكثون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله تعالى ذكره: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) قال: يميتنا، القضاء ههنا(21/645)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
الموت، فأجابهم (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) .
وقوله: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ) يقول: لقد أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا محمدا بالحق.
كما حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ) ، قال: الذي جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) يقول تعالى ذكره: ولكن أكثرهم لما جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الحق كارهون.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) }
يقول تعالى ذكره: أم أبرم هؤلاء المشركون من قريش أمرا فأحكموه، يكيدون به الحقّ الذي جئناهم به، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم، ويذلهم من النكال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) قال: مجمعون: إن كادوا شرّا كدنا مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) قال: أم أجمعوا أمرا فإنا مجمعون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(21/646)
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) قال: أم أحكموا أمرا فإنا محكمون لأمرنا.
وقوله: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) يقول: أم يظنّ هؤلاء المشركون بالله أنا لا نسمع ما أخفوا عن الناس من منطقهم، وتشاوروا بينهم وتناجوا به دون غيرهم، فلا نعاقبهم عليه لخفائه علينا.
وقوله: (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) يقول تعالى ذكره: بل نحن نعلم ما تناجوا به بينهم، وأخفوه عن الناس من سرّ كلامهم، وحفظتنا لديهم، يعني عندهم يكتبون ما نطقوا به من منطق، وتكلموا به من كلامهم.
وذكر أن هذه الآية نزلت في نفر ثلاثة تدارءوا في سماع الله تبارك وتعالى كلام عباده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عمرو بن سعيد بن يسار القرشيّ، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا عاصم بن محمد العمريّ، عن محمد بن كعب القرظي، قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها، قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشيّ، فقال واحد من الثلاثة: أترون الله يسمع كلامنا؟ فقال الأول: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، قال الثاني: إن كان يسمع إذا أعلنتم، فإنه يسمع إذا أسررتم، قال: فنزلت (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) قال: الحفَظة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد. عن قتادة (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) : أي عندهم.(21/647)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) فقال بعضهم: في معنى ذلك: قل يا محمد إن كان للرحمن ولد في قولكم وزعمكم أيها المشركون، فأنا أوّل المؤمنين بالله في تكذيبكم، والجاحدين ما قلتم من أن له ولدا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) كما تقولون (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) المؤمنين بالله، فقولوا ما شئتم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) قال: قل إن كان لله ولد في قولكم، فأنا أول من عبد الله ووحده وكذّبكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل ما كان للرحمن ولد، فأنا أول العابدين له بذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) يقول: لم يكن للرحمن ولد فأنا أول الشاهدين.
وقال آخرون: بل معنى ذلك نفي، ومعنى إن الجحد، وتأويل ذلك ما كان ذلك، ولا ينبغي أن يكون.(21/648)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) قال قتادة: وهذه كلمة من كلام العرب (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) : أي إن ذلك لم يكن، ولا ينبغي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) قال: هذا الإنكاف (1) ما كان للرحمن ولد، نكف الله أن يكون له ولد، وإن مثل"ما" إنما هي: ما كان للرحمن ولد، ليس للرحمن ولد، مثل قوله: (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) إنما هي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، فالذي أنزل الله من كتابه وقضاه من قضائه أثبت من الجبال، و"إن" هي"ما" إن كان ما كان تقول العرب: إن كان، وما كان الذي تقول. وفي قوله: (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) أول من يعبد الله بالإيمان والتصديق أنه ليس للرحمن ولد على هذا أعبد الله.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سألت ابن محمد، عن قول الله: (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) قال: ما كان.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو، قال: سألت زيد بن أسلم، عن قول الله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) قال: هذا قول العرب معروف، إن كان: ما كان، إن كان هذا الأمر قط، ثم قال: وقوله: وإن كان: ما كان.
وقال آخرون: معنى"إن" في هذا الموضع معنى المجازاة، قالوا: وتأويل الكلام: لو كان للرحمن ولد، كنت أوّل من عبده بذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (قُلْ إِنْ كَانَ
__________
(1) في النهاية لابن الأثير: إنكاف الله من سوء: أي تنزيهه وتقديسه. وأنكفته: نزهته.(21/649)
لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) قال: لو كان له ولد كنت أول من عبده بأن له ولدا، ولكن لا ولد له.
وقال آخرون: معنى ذلك: قل إن كان للرحمن ولد، فأنا أوّل الآنفين ذلك، ووجهوا معنى العابدين إلى المنكرين الآبين، من قول العرب: قد عبِد فلان من هذا الأمر إذا أنف منه وغضب وأباه، فهو يعبد عبدا، كما قال الشاعر?
ألا هَوِيَتْ أُمُّ الوَلِيدِ وأصْبَحَتْ ... لِمَا أبْصَرَتْ فِي الرأس مِنِّي تَعَبَّدُ (1)
وكما قال الآخر?
مَتى ما يَشأْ ذُو الودّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُ ... وَيَعْبَدْ عَلَيْهْ لا محَالَةَ ظالِمَا (2)
وقد حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، ثني قال: ابن أبي ذئب، عن أبي قسيط، عن بعجة بن زيد الجهني، أن امرأة منهم دخلت على زوجها، وهو رجل منهم أيضا، فولدت له في ستة أشهر، فذكر ذلك لعثمان بن عفان رضي الله عنه فأمر بها أن تُرجم، فدخل عليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (وَحَمْلُهُ
__________
(1) هذا شاهد لم أقف على قائله. استشهد به المؤلف عند قوله تعالى: (فأنا أول العابدين) . قال أبو عبيدة في تفسير الآية (مجاز القرآن الورقة 221) : مجازها إن كان للرحمن ولد: إن في موضع (ما) في قول بعضهم: ما كان للرحمن ولد. والفاء: مجازها مجاز الواو. يريد: ما كان وأنا أول العابدين. وقال آخرون: مجازها: إن كان في قولكم للرحمن ولد، فأنا أول العابدين: أي الكافرين بذاك، والجاحدين لما قلتم. وهو من عبدت تعبد. اهـ. أي من باب علم يعلم. بمعنى أنف أو غضب أو كره الشيء. وتعبد في البيت: بمعنى تأنف أو تغضب، وهو كعبد بمعنى أنف وغضب قال في (اللسان: عبد) : وتعبد: كعبد.
(2) وهذا الشاهد أيضا لم أقف على قائله، وهو بمعنى الشاهد الذي قبله، استشهد به المؤلف على الآية نفسها، يريد أن قول الشاعر: يعبد عليه هو مضارع عبد عليه كعلم: إذا غضب عليه. وفي (اللسان: عبد) والعبد (كسبب) طول الغضب. قال الفراء: عبد عليه، وأحن عليه، أي غضب. وقال الغنوي: العبد: الحزن والوجد. قال الفرزدق. أولَئِكَ قَوْمِي إنْ هَجَوْتِي هَجَوْتُهُم ... وَأَعْبَدُ أنْ أهْجُو كُلَيْبا بِدَارِمِ
أعبد: أي آنف. اهـ.(21/650)
وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) وقال: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) قال: فوالله ما عبِد عثمان أن بعث إليها تردّ. قال يونس، قال ابن وهب: عبد: استنكف.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى: (إنْ) الشرط الذي يقتضي الجزاء على ما ذكرناه عن السديّ، وذلك أن"إن" لا تعدو في هذا الموضع أحد معنيين: إما أن يكون الحرف الذي هو بمعنى الشرط الذي يطلب الجزاء، أو تكون بمعنى الجحد، وهب إذا وجهت إلى الجحد لم يكن للكلام كبير معنى، لأنه يصير بمعنى: قل ما كان للرحمن ولد، وإذا صار بذلك المعنى أوهم أهل الجهل من أهل الشرك بالله أنه إنما نفى بذلك عن الله عزّ وجلّ أن يكون له ولد قبل بعض الأوقات، ثم أحدث له الولد بعد أن لم يكن، مع أنه لو كان ذلك معناه لقدر الذين أمر الله نبيَّهُ محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يقول لهم: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول العابدين أن يقولوا له صدقت، وهو كما قلت، ونحن لم نزعم أنه لم يزل له ولد. وإنما قلنا: لم يكن له ولد، ثم خلق الجنّ فصاهرهم، فحدث له منهم ولد، كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه، ولم يكن الله تعالى ذكره ليحتجّ لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعلى مكذبيه من الحجة بما يقدرون على الطعن فيه، وإذ كان في توجيهنا"إن" إلى معنى الجحد ما ذكرنا، فالذي هو أشبه المعنيين بها الشرط. وإذ كان ذلك كذلك، فبينة صحة ما نقول من أن معنى الكلام: قل يا محمد لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات الله: إن كان للرحمن ولد فأنا أول عابديه بذلك منكم، ولكنه لا ولد له، فأنا أعبده بأنه لا ولد له، ولا ينبغي أن يكون له.
وإذا وجه الكلام إلى ما قلنا من هذا الوجه لم يكن على وجه الشكّ، ولكن على وجه الإلطاف من الكلام وحسن الخطاب، كما قال جلّ ثناؤه (قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .
وقد علم أن الحقّ معه، وأن مخالفيه في الضلال المبين.
وقوله: (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول تعالى ذكره تبرئة وتنزيها(21/651)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
لمالك السموات والأرض ومالك العرش المحيط بذلك كله، وما في ذلك من خلق مما يصفه به هؤلاء المشركون من الكذب، ويضيفون إليه من الولد وغير ذلك من الأشياء التي لا ينبغي أن تضاف إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) : أي يكذّبون.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) }
يقول تعالى ذكره: فذر يا محمد هؤلاء المفترين على الله، الواصفة بأن له ولدا يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وذلك يوم يصليهم الله بفريتهم عليه جهنم، وهو يوم القيامة.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) قال: يوم القيامة.
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ) يقول تعالى ذكره: والله الذي له الألوهة في السماء معبود، وفي الأرض معبود كما هو في السماء معبود، لا شيء سواه تصلح عبادته; يقول تعالى ذكره: فأفردوا لمن هذه صفته العبادة، ولا تشركوا به شيئا غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(21/652)
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ) قال: يُعبد في السماء، ويُعبد في الأرض.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ) أي يُعبد في السماء وفي الأرض.
وقوله: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) يقول: وهو الحكيم في تدبير خلقه، وتسخيرهم لما يشاء، العليم بمصالحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) }
يقول تعالى ذكره، وتبارك الذي له سلطان السموات السبع والأرض، وما بينهما من الأشياء كلها، جار على جميع ذلك حكمه، ماض فيهم قضاؤه. يقول: فكيف يكون له شريكا من كان في سلطانه وحكمه فيه نافذ. (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) يقول: وعنده علم الساعة التي تقوم فيها القيامة، ويُحشر فيها الخلق من قبورهم لموقف الحساب.
قوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يقول: وإليه أيها الناس تردّون من بعد مماتكم، فتصيرون إليه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) }(21/653)
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا يملك عيسى وعُزير والملائكة الذين يعبدهم هؤلاء المشركون بالساعة، الشفاعة عند الله لأحد، إلا من شهد بالحقّ، فوحد الله وأطاعه، بتوحيد علم منه وصحة بما جاءت به رسله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ) قال: عيسى، وعُزير، والملائكة.
قوله: (إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) قال: كلمة الإخلاص، وهم يعلمون أن الله حقّ، وعيسى وعُزير والملائكة يقول: لا يشفع عيسى وعُزير والملائكة إلا من شهد بالحقّ، وهو يعلم الحقّ.
وقال آخرون: عني بذلك: ولا تملك الآلهة التي يدعوها المشركون ويعبدونها من دون الله الشفاعة إلا عيسى وعُزير وذووهما، والملائكة الذين شهدوا بالحقّ، فأقروا به وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) : الملائكة وعيسى وعُزير، قد عُبِدوا من دون الله ولهم شفاعة عند الله ومنزلة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) قال: الملائكة وعيسى ابن مريم وعُزير، فإن لهم عند الله شهادة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد، إلا من شهد(21/654)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
بالحقّ، وشهادته بالحقّ: هو إقراره بتوحيد الله، يعني بذلك: إلا من آمن بالله، وهم يعلمون حقيقة توحيده، ولم يخصص بأن الذي لا يملك ملك الشفاعة منهم بعض من كان يعبد من دون الله، فذلك على جميع من كان تعبد قريش من دون الله يوم نزلت هذه الآية وغيرهم، وقد كان فيهم من يعبد من دون الله الآلهة، وكان فيهم من يعبد من دونه الملائكة وغيرهم، فجميع أولئك داخلون في قوله: ولا يملك الذين يدعو قريش وسائر العرب من دون الله الشفاعة عند الله. ثم استثنى جلّ ثناؤه بقوله: (إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وهم الذين يشهدون شهادة الحقّ فيوحدون الله، ويخلصون له الوحدانية، على علم منهم ويقين بذلك، أنهم يملكون الشفاعة عنده بإذنه لهم بها، كما قال جلّ ثناؤه: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) فأثبت جلّ ثناؤه للملائكة وعيسى وعُزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الآلهة والأوثان باستثنائه الذي استثناه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) }
يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك: من خلقهم؟ ليقولنّ: الله خلقنا.
(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) فأي وجه يصرفون عن عبادة الذي خلقهم، ويحرمون إصابة الحقّ في عبادته.
وقوله: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله:
(وَقِيلِهِ) فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والبصرة"وَقِيلَهُ" بالنصب. وإذا قرئ كذلك ذلك، كان له وجهان في التأويل: أحدهما العطف على قوله: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) ونسمع قيله يا رب. والثاني: أن يضمر له ناصب، فيكون معناه حينئذ: وقال قوله: (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا(21/655)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
يُؤْمِنُونَ) وشكا محمد شكواه إلى ربه. وقرأته عامة قرّاء الكوفة (وقِيلِهِ) بالخفض على معنى: وعنده علم الساعة، وعلم قيله.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار صحيحتا المعنى فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فتأويل الكلام إذن: وقال محمد قيله شاكيا إلى ربه تبارك وتعالى قومه الذين كذّبوه، وما يلقى منهم: يا ربّ إن هؤلاء الذين أمرتني بإنذارهم وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك، قوم لا يؤمنون.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) قال: فأبرّ الله عزّ وجلّ قول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) قال: هذا قول نبيكم عليه الصلاة والسلام يشكو قومه إلى ربه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَقِيلِهِ يَارَبِّ) قال: هو قول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، جوابا له عن دعائه إياه إذ قال:"يا ربّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون" (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) يا محمد، وأعرض عن أذاهم (وَقُلْ) لهم (سَلام) عليكم ورفع سلام بضمير عليكم أو لكم.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فقرأ ذلك عامة قرّاء(21/656)
المدينة"فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" بالتاء على وجه الخطاب، بمعنى: أمر الله عزّ وجلّ نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يقول ذلك للمشركين، مع قوله: (سَلام) وقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض قرّاء مكة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) بالياء على وجه الخبر، وأنه وعيد من الله للمشركين، فتأويله على هذه القراءة: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) يا محمد (وَقُلْ سَلام) . ثم ابتدأ تعالى ذكره الوعيد لهم، فقال (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ما يلقون من البلاء والنكال والعذاب على كفرهم، ثم نسخ الله جلّ ثناؤه هذه الآية، وأمر نبيَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقتالهم.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) قال: اصفح عنهم، ثم أمره بقتالهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله تبارك وتعالى يعزّي نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) .
آخر تفسير سورة الزخرف(21/657)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
سورة الدخان
القول في تأويل قوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) }
قد تقدم بياننا في معنى قوله (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) وقوله (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) أقسم جلّ ثناؤه بهذا الكتاب، أنه أنزله في ليلة مباركة.
واختلف أهل التأويل في تلك الليلة، أيّ ليلة من ليالي السنة هي؟ فقال بعضهم: هي ليلة القدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) : ليلة القدر، ونزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، ونزلت التوراة لستّ ليال مضت من رمضان، ونزل الزَّبور لستّ عشرة مضت من رمضان، ونزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان، ونزل الفُرقَان لأربع وعشرين مضت من رمضان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) قال: هي ليلة القدر.(22/7)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله عزّ وجلّ (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) قال: تلك الليلة ليلة القدر، أنزل الله هذا القرآن من أمّ الكتاب في ليلة القدر، ثم أنزله على الأنبياء (1) في الليالي والأيام، وفي غير ليلة القدر.
وقال آخرون: بل هي ليلة النصف من شعبان.
والصواب من القول في ذلك قول من قال: عنى بها ليلة القدر، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أن ذلك كذلك لقوله تعالى (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) خلَقْنا بهذا الكتاب الذي أنزلناه في الليلة المباركة عقوبتنا أن تحلّ بمن كفر منهم، فلم ينب إلى توحيدنا، وإفراد الألوهة لنا.
وقوله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) اختلف أهل التأويل في هذه الليلة التي يُفرق فيها كلّ أمر حكيم، نحو اختلافهم في الليلة المباركة، وذلك أن الهاء التي في قوله (فِيهَا) عائدة على الليلة المباركة، فقال بعضهم: هي ليلة القدر، يقضي فيها أمر السنة كلها من يموت، ومن يولد، ومن يعزّ، ومن يذل، وسائر أمور السنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا ربيعة بن كلثوم، قال: كنت عند الحسن، فقال له رجل: يا أبا سعيد، ليلة القدر في كلّ رمضان؟ قال: إي والله، إنها لفي كلّ رمضان، وإنها الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كلّ أجل وأمل ورزق إلى مثلها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان هي؟ قال:
__________
(1) في فتح القدير للشوكاني (4: 554) :" وقال قتادة: أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي والأيام، في ثلاث وعشرين سنة".(22/8)
نعم والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي كل رمضان، وإنها الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم، يقضي الله كلّ أجل وخلق ورزق إلى مثلها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الحميد بن سالم، عن عمر مولى غفرة، قال: يقال: ينسخ لملك الموت من يموت ليلة القدر إلى مثلها، وذلك لأن الله عزّ وجلّ يقول: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) وقال (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: فتجد الرجل ينكح النساء، ويغرس الغرس واسمه في الأموات.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن أبي مالك، في قوله: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: أمر السنة إلى السنة ما كان من خلق أو رزق أو أجل أو مصيبة، أو نحو هذا.
قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن هلال بن يساف، قال: كان يقال: انتظروا القضاء في شهر رمضان.
حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن في قوله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: يدبر أمر السنة في ليلة القدر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: في ليلة القدر كل أمر يكون في السنة إلى السنة: الحياة والموت، يقدر فيها المعايش والمصائب كلها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) ليلة القدر (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) كُنَّا نُحدَّثُ أنه يُفْرق فيها أمر السنة إلى السنة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: هي ليلة القدر فيها يُقضى ما يكون من السنة إلى السنة.(22/9)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، قال: سألت مجاهدا فقلت: أرأيت دعاء أحدنا يقول: اللهمّ إن كان اسمي في السعداء، فأثبته فيهم، وإن كان في الأشقياء فامحه منهم، واجعله بالسعداء، فقال: حسن، ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر من ذلك، فسألته عن هذا الدعاء، قال: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: يقضى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة، ثم يقدّم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء فأما كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يغير.
وقال آخرون: بل هي ليلة النصف من شعبان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الفضل بن الصباح، والحسن بن عرفة، قالا ثنا الحسن بن إسماعيل البجلي، عن محمد بن سوقة، عن عكرمة في قول الله تبارك وتعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: في ليلة النصف من شعبان، يبرم فيه أمر السنة، وتنسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد، ولا ينقص منهم أحد.
حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الليث، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عثمان بن محمد بن المُغيرة بن الأخنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تُقْطَعُ الآجالُ مِنْ شَعْبان إلى شَعْبانَ حتى إن الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهْ وَقَدْ خَرَجَ اسمُهُ فِي المَوْتَى".
حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا أبو هشام، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا عثمان بن حكيم، قال: ثنا سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: إن الرجل ليمشي في الناس وقد رُفع في الأموات، قال: ثم قرأ هذه الآية (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: ثم قال: يفرق فيها أمر الدنيا من السنة إلى السنة.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر لما قد(22/10)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
تقدّم من بياننا عن أن المعني بقوله (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) ليلة القدر، والهاء في قوله (فِيهَا) من ذكر الليلة المباركة.
وعنى بقوله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) في هذه الليلة المباركة يُقْضَى ويُفْصَل كلّ أمر أحكمه الله تعالى في تلك السنة إلى مثلها من السنة الأخرى، ووضع حكيم موضع محكم، كما قال: (الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) يعني: المحكم.
وقوله (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) يقول تعالى ذكره: في هذه الليلة المباركة يُفْرق كلّ أمر حكيم، أمرا من عندنا.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله (أمْرًا) فقال بعض نحويي (1) الكوفة: نصب على (2) إنا أنزلناه أمرا ورحمة على الحال. وقال بعض نحويي (3) البصرة: نصب على معنى يفرق كل أمر فرقا وأمرا. قال: وكذلك قوله (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) قال: ويجوز أن تنصب الرحمة بوقوع مرسلين عليها، فجعل الرحمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) يقول تعالى ذكره: إنا كنا مرسلي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى عبادنا رحمة من ربك يا محمد (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يقول: إن الله تبارك وتعالى هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون فيما أنزلنا من كتابنا، وأرسلنا من رسلنا إليهم، وغير ذلك من منطقهم ومنطق غيرهم، العليم بما تنطوي عليه ضمائرهم، وغير ذلك من أمورهم وأمور غيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
__________
(1) في الأصل بدون نقطتين.
(2) كذا في الأصل. ولعل لفظة"على" زيادة من الناسخ.
(3) في الأصل بدون نقطتين.(22/11)
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) }
اختلف القرّاء في قراءة قوله (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة " رَبُّ السَّمَوَاتِ " بالرفع على إتباع إعراب الربّ إعراب السميع العليم. وقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض المكيين " ربَّ السمَوَاتِ " خفضا ردّ على الرب في قوله جلّ جلاله (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
ويعني بقوله (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) يقول تعالى ذكره الذي أنزل هذا الكتاب يا محمد عليك، وأرسلك إلى هؤلاء المشركين رحمة من ربك، مالك السموات السبع والأرض وما بينهما من الأشياء كلها.
وقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) يقول: إن كنتم توقنون بحقيقة ما أخبرتكم من أن ربكم ربّ السموات والأرض، فإن الذي أخبرتكم أن الله هو الذي هذه الصفات صفاته، وأن هذا القرآن تنزيله، ومحمدا صلى الله عليه وسلم رسوله حق يقين، فأيقنوا به كما أيقنتم بما توقنون من حقائق الأشياء غيره.
وقوله (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) يقول: لا معبود لكم أيها الناس غير ربّ السموات والأرض وما بينهما، فلا تعبدوا غيره، فإنه لا تصلح العبادة لغيره، ولا تنبغي لشيء سواه، يحيي ويميت، يقول: هو الذي يحيي ما يشاء، ويميت ما يشاء مما كان حيا.
وقوله (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ) يقول: هو مالككم ومالك من مضى قبلكم من آبائكم الأوّلين، يقول: فهذا الذي هذه صفته، هو الربّ فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضرّ ولا نفع.
وقوله (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) يقول تعالى ذكره ما هم بموقنين بحقيقة ما يقال لهم ويخبرون من هذه الأخبار، يعني بذلك مشركي قريش، ولكنهم(22/12)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
في شكّ منه، فهم يلهون بشكهم في الذي يخبرون به من ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) }
يعني تعالى ذكره بقوله (فَارْتَقِبْ) فانتظر يا محمد بهؤلاء المشركين من قومك الذين هم في شكّ يلعبون، وإنما هو افتعل، من رقبته: إذا انتظرته وحرسته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة (فَارْتَقِبْ) : أي فانتظر.
وقوله (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) اختلف أهل التأويل في هذا الذي أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبه، وأخبره أن السماء تأتي فيه بدخان مبين: أي يوم هو، ومتى هو؟ وفي معنى الدخان الذي ذُكر في هذا الموضع، فقال بعضهم: ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش ربه تبارك وتعالى أن يأخذهم بسنين كسني يوسف، فأخذوا بالمجاعة، قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدّة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: دخلنا المسجد، فإذا رجل يقص على أصحابه. ويقول: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) تدرون ما ذلك(22/13)
الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ أسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام؟ قال: فأتينا ابن مسعود، فذكرنا ذلك له وكان مضطجعا، ففزع، فقعد فقال: إن الله عزّ وجلّ قال لنبيه صلى الله عليه وسلم (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، سأحدثكم عن ذلك، إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام، واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان.
قال الله تبارك وتعالى (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فقالوا (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) قال الله جل ثناؤه (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) قال: فعادوا يوم بدر فانتقم الله منهم.
حدثني عبد الله بن محمد الزهريّ، قال: ثنا مالك بن سُعَير، قال: ثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: كان في المسجد رجل يذكر الناس، فذكر نحو حديث عيسى، عن يحيى بن عيسى، إلا أنه قال: فانتقم يوم بدر، فهي البطشة الكبرى.
حدثنا ابن حميد، وعمرو بن عبد الحميد، قالا ثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن مسروق، قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن: إن قاصا عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس اتقوا الله، فمن علم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم.
وقال عمرو: فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم، وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، فإن الله عزّ وجلّ يقول لنبيه محمد صلى الله(22/14)
عليه وسلم (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا، قال:"اللهمّ سبعا كسبع يوسف"، فأخذتهم سنة حصَّت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا من الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد إنك جئت تأمر بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، قال الله عزّ وجلّ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) ... إلى قوله (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) قال: فكُشف عنهم (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فالبطشة يوم بدر، وقد مضت آية الروم وآية الدخان، والبطشة واللزام.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: قال عبد الله: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال:" ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، قال: شهدت جنازة فيها زيد بن عليّ فأنشأ يحدّث يومئذ، فقال: إن الدخان يجيء قبل يوم القيامة، فيأخذ بأنف المؤمن الزكام، ويأخذ بمسامع الكافر، قال: قلت رحمك الله، إن صاحبنا عبد الله قد قال غير هذا، قال: إن الدخان قد مضى وقرأ هذه الآية (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) قال: أصاب الناس جهد حتى جعل الرجل يرى ما بينه وبين السماء دخانا، فذلك قوله (فَارْتَقِبْ) وكذا قرأ عبد الله إلى قوله (مُؤْمِنُونَ) قال (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا) قلت لزيد فعادوا، فأعاد الله عليهم بدرا، فذلك قوله (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) فذلك يوم بدر، قال: فقبل والله، قال عاصم، فقال رجل يردّ عليه، فقال زيد رحمة الله عليه: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال:"إنَّكُمْ سَيَجِيئُكُمْ رُوَاةٌ، فَمَا وَافَقَ القُرآن فَخُذُوا بِهِ، ومَا كانَ غيرَ ذلكَ فَدَعُوهُ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر،(22/15)
عن ابن مسعود أنه قال: البطشة الكبرى يوم بدر، وقد مضى الدخان.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، قال: سمعت أبا العالية يقول: إن الدخان قد مضى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عمرو، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: مضى الدخان لسنين أصابتهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن محمد، قال: نُبئت أن ابن مسعود كان يقول: قد مضى الدخان، كان سنين كسني يوسف.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) قال: الجدب وإمساك المطر عن كفار قريش، إلى قوله (إِنَّا مُؤْمِنُونَ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) قال: كان ابن مسعود يقول: قد مضى الدخان، وكان سنين كسني يوسف (يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) قد مضى شأن الدخان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: يوم بدر.
وقال آخرون: الدخان آية من آيات الله، مرسلة على عباده قبل مجيء الساعة، فيدخل في أسماع أهل الكفر به، ويعتري أهل الإيمان به كهيئة الزكام، قالوا: ولم يأت بعد، وهو آت.(22/16)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن عبد الملك بن المُغيرة، عن عبد الرحمن بن البيلمان، عن ابن عمر، قال: يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن كهيئة الزكمة، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق، حتى يكون كالرأس الحنيذ.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: غدوت على ابن عباس ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لمَ؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت.
حدثنا محمد بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن عوف، قال: قال الحسن: إن الدخان قد بقي من الآيات، فإذا جاء الدخان نفخ الكافر حتى يخرج من كلّ سمع من مسامعه، ويأخذ المؤمن كزكمة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عثمان، يعني ابن الهيثم، قال: ثنا عوف، عن الحسن بنحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد، قال: يهيج الدخان بالناس. فأما المؤمن فيأخذه منه كهيئة الزكمة. وأما الكافر فيهيجه حتى يخرج من كلّ مسمع منه قال: وكان بعض أهل العلم يقول: فما مَثل الأرض يومئذ إلا كمَثل بيت أوقد فيه ليس فيه خصاصة.
حدثني عصام بن روّاد بن الجراح، قال: ثني أبي، قال: ثنا سفيان بن سعيد الثوري، قال: ثنا منصور بن المعتمر، عن رِبْعِيِّ بن حَرَاش، قال: سمعت حُذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أوَّلُ الآيات الدَّجالُ، وَنزول عِيسى بن مَرْيَمَ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدْنِ أَبْيَنَ تَسُوقُ النَّاسَ إلى المَحْشَر تَقِيلُ مَعَهُمْ إذَا قالوا، والدُّخان"، قال حُذيفة: يا رسول الله(22/17)
وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) يَمْلأ ما بَينَ المَشْرقِ والمَغْرِب يَمْكُثُ أرْبَعِينَ يَوْما وَلَيْلَةً أمَّا المُؤْمِنُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكامِ. وأمَّا الكَافِرُ فَيَكُونُ بِمَنزلَةِ السَّكْرانِ يَخْرُجُ مِنْ مَنْخِريْهِ وأُذُنَيْهِ ودُبُرِهِ".
حدثني محمد بن عوف، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، قال: ثني أبي، قال: ثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ رَبَّكُمْ أنْذَرَكُمْ ثَلاثا: الدُّخانُ يَأْخُذ المُؤْمِنَ كالزَّكْمَةِ، ويَأْخُذُ الكَافِرَ فَيَنْتَفِخَ حتى يَخْرُجَ مِنْ كُلّ مَسْمَعٍ مِنْهُ، والثَّانِيَة الدَّابَّةُ، والثَّالِثَة الدَّجَّالُ".
وأولى القولين بالصواب في ذلك ما رُوي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبه، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم، على ما وصفه ابن مسعود من ذلك إن لم يكن خبر حُذيفة الذي ذكرناه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا، وإن كان صحيحا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما أنزل الله عليه، وليس لأحد مع قوله الذي يصح عنه قول.
وإنما لم أشهد له بالصحة، لأن محمد بن خلف العسقلانيّ حدثني أنه سأل روّادا عن هذا الحديث، هل سمعه من سفيان؟ فقال له: لا فقلت له: فقرأته عليه، فقال: لا فقلت له: فقرئ عليه وأنت حاضر فأقرّ به، فقال: لا فقلت: فمن أين جئت به؟ قال: جاءني به قوم فعرضوه عليّ وقالوا لي: اسمعه منا فقرءوه عليّ، ثم ذهبوا، فحدّثوا به عني، أو كما قال; فلما ذكرت من ذلك لم أشهد له بالصحة، وإنما قلت: القول الذي قاله عبد الله بن مسعود هو أولى بتأويل الآية، لأن الله جلّ ثناؤه توعَّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله (لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)(22/18)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
ثم أتبع ذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) أمرًا منه له بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديدًا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم.
وبعد، فإنه غير منكر أن يكون أحلّ بالكفار الذين توعدهم بهذا الوعيد ما توعدهم، ويكون مُحِلا فيما يستأنف بعد بآخرين دخانا على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا كذلك، لأن الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تظاهرت بأن ذلك كائن، فإنه قد كان ما رَوَى عنه عبد الله بن مسعود، فكلا الخبرين اللذين رُويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح.
وإن كان تأويل الآية في هذا الموضع ما قلنا، فإذ كان الذي قلنا في ذلك أولى التأويلين، فبين أن معناه: فانتظر يا محمد لمشركي قومك يوم تأتيهم السماء من البلاء الذي يحل بهم على كفرهم بمثل الدخان المبين لمن تأمله أنه دخان. (يغشَى الناس) : يقول: يغشى أبصارهم من الجهد الذي يصيبهم. (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني أنهم يقولون مما نالهم من ذلك الكرب والجهد: هذا عذاب أليم. وهو الموجع، وترك من الكلام (يقولون) استغناء بمعرفة السامعين معناه من ذكرها.
وقوله (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ) يعني أن الكافرين الذين يصيبهم ذلك الجهد يضرعون إلى ربهم بمسألتهم إياه كشف ذلك الجهد عنهم، ويقولون: إنك إن كشفته آمنا بك وعبدناك من دون كلّ معبود سواك، كما أخبر عنهم جل ثناؤه (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) }(22/19)
يقول تعالى ذكره: من أيّ وجه لهؤلاء المشركين التذكر من بعد نزول البلاء بهم، وقد تولوا عن رسولنا حين جاءهم مدبرين عنه، لا يتذكرون بما يُتلى عليهم من كتابنا، ولا يتعظون بما يعظهم به من حججنا، ويقولون: إنما هو مجنون عُلِّم هذا (1) الكلام.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى) يقول: كيف لهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى) بعد وقوع هذا البلاء.
وبنحو الذي قلنا أيضا في قوله (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) قال: تولوا عن محمد عليه الصلاة والسلام، وقالوا: معلم مجنون.
وقوله (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين الذين أخبر عنهم أنهم يستغيثون به من الدخان النازل والعذاب الحالّ بهم من الجهد، وأخبر عنهم أنهم يعاهدونه أنه (إن كشف العذاب عنهم آمنوا) إنا كاشفوا العذاب: يعني الضرّ النازل بهم بالخصب الذي نحدثه لهم (قَلِيلا إِنَّكُمْ
__________
(1) في الأصل:"على" في موضع"علم". وهو تحريف من الناسخ.(22/20)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
عَائِدُونَ) يقول: إنكم أيها المشركون إذا كَشَفْتُ عنكم ما بكم من ضرّ لم تفوا بما تعدون وتعاهدون عليه ربكم من الإيمان، ولكنكم تعودون في ضلالتكم وغيكم، وما كنتم قبل أن يكشف عنكم.
وكان قتادة يقول: معناه: إنكم عائدون في عذاب الله.
حدثنا بذلك ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عنه. وأما الذين قالوا: عنى بقوله: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) الدخان نفسه، فإنهم قالوا في هذا الموضع: عنى بالعذاب الذي قال (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ) : الدخان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا) يعني الدخان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا) قال: قد فعل، كشف الدخان حين كان.
قوله (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) قال: كُشِف عنهم فعادوا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) إلى عذاب الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) }
يقول تعالى ذكره: إنكم أيها المشركون إن كشفت عنكم العذاب النازل بكم، والضرّ الحالّ بكم، ثم عدتم في كفركم، ونقضتم عهدكم الذي عاهدتم(22/21)
ربكم، انتقمت منكم يوم أبطش بكم بطشتي الكبرى في عاجل الدنيا، فأهلككم، وكشف الله عنهم، فعادوا، فبطش بهم جلّ ثناؤه بطشته الكبرى في الدنيا، فأهلكهم قتلا بالسيف.
وقد اختلف أهل التأويل في البطشة الكبرى، فقال بعضهم: هي بطشة الله بمشركي قريش يوم بدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود، أنه قال: البطشة الكبرى: يوم بدر.
حدثني عبد الله بن محمد الزهري، قال: ثنا مالك بن سعير، قال: ثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: يوم بدر، البطشة الكبرى.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن محمد، قال: نبئت أن ابن مسعود كان يقول: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) يوم بدر.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: يوم بدر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: يوم بدر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف قال: سمعت أبا العالية في هذه الآية (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: يوم بدر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: يعني يوم بدر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثام بن عليّ، عن الأعمش، عن إبراهيم،(22/22)
قال: قلت: ما البطشة الكبرى؟ فقال: يوم القيامة، فقلت: إن عبد الله كان يقول: يوم بدر; قال. فبلغني أنه سُئل بعد ذلك فقال: يوم بدر.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب قالا ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن إبراهيم، بنحوه.
حدثنا بشر، ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن مجاهد، عن أبيّ بن كعب، قال: يوم بدر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) يوم بدر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فى قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال: هذا يوم بدر.
وقال آخرون: بل هي بطشة الله بأعدائه يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: مرّ بي عكرمة، فسألته عن البطشة الكبرى فقال: يوم القيامة; قال: قلت: إن عبد الله بن مسعود كان يقول: يوم بدر، وأخبرني من سأله بعد ذلك فقال: يوم بدر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) قال قتادة عن الحسن: إنه يوم القيامة.
وقد بينَّا الصواب في ذلك فيما مضى، والعلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من القول فيه.(22/23)
وقوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) يعني تعالى ذكره: ولقد اختبرنا وابتلينا يا محمد قبل مشركي قومك مثال هؤلاء قوم فرعون من القبط (وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) يقول: وجاءهم رسول من عندنا أرسلناه إليهم، وهو موسى بن عمران صلوات الله عليه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) يعني موسى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (رَسُولٌ كَرِيمٌ) قال: موسى عليه السلام، ووصفه جل ثناؤه بالكرم، لأنه كان كريما عليه، رفيعا عنده مكانه، وقد يجوز أن يكون وصفه بذلك، لأنه كان في قومه شريفا وسيطا.
وقوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وجاء قوم فرعون رسول من الله كريم عليه بأن ادفعوا إليّ، ومعنى"أدوا": ادفعوا إليّ فأرسلوا معي واتبعون، وهو نحو قوله (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) فأن في قوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ) نصب، وعباد الله نصب بقوله (أَدُّوا) وقد تأوله قوم: أن أدّوا إليّ يا عباد الله، فعلى هذا التأويل عباد الله نصب على النداء.
وبنحو الذي قلنا في تأويل (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) قال: يقول: اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: يقول: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) قال: أرسلوا معي بني إسرائيل.(22/24)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) قال: بني إسرائيل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) يعني به بني إسرائيل، قال لفرعون: علام تحبس هؤلاء القوم، قوما أحرارا اتخذتهم عبيدا، خلّ سبيلهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) قال: يقول: أرسل عباد الله معي، يعني بني إسرائيل، وقرأ (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) قال: ذلك قوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) قال: ردّهم إلينا.
وقوله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) يقول: إني لكم أيها القوم رسول من الله أرسلني إليكم لا يدرككم بأسه على كفركم به، (أمين) : يقول: أمين على وحيه ورسالته التي أوعدنيها إليكم.(22/25)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) }
يقول تعالى ذكره: وجاءهم رسول كريم، أن أدّوا إلي عباد الله، وبأن لا تعلوا على الله.
وعنى بقوله (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ) أن لا تطغوا وتبغوا على ربكم، فتكفروا به وتعصوه، فتخالفوا أمره (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) يقول: إني آتيكم بحجة على حقيقة ما أدعوكم إليه، وبرهان على صحته، مبين لمن تأملها وتدبرها أنها حجة لي على صحة ما أقول لكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(22/25)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ) : أي لا تبغوا على الله (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) : أي بعذر مبين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ) يقول: لا تفتروا على الله.
وقوله (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) يقول: وإني اعتصمت بربي وربكم، واستجرت به منكم أن ترجمون.
واختلف أهل التأويل في معنى الرجم الذي استعاذ موسى نبيّ الله عليه السلام بربه منه، فقال بعضهم: هو الشتم باللسان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) قال: يعني رجم القول.
حدثني ابن المثنى، قال: ثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: ثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) قال: الرجم: بالقول.
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) قال: أن تقولوا هو ساحر.(22/26)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
وقال آخرون: بل هو الرجم بالحجارة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) : أي أن ترجمون بالحجارة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَنْ تَرْجُمُونِ) قال: أن ترجمون بالحجارة.
وقال آخرون: بل عنى بقوله (أَنْ تَرْجُمُونِ) : أن تقتلوني.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما دلّ عليه ظاهر الكلام، وهو أن موسى عليه السلام استعاذ بالله من أن يرجُمه فرعون وقومه، والرجم قد يكون قولا باللسان، وفعلا باليد. والصواب أن يقال: استعاذ موسى بربه من كل معاني رجمهم الذي يصل منه إلى المرجوم أذًى ومكروه، شتما كان ذلك باللسان، أو رجما بالحجارة باليد.
وقوله (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى عليه السلام لفرعون وقومه: وإن أنتم أيها القوم لم تصدّقوني على ما جئتكم به من عند ربي، فاعتزلون: يقول: فخلوا سبيلي غير مرجوم باللسان ولا باليد.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) : أي فخلُّوا سبيلي.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) }
يقول تعالى ذكره: فدعا موسى ربه إذ كذّبوه ولم يؤمنوا به، ولم يؤدّ(22/27)
إليه عباد الله، وهموا بقتله بأن هؤلاء، يعني فرعون وقومه (قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) يعني: أنهم مشركون بالله كافرون.
وقوله (فَأَسْرِ بِعِبَادِي) وَفِي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذُكر عليه منه، وهو: فأجابه ربه بأن قال له: فأسر إذ كان الأمر كذلك بعبادي، وهم بنو إسرائيل، وإنما معنى الكلام: فأسر بعبادي الذين صدّقوك وآمنوا بك، واتبعوك دون الذين كذّبوك منهم، وأبَوْا قبول ما جئتهم به من النصيحة منك، وكان الذين كانوا بهذه الصِّفَة يومئذ بني إسرائيل. وقال: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا) لأن معنى ذلك: سر بهم بليل قبل الصباح.
وقوله (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يقول: إن فرعون وقومه من القبط متبعوكم إذا شخصتم عن بلدهم وأرضهم في آثاركم.
وقوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) يقول: وإذا قطعت البحر أنت وأصحابُك، فاتركه ساكنا على حاله التي كان عليها حين دخلته. وقيل: إن الله تعالى ذكره قال لموسى هذا القول بعد ما قطع البحر ببني إسرائيل فإذ كان ذلك كذلك، ففي الكلام محذوف، وهو: فسرَى موسى بعبادي ليلا وقطع بهم البحر، فقلنا له بعد ما قطعه، وأراد ردّ البحر إلى هيئته التي كان عليها قبل انفلاقه: اتركْه رَهْوًا.
* ذكر من قال ما ذكرنا من أن الله عزّ وجلّ قال لموسى صلى الله عليه وسلم هذا القول بعد ما قطع البحر بقومه:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) حتى بلغ (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) قال: لما خرج آخر بني إسرائيل أراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب البحر بعصاه، حتى يعود كما كان مخافة آل فرعون أن يدركوهم، فقيل له (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال:(22/28)
لما قطع البحر، عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) كما هو (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) .
واختلف أهل التأويل في معنى الرهْو، فقال بعضهم: معناه: اتركه على هيئته وحاله التي كان عليها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) يقول: سَمْتا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) قال: الرهو: أن يترك كما كان، فإنهم لن يخلُصوا من ورائه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا حميد، عن إسحاق، عن عبد الله بن الحارث، عن أبيه، أن ابن عباس سأل كعبا عن قول الله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: طريقا.
وقال آخرون: بل معناه: اتركه سَهْلا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع، قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: سهلا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: يقال: الرهو: السهل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرميّ بن عُمارة قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن الضحاك بن مُزاحم، فى قول الله عزّ وجلّ (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: دَمثا.(22/29)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: سهلا دمثا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: هو السهل.
وقال آخرون: بل معناه: واتركه يبسا جددا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني عبيد الله بن معاذ، قال: ثني أبي، عن شعبة، عن سماك، عن عكرمة، في قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: جددا.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن سماك، عن عكرمة في قوله (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) قال: يابسا كهيئته بعد أن ضربه، يقول: لا تأمره يرجع، اتركه حتى يدخل آخرهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (رَهوًا) قال: طريقا يَبَسا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) كما هو طريقا يابسا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه: اتركه على هيئته كما هو على الحال التي كان عليها حين سلَكْته، وذلك أن الرهو في كلام العرب: السكون، كما قال الشاعر:
كأنَّما أهْلُ حُجْرٍ يَنْظُرُونَ مَتَى ... يَرَوْنَنِي خارِجا طَيْرٌ يَنَادِيد ... طَيرٌ رأَتْ بازِيا نَضْحُ الدّماءِ بِهِ ... وأُمُّهُ خَرَجَتْ رَهْوًا إلى عِيد (1)
__________
(1) هذا بيت من قصيدة للراعي، مدح بها سعد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، عدتها سبعة وخمسون بيتا. وقوله " ذات آثارة " أي رب ناقة ذات سمن. والأثارة، بفتح الهمزة: شحم متصل بشحم آخر، ويقال هي بقية من الشحم العتيق، يقال: سمنت الناقة على أثارة، أي على بقية شحم. وأكمته: غلفه، جمع كمام، وهو جمع كم بكسر الكاف، وهو غطاء النور وغلافه. وقفارًا وقفارة: وصف للنبات: أي رعته خاليًا لها من مزاحمة غيرها في رعيه. وأصله من قولهم طعام قفار: أي أكل بلا إدام. (انظر خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 4: 251) واستشهد بالبيت أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 222) . عند قوله تعالى: " أو أثارة من علم " أي بقية من شحم أكلت عليه. ومن قال: " أثرة " فهو مصدر أثره يأثره: يذكره. وفي (اللسان: أثر) : وأثرة العلم وأثرته وأثارته، بقية منه تؤثر فتذكر. وقال الزجاج أثاره: في معنى علامة. ويجوز أن يكون على معنى بقية من علم ونسب البيت للشماخ.(22/30)
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
يعني على سكون، وإذا كان ذلك معناه كان لا شكّ أنه متروك سهلا دَمِثا، وطريقا يَبَسا لأن بني إسرائيل قطعوه حين قطعوه، وهو كذلك، فإذا ترك البحر رهوا كما كان حين قطعه موسى ساكنا لم يُهج كان لا شكّ أنه بالصفة التي وصفت.
وقوله (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) يقول: إن فرعون وقومه جند، الله مغرقهم في البحر.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) }
يقول تعالى ذكره: كم ترك فرعون وقومه من القبط بعد مهلكهم وتغريق الله إياهم من بساتين وأشجار، وهي الجنات، وعيون، يعني: ومنابع ما كان ينفجر في جنانهم وزروع قائمة في مزارعهم (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) يقول: وموضع كانوا يقومونه شريف كريم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله ذلك المقام بالكرم، فقال بعضهم: وصفه بذلك لشرفه، وذلك أنه مَقام الملوك والأمراء، قالوا: وإنما أريد به المنابر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني جعفر بن ابنة إسحاق الأزرق، قال: ثنا سعيد بن محمد الثقفي،(22/31)
قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مُهاجر، عن أبيه، عن مجاهد، في قوله (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) قال: المنابر.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا عبد الله بن داود الواسطي، قال: ثنا شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبير، في قوله (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) قال: المنابر.
وقال آخرون: وصف ذلك المقام بالكرم لحسنه وبهجته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) : أي حسن.
وقوله (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) يقول تعالى ذكره: وأخرجوا من نعمة كانوا فيها فاكهين متفكهين ناعمين.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (فَاكِهِينَ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر القارئ (فَاكِهِينَ) على المعنى الذي وصفت. وقرأه أبو رجاء العُطاردي والحسن وأبو جعفر المدنيّ (فَكِهينَ) بمعنى: أشِرِين بَطِرين.
والصواب من القراءة عندي في ذلك، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار، وهي (فَاكِهِينَ) بالألف بمعنى ناعمين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) : ناعمين، قال: إي والله، أخرجه الله من جناته وعيونه وزروعه حتى ورّطه في البحر.
وقوله (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) يقول تعالى ذكره: هكذا كما وصفت لكم أيها الناس فعلنا بهؤلاء الذي ذكرتُ لكم أمرهم، الذين كذّبوا(22/32)
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
رسولنا موسى صلى الله عليه وسلم.
وقوله (وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) يقول تعالى ذكره وأورثنا جناتهم وعيونهم وزروعهم ومقَاماتهم وما كانوا فيه من النعمة عنهم قوما آخرين بعد مهلكهم، وقيل: عُنِي بالقوم الآخرين بنو إسرائيل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) يعني بني إسرائيل.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) }
يقول تعالى ذكره: فما بكت على هؤلاء الذين غرّقهم الله في البحر، وهم فرعون وقومه، السماء والأرض، وقيل: إن بكاء السماء حمرة أطرافها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسيّ، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن الحكم بن ظهير، عن السديّ قال: لما قتل الحسين بن عليّ رضوان الله عليهما بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرتها.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء في قوله (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) قال: بكاؤها حمرة أطرافها.
وقيل: إنما قيل (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) لأن المؤمن إذا مات، بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا، ولم تبكيا على فرعون وقومه، لأنه(22/33)
لم يكن لهم عمل يَصعْد إلى الله صالح، فتبكي عليهم السماء، ولا مسجد في الأرض، فتبكي عليهم الأرض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جُبير، قال: أتى ابن عباس رجل، فقال: يا أبا عباس أرأيت قول الله تبارك وتعالى (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه، بكى عليه; وإذا فقده مُصَلاه من الأرض التي كان يصلي فيها، ويذكر الله فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى السماء منهم خير، قال: فلم تبك عليهم السماء والأرض.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ويحيى قالا ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان يقال: تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحًا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي يحيى القَتَّات، عن مجاهد، عن ابن عباس بمثله.
حدثني يحيى بن طلحة، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن مجاهد، قال: حُدثت أن المؤمن إذا مات بكت عليه الأرض أربعين صباحا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا بكير بن أبي السميط، قال: ثنا قتادة، عن سعيد بن جُبير أنه كان يقول: إن بقاع الأرض التي كان يصعد عمله منها إلى السماء تبكي عليه بعد موته، يعني المؤمن.(22/34)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) قال: إنه ليس أحد إلا له باب في السماء ينزل فيه رزقه ويصعد فيه عمله، فإذا فُقِد بكت عليه مواضعه التي كان يسجد عليها، وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يقبل منهم، فيصعد إلى الله عزّ وجلّ، فقال مجاهد: تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحا.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: كان يقال: إن المؤمن إذا مات بكت عليه الأرض أربعين صباحا.
حدثنا يحيى بن طلحة، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد الحضرمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الإسْلامَ بَدَأ غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا، ألا لا غُرْبَةَ عَلى المُؤْمِن، ما ماتَ مُؤْمِنٌ فِي غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ إلا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّماءُ والأرْضُ"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) ، ثم قال:"إنَّهُما لا يَبْكِيانِ على الكافر".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) ... الآية، قال: ذلك أنه ليس على الأرض مؤمن يموت إلا بكى عليه ما كان يصلي فيه من المساجد حين يفقده، وإلا بكى عليه من السماء الموضعُ الذي كان يرفع منه كلامه، فذلك لأهل معصيته: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) لأنهما يبكيان على أولياء الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) (1) .
__________
(1) في الأصل: " لم يذكر لهذا السند تفسير عن قتادة والذي في الدر المنثور عنه قال: هم كانوا أهون على الله من ذلك. وقال: وكنا نحدث أن المؤمن تبكي عليه بقاعه التي يصلي فيها من الأرض ومصعد عمله من السماء ".(22/35)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) يقول: لا تبكي السماء والأرض على الكافر، وتبكي على المؤمن الصالح معالمُه من الأرض ومقرُّ عمله من السماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ) قال: بقاع المؤمن التي كان يصلي عليها من الأرض تبكي عليه إذا مات، وبقاعه من السماء التي كان يرفع فيها عمله.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَير، قال: سُئل ابن عباس: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: نعم إنه ليس أحد، من الخلق إلا له باب في السماء يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه، فإذا مات بكى عليه مكانه من الأرض الذي كان يذكر الله فيه ويصلي فيه، وبكى عليه بابه الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه. وأما قوم فرعون، فلم يكن لهم آثار صالحة، ولم يصعد إلى السماء منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض.
وقوله (وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) يقول: وما كانوا مؤخرين بالعقوبة التي حلَّت بهم، ولكنهم عوجلوا بها إذ أسخطوا ربهم عزّ وجلّ عليهم (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ) : يقول تعالى ذكره: ولقد نجَّينا بني إسرائيل من العذاب الذي كان فرعون وقومه يعذّبونَهُم به، المهين يعني المذلّ لهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ) بقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم.(22/36)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
وقوله (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ) يقول تعالى ذكره: ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب من فرعون، فقوله (مِنْ فِرْعَوْنَ) مكرّرة على قوله (مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ) مبدلة من الأولى. ويعني بقوله (إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ) إنه كان جبارا مستعليًا مستكبرًا على ربه، (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) يعني: من المتجاوزين ما ليس لهم تجاوزه. وإنما يعني جل ثناؤه أنه كان ذا اعتداء في كفره، واستكبار على ربه جلّ ثناؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (33) }
يقول تعالى ذكره: ولقد اخترنا بني إسرائيل على علم منا بهم على عالمي أهل زمانهم يومئذ، وذلك زمان موسى صلوات الله وسلامه عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) : أي اختيروا على أهل زمانهم ذلك، ولكلّ زمان عالم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) قال: عالم ذلك الزمان.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) قال: على من هم بين ظَهْرَانِيهِ.
قوله (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) يقول تعالى ذكره:(22/37)
وأعطيناهم من العِبر والعِظات ما فيه اختبار يبين لمن تأمله أنه اختبار اختبرهم الله به.
واختلف أهل التأويل في ذلك البلاء، فقال بعضهم: ابتلاهم بنعمه عندهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) أنجاهم الله من عدوّهم، ثم أقطعهم البحر، وظلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى.
وقال آخرون: بل ابتلاهم بالرخاء والشدّة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) ، وقرأ (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال: بلاء مبين لمن آمن بها وكفر بها، بلوى نبتليهم بها، نمحصهم بلوى اختبار، نختبرهم بالخير والشرّ، نختبرهم لننظر فيما أتاهم من الآيات من يؤمن بها، وينتفع بها ويضيعها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى بني إسرائيل من الآيات ما فيه ابتلاؤهم واختبارهم، وقد يكون الابتلاء والاختبار بالرخاء، ويكون بالشدّة، ولم يضع لنا دليلا من خبر ولا عقل، أنه عنى بعض ذلك دون بعض، وقد كان الله اختبرهم بالمعنيين كليهما جميعا. وجائز أن يكون عنى اختباره إياهم بهما، فإذا كان الأمر على ما وصفنا، فالصواب من القول فيه أن نقول كما قال جل ثناؤه إنه اختبرهم.(22/38)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل مشركي قريش لنبي الله صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء المشركين من قومك يا محمد (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى) التي نموتها، وهي الموتة الأولى (وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) بعد مماتنا، ولا بمبعوثين تكذيبا منهم بالبعث والثواب والعقاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) قال: قد قال مشركو العرب (وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي: بمبعوثين.
وقوله (فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يقول تعالى ذكره: قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: فأتوا بآبائنا الذين قد ماتوا إن كنتم صادقين، أن الله باعثنا من بعد بلانا في قبورنا، ومحيينا من بعد مماتنا، وخوطب صلى الله عليه وسلم هو وحده خطاب الجميع، كما قيل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) وكما قال (رَبِّ ارْجِعُونِ) وقد بيَّنت ذلك في غير موضع من كتابنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أهؤلاء المشركون يا محمد من قومك خير، أم قوم تُبَّع، يعني تُبَّعا الحِمْيريّ.(22/39)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) قال: الحميريّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) ذُكر لنا أن تبعا كان رجلا من حمير، سار بالجيوش حتى حير الحيرة، ثم أتى سمرقند فهدمها. وذُكر لنا أنه كان إذا كَتَب كَتَب باسم الذي تسمَّى وملك برّا وبحرا وصحا وريحا. وذُكر لنا أن كعبا كان يقول: نُعِتَ نَعْتَ الرَّجُلِ الصَّالح ذمّ الله قومَه ولم يذمه. وكانت عائشة تقول: لا تسبوا تُبَّعا، فإنه كان رجلا صالحا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قالت عائشة: كان تبَّع رجلا صالحا. وقال كعب: ذمّ الله قومه ولم يذمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن تميم بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، أن تُبَّعا كسا البيت، ونهى سعيد عن سبه.
وقوله (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول تعالى ذكره: أهؤلاء المشركون من قريش خير أم قوم تبع والذين من قبلهم من الأمم الكافرة بربها، يقول: فليس هؤلاء بخير من أولئك، فنصفح عنهم، ولا نهلكهم، وهم بالله كافرون، كما كان الذين أهلكناهم من الأمم من قبلهم كفارا.
وقوله (إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) يقول: إن قوم تبَّع والذين من قبلهم من الأمم الذين أهلكناهم إنما أهلكناهم لإجرامهم، وكفرهم بربهم. وقيل: إنهم كانوا مجرمين، فكُسرت ألف"إن" على وجه الابتداء، وفيها معنى الشرط استغناء بدلالة الكلام على معناها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ(22/40)
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
لا يَعْلَمُونَ (39) }
يقول تعالى ذكره: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) السبع والأرضين وما بينهما من الخلق لعبا. وقوله (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ) يقول: ما خلقنا السموات والأرض إلا بالحقّ الذي لا يصلح التدبير إلا به.
وإنما يعني بذلك تعالى ذكره التنبيه على صحة البعث والمجازاة، يقول تعالى ذكره: لم نخلق الخلق عبثا بأن نحدثهم فنحييهم ما أردنا، ثم نفنيهم من غير الامتحان بالطاعة والأمر والنهي، وغير مجازاة المطيع على طاعته، والعاصي على المعصية، ولكن خلقنا ذلك لنبتلي من أردنا امتحانه من خلقنا بما شئنا من امتحانه من الأمر والنهي (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) .
(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يقول تعالى ذكره: ولكن أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون أن الله خلق ذلك لهم، فهم لا يخافون على ما يأتون من سخط الله عقوبة، ولا يرجون على خير إن فعلوه ثوابا لتكذيبهم بالمعاد.(22/41)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) }
يقول تعالى ذكره: إن يوم فصل الله القضاء بين خلقه بما أسلفوا في دنياهم من خير أو شرّ يجزي به المحسن بالإحسان، والمسيء بالإساءة (ميقاتهم أجمعين) : يقول: ميقات اجتماعهم أجمعين.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) يوم يُفْصَل فيه بين الناس بأعمالهم.(22/41)
وقوله (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا) يقول: لا يدفع ابن عمّ عن ابن عمّ، ولا صاحب عن صاحبه شيئا من عقوبة الله التي حلَّت بهم من الله (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يقول: ولا ينصر بعضهم بعضا، فيستعيذوا ممن نالهم بعقوبة كما كانوا يفعلونه في الدنيا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا) ... الآية، انقطعت الأسباب يومئذ يا ابن آدم، وصار الناس إلى أعمالهم، فمن أصاب يومئذ خيرا سعد به آخر ما عليه، ومن أصاب يومئذ شرّا شقي به آخر ما عليه.
وقوله (إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) اختلف أهل العربية في موضع"مَنْ" في قوله: (إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) فقال بعض نحويي البصرة: إلا من رحم الله، فجعله بدلا من الاسم المضمر في ينصرون، وإن شئت جعلته مبتدأ وأضمرت خبره، يريد به: إلا من رحم الله فيغني عنه. وقال بعض نحويي الكوفة قوله (إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) قال: المؤمنون يشفع بعضهم في بعض، فإن شئت فاجعل"مَنْ" في موضع رفع، كأنك قلت: لا يقوم أحد إلا فلان، وإن شئت جعلته نصبا على الاستثناء والانقطاع عن أوّل الكلام، يريد: اللهمّ إلا من رحم الله.
وقال آخرون منهم: معناه لا يغني مولى عن مولى شيئا، إلا من أذن الله له أن يشفع; قال: لا يكون بدلا مما في ينصرون، لأن إلا محقق، والأوّل منفيّ، والبدل لا يكون إلا بمعنى الأوّل. قال: وكذلك لا يجوز أن يكون مستأنفا، لأنه لا يستأنف بالاستثناء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون في موضع رفع بمعنى: يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا إلا من رحم الله منهم، فإنه يغني عنه بأن يشفع له عند ربه.
وقوله (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) يقول جلّ ثناؤه واصفا نفسه: إن الله هو العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه، وأهل طاعته.(22/42)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) }
يقول تعالى ذكره: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) التي أخبر أنها تَنْبتُ في أصل الجحيم، التي جعلها طعاما لأهل الجحيم، ثمرها فى الجحيم طعام الآثم في الدنيا بربه، والأثيم: ذو الإثم، والإثم من أثم يأثم فهو أثيم. وعنى به في هذا الموضع: الذي إثمه الكفر بربه دون غيره من الآثام.
وقد حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، أن أبا الدرداء كان يُقرئ رجلا (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ) فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن عيسى عن الأعمش، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الدنيا، لأفسدت على الناس معايشهم".
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: كان أبو الدرداء يُقْرئ رجلا (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ) قال: فجعل الرجل يقول: إن شجرة الزقوم طعام اليتيم; قال: فلما أكثر عليه أبو الدرداء، فرآه لا يفهم، قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ) قال: أبو جهل.
وقوله (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) يقول تعالى ذكره: إن شجرة الزقوم التي جعل ثمرتها طعام الكافر في جهنم، كالرصاص أو الفضة، أو ما يُذاب فى النار إذا أُذيب بها، فتناهت حرارته، وشدّت حميته في شدّة السواد.
وقد بينَّا معنى المهل فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع من(22/43)
الشواهد، وذكَر اختلاف أهل التأويل فيه، غير أنا نذكر من أقوال أهل العلم في هذا الموضع ما لم نذكره هناك.
حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس، عن قول الله جلّ ثناؤه (كَالمُهْلِ) قال: كدرديّ الزيت.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) يقول: أسود كمهل الزيت.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ويعقوب بن إبراهيم، قالوا: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت مطرفا، عن عطية بن سعد، عن ابن عباس، في قوله: (كَالمُهْلِ) ماء غليظ كدرديّ الزيت.
حدثني يحيى بن طلحة، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت مطرفا، عن عطية بن سعد، عن ابن عباس، في قوله (كَالمُهْلِ) قال: كدرديّ الزيت.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا خليد، عن الحسن، عن ابن عباس، أنه رأى فضة قد أُذيبت، فقال: هذا المهل.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا عمرو بن ميمون عن أبيه، عن عبد الله في قوله: (كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) قال: دخل عبد الله بيت المال، فأخرج بقايا كانت فيه، فأوقد عليها النار حتى تلألأت، قال: أين السائل عن المهل، هذا المهل.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ: وحدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا خالد بن الحارث، عن عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن ابن مسعود سُئل عن المهل الذي يقولون يوم القيامة شراب أهل النار، وهو على بيت المال،(22/44)
قال: فدعا بذهب وفضة فأذابهما، فقال: هذا أشبه شيء في الدنيا بالمهل الذي هو لون السماء يوم القيامة، وشراب أهل النار، غير أن ذلك هو أشدّ حرّا من هذا. لفظ الحديث لابن بشار وحديث ابن المثنى نحوه.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أشعث، عن الحسن، قال: كان من كلامه أن عبد الله بن مسعود رجل أكرمه الله بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عمر رضي الله عنه استعمله على بيت المال، قال: فعمد إلى فضة كثيرة مكسرة، فخدّ لها أُخدودا، ثم أمر بحطب جزل فأوقد عليها، حتى إذا امَّاعت وتزبدت وعادت ألوانا، قال: انظروا من بالباب، فأُدخل القوم فقال لهم: هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمُهْل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ) ... الآية، ذُكر لنا أن ابن مسعود أُهديت له سقاية من ذهب وفضة، فأمر بأخدود فخدّت في الأرض، ثم قُذِف فيها من جزل الحطب، ثم قذفت فيها تلك السقاية، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه: ادع من بحضرتنا من أهل الكوفة، فدعا رهطا، فلما دخلوا قال: أترون هذا؟ قالوا نعم، قال: ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من الذهب والفضة حين أزبد وانماع.
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن سفيان الأسديّ، قال: أذاب عبد الله بن مسعود فضة، ثم قال: من أراد أن ينظر إلى المهل فلينظر إلى هذا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) قال: كدُرديّ الزيت.
حدثني يحيى بن طلحة قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: (كالمُهْلِ) قال: كدردي الزيت.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: ثنا ابن المبارك، قال:(22/45)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)
ثنا أبو الصباح، قال: سمعت يزيد بن أبي سمية يقول: سمعت ابن عمر يقول: هل تدرون ما المهل؟ المهل مهل الزيت، يعني آخره.
قال: ثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا أبو الصباح الأيلي، عن يزيد بن أبي سمية، عن ابن عمر بمثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن درّاج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: (بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) "كعَكر الزيت، فإذا قرّبه إلى وجهه، سقطت فروة وجهه فيه".
قال: ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا رشدين بن سعد، قال: ثني عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْريّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
وقوله (فِي الْبُطُونِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة"تَغْلِي" بالتاء، بمعنى أن شجرة الزقوم تغلي في بطونهم، فأنثوا تغلي لتأنيث الشجرة. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة (يَغْلِي) بمعنى: طعام الأثيم يغلي، أو المهل يغلي، فذكَّره بعضهم لتذكير الطعام، ووجه معناه إلى أن الطعام هو الذي يغلي في بطونهم وبعضهم لتذكير المهل، ووجهه إلى أنه صفة للمهل الذي يغلي.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) يقول: يغلي ذلك في بطون هؤلاء الأشقياء كغلي الماء المحموم، وهو المسخن الذي قد أوقد عليه حتى تناهت شدّة حرّه، وقيل: حميم وهو محموم، لأنه مصروف من مفعول إلى فعيل، كما يقال: قتيل من مقتول.
القول في تأويل قوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ(22/46)
الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) }
يقول تعالى ذكره: (خُذُوهُ) يعني هذا الأثيم بربه، الذي أخبر جلّ ثناؤه أن له شجرة الزقوم طعام (فاعْتلُوهُ) يقول تعالى ذكره: فادفعوه وسوقوه، يقال منه: عتله يعتله عتلا إذا ساقه بالدفع والجذب; ومنه قول الفرزدق:
ليْسَ الكِرَامُ بِنَاحِلِيكَ أبَاهُمُ ... حتى تُرَدّ إلى عَطِيَّةَ تُعْتِلُ (1)
أي تُساق دَفْعا وسحبا.
وقوله (إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) : إلى وسط الجحيم. ومعنى الكلام: يقال يوم القيامة: خذوا هذا الأثيم فسوقوه دفعا في ظهره، وسحبا إلى وسط النار.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (فاعْتلُوهُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) قال: خذوه فادفعوه.
وفي قوله (فاعْتلُوهُ) لغتان: كسر التاء، وهي قراءة بعض قرّاء أهل المدينة وبعض أهل مكة (2) .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا أنهما لغتان معروفتان في العرب، يقال
__________
(1) البيت في ديوان الفرزدق (طبعة الصاوي بالقاهرة ص 722) وناحليك: معطيك. وموضع الشاهد في البيت قوله"تعتل". قال في (اللسان: عتل) : وفي التنزيل"خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم" قرأ عاصم وحمزة والكسائي وأبو عمرو"فاعتلوه" بكسر التاء؛ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب:"فاعتلوه" بضم التاء. قال الأزهري: وهما لغتان فصيحتان. ومعناه: خذوه فاقصفوه كما يقصف الحطب. والعتل: الدفع والإرهاق بالسوق العنيف. اهـ.
(2) لم يذكر الثانية، وهي ضم التاء، وبها قرئ، ولعله اكتفى عن ذلك؛ بما ذكره في السطر الذي بعده.(22/47)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
منه: عتل يعتِل ويعتُل، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال. ثنا سعيد، عن قتادة (إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) : إلى وَسَط النار.
وقوله (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) يقول تعالى ذكره: ثم صبوا على رأس هذا الأثيم من عذاب الحميم، يعني: من الماء المسخن الذي وصفنا صفته، وهو الماء الذي قال الله (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) وقد بيَّنت صفته هنالك.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) }
يقول تعالى ذكره: يقال لهذا الأثيم الشقيّ: ذق هذا العذاب الذي تعذّب به اليوم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) في قومك (الكَرِيمُ) عليهم.
وذُكر أن هذه الآيات نزلت في أبي جهل بن هشام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) نزلت في عدوّ الله أبي جهل لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخذه فهزه، ثم قال: أولى لك يا أبا جهل فأولى، ثم أولى لك فأولى، ذق إنك أنت العزيز الكريم، وذلك أنه قال: أيوعدني محمد، والله لأنا أعزّ من مشى بين جبليها. وفيه نزلت (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) وفيه نزلت (كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) وقال قتادة: نزلت في أبي جهل وأصحابه الذين قتل الله تبارك وتعالى يوم بدر (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) .(22/48)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: نزلت في أبي جهل (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) قال قتادة، قال أبو جهل: ما بين جبليها رجل أعزّ ولا أكرم مني، فقال الله عزّ وجلّ: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) قال: هذا لأبي جهل.
فإن قال قائل: وكيف قيل وهو يهان بالعذاب الذي ذكره الله، ويذلّ بالعتل إلى سواء الجحيم: إنك أنت العزيز الكريم؟ قيل: إن قوله (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) غير وصف من قائل ذلك له بالعزّة والكرم، ولكنه تقريع منه له بما كان يصف به نفسه في الدنيا، وتوبيخ له بذلك على وجه الحكاية، لأنه كان في الدنيا يقول: إنك أنت العزيز الكريم، فقيل له في الآخرة، إذ عذّب بما عُذّب به في النار: ذُق هذا الهوان اليوم، فإنك كنت تزعم إنك أنت العزيز الكريم، وإنك أنت الذليل المهين، فأين الذي كنت تقول وتدّعي من العزّ والكرم، هلا تمتنع من العذاب بعزّتك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا صفوان بن عيسى; قال ثنا ابن عجلان عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال كعب: لله ثلاثة أثواب: اتَّزر بالعزّ، وتَسَربل الرحمة، وارتدى الكبرياء تعالى ذكره، فمن تعزّز بغير ما أعزّه الله فذاك الذي يقال: ذق إنك أنت العزيز الكريم، ومن رحم الناس فذاك الذي سربل الله سرباله الذي ينبغي له ومن تكبر فذاك الذي نازع الله رداءه إن الله تعالى ذكره يقول:"لا ينبغي لمن نازعني ردائي أن أدخله الجنة" جلّ وعزّ.
وأجمعت قرّاء الأمصار جميعا على كسر الألف من قوله: (ذُقْ إنَّكَ) على وجه الابتداء. وحكاية قول هذا القائل: إني أنا العزيز الكريم. وقرأ ذلك بعض المتأخرين (ذُقْ أَنَّكَ) بفتح الألف على إعمال قوله (ذُقْ) في قوله: (أنَّكَ) كأنك معنى الكلام عنده: ذق هذا القول الذي قلته في الدنيا.(22/49)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
والصواب من القراءة في ذلك عندنا كسر الألف من (إنَّكَ) على المعنى الذي ذكرت لقارئه، لإجماع الحجة من القرّاء عليه، وشذوذ ما خالفه، (1) وكفى دليلا على خطأ قراءة خلافها، ما مضت عليه الأئمة من المتقدمين والمتأخرين، مع بُعدها من الصحة في المعنى وفراقها تأويل أهل التأويل.
وقوله (إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) يقول تعالى ذكره: يقال له: إنَّ هذا العذاب الذي تعذّب به اليوم، هو العذاب الذي كنتم في الدنيا تَشُكُّون، فتختصمون فيه، ولا توقنون به فقد لقيتموه، فذوقوه.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا الله بأداء طاعته، واجتناب معاصيه في موضع إقامة، آمنين في ذلك الموضع مما كان يخاف منه في مقامات الدنيا من الأوصاب والعلل والأنصاب والأحزان.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) فقرأته عامة قرّاء المدينة (فِي مُقَامٍ أَمِينٍ) بضم الميم، بمعنى: في إقامة أمين من الظعن (2) . وقرأته عامة قرّاء المصرين: الكوفة والبصرة (في مَقامٍ) بفتح الميم على المعنى الذي وصفنا، وتوجيها إلى أنهم في مكان وموضع أمين.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) قوله وشذوذ ما خالفه، هذا غير صحيح لأن الإمام الكسائي قرأ بفتح الهمز، وهي قراءة سبعية متواترة مشهورة وليست شاذة
(2) ما فوق الخط ليس في الأصل.(22/50)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) إيْ والله، أمين من الشيطان والأنصاب والأحزان.
وقوله (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الجنات والعيون ترجمة عن المقام الأمين، والمقام الأمين: هو الجنات والعيون، والجنات: البساتين، والعيون: عيون الماء المطرد في أصول أشجار الجنات.
وقوله (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ) يقول: يلبس هؤلاء المتقون في هذه الجنات من سندس، وهو ما رقّ من الديباج وإستبرق: وهو ما غلظ من الديباج.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، في قوله (مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) قال: الإستبرق: الديباج الغليظ.
وقيل: (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) ولم يقل لباسا، استغناء بدلالة الكلام على معناه.
وقوله (مُتَقَابِلِينَ) يعني أنهم في الجنة يقابل بعضهم بعضا بالوجوه، ولا ينظر بعضهم في قفا بعض.
وقد ذكرنا الرواية بذلك فما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) }
يقول تعالى ذكره: كما أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة بإدخالناهم(22/51)
الجنات، وإلباسناهم فيها السندس والإستبرق، كذلك أكرمناهم بأن زوّجناهم أيضا فيها حورا من النساء، وهن النقيات البياض، واحدتهنّ: حَوْراء.
وكان مجاهد يقول في معنى الحُور، ما حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قال: أنكحناهم حورا. قال: والحُور: اللاتي يحار فيهنّ الطرف بادٍ مُخُّ سوقهنّ من وراء ثيابهنّ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهنّ كالمرآة من رقة الجلد، وصفاء اللون. وهذا الذي قاله مجاهد من أن الحور إنما معناها: أنه يحار فيها الطرف، قول لا معنى له في كلام العرب، لأن الحُور إنما هو جمع حوراء، كالحمر جمع حمراء، والسود: جمع سوداء، والحوراء إنما هي فعلاء من الحور وهو نقاء البياض، كما قيل للنقيّ البياض من الطعام الحُوَّارِيُّ. وقد بينَّا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال سائر أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قال: بيضاء عيناء، قال: وفي قراءة ابن مسعود (بعِيس عِين) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (بِحُورٍ عِينٍ) قال: بيض عين، قال: وفي حرف ابن مسعود (بعِيس عِين) . وقرأ ابن مسعود هذه، يعني أن معنى الحور غير الذي ذهب إليه مجاهد، لأن العيس عند العرب جمع عيساء، وهي البيضاء من الإبل، كما قال الأعشى:
وَمَهْمَهٍ نَازِحٍ تَعْوِي الذّئابُ بِهِ ... كَلَّفْتُ أَعْيَسَ تَحْتَ الرَّحْلِ نَعَّابا (1)
__________
(1) البيت: لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة 1361) والرواية فيه:"قفر مساربه" في موضع"تعوي الذئاب به" والمهمه: الصحراء، ونازح: بعيد. وقفر: خال من النبات والإنس. ومساربه مسالكه. وأعيس: حمل أبيض يخالطه شقرة أو ظلمة. والرحل: الخشب يشد على الجمل ليركب فوقه. ونعاب: من نعبت الإبل: إذا مدت أعناقها في سيرها. وقيل هو أن يحرك البعير رأسه إذا أسرع (اللسان: نعب) . ومحل الشاهد في البيت عند المؤلف أن العيس عند العرب جمع أعيس، وعيساء، وهي الناقة البيضاء، كما جاء في شعر الأعشى: الأعيس: الجمل الأبيض.(22/52)
يعني بالأعيس: جملا أبيض. فأما العين فإنها جمع عيناء، وهي العظيمة العينين من النساء.
وقوله (يَدْعُونَ فِيهَا) ... الآية، يقول: يدعو هؤلاء المتقون في الجنة بكلّ نوع من فواكه الجنة اشتهوه، آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم ونفاده وفنائه، ومن غائلة أذاه ومكروهه، يقول: ليست تلك الفاكهة هنالك كفاكهة الدنيا التي نأكلها، وهم يخافون مكروه عاقبتها، وغبّ أذاها مع نفادها من عندهم، وعدمها في بعض الأزمنة والأوقات.
وكان قتادة يوجه تأويل قوله: (آمِنِينَ) إلى ما حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) أمنوا من الموت والأوصاب والشيطان.
وقوله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) يقول تعالى ذكره: لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا.
وكان بعض أهل العربية يوجه"إلا" في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى، ويقول: معنى الكلام: لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى، ويمثله بقوله تعالى ذكره: (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) بمعنى: سوى ما قد فعل آباؤكم، وليس للذي قال من ذلك عندي وجه مفهوم، لأن الأغلب من قول القائل: لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاما في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون سائر الأطعمة غيره.
وإذ كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت(22/53)
بقوله (إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) موتة من نوع الأولى هم ذائقوها، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك، لأن الله عزّ وجلّ قد آمَن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت، ولكن ذلك كما وصفت من معناه. وإنما جاز أن توضع"إلا" في موضع"بعد" لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال: لا أكلم اليوم رجلا إلا رجلا بعد رجل عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا بعد كلام الرجل الذي عند عمرو.
وكذلك إذا قال: لا أكلم اليوم رجلا بعد رجل عند عمرو، قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا إلا رجلا عند عمرو، فبعد، وإلا متقاربتا المعنى في هذا الموضع. ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما، وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف، لأن الرجاء ليس بيقين، وإنما هو طمع، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحيانا ويكذب، فقال في ذلك أبو ذُؤَيْب:
إذا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها ... وَخَالَفهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلُ (1)
فقال: لم يرج لسعها، ومعناه في ذلك: لم يخف لسعها، وكوضعهم الظنّ موضع العلم الذي لم يدرك من قِبل العيان، وإنما أدرك استدلالا أو خبرا، كما قال الشاعر:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِيّ المُسَرَّدِ (2)
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب. وهو شاهد على أن لم يرج: أي لم يخف. وقد سبق الاستشهاد به في هذا التفسير، وتقدم الكلام عليه مفصلا (انظره في 5: 264 من هذه الطبعة) . وفي قافيته:"عواسل" في موضع عوامل. وكلتاهما صحيحة.
(2) البيت لدريد بن الصمة الجشمي. (اللسان: ظنن) . قال: الجوهري: الظن معروف. وقد يوضع موضع العلم. قال دريد ابن الصمة:"فقلت لهم ظنوا ... " البيت: أي استيقنوا، وإنما يخوف عدوه باليقين لا بالشك. والشاهد في البيت عند المؤلف أن العلم قد يوضع في موضع الظن، كما أن الرجاء قد يوضع موضع الخوف.(22/54)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
بمعنى: أيقنوا بألفي مدجَّج واعلموا، فوضع الظنّ موضع اليقين، إذ لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج، ولا رأوهم، وإن ما أخبرهم به هذا المخبر، فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل القلب، فوضع أحدهما موضع الآخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها، كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني، وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر، فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه.
فكذلك قوله (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) وضعت"إلا" في موضع"بعد" لما نصف من تقارب معنى"إلا"، و"بعد" في هذا الموضع، وكذلك (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) إنما معناه: بعد الذي سلف منكم في الجاهلية، فأما إذا وجهت"إلا" في هذا الموضع إلى معنى سوى، فإنما هو ترجمة عن المكان، وبيان عنها بما هو أشدّ التباسًا على من أراد علم معناها منها.
وقوله (وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلا مِنْ رَبِّكَ) يقول تعالى ذكره: ووقى هؤلاء المتقين ربهم يومئذ عذاب النار تفضلا يا محمد من ربك عليهم، وإحسانًا منه عليهم بذلك، ولم يعاقبهم بجرم سلف منهم في الدنيا، ولولا تفضله عليهم بصفحه لهم عن العقوبة لهم على ما سلف منهم من ذلك، لم يقهم عذاب الجحيم، ولكن كان ينالهم ويصيبهم ألمه ومكروهه.
وقوله (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة التي وصفت في هذه الآيات، هو الفوز العظيم: يقول: هو الظفر العظيم بما كانوا يطلبون من إدراكه في الدنيا بأعمالهم وطاعتهم لربهم، واتقائهم إياه، فيما امتحنهم به من الطاعات والفرائض، واجتناب المحارم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ(22/55)
يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإنما سهَّلنا قراءة هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد بلسانك، ليتذكر هؤلاء المشركون الذين أرسلناك إليهم بعبره وحُججه، ويتَّعظوا بعظاته، ويتفكَّروا في آياته إذا أنت تتلوه عليهم، فينيبوا إلى طاعة ربهم، ويذعنوا للحقّ عند تبينهموه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) : أي هذا القرآن (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) قال: القرآن، ويسَّرناه: أطلق به لسانه.
وقوله (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانتظر أنت يا محمد الفتح من ربك، والنصر على هؤلاء المشركين بالله من قومك من قريش، إنهم منتظرون عند أنفسهم قهرك وغلبتك بصدّهم عما أتيتهم به من الحق من أراد قبوله واتباعك عليه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) : أي فانتظر إنهم منتظرون.
آخر تفسير سورة الدخان(22/56)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
تفسير سورة الجاثية بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) }
قد تقدم بياننا في معنى قوله (حم) . وأما قوله: (تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ) فإن معناه: هذا تنزيل القرآن من عند الله (العَزِيزِ) في انتقامه من أعدائه (الحَكِيمِ) في تدبيره أمر خلقه.
وقوله: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره: إن في السموات السبع اللاتي منهنّ نزول الغيث، والأرض التي منها خروج الخلق أيها الناس (لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول: لأدلة وحججا للمصدّقين بالحجج إذا تبيَّنوها ورأوها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) }
يقول تعالى ذكره: وفى خلق الله إياكم أيها الناس، وخلقه ما تفرّق في الأرض من دابة تدّب عليها من غير جنسكم (آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) يعني: حججا وأدلة لقوم يوقنون بحقائق الأشياء، فيقرّون بها، ويعلمون صحتها.(22/59)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وفي التي بعد ذلك فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (آياتٌ) رفعا على الابتداء، وترك ردّها على قوله (لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة (آياتٍ) خفضا بتأويل النصب ردّا على قوله (لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) .
وزعم قارئو ذلك كذلك من المتأخرين أنهم اختاروا قراءته كذلك، لأنه في قراءة أُبيّ في الآيات الثلاثة (لآياتٍ) باللام فجعلوا دخول اللام في ذلك في قراءته دليلا لهم على صحة قراءة جميعه بالخفض، وليس الذي اعتمدوا عليه من الحجة في ذلك بحجة، لأنه لا رواية بذلك عن أبيّ صحيحة، وأبيّ لو صحت به عنه رواية، ثم لم يُعلم كيف كانت قراءته بالخفض أو بالرفع لم يكن الحكم عليه بأنه كان يقرؤه خفضا، بأولى من الحكم عليه بأنه كان يقرؤه رفعا، إذ كانت العرب قد تدخل اللام في خبر المعطوف على جملة كلام تامّ قد عملت في ابتدائها "إن"، مع ابتدائهم إياه، كما قال حُمَيد بن ثَور الهِلاليّ:
إنَّ الخِلافَةَ بَعْدَهُمْ لَذَميمَةٌ ... وَخَلائِفٌ طُرُفٌ لَمِمَّا أحْقِرُ (1)
فأدخل اللام في خبر مبتدأ بعد جملة خبر قد عملت فيه "إن" إذ كان
__________
(1) لم أجد البيت في ديوان حميد بن ثور الهلالي طبعة دار الكتب المصرية. والخلاف الطرف: هم الذين خلفوا بعد آبائهم القدماء. يقول: إن الخلافة بعد الخلفاء الأولين صارت ذميمة، والخلفاء المحدثون محتقرون في عيني، لأنهم لا يسلكون مسلك آبائهم. والشاهد في البيت أن الشاعر استأنف بالواو جملة من مبتدأ وخبر مرفوعين بعد الجملة الأولى التي مبتدؤها منصوب بأن، وذلك كما في الآية: "إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون". ا. هـ. وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 299) قوله " وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات": تقرأ الآيات بالخفض، على تأويل النصب، يرد على قوله "إن في السموات والأرض لآيات". ويقوي الخفض فيها أنها في قراءة عبد الله بن مسعود: لآيات. وفي قراءة أُبي لآيات. والرفع قراءة الناس على الاستئناف فيما بعد أن. والعرب تقول: إن لي عليك مالا، وعلى أخيك مال كثير، فينصبون الثاني ويرفعونه وفي قراءة عبد الله: "وفي اختلاف الليل والنهار" فهذه تقوي خفض الاختلاف. ولو رفع رافع فقال: "واختلاف الليل والنهار آيات" أيضا، يجعل الاختلاف آيات، ولم نسمعه من أحد من القراء. قال: ولو رفع رافع الآيات وفيها اللام، كان صوابا. قال: أنشدني الكسائي "إن الخلافة.." البيت.(22/60)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
الكلام، وإن ابتدئ منويا فيه إن.
والصواب من القول في ذلك إن كان الأمر على ما وصفنا أن يقال: إن الخفض في هذه الأحرف والرفع قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار قد قرأ بهما علماء من القرّاء صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) }
يقول تبارك وتعالى (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أيها الناس، وتعاقبهما عليكم، هذا بظلمته وسواده وهذا بنوره وضيائه (وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ) وهو الغيث الذي به تخرج الأرض أرزاق العباد وأقواتهم، وإحيائه الأرض بعد موتها: يقول: فأنبت ما أنزل من السماء من الغيْث ميت الأرض، حتى اهتزّت بالنبات والزرع من بعد موتها، يعني: من بعد جدوبها وقحوطها ومصيرها دائرة لا نبت فيها ولا زرع.
وقوله (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) يقول: وفي تصريفه الرياح لكم شمالا مرّة، وجنوبا أخرى، وصبًّا أحيانا، ودبورا أخرى لمنافعكم.
وقد قيل: عنى بتصريفها بالرحمة مرّة، وبالعذاب أخرى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) قال: تصريفها إن شاء جعلها رحمة; وإن شاء جعلها عذابا.
وقوله (آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يقول تعالى ذكره: في ذلك أدلة وحجج لله على خلقه، لقوم يعقلون عن الله حججه، ويفهمون عنه ما وعظهم به من(22/61)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
الآيات والعبر.
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) }
يقول تعالى ذكره: هذه الآيات والحجج يا محمد من ربك على خلقه نتلوها عليك بالحقّ: يقول: نخبرك عنها بالحقّ لا بالباطل، كما يخبر مشركو قومك عن آلهتهم بالباطل، أنها تقرّبهم إلى الله زُلْفَى، فبأيّ حديث بعد الله وآياته تؤمنون: يقول تعالى ذكره للمشركين به: فبأيّ حديث أيها القوم بعد حديث الله هذا الذي يتلوه عليكم، وبعد حجه عليكم وأدلته التي دلكم بها على وحدانيته من أنه لا ربّ لكم سواه، تصدّقون، إن كنتم كذّبتم لحديثه وآياته. وهذا التأويل على مذهب قراءة من قرأ (تُؤْمِنُونَ) على وجه الخطاب من الله بهذا الكلام للمشركين، وذلك قراءة عامة قرّاء الكوفيين.
وأما على قراءة من قرأه (يُؤْمِنُونَ) بالياء، فإن معناه: فبأيّ حديث يا محمد بعد حديث الله الذي يتلوه عليك وآياته هذه التي نبه هؤلاء المشركين عليها، وذكرهم بها، يؤمن هؤلاء المشركون، وهي قراءة عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، ولكلتا القراءتين وجه صحيح، وتأويل مفهوم، فبأية القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب عندنا، وإن كنت أميل إلى قراءته بالياء إذ كانت في سياق آيات قد مضين قبلها على وجه الخبر، وذلك قوله: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) و (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) }(22/62)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
يقول تعالى ذكره: الوادي السائل من صديد أهل جهنم، لكلّ كذّاب ذي إثم بربه، مفتر عليه (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ) يقول: يسمع آيات كتاب الله تُقرأ عليه (ثُمَّ يُصِرُّ) على كفره وإثمه فيقيم عليه غير تائب منه، ولا راجع عنه (مُسْتَكْبِرًا) على ربه أن يذعن لأمره ونهيه (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا) يقول: كأن لم يسمع ما تلي عليه من آيات الله بإصراره على كفره (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) يقول: فبشر يا محمد هذا الأفَّاك الأثيم الذي هذه صفته بعذاب من الله له. (أليم) : يعني موجع في نار جهنم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) }
يقول تعالى ذكره: (وَإِذَا عَلِمَ) هذا الأفاك الأثيم (مِنْ) آيات الله (شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا) : يقول: اتخذ تلك الآيات التي علمها هزوا، يسخر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ) إذ دعا بتمر وزبد فقال: تزقموا من هذا، ما يعدكم محمد إلا شهدا، وما أشبه ذلك من أفعالهم.
وقوله (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يفعلون هذا الفعل، وهم الذين يسمعون آيات الله تُتلى عليهم ثم يصرّون على كفرهم استكبارًا، ويتخذون آيات الله التي علموها هزوا، لهم يوم القيامة من الله عذاب مهين يهينهم ويذلهم في نار جهنم، بما كانوا في الدنيا يستكبرون عن طاعة الله واتباع آياته، وإنما قال تعالى ذكره (أُولَئِكَ) فجمع. وقد جرى الكلام قبل ذلك (1) ردّا للكلام إلى معنى الكلّ في قوله (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) .
__________
(1) لعله: وقد جرى الكلام قبل ذلك على الإفراد، ردا. إلخ ...(22/63)
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) }
يقول تعالى ذكره: ومن وراء هؤلاء المستهزئين بآيات الله، يعني من بين أيديهم. وقد بينَّا العلة التي من أجلها قيل لما أمامك، هو وَرَاءك، فيما مضى بما أغنى عن إعادته; يقول: من بين أيديهم نار جهنم هم واردوها، ولا يغنيهم ما كسبوا شيئًا: يقول: ولا يغني عنهم من عذاب جهنم إذا هم عُذّبوا به ما كسبوا في الدنيا من مال وولد شيئا.
وقوله: (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ) يقول: ولا آلهتهم التي عبدوها من دون الله، ورؤساؤهم، وهم الذين أطاعوهم في الكفر بالله، واتخذوهم نُصراء في الدنيا، تغني عنهم يومئذ من عذاب جهنم شيئا. (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) يقول: ولهم من الله يومئذ عذاب في جهنم عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) }
يقول تعالى ذكره: هذا القرآن الذي أنزلناه على محمد هدى: يقول: بيان ودليل على الحقّ، يهدي إلى صراط مستقيم، من اتبعه وعمل بما فيه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) يقول: والذين جحدوا ما في القرآن من الآيات الدالات على الحقّ، ولم يصدقوا بها، ويعملوا بها، لهم عذاب أليم يوم القيامة موجع.
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) }(22/64)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
يقول تعالى ذكره: الله أيها القوم، الذي لا تنبغي الألوهة إلا له، الذي أنعم عليكم هذه النعم، التي بيَّنها لكم في هذه الآيات، وهو أنه (سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ) السفن (فيه بأمره) لمعايشكم وتصرّفكم في البلاد لطلب فضله فيها، ولتشكروا ربكم على تسخيره ذلك لكم فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به، وينهاكم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) من شمس وقمر ونجوم (وَمَا فِي الأرْضِ) من دابة وشجر وجبل وجماد وسفن لمنافعكم ومصالحكم (جَمِيعًا مِنْهُ) . يقول تعالى ذكره: جميع ما ذكرت لكم أيها الناس من هذه النعم، نعم عليكم من الله أنعم بها عليكم، وفضل منه تفضّل به عليكم، فإياه فاحمدوا لا غيره، لأنه لم يشركه في إنعام هذه النعم عليكم شريك، بل تفرّد بإنعامها عليكم وجميعها منه، ومن نعمه فلا تجعلوا له في شكركم له شريكا بل أفردوه بالشكر والعبادة، وأخلصوا له الألوهة، فإنه لا إله لكم سواه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) يقول: كل شيء هو من الله، وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه، فذلك جميعا منه، ولا ينازعه فيه المنازعون، واستيقن أنه كذلك.
وقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يقول تعالى ذكره: إن في(22/65)
تسخير الله لكم ما أنبأكم أيها الناس أنه سخره لكم فى هاتين الآيتين (لآيَاتٍ) يقول: لعلامات ودلالات على أنه لا إله لكم غيره، الذي أنعم عليكم هذه النعم، وسخر لكم هذه الأشياء التي لا يقدر على تسخيرها غيره لقوم يتفكرون في آيات الله وحججه وأدلته، فيعتبرون بها ويتعظون إذا تدبروها، وفكَّروا فيها.(22/66)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للذين صدّقوا الله واتبعوك، يغفروا للذين لا يخافون بأس الله ووقائعه ونقمه إذا هم نالوهم بالأذى والمكروه (لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يقول: ليجزي الله هؤلاء الذين يؤذونهم من المشركين في الآخرة، فيصيبهم عذابه بما كانوا فى الدنيا يكسبون من الإثم، ثم بأذاهم أهل الإيمان بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزئون به، ويكذّبونه، فأمره الله عزّ وجلّ أن يقاتل المشركين كافَّة، فكان هذا من المنسوخ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) قال: لا يُبالون نِعم الله، أو نِقم الله.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي(22/66)
نجيح، عن مجاهد (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) قال: لا يُبالون نِعم الله. وهذه الآية منسوخة بأمر الله بقتال المشركين. وإنما قُلنا: هي منسوخة لإجماع أهل التأويل على أن ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
وقد ذكرنا الرواية في ذلك عن ابن عباس، حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) قال: نسختها ما في الأنفال (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) وفي براءة (قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) قال: نسختها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) قال: هذا منسوخ، أمر الله بقتالهم في سورة براءة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة عمن ذكره عن أبي صالح (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) قال: نسختها التي في الحج (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) قال: هؤلاء المشركون، قال: وقد نسخ هذا وفرض جهادهم والغلظة عليهم.
وجزم قوله (يَغْفِرُوا) تشبيها له بالجزاء والشرط وليس به، ولكن لظهوره في الكلام على مثاله، فعرّب تعريبه، وقد مضى البيان عنه قبل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (لِيَجْزِيَ قَوْمًا) فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة والكوفة: (لِيَجْزِي) بالياء على وجه الخبر عن الله أنه يجزيهم ويثيبهم(22/67)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الكوفيين "لنجزي" بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه. وذُكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤه (لِيُجْزَى قَوْمًا) على مذهب ما لم يسمّ فاعله، وهو على مذهب كلام العرب لحن، (1) إلا أن يكون أراد: ليجزي الجزاء قوما، بإضمار الجزاء، وجعله مرفوعا (لِيُجْزِي) فيكون وجها من القراءة، وإن كان بعيدا (2) .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن قراءته بالياء والنون على ما ذكرت من قراءة الأمصار جائزة بأيّ تينك القراءتين قرأ القارئ. فأما قراءته على ما ذكرت عن أبي جعفر، فغير (3) جائزة عندي لمعنيين: أحدهما: أنه خلاف لما عليه الحجة من القرّاء، وغير جائز عندي خلاف ما جاءت به مستفيضا فيهم. والثاني بعدها من الصحة فى العربية إلا على استكراه الكلام على غير المعروف من وجهه.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره: من عمل من عباد الله بطاعته فانتهى إلى أمره، وانزجر لنهيه، فلنفسه عمل ذلك الصالح من العمل، وطلب خلاصها من عذاب الله، أطاع ربه لا لغير ذلك، لأنه لا ينفع ذلك غيره، والله عن عمل كل عامل غنيّ (وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) يقول: ومن أساء عمله في الدنيا بمعصيته فيها ربه، وخلافه فيها أمره ونهيه، فعلى نفسه جنى، لأنه أوبقها بذلك، وأكسبها به سخطه، ولم يضرّ أحدا سوى نفسه (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) يقول: ثم أنتم أيها الناس أجمعون إلى ربكم تصيرون من بعد مماتكم، فيجازى المحسن منكم بإحسانه،
__________
(1) ليس كلام العرب حجة على القراءة ولكن القراءة حجة على كلامهم.
(2) يجوز أن يكون الفاعل نائب فاعل هو قوله تعالى (بما كانوا يكسبون) .
(3) قوله: فغير جائزة، هذا خطأ لأن القراءة عشرية صحيحة متواترة في قوة السبعة.(22/68)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
والمسيء بإساءته، فمن ورد عليه منكم بعمل صالح، جوزي من الثواب صالحا، ومن ورد عليه منكم بعمل سيئ جوزي من الثواب سيئا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) }
يقول تعالى ذكره (وَلَقَدْ آتَيْنَا) يا محمد (بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ) يعني التوراة والإنجيل، (والحُكْمَ) يعني الفهم بالكتاب، والعلم بالسنن التي لم تنزل فى الكتاب، (وَالنُّبُوَّةَ) يقول: وجعلنا منهم أنبياء ورسُلا إلى الخلق، (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) يقول: وأطعمناهم من طيبات أرزاقنا، وذلك ما أطعمهم من المنّ والسلوى (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) يقول: وفضلناهم على عالمي أهل زمانهم في أيام فرعون وعهده في ناحيتهم بمصر والشام.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) }
يقول تعالى ذكره: وأعطينا بني إسرائيل واضحات من أمرنا بتنزيلنا إليهم التوراة فيها تفصيل كل شيء (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) طلبا للرياسات، وتركا منهم لبيان الله تبارك وتعالى في تنزيله.
وقوله (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بغيا بينهم يوم القيامة، فيما كانوا فيه في الدنيا يختلفون بعد العلم(22/69)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
الذي آتاهم، والبيان الذي جاءهم منه، فيفلج المحقّ حينئذ على المبطل بفصل الحكم بينهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم جعلناك يا محمد من بعد الذي آتينا بني إسرائيل، الذين وصفت لك صفتهم (عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ) يقول: على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا (فاتَّبِعْها) يقول: فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يقول: ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون بالله، الذين لا يعرفون الحقّ من الباطل، فتعمل به، فتهلك إن عملت به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا) قال: يقول على هدى من الأمر وبيِّنة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا) والشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي فاتبعها (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (ثُمَّ(22/70)
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ) قال: الشريعة: الدين. وقرأ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) قال: فنوح أوّلهم وأنت آخرهم.
وقوله (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء الجاهلين بربهم، الذين يدعونك يا محمد إلى اتباع أهوائهم، لن يغنوا عنك إن أنت اتبعت أهواءهم، وخالفت شريعة ربك التي شرعها لك من عقاب الله شيئا، فيدفعوه عنك إن هو عاقبك، وينقذوك منه.
وقوله (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) يقول: وإن الظالمين بعضهم أنصار بعض، وأعوانهم على الإيمان بالله وأهل طاعته (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) يقول تعالى ذكره: والله يلي من اتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه بكفايته، ودفاع من أراده بسوء، يقول جلّ ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام فكن من المتقين، يكفك الله ما بغاك وكادك به هؤلاء المشركون، فإنه وليّ من اتقاه، ولا يعظم عليك خلاف من خالف أمره وإن كثر عددهم، لأنهم لن يضرّوك ما كان الله وليك وناصرك.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره (هَذَا) الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ) يُبْصِرُون به الحقّ من الباطل، ويعرفون به سبيل الرشاد، والبصائر: جمع بصيرة.(22/71)
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) قال: القرآن. قال: هذا كله إنما هو في القلب. قال: والسمع والبصر في القلب. وقرأ (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وليس ببصر الدنيا ولا بسمعها.
وقوله: (وَهُدًى) يقول: ورشاد (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بحقيقة صحة هذا القرآن، وأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم. وخصّ جلّ ثناؤه الموقنين بأنه لهم بصائر وهدى ورحمة، لأنهم الذين انتفعوا به دون من كذب به من أهل الكفر، فكان عليه عمى وله حزنا.
وقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) يقول تعالى ذكره: أم ظنّ الذين اجترحوا السيئات من الأعمال في الدنيا، وكذّبوا رسل الله، وخالفوا أمر ربهم، وعبدوا غيره، أن نجعلهم في الآخرة، كالذين آمنوا بالله وصدّقوا رسله وعملوا الصالحات، فأطاعوا الله، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الأنداد والآلهة، كلا ما كان الله ليفعل ذلك، لقد ميز بين الفريقين، فجعل حزب الإيمان في الجنة، وحزب الكفر في السعير.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) ... الآية، لعمري لقد تفرّق القوم في الدنيا، وتفرّقوا عند الموت، فتباينوا في المصير.
وقوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله (سَوَاء) فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (سَوَاءٌ) بالرفع، على أن الخبر متناه عندهم عند قوله (كَالَّذِينَ آمَنُوا) وجعلوا خبر قوله (أَنْ نَجْعَلَهُمْ قَوْلُهُ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، ثم ابتدءوا الخبر عن استواء حال محيا المؤمن ومماته، ومحيا الكافر ومماته، فرفعوا قوله: (سَوَاءٌ) على وجه الابتداء بهذا(22/72)
المعنى، وإلى هذا المعنى وجه تأويل ذلك جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) قال: المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا الحسن، عن شيبان، عن ليث، في قوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) قال: بعث المؤمن مؤمنا حيا وميتا، والكافر كافرًا حيًا وميتًا.
وقد يحتمل الكلام إذا قُرئ سواء رفعا وجها آخر غير هذا المعنى الذي ذكرناه عن مجاهد وليث، وهو أن يوجه إلى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم والمؤمنين سواء في الحياة والموت، بمعنى: أنهم لا يستوون، ثم يرفع سواء على هذا المعنى، إذ كان لا ينصرف، كما يقال: مررت برجل خير منك أبوه، وحسبك أخوه، فرفع حسبك، وخير إذ كانا في مذهب الأسماء، ولو وقع موقعهما فعل في لفظ اسم لم يكن إلا نصبا، فكذلك قوله: (سواءٌ) . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (سَوَاءٌ) نصبا، بمعنى: أحسبوا أن نجعلهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما أهل العلم بالقرآن صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله (سَوَاءٌ) ورفعه، فقال بعض نحويي البصرة (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) رفع. وقال بعضهم: إن المحيا والممات للكفار كله، قال (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ثم قال سواء محيا الكفار ومماتهم: أي محياهم محيا سواء،(22/73)
ومماتهم ممات سواء، فرفع السواء على الابتداء. قال: ومن فَسَّر المحيا والممات للكفار والمؤمنين، فقد يجوز في هذا المعنى نصب السواء ورفعه، لأن من جعل السواء مستويا، فينبغي له في القياس أن يُجريه على ما قبله، لأنه صفة، ومن جعله الاستواء، فينبغي له أن يرفعه لأنه اسم، إلا أن ينصب المحيا والممات على البدل، وينصب السواء على الاستواء، وإن شاء رفع السواء إذا كان في معنى مستو، كما تقول: مررت برجل خير منك أبوه، لأنه صفة لا يصرف والرفع أجود.
وقال بعض نحويي الكوفة قوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ) بنصب سواء وبرفعه، والمحيا والممات في موضع رفع بمنزلة، قوله: رأيت القوم سواء صغارهم وكبارهم بنصب سواء لأنه يجعله فعلا لما عاد على الناس من ذكرهم، قال: وربما جعلت العرب سواء في مذهب اسم بمنزلة حسبك، فيقولون: رأيت قومك سواء صغارهم وكبارهم. فيكون كقولك: مررت برجل حسبك أبوه، قال: ولو جعلت مكان سواء مستو لم يرفع، ولكن نجعله متبعا لما قبله، مخالفا لسواء، لأن مستو من صفة القوم، ولأن سواء كالمصدر، والمصدر اسم. قال: ولو نصبت المحيا والممات كان وجها، يريد أن نجعلهم سواء في محياهم ومماتهم.
وقال آخرون منهم: المعنى: أنه لا يساوي من اجترح السيئات المؤمن في الحياة، ولا الممات، على أنه وقع موقع الخبر، فكان خبرا لجعلنا، قال: والنصب للأخبار كما تقول: جعلت إخوتك سواء، صغيرهم وكبيرهم، ويجوز أن يرفع، لأن سواء لا ينصرف. وقال: من قال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فجعل كالذين الخبر استأنف بسواء ورفع ما بعدها، وأن نصب المحيا والممات نصب سواء لا غير، وقد تقدّم بياننا الصواب من القول في ذلك.
وقوله (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) يقول تعالى ذكره: بئس الحكم الذي حسبوا أنا نجعل الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم.(22/74)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره: (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ) للعدل والحقّ، لا لما حسب هؤلاء الجاهلون بالله، من أنه يجعل من اجترح السيئات، فعصاه وخالف أمره، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، في المحيا والممات، إذ كان ذلك من فعل غير أهل العدل والإنصاف، يقول جلّ ثناؤه: فلم يخلق الله السموات والأرض للظلم والجور، ولكنا خلقناهما للحقّ والعدل. ومن الحق أن نخالف بين حكم المسيء والمحسن، في العاجل والآجل.
وقوله (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) يقول تعالى ذكره: وليثيب الله كلّ عامل بما عمل من عمل خلق السموات والأرض، المحسن بالإحسان، والمسيء بما هو أهله، لا لنبخس المحسن ثواب إحسانه، ونحمل عليه جرم غيره، فنعاقبه، أو نجعل للمسيء ثواب إحسان غيره فنكرمه، ولكن لنجزي كلا بما كسبت يداه، وهم لا يُظلمون جزاء أعمالهم.(22/75)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) فقال بعضهم: معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ دينه بهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه، لأنه لا يؤمن بالله، ولا يحرِّم ما حَرَّمَ، ولا يحلل ما حَللَ، إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به.(22/75)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) قال: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) قال: لا يهوي شيئا إلا ركبه لا يخاف الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أفرأيت من اتخذ معبوده ما هويت عبادته نفسه من شيء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: كانت قريش تعبد العُزّى، وهو حجر أبيض، حينا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأوّل وعبدوا الآخر، فأنزل الله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أفرأيت يا محمد من اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحقّ الذي له الألوهة من كلّ شيء، لأن ذلك هو الظاهر من معناه دون غيره.
وقوله (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) يقول تعالى ذكره: وخذله عن محجة الطريق، وسبيل الرشاد في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي، ولو جاءته كل آية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) يقول: أضله الله في سابق علمه.
وقوله (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) يقول تعالى ذكره: وطَبَع على سمعه أن(22/76)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
يسمع مواعظ الله وآي كتابه، فيعتبر بها ويتدبرها، ويتفكر فيها، فيعقل ما فيها من النور والبيان والهدى.
وقوله (وَقَلْبِهِ) يقول: وطبع أيضًا على قلبه، فلا يعقل به شيئا، ولا يعي به حقا.
وقوله (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) يقول: وجعل على بصره غشاوة أن يبصر به حجج الله، فيستدّل بها على وحدانيته، ويعلم بها أن لا إله غيره.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (غِشَاوَةً) بكسر الغين وإثبات الألف فيها على أنها اسم، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (غَشْوَةً) بمعنى: أنه غشاه شيئا في دفعة واحدة، ومرّة واحدة، بفتح الغين بغير ألف، وهما عندي قراءتان صحيحتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: فمن يوفِّقه لإصابة الحقّ، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أيها الناس، فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا، فلن يهتدي أبدا، ولن يجد لنفسه وليا مرشدا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (24) }
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون الذين تقدّم خبره عنهم: ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) : أي لعمري هذا قول مشركي العرب.(22/77)
وقوله (نَمُوتُ وَنَحْيَا) نموت نحن ونحيا وتحيا أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم، لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء، وذلك نظير قول الناس: ما مات من خلف ابنا مثل فلان، لأنه بحياة ذكره به، كأنه حيّ غير ميت، وقد يحتمل وجها آخر، وهو أن يكون معناه: نحيا ونموت على وجه تقديم الحياة قبل الممات، كما يقال: قمت وقعدت، بمعنى: قعدت وقمت; والعرب تفعل ذلك في الواو خاصة إذا أرادوا الخبر عن شيئين أنهما كانا أو يكونان، ولم تقصد الخبر عن كون أحدهما قبل الآخر، تقدم المتأخر حدوثا على المتقدم حدوثه منهما أحيانا، فهذا من ذلك، لأنه لم يقصد فيه إلى الخبر عن كون الحياة قبل الممات، فقدّم ذكر الممات قبل ذكر الحياة، إذ كان القصد إلى الخبر عن أنهم يكونون مرّة أحياء وأخرى أمواتا.
وقوله (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) يقول تعالى ذكره مخبرًا عن هؤلاء المشركين أنهم قالوا: وما يهلكنا فيفنينا إلا مرّ الليالي والأيام وطول العمر، إنكارًا منهم أن يكون لهم ربّ يفنيهم ويهلكهم.
وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا دَهْرٌ يَمُرُّ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) قال: الزمان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) قال ذلك مشركو قريش (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) : إلا العمر.
وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الشرك كانوا يقولون: الذي يهلكنا ويفنينا الدهر والزمان، ثم يسبون ما يفنيهم ويهلكهم، وهم يرون أنهم(22/78)
يسبون بذلك الدهر والزمان، فقال الله عزّ وجلّ لهم: أنا الذي أفنيكم وأهلككم، لا الدهر والزمان، ولا علم لكم بذلك.
* ذكر الرواية بذلك عمن قاله:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عيينة، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "كانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إنَّمَا يُهْلِكُنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَهُوَ الَّذِي يُهْلِكُنَا وَيُمِيتُنَا وَيُحْيِينا، فقال الله في كتابه: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) قال: فَيَسُبُّونَ الدَّهْرَ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ".
حدثنا عمران بن بكار الكُلاعي، قال: ثنا أبو روح، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال; قال أبو هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ والنَّهَارُ".
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " يَقُولُ اللَّهُ اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُعْطِني، وَسَبَّنِي عَبْدي يَقُولُ: وَادَهْرَاهُ، وأنا الدَّهْرُ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن الزهريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "إنَّ اللَّهَ قالَ: لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فإنّي أنا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارهُ، وَإذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُما".(22/79)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن هشام، عن أبي هريرة قال: " لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فإنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ" (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، بما يقولون من ذلك من علم: يعني من يقين علم، لأنهم يقولون ذلك تخرّصا بغير خبر أتاهم من الله، ولا برهان عندهم بحقيقته (إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) يقول جلّ ثناؤه: ما هم إلا في ظنّ من ذلك، وشكّ يخبر عنهم أنهم في حيرة من اعتقادهم حقيقة ما ينطقون من ذلك بألسنتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) }
يقول تعالى ذكره: وإذا تُتلى على هؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث آياتنا، بأن الله باعث خلقه من بعد مماتهم، فجامعهم يوم القيامة عنده للثواب والعقاب (بَيِّنَاتٍ) يعني: واضحات جليات، تنفي الشكّ عن قلب أهل التصديق بالله في ذلك (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يقول جل ثناؤه: لم يكن لهم حجة على رسولنا الذي يتلو ذلك عليهم إلا قولهم له: ائتنا بآبائنا الذين قد هلكوا أحياء، وانشرهم لنا إن كنت صادقا فيما تتلو علينا وتخبرنا، حتى نصدّق بحقيقة ما تقول بأن الله باعثنا من بعد مماتنا، ومحيينا من بعد فنائنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) }(22/80)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث، القائلين لك ائتنا بآبائنا إن كنت صادقا: الله أيها المشركون يحييكم ما شاء أن يحييكم في الدنيا، ثم يميتكم فيها إذا شاء، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة، يعني أنه يجمعكم جميعا أوّلكم وآخركم، وصغيركم وكبيركم (إلى يوم القيامة) يقول: ليوم القيامة، يعني أنه يجمعكم جميعا أحياء ليوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) يقول: لا شكّ فيه، يقول: فلا تشكوا في ذلك، فإن الأمر كما وصفت لكم (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يقول: ولكن أكثر الناس الذين هم أهل تكذيب بالبعث، لا يعلمون حقيقة ذلك، وأن الله محييهم من بعد مماتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) }
يقول تعالى ذكره: ولله سلطان السموات السبع والأرض، دون ما تدعون له شريكا، وتعبدونه من دونه، والذي تدعونه من دونه من الآلهة والأنداد في مُلكه وسلطانه، جارٍ عليه حكمه، فكيف يكون ما كان كذلك له شريكا، أم كيف تعبدونه، وتتركون عبادة مالككم، ومالك ما تعبدونه من دونه (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) يقول تعالى ذكره: ويوم تجيء الساعة التي يُنْشِر الله فيها الموتى من قبورهم، ويجمعهم لموقف العرض (يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) : يقول: يغبن فيها الذين أبطلوا في الدنيا في أقوالهم ودعواهم لله شريكا، وعبادتهم آلهة دونه بأن يفوز بمنازلهم من الجنة المحقون، ويبدّلوا بها منازل من النار كانت للمحقين.
فجعلت لهم بمنازلهم من الجنة، ذلك هو الخسران المبين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) }(22/81)
يقول تعالى ذكره: وترى يا محمد يوم تقوم الساعة أهل كل ملة ودين جاثية: يقول: مجتمعة مستوفزة على ركبها من هول ذلك اليوم.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) قال على الركب مستوفِزِين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) قال: هذا يوم القيامة جاثية على ركبهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) يقول: على الركب عند الحساب.
وقوله (كل أمة تدعى إلى كتابها) يقول: كل أهل ملة ودين تُدعى إلى كتابها الذي أملت على حفظتها.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) يعلمون أنه ستدعى أُمة قبل أُمة، وقوم قبل قوم، ورجل قبل رجل. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يُمَثَّلُ لِكُلِّ أُمَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ وَثَنٍ أَوْ خَشَبَةٍ، أَوْ دَابَّةٍ، ثُمَّ يُقَالُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَتَكُونُ، أوْ تُجْعَلُ تِلْكَ الأوْثَانُ قَادَةً إِلَى النَّارِ حَتَّى تَقْذِفَهُمْ فِيهَا، فَتَبْقَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَيَقُولُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ وَعُزَيْرًا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ، فَيُقَالُ لَهَا: أَمَّا عُزَيْرٌ فَلَيْسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ مُكُوثًا، ثُمَّ يُدْعَى بِالنَّصَارَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ وَالْمَسِيحَ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَيُقَالُ: أَمَّا عِيسَى فَلَيْسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ مُكُوثًا، وَتَبْقَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا فَارَقْنَا هَؤُلاءِ فِي الدُّنْيَا مَخَافَةَ يَوْمِنَا هَذَا، فَيُؤْذَنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي السُّجُودِ، فَيَسْجُدُ الْمُؤْمِنُونَ، وَبَيْنَ كُلِّ مُؤْمِنٍ مُنَافِقٌ، فَيَقْسُو(22/82)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
ظَهْرُ الْمُنَافِقُ عَنِ السُّجُودِ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ سُجُودَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ تَوْبِيخًا وَصَغَارًا وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة، قال: "قال الناس: يا رسول الله هل نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "هَلْ تُضَامُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّّهِ، قَالَ: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ " قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللًّهُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمْ رَبُّهُمْ فِي صُورَةٍ، وَيُضْرَبُ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَدَعْوَةُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ وَبِهَا كَلالِيبُ كَشَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ أَحَدٌ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ وَيَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدِلُ ثُمَّ يَنْجُو"، ثم ذكر الحديث بطوله.
وقوله (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول تعالى ذكره: كلّ أُمة تُدعى إلى كتابها، يقال لها: اليوم تجزون: أي تثابون وتعطون أجور ما كنتم في الدنيا من جزاء الأعمال تعملون بالإحسان الإحسانَ، وبالإساءة جزاءها.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) }
يقول تعالى ذكره: لكلّ أمة دعيت في القيامة إلى كتابها الذي أملت على(22/83)
حفظتها في الدنيا (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلا تجزعوا من ثوابناكم على ذلك، فإنكم ينطق عليكم إن أنكرتموه بالحق فاقرءوه (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول: إنا كنا نستكتب حفظتنا أعمالكم، فتثبتها في الكتب وتكتبها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن عطاء بن مقسم، عن ابن عباس (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) قال: هو أمّ الكتاب فيه أعمال بني آدم (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قال: نعم، الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب القمي، قال: ثني أخي عيسى بن عبد الله بن ثابت الثُّمالي، عن ابن عباس، قال: "إن الله خلق النون وهي الدواة، وخلق القلم، فقال: اكتب، قال: ما أكتب، قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول، برّ أو فجور، أو رزق مقسوم، حلال أو حرام، ثم ألزم كلّ شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا، ومقامه فيها كم، وخروجه منه كيف، ثم جعل على العباد حفظة، وعلى الكتاب خزانا، فالحفظة ينسخون كلّ يوم من الخزان عمل ذلك اليوم، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر، وانقضى الأجل، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم، فتقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا، فترجع الحفظة، فيجدونهم قد ماتوا، قال: فقال ابن عباس: ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) قال: الكتاب: الذكر (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قال: نستنسخ الأعمال.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا النضر بن(22/84)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
إسماعيل، عن أبي سنان الشيبانيّ، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي عبد الرحمن السلميّ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم.
وقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) يقول تعالى ذكره: فأما الذين آمنوا بالله في الدنيا فوحدوه، ولم يشركوا به شيئا، وعملوا الصالحات: يقول: وعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم الله عنه (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) يعني في جنته برحمته.
وقوله (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) يقول: دخولهم في رحمة الله يومئذ هو الظفر بما كانوا يطلبونه، وإدراك ما كانوا يسعون في الدنيا له، المبين غايتهم فيها، أنه هو الفوز.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) }
يقول تعالى ذكره: وأما الذين جحدوا وحدانية الله، وأبوا إفراده في الدنيا بالألوهة، فيقال لهم: ألم تكن آياتي في الدنيا تُتلى عليكم.
فإن قال قائل: أوليست أمَّا تجاب بالفاء، فأين هي؟ فإن الجواب أن يقال: هي الفاء التي في قوله (أَفَلَمْ) . وإنما وجه الكلام في العربية لو نطق به على بيانه، وأصله أن يقال: وأما الذين كفروا، فألم تكن آياتي تتلى عليكم، لأن معنى الكلام: وأما الذين كفروا فيقال لهم ألم، فموضع الفاء في ابتداء المحذوف الذي هو مطلوب في الكلام، فلما حُذفت يقال: وجاءت ألف استفهام، حكمها أن تكون مبتدأة بها، ابتدئ بها، وجعلت الفاء بعدها.
وقد تُسقط العرب الفاء التي هي جواب "أما" في مثل هذا الموضع أحيانا إذا أسقطوا الفعل الذي هو في محل جواب أمَّا كما قال جلّ ثناؤه (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ(22/85)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) فحذفت الفاء، إذ كان الفعل الذي هو في جواب أمَّا محذوفا، وهو فيقال، وذلك أن معنى الكلام: فأما الذين اسودّت وجوههم فيقال لهم: أكفرتم، فلما أسقطت، يقال الذي به تتصل الفاء سقطت الفاء التي هي جواب أمَّا.
وقوله (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) يقول: فاستكبرتم عن استماعها والإيمان بها (وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ) يقول: وكنتم قوما تكسبون الآثام والكفر بالله، ولا تصدّقون بمعاد، ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) }
يقول تعالى ذكره: ويقال لهم حينئذ: (وَإِذَا قِيلَ لَكُمُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ) الذي وعد عباده، أنه محييهم من بعد مماتهم، وباعثهم من قبورهم (حَقٌّ وَالسَّاعَةُ) التي أخبرهم أنه يقيمها لحشرهم، وجمعهم للحساب والثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، آتية (لا رَيْبَ فِيهَا) يقول: لا شكَ فيها، يعني في الساعة، والهاء في قوله (فِيهَا) من ذكر الساعة. ومعنى الكلام: والساعة لا ريب في قيامها، فاتقوا الله وآمنوا بالله ورسوله، واعملوا لما ينجيكم من عقاب الله فيها (قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) تكذيبا منكم بوعد الله جلّ ثناؤه، وردًا لخبره، وإنكارًا لقُدرته على إحيائكم من بعد مماتكم.
وقوله (إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا) يقول: وقلتم ما نظنّ أن الساعة آتية إلا ظنا (وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أنها جائية، ولا أنها كائنة.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا) فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة و (السَّاعَةُ) رفعا على الابتداء. وقرأته(22/86)
عامة قرّاء الكوفة "وَالسَّاعَةَ" نصبا عطفا بها على قوله (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) .
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار صحيحتا المخرج في العربية متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.(22/87)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره: وبدا لهؤلاء الذين كانوا في الدنيا يكفرون بآيات الله سيئات ما عملوا في الدنيا من الأعمال، يقول: ظهر لهم هنالك قبائحها وشرارها لما قرءوا كتب أعمالهم التي كانت الحفظة تنسخها في الدنيا (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) يقول: وحاق بهم من عذاب الله حينئذ ما كانوا به يستهزئون إذ قيل لهم: إن الله مُحِلُّهُ بمن كذب به على سيئات ما في الدنيا عملوا من الأعمال.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) }
يقول تعالى ذكره: وقيل لهؤلاء الكفرة الذين وصف صفتهم: اليوم نترككم في عذاب جهنم، كما تركتم العمل للقاء ربكم يومكم هذا.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ) نترككم. وقوله (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ) يقول: ومأواكم التي تأوون إليها نار جهنم، (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) يقول: وما لكم من مستنقذ ينقذكم اليوم من عذاب الله، ولا منتصر ينتصر لكم ممن يعذّبكم، فيستنقذ لكم منه.(22/87)
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره: يقال لهم: هذا الذي حلّ بكم من عذاب الله اليوم (بِأَنَّكُمْ) في الدنيا (اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) ، وهي حججه وأدلته وآي كتابه التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم (هُزُوًا) يعني سخرية تسخرون منها (وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) يقول: وخدعتكم زينة الحياة الدنيا. فآثرتموها على العمل لما ينجيكم اليوم من عذاب الله، يقول تعالى ذكره: (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا مِنَ النَّارِ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يقول: ولا هم يردّون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة مما عوقبوا عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) }
يقول تعالى ذكره (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) على نِعمه وأياديه عند خلقه، فإياه فاحمدوا أيها الناس، فإن كلّ ما بكم من نعمة فمنه دون ما تعبدون من دونه من آلهة ووثن، ودون ما تتخذونه من دونه ربا، وتشركون به معه (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ) يقول: مالك السموات السبع، ومالك الأرضين السبع و (رَبِّ الْعَالَمِينَ) يقول: مالك جميع ما فيهنّ من أصناف الخلق، وله الكبرياء في السموات والأرض يقول: وله العظمة والسلطان في السموات والأرض دون ما سواه من الآلهة والأنداد (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في نقمته من أعدائه، القاهر كل ما دونه، ولا يقهره شيء (الْحَكِيمُ) في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء كيف شاء، والله أعلم.
آخر تفسير سورة الجاثية(22/88)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
تفسير سورة الأحقاف بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) }
قد تقدم بياننا في معنى قوله (حم تَنزيلُ الْكِتَابِ) بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ) يقول تعالى ذكره: ما أحدثنا السموات والأرض فأوجدناهما خلقا مصنوعا، وما بينهما من أصناف العالم إلا بالحقّ، يعني: إلا لإقامة الحقّ والعدل في الخلق.
وقوله (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) يقول: وإلا بأجل لكل ذلك معلوم عنده يفنيه إذا هو بلغه، ويعدمه بعد أن كان موجودا بإيجاده إياه.
وقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) يقول تعالى ذكره: والذين جحدوا وحدانية الله عن إنذار الله إياهم معرضون، لا يتعظون به، ولا يتفكرون فيعتبرون.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) }(22/89)
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: أرأيتم أيها القوم الآلهة والأوثان التي تعبدون من دون الله، أروني أيّ شيء خلقوا من الأرض، فإن ربي خلق الأرض كلها، فدعوتموها من أجل خلقها ما خلقت من ذلك آلهة وأربابا، فيكون لكم بذلك في عبادتكم إياها حجة، فإن من حجتي على عبادتي إلهي، وإفرادي له الألوهة، أنه خلق الأرض فابتدعها من غير أصل.
وقوله (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) يقول تعالى ذكره: أم لآلهتكم التي تعبدونها أيها الناس، شرك مع الله في السموات السبع، فيكون لكم أيضًا بذلك حجة في عبادتكموها، فإن من حجتي على إفرادي العبادة لربي، أنه لا شريك له في خلقها، وأنه المنفرد بخلقها دون كلّ ما سواه.
وقوله (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا) يقول تعالى ذكره: بكتاب جاء من عند الله من قبل هذا القرآن الذي أُنزل عليّ، بأن ما تعبدون من الآلهة والأوثان خلقوا من الأرض شيئًا، أو أن لهم مع الله شركًا في السموات، فيكون ذلك حجة لكم على عبادتكم إياها، لأنها إذا صحّ لها ذلك صحت لها الشركة في النِّعم التي أنتم فيها، ووجب لها عليكم الشكر، واستحقت منكم الخدمة، لأن ذلك لا يقدر أن يخلقه إلا الله.
وقوله (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) بالألف، بمعنى: أو ائتوني ببقية من علم. ورُوي عن أبي عبد الرحمن السلميّ أنه كان يقرؤه "أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ"، بمعنى: أو خاصة من علم أوتيتموه، وأوثرتم به على غيركم، والقراءة التي لا أستجيز غيرها (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) بالألف، لإجماع قرّاء الأمصار عليها.
واختلف أهل التأويل في تأويلها، فقال بعضهم: معناه: أو ائتوني بعلم بأن آلهتكم خَلَقت من الأرض شيئا، وأن لها شرك في السموات من قبل الخطّ الذي تخطونه في الأرض، فإنكم معشر العرب أهل عيافة وزجر وكهانة.(22/92)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن آدم، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن صفوان بن سليم، عن أبي سلمة، عن ابن عباس (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: خط كان يخطه العرب في الأرض.
حدثنا أبو كُرَيْب، قال: قال أَبو بكر: يعني ابن عياش: الخط: هو العيافة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو خاصة من علم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتاده (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: أو خاصة من علم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: أي خاصة من علم.
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثني أبي، عن الحسين، عن قتادة (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: خاصة من علم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو علم تُشيرونه فتستخرجونه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، في قوله: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: أثارة شيء يستخرجونه فِطْرة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو تأثرون ذلك علمًا عن أحد ممن قبلكم؟
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛(22/93)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: أحد يأثر علما.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو ببينة من الأمر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) يقول: ببينة من الأمر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ببقية من علم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: سُئل أَبو بكر، يعني ابن عياش عن (أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: بقية من علم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأثارة: البقية من علم، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وهي مصدر من قول القائل: أثر الشيء أثارة، مثل سمج سماجة، وقبح قباحة، كما قال راعي الإبل:
وذاتِ أثارةٍ أكَلَتْ عَلَيْها ... [نَبَاتًا فِي أكمِتِهِ قَفَارا] (1)
يعني: وذات بقية من شحم، فأما من قرأه (أَوْ أَثَرَةٍ) فإنه جعله أثرة من الأثر،
__________
(1) هذا بيت من قصيدة للراعي، مدح بها سعد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، عدتها سبعة وخمسون بيتا. وقوله " ذات آثارة " أي رب ناقة ذات سمن. والأثارة، بفتح الهمزة: شحم متصل بشحم آخر، ويقال هي بقية من الشحم العتيق، يقال: سمنت الناقة على أثارة، أي على بقية شحم. وأكمته: غلفه، جمع كمام، وهو جمع كم بكسر الكاف، وهو غطاء النور وغلافه. وقفارًا وقفارة: وصف للنبات: أي رعته خاليًا لها من مزاحمة غيرها في رعيه. وأصله من قولهم طعام قفار: أي أكل بلا إدام. (انظر خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 4: 251) واستشهد بالبيت أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 222) . عند قوله تعالى: " أو أثارة من علم " أي بقية من شحم أكلت عليه. ومن قال: " أثرة " فهو مصدر أثره يأثره: يذكره. وفي (اللسان: أثر) : وأثرة العلم وأثرته وأثارته، بقية منه تؤثر فتذكر. وقال الزجاج أثاره: في معنى علامة. ويجوز أن يكون على معنى بقية من علم ونسب البيت للشماخ.(22/94)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
كما قيل: قترة وغبرة. وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه (أَوْ أَثْرَةٍ) بسكون الثاء، مثل الرجفة والخطفة، وإذا وجه ذلك إلى ما قلنا فيه من أنه بقية من علم، جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط، ومن علم استثير من كُتب الأوّلين، ومن خاصة علم كانوا أوثروا به. وقد رُوي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في ذلك خبر بأنه تأوّله أنه بمعنى الخط، سنذكره إن شاء الله تعالى، فتأويل الكلام إذن: ائتوني أيها القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب، بتحقيق ما سألتكم تحقيقه من الحجة على دعواكم ما تدّعون لآلهتكم، أو ببقية من علم يوصل بها إلى علم صحة ما تقولون من ذلك (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم لها ما تدّعون، فإن الدعوى إذا لم يكن معها حجة لم تُغن عن المدّعي شيئًا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره: وأيّ عبد أضلّ من عبد يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب له إلى يوم القيامة: يقول: لا تُجيب دعاءه أبدا، لأنها حجر أو خشب أو نحو ذلك.
وقوله: (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) يقول تعالى ذكره: وآلهتهم التي يدعونهم عن دعائهم إياهم في غفلة، لأنها لا تسمع ولا تنطق، ولا تعقل. وإنما عنى بوصفها بالغفلة، تمثيلها بالإنسان الساهي عما يقال له، إذ كانت لا تفهم مما يقال لها شيئًا، كما لا يفهم الغافل عن الشيء ما غفل عنه. وإنما هذا توبيخ من الله لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم، وقُبح اختيارهم في عبادتهم، من لا يعقل شيئًا ولا يفهم، وتركهم عبادة من جميع ما بهم من نعمته، ومن به استغاثتهم عندما ينزل بهم من الحوائج والمصائب.
وقيل: من لا يستجيب له، فأخرج ذكر الآلهة وهي جماد مخرج ذكر بني آدم، ومن له الاختيار والتمييز،(22/95)
إذ كانت قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم في خدمتهم إياها، فأجرى الكلام في ذلك على نحو ما كان جاريًا فيه عندهم.(22/96)
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) }
يقول تعالى ذكره: وإذا جُمع الناس يوم القيامة لموقف الحساب، كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء، لأنهم يتبرءون منهم (وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) يقول تعالى ذكره: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين، لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم يا ربنا.
وقوله (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ) يقول تعالى ذكره: وإذا يقرأ على هؤلاء المشركين بالله من قومك آياتنا، يعني حججنا التي احتججناها عليهم، فيما أنزلناه من كتابنا على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (بَيِّنَاتٍ) يعني واضحات نيرات (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) يقول تعالى ذكره: قال الذين جحدوا وحدانية الله، وكذّبوا رسوله للحقّ لما جاءهم من عند الله، فأنزل على رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) يعنون هذا القرآن خداع يخدعنا، ويأخذ بقلوب من سمعه فعل السحر (مبين) يقول: يُبين لمن تأمله ممن سمعه أنه سحر مبين.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) }
يقول تعالى ذكره: أم يقولون هؤلاء المشركون بالله من قريش، افترى(22/96)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
محمد هذا القرآن، فاختلقه وتخرّصه كذبا، قل لهم يا محمد إن افتريته وتخرّصته على الله كذبا (فَلا تَمْلِكُونَ لِي) يقول: فلا تغنون عني من الله إن عاقبني على افترائي إياه، وتخرّصي عليه شيئًا، ولا تقدرون أن تدفعوا عني سوءا إن أصابني به.
وقوله (هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ) يقول: ربي أعلم من كل شيء سواه بما تقولون بينكم في هذا القرآن والهاء من قوله (تُفِيضُونَ فِيهِ) من ذكر القرآن.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (تُفِيضُونَ فِيهِ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) قال: تقولون.
وقوله (كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يقول: كفى بالله شاهدا علي وعليكم بما تقولون من تكذبيكم لي فيما جئتكم به من عند الله الغفور الرحيم لهم، بأن لا يعذبهم عليها بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك من قريش (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) يعني: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه، قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم; يقال منه: هو بدع في هذا الأمر، وبديع فيه، إذا كان فيه أوّل. ومن البدع قول عديّ بن زيد.(22/97)
فَلا أنا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِث تَعْتَرِي ... رِجَلا عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسَى وَأَسعد (1)
ومن البديع قول الأحوص:
فَخَرَتْ فانْتَمَتْ فقُلْتُ انْظُرِيني ... ليسَ جَهْلٌ أتَيتُه بِبَدِيع (2)
يعني بأوّل، يقال: هو بدع من قوم أبداع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) يقول: لست بأوّل الرسل.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) قال: يقول: ما كنت أوّل رسول أُرسل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) قال: ما كنت أوّلهم.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا عبد الوهاب بن معاوية، عن أَبي هبيرة،
__________
(1) البيت لعدي بن زيد (شعراء النصرانية 465) وروايته فيه: فلست بمن يخشى حوادث تعتري ... رجالا فبادوا بعد بؤس وأسعد
وليس فيه شاهد على هذه الرواية؛ وقد استشهد به المؤلف على أنه يقال: هو بدع في هذا الأمر، على معنى ما كنت أول الناس فيه وقوله تعالى: " قل ما كنت بدعا من الرسل ": معناه ما كنت أول من أرسل، قد أرسل قبلي رسل كثير.
(2) يقول الأحوص: فخرت علي وانتسبت إلى آبائها. فقلت: كفي، وليس جهلك علي ببديع ولا غريب، فقد عهدت مثله من أمثالك في النساء. والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 222 - 1) استشهد به على أن البديع بمعنى البدع، وذلك عند تفسير قوله تعالى: " قل ما كنت بدعا من الرسل ".(22/98)
قال: سألت قتادة (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) قال: أي قد كانت قبلي رسل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) يقول: أي إن الرسل قد كانت قبلي.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) قال: قد كانت قبله رسل.
وقوله (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: عنى به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقيل له: قل للمؤمنين بك ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة، وإلام نصير هنالك، قالوا ثم بين الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وللمؤمنين به حالهم في الآخرة، فقيل له (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) وقال: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) فأنزل الله بعد هذا (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في حم الأحقاف (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ) فنسختها الآية التي في سورة الفتح (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) ... الآية، فخرج نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين نزلت هذه الآية، فبشرهم بأنه غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، فقال له رجال من المؤمنين: هنيئا لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يُفعل بنا؟ فأنزل الله عزّ وجلّ في سورة(22/99)
الأحزاب، فقال (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا) وقال (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ) ... الآية، فبين الله ما يفعل به وبهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) ثم درى أو علم من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعد ذلك ما يفعل به، يقول (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قال: قد بين له أنه قد غفر من ذنبه ما تقدم وما تأخر.
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوله للمشركين من قومه ويعلم أنه لا يدري إلام يصير أمره وأمرهم في الدنيا، أيصير أمره معهم أن يقتلوه أو يخرجوه من بينهم، أو يؤمنوا به فيتبعوه، وأمرهم إلى الهلاك، كما أهلكت الأمم المكذّبة رسلها من قبلهم أو إلى التصديق له فيما جاءهم به من عند الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو بكر الهذليّ، عن الحسن، في قوله (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) فقال: أما في الآخرة فمعاذ الله، قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي أو أُقتل كما قُتلت الأنبياء من قبلي، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم، أمتي المكذّبة، أم أمتي المصدّقة، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا، أم مخسوف بها خسفا، ثم أوحي إليه: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) يقول أحطت لك بالعرب(22/100)
أن لا يقتلوك، فعرف أنه لا يُقتل.
ثم أنزل الله عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان، ثم قال له في أمته: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فأخبره الله ما يصنع به، وما يصنع بأمته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما أدري ما يفترض عليّ وعليكم، أو ينزل من حكم، وليس يعني ما أدري ما يفعل بي ولا بكم غدا في المعاد من ثواب الله من أطاعه، وعقابه من كذّبه.
وقال آخرون: إنما أمر أن يقول هذا في أمر كان ينتظره من قِبَل الله عزّ وجلّ في غير الثواب والعقاب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دلّ عليه التنزيل، القول الذي قاله الحسن البصري، الذي رواه عنه أَبو بكر الهُذَليّ.
وإنما قلنا ذلك أولاها بالصواب لأن الخطاب من مبتدأ هذه السورة إلى هذه الآية، والخبر خرج من الله عزّ وجلّ خطابا للمشركين وخبرا عنهم، وتوبيخا لهم، واحتجاجا من الله تعالى ذكره لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عليهم.
فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن هذه الآية أيضًا سبيلها سبيل ما قبلها وما بعدها في أنها احتجاج عليهم، وتوبيخ لهم، أو خبر عنهم. وإذا كان ذلك كذلك، فمحال أن يقال للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وآيات كتاب الله عزّ وجلّ في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون، والمؤمنون به في الجنان منعمون، وبذلك يرهبهم مرّة، ويرغبهم أخرى، ولو قال لهم ذلك، لقالوا له: فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أيّ حال تصير غدا في القيامة، إلى خفض ودعة، أم إلى شدّة وعذاب; وإنما اتباعنا إياك إن اتبعناك، وتصديقنا بما تدعونا إليه، رغبة في نعمة، وكرامة نصيبها، أو رهبة من عقوبة، وعذاب نهرب منه، ولكن(22/101)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
ذلك كما قال الحسن، ثم بين الله لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما هو فاعل به، وبمن كذب بما جاء به من قومه وغيرهم.
وقوله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ) يقول تعالى ذكره: قل لهم ما أتبع فيما آمركم به، وفيما أفعله من فعل إلا وحي الله الذي يوحيه إليّ، (وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ) يقول: وما أنا لكم إلا نذير، أنذركم عقاب الله على كفركم به مبين: يقول: قد أبان لكم إنذاره، وأظهر لكم دعاءه إلى ما فيه نصيحتكم، يقول: فكذلك أنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) }
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين لهذا القرآن لما جاءهم هذا سحر مبين (أَرَأَيْتُمْ) أيها القوم (إِنْ كَانَ) هذا القرآن (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أنزله عليّ (وَكَفَرْتُمْ) أنتم (بِهِ) يقول: وكذّبتم أنتم به.
وقوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: وشهد شاهد من بني إسرائيل، وهو موسى بن عمران عليه السلام على مثله، يعني على مثل القرآن، قالوا: ومثل القرآن الذي شهد عليه موسى بالتصديق التوراة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر، عن مسروق في هذه الآية: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) فخاصم به الذين كفروا من أهل مكة، التوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: سئل داود، عن قوله:(22/102)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) ... الآية، قال داود، قال عامر، قال مسروق: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، ما أنزلت إلا بمكة، وما أسلم عبد الله إلا بالمدينة، ولكنها خصومة خاصم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بها قومه، قال: فنزلت (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) قال: فالتوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فآمنوا بالتوراة وبرسولهم، وكفرتم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، قال: أناس يزعمون أن شاهدا من بني إسرائيل على مثله عبد الله بن سلام، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة; وقد أخبرني مسروق أن آل حم، إنما نزلت بمكة، وإنما كانت محاجة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قومه، فقال: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يعني القرآن (وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ) موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام على الفرقان.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن داود، عن الشعبيّ، قال: إن ناسا يزعمون أن الشاهد على مثله: عبد الله بن سلام، وأنا أعلم بذلك، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة، وقد أخبرني مسروق أن آل حم إنما نزلت بمكة، وإنما كانت محاجة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لقومه، فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يعني الفرقان (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) فمثل التوراة الفرقان، التوراة شهد عليها موسى، ومحمد على الفرقان صلى الله عليهما وسلم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا داود، عن الشعبيّ. عن مسروق، في قوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الآية، قال: كان إسلام ابن سلام بالمدينة ونزلت هذه السورة بمكة إنما كانت خصومة بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين قومه، فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ(22/103)
وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) قال: التوراة مثل الفرقان، وموسى مثل محمد، فآمن به واستكبرتم، ثم قال: آمن هذا الذي من بني إسرائيل بنبيه وكتابه، واستكبرتم أنتم، فكذّبتم أنتم نبيكم وكتابكم، (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي) ... إلى قوله (هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) .
وقال آخرون: عنى بقوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) عبد الله بن سلام، قالوا: ومعنى الكلام وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل هذا القرآن بالتصديق. قالوا: ومثل القرآن التوراة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف التَّنِّيسي، قال: سمعت مالك بن أنس يحدّث عن أَبي النضر، عن عامر بن سعد بن أبي وقَّاص، عن أبيه، قال: ما سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام; قال: وفيه نزلت (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) .
حدثنا الحسين بن عليّ الصُّدائي، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا شعيب بن صفوان، قال: ثنا عبد الملك بن عمير، أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: قال عبد الله: أنزل فيّ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ... إلى قوله (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) .
حدثني عليّ بن سعد بن مسروق الكنديّ، قال: ثنا أبو محمد بن يحيى بن يعلى، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أخي عبد الله بن سلام، قال: قال عبد الله بن سلام: نزلت فيّ (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ... الآية، قال: كان رجل من أهل الكتاب آمن بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،(22/104)
فقال: إنا نجده في التوراة، وكان أفضل رجل منهم، وأعلمهم بالكتاب، فخاصمت اليهود النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: "أترضون أن يحكم بيني وبينكم عبد الله بن سلام "؟ "أتؤمنون"؟ قالوا: نعم، فأرسل إلى عبد الله بن سلام، فقال: "أتشهد أني رسول الله مكتوبا في التوراة والإنجيل"، قال: نعم، فأعرضت اليهود، وأسلم عبد الله بن سلام، فهو الذي قال الله جلّ ثناؤه عنه (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) يقول: فآمن عبد الله بن سلام.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) قال: عبد الله بن سلام.
حدثنا بِشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ... الآية، كنا نحدّث أنه عبد الله بن سلام آمن بكتاب الله وبرسوله وبالإسلام، وكان من أحبار اليهود.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) ؟ قال: هو عبد الله بن سلام.
حُدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) الشاهد: عبد الله بن سلام، وكان من الأحبار من علماء بني إسرائيل، وبعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى اليهود، فأتوه، فسألهم فقال: "أتَعْلَمُون أنّي رسُولُ الله تجدُونَنِي مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ في التَوْراة"؟ قالوا: لا نعلم ما تقول، وإنا بما جئت به كافرون، فقال: "أيَّ رجل عَبْدُ الله بْنُ سَلام عنْدَكُمْ"؟ قالوا: عالمنا وخيرنا، قال: "أتَرْضوْن بهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ"؟ قالوا: نعم، فأرسل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى عبد الله بن سلام، فجاءه فقال: "ما شَهادَتُكَ يا ابْنَ(22/105)
سَلام"؟ قال: أشهد أنك رسول الله، وأن كتابك جاء من عند الله، فآمن وكفروا، يقول الله تبارك وتعالى (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) .
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن الحسن، قال: بلغني أنه لما أراد عبد الله بن سلام أن يسلم قال: يا رسول الله، قد علمت اليهود أني من علمائهم، وأن أَبي كان من علمائهم، وإني أشهد أنك رسول الله، وأنهم يجدونك مكتوبًا عندهم في التوراة، فأرسل إلى فلان وفلان، ومن سماه من اليهود، وأخبئني في بيتك، وسلهم عني، وعن أبي، فإنهم سيحدثونك أني أعلمهم، وأن أَبي من أعلمهم، وإني سأخرج إليهم، فأشهد أنك رسول الله، وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في التوراة، وأنك بُعثت بالهدى ودين الحقّ، قال: ففعل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فخبأه في بيته وأرسل إلى اليهود، فدخلوا عليه، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "ما عبد الله بن سلام فيكم"؟ قالوا: أعلمنا نفسا. وأعلمنا أبا. فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "أرأيْتُمْ إنْ أسْلَمَ تُسْلِمُونَ"؟ قالوا: لا يسلم، ثلاث مرار، فدعاه فخرج، ثم قال: أشهد أنك رسول الله، وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في التوراة، وأنك بُعِثْتَ بالهدى ودين الحقّ، فقالت اليهود: ما كنا نخشاك على هذا يا عبد الله بن سلام، قال: فخرجوا كفارا، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) قال: هذا عبد الله بن سلام، شهد أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وكتابه حق، وهو في التوراة حقّ، فآمن واستكبرتم.
حدثني أبو شرحبيل الحمصي، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك(22/106)
الأشجعي، قال: انطلق النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم " يا مَعْشَرَ اليَهُودِ أَرُوني اثْنَي عَشَرَ رَجُلا يَشْهَدُونَ إِنَّهُ لا إلَهَ إلا هُو، وأنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ الله، يُحْبطُ الله عَنْ كُلِّ يَهُودِيّ تَحْتَ أدِيمِ السَّماءِ الغَضَبَ الَّذِي غَضِب عَلَيْهِ"، قال: فأسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم ثلَّث فلم يجبه أحد، فانصرف وأنا معه، حتى إذا كدنا أن نخرج نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد، قال: فأقبل، فقال ذلك الرجل: أيّ رجل تَعلموني فيكم يا معشر اليهود، قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك، ولا من أبيك، ولا من جدّك قبل أبيك، قال: فإني أشهد بالله أنه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي تجدونه في التوراة والإنجيل، قالوا كذبت، ثم ردّوا عليه قوله وقالوا له شرّا، فقال لهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "كَذَبْتُمْ لَنْ نَقْبَلَ قَوْلَكُمْ، أما آنفا فَتَثْنُونَ عَلَيْهِ مِنَ الخَيْرِ ما أثْنَيْتُمْ، وأمَّا إذْ آمَن كَذَّبْتُمُوهُ وَقُلْتُمْ ما قُلْتُمْ، فَلَنْ نَقْبَلَ قَوْلَكُمْ"، قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأنا، وعبد الله بن سلام، فأنزل الله فيه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ... الآية.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل، لأن قوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش، واحتجاجا عليهم لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دلّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدّم الخبر عنهم معنى، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأن ذلك عنى به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك، وشهد عبد الله بن سلام، وهو الشاهد من بني(22/107)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
إسرائيل على مثله، يعني على مثل القرآن، وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمدا مكتوب في التوراة أنه نبيّ تجده اليهود مكتوبا عندهم في التوراة، كما هو مكتوب في القرآن أنه نبيّ.
وقوله (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) يقول: فآمن عبد الله بن سلام، وصدّق بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وبما جاء به من عند الله، واستكبرتم أنتم على الإيمان بما آمن به عبد الله بن سلام معشر اليهود (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يقول: إن الله لا يوفِّق لإصابة الحقّ، وهدى الطريق المستقيم، القوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بإيجابهم لها سخط الله بكفرهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) }
يقول تعالى ذكره: وقال الذين جحدوا نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من يهود بني إسرائيل للذين آمنوا به، لو كان تصديقكم محمدا على ما جاءكم به خيرا، ما سبقتمونا إلى التصديق به، وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) أنه معنيّ به عبد الله بن سلام، فأما على تأويل من تأوّل أنه عُني به مشركو قريش، فإنه ينبغي أن يوجه تأويل قوله (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) أنه عُني به مشركو قريش وكذلك كان يتأوّله قتادة، وفي تأويله إياه كذلك ترك منه تأويله، قوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) أنه معني به عبد الله بن سلام.
* ذكر الرواية عنه ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) قال: قال ذاك أناس من المشركين: نحن أعزّ، ونحن، ونحن، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان(22/108)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
وفلان، فإن الله يختصّ برحمته من يشاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) قال: قد قال ذلك قائلون من الناس، كانوا أعزّ منهم في الجاهلية، قالوا: والله لو كان هذا خيرا ما سبقنا إليه بنو فلان وبنو فلان، يختص الله برحمته من يشاء، ويكرم الله برحمته من يشاء، تبارك وتعالى.
وقوله (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) يقول تعالى ذكره: وإذ لم يبصروا بمحمد وبما جاء به من عند الله من الهدى، فيرشدوا به الطريق المستقيم (فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) يقول: فسيقولون هذا القرآن الذي جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أكاذيب من أخبار الأوّلين قديمة، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عنهم، (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) }
يقول تعالى ذكره: ومن قبل هذا الكتاب، كتاب موسى، وهو التوراة، إماما لبني إسرائيل يأتمون به، ورحمة لهم أنزلناه عليهم. وخرج الكلام مخرج الخبر عن الكتاب بغير ذكر تمام الخبر اكتفاء بدلالة الكلام على تمامه; وتمامه: ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أنزلناه عليه، وهذا كتاب أنزلناه لسانا عربيا.
اختلف في تأويل ذلك، وفي المعنى الناصب (لِسَانًا عَرَبِيًّا) أهل العربية، فقال بعض نحويي البصرة: نصب اللسان والعربي، لأنه من صفة الكتاب، فانتصب على الحال، أو على فعل مضمر، كأنه قال: أعني لسانا عربيا. قال: وقال بعضهم على مصدق جعل الكتاب مصدق اللسان، فعلى قول من جعل اللسان نصبا على الحال، وجعله من صفة الكتاب، ينبغي أن يكون تأويل(22/109)
الكلام، وهذا كتاب بلسان عربيّ مصدّق التوراة كتاب موسى، بأن محمدا لله رسول، وأن ما جاء به من عند الله حقّ.
وأما القول الثاني الذي حكيناه عن بعضهم، أنه جعل الناصب للسان مصدّق، فقول لا معنى له، لأن ذلك يصير إذا يؤوّل كذلك إلى أن الذي يصدق القرآن نفسه، ولا معنى لأن يقال: وهذا كتاب يصدّق نفسه، لأن اللسان العربيّ هو هذا الكتاب، إلا أن يجعل اللسان العربيّ محمدا عليه الصلاة والسلام، ويوجه تأويله إلى: وهذا كتاب وهو القرآن يصدّق محمدا، وهو اللسان العربيّ، فيكون ذلك وجها من التأويل.
وقال بعض نحويي الكوفة: قوله: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) من نعت الكتاب، وإنما نُصب لأنه أريد به: وهذا كتاب يصدّق التوراة والإنجيل لسانا عربيا، فخرج لسانا عربيا من يصدّق، لأنه فعل، كما تقول: مررت برجل يقوم محسنا، ومررت برجل قائم محسنا، قال: ولو رفع لسان عربيّ جاز على النعت للكتاب.
وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود "وهذا كتاب مصدّق لما بين يديه لسانا عربيا، فعلى هذه القراءة يتوجه النصب في قوله (لِسَانًا عَرَبِيًّا) من وجهين: أحدهما على ما بيَّنت من أن يكون اللسان خارجا من قوله (مصَدّقٌ) والآخر: أن يكون قطعا من الهاء التي في بين يديه.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يكون منصوبا على أنه حال مما في مصدّق من ذكر الكتاب، لأن قوله: (مصَدّقٌ) فعل، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: وهذا القرآن يصدق كتاب موسى بأن محمدا نبي مرسل لسانا عربيا.
وقوله (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) يقول: لينذر هذا الكتاب الذي أنزلناه إلى محمد عليه الصلاة والسلام الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله بعبادتهم غيره.
وقوله (وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) يقول: وهو بشرى للذين أطاعوا الله فأحسنوا في إيمانهم وطاعتهم إياه في الدنيا، فحسن الجزاء من الله لهم في الآخرة على طاعتهم إياه. وفي قوله (وبُشْرى) وجهان من الإعراب: الرفع على العطف(22/110)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
على الكتاب بمعنى: وهذا كتاب مصدّق وبشرى للمحسنين. والنصب على معنى: لينذر الذين ظلموا ويبشر، فإذا جعل مكان يبشر وبُشرى أو وبشارة، نصبت كما تقول أتيتك لأزورك وكرامة لك، وقضاء لحقك، بمعنى لأزورك وأكرمك، وأقضي حقك، فتنصب الكرامة والقضاء بمعنى مضمر.
واختلفت القرّاء في قراءة (لِيُنْذِرَ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز "لِتُنْذِرَ" بالتاء بمعنى: لتنذر أنت يا محمد، وقرأته عامة قرّاء العراق بالياء بمعنى: لينذر الكتاب، وبأي القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) الذي لا إله غيره (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) على تصديقهم بذلك فلم يخلطوه بشرك، ولم يخالفوا الله في أمره ونهيه (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من فزع يوم القيامة وأهواله (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلفوا وراءهم بعد مماتهم.
وقوله (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين قالوا هذا القول، واستقاموا أهل الجنة وسكانها (خَالِدِينَ فِيهَا) يقول: ماكثين فيها أبدا (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يقول: ثوابا منا لهم آتيناهم ذلك على أعمالهم الصالحة التي كانوا في الدنيا يعملونها.(22/111)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي(22/111)
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) }
يقول تعالى ذكره: ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته إياهما أيام حياتهما، والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (حُسنا) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة "حُسنا" بضمّ الحاء على التأويل الذي وصف. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (إحْسانا) بالألف، بمعنى: ووصيناه بالإحسان إليهما، وبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب، لتقارب معاني ذلك، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في القرّاء.
وقوله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) يقول تعالى ذكره: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برّا بهما، لما كان منهما إليه حملا ووليدا وناشئا، ثم وصف جلّ ثناؤه ما لديه من نعمة أمه، وما لاقت منه في حال حمله ووضعه، ونبهه على الواجب لها عليه من البرّ، واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة، فقال: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ) يعني في بطنها كرها، يعني مشقة، (وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) يقول: وولدته كرها يعني مشقة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) يقول: حملته مشقة، ووضعته مشقة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة والحسن، في قوله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) قالا حملته في مشقة، ووضعته في مشقة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، قوله (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا) قال: مشقة عليها.
اختلف القرّاء في قراءة قوله (كُرْها) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة(22/112)
"كَرها" بفتح الكاف. وقرأته عامة قرّاء الكوفة (كُرها) بضمها، وقد بينت اختلاف المختلفين في ذلك قبل إذا فتح وإذا ضمّ في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) يقول تعالى ذكره: وحمل أمه إياه جنينا في بطنها، وفصالها إياه من الرضاع، وفطمها إياه، شرب اللبن ثلاثون شهرا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَفِصَالُهُ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار غير الحسن البصري: (وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ) بمعنى: فاصلته أمه فصالا ومفاصلة. وذُكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: "وحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ" بفتح الفاء بغير ألف، بمعنى: وفصل أمه إياه.
والصواب من القول في ذلك عندنا، ما عليه قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القراء عليه، وشذوذ ما خالف.
وقوله (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) اختلف أهل التأويل في مبلغ حد ذلك من السنين، فقال بعضهم: هو ثلاث وثلاثون سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: أشدّه: ثلاث وثلاثون سنة، واستواؤه أربعون سنة، والعذر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قال: ثلاثا وثلاثين.
وقال آخرون: هو بلوغ الحلم.(22/113)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مجالد، عن الشعبيّ، قال: الأشدّ: الحلم إذا كتبت له الحسنات، وكتبت عليه السيئات.
وقد بيَّنا فيما مضى الأشدّ جمع شدّ، وأنه تناهي قوّته واستوائه. وإذا كان ذلك كذلك، كان الثلاث والثلاثون به أشبه من الحلم، لأن المرء لا يبلغ في حال حُلمه كمال قواه، ونهاية شدّته، فإن العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام، فعطفت ببعض على بعض جعلت كلا الوقتين قريبا أحدهما من صاحبه، كما قال جلّ ثناؤه: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) ولا تكاد تقول أنا أعلم أنك تقوم قريبا من ساعة من الليل وكله، ولا أخذت قليلا من مال أو كله، ولكن تقول: أخذت عامة مالي أو كله، فكذلك ذلك في قوله (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) لا شك أن نسق الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه، إذ كان يراد بذلك تقريب أحدهما من الآخر من النسق على الخمس عشرة أو الثمان عشرة.
وقوله (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ذلك حين تكاملت حجة الله عليه، وسير عنه جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحق في بر والديه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وقد مضى من سيئ عمله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) حتى بلغ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وقد مضى من سيئ عمله ما مضى.
وقوله (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) يقول تعالى ذكره: قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده، وعرف حقّ الله عليه فيما ألزمه من برّ والديه (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) يقول: أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك(22/114)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
لي للإقرار بذلك، والعمل بطاعتك (وَعَلَى وَالِدَيَّ) من قبلي، وغير ذلك من نعمتك علينا، وألهمني ذلك. وأصله من وزعت الرجل على كذا: إذا دفعته عليه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) قال: اجعلني أشكر نعمتك، وهذا الذي قاله ابن زيد في قوله (رَبِّ أَوْزِعْنِي) وإن كان يئول إليه معنى الكلمة، فليس بمعنى الإيزاع على الصحة.
وقوله (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) يقول تعالى ذكره: أوزعني أن أعمل صالحا من الأعمال التي ترضاها، وذلك العمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) يقول: وأصلح لي أموري في ذرّيتي الذين وهبتهم، بأن تجعلهم هداة للإيمان بك، واتباع مرضاتك، والعمل بطاعتك، فوصفه (1) جل ثناؤه بالبرّ بالآباء والأمهات والبنين والبنات. وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وقوله (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا الإنسان. (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) يقول: تبت من ذنوبي التي سلفت مني في سالف أيامي إليك (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يقول: وإني من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) }
__________
(1) لعله فوصاه.(22/115)
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم، هم الذين يُتقبل عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالحات الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) يقول: ويصفح لهم عن سيئات أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فلا يعاقبهم عليها (فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ) يقول: نفعل ذلك بهم فعلنا مثل ذلك في أصحاب الجنة وأهلها الذين هم أهلها.
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن الغطريف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس. عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الروح الأمين، قال: "يؤتي بحسنات العبد وسيئاته، فيقتص بعضها ببعض، فإن بقيت حسنة وسع الله له في الجنة- قال: فدخلت على يزداد، فحدث بمثل هذا الحديث، قال: قلت: فإن ذهبت الحسنة؟ قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) ... الآية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قال: دعا أبو بكر عمر رضي الله عنهما، فقال له: إني أوصيك بوصية أن تحفظها: إن لله في الليل حقا لا يقبله بالنهار، وبالنهار حقا لا يقبله بالليل، إنه ليس لأحد نافلة حتى يؤدّي الفريضة، إنه إنما ثقُلت موازين من ثقُلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحقّ في الدنيا، وثقُل ذلك عليهم، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحقّ أن يثقل، وخفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة، لاتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف.
ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، فيقول قائل: أين يبلغ عملي من عمل هؤلاء، وذلك أن الله عزّ وجلّ تجاوز عن أسوأ أعمالهم فلم يبده، ألم تر أن الله ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم حتى يقول قائل: أنا خير عملا من هؤلاء، وذلك بأن الله ردّ عليهم أحسن أعمالهم، ألم تر أن الله عزّ وجلّ أنزل أية الشدّة عند آية الرخاء، وآية الرخاء عند آية الشدّة، ليكون المؤمن راغبا راهبا، لئلا يُلقي(22/116)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
بيده إلى التهلكة، ولا يتمنى على الله أمنية يتمنى على الله فيها غير الحقّ.
واختلفت القراء في قراءة قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (يُتَقَبَّلُ وَيُتَجَاوَزُ) بضم الياء منهما، على ما لم يسمّ فاعله، ورفع (أحْسَنُ) . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة (نَتَقَبَّلُ، وَنَتَجَاوَزُ) بالنون وفتحها، ونصب (أحسنَ) على معنى إخبار الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم،
وردّا للكلام على قوله (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ) ونحن نتقبل منهم أحسن ما عملوا ونتجاوز، وهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) يقول: وعدهم الله هذا الوعد، وعد الحقّ لا شك فيه أنه موفّ لهم به، الذي كانوا إياه في الدنيا يعدهم الله تعالى، ونصب قوله (وَعْدَ الصِّدْقِ) لأنه مصدر خارج من قوله (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) ، وإنما أخرج من هذا الكلام مصدر وعد وعدا، لأن قوله (يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ - وَيَتَجاوَز ُ) وعد من الله لهم، فقال: وعد الصدق، على ذلك المعنى.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (17) }
وهذا نعت من الله تعالى ذكره نعت ضالّ به كافر، وبوالديه عاقّ، وهما مجتهدان في نصيحته ودعائه إلى الله، فلا يزيده دعاؤهما إياه إلى الحقّ، ونصيحتهما له إلا عتوًا وتمرّدا على الله، وتماديا في جهله، يقول الله جلّ ثناؤه (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ) أن دعواه إلى الإيمان بالله، والإقرار ببعث الله خلقه من قبورهم، ومجازاته إياهم بأعمالهم (أُفٍّ لَكُمَا) يقول: قذرا لكما ونتنا (أَتَعِدَانِنِي أَنْ(22/117)
أُخْرَجَ) يقول أتعدانني أن أخرج من قبري من بعد فنائي وبلائي فيه حيا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أن أبعث بعد الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) قال: يعني البعث بعد الموت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي) ... إلى آخر الآية; قال: الذي قال هذا ابن لأبي بكر رضي الله عنه، قال: (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أتعدانني أن أبعث بعد الموت.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) قال: هو الكافر الفاجر العاقّ لوالديه، المكذب بالبعث.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثم نعت عبد سوء عاقا لوالديه فاجرا فقال: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا) ... إلى قوله (أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) .
وقوله (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) يقول: أتعدانني أن أبعث، وقد مضت قرون من الأمم قبلي، فهلكوا، فلم يبعث منهم أحدا، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان، لكان قد بعث من هلك قبلي من القرون (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ) يقول تعالى ذكره ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه عليه أن يؤمن بالله، ويقرّ بالبعث ويقولان له: (وَيْلَكَ آمِنْ) ، أي صدّق بوعد الله، وأقر أنك مبعوث من بعد وفاتك، إن وعد الله الذي وعد خلقه أنه باعثهم من قبورهم، ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم بأعمالهم حقّ لا شكّ فيه، فيقول عدوّ الله مجيبا لوالديه، وردًّا عليهما نصيحتهما، وتكذيبا بوعد الله: ما هذا الذي تقولان لي وتدعواني إليه من التصديق بأني مبعوث من بعد وفاتي من(22/118)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
قبري، إلا ما سطره الأوّلون من الناس من الأباطيل، فكتبوه، فأصبتماه أنتما فصدّقتما.
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم، الذين وجب عليهم عذاب الله، وحلَّت بهم عقوبته وسخطه، فيمن حلّ به عذاب الله على مثل الذي حلّ بهؤلاء من الأمم الذين مضوا قبلهم من الجنّ والإنس، الذين كذّبوا رسل الله، وعتوا عن أمر ربهم.
وقوله (إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) يقول تعالى ذكره: إنهم كانوا المغبونين ببيعهم الهدى بالضلال والنعيم بالعقاب. 2
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن، قال: الجنّ لا يموتون، قال قتادة: فقلت (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) ... الآية.
وقوله (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) يقول تعالى ذكره: ولكلّ هؤلاء الفريقين: فريق الإيمان بالله واليوم الآخر، والبرّ بالوالدين، وفريق الكفر بالله واليوم الآخر، وعقوق الوالدين اللذين وصف صفتهم ربنا عزّ وجلّ في هذه الآيات منازل ومراتب عند الله يوم القيامة، مما عملوا، يعني من عملهم الذي عملوه في الدنيا من صالح وحسن وسيىء يجازيهم الله به.
وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) قال: درج أهل النار يذهب سفالا ودرج أهل الجنة يذهب علوا (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) يقول جلّ ثناؤه: وليعطى جميعهم(22/119)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
أجور أعمالهم التي عملوها في الدنيا، المحسن منهم بإحسانه ما وعد الله من الكرامة، والمسيء منهم بإساءته ما أعدّه من الجزاء (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يقول: وجميعهم لا يظلمون: لا يجازى المسيء منهم إلا عقوبة على ذنبه، لا على ما لم يعمل، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يبخس المحسن منهم ثوابَ إحسانه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) }
يقول تعالى ذكره: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ عَلَى النَّارِ) يقال لهم (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) فيها.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) قرأ يزيد حتى بلغ (وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) تعلمون والله أن أقواما يشترطون حسناتهم استبقى رجل طيباته إن استطاع، ولا قوّة إلا بالله. ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي. وذُكر لنا أنه لما قدم الشأم، صنع له طعام لم ير قبله مثله، قال: هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر، وقال: لئن كان حظنا في الحطام، وذهبوا- قال أبو جعفر فيما أرى أنا- بالجنة، لقد باينونا بونا بعيدا.
وذُكر لنا "أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دخل على أهل الصفة مكانا يجتمع - فيه فقراء المسلمين، وهم يرقَعون ثيابهم بالأدَم، ما يجدون لها رقاعا، قال: أنتم اليوم خير، أو يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أُخرى، ويغدى عليه بحفنة، ويُراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا: نحن يومئذ(22/120)
خير، قال: " بل أنتم اليوم خير".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا صاحب لنا عن أبي هريرة، قال: إنما كان طعامنا مع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الأسودين: الماء، والتمر، والله ما كنا نرى سمراءكم هذه، ولا ندري ما هي.
قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعريّ، عن أبيه، قال: أي بنيّ لو شهدتنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونحن مع نبينا إذا أصابتنا السماء، حسبت أن ريحنا ريح الضأن، إنما كان لباسنا الصوف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله عزّ وجلّ (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) ... إلى آخر الآية، ثم قرأ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) وقرأ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) وقرأ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) ... إلى آخر الآية، وقال: هؤلاء الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ) ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار (أَذْهَبْتُمْ) بغير استفهام، سوى أبي جعفر القارئ، فإنه قرأه بالاستفهام، والعرب تستفهم بالتوبيخ، وتترك الاستفهام فيه، فتقول: أذهبت ففعلت كذا وكذا، وذهبت ففعلت وفعلت. وأعجب القراءتين إليّ ترك الاستفهام فيه، لإجماع الحجة من القرّاء عليه، ولأنه أفصح اللغتين.
وقوله (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) يقول تعالى ذكره: يقال لهم: فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا تجزون: أي تثابون عذاب الهون، يعني عذاب الهوان، وذلك عذاب النار الذي يهينهم. كما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;(22/121)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (عَذَابَ الْهُونِ) قال: الهوان (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يقول: بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم، فتأبون أن تخلصوا له العبادة، وأن تذعنوا لأمره ونهيه بغير الحقّ، أي بغير ما أباح لكم ربكم، وأذن لكم به (وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) يقول: بما كنتم فيها تخالفون طاعته فتعصونه.(22/122)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: واذكر يا محمد لقومك الرّادّين عليك ما جئتهم به من الحقّ هودا أخا عاد، فإن الله بعثك إليهم كالذي بعثه إلى عاد، فخوّفهم أن يحلّ بهم من نقمة الله على كفرهم ما حلّ بهم إذ كذّبوا رسولنا هودًا إليهم، إذ أنذر قومه عادا بالأحقاف. والأحقاف: جمع حقف وهو من الرمل ما استطال، ولم يبلغ أن يكون جبلا وإياه عنى الأعشى:
فَباتَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ تَلُفُّهُ ... خَرِيقُ شَمالٍ يَتْرُكُ الوَجْهَ أقْتَما (1)
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي به هذه الأحقاف، فقال بعضهم: هي جبل بالشام.
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعة القاهرة 295) وفي روايته: " يلوذ " في موضع " فبات ": من قصيدة يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي، أو قيس بن معد يكرب، والضمير في فبات راجع إلى الثور الوحشي الذي شبه به ناقته، في أبيات سابقة. والأرطي: شجر ضخم ينبت في الرمل. واحدته: أرطأة. ما اعوج وانعطف، وجمعه: أحقاف. وهو موضع الشاهد في البيت. والخريق: الريح الشديدة الهبوب. والشمال: ريح باردة تهب من ناحية الشام. يقول: يلجأ هذا الثور إلى أرطأة في منعرج رمل، تعصف من حوله ريح شمالية هوجاء، فتترك وجهه أغبر قاتمًا.(22/122)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) قال: الأحقاف: جبل بالشام.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) جبل يسمى الأحقاف.
وقال آخرون: بل هي واد بين عُمان ومهرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) قال: فقال: الأحقاف الذي أنذر هود قومه واد بين عمان ومهرة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كانت منازل عاد وجماعتهم، حيث بعث الله إليهم هودا الأحقاف: الرمل فيما بين عُمان إلى حَضْرَمَوْتَ، فاليمن كله، وكانوا مع ذلك قد فشَوْا في الأرض كلها، قهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله.
وقال آخرون: هي أرض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الأحقاف: الأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) قال: حشاف أو كلمة تشبهها، قال أبو موسى: يقولون مستحشف.(22/123)
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) حِشاف من حِسْمَى.
وقال آخرون: هي رمال مُشْرفة على البحر بالشِّحْر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاده، قوله (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) ذُكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشِّحْر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) قال: بلغَنَا أنهم كانوا على أرض يقال لها الشحر، مشرفين على البحر، وكانوا أهل رمل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن عبد الله، عن قتادة، أنه قال: كان مساكن عاد بالشِّحْر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أن الله تبارك وتعالى أخبر أن عادا أنذرهم أخوهم هود بالأحقاف، والأحقاف ما وصفت من الرمال المستطيلة المشرفة، كما قال العَجَّاج:
بات إلى أرْطاةِ حقْف أحْقَفا (1)
__________
(1) لم أجد البيت في ديوان العجاج المطبوع. والذي في (اللسان: حقف) : واحقوقف الرمل: إذا طال واعوج. واحقوقف الهلال: اعوج. وكل ما طال واعوج فقد احقوقف، كظهر البعير، وشخص القمر، قال العجاج: ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفا فزلفا
* سماوة الهلال حتى احقوقفا *
والمؤلف ساق هذا البيت شاهدًا على أن الأحقاف: الرمال المستطيلة المشرفة، كما قال العجاج: " بات ... إلخ ". وأصله من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 222) قال: " إذ أنذر قومه بالأحقاف ": أحقاف الرمال. قال العجاج ... البيت. أقول: ولست على يقين من صحة هذا الشاهد، فإن أكثر ألفاظه من ألفاظ الشاهد الذي قبله، فلعله اضطرب في أفواه الرواة وتداخل مع سابقه.(22/124)
وكما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) قال: الأحقاف: الرمل الذي يكون كهيئة الجبل تدعوه العرب الحقف، ولا يكون أحقافا إلا من الرمل، قال: وأخو عاد هود. وجائز أن يكون ذلك جبلا بالشأم. وجائز أن يكون واديا بين عمان وحضرموت. وجائز أن يكون الشحر وليس في العلم به أداء فرض، ولا في الجهل به تضييع واجب، وأين كان فصفته ما وصفنا من أنهم كانوا قوما منازلهم الرمال المستعلية المستطيلة.
وقوله (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ) يقول تعالى ذكره: وقد مضت الرسل بإنذار أممها (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يعني: من قبل هود ومن خلفه، يعني: ومن بعد هود. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعْدِهِ) ، (أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ) يقول: لا تشركوا مع الله شيئا في عبادتكم إياه، ولكن أخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهة، إنه لا إله غيره، وكانوا فيما ذُكر أهل أوثان يعبدونها من دون الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ) قال: لن يبعث الله رسولا إلا بأن يعبد الله.
وقوله (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه: إني أخاف عليكم أيها القوم بعبادتكم غير الله عذاب الله في يوم عظيم وذلك يوم يعظم هوله، وهو يوم القيامة.(22/125)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) }
يقول تعالى ذكره: قالت عاد لهود، إذ قال لهم لا تعبدوا إلا الله: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، وإلى اتباعك على قولك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا) قال: لتزيلنا، وقرأ (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا) قال: تضلنا وتزيلنا وتأفكنا (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) من العذاب على عبادتنا ما نعبد من الآلهة (إِنْ كُنْتُ) من أهل الصدق في قوله وعداته.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه عاد: (إِنَّمَا الْعِلْمُ) بوقت مجيء ما أعدكم به من عذاب الله على كفركم به عند الله، لا أعلم من ذلك إلا ما علمني (وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ) يقول: وإنما أنا رسول إليكم من الله، مبلغ أبلغكم عنه ما أرسلني به من الرسالة (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) مواضع حظوظ أنفسكم، فلا تعرفون ما عليها من المضرّة بعبادتكم غير الله، وفي استعجال عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ(22/126)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
أَلِيمٌ (24) }
يقول تعالى ذكره: فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوه سحابا عارضا في ناحية من نواحي السماء (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) والعرب تسمي السحاب الذي يُرَى في بعض أقطار السماء عشيا، ثم يصبح من الغد قد استوى، وحبا بعضه إلى بعض عارضا، وذلك لعرضه في بعض أرجاء السماء حين نشأ، كما قال الأعشى:
يا من يَرَى عارضا قَدْ بِتُّ أرْمُقُهُ ... كأنَّمَا الْبَرْقُ في حافاتِهِ الشُّعَلُ (1)
(قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) ظنا منهم برؤيتهم إياه أن غيثا قد أتاهم يَحيون به، فقالوا: هذا الذي كان هودٌ يعدنا، وهو الغيث.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) ... الآية، وذُكر لنا أنهم حبس عنهم المطر زمانا، فلما رأوا العذاب مقبلا (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) . وذُكر لنا أنهم قالوا: كذب هود كذب هود; فلما خرج نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الله فشامه، قال: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ساق الله السحابة السوداء التي اختار قَيْلُ ابن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد لهم يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ
__________
(1) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعه القاهرة 57) وفي روايته: " أرقبه " في موضع " أرمقه "، وهما بمعنى أنظر إليه. واليت شاهد على أن معنى العارض السحاب المعترض في السماء. قال في (اللسان: عرض) والعارض: السحاب الذي يعترض في أفق السماء. وفي التنزيل في قصة قوم عاد: " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا " أي قالوا: هذا الذي وعدنا به سحاب فيه الغيث. أهـ. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن: (الورقة 222) والعارض من السحاب: الذي يرى في قطر من أقطار السماء من العشى، ثم يصبح وقد حبا حتى استوى.(22/127)
مُمْطِرُنَا) : يقول الله عزّ وجلّ: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
وقوله (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هود لقومه لما قالوا له عند رؤيتهم عارض العذاب، قد عرض لهم في السماء هذا عارض ممطرنا نحيا به، ما هو بعارض غيث، ولكنه عارض عذاب لكم، بل هو ما استعجلتم به: أي هو العذاب الذي استعجلتم به، فقلتم: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) والريح مكرّرة على ما في قوله (هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) كأنه قيل: بل هو ريح فيها عذاب أليم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: كان هود جلدا في قومه، وإنه كان قاعدا في قومه، فجاء سحاب مكفهرّ، (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا فَقَالَ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) قال: فجاءت ريح فجعلت تلقي الفسطاط، وتجيء بالرجل الغائب فتلقيه.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال سليمان، ثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: لقد كانت الريح تحمل الظعينة فترفعها حتى تُرى كأنها جرادة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) ... إلى آخر الآية، قال: هي الريح إذا أثارت سحابا، (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) ، فقال نبيهم: بل ريح فيها عذاب أليم.(22/128)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
القول في تأويل قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) }
وقوله (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) : يقول تعالى ذكره: تخرّب كل شيء، وترمي بعضه على بعض فتهلكه، كما قال جرير
وكانَ لَكُمْ كَبَكْرِ ثَمُود لَمَّا ... رَغا ظُهْرًا فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا (1)
يعني بقوله: دمرهم: ألقى بعضهم على بعض صَرْعى هَلكَى.
وإنما عنى بقوله (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) مما أرسلت بهلاكه، لأنها لم تدمر هودا ومن كان آمن به.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا طلق، عن زائدة، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما أرسل الله على عادٍ من الريح إلا قدر خاتمي هذا، فنزع خاتمه.
وقوله (فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ) يقول: فأصبح قوم هود وقد هلكوا وفنوا، فلا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة (لا تَرَى إلا مَساكِنَهُمْ) بالتاء نصبا، بمعنى: فأصبحوا لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة (لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ) بالياء في (يُرى) ، ورفع المساكن، بمعنى: ما وصفت قبل أنه لا
__________
(1) البيت ليس لجرير كما ورد في الأصل، وإنما هو للفرذدق، من قصيدة في ديوانه يرد بها على جرير ويناقضه وهي في ديوانه (طبعة الصاوي 442) ، وأول القصيدة: جَرَّ المُخْزِيات عَلَى كُلَيْبٍ ... جرير ثم ما منع الذمارًا
وكانَ لَهُمْ كَبَكْرِ ثَمُودَ لَمَّا ... رَغا ظُهْرا فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا
أي جلب على قومه الدمار والخراب(22/129)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
يرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم.
وروى الحسن البصري (لا تُرَى) بالتاء، وبأيّ القراءتين اللتين ذكرت من قراءة أهل المدينة والكوفة قرأ ذلك القارئ فمصيب وهو القراءة برفع المساكن إذا قُرئ قوله (يُرى) بالياء وضمها وبنصب المساكن إذا قرئ قوله: "ترى" بالتاء وفتحها، وأما التي حُكيت عن الحسن، فهي قبيحة في العربية وإن كانت جائزة، وإنما قبحت لأن العرب تذكِّر الأفعال التي قبل إلا وإن كانت الأسماء التي بعدها أسماء إناث، فتقول: ما قام إلا أختك، ما جاءني إلا جاريتك، ولا يكادون يقولون: ما جاءتني إلا جاريتك، وذلك أن المحذوف قبل إلا أحد، أو شيء واحد، وشيء يذكر فعلهما العرب، وإن عنى بهما المؤنث، فتقول: إن جاءك منهنّ أحد فأكرمه، ولا يقولون: إن جاءتك، وكان الفرّاء يجيزها على الاستكراه، ويذكر أن المفضل أنشده:
وَنارُنا لَمْ تُرَ نارًا مِثْلُها ... قَدْ عَلِمَتْ ذاكَ مَعَدّ أكْرَمَا (1)
فأنث فعل مثل لأنه للنار، قال: وأجود الكلام أن تقول: ما رئي مثلها.
وقوله (كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) يقول تعالى ذكره: كما جزينا عادا بكفرهم بالله من العقاب في عاجل الدنيا، فأهلكناهم بعذابنا، كذلك نجزي القوم الكافرين بالله من خلقنا، إذ تمادوا في غيهم وطَغَوا على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 301) استشهد به عند قوله تعالى: " فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم " فقال إنها قرئت بالتاء أو بالياء مضمومة (مع بناء الفعل للمجهول) . ووصف القراءة بالتاء المضمومة بأن فيها قبحًا؛ قال: لأن العرب إذا جعلت فعل المؤنث قبل إلا ذكروه، فقالوا: لم يقم إلا جاريتك، وما قام إلا جاريتك، ولا يكادون يقولون: ما قامت إلا جاريتك، وذلك أن المتروك (المستثنى منه) أحد أو شيء، فأحد إذا كانت لمؤنث أو مذكر فعلها مذكر؛ ألا ترى أنك تقول: إن قام أحد منهن فاضربه، ولا تقول: إن قامت إلا مستكرها، وهو على ذلك جائز؛ قال: أنشدني المفضل: " ونارنا ... البيت ". فأنت فعل مؤنث، لأنه للنار؛ وأجود الكلام أن تقول: ما رؤى مثلها. قلت: وقوله " أكرما " نعت لنارا.(22/130)
أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) }
يقول تعالى ذكره لكفار قريش: ولقد مكنَّا أيها القوم عادا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا، وأعطيناهم منها الذي لم نعطكم منهم من كثرة الأموال، وبسطة الأجسام، وشدّة الأبدان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) يقول: لم نمكنكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) : أنبأكم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم.
وقوله (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا) يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصارا يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يسرّهم وينفعهم (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) يقول: فلم ينفعهم ما أعطاهم من السمع والبصر والفؤاد إذ لم يستعملوها فيما أعطوها له، ولم يعملوها فيما ينجيهم من عقاب الله، ولكنهم استعملوها فيما يقرّبهم من سخطه (إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) يقول: إذ كانوا يكذّبون بحجج الله وهم رُسله، وينكرون نبوّتهم (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) يقول: وعاد عليهم ما استهزءوا به، ونزل بهم ما سخروا به، فاستعجلوا به من العذاب، وهذا وعيد من الله جلّ ثناؤه لقريش، يقول لهم: فاحذروا أن يحلّ بكم من العذاب على كفركم بالله وتكذيبكم رسله، ما حلّ بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ(22/131)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره لكفار قريش محذّرهم بأسه وسطوته، أن يحلّ بهم على كفرهم (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا) أيها القوم من القُرَى ما حول قريتكم، كحجر ثمود وأرض سدوم ومأرب ونحوها، فأنذرنا أهلها بالمَثُلات، وخرّبنا ديارها، فجعلناها خاوية على عروشها.
وقوله: (وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ) يقول: ووعظناهم بأنواع العظات، وذكرناهم بضروب من الذِّكْر والحجج، وبيَّنا لهم ذلك.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ) قال بيَّناها (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يقول ليرجعوا عما كانوا عليه مقيمين من الكفر بالله وآياته. وفي الكلام متروك ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه، وهو: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم، والتمادي في غيهم، فأهلكناهم، فلن ينصرهم منا ناصر؛ يقول جلّ ثناؤه: فلولا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتها قربانا يتقرّبون بها فيما زعموا إلى ربهم منا إذ جاءهم بأسنا، فتنقذهم من عذابنا إن كانت تشفع لهم عند ربهم كما يزعمون.
وهذا احتجاج من الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على مُشركي قومه، يقول لهم: لو كانت آلهتكم التي تعبدون من دون الله تغني عنكم شيئا، أو تنفعكم عند الله كما تزعمون أنكم إنما تعبدونها، لتقرّبكم إلى الله زلفى، لأغنت عمن كان قبلكم من الأمم التي أهلكتها بعبادتهم إياها، فدفعت عنها العذاب إذا نزل، أو لشفعت لهم عند ربهم، فقد كانوا من عبادتها على مثل الذي عليه أنتم، ولكنها ضرتهم ولم تنفعهم.
يقول تعالى ذكره: (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) يقول: بل تركتهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها، فأخذت غير طريقهم،(22/132)
لأن عبدتها هلكت، وكانت هي حجارة أو نحاسا، فلم يصبها ما أصابهم ودعوها، فلم تجبهم، ولم تغثهم، وذلك ضلالها عنهم، وذلك إفكهم، يقول عزّ وجلّ هذه الآلهة التي ضلَّت عن هؤلاء الذين كانوا يعبدونها من دون الله عند نزول بأس الله بهم، وفي حال طمعهم فيها أن تغيثهم، فخذلتهم، هو إفكهم: يقول: هو كذبهم الذي كانوا يكذّبون، ويقولون به هؤلاء آلهتنا وما كانوا يفترون، يقول: وهو الذي كانوا يفترون، فيقولون: هي تقرّبنا إلى الله زُلفى، وهي شفعاؤنا عند الله. وأخرج الكلام مخرج الفعل، والمعنيّ المفعول به، فقيل: وذلك إفكهم، والمعنيّ فيه: المأفوك به لأن الإفك إنما هو فعل الآفك، والآلهة مأفوك بها. وقد مضى البيان عن نظائر ذلك قبل، قال: وكذلك قوله (وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار، وذلك إفكهم بكسر الألف وسكون الفاء وضم الكاف بالمعنى الذي بيَّنا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك ما حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عمن حدثه، عن ابن عباس، أنه كان يقرؤها (وَذَلِكَ أَفْكُهُمْ) يعني بفتح الألف والكاف وقال: أضلهم. فمن قرأ القراءة الأولى التي عليها قرّاء الأمصار، فالهاء والميم في موضع خفض. ومن قرأ هذه القراءة التي ذكرناها عن ابن عباس فالهاء والميم في موضع نصب، وذلك أن معنى الكلام على ذلك، وذلك صرفهم عن الإيمان بالله.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا، القراءة التي عليها قراءة الأمصار لإجماع الحجة عليها.(22/133)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) }(22/133)
يقول تعالى ذكره مقرّعا كفار قريش بكفرهم بما آمنت به الجنّ (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ) يا محمد (نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) ذكر أنهم صرفوا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحادث الذي حدث من رَجْمِهم بالشهب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن زياد، عن سعيد بن جُبير، قال: "كانت الجن تستمع، فلما رُجِموا قالوا: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض، فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر، فذهبوا إلى قومهم".
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جُبير، قال: "ولما بعث النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حُرِست السماء، فقال الشيطان: ما حُرِست إلا لأمر قد حدث في الأرض فبعث سراياه في الأرض، فوجدوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قائما يصلي صلاة الفجر بأصحابه بنَخْلة، وهو يقرأ. فاستمعوا حتى إذا فرغ (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ... إلى قوله (مُسْتَقِيمٍ) ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) ... إلى آخر الآية، قال: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وكانوا يقعدون مقاعد للسمع; فلما بعث الله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حرست السماء حرسا شديدا، ورُجِمت الشياطين، فأنكروا ذلك، وقالوا: (لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) فقال إبليس: لقد حدث في الأرض حدث، واجتمعت إليه الجنّ، فقال: تفرّقوا في الأرض، فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء، وكان أوّل بعث ركب من أهل نصيبين، وهي أشراف الجنّ وساداتهم، فبعثهم إلى(22/134)
تهامة، فاندفعوا حتى بلغوا الوادي، وادي نخلة، فوجدوا نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة، فاستمعوا; فلما سمعوه يتلو القرآن، قالوا: أنصتوا، ولم يكن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن; فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين.
واختلف أهل التأويل في مبلغ عدد النفر الذين قال الله (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) فقال بعضهم: كانوا سبعة نفر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبد الحميد، قال: ثنا النضر بن عربيّ، عن عكرمة، عن ابن عباس (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) ... الآية، قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رسلا إلى قومهم.
وقال آخرون: بل كانوا تسعة. نفر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن عاصم، عن زِرّ (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) قال: كانوا تسعة نفر فيهم زَوْبعة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو احمد، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن زِرّ بن حبيش، قال: "أنزل على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو ببطن نخلة، (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) قال: كانوا تسعة أحدهم زَوْبَعَة".
وقوله (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) يقول: فلما حضر هؤلاء النفر من الجنّ الذين صرفهم الله إلى رسوله نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
واختلف أهل العلم في صفة حضورهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال بعضهم: حضروا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، يتعرّفون الأمر الذي(22/135)
حدث من قبله ما حدث في السماء، ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لا يشعر بمكانهم، كما قد ذكرنا عن ابن عباس قبل.
وكما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) قال: ما شعر بهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى جاءوا، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه فيهم، وأخبر عنهم.
وقال آخرون: بل أمر نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يقرأ عليهم القرآن، وأنهم جمعوا له بعد أن تقدّم الله إليه بإنذارهم، وأمره بقراءة القرآن عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) قال: "ذكر لنا أنهم صرفُوا إليه من نِينَوَى، قال: فإن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ، فأيكم يتبعني"؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فقال رجل: يا رسول الله إنك لذو بدئه، (1) فاتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شعبا يقال له شعب الحجون. قال: وخطّ نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على عبد الله خطا ليثبته به، قال: فجعلت تهوي بي وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها، وسمعت لغطا شديدا، حتى خفت على نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ثم تلا القرآن; فلما رجع نبيّ الله قلت: يا نبيّ الله ما اللغط الذي سمعت؟ قال: اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم، فقُضي بينهم بالحقّ.
وذُكر لنا أن ابن مسعود لما قَدِم الكوفة رأى شيوخا شُمطا من الزُّط، فراعوه، قال: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء نفر من الأعاجم، قال: ما أريت للذين قرأ عليهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الإسلام من الجنّ شبها أدنى
__________
(1) في ابن كثير " لذو ندبة "، وكأن الرجل يتعجب من نشاط رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسراعه لما ندب أصحابه إليه فأحجموا. ولعله مأخوذ من قولهم " رجل ندب " أي خفيف سريع في الحاجة.(22/136)
من هؤلاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذهب وابن مسعود ليلة دعا الجنّ، فخطَّ النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على ابن مسعود خطا، ثم قال له: لا تخرج منه ثم ذهب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى الجنّ، فقرأ عليهم القرآن، ثم رجع إلى ابن مسعود فقال: وهل رأيت شيئا؟ قال: سمعت لغَطا شديدا، قال: إن الجنّ تدارأت في قتيل قُتل بينها، فقُضِي بينهم بالحقّ، وسألوه الزاد، فقال: وكل عظم لكم عرق، وكلّ روث لكم خُضْرة. قالوا: يا رسول الله تقذّرها الناس علينا، فنهى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يستنجي بأحدهما; فلما قدم ابن مسعود الكوفة رأى الزُّطّ، وهم قوم طوال سود، فأفزعوه، فقال: أظَهَرُوا؟ فقيل له: إن هؤلاء قوم من الزُّطّ، فقال ما أشبههم بالنفر الذين صُرِفوا إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر. عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن عمرو بن غَيلان الثقفيّ أنه قال لابن مسعود: " حُدثت أنك كنت مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليلة وفد الجنّ، قال: أجَل، قال: فكيف كان؟ فذكر الحديث كله. وذُكِر أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خطّ عليه خطا وقال: ولا تبرح منها، فذكر أن مثل العجاجة السوداء غشيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذُعِر ثلاث مرّات، حتى إذا كان قريبا من الصبح، أتاني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: أنِمْتَ؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول: واجلسوا، قال: ولو خرجتَ لم آمن أن يختطفك بعضهم، ثم قال: وهل رأيت شيئا؟ قال: نعم رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض، قال: أولئك جنّ نصيبين، سألوني المتاع، والمتاع الزاد، فمتعتهم بكلّ عظم حائل أو بعرة أو روثة، فقلت: يا رسول الله، وما يغني ذلك عنهم؟ قال: إِنَّهُمْ لَنْ يَجِدوُا عَظْما إلا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَه يَوْمَ أُكِل،(22/137)
وَلا رَوْثَةً إلا وَجَدُوا فِيها حَبَّها يَوْمَ أُكِلَتْ، فَلا يَسْتَنْقِيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمْ إذَا خَرَجَ مِنَ الخَلاءِ بعَظْمٍ وَلا بَعْرَةٍ وَلا رَوْثَةٍ".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: أخبرنا أبو زُرْعة وهب بن راشد، قال: قال يونس، قال ابن شهاب: أخبرني أبو عثمان بن شبة الخزاعي، وكان من أهل الشام "أن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لأصحابه وهو بمكة: مَنْ أَحَبَّ منْكُمْ أنْ يَحْضُرَ أمْرَ الجنّ اللَّيْلَةَ فَلْيَفْعَلْ". فلم يحضر منهم أحد غيري، قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة، خطّ لي برجله خطا، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فغشيته أسودة كبيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، حتى بقي منهم رهط، ففرغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مع الفجر، فانطلق متبرّزا، ثم أتاني فقال: وما فَعَلَ الرَّهْطُ؟ قلت: هم أولئك يا رسول الله، فأخذ عظما أو روثا أو جمجمة فأعطاهم إياه زادا، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث".
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي، وكان من أهل الشأم، أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذكر مثله سواء، إلا أنه قال: فأعطاهم روثا أو عظما زادا، ولم يذكر الجمجمة.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي، قال: أخبرني يونس، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، أن ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: "بِتُّ اللًّيْلَةَ أقْرأُ عَلى الجِنّ رُبُعا بالحَجُونِِ".
واختلفوا في الموضع الذي تلا عليهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيه القرآن، فقال عبد الله بن مسعود قرأ عليهم بالحَجون، وقد ذكرنا الرواية عنه(22/138)
بذلك.
وقال آخرون: قرأ عليهم بنخلة، وقد ذكرنا بعض من قال ذلك، ونذكر من لم نذكره.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا خلاد، عن زهير بن معاوية، عن جابر الجعفي، عن عكرمة، عن ابن عباس "أن النفر الذين أتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من جنّ نصيبين أتوه وهو بنخلة".
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) قال: لقيهم بنخلة ليلتئذ. وقوله (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) يقول تعالى ذكره: فلما حضروا القرآن ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقرأ، قال بعضهم لبعض: أنصتوا لنستمع القرآن.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن عاصم، عن زِرّ (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) قالوا: صَهْ.
قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن زِرّ بن حُبَيْش، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) قد علم القوم أنهم لن يعقلوا حتى ينصتوا.
وقوله (فَلَمَّا قُضِيَ) يقول: فلما فرغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من القراءة وتلاوة القرآن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي،(22/139)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
عن أبيه، عن ابن عباس، (فَلَمَّا قُضِيَ) يقول: فلما فرغ من الصلاة. (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) . وقوله (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) يقول: انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به.
وذُكر عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جعلهم رسلا إلى قومهم.
حدثنا بذلك أبو كُرَيب، قالا ثنا عبد الحميد الحِمَّانيّ، قال: ثنا النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس. وهذا القول خلاف القول الذي روي عنه أنه قال: لم يكن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن، لأنه محال أن يرسلهم إلى آخرين إلا بعد علمه بمكانهم، إلا أن يقال: لم يعلم بمكانهم في حال استماعهم للقرآن، ثم علم بعد قبل انصرافهم إلى قومهم، فأرسلهم رسلا حينئذ إلى قومهم، وليس ذلك في الخبر الذي روي.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هؤلاء الذين صُرفوا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الجن لقومهم لما انصرفوا إليهم من عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (يَا قَوْمَنَا مِنَ الْجِنِّ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ كِتَابٌ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) يقول: يصدق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على رُسله (1) .
وقوله (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) يقول: يرشد إلى الصواب، ويدّل على ما فيه لله رضا (وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: وإلى طريق لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام.
__________
(1)
في الأصل: رسوله: ولعله تحريف من النسخ.(22/140)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا سعيد عن قتادة أنه قرأ (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) فقال: ما أسرع ما عقل القوم، ذُكر لنا أنهم صُرِفوا إليه من نينوى.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ (يَا قَوْمَنَا مِنَ الْجِنِّ أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) قالوا: أجيبوا رسول الله محمدا إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله (وَآمِنُوا بِهِ) يقول: وصدّقوه فيما جاءكم به وقومه من أمر الله ونهيه، وغير ذلك مما دعاكم إلى التصديق به (يَغْفِرْ لَكُمْ) يقول: يتغمد لكم ربكم من ذنوبكم فيسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) يقول: وينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم من ذنوبكم، وأنبتم من كفركم إلى الإيمان بالله وبداعيه.
وقوله (وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر لقومهم: ومن لا يجب أيُّها القوم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم محمدا، وداعيه إلى ما بعثه بالدعاء إليه من توحيده، والعمل بطاعته (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ) يقول: فليس بمعجز ربه بهربه، إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه، وتركه تصديقه وإن ذهب في الأرض هاربا، لأنه حيث كان فهو في سلطانه وقبضته (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ) يقول: وليس لمن لم يحب داعي الله من دون ربه نُصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه ربه على كفره به وتكذيبه داعيه.(22/141)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
وقوله (أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول: هؤلاء الذين لم يجيبوا داعي الله فيصدّقوا به، وبما دعاهم إليه من توحيد الله، والعمل بطاعته في جور عن قصد السبيل، وأخذ على غير استقامة، (مُبِينٍ) : يقول: يبين لمن تأمله أنه ضلال، وأخذ على غير قصد.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) }
يقول تعالى ذكره: أولم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الله خلقه من بعد وفاتهم، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلائهم، القائلون لآبائهم وأمهاتهم (أفّ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلَت القرون من قبلي) فلم يبعثوا بأبصار قلوبهم، فيروا ويعلموا أن الله الذي خلق السموات السبع والأرض، فابتدعهنّ من غير شيء، ولم يعي بإنشائهنّ، فيعجز عن اختراعهنّ وإحداثهنّ (بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) فيخرجهم من بعد بلائهم في قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم.
واختلف أهل العربية في وجه دخول الباء في قوله (بِقَادِرٍ) فقال بعض نحويي البصرة: هذه الباء كالباء في قوله (كَفَى بِاللَّهِ) وهو مثل (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) وقال بعض نحويي الكوفة: دخلت هذه الباء للمَ; قال: والعرب تدخلها مع الجحود إذا كانت رافعة لما قبلها، وتدخلها إذا وقع عليها فعل يحتاج إلى اسمين مثل قولك: ما أظنك بقائم، وما أظنّ أنك بقائم، وما كنت بقائم، فإذا خلعت الباء نصبت الذي كانت تعمل فيه، بما تعمل فيه من الفعل، قال: ولو ألقيت الباء من قادر في هذا الموضع رفع، لأنه خبر لأن، قال: وأنشدني بعضهم:
فَمَا رَجَعَتْ بخائِبَةٍ رِكابٌ ... حَكِيمُ بنُ المُسيِّبِ مُنْتهَاها (1)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 303) قال: وقوله تعالى: " أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض بقادر ": دخلت الباء للم. والعرب تدخلها مع الجحود إذا كانت رافعة لما قبلها، أو يدخلونها إذا وقع عليها فعل محتاج إلى اسمين مثل قولك: ما أظنك بقائم، وما أظن بقائم، وما كنت بقائم، فإذا خلعت الباء، نصبت الذي كانت تعمل فيه بما تعمل فيه من الفعل. ولو ألقيت الباء من " قادر " في هذا الموضع رفع، لأنه خبر لأن، وأنشدني بعضهم: " فما رجعت بخائبة ... البيت ". فادخل الباء في فعل لو ألقيت منه، نصب بالفعل لا بالباء. يقاس على هذا ما أشبهه؛ وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ " يقدر " مكان " بقادر "، كما قرأ حمزة: " وما أنت بهادي العمي "، وقراءة العوام " بهاد العمي ". أهـ.(22/142)
فأدخل الباء في فعل لو ألقيت منه نصب بالفعل لا بالباء، يقاس على هذا ما أشبهه.
وقال بعض من أنكر قول البصريّ الذي ذكرنا قوله: هذه الباء دخلت للجحد، لأن المجحود في المعنى وإن كان قد حال بينهما بأنّ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) قال: فإنَّ اسم يَرَوْا وما بعدها في صلتها، ولا تدخل فيه الباء، ولكن معناه جحد، فدخلت للمعنى.
وحُكي عن البصريّ أنه كان يأبى إدخال إلا وأن النحويين من أهل الكوفة يجيزونه، ويقولون: ما ظننت أن زيدا إلا قائما، وما ظننت أن زيدا بعالم. وينشد:
وَلَسْتُ بِحالِفٍ لَوَلَدْتُ مِنْهُمْ ... عَلى عَمِّيَّةٍ إلا زِيادًا (1)
قال: فأدخل إلا بعد جواب اليمين، قال: فأما "كَفَى بِاللهِ"، فهذه لم تدخل إلا لمعنى صحيح، وهي للتعجب، كما تقول لظَرُفَ بزيد. قال: وأما (تَنْبُتُ بالدهن) فأجمعوا على أنها صلة. وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: دخلت الباء في قوله (بقادِرٍ) للجَحْد، لما ذكرنا لقائلي ذلك من العلل.
__________
(1) هذا بيت لم ينسبه المؤلف، ونقله عن بعض النحويين. وليس في معاني القرآن للفراء. وهو موضع خلاف بين البصريين والكوفيين. فالبصريون يأبون دخول (إلا) بعد جواب اليمين، والكوفيون يجيزونه ويستشهدون بالبيت على ذلك، كما قال المؤلف.(22/143)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (بِقَادِرٍ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار، عن أبي إسحاق والجَحْدريّ والأعرج (بقادِرٍ) وهي الصحيحة عندنا لإجماع قرّاء الأمصار عليها. وأما الآخرون الذين ذكرتهم فإنهم فيما ذُكر عنهم كانوا يقرءون ذلك "يقدر" بالياء. وقد ذُكر أنه في قراءة عبد الله بن مسعود (أنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ قَادِرٌ) بغير باء، ففي ذلك حجة لمن قرأه "بقادِرٍ" بالباء والألف. وقوله (بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول تعالى ذكره: بلى، يقدر الذي خلق السموات والأرض على إحياء الموتى: أي الذي خلق ذلك على كلّ شيء شاء خلقه، وأراد فعله، ذو قدرة لا يعجزه شيء أراده، ولا يُعييه شيء أراد فعله، فيعييه إنشاء الخلق بعد الفناء، لأن من عجز عن ذلك فضعيف، فلا ينبغي أن يكون إلها من كان عما أراد ضعيفا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره: ويوم يعرض هؤلاء المكذّبون بالبعث، وثواب الله عباده على أعمالهم الصالحة، وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة، على النار، نار جهنم، يقال لهم حينئذ: أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم، وقد كنتم تكذّبون به في الدنيا بالحقّ، توبيخا من الله لهم على تكذيبهم به، كان في الدنيا (قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا) يقول: فيجيب هؤلاء الكفرة من فورهم بذلك، بأن يقولوا بلى هو الحق والله قال: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) يقول: فقال لهم المقرّر بذلك: فذوقوا عذاب النار الآن بما كنتم تجحدونه في الدنيا، وتنكرونه، وتأبون الإقرار إذا دُعيتم إلى التصديق به.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ(22/144)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، مثبته على المضيّ لما قلَّده من عبْء الرسالة، وثقل أحمال النبوّة صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وآمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لَقُوا فيه من قومهم من المكاره، ونالهم فيه منهم من الأذى والشدائد (فَاصْبِرْ) يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذّبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم بالإنذار (كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) على القيام بأمر الله، والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره، ما نالهم فيه من شدّة. وقيل: إن أولي العزم منهم، كانوا الذين امتُحِنوا في ذات الله في الدنيا بِالمحَن، فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر الله، كنوح وإبراهيم وموسى ومن أشبههم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنى ثوابة بن مسعود، عن عطاء الخُراسانيّ، أنه قال (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) كنا نحدث أن إبراهيم كان منهم.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) قال: كلّ الرسل كانوا أولي عزم لم يتخذ الله رسولا إلا كان ذا عزم، فاصبر كما صبروا.(22/145)
حدثنا ابن سنان القزّاز، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جُبير، في قوله (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) قال: سماه الله من شدته العزم.
وقوله (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) يقول: ولا تستعجل عليهم بالعذاب، يقول: لا تعجل بمسألتك ربك ذلك لهم فإن ذلك نازل بهم لا محالة (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) يقول: كأنهم يوم يرون عذاب الله الذي يعدهم أنه منزله بهم، لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، لأنه ينسيهم شدّة ما ينزل بهم من عذابه، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا، ومبلغ ما فيها مكثوا من السنين والشهور، كما قال جل ثناؤه. (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) .
وقوله (بَلاغٌ) فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ذلك لبث بلاغ، بمعنى: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم، ثم حذفت ذلك لبث، وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها. والآخر: أن يكون معناه: هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية، إن فكَّروا واعتبروا فتذكروا.
وقوله (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) يقول تعالى ذكره: فهل يهلك الله بعذابه إذا أنزله إلا القوم الذين خالفوا أمره، وخرجوا عن طاعته وكفروا به. ومعنى الكلام: وما يهلك الله إلا القوم الفاسقين وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) تعلموا ما يهلك على الله إلا هالك ولى الإسلام ظهرَه أو منافق صدّق بلسانه وخالف بعمله. ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول: "أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ أُمَّتِي هَمَّ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ عَملها كُتِبَتْ لَهُ(22/146)
عَشْرُ أَمْثَالِهَا. وَأَيُّمَا عَبْدٍ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ كَانَ يَتْبَعُهَا، وَيَمْحُوهَا اللَّهُ وَلا يَهْلِكُ إلا هَالِكٌ".
آخر تفسير سورة الأحقاف(22/147)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
تفسير سورة محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره وصدّوا من أراد عبادتَه والإقرار بوحدانيته، وتصديق نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الذي أراد من الإسلام والإقرار والتصديق (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) يقول: جعل الله أعمالهم ضلالا على غير هدى وغير رشاد، لأنها عملت في سبيل الشيطان وهي على غير استقامة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول تعالى ذكره: والذين صدّقوا الله وعملوا بطاعته، واتبعوا أمره ونهيه (وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) يقول: وصدّقوا بالكتاب الذي أنزل الله على محمد (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) يقول: يقول: محا الله عنهم بفعلهم ذلك سيئ ما عملوا من الأعمال، فلم يؤاخذهم به، ولم يعاقبهم عليه (وأصلح بالهم) يقول: وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه، وفي الآخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جنانه.
وذُكر أنه عنى بقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) ... الآية أهل مكة، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ... الآية، أهل المدينة.(22/151)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: خبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس، في قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) قال: نزلت في أهل مكة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال: الأنصار.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال: أمرهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال: شأنهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال: أصلح حالهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال: حالهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) قال حالهم. والبال: كالمصدر مثل الشأن لا يعرف منه فعل، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر، فإذا جمعوه قالوا بالات.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) }(22/152)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعلنا بهذين الفريقين من إضلالنا أعمال الكافرين، وتكفيرنا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، جزاء منا لكلّ فريق منهم على فعله. أما الكافرون فأضللنا أعمالهم، وجعلناها على غير استقامة وهدى، بأنهم اتبعوا الشيطان فأطاعوه، وهو الباطل.
كما حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، وعباس بن محمد، قالا ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جُرَيج: أخبرني خالد أنه سمع مجاهدا يقول (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ) قال: الباطل: الشيطان. وأما المؤمنون فكفّرنا عنهم سيئاتهم، وأصلحنا لهم حالهم بأنهم اتبعوا الحقّ الذي جاءهم من ربهم، وهو محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وما جاءهم به من عند ربه من النور والبرهان (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) يقول عزّ وجلّ: كما بينت لكم أيها الناس فعلي بفريق الكفر والإيمان، كذلك نمثل للناس الأمثال، ونشبه لهم الأشباه، فنلحق بكل قوم من الأمثال أشكالا.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) }
يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله من أهل الحرب، فاضربوا رقابهم.
وقوله (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) يقول: حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم، فصاروا في أيديكم أسرى (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) يقول: فشدّوهم في الوثاق كيلا يقتلوكم، فيهربوا منكم.(22/153)
وقوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) يقول: فإذا أسرتموهم بعد الإثخان، فإما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم، وتخلوا لهم السبيل.
واختلف أهل العلم في قوله (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) فقال بعضهم: هو منسوخ نسخه قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وقوله (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد وابن عيسى الدامغانيّ، قالا ثنا ابن المبارك، عن ابن جُرَيج أنه كان يقول، في قوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) نسخها قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السديّ (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) قال: نسخها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) نسخها قوله (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله (وَإِمَّا فِدَاءً) كان المسلمون إذا لقوا المشركين قاتلوهم، فإذا أسروا منهم أسيرا، فليس لهم إلا أن يُفادوه، أو يمنوا عليه، ثم يرسلوه، فنسخ ذلك بعد قوله (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) : أي عظ بهم من سواهم من الناس لعلهم يذّكرون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم(22/154)
الجزري، قال: كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه في أسير أُسر، فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال أبو بكر: اقتلوه، لقتلُ رجل من المشركين، أحبّ إليّ من كذا وكذا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) ... إلى آخر الآية، قال: الفداء منسوخ، نسختها: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ) ... إلى (كُلَّ مَرْصَدٍ) قال: فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا حرمة بعد براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) هذا منسوخ، نسخه قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولاذمة بعد براءة.
وقال آخرون: هي محكمة وليست بمنسوخة، وقالوا: لا يحوز قتل الأسير، وإنما يجوز المن عليه والفداء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو عتاب سهل بن حماد، قال: ثنا خالد بن جعفر، عن الحسن، قال: أتى الحجاج بأسارى، فدفع إلى ابن عمر رجلا يقتله، فقال ابن عمر: ليس بهذا أُمرنا، قال الله عزّ وجلّ (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) قال: (1) البكاء بين يديه فقال الحسن: لو كان هذا وأصحابه لابتدروا إليهم.
حدثنا ابن حميد وابن عيسى الدامغانيّ، قالا ثنا ابن المبارك، عن ابن
__________
(1) لعله سقط من الأصل هنا كلمة أو نحوها، مثل اشتد أو علا، أو ارتفع أي ارتفع: بكاء الأسرى بين يدي الحجاج.(22/155)
جُرَيج، عن عطاء أنه كان يكره قتل المشرك صبرا، قال: ويتلو هذه الآية (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، قال: لا تقتل الأسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: كان عمر بن عبد العزيز يفديهم الرجل بالرجل، وكان الحسن يكره أن يفادى بالمال.
قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن رجل من أهل الشأم ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز، وهو من بني أسد، قال: ما رأيت عمر رحمه الله قتل أسيرا إلا واحدا من الترك كان جيء بأسارى من الترك، فأمر بهم أن يُسترقوا، فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير المومنين، لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم، فقال عمر: فدونك فاقتله، فقام إليه فقتله.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بيَّنا في غير موضع في كتابنا إنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ... الآية، بل ذلك كذلك، لأن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب، فيقتل بعضا، ويفادي ببعض، ويمنّ على بعض، مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْطٍ وقد أتي به أسيرا، وقتل بني قُرَيظة، وقد نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلما، وهو على فدائهم، والمنّ عليهم قادر، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ، وهو أسير في يده، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم، إلى أن قبضه(22/156)
إليه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دائما ذلك فيهم، وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى، فخصّ ذكرهما فيها، لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرّرا، فأعلم نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بما ذكر في هذه الآية من المنّ والفداء ما له فيهم مع القتل.
وقوله (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) يقول تعالى ذكره: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم، وافعلوا بأسراهم ما بيَّنت لكم، حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها، المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم، فيؤمنوا به وبرسوله، ويطيعوه في أمره ونهيه، فذلك وضع الحرب أوزارها، وقيل: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) والمعنى: حتى تلقي الحرب أوزار أهلها. وقيل: معنى ذلك: حتى يضع المحارب أوزاره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ووقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) قال: حتى يخرج عيسى ابن مريم، فيسلم كلّ يهودي ونصرانيّ وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب، ولا تقرض فأرة جِرابا، وتذهب العداوة من الأشياء كلها، ذلك ظهور الإسلام على الدين كله، وينعم الرجل المسلم حتى تقطر رجله دما إذا وضعها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) حتى لا يكون شرك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) قال: حتى لا يكون شرك.
ذكر من قال: عني بالحرب في هذا الموضع: المحاربون.(22/157)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور عن معمر، عن قتادة (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) قال الحرب: من كان يقاتلهم سماهم حربا.
وقوله (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون من قتل المشركين إذا لقيتموهم في حرب، وشدّهم وثاقا بعد قهرهم، وأسرهم، والمنّ والفداء (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) هو الحق الذي ألزمكم ربكم ولو يشاء ربكم، ويريد لانتصر من هؤلاء المشركين الذين بين هذا الحكم فيهم بعقوبة منه لهم عاجلة، وكفاكم ذلك كله، ولكنه تعالى ذكره كره الانتصار منهم، وعقوبتهم عاجلا إلا بأيديكم أيها المؤمنون (لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) يقول: ليختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين، ويبلوهم بكم، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم، ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحقّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ) إي والله بجنوده الكثيرة كلّ خلقه له جند، ولو سلط أضعف خلقه لكان جندا.
وقوله (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والكوفة (وَالَّذِينَ قَاتَلُوا) بمعنى: حاربوا المشركين، وجاهدوهم، بالألف; وكان الحسن البصري فيما ذُكر عنه يقرأه (قُتِّلُوا) بضم القاف وتشديد التاء، بمعنى: أنه قتلهم المشركون بعضهم بعد بعض، غير أنه لم يُسمّ الفاعلون. وذُكر عن الجحدريّ عاصم أنه كان يقرأه (وَالَّذِينَ قَتَلُوا) بفتح القاف وتخفيف التاء، بمعنى: والذين قتلوا المشركون بالله. وكان أبو عمرو يقرأه (قُتِلُوا) بضم القاف وتخفيف التاء بمعنى: والذين --قتلهم المشركون، ثم أسقط الفاعلين، فجعلهم لم يسمّ فاعل ذلك بهم.(22/158)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
وأولى القراءات بالصواب قراءة من قرأه (وَالَّذِينَ قَاتَلُوا) لاتفاق الحجة من القرّاء، وإن كان لجميعها وجوه مفهومة.
وإذ كان ذلك أولى القراءات عندنا بالصواب، فتأويل الكلام: والذين قاتلوا منكم أيها المؤمنون أعداء الله من الكفار في دين الله، وفي نصرة ما بعث به رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الهدى، فجاهدوهم في ذلك (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضلالا عليهم كما أضلّ أعمال الكافرين.
وذُكر أن هذه الآية عُنِي بها أهل أحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) ذُكر لنا أن هذه الآية أُنزلت يوم أُحد ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الشِّعْب، وقد فَشَت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذ: اُعْلُ هُبَلْ، فنادى المسلمون: الله أعلى وأجلّ، فنادى المشركون: يوم بيوم، إن الحرب سجال، إن لنا عُزَّى، ولا عُزَّى لكم، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "اللهُ مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكُمْ. إنَّ القَتْلَى مُخْتَلِفَةٌ، أمَّا قَتْلانا فأَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ، وأمَّا قَتْلاكم فَفِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) قال: الذين قُتلوا يوم أُحد.
القول في تأويل قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) }
يقول تعالى ذكره: سيوفق الله تعالى ذكره للعمل بما يرضى ويحبّ، هؤلاء(22/159)
الذين قاتلوا في سبيله، (وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) ويصلح أمرهم وحالهم في الدنيا والآخرة (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) يقول: ويُدخلهم الله جنته عرّفها، يقول: عرّفها وبيَّنها لهم، حتى إن الرجل ليأتي منزله منها إذا دخلها كما كان يأتي منزله في الدنيا، لا يشكل عليه ذلك.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: "إذا نجَّى الله المؤمنين من النار حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتصّ بعضهم من بعض مظالم كثيرة كانت بينهم في الدنيا، ثم يُؤذن لهم بالدخول في الجنة، قال: فما كان المؤمن بأدلَّ بمنزله في الدنيا منه بمنزله في الجنة حين يدخلها".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) قال: أي منازلهم فيها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) قال: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم لا يخطئون، كأنهم سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) قال: بلغنا عن غير واحد قال: يدخل أهل الجنة الجنة، ولهم أعرف بمنازلهم فيها من منازلهم في الدنيا التي يختلفون إليها في عمر الدنيا; قال: فتلك قول الله جلّ ثناؤه (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) .
وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن تنصروا الله ينصركم بنصركم رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أعدائه من أهل الكفر به وجهادكم إياهم معه لتكون كلمته العُليا ينصركم عليهم، ويظفركم بهم، فإنه ناصر دينه وأولياءه.(22/160)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) لأنه حقّ على الله أن يعطي من سأله، وينصر من نصره.
وقوله (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) يقول: ويقوّكم عليهم، ويجرّئكم، حتى لا تولوا عنهم، وإن كثر عددهم، وقلّ عددكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) }
يقول تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله، فجحدوا توحيده (فَتَعْسًا لَهُمْ) يقول: فخزيا لهم وشقاء وبلاء.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ) قال: شقاء لهم.
وقوله (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) يقول وجعل أعمالهم معمولة على غير هدى ولا استقامة، لأنها عملت في طاعة الشيطان، لا في طاعة الرحمن.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) قال: الضلالة التي أضلهم الله لم يهدهم كما هَدى الآخرين، فإن الضلالة التي أخبرك الله: يضلّ من يشاء، ويهدي من يشاء; قال: وهؤلاء ممن جعل عمله ضلالا وردّ قوله (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) على قوله (فَتَعْسًا لَهُمْ) وهو فعل ماض، والتعس اسم، لأن التعس وإن كان اسما ففي معنى الفعل لما فيه من معنى الدعاء، فهو بمعنى: أتعسهم الله، فلذلك صلح ردّ أضلّ عليه، لأن الدعاء يجري مجرى الأمر والنهي، وكذلك قوله (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا(22/161)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
الْوَثَاقَ) مردودة على أمر مضمر ناصب لضرب.
وقوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ) يقول يعالي ذكره: هذا الذي فعلنا بهم من الإتعاس وإضلال الأعمال من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وسخطوه، فكذّبوا به، وقالوا: هو سحر مبين.
وقوله (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) يقول: فأبطل أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وذلك عبادتهم الآلهة، لم ينفعهم الله بها في الدنيا ولا في الآخرة، بل أوبقهم بها، فأصلاهم سعيرا، وهذا حكم الله جلّ جلاله في جميع من كفر به من أجناس الأمم، كما قال قتادة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله (فَتَعْسًا لَهُمْ) قال: هي عامة للكفار.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) }
يقول تعالى ذكره: أفلم يَسِر هؤلاء المكذّبون محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم المنكرو ما أنزلنا عليه من الكتاب في الأرض سفرا، وإنما هذا توبيخ من الله لهم، لأنهم قد كانوا يسافرون إلى الشام، فيرون نقمة الله التي أحلَّها بأهل حجر ثمود، ويرون في سفرهم إلى اليمن ما أحلّ الله بسَبَأ، فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين به: أفلم يسِر هؤلاء المشركون سفرا في البلاد فينظروا كيف كان عاقبة تكذيب الذين من قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها الرّادّة نصائحها ألم نهلكها فندمِّر عليها منازلها ونخرِّبها، فيتعظوا بذلك، ويحذروا أن يفعل الله ذلك بهم في تكذيبهم إياه، فينيبوا إلى طاعة الله في تصديقك، ثم توعَّدهم جل ثناؤه، وأخبرهم إن هم أقاموا على تكذيبهم رسوله، أنه مُحِلّ(22/162)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
بهم من العذاب ما أحلّ بالذين كانوا من قبلهم من الأمم، فقال: (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) يقول: وللكافرين من قريش المكذبي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من العذاب العاجل، أمثال عاقبة تكذيب الأمم الذين كانوا من قبلهم رسلهم على تكذيبهم رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) قال: مثل ما دُمَرت به القرون الأولى وعيد من الله لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11) }(22/163)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) }
يقول تعالى ذكره: هذا الفعل الذي فعلنا بهذين الفريقين: فريق الإيمان، وفريق الكفر، من نُصرتنا فريق الإيمان بالله، وتثبيتنا أقدامهم، وتدميرنا على فريق الكفر (بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) يقول: من أجل أن الله وليّ من آمن به، وأطاع رسوله.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) قال: وليهم.
وقد ذُكر لنا أن ذلك في قراءة عبد الله (ذلك بأنَّ الله ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)(22/163)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
و"أن" التي في المائدة التي هي في مصاحفنا (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (إنَّمَا مَوْلاكُمْ اللَّهُ) في قراءته.
وقوله (وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) يقول: وبأن الكافرين بالله لا وليّ لهم، ولا ناصر.
وقوله (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول تعالى ذكره: إن الله له الألوهة التي لا تنبغي لغيره، يُدخل الذين آمنوا بالله وبرسوله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار، يفعل ذلك بهم تكرمة على إيمانهم به وبرسوله.
وقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ) يقول جل ثناؤه: والذين جحدوا توحيد الله، وكذّبوا رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يتمتعون في هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية الدارسة، ويأكلون فيها غير مفكِّرين في المعاد، ولا معتبرين بما وضع الله لخلقه من الحجج المؤدّية لهم إلى علم توحيد الله ومعرفة صدق رسله، فمثلهم في أكلهم ما يأكلون فيها من غير علم منهم بذلك، وغير معرفة، مثل الأنعام من البهائم المسخرة التي لا همة لها إلا في الاعتلاف دون غيره (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) يقول جلّ ثناؤه: والنار نار جهنم مسكن لهم، ومأوى، إليها يصيرون من بعد مماتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13) }
يقول تعالى ذكره: وكم يا محمد من قرية هي أشد قوة من قريتك، يقول أهلها أشدّ بأسا، وأكثر جمعا، وأعدّ عديدا من أهل قريتك، وهي مكة، وأخرج الخبر عن القرية، والمراد به أهلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(22/164)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ) قال: هي مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) قال: قريته مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن حبيش، عن عكرمة، عن ابن عباس " أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، لما خرج من مكة إلى الغار، أراه قال: التفت إلى مكة، فقال: أَنْتِ أحَبُّ بِلادِ الله إلى الله، وأنْتِ أحَبُّ بِلادِ الله إليَّ، فَلَوْ أنَّ المُشْركِينَ لَمْ يُخْرِجُوني لَمْ أخْرُجْ مِنْكِ، فَأعْتَى الأعْداءِ مَنْ عَتا على الله في حَرَمِهِ، أوْ قَتَلَ غيرَ قاتِلِهِ، أوْ قَتَلَ بذُحُول الجاهِلِيَّةِ"، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ) وقال جل ثناؤه: أخرجتك، فأخرج الخبر عن القرية، فلذلك أُنِّث، ثم قال: أهلكناهم، لأن المعنى في قوله أخرجتك، ما وصفت من أنه أريد به أهل القرية، فأخرج الخبر مرّة على اللفظ، ومرّة على المعنى.
وقوله (فَلا نَاصِرَ لَهُمْ) فيه وجهان من التأويل: أحدهما أن يكون معناه، وإن كان قد نصب الناصر بالتبرئة، فلم يكن لهم ناصر، وذلك أن العرب قد تضمر كان أحيانا في مثل هذا. والآخر أن يكون معناه: فلا ناصر لهم الآن من عذاب الله ينصرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) }
يقول تعالى ذكره: (أَفَمَنْ كَانَ) على برهان وحجة وبيان (مِنْ) أمر(22/165)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
(رَبِّهِ) والعلم بوحدانيته، فهو يعبده على بصيرة منه، بأن له رَبًّا يجازيه على طاعته إياه الجنة، وعلى إساءته ومعصيته إياه النار، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) يقول: كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله وسيئه، فأراه جميلا فهو على العمل به مقيم (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) يقول: واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم من معصية الله، وعبادة الأوثان من غير أن يكون عندهم بما يعملون من ذلك برهان وحجة. وقيل: إن الذي عني بقوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) نبينا عليه الصلاة والسلام، وإن الذي عُنِي بقوله: (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) هم المشركون.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) }
يقول تعالى ذكره: صفة الجنة التي وعدها المتقون، وهم الذين اتقوا في الدنيا عقابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) يقول تعالى ذكره في هذه الجنة التي: ذكرها أنهار من ماء غير متغير الريح، يقال منه: قد أسن ماء هذه البئر: إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت، فهو يأسَن أسَنًا، وكذلك يُقال للرجل إذا أصابته ريح منتنة: قد أَسِن فهو يأْسَن. وأما إذا أَجَنَ الماء وتغير، فإنه يقال له: أسِن فهو يأسَن، ويأسن أسونا، وماء أسن.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن(22/166)
ابن عباس، في قوله (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) يقول: غير متغير.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) قال: من ماء غير مُنْتن.
حدثني عيسى بن عمرو، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: ثنا مصعب بن سلام، عن سعد بن طريف، قال: سألت أبا إسحاق عن (مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) قال: سألت عنها الحارث، فحدثني أن الماء الذي غير آسن تسنيم، قال: بلغني أنه لا تمسه يد، وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل فى فيه. وقوله (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) يقول تعالى ذكره: وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع، ولكنه خلقه الله ابتداء في الأنهار، فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه.
وقوله (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) يقول: وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين يلتذّون بشربها.
كما حدثني عيسى، قال: ثنا إبراهيم بن محمد، قال: ثنا مصعب، عن سعد بن طريف، قال: سألت عنها الحارث، فقال: لم تدسه المجوس، ولم ينفخ فيه الشيطان، ولم تؤذها شمس، ولكنها فوحاء (1) قال: قلت لعكرمة: ما الفوحاء: قال: الصفراء.
وكما حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، في قوله (مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) قال: لم يحلب، وخُفِضت اللذة على النعت للخمر، ولو جاءت رفعا على النعت للأنهار جاز، أو نصبا على يتلذّذ بها لذة، كما يقال: هذا لك هبة. كان جائزا ; فأما القراءة فلا أستجيزها فيها إلا خفضا لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
__________
(1) في اللسان: الفوح: وجدانك الريح الطيبة. فاحت ريح المسك تفوح وتفيح، فوحا وفيحا. وفوحانا فيحانا: انتشرت رائحته.(22/167)
وقوله (وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) يقول: وفيها أنهار من عسل قد صُفِّي من القَذى، وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية، إنما أعلم تعالى ذكره عباده بوصفه ذلك العسل بأنه مصفى أنه خلق في الأنهار ابتداء سائلا جاريا سيل الماء واللبن المخلوقين فيها، فهو من أجل ذلك مصفًّى، قد صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا يصفو من الأقذاء إلا بعد التصفية، لأنه كان في شمع فصُفي منه.
وقوله (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) يقول تعالى ذكره: ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة من هذه الأنهار التي ذكرنا من جميع الثمرات التي تكون على الأشجار (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) يقول: وعفو من الله لهم عن ذنوبهم التي أذنبوها في الدنيا، ثم تابوا منها، وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبة عليها.
وقوله (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) يقول تعالى ذكره: أمَّن هو في هذه الجنة التي صفتها ما وصفنا، كمن هو خالد في النار. وابتُدئ الكلام بصفة الجنة، فقيل: مثل الجنة التي وعد المتقون، ولم يقل: أمَّن هو في الجنة. ثم قيل بعد انقضاء الخبر عن الجنة وصفتها (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) . وإنما قيل ذلك كذلك، استغناء بمعرفة السامع معنى الكلام، ولدلالة قوله (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) على معنى قوله (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) .
وقوله (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا) يقول تعالى ذكره: وسُقي هؤلاء الذين هم خلود في النار ماء قد انتهى حرّه فقطع ذلك الماء من شدّة حرّه أمعاءهم.
كما حدثني محمد بن خلف العَسْقلانيّ، قال: ثنا حَيْوة بن شُريح الحِمصِيّ، قال: ثنا بقية، عن صفوان بن عمرو، قال: ثني عبيد الله بن بشر، عن أبي أُمامة الباهلي، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقوله (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ) قال: يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فإذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رأْسِهِ، فإذَا شَرِبَ قَطَّعَ أمْعاءَهُ حتى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ. قال: يقول الله (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) يقول الله عزّ وجلّ(22/168)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
(يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) }
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء الكفار يا محمد (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وهو المنافِق، فيستمع ما تقول فلا يعيه ولا يفهمه، تهاونا منه بما تتلو عليه من كتاب ربك، تغافلا عما تقوله، وتدعو إليه من الإيمان، (حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) قالوا إعلاما منهم لمن حضر معهم مجلسك من أهل العلم بكتاب الله، وتلاوتك عليهم ما تلوت، وقيلك لهم ما قلت إنهم لن يُصْغوا أسماعهم لقولك وتلاوتك (مَاذَا قَالَ) لنا محمد (آنِفًا) ؟ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) هؤلاء المنافقون، دخل رجلان: رجل ممن عقل عن الله وانتفع بما سمع ورجل لم يعقل عن الله، فلم ينتفع بما سمع، كان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عامل، وسامع غافل، وسامع تارك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) قال: هم المنافقون. وكان يقال: الناس ثلاثة: سامع فعامل، وسامع فغافل، وسامع فتارك.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا شريك، عن عثمان أبي اليقظان، عن يحيى بن الجزّار، أو سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قوله (حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا) قال ابن عباس: أنا منهم، وقد سُئِلت فيمن سُئِل.(22/169)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) ... إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المنافقون، والذين أُوتُوا العلم: الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم هم القوم الذين ختم الله على قلوبهم، فهم لا يهتدون للحقّ الذي بعث الله به رسوله عليه الصلاة والسلام (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) يقول: ورفضوا أمر الله، واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم، فهم لا يرجعون مما هم عليه إلى حقيقة ولا برهان، وسوّى جلّ ثناؤه بين صفة هؤلاء المنافقين وبين المشركين، في أن جميعهم إنما يتبعون فيما هم عليه من فراقهم دين الله، الذي ابتعث به محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أهواءهم، فقال في هؤلاء المنافقين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) وقال في أهل الكفر به من أهل الشرك، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) }
يقول تعالى ذكره: وأما الذين وفَّقهم الله لاتباع الحقّ، وشرح صدورهم للإيمان به وبرسوله من الذين استمعوا إليك يا محمد، فإن ما تلوته عليهم، وسمعوه منك (زَادَهُمْ هُدًى) يقول: زادهم الله بذلك إيمانا إلى إيمانهم، وبيانا لحقيقة ما جئتهم به من عند الله إلى البيان الذي كان عندهم. وقد ذُكر أن الذي تلا عليهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من القرآن، فقال أهل النفاق منهم لأهل الإيمان، ماذا قال آنفا، وزاد الله أهل الهدى منهم هدى، كان بعض ما أنزل الله من القرآن ينسخ بعض ما قد كان الحكم مضى به قبل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني(22/170)
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) قال: لما أنزل الله القرآن آمنوا به، فكان هدى، فلما تبين الناسخ والمنسوخ زادهم هدى.
وقوله (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) يقول تعالى ذكره: وأعطى الله هؤلاء المهتدين تقواهم، وذلك استعماله إياهم تقواهم إياه.
وقوله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) يقول تعالى ذكره: فهل ينظر هؤلاء المكذّبون بآيات الله من أهل الكفر والنفاق إلا الساعة التي وعد الله خلقه بعثهم فيها من قبورهم أحياء، أن تجيئهم فجأة لا يشعرون بمجيئها. والمعنى: هل ينظرون إلا الساعة، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة. و (أَنْ) من قوله (إِلا أَنْ) في موضع نصب بالردّ على الساعة، وعلى فتح الألف من (أَنْ تَأْتِيَهُمُ) ونصب (تأتيهم) بها قراءة أهل الكوفة.
وقد حُدثت عن الفرّاء، قال: حدثني أبو جعفر الرُّؤاسيّ، قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء: ما هذه الفاء التي في قوله (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) قال: جواب الجزاء، قال: قلت: إنها إن تأتيهم، قال: فقال: معاذ الله، إنما هي "إنْ تَأْتِهِمْ "; قال الفرّاء: فظننت أنه أخذها عن أهل مكة، لأنه قرأ، قال الفرّاء: وهي أيضا في بعض مصاحف الكوفيين بسنة واحدة "تَأْتِهِمْ" ولم يقرأ بها أحد منهم.
وتأويل الكلام على قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف "إن" وجزم "تأتهم" فهل ينظرون إلا الساعة؟ فيجعل الخبر عن انتظار هؤلاء الكفار الساعة متناهيا عند قوله (إِلا السَّاعَةَ) ، ثم يُبْتدأ الكلام فيقال: إن تأتهم الساعة بغتة فقد جاء أشراطها، فتكون الفاء من قوله (فَقَدْ جَاءَ) بجواب الجزاء.
وقوله (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) يقول: فقد جاء هؤلاء الكافرين بالله الساعة وأدلتها ومقدماتها، وواحد الأشراط: شرط، كما قال جرير:(22/171)
تَرَى شَرَطَ المِعْزَى مُهورَ نِسائِهم ... وفي شُرَطِ المِعْزَى لهُنَّ مُهُورُ (1)
ويُروَى: "ترى قَزَم المِعْزَى"، يقال منه: أشرط فلان نفسه: إذا علمها بعلامة، كما قال أوس بن حجر:
فأَشْرَطَ فيها نَفْسَهُ وَهْوَ مُعْصِمٌ ... وألْقَى بأسْبابٍ لَهُ وَتَوَكَّلا (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) يعني: أشراط الساعة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) قد دنت الساعة ودنا من الله فراغ العباد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) قال: أشراطها: آياتها.
__________
(1) البيت لجرير بن الخطفي الشاعر الإسلامي (ديوانه 226) وفي روايته: " وفي قزم المعزي لهن مهور ". وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 223) قال عند قوله تعالى: " فقد جاء أشراطها ": أعلامها. وإنما سمي الشرط فيما نرى، أنهم أعلموا أنفسهم. وأشراط المال صغار الغنم وشراره. وقال جرير: " ترى شرط ... البيت ". وفي (اللسان: شرط) : والشرط (بالتحريك) : رذال الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في ذلك سواء. قال جرير: تساق من المعزى مهور نسائهم ... ومن شرط المعزى لهن مهور
وشرط الناس: خشارتهم+.
(2) البيت لأوس بن حجر (اللسان: شرط) قال: الأصمعي: أشراط الساعة علاماتها. قال: ومنه الاشتراط الذي يشترط الناس بعضهم على بعض، أي هي علامات يجعلونها بينهم. ولهذا سميت الشرط، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها. وحكى الخطابي عن بعض أهل اللغة أنه أنكر هذا التفسير وقال: أشراط الساعة: ما تنكره الناس من صغار أمورها، قبل أن تقوم الساعة. وشرط السلطان: نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده. وقول أوس بن حجر " فأشرط فيها ... البيت " أي جعل نفسه علمًا لهذا الأمر.(22/172)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
وقوله (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) يقول تعالى ذكره: فمن أيّ وجه لهؤلاء المكذّبين بآيات الله ذكرى ما قد ضيَّعوا وفرّطوا فيه من طاعة الله إذا جاءتهم الساعة، يقول: ليس ذلك بوقت ينفعهم التذكر والندم، لأنه وقت مجازاة لا وقت استعتاب ولا استعمال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) يقول: إذا جاءتهم الساعة أنى لهم أن يتذكروا ويعرفوا ويعقلوا؟.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) قال: أنى لهم أن يتذكروا أو يتوبوا إذا جاءتهم الساعة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) قال: الساعة، لا ينفعهم عند الساعة ذكراهم، والذكرى في موضع رفع بقوله (فَأَنَّى لَهُمْ) لأن تأويل الكلام: فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهة، ويجوز لك وللخلق عبادته، إلا الله الذي هو خالق الخلق، ومالك كل شيء، يدين له بالربوبية كل ما دونه (وَاسْتَغْفِرْ(22/173)
لِذَنْبِكَ) وسل ربك غفران سالف ذنوبك وحادثها، وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) يقول: فإن الله يعلم متصرفكم فيما تتصرّفون فيه في يقظتكم من الأعمال، ومثواكم إذا ثويتم في مضاجعكم للنوم ليلا لا يخفى عليه شيء من ذلك، وهو مجازيكم على جميع ذلك.
وقد حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا إبراهيم بن سليمان، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس، قال: "أكلت مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقلت: غفر الله لك يا رسول الله، فقال رجل من القوم: أستغفر لك يا رسول الله، قال: نَعَمْ وَلَكَ، ثم قرأ (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) .(22/174)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) }
يقول تعالى ذكره: ويقول الذين صدّقوا الله ورسوله: هلا نزلت سورة من الله تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار (فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) يعني: أنها محكمة بالبيان والفرائض. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله (فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْدَثَةٌ) .
وقوله (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) يقول: وذُكر فيها الأمر بقتال المشركين.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ(22/174)
سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) قال: كلّ سورة ذُكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشدّ القرآن على المنافقين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) قال كل سورة ذُكر فيها القتال فهي محكمة.
وقوله (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يقول: رأيت الذين في قلوبهم شك في دين الله وضعف (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) يا محمد، (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ، خوفا أن تغزيهم وتأمرهم بالجهاد مع المسلمين، فهم خوفا من ذلك وتجبنا عن لقاء العدوّ ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه الذي قد صرع. وإنما عنى بقوله (مِنَ الْمَوْتِ) من خوف الموت، وكان هذا فعل أهل النفاق.
كالذي حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) قال: هؤلاء المنافقون طبع الله على قلوبهم، فلا يفقهون ما يقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله (فَأَوْلَى لَهُمْ) يقول تعالى ذكره: فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض.
وقوله (فَأَوْلَى لَهُمْ) وعيد توعَّد الله به هؤلاء المنافقين.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَأَوْلَى لَهُمْ) قال: هذه وعيد، فأولى لهم، ثم انقطع الكلام فقال: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَأَوْلَى لَهُمْ) قال: وعيد كما تسمعون.
وقوله (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل هؤلاء المنافقين من قبل أن تنزل سورة محكمة، ويذكر فيها القتال، وأنهم إذا قيل لهم: إن الله مفترض عليكم الجهاد، قالوا: سمع وطاعة، فقال الله عزّ وجلّ(22/175)
لهم (فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ) وفرض القتال فيها عليهم، فشقّ ذلك عليهم، وكرهوه (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) قبل وجوب الفرض عليكم، فإذا عزم الأمر كرهتموه وشقّ عليكم.
وقوله (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) مرفوع بمضمر، وهو قولكم قبل نزول فرض القتال (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) .
ورُوي عن ابن عباس بإسناد غير مرتضى أنه قال: قال الله تعالى (فَأَوْلَى لَهُمْ) ثم قال للذين آمنوا منهم (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) فعلى هذا القول تمام الوعيد فأولى، ثم يستأنف بعد، فيقال لهم (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) فتكون الطاعة مرفوعة بقوله (لهم) .
وكان مجاهد يقول في ذلك كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) قال: أمر الله بذلك المنافقين.
وقوله (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ) يقول: فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بفرض ذلك كرهتموه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ) قال: إذا جد الأمر، هكذا قال محمد بن عمرو في حديثه، عن أبي عاصم، وقال الحارث في حديثه، عن الحسن يقول: جدّ الأمر.
وقوله (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) يقول تعالى ذكره: فلو(22/176)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
صدقوا الله ما وعدوه قبل نزول السورة بالقتال بقولهم: إذ قيل لهم: إن الله سيأمركم بالقتال طاعة، فَوَفَّوا له بذلك، لكان خيرا لهم في عاجل دنياهم، وآجل معادهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ) يقول: طواعيه الله ورسوله، وقول معروف عند حقائق الأمور خير لهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعمر، عن قتادة يقول: طاعة الله وقول بالمعروف عند حقائق الأمور خير لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف أنهم إذا نزلت سورة محكمة، وذُكر فيها القتال نظروا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نظر المغشيّ عليه (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) أيها القوم، يقول: فلعلكم إن توليتم عن تنزيل الله جلّ ثناؤه، وفارقتم أحكام كتابه، وأدبرتم عن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعما جاءكم به (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ) يقول: أن تعصوا الله في الأرض، فتكفروا به، وتسفكوا فيها الدماء (وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) وتعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرّق بعد ما قد جمعكم الله بالإسلام، وألَّف به بين قلوبكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) ... الآية. يقول: فهل عسيتم كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله، ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطَّعوا الأرحام، وعَصَوا الرحمن.(22/177)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) قال: فعلوا.
حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر وسليمان بن بلال، قالا ثنا معاوية بن أبي المزرّد المديني، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: "خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرغ مِنْهُمْ تَعَلَّقَتِ الرَّحِمُ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ فَقالَ مَهْ: فَقالَتْ: هَذَا مَقامُ العائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قالَ: أَفمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، وَأصِلَ مَنْ وَصَلَكِ؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ: فَذلكِ لَكِ".
قال سليمان في حديثه: قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) وقد تأوّله بعضهم: فهل عسيتم إن توليتم أمور الناس أن تفسدوا في الأرض بمعنى الولاية، وأجمعت القرّاء غير نافع على فتح السين من عَسَيتم، وكان نافع يكسرها عَسِيتم.
والصواب عندنا قراءة ذلك بفتح السين لإجماع الحجة من القرّاء عليها، وأنه لم يسمع في الكلام: عَسِيَ أخوك يقوم، بكسر السين وفتح الياء; ولو كان صوابا كسرها إذا اتصل بها مكنّى، جاءت بالكسر مع غير المكنّى، وفي إجماعهم على فتحها مع الاسم الظاهر، الدليل الواضح على أنها كذلك مع المكنّى، وإن التي تَلِي عسيتم مكسورة، وهي حرف حزاء، و "أن" التي مع تفسدوا في موضع نصب بعسيتم.
وقوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يفعلون هذا، يعني الذين يفسدون ويقطعون الأرحام الذين لعنهم الله، فأبعدهم من رحمته فأصمهم، يقول: فسلبهم فَهْمَ ما يسمعون بآذانهم من مواعظ الله في تنزيله (وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) يقول: وسلبهم عقولهم، فلا يتبيَّنون حُجج الله، ولا يتذكَّرون ما يرون من عبره وأدلته.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى(22/178)
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) }
يقول تعالى ذكره: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام، ويتفكَّرون في حُججه التي بيَّنها لهم في تنزيله فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) يقول: أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعِبَر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) إذا والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله، لو تدبره القوم فعقلوه، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا عند ذلك.
حدثنا إسماعيل بن حفص الأيلي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن مَعدان، قال: ما من آدميّ إلا وله أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه، وما وعد الله من الغيب، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد الله به غير ذلك طَمسَ عليهما، فذلك قوله (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا ثور بن يزيد، قال: ثنا خالد بن معدان، قال: ما من الناس أحد إلا وله أربع أعين، عينان في وجهه لمعيشته، وعينان في قلبه، وما من أحد إلا وله شيطان متبطن فقار ظهره، عاطف عنقه على عنقه، فاغر فاه إلى ثمرة قلبه، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ما وعد الله من الغيب، فعمل به، وهما غيب،(22/179)
فعمل بالغيب، وإذا أراد الله بعبد شرّا تركه، ثم قرأ (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) .
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو، عن ثور، عن خالد بن مَعدَان بنحوه، إلا أنه قال: ترك القلب على ما فيه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال: "تلا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوما (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله عزّ وجلّ يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به ".
وقوله (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) يقول الله عزّ وجلّ إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا بالله من بعد ما تبين لهم الحقّ وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجة، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله تعالى ذكره من بعد العلم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) هم أعداء الله أهل الكتاب، يعرفون بعث محمد نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه عندهم، ثم يكفرون به.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) إنهم يجدونه مكتوبا عندهم.
وقال آخرون: عنى بذلك أهل النفاق.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) ... إلى قوله (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) هم أهل النفاق.(22/180)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) ... إلى (إِسْرَارَهُمْ) هم أهل النفاق. وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا، أشبه منها بصفة أهل الكتاب، وذلك أن الله عزّ وجلّ أخبر أن ردّتهم كانت بقيلهم (لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ) ولو كانت من صفة أهل الكتاب، لكان في وصفهم بتكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الكفاية من الخبر عنهم بأنهم إنما ارتدّوا من أجل قيلهم ما قالوا.
وقوله (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) يقول تعالى ذكره: الشيطان زين لهم ارتدادهم على أدبارهم، من بعد ما تبين لهم الهدى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) يقول: زين لهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سَوَّلَ لَهُمْ) يقول: زين لهم.
وقوله (وَأَمْلَى لَهُمْ) يقول: ومدّ الله لهم في آجالهم مُلاوة من الدهر، ومعنى الكلام: الشيطان سوّل لهم، والله أملى لهم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة (وَأَمْلَى لَهُمْ) بفتح الألف منها بمعنى: وأملى الله لهم. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة والبصرة (وَأُمْلِيَ لَهُمْ) على وجه ما لم يسمّ فاعله. وقرأ مجاهد فيما ذُكر عنه (وَأُمْلِي) بضم الألف وإرسال الياء على وجه الخبر من الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم.
وأولى هذه القراءات بالصواب، التي عليها عامة قرّاء الحجاز والكوفة من(22/181)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
فتح الألف في ذلك، لأنها القراءة المستفيضة في قراءة الأمصار، وإن كان يجمعها مذهب تتقارب معانيها فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) }
يقول تعالى ذكره: أملى الله لهؤلاء المنافقين وتركهم، والشيطان سول لهم، فلم يوفقهم للهدى من أجل أنهم (قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ) من الأمر بقتال أهل الشرك به من المنافقين: (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ) الذي هو خلاف لأمر الله تبارك وتعالى، وأمر رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ) فهؤلاء المنافقون (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) يقول تعالى ذكره: والله يعلم إسرار هذين الحزبين المتظاهرين من أهل النفاق، على خلاف أمر الله وأمر رسوله، إذ يتسارّون فيما بينهم بالكفر بالله ومعصية الرسول، ولا يخفى عليه ذلك ولا غيره من الأمور كلها.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة (أَسْرَارَهُمْ) بفتح الألف من أسرارهم على وجه جماع سرّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (إِسْرَارَهُمْ) بكسر الألف على أنه مصدر من أسررت إسرارا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ(22/182)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) }
يقول تعالى ذكره: والله يعلم إسرار هؤلاء المنافقين، فكيف لا يعلم حالهم إذا توفتهم الملائكة، وهم يضربون وجوههم وأدبارهم، يقول: فحالهم أيضا لا يخفى عليه في ذلك الوقت ويعني بالأدبار: الأعجاز، وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى قبل.
وقوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ) يقول تعالى ذكره: تفعل الملائكة هذا الذي وصفت بهؤلاء المنافقين من أجل أنهم اتبعوا ما أسخط الله، فأغضبه عليهم من طاعة الشيطان (وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ) يقول: وكرهوا ما يرضيه عنهم من قتال الكفار به، بعد ما افترضه عليهم.
وقوله (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) يقول: فأبطل الله ثواب أعمالهم وأذهبه، لأنها عملت في غير رضاه ولا محبته، فبطلت، ولم تنفع عاملها.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) }(22/183)
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) }
يقول تعالى ذكره: أحسب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شكّ في دينهم، وضعف في يقينهم، فهم حيارى في معرفة الحقّ أن لن يُخرج الله ما في قلوبهم من الأضغان على المؤمنين، فيبديه لهم ويظهره، حتى يعرفوا نفاقهم، وحيرتهم في دينهم (وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ) يقول تعالى: ولو نشاء يا محمد لعرّفناك هؤلاء المنافقين حتى تعرفهم من قول القائل: سأريك ما أصنع، بمعنى سأعلمك.(22/183)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
وقوله: (فلعرفتهم بسيماهم) يقول: فلتعرفهم بعلامات النفاق الظاهرة منهم في فحوى كلامهم وظاهر أفعالهم ثم إن الله تعالى ذكره عرفه إياهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) ... إلى آخر الآية، قال: هم أهل النفاق، وقد عرّفه إياهم في براءة، فقال: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) ، وقال: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ... الآية، هم أهل النفاق (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فعرّفه الله إياهم في سوره براءة، فقال: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) ، وقال (قل لهم لن تَنْفِرُوا (1) معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) قال: هؤلاء المنافقون، قال: والذي أسروا من النفاق هو الكفر.
قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) قال: هؤلاء المنافقون، قال: وقد أراه الله إياهم، وأمر بهم أن يخرجوا من المسجد، قال: فأبوا إلا أن تمسكوا بلا إله إلا الله; فلما أبوا إلا أن تمسكوا بلا إله إلا إلله حُقِنت دماؤهم، ونكحوا ونوكحوا بها.
__________
(1) التلاوة " لن تخرجوا"(22/184)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
وقوله (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) يقول: ولتعرفنّ هؤلاء المنافقين في معنى قولهم نحوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) قال قولهم: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) لا يخفى عليه العامل منكم بطاعته، والمخالف ذلك، وهو مجازي جميعكم عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) }
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أيها المؤمنون بالقتل، وجهاد أعداء الله (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ) يقول: حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد في الله منكم، وأهل الصبر على قتال أعدائه، فيظهر ذلك لهم، ويعرف ذوو البصائر منكم في دينه من ذوي الشكّ والحيرة فيه وأهل الإيمان من أهل النفاق ونبلو أخباركم، فنعرف الصادق منكم من الكاذب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) ، وقوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) ونحو هذا قال: أخبر الله سبحانه المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر، وبشَّرهم فقال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ثم أخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه، وصفوته لتطيب أنفسهم،(22/185)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
فقال: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) فالبأساء: الفقر، والضّراء: السقم، وزُلزلوا بالفتن وأذى الناس إياهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) قال: نختبركم، البلوى: الاختبار. وقرأ (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) قال: لا يختبرون (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ... الآية.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار بالنون (نبلو) و (نعلم) ، ونبلو على وجه الخبر من الله جلّ جلاله عن نفسه، سوى عاصم فإنه قرأ جميع ذلك بالياء والنون هي القراءة عندنا لإجماع الحجة من القراء عليها، وإن كان للأخرى وجه صحيح.
وقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا توحيد الله، وصدوا الناس عن دينه الذي ابتعث به رسله (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) يقول: وخالفوا رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فحاربوه وآذَوه من بعد ما علموا أنه نبيّ مبعوث، ورسول مرسل، وعرفوا الطريق الواضح بمعرفته، وأنه لله رسول.
وقوله (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) لأن الله بالغ أمره، وناصر رسوله، ومُظهره على من عاداه وخالفه (وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) يقول: وسيذهب أعمالهم التي عملوها في الدنيا فلا ينفعهم بها في الدنيا ولا الآخرة، ويبطلها إلا مما يضرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) }(22/186)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
يقول تعالى ذكره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في أمرهما ونهيهما (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) يقول: ولا تبطلوا بمعصيتكم إياهما، وكفركم بربكم ثواب أعمالكم فإن الكفر بالله يحبط السالف من العمل الصالح.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) ... الآية، من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا عمله بعمل سيئ فليفعل، ولا قوة إلا بالله، فإن الخير ينسخ الشر، وإن الشر ينسخ الخير، وإن ملاك الأعمال خواتيمها.
وقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) يقول تعالى ذكره: إن الذين أنكروا توحيد الله، وصدوا من أراد الإيمان بالله وبرسوله عن ذلك، ففتنوهم عنه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من ذلك، ثم ماتوا وهم كفار: يقول: ثم ماتوا وهم على ذلك من كفرهم (فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) يقول: فلن يعفو الله عما صنع من ذلك، ولكنه يعاقبه عليه، ويفضحه به على رءوس الأشهاد.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) }
يقول تعالى ذكره: فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد المشركين وتجبُنوا عن قتالهم. كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;(22/187)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَلا تَهِنُوا) قال: لا تضعفوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَلا تَهِنُوا) لا تضعف أنت.
وقوله (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) يقول: لا تضعفوا عنهم وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة، وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) يقول: والله معكم بالنصر لكم عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في معنى قوله (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) فقال بعضهم: معناه: وأنتم أولى بالله منهم. وقال بعضهم: مثل الذي قلنا فيه.
ذكر من قال ذلك، وقال معنى قوله (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) أنتم أولى بالله منهم.
حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي يحدّث، عن قتادة، في قوله (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) قال: أي لا تكونوا أولى الطائفتين تصرع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) قال: لا تكونوا أولى الطائفتين صرعت لصاحبتها، ودعتها إلى الموادعة، وأنتم أولى بالله منهم والله معكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) قال: لا تكونوا أولى الطائفتين صرعت إلى صاحبتها (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) قال: يقول: وأنتم أولى بالله منهم ذكر من قال معنى قوله (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) : أنتم الغالبون الأعزّ منهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;(22/188)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد، قوله (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) قال: الغالبون مثل يوم أُحد، تكون عليهم الدائرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) قال: هذا منسوخ، قال: نسخه القتال والجهاد، يقول: لا تضعف أنت وتدعوهم أنت إلى السلم وأنت الأعلى، قال: وهذا حين كانت العهود والهدنة فيما بينه وبين المشركين قبل أن يكون القتال، يقول: لا تهن فتضعف، فيرى أنك تدعو. إلى السلم وأنت فوقه، وأعزّ منه (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) أنتم أعزّ منهم، ثم جاء القتال بعد فنسخ هذا أجمع، فأمره بجهادهم والغلظة عليهم. وقد قيل: عنى بقوله (وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) وأنتم الغالبون آخر الأمر، وإن غلبوكم في بعض الأوقات، وقهروكم في بعض الحروب.
وقوله (فَلا تَهِنُوا) جزم بالنهي، وفي قوله (وَتَدْعُوا) وجهان: أحدهما الجزم على العطف على تهنوا، فيكون معنى الكلام: فلا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم، والآخر النصب على الصرف.
وقوله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) يقول: ولن يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها، من قولهم: وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا فأخذت له مالا غصبا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله يقول (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) يقول: لن يظلمكم أجور أعمالكم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;(22/189)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) قال: لن ينقصكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) : أي لن يظلمكم أعمالكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) قال: لن يظلمكم، أعمالكم ذلك يتركم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) قال: لن يظلمكم أعمالكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) }
يقول تعالى ذكره: حاضا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه، والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به: قاتلوا أيها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو، إلا ما كان منها لله من عمل في سبيله، وطلب رضاه. فأما ما عدا ذلك فإنما هو لعب ولهو، يضمحلّ فيذهب ويندرس فيمرّ، أو إثم يبقى على صاحبه عاره وخزيه (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) يقول: وإن تعملوا في هذه الدنيا التي ما كان فيها مما هو لها، فلعب ولهو، فتؤمنوا به وتتقوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وهو الذي يبقى لكم منها، ولا يبطل بطول اللهو واللعب، ثم يؤتكم ربكم عليه أجوركم، فيعوّضكم منه ما هو خير لكم(22/190)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
منه يوم فقركم، وحاجتكم إلى أعمالكم (وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) يقول: ولا يسألكم ربكم أموالكم، ولكنه يكلفكم توحيده، وخلع ما سواه من الأنداد، وإفراد الألوهية والطاعة له (إن يسألكموها) : يقول جلّ ثناؤه: إن يسألكم ربكم أموالكم (فيحفكم) يقول: فيجهدكم بالمسألة، ويلحّ عليكم بطلبها منكم فيلحف، تبخلوا: يقول: تبخلوا بها وتمنعوها إياه، ضنا منكم بها، ولكنه علم ذلك منكم، ومن ضيق أنفسكم فلم يسألكموها.
وقوله (وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) يقول: ويخرج جلّ ثناؤه لو سألكم أموالكم بمسألته ذلك منكم أضغانكم قال: قد علم الله أن في مسألته المال خروج الأضغان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) قال: الإحفاء: أن تأخذ كل شيء بيديك (1) .
القول في تأويل قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِ لْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: (ها أنْتُمْ) أيها الناس (هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يقول: تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونُصرة دينه (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) بالنفقة فيه، وأدخلت "ها" في موضعين، لأن العرب إذا أرادت التقريب جعلت المكنّى بين "ها" وبين "ذا"، فقالت: ها أنت ذا قائما، لأن التقريب جواب الكلام، فربما أعادت "ها" مع "ذا"، وربما اجتزأت بالأولى، وقد حُذفت الثانية، ولا يقدّمون أنتم قبل "ها"، لأن ها
__________
(1) في (اللسان: حفا) : أحفى فلان فلانا: إذا برج به في الإلحاف عليه، أو سأله فأكثر عليه في الطلب.(22/191)
جواب فلا تقرب بها بعد الكلمة.
وقال بعض نحويي البصرة: جعل التنبيه في موضعين للتوكيد.
وقوله (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) يقول تعالى ذكره: ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله، فإنما يبخل عن بخل نفسه، لأن نفسه لو كانت جوادا لم تبخل بالنفقة في سبيل الله، ولكن كانت تجود بها (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) يقول تعالى ذكره: ولا حاجة لله أيها الناس إلى أموالكم ولا نفقاتكم، لأنه الغنيّ عن خلقه والخلق الفقراء إليه، وأنتم من خلقه، فأنتم الفقراء إليه، وإنما حضكم على النفقة في سبيله، ليُكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) قال: ليس بالله تعالى ذكره إليكم حاجة وأنتم أحوج إليه.
وقوله تعالى ذكره: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) يقول تعالى ذكره: وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم. به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فترتدّوا راجعين عنه (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) يقول: يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدّقون به، ويعملون بشرائعه (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) يقول: ثم لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يُؤمرون به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا(22/192)
يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) يقول: إن توليتم عن كتابي وطاعتي أستبدل قوما غيركم. قادر والله ربنا على ذلك على أن يهلكهم، ويأتي من بعدهم من هو خير منهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) قال: إن تولوا عن طاعة الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) (1) .
وذُكر أنه عنى بقوله (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) : العجم من عجم فارس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بزيع البغدادي أبو سعيد، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن مسلم بن خالد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: "لما نزلت (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) كان سلمان إلى جنب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين إن تولينا استبدلوا بنا، قال: فضرب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على منكب سلمان، فقال: من هذا وقومه، والذي نفسي بيده لَوْ أنَّ الدّينَ تَعَلَّقَ بالثُّرَيَّا لَنالَتْهُ رِجالٌ من أهْل فارِس".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مسلم بن خالد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة " أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تلا هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولَّينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا، فضرب على فخذ سلمان قال: هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتنَاولَهُ رِجالٌ مِنَ الفُرْسِ".
__________
(1) لم يأت بالتأويل هنا، اكتفاء بدلالة ما قبله عليه، لأن الرواية في الحديثين عن يونس بن عبد الأعلى.(22/193)
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذيّ، قال: ثنا عبد الله بن الوليد العَدَني، قال: ثنا مسلم بن خالد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: "نزلت هذه الآية وسلمان الفارسيّ إلي جنب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحكّ ركبته ركبته (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) قالوا: يا رسول الله ومن الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا، قال: فضرب فخذ سلمان ثم قال: هَذَا وَقَوْمُهُ".
وقال: مجاهد في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) من شاء.
وقال آخرون: هم أهل اليمن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عوف الطائيّ، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا صفوان بن عمرو، قال: ثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جُبير وشريح بن عبيد، في قوله (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) قال: أهل اليمن.
آخر تفسير سورة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.(22/194)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
تفسير سورة الفتح
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) }
يعني بقوله تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) يقول: إنا حكمنا لك يا محمد حكما لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر، لتشكر ربك، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم، وفتحه ما فتح لك، ولتسبحه وتستغفره، فيغفر لك بفعالك ذلك ربك، ما تقدّم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح، وما تأخَّر بعد فتحه لك ذلك ما شكرته واستغفرته.
وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عزّ وجلّ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) على صحته، إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة، وأن يستغفره، وأعلمه أنه توّاب على من فعل ذلك، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تعالى ذكره (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) إنما هو خبر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام عن جزائه له على شكره له، على النعمة التي أنعم بها عليه من إظهاره له ما فتح، لأن جزاء الله تعالى عباده على أعمالهم دون غيرها.(22/197)
وبعد ففي صحة الخبر عنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم " أنه كان يقوم حتى ترِم قدماه، فقيل له: يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفَلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ "، الدلالة الواضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول، وأن الله تبارك وتعالى، إنما وعد نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم غفران ذنوبه المتقدمة، فتح ما فتح عليه، وبعده على شكره له، على نعمه التي أنعمها عليه.
وكذلك كان يقول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إنّي لأسْتَغْفِرُ الله وأتُوبُ إلَيْهِ فِي كُلّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرةٍ" ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى نبيه أنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا، لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية، ولا لاستغفار نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ربه جلّ جلاله من ذنوبه بعدها معنى يعقل، إذ الاستغفار معناه: طلب العبد من ربه عزّ وجلّ غفران ذنوبه، فإذا لم يكن ذنوب تغفر لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى، لأنه من المحال أن يقال: اللهمّ اغفر لي ذنبا لم أعمله.
وقد تأوّل ذلك بعضهم بمعنى: ليغفر لك ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر إلى الوقت الذي قال: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) . وأما الفتح الذي وعد الله جلّ ثناؤه نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هذه العدة على شكره إياه عليه، فإنه فيما ذُكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبين مشركي قريش بالحديبية.
وذُكر أن هذه السورة أُنزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم منصرفه عن الحديبية بعد الهدنة التي جرَت بينه وبين قومه.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال: قضينا لك قضاء مبينا.(22/198)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) والفتح: القضاء.
ذكر الرواية عمن قال: هذه السورة نزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الوقت الذي ذكرت.
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عامر (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال: الحديبية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال: نحرُه بالحديبية وحَلْقُه.
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا أبو بحر، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا جامع بن شدّاد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول " لما أقبلنا من الحُديبية أعرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نائم، قال: فقلنا أيقظوه، فاستيقظ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ، فكذلك من نام أو نسي قال: وفقدنا ناقة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فوجدناها قد تعلَّق خطامها بشجرة، فأتيته بها، فركب فبينا نحن نسير، إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه اشتدّ عليه; فلما سري عنه أخبرنا أنه أُنزل عليه (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) ".
حدثنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي يحدّث عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: "لما رجعنا من غزوة الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، قال: فنحن بين الحزن والكآبة، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) ، أو كما شاء الله، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لَقَدْ أُنزلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إلي مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعا".(22/199)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، في قوله (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال: نزلت على النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مرجعه من الحديبية، وقد حيل بينهم وبين نسكهم، فنحر الهدي بالحديبية، وأصحابه مخالطو الكآبة والحزن، فقال: لَقَدْ أُنزلَتْ عَلي آيَةٌ أحَبُّ إليَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعا، فَقَرَأَ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) ... إلى قوله (عَزِيزًا) فقال أصحابه هنيئا لك يا رسول الله قد بين الله لنا ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا، فأنزل الله هذه الآية بعدها (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) ... إلى قوله (وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن أنس، قال: أُنزلت هذه الآية، فذكر نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بنحوه، غير أنه قال في حديثه: " فَقال رجل من القوم: هنيئا لك مريئا يا رسول الله، وقال أيضا: فبين الله ماذا يفعل بنبيه عليه الصلاة والسلام، وماذا يفعل بهم".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: "ونزلت على النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) مرجعه من الحديبية، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لَقَدْ نزلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إليَّ مِمَّا عَلى الأرْضِ، ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا يا نبيّ الله، قد بين الله تعالى ذكره لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) ... إلى قوله (فَوْزًا عَظِيمًا) ".
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن عكرمة، قال: لما نزلت هذه الآية (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(22/200)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) قالوا: هنيئا مريئا لك يا رسول الله، فماذا لنا؟ فنزلت (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) .
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدّث عن أنس في هذه الآية (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال: الحديبية.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: ما كنا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية.
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا يعلى بن عبيد، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، قال: تكلم سهل بن حنيف يوم صفِّين، فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم، لقد رأيتنا يوم الحديبية، يعني الصلح الذي كان بين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبين المشركين، ولو نرى قتالا لقاتلنا، فجاء عمر إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بَلى، قال: ففيم نعطى الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابْنَ الخَطَّابِ، إنّي رَسُولُ الله، وَلَنْ يُضَيَّعَنِي أَبَدًا"، قال: فرجع وهو متغيظ، فلم يصبر حتى أتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر ألسنا على حقّ وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولمَّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله، لَن يضيعه الله أبدأ، قال: فنزلت سورة الفتح، فأرسل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى عمر، فأقرأه إياها، فقال: يا رسول الله، أوفتح هو؟ قال: نَعَمْ ".
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه،(22/201)
عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: تعدّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خمس عشرة مِئة، والحديبية: بئر.
حدثني موسى بن سهل الرملي، ثنا محمد بن عيسى، قال: ثنا مُجَمع بن يعقوب الأنصاري، قال: سمعت أبي يحدّث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد، عن عمه مجمِّع بن جارية الأنصاري، وكان أحد القرّاء الذين قرءوا القرآن، قال: "شهدنا الحديبية مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس يهزّون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس، قالوا: أوحي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) فقال رجل: أوَفتح هو يا رسول الله؟ قال: نَعَمْ، والَذِّي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ، قال: فَقُسِّمَت خيبر على أهل الحديبية، لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، وكان الجيش ألفا وخمسمائة، فيهم ثلاث مئة فارس، فقسمها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على ثمانية عشر سهما، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبيّ، قال: "نزلت (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) بالحديبية، وأصاب في تلك الغزوة ما لم يصبه في غزوة، أصاب أن بُويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وظهرت الروم على فارس، وبلغ الهَدْيُ مَحِله، وأطعموا نخل خبير، وفرح المؤمنون بتصديق النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وبظهور الروم على فارس".
وقوله تعالى (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإظهاره إياك على عدوّك، ورفعه ذكرك في الدنيا، وغفرانه ذنوبك في الآخرة (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) يقول: ويرشدك(22/202)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
طريقا من الدين لا اعوجاج فيه، يستقيم بك إلى رضا ربك (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) يقول: وينصرك على سائر أعدائك، ومن ناوأك نصرا، لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، للبأس الذي يؤيدك الله به، وبالظفر الذي يمدّك به.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) }
يعني جلّ ذكره بقوله (هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) الله أنزل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله إلى الإيمان، والحقّ الذي بعثك الله به يا محمد. وقد مضى ذكر اختلاف أهل التأويل في معنى السكينة قبل، والصحيح من القول في ذلك بالشواهد المغنية، عن إعادتها في هذا الموضع.
(لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) يقول: ليزدادوا بتصديقهم بما جدّد الله من الفرائض التي ألزمهموها، التي لم تكن لهم لازمة (إيمانا مع إيمانهم) يقول: ليزدادوا إلى إيمانهم بالفرائض التي كانت لهم لازمة قبل ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) قال: السكينة: الرحمة (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) قال: إن الله جلّ ثناؤه بعث نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدّقوا بها زادهم الصلاة، فلما صدّقوا بها زادهم الصيام، فلما صدّقوا به زادهم الزكاة، فلما صدّقوا بها زادهم الحجّ، ثم أكمل لهم دينهم، فقال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) قال ابن عباس: فأوثق إيمان أهل الأرض وأهل(22/203)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)
السموات وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.
وقوله (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول تعالى ذكره: ولله جنود السموات والأرض أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) يقول تعالى ذكره: ولم يزل الله ذا علم بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملوه، حكيما في تدبيره.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) }
يقول تعالى ذكره: إنا فتحنا لك فتحا مبينا، لتشكر ربك، وتحمده على ذلك، فيغفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، وليحمد ربهم المؤمنون بالله، ويشكروه على إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من الفتح الذي فتحه، وقضاه بينهم وبين أعدائهم من المشركين، بإظهاره إياهم عليهم، فيدخلهم بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها إلى غير نهاية وليكفر عنهم سيئ أعمالهم بالحسنات التي يعملونها شكرا منهم لربهم على ما قضى لهم، وأنعم عليهم به (وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا) يقول تعالى ذكره: وكان ما وعدهم الله به من هذه العدة، وذلك إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وتكفيره سيئاتهم بحسنات أعمالهم التي يعملونها عند الله لهم (فَوْزًا عَظِيمًا) يقول: ظفرا منهم بما كانوا تأمَّلوه ويسعون له، ونجاة مما كانوا يحذرونه من عذاب الله عظيما. قد تقدم ذكر الرواية أن هذه الآية نزلت لما قال المؤمنون لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أو تلا عليهم قول الله عزّ وجلّ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) هذا لك يا رسول الله، فماذا لنا؟ تبيينا من الله لهم ما هو فاعل بهم.
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن(22/204)
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
ابن عباس، في قوله (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) ... إلى قوله (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) فأعلم الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام.
قوله (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) على اللام من قوله (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) بتأويل تكرير الكلام (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) ، إنا فتحنا لك ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار، ولذلك لم تدخل الواو التي تدخل في الكلام للعطف، فلم يقل: وليدخل المؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله، وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار، وليعذّب المنافقين والمنافقات، بفتح الله لك يا محمد، ما فتح لك من نصرك على مشركي قريش، فيكبتوا لذلك ويحزنوا، ويخيب رجاؤهم الذي كانوا يرجون من رؤيتهم في أهل الإيمان بك من الضعف والوهن والتولي عنك في عاجل الدنيا، وصلي النار والخلود فيها في آجل الآخرة (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ) يقول: وليعذب كذلك أيضا المشركين والمشركات (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ) أنه لن ينصرك، وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به، وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع، يقول تعالى ذكره: على المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء، يعني دائرة العذاب تدور عليهم به.(22/205)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة (دَائِرَةُ السَّوْءِ) بفتح السين. وقرأ بعض قرّاء البصرة (دائِرَةُ السُّوءِ) بضم السين. وكان الفرّاء يقول: الفتح أفشى في السين; قال: وقلما تقول العرب دائرة السُّوء بضم السين، والفتح في السين أعجب إليّ من الضم، لأن العرب تقول: هو رجل سَوْء، بفتح السين; ولا تقول: هو رجل سُوء.
وقوله (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) يقول: ونالهم الله بغضب منه، ولعنهم: يقول: وأبعدهم فأقصاهم من رحمته (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ) يقول: وأعدّ لهم جهنم يصلونها يوم القيامة (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) يقول: وساءت جهنم منزلا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات.
وقوله (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول جلّ ثناؤه: ولله جنود السماوات والأرض أنصارا على أعدائه، إن أمرهم بإهلاكهم أهلكوهم، وسارعوا إلى ذلك بالطاعة منهم له (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) يقول تعالى ذكره: ولم يزل الله ذا عزّة، لا يغلبه غالب، ولا يمتنع عليه مما أراده به ممتنع، لعظم سلطانه وقدرته، حكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (9) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ) يا محمد (شَاهِدًا) على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه، مما أرسلتك به إليهم من الرسالة، ومبشرا لهم بالجنة إن أجابوك إلى ما دعوتهم إليه من الدين القيم، ونذيرا لهم عذاب الله إن هم تولَّوْا عما جئتهم به من عند ربك.
ثم اختلفت القرّاء في قراءة قوله (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) فقرأ جميع ذلك عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر المدني وأبي(22/206)
عمرو بن العلاء بالتاء (لِتُؤْمِنُوا - وَتُعَزِّرُوهُ - وَتُوَقِّرُوهُ - وَتُسَبِّحُوهُ) بمعنى: لتؤمنوا بالله ورسوله أنتم أيها الناس وقرأ ذلك أبو جعفر وأبو عمرو كله بالياء (لِيُؤْمِنُوا - وَيُعَزِّرُوهُ - وَيُوَقِّرُوهُ - وَيُسَبِّحُوهُ) بمعنى: إنا أرسلناك شاهدا إلى الخلق ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزّروه.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) يقول: شاهدا على أمته على أنه قد بلغهم ومبشرا بالجنة لمن أطاع الله، ونذيرا من النار.
وقوله (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: تجلوه، وتعظموه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَتُعَزِّرُوهُ) يعني: الإجلال (وَتُوَقِّرُوهُ) يعني: التعظيم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) كل هذا تعظيم وإجلال.
وقال آخرون: معنى قوله (وَتُعَزِّرُوهُ) : وينصروه، ومعنى (وَتُوَقِّرُوهُ) ويفخموه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَتُعَزِّرُوهُ) :(22/207)
ينصروه (وَتُوَقِّرُوهُ)) أمر الله بتسويده وتفخيمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَتُعَزِّرُوهُ) قال: ينصروه، ويوقروه: أي ليعظموه.
حدثني أبو هريرة الضُّبَعيّ، قال: ثنا حرميّ، عن شعبة، عن أبي بشر، جعفر بن أبي وحشية، عن عكرِمة (وَتُعَزِّرُوهُ) قال: يقاتلون معه بالسيف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثني هشيم، عن أبي بشر، عن عكرِمة، مثله.
حدثني أحمد بن الوليد، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن سعيد، عن أبي بشر، عن عكرمة، بنحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى ومحمد بن جعفر، قالا ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن عكرِمة، مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ويعظموه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) قال: الطاعة لله.
وهذه الأقوال متقاربات المعنى، وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها. ومعنى التعزير في هذا الموضع: التقوية بالنُّصرة والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال.
وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
فأما التوقير: فهو التعظيم والإجلال والتفخيم.
وقوله (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) يقول: وتصلوا له يعني لله بالغدوات(22/208)
والعشيات.
والهاء في قوله (وَتُسَبِّحُوهُ) من ذكر الله وحده دون الرسول. وقد ذُكر أن ذلك في بعض القراءات: (وَيُسَبِحُوا الله بُكْرَةً وَأَصِيلا) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) في بعض القراءة (ويسبحوا الله بكرة وأصيلا) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة في بعض الحروف (وَيُسَبِحُوا الله بُكْرَةً وَأَصِيلا) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) يقول: يسبحون الله رجع إلى نفسه.(22/209)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ) بالحديبية من أصحابك على أن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ، ولا يولُّوهم الأدبار (إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) يقول: إنما يبايعون ببيعتهم إياك الله، لأن الله ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح،(22/209)
عن مجاهد قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ) قال: يوم الحديبية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) وهم الذين بايعوا يوم الحديبية.
وفي قوله (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وجهان من التأويل: أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ; والآخر: قوّة الله فوق قوّتهم في نصرة رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، لأنهم إنما بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على نُصرته على العدو.
وقوله (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) يقول تعالى ذكره: فمن نكث بيعته إياك يا محمد، ونقضها فلم ينصرك على أعدائك، وخالف ما وعد ربه (فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) يقول: فإنما ينقض بيعته، لأنه بفعله ذلك يخرج ممن وعده الله الحنة بوفائه بالبيعة، فلم يضرّ بنكثه غير نفسه، ولم ينكث إلا عليها، فأما رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فإن الله تبارك وتعالى ناصره على أعدائه، نكث الناكث منهم، أو وفى ببيعته.
وقوله (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ) ... الآية، يقول تعالى ذكره: ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدوّ في سبيل الله ونُصرة نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أعدائه (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) يقول: فسيعطيه الله ثوابا عظيما، وذلك أن يُدخله الجنة جزاء له على وفائه بما عاهد عليه الله، ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الأيمان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) وهي الجنة.(22/210)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
القول في تأويل قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) }
يقول تعالى ذكره لنييه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: سيقول لك يا محمد الذين خلفهم الله في أهليهم عن صحبتك، والخروج معك في سفرك الذي سافرت، ومسيرك الذي سرت إلى مكة معتمرا، زائرا بيت الله الحرام إذا انصرفت إليهم، فعاتبتهم على التخلف عنك، شغلتنا عن الخروج معك معالجة أموالنا، وإصلاح معايشنا وأهلونا، فاستغفر لنا ربنا لتخلُّفنا عنك، قال الله جل ثناؤه مكذبهم في قيلهم ذلك: يقول هؤلاء الأعراب المخلَّفون عنك بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وذلك مسألتهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الاستغفار لهم، يقول: يسألونه بغير توبة منهم ولا ندم على ما سلف منهم من معصية الله في تخلفهم عن صحبة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمسير معه (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) يقول تعالى ذكره لنبيه: قل لهؤلاء الأعراب الذين يسألونك أن تستغفر لهم لتخلفهم عنك: إن أنا استغفرت لكم أيها القوم، ثم أراد الله هلاككم أو هلاك أموالكم وأهليكم، أو أراد بكم نفعا بتثميره أموالكم وإصلاحه لكم أهليكم، فمن ذا الذي يقدر على دفع ما أراد الله بكم من خير أو شرّ، والله لا يعازّه أحد، ولا يغالبه غالب.
وقوله (بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يظن هؤلاء المنافقون من الأعراب أن الله لا يعلم ما هم عليها منطوون من النفاق، بل لم يزل الله بما يعملون من خير وشرّ خبيرا، لا تخفى عليه شيء من أعمال خلقه، سرّها وعلانيتها، وهو محصيها عليهم حتى يجازيهم بها، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما ذُكر عنه حين أراد المسير إلى مكة عام الحُديبية معتمرا(22/211)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
استنفر العرب ومن حول مدينته من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه حذرا من قومه قريش أن يعرضوا له الحرب، أو يصدّوه عن البيت، وأحرم هو صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالعمرة، وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وتخلَّفوا خلافه فهم الذين عَنَى الله تبارك وتعالى بقوله (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) ... الآية.
وكالذي قلنا في ذلك قال أهل العلم بسير رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ومغازيه، منهم ابن إسحاق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق بذلك. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) قال: أعراب المدينة: جهينة ومزينة، استتبعهم لخروجه إلى مكة، قالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه، فقتلوا أصحابه فنقاتلهم! فاعتلوا بالشغل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا) فقرأته قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (ضَرًّا) بفتح الضاد، بمعنى: الضّر الذي هو خلاف النفع. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين (ضُرّا) بضم الضاد، بمعنى البؤس والسَّقم.
وأعجب القراءتين إليّ الفتح في الضاد في هذا الموضع بقوله (أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) ، فمعلوم أن خلاف النفع الضرّ، وإن كانت الأخرى صحيحا معناها.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) }(22/212)
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الأعراب المعتذرين إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عند منصرَفه من سفره إليهم بقولهم (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) ما تخلفتم خلاف رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين شخص عنكم، وقعدتم عن صحبته من أجل شغلكم بأموالكم وأهليكم، بل تخلفتم بعده في منازلكم، ظنا منكم أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ومن معه من أصحابه سيهلكون، فلا يرجعون إليكم أبدا باستئصال العدوّ إياهم وزيِّن ذلك في قلوبكم، وحسَّن الشيطان ذلك في قلوبكم، وصححه عندكم حتى حسُن عندكم التخلف عنه، فقعدتم عن صحبته (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) يقول: وظننتم أن الله لن ينصر محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه المؤمنين على أعدائهم، وأن العدوّ سيقهرونهم ويغلبونهم فيقتلونهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ) ... إلى قوله (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) قال: ظنوا بنبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك، وأنهم سيهلكون، فذلك الذي خلفهم عن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) يقول: وكنتم قوما هَلْكى لا يصلحون لشيء من خير. وقيل: إن البور في لغة أذرعات: الفاسد; فأما عند العرب فإنه لا شيء. ومنه قول أبي الدرداء: فأصبح ما جمعوا بُوْرا أي ذاهبا قد صار باطلا لا شيء منه; ومنه قول حسان بن ثابت:
لا يَنْفَعُ الطُّولُ مِن نُوك القُلوب وقدْ ... يَهْدِي الإلَهُ سَبِيلَ المَعْشَر البُورِ (1)
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت يهجو قوما بأن طول أجسامهم لا خير فيه ما داموا ذوى نوك أي حمق. والبور: الهلكى. قال في (اللسان: بور) ورجل بور وكذلك الاثنان والجمع والمؤنث. وفي التنزيل: " وكنتم قومًا بورا " قال: وقد يكون بور هنا جمع بائر، مثل حول وحائل. وحكى الأخفش عن بعضهم أنه لغة وليس بجمع لبائر، كما يقال: أنت بشر، وأنتم بشر. قال: وقال الفراء في قوله " وكنتم قوما بورا ": البور: مصدر يكون واحد وجمعا. وفي معاني القرآن (الورقة 305) عن ابن عباس قال: البور في لغة أزد عمان: الفاسد، " وكنتم قوما بورا ": قوما فاسدين. والبور في كلام العرب: " لا شيء ". ويقال أصبحت أعمالهم بورا، ومساكنهم قبورا.(22/213)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) قال: فاسدين. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) قال: البور الذي ليس فيه من الخير شيء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) قال: هالكين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين من الأعراب، ومن لم يؤمن أيها الأعراب بالله ورسوله منكم ومن غيركم، فيصدّقه على ما أخبر به، ويقرّ بما جاء به من الحقّ من عند ربه، فإنا أعددنا لهم جميعا سعيرا من النار تستعر عليهم في جهنم إذا وردوها يوم القيامة; يقال من ذلك: سعرت النار: إذا أوقدتها، فأنا أسعرها سعرا; ويقال: سعرتها أيضا إذا حرّكتها. وإنما قيل للمِسْعر مِسْعر، لأنه يحرّك به النار، ومنه قولهم: إنه لمِسْعر حرب: يراد به موقدها ومهيجها.
وقوله (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول تعالى ذكره: ولله سلطان السموات والأرض، فلا أحد يقدر أيها المنافقون على دفعه عما أراد بكم من تعذيب على نفاقكم إن أصررتم عليه أو منعه من عفوه عنكم إن عفا، إن أنتم(22/214)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
تبتم من نفاقكم وكفركم، وهذا من الله جلّ ثناؤه حثّ لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على التوبة والمراجعة إلى أمر الله في طاعة رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، يقول لهم: بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فإن الله يغفر للتائبين (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) يقول: ولم يزل الله ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ومعاصيهم من عباده، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا (15) }
يقول تعالى ذكره لنييه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: سيقول يا محمد المخلفون في أهليهم عن صحبتك إذا سرت معتمرا تريد بيت الله الحرام، إذا انطلقت أنت ومن صحبك في سفرك ذلك إلى ما أفاء الله عليك وعليهم من الغنيمة (لِتَأْخُذُوهَا) وذلك ما كان الله وعد أهل الحديبية من غنائم خيبر (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) إلى خيبر، فنشهد معكم قتال أهلها (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) يقول: يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية، وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم، ووعدهم ذلك عوضا من غنائم أهل مكة إذا انصرفوا عنهم على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: رجع، يعني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن مكة،(22/215)
فوعده الله مغانم كثيرة، فعجلت له خيبر، فقال المخلفون (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) وهي المغانم ليأخذوها، التي قال الله جلّ ثناؤه (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا) وعرض عليهم قتال قوم أولي بأس شديد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن رجل من أصحابه، عن مقسم قال: لما وعدهم الله أن يفتح عليهم خيبر، وكان الله قد وعدها من شهد الحديبية لم يعط أحدا غيرهم منها شيئا، فلما علم المنافقون أنها الغنيمة قالوا (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) يقول: ما وعدهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ) .... الآية، وهم الذين تخلفوا عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الحديبية. ذُكر لنا أن المشركين لما صدّوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الحديبية عن المسجد الحرام والهدي، قال المقداد: يا نبيّ الله، إنا والله لا نقول كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ) ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون; فلما سمع ذلك أصحاب نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تبايعوا على ما قال; فلما رأى ذلك نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم صالح قريشا، ورجع من عامه ذلك".
وقال آخرون: بل عنى بقوله (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) إرادتهم الخروج مع نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في غزوه، وقد قال الله تبارك وتعالى (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) ... الآية، قال الله عزّ وجلّ حين رجع من غزوه، (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) .... الآية يريدون أن يبدّلوا(22/216)
كلام الله: أرادوا أن يغيروا كلام الله الذي قال لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ويخرجوا معه وأبى الله ذلك عليهم ونبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وهذا الذي قاله ابن زيد قول لا وجه له، لأن قول الله عزّ وجلّ (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) إنما نزل على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مُنْصَرَفَه من تَبوك، وعُنِي به الذين تخلَّفوا عنه حين توجه إلى تبوك لغزو الروم، ولا اختلاف بين أهل العلم بمغازي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة أيضا، فكيف يجوز أن يكون الأمر على ما وصفنا معنيا بقول الله (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) وهو خبر عن المتخلفين عن المسير مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، إذ شخص معتمرا يريد البيت، فصدّه المشركون عن البيت، الذين تخلَّفوا عنه في غزوة تبوك، وغزوة تبوك لم تكن كانت يوم نزلت هذه الآية، ولا كان أُوحِيَ إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قوله (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) .
فإذ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول في ذلك: ما قاله مجاهد وقتادة على ما قد بيَّنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض قرّاء الكوفة (كَلامَ اللهِ) على وجه المصدر، بإثبات الألف. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (كَلِمَ اللهِ) بغير ألف، بمعنى جمع كلمة، وهما عندنا قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وإن كنتُ إلى قراءته بالألف أَمْيل.
وقوله (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء المخلفين عن المسير معك يا محمد: لن تتبعونا إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم لقتالهم (كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) يقول: هكذا قال الله لنا من قبل مَرْجِعنا إليكم، إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا،(22/217)
ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تَتَّبعونا إلى خيبر، لأن غنيمتها لغيركم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) أي إنما جعلت الغنيمة لأهل الجهاد، وإنما كانت غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب.
وقوله (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا) أن نصيب معكم مغنما إن نحن شهدنا معكم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا) أن نصيب معكم غنائم.
وقوله (بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا) يقول تعالى ذكره لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه: ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب من أنكم إنما تمنعونهم من اتباعكم حسدا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدوّ مغنما، بل كانوا لا يفقهون عن الله ما لهم وعليهم من أمر الدين إلا قليلا يسيرا، ولو عقلوا ذلك ما قالوا لرسول الله والمؤمنين به، وقد أخبروهم عن الله تعالى ذكره أنه حرمهم غنائم خيبر، إنما تمنعوننا من صحبتكم إليها لأنكم تحسدوننا.(22/218)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) }(22/218)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (قُلْ) يا محمد (لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ) عن المسير معك، (سَتُدْعَوْنَ إِلَى) قتال (قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ) في القتال (شَدِيدٍ) .
واختلف أهل التأويل في هؤلاء الذين أخبر الله عزّ وجلّ عنهم أن هؤلاء المخلفين من الأعراب يُدْعَوْن إلى قتالهم، فقال بعضهم: هم أهل فارس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أهل فارس.
حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاريّ، قال: أخبرنا داود بن الزبرقان، عن ثابت البُنَانيّ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، في قوله (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: فارس والروم.
قال: أخبرنا داود، عن سعيد، عن الحسن، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قال الحسن، في قوله (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: هم فارس والروم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: هم فارس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: قال الحسن: دُعُوا إلى فارس والروم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: فارس والروم.(22/219)
وقال آخرون: هم هَوازن بحُنين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير وعكرمة، في قوله (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: هوازن.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير وعكرمة في هذه الآية (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: هوازن وثقيف.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) قال: هي هَوازن وغَطَفان يوم حُنين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فدعوا يوم حُنين إلى هوازن وثقيف فمنهم من أحسن الإجابة ورغب في الجهاد.
وقال آخرون: بل هم بنو حنيفة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال بنو حنيفة مع مُسَيلمة الكذّاب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير وعكرِمة أنهما كانا يزيدان فيه هوازن وبني حنيفة.
وقال آخرون: لم تأت هذه الآية بعد.(22/220)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن أبي هريرة (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) لم تأت هذه الآية.
وقال آخرون: هم الروم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عوف، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا صفوان بن عمرو، قال: ثنا الفرج بن محمد الكلاعي، عن كعب، قال (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: الروم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المخلَّفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال، ونجدة في الحروب، ولم يوضع لنا الدليل من خبر ولا عقل على أن المعنيَّ بذلك هوازن، ولا بنو حنيفة ولا فارس ولا الروم، ولا أعيان بأعيانهم، وجائز أن يكون عني بذلك بعض هذه الأجناس، وجائز أن يكون عُنِي بهم غيرهم، ولا قول فيه أصحّ من أن يُقال كما قال الله جلّ ثناؤه: إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد.
وقوله (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) يقول تعالى ذكره للمخلَّفين من الأعراب تقاتلون هؤلاء الذين تُدعون إلى قتالهم، أو يسلمون من غير حرب ولا قتال.
وقد ذُكر أن ذلك في بعض القراءات (تُقَاتِلُونَهُمْ أوْ يَسْلِمُوا) ، وعلى هذه القراءة وإن كانت على خلاف مصاحف أهل الأمصار، وخلافا لما عليه الحجة من القرّاء، وغير جائز عندي القراءة بها لذلك تأويل ذلك: تقاتلونهم أبدا إلا أن يسلموا، أو حتى يسلموا.
وقوله (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا) يقول تعالى ذكره فإن تطيعوا الله في إجابتكم إياه إذا دعاكم إلى قتال هؤلاء القوم الأولي البأس الشديد، فتجيبوا إلى قتالهم والجهاد مع المؤمنين (يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا) يقول: يعطكم الله على إجابتكم إياه إلى حربهم الجنة، وهي الأجر الحسن (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يقول: وإن تعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته وتخالفوا أمره،(22/221)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
فتتركوا قتال الأولي البأس الشديد إذا دُعيتم إلى قتالهم (كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يقول: كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى مكة، من قبل أن تُدعَوا إلى قتال أولي البأس الشديد (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) يعني: وجيعا، وذلك عذاب النار على عصيانكم إياه، وترككم جهادهم وقتالهم مع المؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) }
يقول تعالى ذكره: ليس على الأعمى منكم أيها الناس ضيق، ولا على الأعرج ضيق، ولا على المريض ضيق أن يتخلفوا عن الجهاد مع المؤمنين، وشهود الحرب معهم إذا هم لقوا عدوّهم، للعلل التي بهم، والأسباب التي تمنعهم من شهودها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) .
قال: هذا كله في الجهاد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثُمَّ عذر الله أهل العذر من الناس، فقال: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)(22/222)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
قال: في الجهاد في سبيل الله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ) ... الآية، يعني في القتال.
وقوله (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول تعالى ذكره: ومن يُطع الله ورسوله فيجيب إلى حرب أعداء الله من أهل الشرك، وإلى القتال مع المؤمنين ابتغاء وجه الله إذا دعي إلى ذلك، يُدخله الله يوم القيامة جنَّات تجري من تحتها الأنهار (وَمَنْ يَتَوَلَّ) يقول: ومن يعص الله ورسوله، فيتخلَّف عن قتال أهل الشرك بالله إذا دعي إليه، ولم يستجب لدعاء الله ورسوله يعذّبه عذابا موجعا، وذلك عذاب جهنم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) }
يقول تعالى ذكره: لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين (إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) يعني بيعة أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وسول الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفرّوا، ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة.
وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش، فأبطأ عثمان عليه بعض الإبطاء، فظنّ أنه قد قتل، فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفت، فبايعوه على ذلك، وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان،(22/223)
وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذُكر في قول بعضهم: ألفا وأربع مئة، وفي قول بعضهم: ألفا وخمس مئة، وفي قول بعضهم: ألفا وثلاث مئة.
ذكر الرواية بما وصفنا من سبب هذه البيعة:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني بعض أهل العلم أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على جمل له يقال له الثعلب، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، وذلك حين نزل الحديبية، فعقروا به جمل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله، حتى أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فحدثني من لا أتهم، عن عكرِمة مولى ابن عباس: "أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليهم، ولكني أدلك على رجل هو أعزّ بها مني عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عثمان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت، معظما لحرمته، فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، فنزل عن دابته، فحمله بين يديه، ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمسلمين أن عثمان قد قُتل".(22/224)
قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر "أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين بلغه أن عثمان قد قتل، قال: لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَ القَوْمَ، ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على الموت فكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يبايعنا على الموت، ولكنه بايعنا على أن لا نفر، فبايع رسول الله الناسُ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، كان جابر بن عبد الله يقول: لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته، قد اختبأ إليها، يستتر بها من الناس، ثم أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن الذي ذُكر من أمر عثمان باطل".
حدثنا محمد بن عمارة الأسديّ، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة، قال: قال سلمة: "بينما نحن قائلون زمن الحديبية، نادى منادي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أيها الناس البيعة البيعة، نزل روح القدس صلوات الله عليه، قال: فثرنا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهو تحت شجرة سمرة، قال: فبايعناه، وذلك قول الله (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) .
جدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر، قال: كان أوّل من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان جدّي يقال له حَزْن، وكان ممن بايع تحت الشجرة، فأتيناها من قابل، فعُمِّيت علينا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بُكير بن الأشجّ " أنه(22/225)
بلغه أن الناس بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على الموت، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: عَلَى ما اسْتَطَعْتُمْ. والشجرة التي بُويع تحتها بفج نحو مكة، وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت، فجعل بعضهم يقول هنا، وبعضهم يقول: ههنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا هذا التكلف فذهبت الشجرة وكانت سمرة إما ذهب بها سيل، وإما شيء سوى ذلك".
* ذكر عدد الذين بايعوا هذه البيعة:
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في عددهم، ونذكر الروايات عن قائلي المقالات التي ذكرناها إن شاء الله تعالى.
* ذكر من قال: عددهم ألف وأربع مئة:
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر، قال: "كنا يوم الحُديبية ألفا وأربع مئة، فبايعنا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أن لا نفرّ، ولم نبايعه على الموت، قال: فبايعناه كلنا إلا الجدَّ بن قيس اختبأ تحت إبط ناقته".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، أخبرني القاسم بن عبد الله بن عمرو، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله "أنهم كانوا يوم الحُديبية أربع عشرة مئة، فبايعنا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعمر آخذ بيده تحت(22/226)
الشجرة، وهي سمرة، فبايعنا غير الجدّ بن قيس الأنصاريّ، اختبأ تحت إبط بعيره، قال جابر: بايعنا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أن لا نفرّ ولم نبايعه على الموت".
حدثنا يوسف بن موسى القطان، قال: ثنا هشام بن عبد الملك وسعيد بن شرحبيل المصري، قالا ثنا ليث بن سعد المصري قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: "كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مئة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، فبايعناه على أن لا نفرّ، ولم نبايعه على الموت، يعني النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أنه قيل له: "إن جابر بن عبد الله يقول: إن أصحاب الشجرة كانوا ألفا وخمس مئة، قال سعيد: نسي جابر هو قال لي كانوا ألفا وأربع مئة".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: كنا أصحاب الحُديبية أربع عشرة مئة.
* ذكر من قال: كان عدتهم ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين:
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين.
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: "الذين بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت الشجرة، فجعلت لهم مغانم خيبر كانوا يومئذ خمس عشرة مئة، وبايعوا على أن لا يفرّوا عنه".
* ذكر من قال: كانوا ألفا وثلاث مئة:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: "كانوا يوم الشجرة ألفا وثلاث مئة، وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين".
وقوله (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) يقول تعالى ذكره: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة، من صدق النية، والوفاء بما يبايعونك عليه، والصبر معك (فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) يقول:(22/227)
فأنزل الطمأنينة، والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) : أي الصبر والوقار.
وقوله (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) يقول: وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحا قريبا، وذلك فيما قيل: فتح خيبر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) قال: خيبر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) وهي خيبر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) قال: بلغني أنها خيبر.
وقوله (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا) يقول تعالى ذكره: وأثاب الله هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت الشجرة، مع ما أكرمهم به من رضاه عنهم، وإنزاله السكينة عليهم، وإثابته إياهم فتحا قريبا، معه مغانم كثيرة يأخذونها من أموال يهود خيبر، فإن الله جعل ذلك خاصة لأهل بيعة الرضوان دون غيرهم.
وقوله (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) يقول: وكان الله ذا عزّة في انتقامه ممن انتقم من أعدائه، حكيما في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء من قضائه.(22/228)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) }
يقول تعالى ذكره لأهل بيعة الرضوان: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ) أيها القوم (مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا) .
اختلف أهل التأويل في هذه المغانم التي ذكر الله أنه وعدها هؤلاء القوم أيّ المغانم هي؟، فقال بعضهم: هي كل مغنم غنمها الله المؤمنين به من أموال أهل الشرك من لدن أنزل هذه الآية على لسان نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا) قال: المغانم الكثيرة التي وعدوا: ما يأخذونها إلى اليوم.
وعلى هذا التأويل يحتمل الكلام أن يكون مرادا بالمغانم الثانية المغانم الأولى، ويكون معناه عند ذلك، فأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها، وعدكم الله أيها القوم هذه المغانم التي تأخذونها، وأنتم إليها واصلون عدة، فجعل لكم الفتح القريب من فتح خيبر. ويُحتمل أن تكون الثانية غير الأولى، وتكون الأولى من غنائم خيبر، والغنائم الثانية التي وعدهموها من غنائم سائر أهل الشرك سواهم.
وقال آخرون: هذه المغانم التي وعد الله هؤلاء القوم هي مغانم خيبر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله(22/229)
(وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا) قال: يوم خيبر، قال: كان أبي يقول ذلك.
وقوله (فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ) اختلف أهل التأويل في التي عجلت لهم، فقال جماعة: غنائم خيبر والمؤخرة سائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت إلى قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثناء عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ) قال: عجل لكم خيبر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ) وهي خيبر.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الصلح الذي كان بين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبين قريش.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ) قال: الصلح.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ما قاله مجاهد، وهو أن الذي أثابهم الله من مسيرهم ذلك مع الفتح القريب المغانم الكثيرة من مغانم خيبر، وذلك أن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة، ولم يفتحوا فتحا أقرب من بيعتهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحديبية إليها من فتح خيبر وغنائمها.
وأما قوله (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً) فهي سائر المغانم التي غنمهموها الله بعد خيبر، كغنائم هوازن، وغطفان، وفارس، والروم.
وإنما قلنا ذلك كذلك دون غنائم خيبر، لأن الله أخبر أنه عجل لهم هذه(22/230)
التي أثابهم من مسيرهم الذي ساروه مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى مكة، ولما علم من صحة نيتهم في قتال أهلها، إذ بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، على أن لا يفرّوا عنه، ولا شكّ أن التي عجلت لهم غير التي لم تُعجَّل لهم.
وقوله (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) يقول تعالى ذكره لأهل بيعة الرضوان: وكفّ الله أيدي المشركين عنكم.
ثم اختلف أهل التأويل في الذين كفَّت أيديهم عنهم من هم؟ فقال بعضهم: هم اليهود كفّ الله أيديهم عن عيال الذين ساروا من المدينة مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى مكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) : عن بيوتهم، وعن عيالهم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر، وكانت خيبر في ذلك الوجه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) قال: كف أيدي الناس عن عيالهم بالمدينة.
وقال آخرون: بل عني بذلك أيدي قريش إذ حبسهم الله عنهم، فلم يقدروا له على مكروه.
والذي قاله قتادة في ذلك عندي أشبه بتأويل الآية، وذلك أن كفّ الله أيدي المشركين من أهل مكة عن أهل الحُديبية قد ذكره الله بعد هذه الآية في قوله (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) فعلم بذلك أن الكفّ الذي ذكره الله تعالى في قوله (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) غير الكفّ الذي ذكر الله بعد هذه الآية في قوله (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) .(22/231)
وقوله (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول: وليكون كفه تعالى ذكره أيديهم عن عيالهم آية وعبرة للمؤمنين به فيعلموا أن الله هو المتولي حياطَتهم وكلاءتهم في مشهدهم ومغيبهم، ويتقوا الله في أنفسهم وأموالهم وأهليهم بالحفظ وحُسن الولاية ما كانوا مقيمين على طاعته، منتهين إلى أمره ونهيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول: وذلك آية للمؤمنين، كفّ أيدي الناس عن عيالهم (وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) يقول: ويسدّدكم أيها المؤمنون طريقا واضحا لا اعوجاج فيه، فيبينه لكم، وهو أن تثقوا في أموركم كلها بربكم، فتتوكلوا عليه في جميعها، ليحوطكم حياطته إياكم في مسيركم إلى مكة مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في أنفسكم وأهليكم وأموالكم، فقد رأيتم أثر فعل الله بكم، إذ وثقتم في مسيركم هذا.
وقوله (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) يقول تعالى ذكره ووعدكم أيها القوم ربكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا على فتحها، قد أحاط الله بها لكم حتى يفتحها لكم.
واختلف أهل التأويل في هذه البلدة الأخرى، والقرية الأخرى التي وعدهم فتحها، التي أخبرهم أنه محيط بها، فقال بعضهم: هي أرض فارس والروم، وما يفتحه المسلمون من البلاد إلى قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: ثنا شعبة، عن سِماك الحنفيّ، قال: سمعت ابن عباس يقول (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا) فارس والروم.(22/232)
قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى أنه قال في هذه الآية (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا) قال: فارس والروم.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: ثنا شعبة بن الحَجاج، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) قال: حدّث عن الحسن، قال: هي فارس والروم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا) ما فتحوا حتى اليوم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، في قوله(22/233)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)
(وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا) قال: فارس والروم.
وقال آخرون: بل هي خيبر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا) ... الآية، قال: هي خيبر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك، يقول في قوله (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) يعني خيبر، بعثهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يومئذ، فقال: ولا تُمَثِّلُوا وَلا تَغُلُّوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) قال: خيبر، قال: لم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها حتى أخبرهم الله بها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا) يعني أهل خيبر. وقال آخرون: بل هي مكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) كنا نحدّث أنها مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا) قال: بلغنا أنها مكة.
وهذا القول الذي قاله قتادة أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت الشجرة، أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها، ومعقولٌ أنه لا يقال لقوم لم يقدروا على هذه المدينة، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذّرت عليهم، فأما وهم لم يروموها فتتعذّر عليهم فلا يقال: إنهم لم يقدروا عليها.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه خيبر لحرب، ولا وجه إليها لقتال أهلها جيشا ولا سرية، علم أن المعنيَّ بقوله (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا) غيرها، وأنها هي التي قد عالجها ورامها، فتعذّرت فكانت مكة وأهلها كذلك، وأخبر الله تعالى ذكره نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمؤمنين أنه أحاط بها وبأهلها، وأنه فاتحها عليهم، وكان الله على كلّ ما يشاء من الأشياء ذا قُدرة، لا يتعذّر عليه شيء شاءه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ(22/234)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (23) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أهل بيعة الرضوان: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أيها المؤمنون بمكة (لَوَلَّوُا الأدْبَارَ) يقول: لانهزموا عنكم، فولوكم أعجازهم، وكذلك يفعل المنهزم من قرنه في الحرب (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) يقول: ثم لا يجد هؤلاء الكفار المنهزمون عنكم، المولوكم الأدبار، وليا يواليهم على حربكم، ولا نصيرا ينصرهم عليكم، لأن الله تعالى ذكره معكم، ولن يغلب حزب الله ناصره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ) يعني كفار قريش، قال الله (ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا) ينصرهم من الله.
وقوله (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) يقول تعالى ذكره: لو قاتلكم هؤلاء الكفار من قريش، لخذلهم الله حتى يهزمهم عنكم خذلانه أمثالهم من أهل الكفر به، الذين قاتلوا أولياءه من الأمم الذين مضوا قبلهم. وأخرج قوله (سُنَّةَ اللَّهِ) نصبا من غير لفظه، وذلك أن في قوله (لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) معنى سننت فيهم الهزيمة والخذلان، فلذلك قيل: (سُنَّةَ اللَّهِ) مصدرا من معنى الكلام لا من لفظه، وقد يجوز أن تكون تفسيرا لما قبلها من الكلام.
وقوله (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ولن تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه تغييرا، بل ذلك دائم للإحسان جزاءه من الإحسان، وللإساءة والكفر العقاب والنكال.(22/235)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) }
يقول تعالى ذكره لرسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: والذين بايعوا بيعة الرضوان: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) يعني أن الله كفّ أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، بالحديبية يلتمسون غِرَّتَهُمْ ليصيبوا منهم، فبعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأتى بهم أسرى، فخلى عنهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ومنّ عليهم ولم يقتلهم فقال الله للمؤمنين: وهو الذي كفّ أيدي هؤلاء المشركين عنكم، وأيديكم عنهم ببطن مكة، من بعد أن أظفركم عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: أخبرنا الحسين بن واقد، قال: ثني ثابت البناني، عن عبد الله بن مغفل، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان جالسا في أصل شجرة بالحُدَيبية، وعلى ظهره غصن من أغصان الشجرة فرفعتها عن ظهره، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه وسهيل بن عمرو، وهو صاحب المشركين، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لعليّ: اكْتُبْ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فأمسك سُهَيل بيده، فقال: ما نعرف الرحمن، اكتب في قضيتنا ما نعرف. فقال رسول الله: اكْتُبْ باسْمِكَ اللَّهُم، فكتب، فقال: هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة، فأمسك سُهَيل بيده، فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولا اكتب في قضيتنا ما نعرف قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأنا رسول الله، فخرج علينا ثلاثون شابا(22/236)
عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: هَلْ خرَجْتُم فِي أمان أحَدٍ، قال: فخلى عنهم، قال: فأنزل الله (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن ثابت، عن عبد الله بن مغفل، قال: كنا مع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحُديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، وكان غصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فرفعته عن ظهره، ثم ذكر نحو حديث محمد بن عليّ، عن أبيه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: ثني من لا أتهم - عن عكرمة، مولى ابن عباس، أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ليصيبوا من أصحابه أحدا، فأخذوا أخذا، فأُتي بهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحجارة والنبل. قال ابن حميد، قال سلمة، قال ابن إسحاق: ففي ذلك قال (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) ... الآية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أقبل معتمرا نبيّ الله، فأخذ أصحابه ناسا من أهل الحرم غافلين، فأرسلهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذلك الإظفار ببطن مكة.
حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا عبيد الله ابن عائشة، قال: ثنا(22/237)
حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك أن ثمانين رجلا من أهل مكة، هبطوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، فأخذهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأعتقهم، فأنزل الله (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) ... إلى آخر الآية.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) ... الآية، قال: بطن مكة الحديبية (1) يقال له رهم: اطلع الثنية من الحديبية، فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خيلا فأتوه باثني عشر فارسا من الكفار، فقال لهم نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: هل لكم عليّ عهد؟ هل لكم عليّ ذمة، قالوا: لا فأرسلهم، فأنزل الله في ذلك القرآن (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) ... إلى قوله (بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) .
وقال آخرون في ذلك: ما حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمِّيّ، عن جعفر، عن ابن أبزى، قال: لما خرج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالهدي، وانتهى إلى ذي الحليفة، قال له عمر: يا نبيّ الله، تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع، قال: فبعث إلى المدينة فلم يدع بها كراعا ولا سلاحا إلا حمله; فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى، فنزل بمِنى، فأتاه عينه أن عكرِمة بن أبي جهل قد خرج علينا في خمس مئة، فقال لخالد بن الوليد: يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل، فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله، فيومئذ سمي سيف الله، يا رسول الله، ارم بي حيث شئت، فبعثه على خيل، فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان
__________
(1) لعل فيه سقطا. وفي ابن كثير عن قتادة: " ذكر لنا أن رجلا يقال له ابن زنيم اطلع على الثنية إلخ ".(22/238)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
مكة، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) ... إلى قوله (عَذَابًا أَلِيمًا) قال: فكفّ الله النبيّ عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية أن تطأهم الخيل بغير علم.
وقوله (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) يقول تعالى ذكره: وكان الله بأعمالكم وأعمالهم بصيرا لا يخفى عليه منها شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) }
يقول تعالى ذكره: هؤلاء المشركون من قريش هم الذين جحدوا توحيد الله، وصدوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام، وصدوا الهدي معكوفا: يقول: محبوسًا عن أن يبلغ محله. فموضع "أن" نصب لتعلقه إن شئت بمعكوف، وإن شئت بصدّوا. وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك: وصدّوا الهدي معكوفا كراهية أن يبلغ محله.
وعنى بقوله تعالى ذكره: (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أن يبلغ محلّ نحره، وذلك دخول الحرم، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ساق معه حين خرج إلى مكة في سَفرته تلك سبعين بدنة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المِسْوَر بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدّثاه، قالا خرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عام الحُديبية(22/239)
يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا وساق الهَدي معه سبعين بدنة وكان الناس سبعَ مئة رجل، فكانت كلّ بدنة عن عشرة.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا) : أي محبوسا (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) وأقبل نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه معتمرين في ذي القعدة، ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحُديبية، صدّهم المشركون، فصالحهم نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أن يرجع من عامه ذلك، ثم يرجع من العام المقبل، فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب، ولا يخرج بأحد من أهلها، فنحروا الهدي، وحلقوا، وقصَّروا، حتى إذا كان من العام المقبل، أقبل نبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة، فأقام بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردّوه، فأقصه الله منهم فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردّوه فيه، فأنزل الله (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) .
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ وأحمد بن منصور الرمادي، واللفظ لابن عمارة، قالا حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبيدة، عن إياس من سَلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: بعثت قريش سُهَيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العُزَّى، وحفص بن فلان إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليصالحوه فلما رآهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيهم سُهَيل بن عمرو، قال: قد سهَّل الله لكم من أمركم، القوم ماتُّون إليكم بأرحامهم وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهَدي، وأظهروا التلبية، لعلّ ذلك يلين قلوبهم، فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجَّت أصواتهم بالتَّلبية، فجاءوا فسألوه الصلح; قال: فبينما الناس قد توادعوا(22/240)
وفي المسلمين ناس من المشركين، قال: فقيل به أبو سفيان; قال: وإذا الوادي يسيل بالرجال; قال: قال إياس، قال سلمة: فجئت بستة من المشركين متسلحين أسوقهم، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا، فأتيت بهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فلم يسلب ولم يقتل وعفا; قال: فشددنا على من في أيدي المشركين منا، فما تركنا في أيديهم منا رجلا إلا استنقذناه; قال: وغلبنا على من في أيدينا منهم; ثم إن قريشا بعثوا سُهَيل بن عمرو، وحويطبا، فولوا صلحهم، وبعث النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عليا في صلحه; فكتب عليّ بينهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قريشا، صالحهم على أنه لا إهلال ولا امتلال، وعلى أنه من قَدِم مكة من أصحاب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حاجا أو معتمرا، أو يبتغي من فضل الله، فهو آمن على دمه وماله; ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله، فهو آمن على دمه وماله; وعلى أنه من جاء محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من قريش فهو إليهم رُدّ، ومن جاءهم من أصحاب محمد فهو لهم. فاشتدّ ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: مَنْ جَاءَهُمْ مِنَّا فأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جاءنَا مِنْهُمْ فَرَدَدْناه إلَيْهِم فَعَلِم اللهُ الإسْلامَ من نفسه، جَعَلَ لَهُ مَخْرَجا. فصالحوه على أنه يعتمر في عام قابل في هذا الشهر، لا يدخل علينا بخيل ولا سلاح، إلا ما يحمل المسافر في قِرابه، يثوي فينا ثلاث ليال، وعلى أن هذا الهَدْي حيثما حبسناه محلَّه لا يقدمه علينا. فقال لهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: نَحْن نَسُوقُهُ وأنْتُمْ تَرُدونَ وُجُوهَهُ، فسار رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مع الهدي وسار الناس".
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى، قال: أخبرني أبو مُرّة مولى أمّ هانئ، عن ابن عمر، قال: "كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية عرض له المشركون، فردُوا وجوهه; قال: فنحر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الهدي حين حبسوه، وهي الحُديبية، وحلق، وتأسّى حين به أُناس حين رأوه حلق، وتربَّص آخرون، فقالوا: لعلنا نطوف(22/241)
بالبيت، فقال رسول الله: رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقِينَ، قيل: والمقصرين، قال: رَحِمَ اللهُ المحَلِّقِينَ، قيل: والمقصرين، قال: والمُقَصِّرينَ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمر بن ذَرّ الهمداني، عن مجاهد "أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم اعتمر ثلاث عمر، كلها في ذي القعدة، يرجع في كلها إلى المدينة، منها العمرة التي صدّ فيها الهدي، فنحره في محله، عند الشجرة، وشارطوه أن يأتي في العام المقبل معتمرا، فيدخل مكة، فيطوف بالبيت ثلاثة أيام، ثم يخرج، ولا يحبسون عنه أحدا قدم معه، ولا يخرج من مكة بأحد كان فيها قبل قدومه من المسلمين; فلما كان من العام المقبل دخل مكة، فأقام بها ثلاثا يطوف بالبيت ; فلما كان اليوم الثالث قريبا من الظهر، أرسلوا إليه: إن قومك قد آذاهم مقامك، فنُودي في الناس: لا تغرب الشمس وفيها أحد من المسلمين قَدم مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، قال: خرج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم زمن الحُديبية في بضع عشرة مئة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلَّد الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينا له من خُزاعة يخبره عن قريش، وسار النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من قُعَيقعان، أتاه عينه الخزاعيّ، فقال. إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أشيرُوا عَليَّ، أتَرَوْنَ أنْ نَمِيلَ على ذَرَارِي هَؤُلاءِ الَّذِينَ أعانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ، فإنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْزُونِينَ وإنْ لَحُّوا تَكُنْ عُنُقا قَطَعَها الله؟ أمْ تَرَوْنَ أنَّا نَؤُمُّ الْبَيْتَ، فَمنْ صَدّنا عَنْهُ قاتَلْناهُ؟ "فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله: إنا لم نأتِ(22/242)
لقتال أحد، ولكن من حالَ بيننا وبين البيت قاتلناه ; فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فَروّحُوا إذًا; وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قطّ كان أكثر مُشاورة لأصحابه من النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إنَّ خالدَ بنَ الوَلِيدِ بالغَمِيم في خَيْل لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً، فخُذُوا ذَاتَ الْيمِينِ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقُتْرة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، حتى إذا كان بالثنية التي يُهْبط عليهم منها، بركت به راحلته; فقال الناس: حَلْ حَلْ، (1) فقال: ما حَلْ؟ فقالوا: خَلأتِ القَصْواء، (2) فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما خَلأتْ ومَا ذَاكَ لَهَا بخُلُقٍ، ولَكِنَّها حَبَسَها حابِسُ الفِيل، ثم قال: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسألُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ بِها حُرُماتِ اللهِ إلا أعْطَيْتُهُمْ إيَّاها، ثم زُجِرت فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحُديبية على ثمد قليل الماء، إنما يتبرّضه الناس تبرّضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشُكِي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم العطش، فنزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالرِّيّ حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك جاء بُدَيل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خُزاعة، وكانوا عَيبة نصح رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لُؤَيّ، وعامر بن لُؤَيّ، قد نزلوا أعداد مياه الحُديبية معهم العوْذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إنَّا لَمْ نأْتِ لِقِتالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنا مُعْتَمِرِينَ، وَإنَّ قُرَيْشا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ، وأَضَرَّتْ بِهمْ، فإنْ شاءُوا مادَدْناهُمْ مُدَّةً، ويُخْلُوا بَيْنِي وَبَينَ النَّاسِ، فإنْ أظْهَرَ فإنْ شاءوا أنْ يَدْخُلُوا فيما دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإلا فَقَدْ جَمُّوا وَإنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لأقاتِلنَّهُمْ عَلى أمْرِي هَذَا حتى تَنْفَرِدَ سالِفَتي، أوْ لَيُنْفِذَن الله أمْرَهُ فقال بديل: سنبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا; قال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن تحدّثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته; يقول: قال سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقام عُروة بن مسعود الثقفي، فقال: أيْ قوم، ألستم بالولد؟ قالوا: بلى; قال: أولست بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: فهل أنتم تتهموني؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى; قال: فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته; فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نحوا من مقالته لبُديل; فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأوباشا من الناس خليقا أن يفرّوا ويدعوك، فقال أبو بكر: امصُصْ بظر اللات، واللاتُ: طاغية ثقيف الذي كانوا يعبدون، أنحن نفرّ وندعه؟ فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ; وجعل يكلم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّ ومعه السيف، وعليه المغفر; فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ضرب يده بنصل السيف، وقال: أخِّر يدك عن لحيته، فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، قال: أي غُدَرُ أولست أسعى في غدرتك. وكان المُغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أمَّا الإسْلامُ فَقَدْ قَبِلْناهُ، وأمَّا المَالُ فإنَّه مَالُ غَدْرٍ لا حاجَةَ لنَا فِيهِ. وإن عُروة جعل يرمق أصحاب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعينه، فوالله إن تنخم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشيّ، والله ما رأيت مَلِكا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ; والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلموا عنده خفوا أصواتهم، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته; فلما أشرف على النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه، قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله قوم يلبون; فلما رأى ذلك قال سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فقام رجل منهم يقال له مِكْرز بن حفص، فقال: دعوني آته، فقالوا ائته، فلما أشرف على النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه، قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: هَذَا مِكْرِز بْنُ حَفْصٍ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ؛ فجاء فجعل يكلم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فبينما هو يكلمه، إذ جاء سُهَيل بن عمرو، قال أيوب، قال عكرِمة: إنه لما جاء سُهَيل، قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قد سهل لكم من أمركم. قال الزهري. فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات نكتب بيننا وبينك كتابا; فدعا الكاتب فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال: ما الرحمن؟ فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: اكْتُبْ: باسْمِكَ اللَّهُمَّ ثم قال: اكْتُبْ: هَذَا ما قاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وَاللهِ إنّي لَرَسُولُ اللهِ وَإِنْ
__________
(1) حل حل: زجر للإبل وحث لها لتسير.
(2) خلأت الناقة تخلأ (كفتح) : وقفت عن السير. والخلاء في الإبل: كالحران في الخيل (اللسان: خلأ) .(22/243)
كَذَبْتُمُوني، وَلَكِن اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ; قال الزهري: وذلك لقوله: وَاللهِ لا يَسألُوني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ بِها حُرُماتِ اللهِ إلا أعْطَيْتُهُمْ إيَّاها; فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: عَلى أنْ تُخَلُّوا بَيْنَنا وَبيْنَ البَيْتِ، فَنَطُوفُ بِهِ; قال سُهيل: والله لا تتحدّث العرب أنا أُخِذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل، وعلى أنه لا يأتيك منا رجل إن كان على دينك إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله، وكيف يُرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك، إذا جاء أبو جَنْدل بن سُهيل بن عمرو يرسُف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه إلينا، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فَأَجِرْهُ لي، فقال: ما أنا بمجيره لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل; قال صاحبه مِكْرز وسهيل إلى جنبه: قد أجرناه لك; فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين، أأرُدّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ كان قد عُذّب عذابا شديدا في الله.
قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فِلم نعطَى الدنية في ديننا إذا؟ قال: إنّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيه وَهُوَ ناصري، قلت: ألست تحدِّثنا أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟ قال: بَلى، قال: فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنِّكَ آتِيهِ وَمتطَوّفٌ به; قال: ثم أتيت أبا بكر، فقلت: أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلِم نعطَى الدنية في ديننا إذا؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصِي ربه، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحقّ; قلت: أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا قال: فإنك آتيه ومتطوّف به. قال الزُّهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا فلما فرغ من قصته،(22/246)
قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لأصحابه: قُومُوا فانحَروا ثم احْلِقُوا، قال: فوالله ما قام منا رجل حتى قال ذلك ثلاث مرّات ; فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أُمُّ سلمة: يا رسول الله أتحبّ ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم كلمة، حتى نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه; فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما; ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله عزّ وجلّ عليه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) حتى بلغ (بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) قال: فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك; قال: فنهاهم أن يردوهن، وأمرهم أن يردّوا الصداق حينئذ; قال رجل للزهريّ: أمن أجل الفروج؟ قال: نعم، فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسل في طلبه رجلان، فقالا العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى إذا بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: والله إنه لجيد، لقد جربت به وجربت; فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه، فضربه به حتى برد وفرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: رأى هَذَا ذُعْرًا، فقال: والله قتل صاحبي، وإني والله لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: قد والله أوفى الله ذمتك ورددتني إليهم، ثم أغاثني الله منهم، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وَيْلُ أمِّهِ مِسْعَرُ حَرْب لَوْ كانَ لَهُ أحَدٌ؛ فلما سمع عرف أنه سيردّه إليهم; قال: فخَرج حتى أتى سيف البحر، وتفلَّت أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن فأنزل الله (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) حتى بلغ (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) وكانت حميتهم أنهم لم يقرّوا أنه نبيّ، ولم يقرّوا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا خرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم زمن الحُديبية في بضع عشرة مئة، ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال في حديثه، قال الزهريّ، فحدثني القاسم بن محمد، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: فأتيت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقلت: ألست برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ قال: بَلى، قال أيضا: وخرج أبو بصير والذين أسلموا من الذين رَدّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى لحقوا بالساحل على طريق عير قريش، فقتلوا من فيها من الكفار وتغنَّموها; فلما رأى ذلك كفار قريش، ركب نفر منهم إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا له: إنها لا تغني مدتك شيئا، ونحن نقتل وتُنهب أمولنا، وإنا نسألك أن تدخل هؤلاء في الذين أسلموا منا في صلحك وتمنعهم، وتحجز عنا قتالهم، ففعل ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأنزل الله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) ، ثم ساق الحديث إلى آخره"، نحو حديث ابن عبد الأعلى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهريّ، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أنهما حدّثاه، قالا "خرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عام الحُديبية، يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا وساق معه هديه سبعين بدنة، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذُ المطافيلُ قد لبسوا جلود النمور،(22/247)
ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله، لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدموها إلى كراع الغميم; قال: فقال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أهْلَكَتْهُمُ الحَرْبُ، ماذَا عَلَيْهمْ لَوْ خَلُّوا بَيْنِي وَبَينَ سائِرِ العَرب فإنْ هُمْ أصابُونِي كانَ ذلكَ الَّذِي أرَادُوا، وَإنْ أظْهَرَنِي اللهُ عَلَيْهِم دَخَلُوا فِي الإسْلامِ دَاخِرِينَ" ثم ذكر نحو حديث معمر بزيادات فيه كثيرة، على حديث معمر تركت ذكرها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) قال: كان الهدي بذي طوى، والحُديبية خارجة من الحرم، نزلها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين غِوَّرت قريش عليه الماء.
وقوله (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يقول تعالى ذكره: ولولا رجال من أهل الإيمان ونساء منهم أيها المؤمنون بالله أن تطئوهم بخيلكم ورجلكم لم تعلموهم بمكة، وقد حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم فتقتلوهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) ... حتى بلغ (بِغَيْرِ عِلْمٍ) هذا حين رد محمد وأصحابه أن يدخلوا مكة، فكان بها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، فكره الله أن يؤذوا أو يوطئوا بغير علم، فتصيبكم منهم معرّة بغير علم.
واختلف أهل التأويل في المعرّة التي عناها الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: عني بها الإثم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ(22/249)
مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال: إثم بغير علم.
وقال آخرون: عني بها غرم الدية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فتخرجوا ديته، فأما إثم فلم يحسبه عليهم. والمعرّة: هي المفعلة من العرّ، وهو الجرب وإنما المعنى: فتصيبكم من قبلهم معرّة تعرّون بها، يلزمكم من أجلها كفَّارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة، من أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين.
وإنما اخترت هذا القول دون القول الذي قاله ابن إسحاق، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها، ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية، فقال (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) لم يوجب على قاتله خطأ ديته، فلذلك قلنا: عني بالمعرّة في هذا الموضع الكفارة، و (أن) من قوله (أَنْ تَطَئُوهُمْ) في موضع رفع ردًا على الرجال، لأن معنى الكلام: ولولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم، فتصيبكم منهم معرّة بغير علم لأذن الله لكم أيها المؤمنون في دخول مكة، ولكنه حال بينكم وبين ذلك (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) يقول: ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها، وحذف جواب لولا استغناء بدلالة الكلام عليه.
وقوله (لَوْ تَزَيَّلُوا) يقول: لو تميز الذين في مشركي مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم، ففارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) يقول: لقتلنا من بقي فيها بالسيف، أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.(22/250)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لَوْ تَزَيَّلُوا) ... الآية، إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمع الضحاك يقول في قوله (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) يعني أهل مكة كان فيهم مؤمنون مستضعفون: يقول الله لولا أولئك المستضعفون لو قد تزيَّلوا، لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لَوْ تَزَيَّلُوا) لو تفرّقوا، فتفرّق المؤمن من الكافر، لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) }
يعني تعالى ذكره بقوله (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) حين جعل سُهيل بن عمرو في قلبه الحمية، فامتنع إن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين يدي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب فيه: محمد رسول الله، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عامه ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن(22/251)
الزهريّ، قال: كانت حميتهم التي ذكر الله، إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية، حمية الجاهلية، أنهم لم يقرّوا " بسم الله الرحمن الرحيم " وحالوا بينهم وبين البيت.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن الزهري بنحوه.
حدثني عمرو بن محمد العثماني، قال: ثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: ثني أخي، عن سليمان، عن يحيى بن سعيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: " أمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلا اللهُ، فَمَنْ قال لا إلَه إلا اللهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مالَهُ وَنَفْسَهُ إلا بِحَقِّهِ وَحِسابُهُ على الله". وأنزل الله في كتابه، فذكر قوما استكبروا فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) وقال الله (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله، استكبر عنها المشركون يوم الحُدَيبية، يوم كاتبهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على قضية المدّة.
و"إذ" من قوله (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من صلة قوله: لعذّبنا. وتأويل الكلام: لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما، حين جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية، والحمية فعيلة من قول القائل: حمى فلان أنفه حمية ومحمية; ومنه قول المتلمس:
ألا إنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْ ... كَذا الرأس يَحْمي أنْفَهُ أنْ يُكشَمَّا (1)
__________
(1) البيت للمتلمس جرير بن عبد المسيح (شعراء النصرانية 338) وكشم أنفه يكشمه (كيضربه) كشما: قطعه مستأصلا له. ويقال: حمى فلان أنفه يحميه حمية ومحمية. وفلان ذو حمية منكرة: إذا كان ذا غضب وأنفة. وقد استشهد به المؤلف عند قوله تعالى " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية " وهي مصدر على فعلية، بمعنى الأنفة.(22/252)
يعني بقوله: "يحمي": يمنع. وقال (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) لأن الذي فعلوا من ذلك كان جميعه من أخلاق أهل الكفر، ولم يكن شيء منه مما أذن الله لهم به، ولا أحد من رسله.
وقوله (فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره فأنزل الله الصبر والطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين، إذ حمى الذين كفروا حمية الجاهلية، ومنعوهم من الطواف بالبيت، وأبوا أن يكتبوا في الكتاب بينه وبينهم بسم الله الرحمن الرحيم، ومحمد رسول الله (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) يقال: ألزمهم قول لا إله إلا الله التي يتقون بها النار، وأليم العذاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف في ذلك منهم، ورُوي به الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر قائلي ذلك بما قلنا فيه، والخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي، قال: ثنا سفيان بن حبيب، قال: ثنا شعبة، عن ثور بن أبي فاختة، عن أبيه، عن الطفيل، عن أبيه، سمع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: "لا إلَه إلا اللهُ".
حدثني محمد بن خالد بن خِداش العَتَكِيّ، قال: سمعت سالما، سمع شعبة، سمعَ سَلَمة بن كهيل، سمع عبَايَة، سمع عليا رضي الله عنه في قوله (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: لا إله إلا الله.
حدثني ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن سلمة، عن عباية بن ربعي، عن علي رضي الله عنه، في قوله (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: لا إله إلا الله، والله أكبر.
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني، قال ثنا ابن المبارك، عن سفيان وشعبة، عن سلمة بن كهيل، عن رجل، عن عليّ رضي الله عنه قال: لا(22/253)
إله إلا الله، والله أكبر.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن سلمة، عن عباية، عن رجل من بني تميم عن عليّ رضي الله عنه (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: لا إله إلا الله.
حدثني عليّ، قال ثنا أبو صالح. قال ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) يقول: شهادة أن لا إله إلا الله، فهي كلمة التقوى، يقول: فهي رأس التقوى.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق، يحدّث عن عمرو بن ميمون أنه كان يقول في هذه الآية (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: لا إله إلا الله.
حدثني محمد بن عيسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرني سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: لا إله إلا الله.
حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: لا إله إلا الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) وهي: شهادة إن لا إله إلا الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: هي لا إله إلا الله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) هي لا إله إلا الله.(22/254)
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرِمة، في قوله (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
حدثني ابن البرقيّ، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز، عن عطاء الخراسانيّ (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
حدثني الصواريّ محمد بن إسماعيل، قال: ثنا محمد بن سوار، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن يزيد بن أبي خالد المكي، عن عليّ الأزدي، قال: كنت مع ابن عمر بين مكة ومنى بالمأزمين، فسمع الناس يقولون: لا إله إلا الله، والله أكبر، فقال: هي هي، فقلت: ما هي؟ قال (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) الإخلاص (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) .
وقال آخرون: بل: هي كلمة التقوى، الإخلاص.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن الحسين الأزديّ، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: الإخلاص.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (كَلِمَةَ التَّقْوَى) كلمة الإخلاص.
وقال آخرون: هي قوله: بسم الله الرحمن الرحيم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عيسى، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهريّ، في قوله (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال آخرون: هي قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله(22/255)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
الحمد، وهو على كل شيء قدير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، قال: أخبرنا ابن جُرَيج، عن مجاهد وعطاء (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) قال: أحدهما الإخلاص، وقال الآخر: كلمة التقوى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له المُلك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير.
وقوله (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) يقول تعالى ذكره: وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: والمؤمنون أحقّ بكلمة التقوى من المشركين وأهلها: يقول: وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمؤمنون أهل كلمة التقوى دون المشركين.
وذُكر أنها في قراءة عبد الله (وكانُوا أهْلَها وأحَقَّ بها) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) وكان المسلمون أحقّ بها، وكانوا أهلها: أي التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
وقوله (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) يقول تعالى ذكره: ولم يزل الله بكل شيء ذا علم، لا يخفى عليه شيء هو كائن، ولعلمه أيها الناس بما يحدث من دخولكم مكة وبها رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات لم تعلموهم، لم يأذن لكم بدخولكم مكة في سفرتكم هذه.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ(22/256)
وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) }
يقول تعالى ذكره: لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصِّرا بعضهم رأسه، ومحلِّقا بعضهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) قال هو دخول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم البيت والمؤمنون، محلقين رءوسهم ومقصرين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) قال: أُرِيَ بالحُديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحُديبية: أين رؤيا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؟
حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) قال: رأى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه يطوف بالبيت وأصحابه، فصدّق الله رؤياه، فقال (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) ... حتى بلغ (لا تَخَافُونَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) قال: أُري في المنام أنهم يدخلون(22/257)
المسجد الحرام، وأنهم آمنون محلِّقين رءوسهم ومقصِّرين.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) . . إلى آخر الآية. قال: قال لهم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " إنّي قَدْ رأيْتُ أنَّكُمْ سَتَدْخُلُونَ المَسْجِدَ الحَرَام مُحَلِّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ " فلما نزل بالحُديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك، فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) فقرأ حتى بلغ (وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ) إني لم أره يدخلها هذا العام، وليكوننّ ذلك".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) ... إلى قوله (إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) لرؤيا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم التي أريها أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف، يقول: محلقين ومقصرين لا تخافون.
وقوله (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا) يقول تعالى ذكره: فعلم الله جلّ ثناؤه ما لم تعلموا، وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين، الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرَّجل، فأصابتهم منهم معرّة بغير علم، فردّهم الله عن مكة من أجل ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا) قال: ردّه لمكان من بين أظهرهم من المؤمنين والمؤمنات، وأخره ليدخل الله في رحمته من يشاء من يريد أن يهديه.
وقوله (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) اختلف أهل التأويل في الفتح القريب، الذي جعله الله للمؤمنين دون دخولهم المسجد الحرام محلِّقين رءوسهم(22/258)
ومقصِّرين، فقال بعضهم: هو الصلح الذي جرى بين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبين مشركي قريش.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) قال: النحر بالحُديبية، ورجعوا فافتتحوا خيبر، ثم اعتمر بعد ذلك، فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهريّ، قوله (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) يعني: صلح الحُديبية، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث ألتقى الناس; فلما كانت الهدنة وضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، فالتقَوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) قال: صلح الحُديبية.
وقال آخرون: عنى بالفتح القريب في هذا الموضع: فتح خيبر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) قال: خيبر حين رجعوا من الحُديبية، فتحها الله عليهم، فقسمها على أهل الحديبية كلهم إلا رجلا واحدا من الأنصار، يقال له: أبو دجانة سماك بن خرشة، كان قد شهد الحديبية وغاب عن خَيبر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه جعل لرسوله والذين كانوا معه من أهل بيعة الرضوان فتحا قريبا من دون دخولهم المسجد(22/259)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
الحرام، ودون تصديقه رؤيا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وكان صلح الحُديبية وفتح خيبر دون ذلك، ولم يخصص الله تعالى ذكره خبره ذلك عن فتح من ذلك دون فتح، بل عمّ ذلك، وذلك كله فتح جعله الله من دون ذلك.
والصواب أن يعمه كما عمه، فيقال: جعل إلله من دون تصديقه رويا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بدخوله وأصحابه المسجد الحرام محلِّقين رءوسهم ومقصِّرين، لا يخافون المشركين صلح الحُديبية وفتح خيبر.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }(22/260)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
القول في تأويل قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
يعني تعالى ذكره بقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) الذي أرسل رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالبيان الواضح، وَدِين الحَق، وهو الإسلام; الذي أرسله داعيا خلقه إليه (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) يقول: ليبطل به الملل كلها، حتى لا يكون دين سواه، وذلك كان كذلك حتى ينزل عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، فحينئذ تبطل الأديان كلها، غير دين الله الذي بعث به محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ويظهر الإسلام على الأديان كلها.(22/260)
وقوله (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) يقول جلّ ثناؤه لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أشهدك يا محمد ربك على نفسه، أنه سيظهر الدين الذي بعثك به (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) يقول: وحسبك به شاهدا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال. ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو بكر الهُذَليّ، عن الحسن (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله، وهذا إعلام من الله تعالى نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه، أن الله فاتح عليهم مكة وغيرها من البلدان، مسليهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن، بانصرافهم عن مكة قبل دخولهموها، وقبل طوافهم بالبيت.
وقوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) يقول تعالى ذكره: محمد رسول الله وأتباعه من أصحابه الذين هم معه على دينه، (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ، غليظة عليهم قلوبهم، قليلة بهم رحمتهم (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) يقول: رقيقة قلوب بعضهم لبعض، لينة أنفسهم لهم، هينة عليهم لهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ألقى الله في قلوبهم الرحمة، بعضهم لبعض (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) يقول: تراهم ركعا أحيانا لله في صلاتهم سجدا أحيانا (يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ) يقول: يلتمسون بركوعهم وسجودهم وشدّتهم على الكفار ورحمة بعضهم بعضا، فضلا من الله، وذلك رحمته إياهم، بأن يتفضل عليهم، فيُدخلهم جنته (وَرِضْوَانًا) يقول: وأن يرضى عنهم ربهم.
وقوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يقول: علامتهم في وجوههم من أثر السجود في صلاتهم.(22/261)
ثم اختلف أهل التأويل في السيما الذي عناه الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: ذلك علامة يجعلها الله في وجوه المؤمنين يوم القيامة، يعرفون بها لما كان من سجودهم له في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله العتكي، عن خالد الحنفي، قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: يعرف ذلك يوم القيامة في وجوههم من أثر سجودهم في الدنيا، وهو كقوله (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) .
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: ثنا أبي، عن فضيل بن مروزق، عن عطية، في قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: مواضع السجود من وجوههم يوم القيامة أشد وجوههم بياضا.
حدثنا محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا ابن فضيل، عن فضيل، عن عطية، بنحوه.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن فضيل، عن عطية، بنحوه.
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا فضيل، عن عطية، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت شبيبا يقول عن مقاتل بن حيان، قال: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: النور يوم القيامة.(22/262)
حدثنا ابن سنان القزاز، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: قال عليّ بن المبارك: سمعت غير واحد عن الحسن، في قوله(22/263)
(سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: بياضا في وجوههم يوم القيامة.
وقال آخرون: بل ذلك سيما الإسلام وَسمْته وخشوعه، وعنى بذلك أنه يرى من ذلك عليهم في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) قال: السَّمْت الحَسَن.
قال: ثنا مجاهد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا الحسن بن معاوية، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: أما إنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإسلام وسَحْنته وسَمته وخشوعه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: الخشوع والتواضع.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، مثله.
قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: الخشوع.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، في هذه الآية (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: السَّحْنة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: هو الخشوع، فقلت: هو أثر السجود، فقال: إنه يكون بين عينيه مثل ركبة العنز وهو كما شاء الله.
وقال آخرون: ذلك أثر يكون في وجوه المصلين، مثل أثر السهر، الذي يظهر في الوجه مثل الكلف والتهيج والصفرة، وأشبه ذلك مما يظهره السهر والتعب في الوجه، ووجهوا التأويل في ذلك إلى أنه سيما في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: الصفرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: زعم الشيخ الذي كان يقصّ في عُسر، وقرأ (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) فزعم أنه السهر يرى في وجوههم.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يعقوب القمِّيُّ، عن حفص، عن شَمِر بن عَطية، في قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) قال: تهيج في الوجه من سهر الليل.
وقال آخرون: ذلك آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض، أو نَدَى الطَّهُور.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا حوثرة بن محمد المنقري، قال: ثنا حماد بن مسعدة; وحدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حرير جميعا عن ثعلبة بن سهيل، عن جعفر بن أبي المُغيرة، عن سعيد بن جُبير، في قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: ثرى الأرض، وندى الطَّهُور.
حدثنا ابن سنان القزّاز، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثناء عليّ بن المبارك، قال: ثنا مالك بن دينار، قال: سمعت عكرِمة يقول (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال: هو أثر التراب.(22/264)
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السجود، ولم يخصّ ذلك على وقت دون وقت. وإذ كان ذلك كذلك، فذلك على كلّ الأوقات، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته، وآثار أداء فرائضه وتطوّعِه، وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون به، وذلك الغرّة في الوجه والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء، وبياض الوجوه من أثر السجود.
وبنحو الذي قلنا في معنى السيما قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يقول: علامتهم أو أعلمتهم الصلاة.
وقوله (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) يقول: هذه الصفة التي وصفت لكم من صفة أتباع محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الذين معه صفتهم في التوراة.
وقوله (وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) يقول: وصفتهم في إنجيل عيسى صفة زرع أخرج شطأه، وهو فراخه، يقال منه: قد أشطأ الزرع: إذا فرَّخ فهو يشطّي إشطاء، وإنما مثلهم بالزرع المشطئ، لأنهم ابتدءوا في الدخول في الإسلام، وهم عدد قليلون، ثم جعلوا يتزايدون، ويدخل فيه الجماعة بعدهم، ثم الجماعة بعد الجماعة، حتى كثر عددهم، كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه، ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أصحابه مثلهم، يعني نعتهم(22/265)
مكتوبا في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق السموات والأرض.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قالة: ثنا عبيد، عن الضحاك (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ... إلى قوله (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) ثم قال (وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) ... الآية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ذلك (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) : أي هذا المثل في التوراة (وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) فهذا مثل أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الإنجيل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) يعني السيما في الوجوه مثلهم في التوراة، وليس بمثلهم في الإنجيل، ثم قال عزّ وجلّ: (وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) ... الآية، هذا مثلهم في الإنجيل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) .
حدثني عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن جُويبر، عن الضحاك في قول الله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) ... الآية، قال: هذا مثلهم في التوراة، ومثل آخر في الإنجيل (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) الآية.(22/266)
وقال آخرون: هذان المَثَلان في التوراة والإنجيل مثلهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) والإنجيل واحد.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: مثلهم في التوراة، غير مثَلهم في الإنجيل، وإن الخبر عن مثلهم في التوراة متناه عند قوله (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) وذلك أن القول لو كان كما قال مجاهد من أن مثلهم في التوراة والإنجيل واحد، لكان التنزيل: ومثلهم في الإنجيل، وكزرع أخرج شطأه، فكان تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) حتى يكون ذلك خبرا عن أن ذلك مَثلهم في التوراة والإنجيل، وفي مجيء الكلام بغير واو في قوله (كَزَرْعٍ) دليل بَيِّن على صحة ما قُلْنا، وأن قولهم (وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ) خبر مبتدأ عن صفتهم التي هي في الإنجيل دون ما في التوراة منها.
وبنحو الذي قلنا في قوله (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: بينا عبد الله يقرئ رجلا عند غروب الشمس، إذ مرّ بهذه الآية (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) قال: أنتم الزرع، وقد دنا حصادكم.
قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن حُمَيد الطويل، قال: قرأ أنس بن مالك: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) قال: تدرون ما شطأه؟ قال: نباته.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) قال: سنبله حين يتسلع نباته عن حباته.(22/267)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) قال: هذا مثل أصحاب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الإنجيل، قيل لهم: إنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، منهم قوم يأمرون بالمعروف، وينهوْن عن المنكر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة والزهريّ (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) قالا أخرج نباته.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) يعني: أصحاب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون ويستغلظون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أولاده، ثم كثرت أولاده.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) قال: ما يخرج بجنب الحقلة فيتمّ وينمي.
وقوله (فَآزَرَهُ) يقول: فقوّاه: أي قوى الزرعَ شطأه وأعانه، وهو من الموازرة التي بمعنى المعاونة (فَاسْتَغْلَظَ) يقول: فغلظ الزرع (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) والسوق: جمع ساق، وساق الزرع والشجر: حاملته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فآزَرَهُ) يقول: نباته مع التفافه حين يسنبل(22/268)
(ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ) فهو مثل ضربه لأهل الكتاب إذا خرج قوم ينبتون كما ينبت الزرع فيبلغ فيهم رجال يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ثم يغلظون، فهم أولئك الذين كانوا معهم. وهو مَثل ضربه الله لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: بعث الله النبيّ وحده، ثم اجتمع إليه ناس قليل يؤمنون به، ثم يكون القليل كثيرا، ويستغلظون، ويغيظ الله بهم الكفار.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (فَآزَرَهُ) قال: فشدّه وأعانه.
وقوله (عَلَى سُوقِهِ) قال: أصوله.
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة والزهري (فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) يقول: فتلاحق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَآزَرَهُ) اجتمع ذلك فالتفتّ; قال: وكذلك المؤمنون خرجوا وهم قليل ضعفاء، فلم يزل الله يزيد فيهم، ويؤيدهم بالإسلام، كما أيَّد هذا الزرع بأولاده، فآزره، فكان مثلا للمؤمنين.
حدثني عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن جُوَيبر، عن الضحاك (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) يقول: حبّ برّ نثر متفرّقا، فتنبت كلّ حبة واحدة، ثم أنبتت كل واحدة منها، حتى استغلظ فاستوى على سوقه; قال: يقول: كان أصحاب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قليلا ثم كثروا، ثم استغلظوا (لِيَغِيظَ) الله (بِهِمُ الْكُفَّارَ) .
وقوله (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) يقول تعالى ذكره: يعجب هذا الزرعُ الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحُسن نباته، وبلوغه وانتهائه الذين زرعوه (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) يقول: فكذلك مثل محمد صَلَّى الله(22/269)
عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه، واجتماع عددهم حتى كثروا ونموا، وغلظ أمرهم كهذا الزرع الذي وصف جلّ ثناؤه صفته، ثم قال (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) فدلّ ذلك على متروك من الكلام، وهو أن الله تعالى فعل ذلك بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) يقول الله: مثلهم كمثل زرع أخرج شطأه فآزَره، فاستغلظ، فاستوى على سوقه، حتى بلغ أحسن النبات، يُعْجِب الزرّاع من كثرته، وحُسن نباته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) قال: يعجب الزرّاع حُسنه (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) بالمؤمنين، لكثرتهم، فهذا مثلهم في الإنجيل.
وقوله (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) يقول تعالى ذكره: وعد الله الذين صدّقوا الله ورسوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: وعملوا بما أمرهم الله به من فرائضه التي أوجبها عليهم.
وقوله (مِنْهُمْ) يعني: من الشطء الذي أخرجه الزرع، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع الذي وصف ربنا تبارك وتعالى صفته. والهاء والميم في قوله (مِنْهُمْ) عائد على معنى الشطء لا على لفظه، ولذلك جمع فقيل: "منهم"، ولم يقل "منه". وإنما جمع الشطء لأنه أريد به من يدخل في دين محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى يوم القيامة بعد الجماعة الذين وصف الله صفتهم بقوله (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) .
وقوله (وَمَغْفِرَةً) يعني: عفوا عما مضى من ذنوبهم، وسيئ أعمالهم(22/270)
بحسنها. وقوله (وَأَجْرًا عَظِيمًا) يعني: وثوابا جزيلا وذلك الجنة.
آخر تفسير سورة الفتح(22/271)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
تفسير سورة الحجرات بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) }
يعني تعالى ذكره بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله، وبنبوّة نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يقول: لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله، محكيّ عن العرب فلان يقدّم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالبيان عن معناه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يقول: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ... الآية قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن(22/272)
أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) قال: لا تفتاتوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ذُكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا لوضع كذا وكذا، قال: فكره الله عزّ وجلّ ذلك، وقدم فيه.
وقال الحسن: أناس من المسلمين ذبحوا قبل صلاة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم النحر، فأمرهم نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعيدوا ذبحا آخر.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) قال: إن أُناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، لو أنزل في كذا، وقال الحسن: هم قوم نحروا قبل أن يصلي النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأمرهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعيدوا الذبح.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يعني بذلك في القتال، وكان (1) من أمورهم لا يصلح أن يقضى إلا بأمره ما كان من شرائع دينهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله جلّ ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) قال: لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله.
وحدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: وكل ما كان ... الخ.(22/276)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) قال: لا تقضوا أمرا دون رسول الله، وبضم التاء من قوله (لا تُقَدِّمُوا) قرأ قرّاء الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القرّاء عليها، وقد حكي عن العرب قدّمت في كذا، وتقدّمت في كذا، فعلى هذه اللغة لو كان قيل: (لا تَقَدَّمُوا) بفتح التاء (1) كان جائزا.
وقوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يقول: وخافوا الله أيها الذين آمنوا في قولكم، أن تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ولا رسوله، وفي غير ذلك من أموركم، وراقبوه، إن الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام، وتغلظون له في الخطاب (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) يقول: ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد، يا محمد، يا نبيّ الله، يا نبيّ الله، يا رسول الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن
__________
(1) والدال مشددة وهي قراءة مشهورة ليعقوب الحضرمي.(22/277)
أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) ، قال لا تنادُوه نداء، ولكن قولا لينًا يا رسول الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فوعظهم الله، ونهاهم عن ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، كانوا يرفعون، ويجهرون عند النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فوعظوا، ونهوا عن ذلك.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ... الآية، هو كقوله: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) نهاهم الله أن ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا وأمرهم أن يشرّفوه ويعظِّموه، ويدعوه إذا دعوه باسم النبوّة.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: ثنا أبو ثابت بن ثابت قيس بن الشماس، قال: ثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن شماس، عن أبيه، قال: لما نزلت هذه الآية (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) قال: قعد ثابت في الطريق يبكي، قال: فمرّ به عاصم بن عديّ من بني العَجلان، فقال: ما يُبكيك يا ثابت؟ قال: لهذه الآية، أتخوّف أن تكون نزلت فيّ، وأنا صيت رفيع الصوت قال: فمضى عاصم بن عديّ إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: وغلبه البكاء، قال: فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أَبيّ ابن سلول، فقال لها: إذا دخلتُ بيت فرسي، فشدّي على الضبة بمسمار، فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله، أو يرضى عني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم; قال: وأتى عاصم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأخبره(22/278)
خبره، فقال: اذْهَبْ فادْعُهُ لي، فجاء عاصم إلى المكان، فلم يجده، فجاء إلى أهله، فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يدعوك، فقال: اكسر الضَّبة، قال: فخرجا فأتيا نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما يُبكِيكَ يا ثابِتُ؟ فقال: أنا صيت، وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أما تَرْضَى أنْ تَعيش حَمِيدًا، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا، وَتَدْخُلَ الجَنَّةَ؟ فقال: رضيت ببُشرى الله ورسوله، لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) ... الآية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص، عن شمر بن عطية، قال: جاء ثابت بن قيس بن الشماس إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو محزون، فقال: يا ثابت ما الذي أرى بك؟ فقال: آية قرأتها الليلة، فأخشى أن يكون قد حَبِط عملي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) وكان في أُذنه صمم، فقال: يا نبيّ الله أخشى أن أكون قد رفعت صوتي، وجهرت لك بالقول، وأن أكون قد حبط عملي، وأنا لا أشعر: فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " امْشِ على الأرْضِ نَشِيطا فإنَّكَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن عكرِمة، قال: لما نزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ... الآية، قال ثابت بن قيس: فأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأجهر له بالقول، فأنا من أهل النار، فقعد في بيته، فتفقده رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وسأل عنه، فقال رجل: إنه لجاري، ولئن شئت لأعلمنّ لك علمه، فقال: نعم، فأتاه فقال: إن(22/279)
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قد تفقدك، وسأل عنك، فقال: نزلت هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ... الآية وأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأجهر له بالقول، فأنا من أهل النار، فرجع إلى رسول الله فأخبره، فقال: بَلْ هُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ; فلما كان يوم اليمامة انهزم الناس، فقال: أفّ لهؤلاء وما يعبدون، وأفّ لهؤلاء وما يصنعون، يا معشر الأنصار خلوا لي بشيء لعلي أصلى بحرّها ساعة قال: ورجل قائم على ثلمة، فقَتل وقُتل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزُّهريّ، أن ثابت بن قيس بن شماس، قال: لما نزلت (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) قال: يا نبيّ الله، لقد خشيت أن أكون قد هلكت، نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وإني امرؤ جهير الصوت، ونهى الله المرء أن يحبّ أن يُحمد بما لم يفعل، فأجدني أحبّ أن أُحمد; ونهى الله عن الخُيَلاء وأجدني أحبّ الجمال; قال: فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا ثابت أما تَرْضَى أنْ تَعِيشَ حَمِيدًا، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا، وَتَدْخُلَ الجَنَّةَ؟ فعاش حميدا، وقُتل شهيدا يوم مُسَيلمة.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا نافع بن عمر بن جميل الجمحي، قال: ثني ابن أَبي مليكة، عن الزبير، قال: " قدم وفد أراه قال تميم، على النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، منهم الأقرع بن حابس، فكلم أبو بكر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يستعمله على قومه، قال: فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله، قال: فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما عند النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك. قال: ونزل القرآن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ... إلى قوله (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) قال: فما حدّث عمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعد ذلك، فَيُسْمِعَ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: وما(22/280)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
ذكر ابن الزبير جدّه، يعني أبا بكر.
وقوله (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) يقول: أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لكم عليها، ولا جزاء برفعكم أصواتكم فوق صوت نبيكم، وجهركم له بالقول كجهر بعضكم لبعض.
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك، فقال بعض نحويي الكوفة: معناه: لا تحبط أعمالكم. قال: وفيه الجزم والرفع إذا وضعت "لا" مكان "أن". قال: وهي في قراءة عبد الله (فَتَحْبَطْ أَعْمَالُكُمْ) وهو دليل على جواز الجزم، وقال بعض نحويي البصرة: قال: أن تحبط أعمالكم: أي مخافة أن تحبط أعمالكم وقد يقال: أسند الحائط أن يميل.
وقوله (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) يقول: وأنتم لا تعلمون ولا تدرون.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين يكفون رفع أصواتهم عند رسول الله، وأصل الغضّ: الكفّ في لين. ومنه: غضّ البصر، وهو كفه عن النظر، كما قال جرير:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْر ... فَلا كَعْبا بَلَغتَ وَلا كِلابا (1)
__________
(1) البيت لجرير بن الخطفي، من قصيدة يهجو بها الراعي النميري الشاعر. (ديوانه 64) يقول له. غض نظرك أي كف بصرك ذلا ومهانة. وهذا موضع الشاهد عند قوله تعالى " يغضون أصواتهم عند رسول الله " وهو من ذلك. قال في " اللسان: غض ": وغض طرفه وبصره، يغضه غضا وغضاضا (ككتاب) وغضاضة (كسحابة) فهو مغضوض وغضيض " كفه وخفضه وكسره، وقيل: هو إذا دانى بين جفونه ونظر. وقيل: الغضيض: الطرف المسترخي الأجفان. وفي الحديث " كان إذا فرح غض طرفه "، أي كسره وأطرق، ولم يفتح عينيه. وإنما كان يفعل ذلك، ليكون أبعد من الأشر والمرح. أهـ. وكعب وكلاب: حيان من تميم.(22/281)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
وقوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله، هم الذين اختبر الله قلوبهم بامتحانه إياها، فاصطفاها وأخلصها للتقوى، يعني لاتقائه بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخلص جيدها، ويبطل خبثها (1) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) قال: أخلص.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) قال: أخلص الله قلوبهم فيما أحبّ.
وقوله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يقول: لهم من الله عفو عن ذنوبهم السالفة، وصفح منه عنها لهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) يقول: وثواب جزيل، وهو الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ 4 وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
__________
(1) الضمير في جيدها وخبثها: راجع إلى الذهب، لأنها مؤنثة، وقد تذكر.(22/282)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إن الذين ينادونك يا محمد من وراء حجراتك، والحجرات: جمع حجرة، والثلاث: حُجَر، ثم تجمع الحجر فيقال: حجرات وحُجْرات، وقد تجمع بعض العرب الحجر:(22/282)
حَجرات بفتح الجيم، وكذلك كلّ جمع كان من ثلاثة إلى عشرة على فُعَلٍ يجمعونه على فعَلات بفتح ثانيه، والرفع أفصح وأجود; ومنه قول الشاعر:
أما كانَ عَبَّادٌ كَفِيئا لِدَارِم ... بَلى، وَلأبْياتٍ بِها الحُجُرَات (1) يقول: بلى ولبني هاشم.
وذُكر أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في قوم من الأعراب جاءوا ينادون رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من وراء حجراته: يا محمد اخرج إلينا.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا أبو عمار المروزي، والحسن بن الحارث، قالا ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق، عن البرّاء في قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: يا محمد إنّ حمدي زين، وإن ذمِّي شين، فقال: "ذَاكَ اللهُ تَباركَ وتَعَالى".
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن أبي إسحاق، عن البراء بمثله، إلا أنه قال: ذاكم الله عزّ وجلّ.
__________
(1) في كتاب الكامل للمبرد (طبعة الحلبي 85) : يقال: فلان كفاء فلان، وكفيء فلان، وكفء فلان؛ أي: عديله. ويروى أن الفرزدق بلغه أن رجلا من الحبطات بن عمرو بن تميم خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فقال الفرزدق: بَنُو دَارِمٍ أكْفاؤُهُمْ آلُ مِسْمَعٍ ... وتنكح في أكفائها الحَبِطاتُ
(آل مسمع بيت بكر بن وائل في الإسلام، وهم من بني قيس بن ثعلبة بن عكابة) قال: فقال رجل من الحبطات: " أما كان عباد كفيئا ... " البيت. يعني بني هاشم (يريد أبيات بني هاشم) من قول الله عز وجل: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ". والشاهد في البيت قوله " الحجرات " بضم الحاء والجيم، وهي جمع حجرة، وتجمع الحجرة وما شابهها على حجرات بضمتين، وبضم ففتح، وبضم فسكون. ويرى المؤلف أن الجمع الأول أفصح وأجود. أهـ.(22/283)
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا المعتمر بن سليمان التيمي، قال: سمعت داود الطُّفاوي يقول: سمعت أبا مسلم البجلي يحدث عن زيد بن أرقم، قال: جاء أناس من العرب إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملِكا نعش في جناحه; قال: فأتيت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأخبرته بذلك، قال: ثم جاءوا إلى حجر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجعلوا ينادونه. يا محمد، فأنزل الله على نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) قال: فأخذ نبيّ الله بأذني فمدّها، فجعل يقول: " قَدْ صَدَّقَ اللهُ قَوْلَكَ يا زَيْدُ، قَدْ صَدَّقَ اللهُ قَوْلَكَ يا زَيْدُ".
حدثنا الحسن بن أبي يحيى المقدمي، قال: ثنا عفان، قال: ثنا وُهَيب، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن أبي سَلَمة، قال: ثني الأقرع بن حابس التميميّ أنه أتى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فناداه، فقال: يا محمد إن مدحي زين، وإن شتمي شين; فخرج إليه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: وَيْلَكَ ذَلِكَ اللهُ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) ... الآية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) : أعراب بني تميم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة "أن رجلا جاء إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فناداه من وراء الحُجَر، فقال: يا محمد إنّ مدحي زين، وإنّ شتمي شَيْن; فخرج إليه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: وَيْلَكَ ذلكَ اللهُ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) ... الآية، ذُكر لنا أن رجلا جعل ينادي يا(22/284)
نبيّ الله يا محمد، فخرج إليه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: ما شأنُكَ؟ فقال: والله إنّ حمده لزين، وإنّ ذمَّه لَشَيْن، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ذَاكُمُ اللهُ، فأدبر الرجل، وذُكر لنا أن الرجل كان شاعرا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، قال: كان بشر بن غالب ولَبيد بن عُطارد، أو بشر بن عُطارد ولبيد بن غالب، وهما عند الحجاج جالسان، يقول بشر بن غالب للبيد بن عطارد نزلت في قومك بني تميم (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) فذكرت ذلك لسعيد بن جُبير، فقال: أما إنه لو علم بآخر الآية، أجابه (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) قالوا: أسلمنا، ولم يقاتلك بنو أسد.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: "أتى أعرابيّ إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من وراء حجراته، فقال: يا محمد، يا محمد; فخرج إليه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: مالك؟ مالك؟، فقال: تعلم أنّ مدحي لزين، وأن ذمِّي لشين، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ذَاكُمُ اللهُ، فنزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ".
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) فقرأته قرّاء الأمصار بضمّ الحاء والجيم من الحُجُرات، سوى أبي جعفر القارئ، فإنه قرأ بضم الحاء وفتح الجيم على ما وصفت من جمع الحُجرة حُجَر، ثم جمع الحُجْر: حُجُرات".
والصواب من القراءة عندنا الضم في الحرفين كليهما لما وصفت قبل.
وقوله (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) يقول: أكثرهم جهال بدين الله، واللازم لهم من حقك وتعظيمك.
وقوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) يقول تعالى ذكره: ولو أن هؤلاء الذين ينادونك يا محمد من وراء الحجرات صبروا فلم ينادوك حتى تخرج إليهم إذا خرجت، لكان خيرا لهم عند الله، لأن الله قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك، فهم بتركهم نداءك تاركون ما قد نهاهم الله عنه، (وَاللَّهُ(22/285)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: الله ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب، إن هو تاب من معصية الله بندائك كذلك، وراجع أمر الله في ذلك، وفي غيره; رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) عن قوم (فَتَبَيَّنُوا) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (فَتَبَيَّنُوا) فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة (فَتَثَبَّتُوا) بالثاء، وذُكر أنها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء. وقرأ ذلك بعض القرّاء فتبيَّنوا بالباء، بمعنى: أمهلوا حتى تعرفوا صحته، لا تعجلوا بقبوله، وكذلك معنى (فَتَثَبَّتُوا) .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط.
* ذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا جعفر بن عون، عن موسى بن عبيدة، عن ثابت موْلى أمّ سلمة، عن أمّ سلمة، قالت: " بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت: فرجع إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمسلمون قال: فبلغ القوم رجوعه قال: فأتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فصفوا(22/286)
له حين صلى الظهر فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلا مصدّقا، فسررنا بذلك، وقرّت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال، وأذّن بصلاة العصر; قال: ونزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) . . . الآية، قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ثم أحد بني عمرو بن أمية، ثم أحد بني أبي معيط إلى بني المصطلق، ليأخذ منهم الصدقات، وإنه لما أتاهم الخبر فرحوا، وخرجوا ليَتَلَقَّوْا رسول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإنه لما حدّث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم غضبا شديدا، فبينما هو يحدّث نفسه أن يغزوهم، إذ أتاه الوفد، فقالوا: يا رسول الله، إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن يكون إنما ردّه كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم في الكتاب، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد "في قوله (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) قال: الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى بني المصطلق، ليصدّقهم، فتلقوه بالهدية فرجع إلى محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: إن بني المصطلق جمعت(22/287)
لتقاتلك".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) ... حتى بلغ (بِجَهَالَةٍ) وهو ابن أبي معيط الوليد بن عقبة، بعثه نبيّ لله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مصدّقا إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه، فهابهم، فرجع إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأخبره أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام، فبعث نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبَّت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه; فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد، فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأخبره الخبر، فأنزل الله عزّ وجلّ ما تسمعون، فكان نبيّ الله يقول: التَّبَيُّنُ مِنَ اللهِ، والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطان".
حدثنا بن عبد الأعلى، قال: ثنا أبن ثور، عن معمر، عن قتادة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) فذكر نحوه.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن هلال الوزّان، عن ابن أبي ليلى، في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) قال: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حُمَيد، عن هلال الأنصاري، عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) قال: نزلت في الوليد بن عقبة حين أُرسل إلى بني المصطلق.
قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم، الوليد بن أبي معيط; فلما سمعوا به ركبوا إليه; فلما سمع بهم خافهم فرجع إلى رسول الله صلى الله، فأخبره أن القوم قد هَموا بقتله، ومنعوا ما قِبَلهم من صدقاتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى همّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأن يغزوهم، فبينما هم في ذلك قَدِم وفدهم على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ(22/288)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
وَسَلَّم، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ولنؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاستمرّ راجعا، فبلغنا أنه يزعم لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنا خرجنا إليه لنقاتله، ووالله ما خرجنا لذلك; فأنزل الله في الوليد بن عقبة وفيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) ... الآية.
قال: (1) بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا من أصحابه إلى قوم يصدقهم، فأتاهم الرجل، وكان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية; فلما أتاهم رحبوا به، وأقرّوا بالزكاة، وأعطوا ما عليهم من الحقّ، فرجع الرجل إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: يا رسول الله، منع بنو فلان الصدقة، ورَجعوا عن الإسلام، فغضب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وبعث إليهم فأتوْه فقال: أمَنَعْتُمُ الزَّكاةَ، وَطَرَدْتُمْ رَسُولي؟ " فقالوا: والله ما فعلنا، وإنا لنعلم أنك رسول الله، ولا بدّ لنا، ولا منعنا حقّ الله في أموالنا، فلم يصدقهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأنزل الله هذه الآية، فعذرهم.
وقوله (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) يقول تعالى ذكره: فتبيَّنوا لئلا تصيبوا قوما برآء مما قذفوا به بجناية بجهالة منكم (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) يقول: فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) }
يقول تعالى ذكره: لأصحاب نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: واعلموا أيها
__________
(1) يظهر أن هذا بدء رواية أخرى، أوردها في الدر عن جابر.(22/289)
المؤمنون بالله ورسوله، (أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) فاتقوا الله أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرّفه أنباءكم، ويقوّمه على الصواب في أموره.
وقوله (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ) يقول تعالى ذكره: لو كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يعمل في الأمور بآرائكم ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم (لَعَنِتُّمْ) يقول: لنالكم عنت، يعني الشدّة والمشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم لأنه كان يخطئ في أفعاله كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق: إنهم قد ارتدّوا، ومنعوا الصدقة، وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم، كان قد قتل، وقتلتم من لا يحلّ له ولا لكم قتله، وأخذ وأخذتم من المال ما لا يحلّ له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين، فنالكم من الله بذلك عنت (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ) بالله ورسوله، فأنتم تطيعون رسول الله، وتأتمون به فيقيكم الله بذلك من العنت ما لو لم تطيعوه وتتبعوه، وكان يطيعكم لنالكم وأصابكم.
وقوله (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) يقول: وحسن الإيمان في قلوبكم فآمنتم (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) بالله (وَالْفُسُوقَ) يعني الكذب، (وَالْعِصْيَانَ) يعني ركوب ما نهى الله عنه في خلاف أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وتضييع ما أمر الله به (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) يقول: هؤلاء الذين حبَّب الله إليهم الإيمان، وزيَّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون السالكون طريق الحق.
وقوله (فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) يقول: ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان، وأنعم عليكم هذه النعمة التي عدّها فضلا منه، وإحسانا ونعمة منه أنعمها عليكم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يقول: والله ذو علم بالمحسن منكم من المسيء، ومن هو لنعم الله وفضله أهل، ومن هو لذلك غير أهل، وحكمة في تدبيره خلقه،(22/290)
وصرفه إياهم فيما شاء من قضائه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) ... حتى بلغ (لَعَنِتُّمْ) هؤلاء أصحاب نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، لو أطاعهم نبيّ الله في كثير من الأمر لعنتم، فأنتم والله أسخف رأيا، وأطيش عقولا اتهم رجل رأيه، وانتصح كتاب الله، وكذلك كما قلنا أيضا في تأويل قوله (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ) قالوا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) قال: حببه إليهم وحسَّنه في قلوبهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) قالوا أيضا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ) قال: الكذب والعصيان; قال: عصيان النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) من أين كان هذا؟ قال: فضل من الله ونعمة; قال: والمنافقون سماهم الله أجمعين في القرآن الكاذبين; قال:(22/291)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
والفاسق: الكاذب في كتاب الله كله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) }
يقول تعالى ذكره: وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى) يقول: فإن أبَت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له، وعليه وتعدّت ما جعل الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) يقول: فقاتلوا التي تعتدي، وتأبى الإجابة إلى حكم الله (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) يقول: حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل: يعني بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه.
وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) فإن الله سبحانه أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا حكم فيهم(22/292)
بكتاب الله، حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، فحقّ على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويقرّوا بحكم الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ... إلى آخر الآية، قال: هذا أمر من الله أمر به الوُلاة كهيئة ما تكون العصبة بين الناس، وأمرهم أن يصلحوا بينهما، فإن أبوْا قاتل الفئة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله، فإذا رجعت أصلحوا بينهما، وأخبروهم أن المؤمنين إخوة، فأصلحوا بين أخويكم; قال: ولا يقاتل الفئة الباغية إلا الإمام.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه، مما سأذكره إن شاء الله تعالى.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس، قال: قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لو أتيت عبد الله بن أُبيّ، قال: فانطلق إليه وركب حمارا، وانطلق المسلمون، وهي أرض سبخة; فلما أتاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لنتن حمار رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أطيب ريحا منك، قال: فغضب لعبد الله بن أُبيّ رجل من قومه قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه نزلت فيهم (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) .
حدثني أبو حُصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثني حصين، عن أبي مالك في قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) قال: رجلان اقتتلا فغضب لذا قومه، ولذا قومه، فاجتمعوا(22/293)
حتى اضربوا بالنعال حتى كاد يكون بينهم قتال، فأنزل الله هذه الآية.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، في قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قال: كان بينهم قتال بغير سلاح.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، في قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) قال: كانا حيين من أحياء الأنصار، كان بينهما تنازع بغير سلاح.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: أخبرنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) قال: كان قتالهم بالنعال والعصيّ، فأمرهم أن يصلحوا بينهم.
قال: ثنا مهران، قال: ثنا المُبارك بن فَضَالة، عن الحسن (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قال: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعوهم إلى الحكم، فيأبَوْن أن يجيبوا فأنزل الله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) يقول: ادفعوهم إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع.
قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن السديّ (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد، تحت رجل، فكان بينها وبين زوجها شيء، فرقاها إلى علية، فقال لهم: احفظوا، فبلغ ذلك قومها، فجاءوا وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي والنعال فبلغ ذلك النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجاء ليصلح بينهم، فنزل القرآن (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى) قال: تبغي: لا ترضى بصلح رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أو بقضاء رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح،(22/294)
عن مجاهد، قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قال: الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصيّ بينهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ... الآية، ذُكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حقّ بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته، وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر حتى تدافعوا، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف، فأمر الله أن تُقاتل حتى تفيء إلى أمر الله، كتاب الله، وإلى حكم نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم; وليست كما تأوّلها أهل الشبهات، وأهل البدع، وأهل الفراء على الله وعلى كتابه، أنه المؤمن يحلّ لك قتله، فوالله لقد عظَّم الله حُرمة المؤمن حتى نهاك أن تظنّ بأخيك إلا خيرا، فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ... الآية.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، أن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي، فأنزل الله فيهم (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قال قتادة: كان رجلان بينهما حقّ، فتدارءا فيه، فقال أحدهما: لآخذنَّه عنوة، لكثرة عشيرته; وقال الآخر: بيني وبينك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال: ثني عبد الله بن عباس، قال: قال زيد، في قول الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) ، وذلك الرجلان يقتتلان من أهل الإسلام، أو النفر والنفر، أو القبيلة والقبيلة; فأمر الله أئمة المسلمين أن يقضوا بينهم بالحقّ الذي أنزله في كتابه: إما القصاص والقود، وإمَّا العقل والعير، وإمَّا العفو، (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى) بعد ذلك كان المسلمون مع المظلوم على(22/295)
الظالم، حتى يفيء إلى أمر الله، ويرضى به.
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرنا ابن جُرَيج، قال: ثني ابن شهاب وغيره: يزيد في الحديث بعضهم على بعض، قال: "جلس رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في مجلس فيه عبد الله بن رواحة، وعبد الله بن أُبيّ بن سلول: فلما ذهب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال عبد الله بن أُبيّ بن سلول: لقد آذانا بول حماره، وسدّ علينا الروح، وكان بينه وبين ابن رواحة شيء حتى خرجوا بالسلاح، فأتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأتاهم، فحجز بينهم، فلذلك يقول عبد الله بن أُبيّ:
مَتى ما يَكُنْ مَوْلاكَ خَصْمَكَ جاهدا ... تُظَلَّم وَيَصْرَعْكَ الَّذينَ تُصَارِعُ (1)
قال: فأنزلت فيهم هذه الآية (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) .
وقوله (وَأَقْسِطُوا) يقول تعالى ذكره: واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يقول: إن الله يحب العادلين في أحكامهم، القاضين بين خلقه بالقسط.
__________
(1) البيت لعبد الله بن أبي بن سلول، كما عزاه المؤلف. وقد وردت قصيدة ابن سلول هذه في السيرة لابن هشام الطبعة الأولى بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة 2: 236، 237. وورد في أثنائها البيت ومعه بيت آخر، رواه ابن هشام عن غير ابن إسحاق وهما: متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل ... تذل ويصرعك الذين تصارع
وهل ينهض البازي بغير جناحه ... وإن جذ يوما ريشه فهو واقع
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا، قاصدًا إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه، فمر بطريقه بأطم ابن سلول، فنزل يسلم عليه، وتلا عنده شيئا من القرآن. فكلم رسول الله كلامًا خشنًا، ونهاه أن يغشى مجالس الأنصار، ويعرض عليهم القرآن. وكان ابن رواحة حاضرًا، فتلطف برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بلى فاغشنا به، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا، هو والله مما نحب، ومما أكرمنا الله به، وهدانا له، فقال ابن أبي حين رأى من خلاف قومه ما رأى ... البيتين.(22/296)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) في الدين (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله وحكم رسوله. ومعنى الأخوين في هذا الموضع: كل مقتتلين من أهل الإيمان، وبالتثنية قرأ ذلك قرّاء الأمصار. وذُكر عن ابن سيرين أنه قرأ بين إخوانكم بالنون على مذهب الجمع، وذلك من جهة العربية صحيح، غير أنه خلاف لما عليه قرّاء الأمصار، فلا أحب القراءة بها (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يقول تعالى ذكره: وخافوا الله أيها الناس بأداء فرائضه عليكم في الإصلاح بين المقتتلين من أهل الإيمان بالعدل، وفي غير ذلك من فرائضه، واجتناب معاصيه، ليرحمكم ربكم، فيصفح لكم عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه، واتبعتم أمره ونهيه، واتقيتموه بطاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) يقول: المهزوء منهم خير من الهازئين (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) يقول: ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات، عسى المهزوء منهنّ أن يكنّ خيرا من الهازئات.
واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى الله عنها المؤمنين في هذه الآية،(22/297)
فقال بعضهم: هي سخرية الغنيّ من الفقير، نهي أن يسخر من الفقير لفقره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) قال: لا يهزأ قوم بقوم أن يسأل رجل فقير غنيا، أو فقيرا، وإن تفضل رجل عليه بشيء فلا يستهزئ به.
وقال آخرون: بل ذلك نهي من الله من ستر عليه من أهل الإيمان أن يسخر ممن كشف في الدنيا ستره منهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) قال: ربما عثر على المرء عند خطيئته عسى أن يكونوا خيرا منهم، وإن كان ظهر على عثرته هذه، وسترت أنت على عثرتك، لعلّ هذه التي ظهرت خير له في الآخرة عند الله، وهذه التي سترت أنت عليها شرّ لك، ما يدريك لعله ما يغفر لك; قال: فنهي الرجل عن ذلك، فقال (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) وقال في النساء مثل ذلك.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك.
وقوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) يقول تعالى ذكره: ولا يغتب بعضكم بعضا أيها المؤمنون، ولا يطعن بعضكم على بعض; وقال: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) فجعل اللامز أخاه لامزا نفسه، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير. ولذلك رُوي الخبر عن(22/298)
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: "المُؤْمِنُونَ كالجَسَدِ الواحِد إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائِرُ جَسَدِهِ بالحُمَّى والسَّهَر". وهذا نظير قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بمعنى: ولا يقتل بعضكم بعضا.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) قال: لا تطعنوا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) يقول: ولا يطعن بعضكم على بعض.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) يقول: لا يطعن بعضكم على بعض.
قوله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) يقول: ولا تداعوا بالألقاب; والنبز واللقب بمعنى واحد، يُجمع النبز: أنبازا، واللقب: ألقابا.
واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الآية، فقال بعضهم: عنى بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقَّب، وقالوا: إنما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا نهوا أن يدعو بعضهم بعضا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود،(22/299)
عن عامر، قال: قال أبو جبيرة بن الضحاك: فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة، قدِم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وما منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا الرجل بالاسم، قلنا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا، فنزلت هذه الآية (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) ... الآية كلها.
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر، عن أبي جُبيرة بن الضحاك، قال: كان أهل الجاهلية يسمون الرجل بالأسماء، فدعا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا باسم من تلك الأسماء، فقالوا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا، فأنزل الله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، قال: ثني أبو جُبيرة بن الضحاك، فذكر عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، نحوه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا داود عن الشعبيّ، قال: ثني أبو جبيرة بن الضحاك، قال: نزلت في بني سلمة (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: قَدِم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان يدعو الرجل، فتقول أمه: إنه يغضب من هذا قال، فنزلت (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) . وقال مرّة: كان إذا دعا باسم من هذا، قيل: يا رسول الله إنه يغضب من هذا، فنزلت الآية.
وقال آخرون: بل ذلك قوم الرجل المسلم للرجل المسلم: يا فاسق، يا زان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، قال: سألت عكرِمة، عن قول الله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: هو قول الرجل للرجل: يا منافق، يا كافر.(22/300)
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال أخبرنا حصين، عن عكرِمة، في قوله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حصين، عن عكرِمة (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: يا فاسق، يا كافر.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد أو عكرِمة (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: يقول الرجل للرجل: يا فاسق، يا كافر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: دُعي رجل بالكفر وهو مسلم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) يقول الرجل: لا تقل لأخيك المسلم: ذاك فاسق، ذاك منافق، نهى الله المسلم عن ذلك وقدّم فيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) يقول: لا يقولنّ لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: تسميته بالأعمال السيئة بعد الإسلام زان فاسق.
وقال آخرون: بل ذلك تسمية الرجل الرجل بالكفر بعد الإسلام، والفسوق والأعمال القبيحة بعد التوبة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) ... الآية، قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات(22/301)
ثم تاب منها، وراجع الحقّ، فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن: كان اليهودي والنصرانيّ يسلم، فيلقب فيقال له: يا يهوديّ، يا نصراني، فنهوا عن ذلك.
والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب؛ والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمّ الله بنهية ذلك، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه، أو صفة يكرهها. وإذا كان ذلك كذلك صحت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها، ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض، لأن كلّ ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا.
وقوله (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدّم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا، بئس الاسم الفسوق، وترك ذكر ما وصفنا من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ) عليه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثنا به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) قال: بئس الاسم الفسوق حين تسميه بالفسق بعد الإسلام، وهو على الإسلام. قال: وأهل هذا الرأي هم المعتزلة، قالوا: لا نكفره كما كفره أهل الأهواء، ولا نقول له مؤمن كما قالت الجماعة، ولكنا نسميه باسمه إن كان سارقا فهو سارق، وإن كان خائنا سموه خائنا; وإن كان زانيا سموه زانيا قال: فاعتزلوا الفريقين أهل الأهواء وأهل الجماعة، فلا بقول هؤلاء قالوا، ولا بقول هؤلاء، فسموا بذلك المعتزلة.(22/302)
فوجه ابن زيد تأويل قوله (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) إلى من دعي فاسقا، وهو تائب من فسقه، فبئس الاسم ذلك له من أسمائه ... وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدّم بالنهي عما تقدّم بالنهي عنه في أوّل هذه الآية، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدّم على بغيه، أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهى عنه، لا أن يخبر عن قُبح ما كان التائب أتاه قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح، فيختم آخرها بالوعيد عليه أو بالقبيح.
وقوله (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يقول تعالى ذكره: ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال: ومن لم يتب من ذلك الفسوق فأولئك هم الظالمون.(22/303)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا تقربوا كثيرا من الظنّ بالمؤمنين، وذلك إن تظنوا بهم سوءا، فإن الظانّ غير محقّ، وقال جلّ ثناؤه: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) ولم يقل: الظنّ كله، إذ كان قد أذن للمؤمنين(22/303)
أن يظن بعضهم ببعض الخير، فقال: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) فأذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير وأن يقولوه، وإن لم يكونوا من قيله فيهم على يقين.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) يقول: نهى الله المؤمن أن يظنّ بالمؤمن شرّا.
وقوله (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) يقول: إن ظنّ المؤمن بالمؤمن الشرّ لا الخير إثم، لأن الله قد نهاه عنه، ففعل ما نهى الله عنه إثم.
وقوله (وَلا تَجَسَّسُوا) يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَجَسَّسُوا) يقول: نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَلا تَجَسَّسُوا) قال: خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا) هل تدرون ما التجسس أو التجسيس؟ هو أن تتبع، أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سرّه.(22/304)
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَلا تَجَسَّسُوا) قال: البحث.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا) قال: حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه، حتى أعرف حقّ هو، أم باطل؟ ; قال: فسماه الله تجسسا، قال: يتجسس كما يتجسس الكلاب، وقرأ قول الله (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) وقوله (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) يقول: ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك، والأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
حدثني يزيد بن مخلد الواسطيّ، قال: ثنا خالد بن عبد الله الطحان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: "سُئل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الغيبة، فقال: هُوَ أنْ تَقُولَ لأخِيكَ ما فِيهِ، فإنْ كُنْتَ صَادِقا فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ كُنْتَ كاذِبا فَقَدْ بَهَتَّهُ".
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت العلاء يحدّث، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "هَلْ تَدْرُونَ ما الغيبة؟ قال: قالوا الله ورسوله أعلم; قال: ذِكْرُكَ أخاكَ بِمَا لَيْسَ فِيه، قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول له; قال: إنْ كان فِيه ما تَقُولُ(22/305)
فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سعيد بن الربيع، قال: ثنا شعبة، عن العباس، عن رجل سمع ابن عمر يقول: "إذا ذكرت الرجل بما فيه، فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بَهَتَّهُ". وقال شعبة مرّة أخرى: "وإذا ذكرته بما ليس فيه، فهي فِرْية قال أبو موسى: هو عباس الجَريريّ.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق قال: إذا ذكرت الرجل بأسوأِ ما فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: إذا قلت في الرجل ما ليس فيه فقد بَهَته.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عمر بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال الغيبَة: أن يقول للرجل أسوأ ما يعلم فيه، والبهتان: أن يقول ما ليس فيه.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم، مولى معاوية، قال: سمعت ابن أمّ عبد يقول: ما التقم أحد لقمة أشرّ من اغتياب المؤمن، إن قال فيه ما يعلم فقد اغتابه، وإن قاله فيه ما لا يعلم فقد بَهَتَه.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: إذا ذكرت الرجل بما فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت يونس، عن الحسن أنه قال في الغيبة: أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوئ أعماله، فإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان.(22/306)
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيبانيّ، قال: ثنا حسان بن المخارق " أن امرأة دخلت على عائشة; فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أي أنها قصيرة، فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: اغْتَبْتِها".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: لو مرّ بك أقطع، فقلت: ذاك الأقطع، كانت منك غيبة; قال: وسمعت معاوية بن قرة يقول ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت معاوية بن قُرة يقول: لو مرّ بك رجل أقطع، فقلت له: إنه أقطع كنت قد اغتبته، قال: فذكرت ذلك لأبي إسحاق الهمداني فقال: صدق.
حدثني جابر بن الكرديّ، قال: ثنا ابن أبي أويس، قال: ثني أخي أبو بكر، عن حماد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة " أن رجلا قام عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فرأوا في قيامه عجزا، فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أكَلْتُم أخاكُمْ واغَتَبْتُمُوه".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا حبان بن عليّ العنزيّ عن مثنى بن صباح، عن عمرو بن شعيب، عن معاذ بن جبل، قال: "كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذكر القوم رجلا فقالوا: ما يأكل إلا ما أطعم، وما يرحل إلا ما رحل له، وما أضعفه; فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: اغْتَبْتُمْ أخاكُمْ، فقالوا يا رسول الله وغيبته أن نحدّث بما فيه؟ قال: بحَسْبِكُمْ أنْ تُحَدِّثُوا عن أخِيكُمْ ما فِيه".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا خالد بن محمد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إذَا ذَكَرْتَ أخاكَ بما يَكْرَهُ فإنْ كانَ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ(22/307)
فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: "كنا نحدّث أن الغيبة أن تذكر أخاك بما يشينه، وتعيبه بما فيه، وإن كذبت عليه فذلك البهتان".
وقوله (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) يقول تعالى ذكره للمؤمنين أيحبّ أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه، لأن الله حرّم ذلك عليكم، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته، فاكرهوا غيبته حيا، كما كرهتم لحمه ميتا، فإن الله حرّم غيبته حيا، كما حرم أكل لحمه ميتا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) قال: حرّم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء، كما حرّم المَيْتة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) قالوا: نكره ذلك، قال: فكذلك فاتقوا الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) يقول: كما أنت كاره لو وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها، فكذلك فاكره غيبته وهو حيّ.
وقوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: فاتقوا الله أيها الناس، فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظنّ أحدكم بأخيه المؤمن(22/308)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
ظنّ السوء، وتتبع عوراته، والتجسس عما ستر عنه من أمره، واغتيابه بما يكرهه، تريدون به شينه وعيبه، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها ربكم (إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) يقول: إن الله راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه، رحيم به بأن يعاقبه على ذنب أذنبه بعد توبته منه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) فقرأته عامة قرّاء المدينة بالتثقيل (مَيِّتا) ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة (مَيْتا) بالتخفيف، وهما قراءتان عندنا معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس إنا أنشأنا خلقكم من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة، وقد قال تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قوله (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) قال: ما خلق الله الولد إلا من نطفة الرجل والمرأة جميعا، لأن الله يقول (خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) .
وقوله (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) يقول: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبًا; فالمناسب(22/309)
النسب البعيد من لم ينسبه أهل الشعوب، وذلك إذا قيل للرجل من العرب: من أيّ شعب أنت؟ قال: أنا من مضر، أو من ربيعة. وأما أهل المناسبة القريبة أهل القبائل، وهم كتميم من مضر، وبكر من ربيعة، وأقرب القبائل الأفخاذ وهما كشيبان من بكر ودارم من تميم، ونحو ذلك، ومن الشَّعْب قول ابن أحمر الباهلي:
مِن شَعْبِ هَمْدانَ أوْ سَعْدِ العَشِيرَة أوْ ... خَوْلانَ أو مَذْحِجٍ هَاجُوا لَهُ طَرَبا (1)
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: ثنا أبو حُصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: الجُمَّاع والقبائل: البطون.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، في قوله (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: الجُمَّاع. قال خلاد، قال أبو بكر: القبائل العظام، مثل بني تميم، والقبائل: الأفخاذ.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبَير (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: الجمهور، والقبائل: الأفخاذ.
__________
(1) البيت لابن أحمر الباهلي، كما نسبه المؤلف. والشاهد فيه كلمة " الشعب "، وهو الفرع الكبير من الأصل، يجمع عددا من القبائل، كما أوضحه المؤلف. وقال النويري في (نهاية الأرب 2: 284) الشعب: هو الذي يجمع القبائل، وتتشعب منه. وفي مجاز القرآن لأبي عبيد (الورقة 225 - 1) : " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ": يقال: من أي شعب أنت؟ فتقول: من مضر، من ربيعة، والقبائل دون ذلك. قال ابن أحمر " من شعب همدان ... البيت ".(22/310)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (شُعُوبًا) قال: النسب البعيد. (وَقَبَائِلَ) دون ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: النسب البعيد، والقبائل كقوله: فلان من بني فلان، وفلان من بني فلان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة. (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا) قال: هو النسب البعيد. قال: والقبائل: كما تسمعه يقال: فلان من بني فلان.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا) قال: أما الشعوب: فالنسب البعيد.
وقال بعضهم: الشعوب: الأفخاذ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبير (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: الأفخاذ، والقبائل: القبائل.
وقال آخرون: الشعوب: البطون، والقبائل: الأفخاذ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن طلحة، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: البطون، والقبائل: الأفخاذ الكبار.
وقال آخرون: الشعوب: الأنساب.(22/311)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: الأنساب.
وقوله (لِتَعَارَفُوا) يقول: ليعرف بعضكم بعضا في النسب، يقول تعالى ذكره: إنما جعلنا هذه الشعوب والقبائل لكم أيها الناس، ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقُربة تقرّبكم إلى الله، بل أكرمكم عند الله أتقاكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) قال: جعلنا هذا لتعارفوا، فلان بن فلان من كذا وكذا.
وقوله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) يقول تعالى ذكره: إن أكرمكم أيها الناس عند ربكم، أشدّكم اتقاء له بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا ولا أكثركم عشيرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن لهيعة، عن(22/312)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
الحارث بن يزيد، عن عليّ بن رباح، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "النَّاسُ لآدَمَ وَحَوَّاءَ كَطَفِّ الصَّاعِ لَمْ يَمْلأوهُ، إنَّ اللهُ لا يسألُكُمْ عَنْ أحْسابِكُمْ وَلا عَنْ أنْسابِكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ، إن أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عليّ بن رباح، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إنَّ أنْسابِكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَسابٍّ عَلى أحَدٍ، وإنَّمَا أنْتُمْ وَلَدُ آدَمَ طَفَّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلأوهُ، لَيْسَ لأحَدٍ على أحَدٍ فضْلٌ إلا بِديْنٍ أوْ عَمَلٍ صالِحٍ حَسْبُ الرَّجُل أنْ يَكُونَ فاحِشا بَذيًّا بَخِيلا جَبانا".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جُرَيْج، قال: سمعت عطاء يقول: قال ابن عباس: " ثلاث آيات جحدهنّ الناس: الإذن كله، وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وقال الناس أكرمكم: أعظمكم بيتا; وقال عطاء: نسيت الثالثة".
وقوله (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الناس ذو علم بأتقاكم عند الله وأكرمكم عنده، ذو خبرة بكم وبمصالحكم، وغير ذلك من أموركم، لا تخفى عليه خافية.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) }
يقول تعالى ذكره: قالت الأعراب: صدّقنا بالله ورسوله، فنحن مؤمنون، قال الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لهم (لَمْ تُؤْمِنُوا) ولستم مؤمنين (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) .
وذُكر أن هذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن(22/313)
أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا) قال: أعراب بنى أسد بن خُزَيمة.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء الأعراب: قولوا أسلمنا، ولا تقولوا آمنا، فقال بعضهم: إنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بذلك، لأن القوم كانوا صدّقوا بألسنتهم، ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم، فقيل لهم: قولوا أسلمنا، لأن الإسلام قول، والإيمان قول وعمل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: إن الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، وأخبرني الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: أعطى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا، فقال سعد: يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا، ولم تعط فلانا شيئا، وهو مؤمن، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أو مُسْلِمٌ؟ حتى أعادها سعد ثلاثا، والنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: أوْ مُسْلِمٌ، ثم قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إني أُعْطِي رِجالا وأَدَعُ مَنْ هُوَ أحَبُّ إليَّ مِنْهُمْ، لا أُعْطِيه شَيْئا مَخافَةَ أنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) قال: لم يصدّقوا إيمانهم بأعمالهم، فردّ الله ذلك عليهم (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) ، وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون، صدّقوا إيمانهم بأعمالهم; فمن قال منهم: أنا مؤمن فقد صدق; قال: وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب، وليس بصادق.(22/314)
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مُغيرة، عن إبراهيم (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: هو الإسلام.
وقال آخرون: إنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقيل ذلك لهم، لأنهم أرادوا أن يتسموا بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، فأعلمهم الله أن لهم أسماء الأعراب، لا أسماء المهاجرين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا) ... الآية، وذلك أنهم أرادوا أن يتسَمَّوا باسم الهجرة، ولا يتسَمَّوا بأسمائهم التي سماهم الله، وكان ذلك في أول الهجرة قبل أن تنزل المواريث لهم.
وقال آخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإسلامهم، فقال الله لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهم لم تؤمنوا، ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكن إنما أنزلت في حيّ من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: أسلمنا، ولم نقاتلك، كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال الله: (لا تقولوا آمنا. . .) ، (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) حتى بلغ (فِي قُلُوبِكُمْ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: لم تعمّ هذه الآية الأعراب، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله، ولكنها في طوائف(22/315)
من الأعراب.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رَباح، عن أبي معروف، عن سعيد بن جُبَير (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: استسلمنا لخوف السباء والقتل.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد (قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: استسلمنا.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ قول الله (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) استسلمنا: دخلنا في السلم، وتركنا المحاربة والقتال بقولهم: لا إله إلا الله، وقال قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "أُمِرْتُ أنْ أُقاتِل النَّاس حتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلا اللهُ، فإذَا قالُوا لا إلَهَ إلا اللهُ، عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وأمْوَالهُمْ إلا بِحَقِّها وَحِسابُهُمْ على اللهِ".
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن الزهريّ، وهو أن الله تقدّم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول، ولم يحققوا قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا بالله ورسوله، ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محقّ، وهو أن يقولوا أسلمنا، بمعنى: دخلنا في الملة والأموال، والشهادة الحق (1) .
قوله (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) يقول تعالى ذكره: ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان، وحقائق معانيه في قلوبكم.
وقوله (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، إن تطيعوا الله ورسوله أيها القوم، فتأتمروا لأمره وأمر رسوله،
__________
(1) لعله دخلنا في الملة لحفظ الأنفس والأموال بالشهادة ... إلخ.(22/316)
وتعملوا بما فرض عليكم، وتنتهوا عما نهاكم عنه، (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) يقول: لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (لا يَلِتْكُمْ) لا ينقصكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) يقول: لن يظلمكم من أعمالكم شيئا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) قال: إن تصدقوا إيمانكم بأعمالكم يقبل ذلك منكم.
وقرأت قرّاء الأمصار (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) بغير همز ولا ألف، سوى أبي عمرو، فإنه قرأ ذلك (لا يَأْلَتْكُمْ) بألف اعتبارا منه في ذلك بقوله (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فمن قال: ألت، قال: يألت.
وأما الآخرون فإنهم جعلوا ذلك من لات يليت، كما قال رُؤبةُ بن العجاج:
وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيت ... ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاها لَيْتُ (1)
والصواب من القراءة عندنا في ذلك، ما عليه قرّاء المدينة والكوفة (لا يَلِتْكُمْ) بغير ألف ولا همز، على لغة من قال: لات يليت، لعلتين: إحداهما: إجماع الحجة من القرّاء عليها. والثانية أنها في المصحف بغير ألف، ولا تسقط الهمزة في مثل هذا الموضع، لأنها ساكنة، والهمزة إذا سكنت ثبتت، كما يقال:
__________
(1) البيتان نسبهما المؤلف إلى رؤبة بن العجاج، ولم أجدهما في ديوانه ولا في ديوان أبيه العجاج. وأوردهما صاحب اللسان في (حنن) محمد ونسبهما على أبي الفقعسي. وقد استشهد بهما المؤلف مرة قبل هذه في (15: 2) من هذه المطبوعة، عند أول سورة الإسراء. وشرحناهما شرحًا مفصلا يناسب هذه المقام، فراجعهما ثمة.(22/317)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
تأمرون وتأكلون، وإنما تسقط إذا سكن ما قبلها، ولا يحمل حرف في القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين في كلام العرب. وقد ذكرنا أن ألت ولات لغتان معروفتان من كلامهم.
وقوله (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله ذو عفو أيها الأعراب لمن أطاعه، وتاب إليه من سالف ذنوبه، فأطيعوه، وانتهوا إلى أمره ونهيه، يغفر لكم ذنوبكم، رحيم بخلقه التائبين إليه أن يعاقبهم بعد توبتهم من ذنوبهم على ما تابوا منه، فتوبوا إليه يرحمكم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غفور للذنوب الكثيرة أو الكبيرة، شكّ يزيد، رحيم بعباده.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره للأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم: إنما المؤمنون أيها القوم الذين صدّقوا الله ورسوله، ثم لم يرتابوا، يقول: ثم لم يشكوا في وحدانية الله، ولا في نبوّة نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وألزم نفسه طاعة الله وطاعة رسوله، والعمل بما وجب عليه من فرائض الله بغير شكّ منه في وجوب ذلك عليه (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يقول: جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم، وبذل مُهجِهم في جهادهم، على ما أمرهم الله به من جهادهم، وذلك سبيله لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
وقوله (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) يقول: هؤلاء الذين يفعلون ذلك هم الصادقون في قولهم: إنا مؤمنون، لا من دخل في الملة خوف السيف ليحقن دمه وماله.(22/318)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) قال: صدّقوا إيمانهم بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (16) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم: (أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ) أيها القوم بدينكم، يعني بطاعتكم ربكم (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) يقول: والله الذي تعلِّمونه أنكم مؤمنون، علام جميع ما في السموات السبع والأرضين السبع، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف تعلمونه بدينكم، والذي أنتم عليه من الإيمان، وهو لا يخفى عليه خافية، في سماء ولا أرض، فيخفى عليه ما أنتم عليه من الدين (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول: والله بكلّ ما كان، وما هو كائن، وبما يكون ذو علم. وإنما هذا تقدّم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي، عن أن يكذّبوا ويقولوا غير الذي هم عليه في دينهم. يقول: الله محيط بكلّ شيء عالم به، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم، فينالكم عقوبته، فإنه لا يخفى عليه شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يمنّ عليك هؤلاء(22/319)
الأعراب يا محمد أن أسلموا (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ) يقول: بل الله يمن عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يقول: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا، فإن الله هو الذي منّ عليكم بأن هداكم له، فلا تمنوا عليّ بإسلامكم.
وذُكر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد، امتنوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: آمنا من غير قتال، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَير في هذه الآية (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أهم بنو أسد؟ قال: قد قيل ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن يوسف، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: قلت لسعيد بن جُبَير (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أهم بنو أسد؟ قال: يزعمون ذاك.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، قال: كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد، أو بشر بن عطارد، ولبيد بن غالب عند الحجاج جالسين، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نزلت في قومك بني تميم (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) فذكرت ذلك لسعيد بن جُبَير، فقال: إنه لو علم بآخر الآية أجابه (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) قالوا أسلمنا ولم تقاتلك بنو أسد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لا تَمُنُّوا) أنا أسلمنا بغير قتال لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال الله لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (قُلْ) لهم (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ(22/320)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) قال: فهذه الآيات نزلت في الأعراب.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) }
يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، ومن الداخل فيه رهبة من رسولنا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وجنده، فلا تعلمونا دينكم وضمائر صدوركم، فإن الله يعلم ما تكنه ضمائر صدوركم، وتحدّثون به أنفسكم، ويعلم ما غاب عنكم، فاستسرّ في خبايا السموات والأرض، لا يخفى عليه شيء من ذلك (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) يقول: والله ذو بصر بأعمالكم التي تعملونها، أجهرا تعملون أم سرّا، طاعة تعملون أو معصية؟ وهو مجازيكم على جميع ذلك، إن خيرا فخير، وان شرّا فشرّ وكُفُؤه.
و (أنْ) في قوله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) في موضع نصب بوقوع يمنون عليها، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ إِسْلامَهُمْ) ، وذلك دليل على صحة ما قلنا، ولو قيل: هي نصب بمعنى: يمنون عليك لأن أسلموا، لكان وجها يتجه. وقال بعض أهل العربية: هي في موضع خفض. بمعنى: لأن أسلموا.
وأما (أن) التي في قوله (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ) فإنها في موضع نصب بسقوط الصلة لأن معنى الكلام: بل الله يمنّ عليكم بأن هداكم للإيمان.
آخر تفسير سورة الحجرات(22/321)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
تفسير سورة ق بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) }
اختلف أهل التأويل في قوله: (ق) ، فقال بعضهم: هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس في قوله: (ق) و (ن) وأشباه هذا، فإنه قسم أقسمه الله، وهو اسم من أسماء الله.
وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (ق) قال: اسم من أسماء القرآن.
وقال آخرون: (ق) اسم الجبل المحيط بالأرض، وقد تقدّم بياننا في تأويل حروف المعجم التي في أوائل سور القرآن بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) يقول: والقرآن الكريم.(22/325)
كما حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قال: الكريم.
واختلف أهل العربية في موضع جواب هذا القسم، فقال بعض نحويِّي البصرة (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قسم على قوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) وقال بعض نحويِّي أهل الكوفة: فيها المعنى الذي أقسم به، وقال: ذكر أنها قضى والله، وقال: يقال: إن قاف جبل محيط بالأرض، فإن يكن كذلك فكأنه في موضع رفع: أي هو قاف والله; قال: وكان ينبغي لرفعه أن يظهر لأنه اسم وليس بهجاء; قال: ولعلّ القاف وحدها ذكرت من اسمه، كما قال الشاعر:
قُلْت لَها قفي لَنَا قالَتْ قاف (1)
ذُكرت القاف إرادة القاف من الوقف: أي إني واقفة.
وهذا القول الثاني عندنا أولى القولين بالصواب، لأنه لا يعرف في أجوبة الأيمان قد، وإنما تجاب الأيمان إذا أجيبت بأحد الحروف الأربعة: اللام، وإن، وما، ولا أو بترك جوابها فيكون ساقطا.
وقوله (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما كذّبك يا محمد مشركو قومك أن لا يكونوا عالمين بأنك صادق محقّ، ولكنهم كذّبوك تعجبا من أن جاءهم منذر ينذرهم
__________
(1) في (اللسان: وقف) غير منسوب. وقوله * قلت لها قفي قالت قاف *
بسكون الكاف الفاء: إنما أراد: قد وقفت فاكتفى بذكر القاف. قال ابن جني: ولو نقل هذا الشاعر إلينا شيئا من جملة الحال، فقال مع قوله: قالت قاف، وأمسكت زمام بعيرها، أو عاجته عليها، لكان أبين، لما كانوا عليه، وأدل على أنها أرادت قفي لنا، أي يقول لي قفي لنا! متعجبة منه. وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم أن قولها: قاف إجابة لقوله، وتعجب منه في قوله قفي لنا. أهـ. وفي معاني القرآن للفراء (الورقة 308) أورد البيت ثم قال: ذكرت القاف من الوقت، أي إني واقفة. أهـ.(22/326)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
عقاب الله منهم، يعني بشرا منهم من بني آدم، ولم يأتهم مَلك برسالة من عند الله.
وقوله (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) يقول تعالى ذكره: فقال المكذّبون بالله ورسوله من قريش إذ جاءهم منذر منهم (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) : أي مجيء رحل منا من بني آدم برسالة الله إلينا، (هَلا (1) أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) }
يقول القائل: لم يجر للبعث ذكر، فيخبر عن هؤلاء القوم بكفرهم ما دعوا إليه من ذلك، فما وجه الخبر عنهم بإنكارهم ما لم يدعوا إليه، وجوابهم عما لم يسألوا عنه. قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فنذكر ما قالوا في ذلك، ثم نتبعه البيان إن شاء الله تعالى، فقال في ذلك بعض نحويِّي البصرة قال (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ، لم يذكر أنه راجع، وذلك والله أعلم لأنه كان على جواب، كأنه قيل لهم: إنكم ترجعون، فقالوا (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) وقال بعض نحويِّي الكوفة قوله: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا) كلام لم يظهر قبله، ما يكون هذا جوابا له، ولكن معناه مضمر، إنما كان والله أعلم: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) لَتُبْعثنّ بعد الموت، فقالوا: أإذا كنا ترابا بُعثنا؟ جحدوا البعث، ثم قالوا (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) جحدوه أصلا قوله (بَعِيدٌ) كما تقول للرجل يخطئ في المسألة، لقد ذهبت مذهبا بعيدا من الصواب: أي أخطأت.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن في هذا الكلام متروكا استغني
__________
(1) التلاوة " لولا ". أهـ. مصححه.(22/327)
بدلالة ما ذُكر عليه من ذكره، وذلك أن الله دلّ بخبره عن تكذيب هؤلاء المشركين الذين ابتدأ هذه السورة بالخبر عن تكذيبهم رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقوله (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) على وعيده إياهم على تكذيبهم محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فكأنه قال لهم: إذ قالوا منكرين رسالة الله رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) ستعلمون أيها القوم إذا أنتم بُعثتم يوم القيامة ما يكون حالكم في تكذيبكم محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإنكاركم نبوّته، فقالوا مجيبين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا) نعلم ذلك، ونرى ما تعدنا على تكذيبك (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) : أي أن ذلك غير كائن، ولسنا راجعين أحياء بعد مماتنا، فاستغني بدلالة قوله (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) فقال الكافرون (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) من ذكر ما ذكرت من الخبر عن وعيدهم.
وفيما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) قالوا: كيف يحيينا الله، وقد صرنا عظاما ورفاتا، وضللنا في الأرض، دلالة على صحة ما قلنا من أنهم أنكروا البعث إذا توعِّدوا به.
وقوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم بعد مماتهم، وعندنا كتاب بما تأكل الأرض وتفني من أجسامهم، ولهم كتاب مكتوب مع علمنا بذلك، حافظ لذلك كله، وسماه الله تعالى حفيظا، لأنه لا يدرس ما كتب فيه، ولا يتغير ولا يتبدل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، فال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول: ما تأكل الأرض من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم.(22/328)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قوله (مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) قال: من عظامهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول: ما تأكل الأرض منهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) قال: يعني الموت، يقول: من يموت منهم، أو قال: ما تأكل الأرض منهم إذا ماتوا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، قال الله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول: ما أكلت الأرض منهم ونحن عالمون به، وهم عندي مع علمي فيهم في كتاب حفيظ.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) }
يقول تعالى ذكره: ما أصاب هؤلاء المشركون القائلون (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) في قيلهم هذا (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ) ، وهو القرآن (لَمَّا جَاءَهُمْ) من الله.
كالذي حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) أي كذّبوا بالقرآن (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) يقول: فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس، لا يعرفون حقه من باطله، يقال (1) قد
__________
(1) زيادة لربط الكلام، ونظن أنها سقطت من قلم الناسخ.(22/329)