رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
الله الطائف من فلسطين.
وقوله (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) يقول: ليشكروك على ما رزقتهم وتنعم به عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) }
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استشهاد خليله إبراهيم إياه على ما نوى وقصد بدعائه وقيله (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) ... الآية، وأنه إنما قصد بذلك رضا الله عنه في محبته أن يكون ولده من أهل الطاعة لله، وإخلاص العبادة له على مثل الذي هو له، فقال: ربنا إنك تعلم ما تخفي قلوبنا عند مسألتنا ما نسألك، وفي غير ذلك من أحوالنا، وما نعلن من دعائنا، فنجهر به وغير ذلك من أعمالنا، وما يخفى عليك يا ربنا من شيء يكون في الأرض ولا في السماء، لأن ذلك كله ظاهر لك متجل باد، لأنك مدبره وخالقه، فكيف يخفى عليك.
القول في تأويل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) }
يقول: الحمد لله الذي رزقني على كبر من السنّ ولدا إسماعيل وإسحاق (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) يقول: إن ربي لسميع دعائي الذي أدعوه به، وقولي (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) وغير ذلك من دعائي ودعاء غيري، وجميع ما نطق به ناطق لا يخفى عليه منه شيء.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن ضرار بن مرّة، قال: سمعت شيخا يحدّث سعيد بن جبير، قال: بُشر إبراهيم بعد سبع عشرة ومئة سنة.
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) }(17/27)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
يقول: ربّ اجعلني مؤدّيا ما ألزمتني من فريضتك التي فرضتها عليّ من الصلاة. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يقول: واجعل أيضا من ذريتي مقيمي الصلاة لك. (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) يقول: ربنا وتقبل عملي الذي أعمله لك وعبادتي إياك. وهذا نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ الدُّعاءَ هُوَ العبادَةُ" ثم قرأ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) }
وهذا دعاء من إبراهيم صلوات الله عليه لوالديه بالمغفرة، واستغفار منه لهما. وقد أخبر الله عز ذكره أنه لم يكن (اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) .
وقد بيَّنا وقت تبرّئه منه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
وقوله (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) يقول: وللمؤمنين بك ممن تبعني على الدين الذي أنا عليه، فأطاعك في أمرك ونهيك. وقوله (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) يعني: يقوم الناس للحساب، فاكتفى بذكر الحساب من ذكر الناس، إذ كان مفهوما معناه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) }(17/28)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ) يا محمد (غَافِلا) ساهيا (عَمَّا يَعْمَلُ) هؤلاء المشركون من قومك، بل هو عالم بهم وبأعمالهم محصيًا عليهم، ليجزيهم جزاءهم في الحين الذي قد سبق في علمه أن يجزيهم فيه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عليّ بن ثابت، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران في قوله (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ(17/28)
الظَّالِمُونَ) قال: هي وعيد للظالم وتعزية للمظلوم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) }
يقول تعالى ذكره: إنما يؤخر ربك يا محمد هؤلاء الظالمين الذين يكذّبونك ويجحَدون نبوّتك، ليوم تشخص فيه الأبصار. يقول: إنما يؤخِّر عقابهم وإنزال العذاب بهم، إلى يوم تشخص فيه أبصار الخلق، وذلك يوم القيامة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ) شخصت فيه والله أبصارهم، فلا ترتدّ إليهم.
وأما قوله (مُهْطِعِينَ) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: معناه: مسرعين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد المؤدّب، عن سالم، عن سعيد بن جبير (مُهْطِعِينَ) قال: النَّسَلان، وهو الخبب، أو ما دون الخبب، شكّ أبو سعيد، يخبون وهم ينظرون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مُهْطِعِينَ) قال: مسرعين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مُهْطِعِينَ) يقول: منطلقين عامدين إلى الداعي.
وقال آخرون: معنى ذلك: مديمي النظر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مُهْطِعِينَ) يعني بالإهطاع: النظر من غير أن يطرف.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى (مُهْطِعِينَ) فقيل: الإهطاع: التحميج الدائم الذي لا يَطْرَف.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن أبي الخير بن تميم بن حَدْلَم، عن أبيه، في قوله (مُهْطِعِينَ) قال:(17/29)
الإهطاع: التحميج.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك (مُهْطِعِينَ) قال: شدة النظر الذي لا يطرف.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا عمرو، قال: أخبرنا هُشَيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (مُهْطِعِينَ) قال: شدة النظر في غير طَرْف.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (مُهْطِعِينَ) الإهطاع: شدة النظر في غير طَرْف.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مُهْطِعِينَ) قال: مُديمي النظر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا يرفع رأسه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (مُهْطِعِينَ) قال: المهطع الذي لا يرفع رأسه. والإهطاع في كلام العرب بمعنى الإسراع أشهر منه: بمعنى إدامة النظر، ومن الإهطاع بمعنى الإسراع، قول الشاعر:
وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ زِمامَهُ ... في رأسِ جذْعٍ مِنْ أوَال مُشَدَّبِ (1)
__________
(1) البيت أنشده ابن بري في (اللسان: أول. ونسبه لأنيف بن جبلة. وروايته فيه: أمَّا إذا اسْتَقْبَلْتَهُ فَكأنَّهُ ... للْعَيْنِ جِذْعٌ مِنْ أوَالَ مُشَدَّبُ
وفي معجم ما استعجم للبكري: أول قرية بالبحرين، وقيل جزيرة، فإن كانت قرية فهي من قرى السيف (بكسر السين) يشهد لذلك قول ابن مقبل، وكأنها سفن بسيف أوال. والمهطع: (كما في اللسان) الذي يديم النظر مع فتح العينين. وقيل: الذي يقبل على الشيء ببصره، فلا يرفعه عنه. والمهطع أيضا: المسرع الخائف، لا يكون إلا مع خوف. وقد فسر بالوجهين جميعا قوله تعالى: (مهطعين إلى الداع) أهـ. وقال في سرح: خيل سرح، ناقة سرح في سيرها: أي سريعة، وأورده المؤلف وأبو عبيدة في مجاز القرآن (1 - 342) شاهدا على أن المهطع: المسرع.(17/30)
وقول الآخر:
بمُسْتَهطعٍ رَسْلٍ كأنَّ جَدِيلَهُ ... بقَيْدُومِ رَعْنٍ مِنْ صَوَامٍ مُمَنَّعُ (1)
وقوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) يعني رافعي رءوسهم. وإقناع الرأس: رفعه، ومنه قول الشماخ:
يُباكِرْنَ العِضَاةَ بمُقْنَعاتٍ ... نَوَاجِذُهُنَّ كالحِدَإِ الوَقيعِ (2)
يعني: أنهنّ يباكرن العضاة برؤسهن مرفوعات إليها لتتناول منها، ومنه أيضا قول الراجز:
أنْغَضَ نحْوِي رأسَهُ وأقْنَعا ... كأنمَا أبْصَرَ شيْئا أطْمَعا (3)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال:
__________
(1) أورده صاحب أساس البلاغة (هطع) قال: وهو في صفة ثور، وممتع: بالتاء: أي طويل، من الماتع. وفيه " رضام، في محل: صوام. وفي (اللسان: قدم) قال: وقيدوم الجبل: أنف يتقدم منه، وأنشد البيت وقال: صوام (كسحاب) اسم جبل. وقيدوم كل شيء: مقدمه وصدره. والمتهطع: كالمهطع، وهو المسرع، ورسل: سهل فيه لين. والجديل: حبل مفتول من أدم أو شعر، يكون في عنق البعير أو الناقة، والجمع: جدل. والجديل أيضا: الزمام المجدول من أدم. والرعن: أنف الجبل، وصوام (كسحاب) : جبل قاله البكري وصاحب اللسان والممنع بالنون: المرتفع الذي لا يرتقي. وفي مجاز القرآن: الرسل: الذي لا يكلفك شيئا. بقيدوم: قدام. ورعن الجبل: أنفه، وصؤام (بضم الصاد وهمز الواو) لم أجده كذلك، وإنما هو صوام، بفتح الصاد وبالواو، بوزن سحاب.
(2) البيت للشماخ بن ضرار (ديوانه ص 56) والرواية فيه: يبادرن في موضع يباكرن، وهما بمعنى. قال شارحه: يبادرن من المبادرة، والعضاه: جمع عضاهة. وهي أعظم الشجر. والمقنعات: جمع مقنع: يريد أفواه الإبل. والنواجذ: أقصى الأضراس. والحدأ: جمع حدأة، وهي فأس ذات رأسين. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن: (1 - 343) في تفسير " مقنعي رءوسهم " مجازه: رافعي رءوسهم. وأنشد بيت الشماخ ثم قال: أي برءوس مرفوعة إلى العضاه، ليتناولن منه. والعضاه: كل شجرة ذات شوك. ونواجذهن: أضراسهن والحدأ: الفأس، وأراد الذي ليس له خلف، وجمعها: حدأ. والوقيع المرققة المحددة، يقال: وقع حديدتك. والمطرقة يقال لها ميقعة. وفي (اللسان: حدأ) : الحدأ: شبه فاس تنقر به الحجارة، وهو محدد الطرف. والحدأة: الفأس ذات الرأسين، والجمع حدأ، كقصبة وقصب، وقال: شبه أسنانها بفئوس قد حددت.
(3) أنغض رأسه: حركة كالمتعب. وأقنعه: رفعه. يقول: هز رأسه نحوي، ورفعه يتأملني كما يتأمل شيئا فيه مطمع له. وهو كالذي قبله شاهد على أن الإقناع: هو الرفع.(17/31)
الإقناع: رفع رءوسهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحسين بن محمد، قال: ثنا ورقاء، وقال الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافعيها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، عن أبي سعد، قال: قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عثمان بن الأسود، أنه سمع مجاهدا يقول في قوله (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافع رأسه هكذا، (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) .
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر عن الضحاك، في قوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافعي رءوسهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: الإقناع رفع رءوسهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: المقنع الذي يرفع رأسه شاخصا بصره لا يطرف.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافعيها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: المقنع الذي يرفع رأسه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافعي رءوسهم.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد، عن سالم، عن سعيد (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) قال: رافعي رءوسهم.
وقوله (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) يقول: لا ترجع إليهم لشدّة النظر أبصارهم.(17/32)
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: شاخصة أبصارهم.
وقوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: متخرقه لا تعي من الخير شيئا.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن مرّة، في قوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: متخرقة لا تعي شيئا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا مالك بن مغول، عن أبي إسحاق، عن مرّة بمثل ذلك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مرّة، مثله.
حدثنا محمد بن عمارة، قال: ثنا سهل بن عامر، قال: ثنا مالك وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مرّة، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن مرّة (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: متخرقة لا تعي شيئا من الخير.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يحيى بن عباد، قال: ثنا مالك، يعني ابن مغول، قال: سمعت أبا إسحاق، عن مرّة إلا أنه قال: لا تعي شيئا. ولم يقل من الخير.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مرّة، مثله.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مالك بن مغول، وإسرائيل عن أبي إسحاق، عن مرّة (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال أحدهما: خربه، وقال الآخر: متخرقة لا تعي شيئا.
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: ليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة.(17/33)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: ليس من الخير شيء في أفئدتهم، كقولك للبيت الذي ليس فيه شيء إنما هو هواء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: الأفئدة: القلوب هواء كما قال الله، ليس فيها عقل ولا منفعة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي بكرة، عن أبي صالح (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: ليس فيها شيء من الخير.
وقال آخرون: إنها لا تستقرّ في مكان تردّد في أجوافهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع وأحمد بن إسحاق، قالا حدثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: تمور في أجوافهم، ليس لها مكان تستقرّ فيه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد، عن سالم، عن سعيد بنحوه.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنها خرجت من أماكنها فنشبت بالحلوق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع وأحمد بن إسحاق، قالا حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن إسرائيل، عن سعيد، عن مسروق عن أبي الضحى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: قد بلغت حناجرهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) قال: هواء ليس فيها شيء، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم، ولا تعود إلى أمكنتها.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: معناه: أنها خالية ليس فيها شيء من الخير، ولا تعقل شيئا، وذلك أن العرب تسمي(17/34)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
كلّ أجوف خاو: هواء، ومنه قول حسَّان بن ثابت:
ألا أبْلِغْ أبا سُفْيانَ عَنّي ... فأنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ (1)
ومنه قول الآخر:
وَلا تَكُ مِنْ أخْدانِ كُلّ بِراعةٍ ... هَوَاءٍ كَسَقْبِ البانِ جُوفٍ مَكاسِرُهْ (2)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ (44) }
يقول تعالى ذكره: وأنذر يا محمد الناس الذين أرسلتك إليهم داعيا إلى الإسلام ما هو نازل بهم، يوم يأتيهم عذاب الله في القيامة. (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) يقول: فيقول الذين كفروا بربهم، فظلموا بذلك أنفسهم (رَبَّنَا أَخِّرْنَا) أي أخِّر عنا عذابك، وأمهلنا (إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ) الحقّ، فنؤمن بك، ولا نشرك بك شيئا، (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) يقولون: ونصدّق رسلك فنتبعهم على ما دعوتنا إليه من طاعتك واتباع أمرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ)
__________
(1) البيت لحسان، كما في الديوان ص 7، وأبو سفيان: هو المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يهجو النبي قبل أن يسلم، والمجوف: الخالي الجوف، يريد به الجبان، وكذلك النخب والهواء، وقال في اللسان: النخب: الجبان، كأنه منتزع الفؤاد، أي لا فؤاد له. وقال في هوى: والهواء والخواء واحد. وأورد البيت كرواية المؤلف.
(2) البيت في (اللسان: يرع) كرواية المؤلف. ونسبه ابن بري لكعب الأمثال (؟) وقال قبله: البراعة والبراع: الجبان الذي لا عقل له ولا رأي، مشتق من القصب أهـ: أي على التشبيه بالقصب الأجوف، والهواء: الجبان المنتزع الفؤاد. والبان: شجر يسمو ويطول في استواء وليس لخشبة صلابة، والسقب: عمود الخباء، وإذا اتخذ من شجر البان فإنه لا يحتمل لقلة صلابته، وجوف جمع أجوف، والمكاسر: مواضع الكسر، أي إذا كسر بان أنه أجوف ضعيف الاحتمال.(17/35)
قال: يوم القيامة (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) قال: مدّة يعملون فيها من الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ) يقول: أنذرهم في الدنيا قبل أن يأتيهم العذاب.
وقوله (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) رفع عطفا على قوله (يَأْتِيهِمُ) في قوله (يَأْتِيهِمُ العَذَابُ) وليس بجواب للأمر، ولو كان جوابا لقوله (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) جاز فيه الرفع والنصب. أما النصب فكما قال الشاعر:
يا نَاقَ سِيرِي عَنقَا فَسِيحا ... إلى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحا (1)
والرفع على الاستئناف. وذُكر عن العلاء بن سيابة أنه كان ينكر النصب في جواب الأمر بالفاء، قال الفراء: وكان العلاء هو الذي علَّم معاذا وأصحابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) }
وهذا تقريع من الله تعالى ذكره للمشركين من قريش، بعد أن دخلوا النار بإنكارهم في الدنيا البعث بعد الموت، يقول لهم: إذ سألوه رفع العذاب عنهم، وتأخيرهم لينيبوا ويتوبوا (أَوَلَمْ تَكُونُوا) في الدنيا (أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) يقول: ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، وإنكم إنما تموتون، ثم لا تبعثون.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) كقوله (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
__________
(1) هذا البيت من شواهد النحويين وهو لأبي النجم العجلي يخاطب ناقته في سيره إلى سليمان بن عبد الملك. وناق: منادي مرخم، أي يا ناقة، وعنقا: منصوب على أنه نائب عن المصدر، أي صفة مصدر محذوف، أي سيراد عنقا، وهو ضرب من سير الدابة والإبل، وهو سير مسيطر، قال أبو النجم ... وأنشد البيت، والفسيح: الواسع. نعت. والشاهد في " فنستريحا " حيث نصب، لأنه جواب الأمر بالفاء، وهذا بلا خلاف إلا ما نقل عن العلاء بن سيابة، أنه كان لا يجيز ذلك، وهو محجوج به. (انظر فرائد القلائد للعيني: باب إعراب الفعل) . وقال الفراء في معاني القرآن: (الورقة 164) ، وقوله " يأتيهم العذاب فيقول ": رفع، تابع ليأتيهم، وليس بجواب الأمر، ولو كان جوابا لجاز نسبه ورفعه، كما قال الشاعر: يا ناق.... البيت. والرفع عن الاستئناف والأتناف بالفاء في جواب الأمر حسن. وكان شيخ لنا يقال له العلاء بن سيابة، وهو الذي علم معاذا الهراء وأصحابه، يقول: لا أنصب بالأمر.(17/36)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى) . ثم قال (مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) قال: الانتقال من الدنيا إلى الآخرة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سلمة، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) قال: لا تموتون لقريش.
حدثني القاسم، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن الحكم، عن عمرو بن أبي ليلى أحد بني عامر، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني، أو ذُكر لي أن أهل النار ينادون (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فردّ عليهم (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ... إلى قوله (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ (45) }
يقول تعالى ذكره: وسكنتم في الدنيا في مساكن الذين كفروا بالله، فظلموا بذلك أنفسهم من الأمم التي كانت قبلكم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) يقول: وعلمتم كيف أهلكناهم حين عتوا على ربهم وتمادوا في طغيانهم وكفرهم (وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ) يقول: ومثَّلنا لكم فيما كنتم عليه من الشرك بالله مقيمين الأشباه، فلم تنيبوا ولم تتوبوا من كفركم، فالآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم ما قد نزل بكم من العذاب، إن ذلك غير كائن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) يقول: سكن الناس في مساكن قوم نوح وعاد وثمود، وقرون بين ذلك كثيرة ممن هلك من الأمم.(17/37)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
(وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ) قد والله بعث رسله، وأنزل كتبه، ضرب لكم الأمثال، فلا يصم فيها إلا أصمّ، ولا يخيب فيها إلا الخائب، فاعقلوا عن الله أمره.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) قال: سكنوا في قراهم مدين والحجر والقرى التي عذب الله أهلها، وتبين لكم كيف فعل الله بهم، وضرب لهم الأمثال.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قوله (الأمْثَالَ) قال: الأشباه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) }
يقول تعالى ذكره: قد مكر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، فسكنتم من بعدهم في مساكنهم، مكرهم. وكان مكرهم الذي مكروا ما:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبان (1) قال: سمعت عليا يقرأ: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال: كان ملك فره (2) أخذ فروخ النسور، فعلفها اللحم حتى شبَّت واستعلجت واستغلظت. فقعد هو وصاحبه في التابوت وربطوا التابوت بأرجل النسور، وعلقوا اللحم فوق التابوت، فكانت كلما نظرت إلى اللحم صعدت وصعدت، فقال لصاحبه: ما ترى؟ قال: أرى الجبال
__________
(1) سيأتي (ص 345) أن اسمه عبد الرحمن بن دانيل، وقد نقل هذا الاسم القرطبي في تفسيره (9: 380) ولم أجده في أسماء الرواة، ولعل لفظتي " أبان، وواصل " هنا تحريف عن " دانيل ".
(2) الفره: البطر الأشر. المتمادي في غيه.(17/38)
مثل الدخان، قالا ما ترى؟ قال: ما أرى شيئا، قال: ويحك صوّب صوّب، قال: فذلك قوله: (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) .
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن واصل (1) عن عليّ بن أبي طالب، مثل حديث يحيى بن سعيد، وزاد فيه: وكان عبد الله بن مسعود يقرؤها: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا محمد بن أبي عديّ، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن واصل (2) أن عليا قال في هذه الآية: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال: أخذ ذلك الذي حاجّ إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرباهما، ثم استغلظا واستعلجا وشبَّا، قال: فأوثق رجل كلّ واحد منهما بوتد إلى تابوت، وجوّعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت، قال: ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم، قال: فطارا، وجعل يقول لصاحبه: انظر ماذا ترى؟ قال: أرى كذا وكذا، حتى قال: أرى الدنيا كأنها ذباب، فقال: صوّب العصا، فصوّبها فهبطا، قال: فهو قول الله تعالى " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال أبو إسحاق: وكذلك في قراءة عبد الله " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " مكر فارس. وزعم أن بختنصر خرج بنسور، وجعل له تابوتا يدخله، وجعل رماحا في أطرافها واللحم فوقها. أراه قال: فعلت تذهب نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها، فنودي: أيها الطاغية أين تريد؟ ففرق: ثم سمع الصوت فوقه، فصوّب الرماح، فتصوّبت النسور، ففزعت الجبال من هدّتها، وكادت الجبال أن تزول منه من حسّ ذلك، فذلك قوله " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: "وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ "
__________
(1) تقدمت الإشارة إليه في (ص 244) .
(2) تقدمت الإشارة إليه في (ص 244) .(17/39)
كذا قرأها مجاهد "كَادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ" وقال: إن بعض من مضى جوّع نسورا، ثم جعل عليها تابوتا فدخله، ثم جعل رماحا في أطرافها لحم، فجعلت ترى اللحم فتذهب، حتى انتهى بصره، فنودي: أيها الطاغية أين تريد؟ فصوّب الرماح، فتصوّبت النسور، ففزعت الجبال، وظنت أن الساعة قد قامت، فكادت أن تزول، فذلك قوله تعالى " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن عمر بن الخطاب، أنه كان يقرأ " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثني هذا الحديث أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، أنه كان يقرأ على نحو: "لَتَزُولُ " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن دانيل (1) قال: سمعت عليا يقول: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن دانيل (2) قال: سمعت عليا يقول: " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال: ثم أنشأ عليّ يحدّث فقال: نزلت في جبَّار من الجبابرة قال: لا أنتهي حتى أعلم ما في السماء، ثم اتخذ نسورا فجعل يطعمها اللحم حتى غلظت واستعلجت واشتدّت، وذكر مثل حديث شعبة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو داود الحضرمي، عن يعقوب، عن حفص بن حميد أو جعفر، عن سعيد بن جبير: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال: نمرود صاحب النسور، أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلا ثم أمر بالنسور فاحتمل، فلما صعد قال لصاحبه: أي شيء ترى؟ قال: أرى الماء وجزيرة -يعني الدنيا- ثم صعد فقال لصاحبه: أي شيء ترى؟ قال: ما نزداد من السماء إلا بعدا، قال: اهبط -وقال غيره: نودي- أيها الطاغية أين تريد؟ قال: فسمعت الجبال حفيف النسور، فكانت ترى أنها أمر من السماء، فكادت
__________
(1) تقدمت الإشارة إليه في (ص 244) .
(2) تقدمت الإشارة إليه في (ص 244) .(17/40)
تزول، فهو قوله: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، أن أنسا كان يقرأ: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ ".
وقال آخرون: كان مكرهم: شركهم بالله، وافتراؤهم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس" وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "يقول: شركهم، كقوله (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) .
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال: هو كقوله (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) .
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ) ثم ذكر مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أن الحسن كان يقول: كان أهون على الله وأصغر من أن تزول منه الجبال، يصفهم بذلك. قال قتادة: وفي مصحف عبد الله بن مسعود: " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ "، وكان قتادة يقول عند ذلك (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) أي لكلامهم ذلك.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال ذلك حين دعوا لله ولدا. وقال في آية أخرى (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا) .
حُدِثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) في حرف ابن مسعود: " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " هو مثل قوله (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) .(17/41)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق ما خلا الكسائي (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية، بمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وقرأه الكسائي: " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية على تأويل قراءة من قرا ذلك: " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " من المتقدمين الذين ذكرت أقوالهم، بمعنى: اشتدّ مكرهم حتى زالت منه الجبال، أو كادت تزول منه، وكان الكسائي يحدّث عن حمزة، عن شبل عن مجاهد، أنه كان يقرأ ذلك على مثل قراءته " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " برفع تزول.
حدثني بذلك الحارث عن القاسم عنه.
والصواب من القراءة عندنا، قراءة من قرأه (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية، بمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وإنما قلنا: ذلك هو الصواب، لأن اللام الأولى إذا فُتحت، فمعنى الكلام: وقد كان مكرهم تزول منه الجبال، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة، وفي ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزُل، وأخرى إجماع الحجة من القرّاء على ذلك، وفي ذلك كفاية عن الاستشهاد على صحتها وفساد غيرها بغيره.
فإن ظنّ ظانٌّ أن ذلك ليس بإجماع من الحجة إذ كان من الصحابة والتابعين من قرأ ذلك كذلك، فإن الأمر بخلاف ما ظنّ في ذلك، وذلك أن الذين قرءوا ذلك بفتح اللام الأولى ورفع الثانية قرءوا: " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ " بالدال، وهي إذا قرئت كذلك، فالصحيح من القراءة مع " وَإِنْ كادَ " فتح اللام الأولى ورفع الثانية على ما قرءوا، وغير جائز عندنا القراءة كذلك، لأن مصاحفنا بخلاف ذلك، وإنما خطَّ مصاحفنا وإن كان بالنون لا بالدال، وإذ كانت كذلك، فغير جائز لأحد تغيير رسم مصاحف المسلمين، وإذا لم يجز ذلك لم يكن الصحاح من القراءة إلا ما عليه قرّاء الأمصار دون من شذ بقراءته عنهم.
وبنحو ما قلنا في معنى (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ) قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال:(17/42)
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) بقول: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن، في قوله (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن يونس وعمرو، عن الحسن (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) قالا وكان الحسن يقول: وإن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال.
- قال: قال هارون: وأخبرني يونس، عن الحسن قال: أربع في القرآن (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، وقوله (لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) ما كنا فاعلين، وقوله (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ما كان للرحمن ولد، وقوله (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ) ما مكناكم فيه.
قال هارون: وحدثني بهنّ عمرو بن أسباط، عن الحسن، وزاد فيهنّ واحدة (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) ما كنت في شكّ (مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ) .
فالأولى من القول بالصواب في تأويل الآية، إذ كانت القراءة التي ذكرت هي الصواب لما بيَّنا من الدلالة في قوله (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) وقد أشرك الذين ظلموا أنفسهم بربهم وافتروا عليه فريتهم عليه، وعند الله علم شركهم به وافترائهم عليه، وهو معاقبهم على ذلك عقوبتهم التي هم أهلها، وما كان شركهم وفريتهم على الله لتزول منه الجبال، بل ما ضرّوا بذلك إلا أنفسهم، ولا عادت بغية مكروهه إلا عليهم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا وكيع بن الجرّاح، قال: ثنا الأعمش، عن شمر، عن عليّ، قال: الغدر: مكر، والمكر كفر.(17/43)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ) الذي وعدهم من كذّبهم، وجحد ما أتَوْهم به من عنده، وإنما قاله تعالى ذكره لنبيه تثبيتا وتشديدا لعزيمته، ومعرّفه أنه منزل من سخطه بمن كذّبه وجحد نبوّته، وردّ عليه ما أتاه به من عند الله، مثال ما أنزل بمن سلكوا سبيلهم من الأمم الذين كانوا قبلهم على مثل منهاجهم من تكذيب رسلهم وجحود نبوّتهم وردّ ما جاءوهم به من عند الله عليهم.
وقوله (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) يعني بقوله (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) لا يمانع منه شيء أراد عقوبته، قادر على كلّ من طلبه، لا يفوتُه بالهَرَب منه. (ذُو انْتِقَامٍ) ممن كفر برسله وكذّبهم، وجحد نبوتهم، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره. وأضيف قوله (مُخْلِفَ) إلى الوعد، وهو مصدر، لأنه وقع موقع الاسم، ونصب قوله (رُسُلَهَ) بالمعنى، وذلك أن المعنى: فلا تحسبنّ الله مخلف رسله وعده، فالوعد وإن كان مخفوضا بإضافة "مخلف" إليه، ففي معنى النصب، وذلك أن الإخلاف يقع على منصوبين مختلفين، كقول القائل: كسوت عبد الله ثوبا، وأدخلته دارا؛ وإذا كان الفعل كذلك يقع على منصوبين مختلفين، جاز تقديم أيِّهما قُدّم، وخفضُ ما وَلِيَ الفعل الذي هو في صورة الأسماء، ونصب الثاني، فيقال: أنا مدخلُ عبد الله الدار، وأنا مدخلُ الدَّارِ عبدَ الله، إن قدَّمت الدار إلى المُدْخل وأخرت عبدَ الله خفضت الدار، إذ أضيف مُدْخل إليها، ونُصِب عبد الله؛ وإن قُدّم عبدُ الله إليه، وأخِّرت الدار، خفض عبد الله بإضافة مُدْخلٍ إليه، ونُصِب الدار؛ وإنما فعل ذلك كذلك، لأن الفعل، أعني مدخل، يعمل في كلّ واحد منهما نصبا نحو عمله في الآخر؛ ومنه قول الشاعر:
تَرَى الثَّوْرَ فيها مُدْخِلَ الظِّلِّ رأسَهُ ... وسائرُهُ بادٍ إلى الشَّمْسِ أجْمَعُ (1)
أضاف مُدْخل إلى الظلّ، ونصب الرأس، وإنما معنى الكلام: مدخلٌ
__________
(1) هذا البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 165) كما استشهد به المؤلف، ولم ينسبه، قال: وقوله " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله " أضفت مخلف إلى الوعد، ونصبت الرسل على التأويل، وإذا كان الفعل يقع على شيئين مختلفين مثل: كسوتك الثوب، وأدخلتك الدار، فابدأ بإضافة الفعل إلى الرجل، فتقول: هو كاسي عبد الله ثوبا، ومدخله الدار، ويجوز هو كاسي الثوب عبد الله، ومدخل الدار زيدا.. ومثله قول الشاعر: ترى الثور.. البيت، فأضاف مدخل إلى الظن، وكان الوجه أن يضف مدخل إلى الرأس.(17/44)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
رأسَه الظلَّ. ومنه قول الآخر:
فَرِشْني بِخَيْرٍ لا أكُونَ وَمِدْحَتِي ... كناحِتِ يَوْمٍ صَخْرَةٌ بعَسِيلِ (1)
والعسيل: الريشة جُمع بها الطيب، وإنما معنى الكلام: كناحت صخرة يوما بعسيل، وكذلك قول الآخر:
رُبَّ ابْنِ عَمٍّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ ... طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِلْ (2)
وإنما معنى الكلام: طباخ زاد الكَسل ساعات الكَرَى.
فأما من قرأ ذلك (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلُهُ) فقد بيَّنا وجه بُعْدِه من الصحة في كلام العرب في سورة الأنعام، عند قوله (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) }
يقول تعالى ذكره: إن الله ذو انتقام (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) من مشركي قومك يا محمد من قريش، وسائر من كفر بالله وجحد نبوّتك ونبوّة رسله من قبلك. فيوم من صلة الانتقام.
واختلف في معنى قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) فقال بعضهم: معنى ذلك: يوم تبدّل الأرض التي عليها الناس اليوم في دار الدنيا غير هذه الأرض، فتصير أرضا بيضاء كالفضة.
__________
(1) وهذا البيت أيضا من شواهد الفراء (الورقة 165) عطفه على آخر قبله وعطفهما على الأول، ومحل الشاهد فيه: أن الشاعر أضاف ناحت وهو وصف مشبه الفعل إلى يوم، ونصب الصخرة، والأولى إضافة الوصف إلى الصخرة، ونصب يوما على ما قاله القراء.
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ص 165) على أن طباخ كان حقه أن يضاف إلى " زاد الكسل "، فأضافه الشاعر إلى الساعات. والمشمعل: الخفيف الماضي في الأمر المسرع. والكرى: النوم.(17/45)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت عمرو بن ميمون يحدّث، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) قال: أرض كالفضة نقية لم يَسِل فيها دم، ولم يُعْمَل فيها خطيئة، يسمعهم الداعي، وينفُذهُم البصر، حُفاة عُراة قياما،أحسب قال: كما خُلِقوا، حتى يلجمهم العرق قياما وَحْدَه.
قال: شعبة: ثم سمعته يقول: سمعت عمرو بن ميمون، ولم يذكر عبد الله ثم عاودته فيه، قال: حدثنيه هبيرة، عن عبد الله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يحيى بن عباد، قال: أخبرنا شعبة، قال: أخبرنا أبو إسحاق، قال: سمعت عمرو بن ميمون وربما قال: قال عبد الله: وربما لم يقل، فقلت له: عن عبد الله؟ قال: سمعت عمرو بن ميمون يقول (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرض كالفضة بيضاء نقية، لم يسل فيها دم، ولم يعمل فيها خطيئة، فينفُذهُم البصر، ويسمعهم الداعي، حفاة عُراة كما خُلِقوا، قال: أراه قال: قياما حتى يُلجمهم العرق.
حدثنا الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، في قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) قال: تبدّل أرضا بيضاء نقية كأنها فضة، لم يسفك فيها دم حرام، ولم يُعمَل فيها خطيئة.
حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، في قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرض الجنة بيضاء نقية، لم يعمل فيها خطيئة، يسمعهم الداعي، وينفذه البصر، حفاة عراة قياما يلجمهم العرق.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم حرام، ولم يُعمل فيها خطيئة.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يحيى بن عباد، قال: ثنا حماد بن زيد،(17/46)
قال: أخبرنا عاصم بن بَهْدلة، عن زِرّ بن حُبيش، عن عبد الله بن مسعود، أنه تلا هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) قال: يجاء بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يُسْفك فيها دم، ولم يُعمل عليها خطيئة، قال: فأوّل ما يحكم بين الناس فيه في الدماء.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سنان، عن جابر الجُعفيّ، عن أبي جبيرة، عن زيد، قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود، فقال: هَلْ تَدْرُونَ لِمَ أَرْسَلْتُ إلَيْهِمْ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإني أرْسَلْتُ إلَيْهِمْ أسألُهُمْ عَنْ قَوْلِ الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) إنَّها تَكُونُ يَوْمَئذٍ بَيْضَاءَ مثْلُ الفضَّةِ، فلما جاءوا سألهم. فقالوا: تكون بيضاء مثل النقيّ (1) .
حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سنان بن سعد، عن أنس بن مالك، أنه تلا هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: يبدّلها الله يوم القيامة بأرض من فضة لم يُعمل عليها الخطايا، ينزلها الجبَّار تبارك تعالى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرض كأنها الفضة، زاد الحسن في حديثه عن شبابة: والسموات كذلك أيضا كأنها الفضة.
حدثا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرض كأنها الفضة، والسموات كذلك أيضا.
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريمَ، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: ثني أبو حازم، قال: سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت رسول الله
__________
(1) في اللسان: وفي الحديث: " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء، كقرصة النقي " قال أبو عبيد: النقي الخبز الحواري.(17/47)
صلى الله عليه وسلم يقول: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القيامَةِ على أرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصةِ النُّقِيّ". قال سهل أو غيره: ليس فيها معلم لغيره.
وقال آخرون: تبدّل نارا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السَّكن، قال: قال عبد الله: الأرض كلها نار يوم القيامة، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها، والذي نفس عبد الله بيده، إن الرجل ليفيض عرقا، حتى يرشح في الأرض قدمه، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب، فقالوا: مم ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: مما يرى الناس ويلقون.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: قال عبد الله: الأرض كلها يوم القيامة نار، والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها، ويلجم الناس العرق، أو يبلغ منهم العرق، ولم يبلغوا الحساب.
وقال آخرون: بل تبدّل الأرض أرضا من فضة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت المغيرة بن مالك يحدّث عن المجاشع أو المجاشعي، شكّ أبو موسى، عمن سمع عليا يقول في هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: الأرض من فضة، والجنة من ذهب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن شعبة، عن المغيرة بن مالك، قال: ثني رجل من بني مجاشع، يقال له عبد الكريم،أو ابن عبد الكريم، قال: حدثني هذا الرجل أراه بسمرقند، أنه سمع عليّ بن أبي طالب قرأ هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: الأرض من فضة، والجنة من ذهب.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن مغيرة بن مالك، عن رجل من بني مجاشع، يقال له عبد الكريم،أو يكنى أبا عبد الكريم، قال:(17/48)
أقامني على رجل بخراسان، فقال: حدثني هذا أنه سمع عليّ بن أبي طالب، فذكر نحوه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) ... الآية، فزعم أنها تكون فضة.
حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سنان بن سعد، عن أنس بن مالك قال: يبدّلها الله يوم القيامة بأرض من فضة.
وقال آخرون: يبدّلها خبزة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو سعد سعيد بن دلّ من صغانيان، قال: ثنا الجارود بن معاذ الترمِذِيّ، قال: ثنا وكيع بن الجرّاح، عن عمر بن بشر الهمداني، عن سعيد بن جبير، في قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: تبدّل خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا وكيع، عن أبى معشر، عن محمد بن كعب القرظي، أو عن محمد بن قيس (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم.
وقال آخرون: تبدّل الأرض غير الأرض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج بن محمد، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن كعب في قوله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) قال: تصير السماوات جنانا ويصير مكان البحر النار. قال: وتبدل الأرض غيرها.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ فَيَبْسُطُهَا وَيُسَطِّحهَا وَيَمُدّهَا مَدّ الأدِيم الْعُكَاظِيّ لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا، ثُمَّ يَزْجُر اللَّه الْخَلْق زَجْرَةً وَاحِدَةً(17/49)
فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الأرْض الْمُبَدَّلَة فِي مِثْل مَوَاضِعِهِمْ مِنْ الأوْلَى مَا كَانَ فِي بَطْنِهَا كَانَ فِي بَطْنِهَا وَمَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا كَانَ عَلى ظَهْرِها، وَذلكَ حينَ يَطْوِي السَّمَاواتِ كَطَيّ السِّجلّ للْكِتابِ، ثُمَّ يَدْحُو بِهِما، ثُمَّ تُبَدَّلُ الأرْضُ غيرَ الأرضِ والسَّمَواتُ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، قال: يجمع الناس يوم القيامة في أرض بيضاء، لم يُعمل فيها خطيئة مقدار أربعين سنة يلجمهم العرق.
وقالت عائشة في ذلك، ما:
حدثنا ابن أبي الشوارب وحميد بن مسعدة وابن بزيع، قالوا: حدثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن عامر، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله، إذا بدّلَت الأرض غير الأرض، وبرزوا لله الواحد القهَّار، أين الناس يومئذ؟ قال: عَلى الصِّرَاطِ".
حدثنا حميد بن مسعدة وابن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عامر، عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد، عن داود، عن عامر، عن مسروق، قال: قلت لعائشة:" يا أم المؤمنين أرأيت قول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) أين الناس يومئذ؟ فقالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: عَلَى الصِّرَاطِ ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الحسن بن عنبسة الورَّاق، قال: ثنا عبد الرحيم، يعني ابن سليمان الرازي عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة، قالت:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قلت: يا رسول الله، إذا بُدّلت الأرض غير الأرض، أين يكون الناس؟ قال: عَلى الصِّراطِ ".
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عاصم بن عليّ، قال: ثنا إسماعيل بن زكريا، عن داود، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن عائشة أمّ المؤمنين قالت: "أنا أوّل الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية" ثم ذكر نحوه.(17/50)
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا ربعيّ بن إبراهيم الأسدي أخو إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بن أبي هند، عن عامر، قال: قالت عائشة: يا رسول الله، أرأيت إذا بُدّلت الأرض غير الأرض، أين الناس يومئذ؟ قال: عَلى الصراط".
حدثنا الحسن، قال: ثنا عليّ بن الجند، قال: أخبرني القاسم، قال: سمعت الحسن، قال: قالت عائشة: يا رسول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) فأين الناس يومئذ؟ قال: إنَّ هذَا الشَّيْءَ ما سألَنِي عَنْهُ أحَدٌ، قال: عَلى الصِّراطِ يا عائِشَةُ".
حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: ثني الوليد، عن سعيد، عن قتادة، عن حسان بن بلال المزنيّ، عن عائشة: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) قال: قالت: يا رسول الله، فأين الناس يومئذ؟ قال: لَقَدْ سألْتنِي عَنْ شَيْءٍ ما سألَنِي عنه أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي، ذَاكَ إذَا النَّاسُ على جِسْر (1) جَهَنَّمَ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) ذُكر لنا أن عائشة قالت:" يا رسول الله، فأين الناس يومئذ؟ فقال: لَقَدْ سألْتِ عَنْ شَيْءٍ ما سألَنِي عنه أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي قَبْلَكِ، قال: هُمْ يَوْمَئِذٍ على جِسْرِ جَهَنَّمَ".
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، إلا أنه قال: عَلى الصِّرَاطِ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أسماء، عن ثوبان، قال:" سأل حبر من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أين الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ قال: هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُون الجسْرِ.
حدثني محمد بن عون، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا ابن أبي مريم،
__________
(1) في تاج العروس: الجسر، بالفتح: الذي يعبر عليه كالقنطرة ونحوها، ويكسر لغتان.(17/51)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
قال: ثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي، عن أبي أيوب الأنصاريّ، قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم حبرٌ من اليهود، وقال: أرأيت إذ يقول الله في كتابه (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) فأين الخلق عند ذلك؟ قال: أضْيافُ اللَّهِ فَلَنْ يُعْجِزَهُمْ ما لَدَيْهِ".
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: يوم تبدّل الأرض التي نحن عليها اليوم يوم القيامة غيرها، وكذلك السماوات اليوم تبدّل غيرها، كما قال جلّ ثناؤه، وجائز أن تكون المبدلة أرضا أخرى من فضة، وجائز أن تكون نارا وجائز أن تكون خبزا، وجائز أن تكون غير ذلك، ولا خبر في ذلك عندنا من الوجه الذي يجب التسليم له أي ذلك يكون، فلا قول في ذلك يصحّ إلا ما دلّ عليه ظاهر التنزيل.
وبنحو ما قلنا في معنى قوله (وَالسَّمَاوَاتُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ) قال: أرضا كأنها الفضة (وَالسَّمَاوَاتُ) كذلك أيضا.
وقوله (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) يقول: وظهروا لله المنفرد بالربوبية، الذي يقهر كلّ شيء فيغلبه ويصرفه لما يشاء كيف يشاء، فيحيي خلقه إذا شاء، ويميتهم إذا شاء، لا يغلبه شيء، ولا يقهره من قبورهم أحياء لموقف القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) }
يقول تعالى ذكره: وتعاين الذين كفروا بالله، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ، يعني: يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات. (مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) يقول: مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد، وهي الوثاق من غلّ وسلسلة، واحدها: صَفَد، يقال منه: صفدته في الصَّفَد صَفْدا وصِفادا،(17/52)
والصفاد: القيد، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
فَآبُوا بالنِّهابِ وبالسَّبايا ... وأُبْنا بالمُلُوكِ مُصَفَّدِينا (1)
ومن جعل الواحد من ذلك صِفادا جمعه: صُفُدا لا أصفادا، وأما من العطاء، فإنه يقال منه: أصفدتُهُ إصفادا، كما قال الأعشى:
تَضَيَّفْتُهُ يَوْما فأكْرَمَ مَجْلِسِي ... وأصْفَدَنِي عِنْدَ الزَّمانَةِ قائِدَا (2)
وقد قيل في العطاء أيضا: صَفَدَني صَفْدا، كما قال النابغة الذبياني:
هَذَا الثَّناءُ فإنْ تَسْمَعْ لِقَائِلِهِ ... فَمَا عَرَضْتُ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ (3)
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثني عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) يقول: في وثاق.
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني، قال: ثنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الأصفاد: السلاسل
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) قال: مقرّنين في القيود والأغلال.
__________
(1) البيت لعمرو بن كلثوم في معلقته. وآبوا: رجعوا. والنهاب: جمع نهب. والمصفدون: المغللون بالأصفاد، الواحد: صفد، وهو الغل. يقول: ظفرنا بهم، فلم نلتفت إلى أسلابهم، ولا أموالهم، وعمدنا إلى ملوكهم، فصفدناهم في الحديد. وفي (اللسان: صفه) : الصفاد: حبل يوثق به أو غل. وهو الصفد، والصفد (بتسكين الفاء وتحريكها) . والجمع: الأصفاد. قال ابن سيده: لا نعمله كسر على غير ذلك. وفي التنزيل " مقرنين في الأصفاد ". قيل: هي الأغلال. وقيل: القيود. واحدها صفد. وانظر شرح المعلقات السبع للزوزني، وشرح القصائد العشر للتبريزي.
(2) البيت للأعشى (اللسان: صفد، وديوان الأعشى طبع القاهرة ص 65) من قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي، ويذم الحارث بن وعلة بن مجالد الرقاشي. وتضيفته: نزلت عنده ضيفا، وأصفدني: أعطاني، من الصفد بمعنى العطية هنا. يقول: لما زرت هوذة في " جو " أكرم وفادتي عليه، وقربني من مجلسه، وأعطاني قائدا يقودني لما رأى من آثار الضعف والكلال وسوء البصر، ورواية الديوان: " على " في موضع " عند ".
(3) هذا البيت للنابغة الذيباني (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 155) . والصفد هنا: بمعنى العطاء كالذي قبله. وفي الشطر الثاني منه: فلم أعرض، في مكان: فما عرضت.(17/53)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عليّ بن هاشم بن البريد، قال: سمعت الأعمش، يقول: الصفد: القيد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) قال: صفدت فيها أيديهم وأرجلهم ورقابهم، والأصفاد: الأغلال.
وقوله (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) يقول: قمصهم التي يلبسونها، واحدها: سربال، كما قال امرؤ القيس:
لَعُوبٌ تُنَسِّيني إذَا قُمْتُ سرْبالي (1)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) قال: السرابيل: القُمُص. وقوله (مِنْ قَطِرَانٍ) يقول: من القطران الذي يهنأ به الإبل، وفيه لغات ثلاث: يقال: قِطران وقَطْران بفتح القاف وتسكين الطاء منه. وقيل: إن عيسى بن عمر كان يقرأ "مِنْ قِطْرَانٍ" بكسر القاف وتسكين الطاء، ومنه قول أبي النجم:
جَوْنٌ كأنَّ العَرَقَ المَنْتُوحا ... لَبَّسُه القِطْرَانَ والمُسُوحا (2)
بكسر القاف، وقال أيضا:
كأنَّ قِطْرَانا إذَا تَلاهَا ... تَرْمي بِهِ الرّيحُ إلى مَجْرَاها (3)
__________
(1) هذا عجز بيت لامرئ القيس بن حجر من لاميته المطولة (54 بيتا) ، وصدره " ومثلك بيضاء العوارض طفلة " (انظر مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 37) . وهذا البيت ساقط من نسخة الديوان بشرح الوزير أبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي، وثابت في نسخة الأعلم الشنتمري، وفيما نقله البغدادي في خزانة الأدب الكبرى من أبيات القصيدة (ج 1: 197) أورده بعد قول امرئ القيس: " وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي ". والواو في البيت: واو رب. والخطاب لبسباسة. والعارض والعارضة صفحة الخد وصفحة العنق، وجانب الوجه، وما يستقبلك من الشيء، ومن الوجه ما يبدو عن الضحك، والطفلة (بالفتح) : الناعمة البدن. واللعوب: الحسنة الدل. والسربال: القميص، يريد: تذهب بفؤادي، حتى أنسى قميصي، والشاهد فيه عند الطبري، أن السربال: هو القميص عند العرب.
(2) البيت في (لسان العرب: نتح) قال: النتح: خروج العرق من الجلد، والدسم من النحي، والندي من الثرى. نتح ينتح نتحا ونتوحا. وقال الجوهري: النتح: الرشح. ومناتح العرق: مخارجه من الجلد، وأنشد: جون ... الخ. والقطران (بالفتح وبالكسر وكظربان) : عصارة الأرز، وهو الصنوبر، يطبخ ثم تهنأ به الإبل، وإنما جعلت سرابيلهم منه، لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود (عن تاج العروس) . والمسوح: جمع مسح، بكسر الميم، وهو الكساء من الشعر: جمعه أمساح ومسوح.
(3) هذا الشاهد كالذي قبله، على أن القطران، بكسر القاف.(17/54)
بالكسر.
وبنحو ما قلناه في ذلك يقول من قرأ ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن (مِنْ قَطِرَانٍ) يعني: الخَصْخَاص هِناء الإبل.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن (مِنْ قَطِرَانٍ) قال: قطران الإبل.
وقال بعضهم: القطران: النحاس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: قَطران: نحاس، قال ابن جريج: قال ابن عباس (مِنْ قَطِرَانٍ) نحاس.
حدّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة (مِنْ قَطِرَانٍ) قال: هي نحاس، وبهذه القراءة: أعني بفتح القاف وكسر الطاء، وتصيير ذلك كله كلمة واحدة، قرأ ذلك جميع قرّاء الأمصار، وبها نقرأ لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقد رُوي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ ذلك: "مِنْ قَطْرٍ آنٍ" بفتح القاف وتسكين الطاء وتنوين الراء وتصيير آن من نعتِه، وتوجيه معنى القَطر إلى أنه النحاس، ومعنى الآن، إلى أنه الذي قد انتهى حرّه في الشدّة.
وممن كان يقرأ ذلك كذلك فيما ذكر لنا عكرمة مولى ابن عباس، حدثني بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حُصَين عنه.
ذكر من تأوّل ذلك على هذه القراءة التأويل الذي ذكرت فيه حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: قطر، والآن: الذي قد انتهى حرّه.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا داود بن مِهران، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير نحوه.(17/55)
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد، بنحوه.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ".
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان، قال: ثنا المبارك بن فضالة، قال: سمعت الحسن يقول: كانت العرب تقول للشيء إذا انتهى حرّه: قد أنى حرّ هذا، قد أوقدت عليه جهنم منذ خلقت فأنى حرّها.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعيد، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: القطر: النحاس، والآن: يقول: قد أنى حرّه، وذلك أنه يقول: حميمٌ آن.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا ثابت بن يزيد، قال: ثنا هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس، في هذه الآية "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: من نحاس، قال: آن أنى لهم أن يعذّبوا به.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حُصَين، عن عكرمة، في قوله " مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: الآني: الذي قد انتهى حرّه.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: " مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: هو النحاس المذاب.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة " مِنْ قَطْرٍ آنٍ" يعني: الصِّفر المذاب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن قتادة "سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: من نحاس.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، قال: ثنا أبو حفص، عن هارون، عن قتادة أنه كان يقرأ " مِنْ قَطْرٍ آنٍ" قال: من صفر قد انتهى حرّه.
وكان الحسن يقرؤها "مِنْ قَطْرٍ آنٍ".
وقوله (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) يقول: وتلفَحُ وجوههم النار فتحرقها(17/56)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) يقول: فعل الله ذلك بهم جزاء لهم بما كسبوا من الآثام في الدنيا، كيما يثيب كلّ نفس بما كسبت من خير وشرّ، فيَجْزِي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يقول: إن الله عالم بعمل كلّ عامل، فلا يحتاج في إحصاء أعمالهم إلى عقد كفّ ولا معاناة، وهو سريع حسابه لأعمالهم، قد أحاط بها علما، لا يعزب عنه منها شيء، وهو مجازيهم على جميع ذلك صغيره وكبيره.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ (52) }
يقول تعالى ذكره: هذا القرآن بلاغ للناس، أبلغ الله به إليهم في الحجة عليهم، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من مواعظه وعبره (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) يقول: ولينذروا عقاب الله، ويحذروا به نقماته، أنزله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) يقول: وليعلموا بما احتجّ به عليهم من الحجج فيه أنما هو إله واحد، لا آلهة شتى، كما يقول المشركون بالله، وأن لا إله إلا هو الذي له ما في السماوات وما في الأرض، الذي سخر لهم الشمس والقمر والليل والنهار وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم، وسخر لهم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لهم الأنهار. (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) يقول: وليتذكر فيتعظ بما احتجّ الله به عليه من حججه التي في هذا القرآن، فينزجر عن أن يجعل معه إلها غيره، ويُشْرِك في عبادته شيئا سواه أهلُ الحجى والعقول، فإنهم أهل الاعتبار والادّكار دون الذين لا عقول لهم ولا أفهام، فإنهم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) قال: القرآن (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) قال: بالقرآن. (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ)
آخر تفسير سورة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والحمد لله ربّ العالمين.(17/57)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
تفسير سورة الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) }
أما قوله جلّ ثناؤه: وتقدّست أسماؤه (الر) ، فقد تقدم بيانها فيما مضى قبل. وأما قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) فإنه يعني: هذه الآيات، آيات الكتب التي كانت قبل القرآن كالتوراة والإنجيل (وقُرآنٍ) يقول: وآيات قرآن (مُبِينٍ) يقول: يُبِين من تأمله وتدبَّره رشدَه وهداه.
كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) قال: تبين والله هداه ورشده وخيره.
حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن مجاهد (الر) فواتح يفتتح بها كلامه (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) قال: التوراة والإنجيل.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة، في قوله (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) قال: الكتُب التي كانت قبل القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) }
اختلفت القراء في قراءة قوله (رُبَمَا) فقرأت ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض الكوفيين (رُبَمَا) بتخفيف الباء، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة بتشديدها.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان معروفتان بمعنى واحد، قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.(17/59)
واختلف أهل العربية في معنى "ما" التي مع "ربّ"، فقال بعض نحويي البصرة: أدخل مع ربّ "ما" ليتكلم بالفعل بعدها، وإن شئت جعلت "ما" بمنزلة شيء، فكأنك قلت: ربّ شيء، يود: أي ربّ ودّ يودّه الذين كفروا. وقد أنكر ذلك من قوله بعض نحويِّي الكوفة، وقال: المصدر لا يحتاج إلى عائد، والودّ قد وقع على "لو"، ربما يودون لو كانوا: أن يكونوا، قال: وإذا أضمر الهاء في "لو" فليس بمفعول، وهو موضع المفعول، ولا ينبغي أن يترجم المصدر بشيء، وقد ترجمه بشيء، ثم جعله ودّا، ثم أعاد عليه عائدا. فكان الكسائي والفرّاء يقولان: لا تكاد العرب توقع "ربّ" على مستقبل، وإنما يوقعونها على الماضي من الفعل كقولهم: ربما فعلت كذا، وربما جاءني أخوك، قالا وجاء في القرآن مع المستقبل: ربما يودّ، وإنما جاز ذلك لأن ما كان في القرآن من وعد ووعيد وما فيه، فهو حقّ كأنه عيان، فجرى الكلام فيما لم يكن بعد مجراه فيما كان، كما قيل (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقوله (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) كأنه ماض وهو منتظر لصدقه في المعنى، وأنه لا مكذّب له، وأن القائل لا يقول إذا نَهَى أو أمر فعصاه المأمور يقول: أما والله لربّ ندامة لك تذكر قولي فيها لعلمه بأنه سيندم، والله ووعده أصدق من قول المخلوقين. وقد يجوز أن يصحب ربما الدائم وإن كان في لفظ يفعل، يقال: ربما يموت الرجل فلا يوجد له كفن، وإن أُوليت الأسماء كان معها ضمير كان، كما قال أبو داود:
رُبَّمَا الجامِلُ المُؤَبَّل فِيهِمُ ... وعناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ (1)
__________
(1) البيت لأبي داود الإيادي (خزانة الأدب 4: 188) وهو شاهد على أن رب المكفوفة بما لا تدخل إلا على الفعل عند سيبويه، وهذا البيت شاذ عنده، لدخول رب المكفوفة فيه على الجملة الإسمية، فإن الجامل مبتدأ والمؤبل صفة وفيهم هو الخبر، وتكون رب كما قال أبو حيان من حروف الابتداء، تدخل على الجمل فعلية أو اسمية للقصد إلى تقليل النسبة المفهومة من الجملة، فإذا قلت: ربما قام زيد فكأنك قللت النسبة المفهومة من قيام زيد، وكذلك إذا قلت ربما زيد شاعر، قللت نسبة شعر زيد، وعن بعضهم أن رب المكفوفة نقلت من معنى التقليل إلى معنى التحقيق، كما نقلت قد الداخلة على المضارع في نحو قوله تعالى " قد يعلم ما أنتم عليه " من معنى التقليل إلى معنى التحقيق. ودخولها على الجملة الاسمية مذهب المبرد والزمخشري وابن مالك. والجامل: الجماعة من الإبل، لا واحد لها من لفظها ويقال إبل مؤبلة: إذا كان للقنية، والعناجيج: الخيل الطوال الأعناق، واحدها: عنجوج، والمهار: جمع مهر، وهو ولد الفرس، والأنثى مهرة.(17/60)
فتأويل الكلام: ربما يودّ الذين كفروا بالله فجحدوا وحدانيته لو كانوا في دار الدنيا مسلمين.
كما حدثنا عليّ بن سعيد بن مسروق الكندي، قال: ثنا خالد بن نافع الأشعري، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة، واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فأخرجوا، فقال من في النار من الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عمرو بن الهيثم أبو قَطن القُطْعيّ، ورَوح القيسيّ، وعفان بن مسلم واللفظ لأبي قَطن قالوا: ثنا القاسم بن الفضل بن عبد الله بن أبي جروة، قال: كان ابن عباس وأنس بن مالك يتأولان هذه الآية (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قالا ذلك يوم يجمع الله أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار. وقال عفان: حين يحبس أهل الخطايا من المسلمين والمشركين، فيقول المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، زاد أبو قطن: قد جُمِعنا وإياكم، وقال أبو قَطن وعفان: فيغضب الله لهم بفضل رحمته، ولم يقله روح بن عبادة، وقالوا جميعا: فيخرجهم الله، وذلك حين يقول الله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثنا الحسن، قال: ثنا عفان، قال: ثنا أبو عوانة، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: يدخل الجنة ويرحم حتى يقول في آخر ذلك: من كان(17/61)
مسلما فليدخل الجنة، قال: فذلك قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) ذلك يوم القيامة يتمنى الذين كفروا لو كانوا موحدين.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله، في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا ابن أبي فروة العبدي أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأوّلان هذه الآية (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) يتأوّلانها يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار، قال: فيقول لهم المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا، قال: فيغضب الله لهم بفضل رحمته، فيخرجهم، فذلك حين يقول (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ما يزال الله يُدخل الجنة، ويرحم ويشفع حتى يقولَ: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فذلك قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن هشام الدَّستوائي، قال: ثنا حماد، قال: سألت إبراهيم عن هذه الآية (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: حدثت أن المشركين قالوا لمن دخل النار من المسلمين: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، قال: فيغضب الله لهم، فيقول للملائكة والنبيين: اشفعوا، فيشفعون، فيخرجون من النار، حتى إن إبليس ليتطاول رجاء أن يخرج معهم، قال: فعند ذلك يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن إبراهيم، أنه قال في قول الله عزّ وجلّ: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: يقول(17/62)
من في النار من المشركين للمسلمين: ما أغنت عنكم "لا إله إلا الله" قال: فيغضب الله لهم، فيقول: من كان مسلما فليخرج من النار، قال: فعند ذلك (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن حماد، عن إبراهيم في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: إن أهل النار يقولون: كنا أهل شرك وكفر، فما شأن هؤلاء الموحدين ما أغنى عنهم عبادتهم إياه، قال: فيخرج من النار من كان فيها من المسلمين. قال: فعند ذلك (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن حماد، عن إبراهيم، عن خصيف، عن مجاهد، قال: يقول أهل النار للموحدين: ما أغنى عنكم إيمانكم؟ قال: فإذا قالوا ذلك، قال: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرّة، فعند ذلك (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا هشام، عن حماد، قال: سألت إبراهيم عن قول الله عزّ وجلّ (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: الكفار يعيرون أهل التوحيد: ما أغنى عنكم لا إله إلا الله، فيغضب الله لهم، فيأمر النبيين والملائكة فيشفعون، فيخرج أهل التوحيد، حتى إن إبليس ليتطاول رجاء أن يخرج، فذلك قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عبد السلام، عن خصيف، عن مجاهد، قال: هذا في الجهنميين، إذا رأوهم يخرجون من النار (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، قال: إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه، قال: من كان مسلما فليدخل الجنة، فعند ذلك (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحسن، قال: ثنا شبابة،(17/63)
قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: يوم القيامة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن جويبر، عن الضحاك في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: فيها وجهان اثنان، يقولون: إذا حضر الكافر الموت ودّ لو كان مسلما. ويقول آخرون: بل يعذّب الله ناسا من أهل التوحيد في النار بذنوبهم، فيعرفهم المشركون فيقولون: ما أغنت عنكم عبادة ربكم، وقد ألقاكم في النار، فيغضب لهم فيخرجهم، فيقول (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: نزلت في الذين يخرجون من النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) وذلك والله يوم القيامة، ودّوا لو كانوا في الدنيا مسلمين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) (1) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ما يزال الله يدخل الجنة ويشفع حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فذلك حين يقول (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
__________
(1) أي بمثل حديث بشر قبله، لأن كلا الإسنادين ينتهي إلى قتادة.(17/64)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ذر يا محمد هؤلاء المشركين يأكلوا في هذه الدنيا ما هم آكلوه، ويتمتعوا من لذاتها وشهواتهم فيها إلى أجلهم الذي أجلت لهم، ويلههم الأمل عن الأخذ بحظهم من طاعة الله فيها، وتزوّدهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم، فسوف يعلمون غدا إذا وردوا عليه. وقد هلكوا على كفرهم بالله وشركهم حين يُعاينون عذاب الله أنهم كانوا من تمتعهم بما كانوا يتمتعون فيها من اللذّات والشهوات كانوا في خسار وتباب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) }
يقول تعالى ذكره (وَمَا أَهْلَكْنَا) يا محمد (مِنْ) أهل (قَرْيَةٍ) من أهل القرى التي أهلكنا أهلها فيما مضى (إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) يقول: إلا ولها أجل مؤقَّت ومدة معروفة، لا نهلكهم حتى يبلغوها، فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك، فيقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكذلك أهل قريتك التي أنت منها وهي مكة، لا نهلك مشركي أهلها إلا بعد بلوغ كتابهم أجله، لأن مِنْ قضائي أن لا أهلك أهل قرية إلا بعد بلوغ كتابهم أجله.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره: ما يتقدّم هلاك أمة قبل أجلها الذي جعله الله أجلا لهلاكها، ولا يستأخر هلاكها عن الأجل الذي جعل لها أجلا.(17/65)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
كما حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، في قوله (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) قال: نرى أنه إذا حضر أجله، فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدّم. وأما ما لم يحضر أجله، فإن الله يؤخر ما شاء ويقدّم ما شاء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) }
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون لك من قومك يا محمد (يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) وهو القرآن الذي ذكر الله فيه مواعظ خلقه (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) في دعائك إيانا إلى أن نتَّبعك، ونذر آلهتنا (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ) قالوا: هلا تأتينا بالملائكة شاهدة لك على صدق ما تقول؟ (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) يعني: إن كنت صادقا في أن الله تعالى بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك كتابا، فإن الربّ الذي فعل ما تقول بك، لا يتعذّر عليه إرسال ملك من ملائكته معك حجة لك علينا، وآية لك على نبوّتك، وصدق مقالتك: والعرب تضع موضع لوما: لولا وموضع لولا لوما، من ذلك قول ابن مقبل:
لَوْما الحَياءُ وَلَوْمَا الدّينُ عِبْتُكما ... ببَعْضِ ما فيكُما إذْ عِبْتُمَا عَوَرِي (1)
يريد: لولا الحياء.
وبنحو الذي قلنا في معنى الذكر قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) قال: القرآن.
__________
(1) البيت لابن مقبل من كلمة له، من أولها أبيات في الحماسة (د: 113) وهو شاهد على أن (لوما) تستعمل بمعنى لولا: في امتناع الشيء لوجود غيره، وهي في الآية: بمعنى التحضيض، قال أبو عبيدة في معاني القرآن: " لوما " مجازها ومجاز " لولا " واحد. واستشهد ببيت ابن مقبل، وعنه أخذه المؤلف.(17/66)
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والبصرة (مَا تُنزلُ المَلائِكَةُ) بالتاء تُنزلُ وفتحها ورفع الملائكة، بمعنى: ما تنزل الملائكة، على أن الفعل للملائكة. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة (مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ) بالنون في ننزل وتشديد الزاي ونصب الملائكة، بمعنى: ما ننزلها نحن، والملائكة حينئذ منصوب بوقوع ننزل عليها. وقرأه بعض قراء أهل الكوفة (مَا تُنزلُ المَلائِكَةُ) برفع الملائكة والتاء في تنزل وضمها، على وجه ما لم يسمّ فاعله.
قال أبو جعفر: وكلّ هذه القراءات الثلاث متقاربات المعاني، وذلك أن الملائكة إذا نزلها الله على رسول من رسله تنزلت إليه، وإذا تنزلت إليه، فإنما تنزل بإنزال الله إياها إليه، فبأي هذه القراءات الثلاث قرأ ذلك القارئ فمصيب الصواب في ذلك، وإن كنت أحبّ لقارئه أن لا يعدو في قراءته إحدى القراءتين اللتين ذكرت من قراءة أهل المدينة، والأخرى التي عليها جمهور قراء الكوفيين، لأن ذلك هو القراءة المعروفة في العامَّة، والأخرى: أعني قراءة من قرأ ذلك: (مَا تُنزلُ) بضم التاء في تنزل ورفع الملائكة شاذّة قليل من قرأ بها.
فتأويل الكلام: ما ننزل ملائكتنا إلا بالحقّ، يعني بالرسالة إلى رسلنا، أو بالعذاب لمن أردنا تعذيبه. ولو أرسلنا إلى هؤلاء المشركين على ما يسألون إرسالهم معك آية فكفروا لم يُنظروا فيؤخروا بالعذاب، بل عوجلوا به كما فعلنا ذلك بمن قبلهم من الأمم حين سألوا الآيات فكفروا حين آتتهم الآيات، فعاجلناهم بالعقوبة.
وبنحو الذي قلنا في قوله (مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال:(17/67)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ) قال: بالرسالة والعذاب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }
يقول تعالى ذكره: (إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ) وهو القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) قال: وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل مَّا ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه، والهاء في قوله: (لَهُ) من ذكر الذكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) قال: عندنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، قال في آية أخرى (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ) والباطل: إبليس (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) فأنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينتقص منه حقا، حفظه الله من ذلك.
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) قال: حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلا أو(17/68)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
ينقص منه حقا، وقيل: الهاء في قوله (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى: وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولقد أرسلنا يا محمد من قبلك في الأمم الأوّلين رسلا وترك ذكر الرسل اكتفاء بدلالة قوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ) عليه، وعنى بشيع الأوّلين: أمم الأوّلين: واحدتها شيعة، ويقال أيضا لأولياء الرجل: شيعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ) يقول: أمم الأولين.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة، في قوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ) قال: في الأمم.
وقوله (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) يقول: وما يأتي شيع الأوّلين من رسول من الله يرسله إليهم بالدعاء إلى توحيده، والإذعان بطاعته،إلا كانوا به يستهزءون: يقول: إلا كانوا يسخرون بالرسول الذي يرسله الله إليهم عتُوّا منهم وتمرّدا على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (13) }(17/69)
يقول تعالى ذكره: كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين بالاستهزاء بالرسل، كذلك نفعل ذلك في قلوب مشركي قومك الذين أجرموا بالكفر بالله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) يقول: لا يصدّقون بالذكر الذي أنزل إليك، والهاء في قوله (نَسْلُكُهُ) من ذكر الاستهزاء بالرسل والتكذيب بهم.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) قال: التكذيب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) لا يؤمنون به، قال: إذا كذبوا سلك الله في قلوبهم أن لا يؤمنوا به.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن حميد، عن الحسن، في قوله (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) قال: الشرك.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، قال: قرأت القرآن كله على الحسن في بيت أبي خليفة، ففسره أجمع على الإثبات، فسألته عن قوله (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) قال: أعمال سيعملونها لم يعملوها.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، قال: قرأت القرآن كله على الحسن، فما كان يفسره إلا على الإثبات، قال: وقفته على نسلكه، قال: الشرك، قال: ابن المبارك: سمعت سفيان في قوله (نَسْلُكُهُ) قال: نجعله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) قال: هم كما قال الله، هو أضلهم ومنعهم الإيمان، يقال منه: سلكه يسلكه سلكا وسلوكا، وأسلكه يسلكه إسلاكا، ومن السلوك قول عديّ بن زيد:(17/70)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
وكنْت لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أعرّدْ ... وَقَدْ سَلَكوكَ فِي يَوْم عَصِيبٍ (1)
ومن الإسلاك قول الآخر:
حتى إذَا أسْلَكُوهُمْ في قُتَائِدَةٍ ... شَلا كَما تَطْرد الجَمالَة الشردَا (2)
وقوله (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ) يقول تعالى ذكره: لا يؤمن بهذا القرآن قومك الذين سلكت في قلوبهم التكذيب (حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) أخذا منهم سنة أسلافهم من المشركين قبلهم من قوم عاد وثمود وضربائهم من الأمم التي كذّبت رسلها، فلم تؤمن بما جاءها من عند الله حتى حلّ بها سخط الله فهلكت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ) وقائع الله فيمن خلا قبلكم من الأمم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) }
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي، وقد تقدم واستشهد المؤلف به عند قوله تعالى في سورة هود "وقال هذا يوم عصيب " فراجعه في الجزء الثاني عشر صفحة 82. والشاهد فيه هنا: أنه اشتق سلكوك من المصدر الثلاثي (السلك) .
(2) البيت لعبد مناف بن ربعي الهذلي (اللسان: جمل) استشهد به المؤلف على أن " أسلكوهم " بالهمزة في أوله لغة مثل سلوكهم التي وردت في البيت السابق من شعر عدي بن زيد، والبيت أيضا في (خزانة الأدب للبغدادي 3: 170) شاهد على أن جواب إذا عند الرضى شارح كافية ابن الحاجب محذوف لتفخيم الأمر، والتقدير: بلغوا أملهم؛ أو أدركوا ما أحبوا ونحو ذلك، وقيل فيه وجهان آخران، قال البغدادي وأسلك: لغة في سلك، يقال أسلكت الشيء في الشيء، مثل سلكته فيه، بمعنى أدخلته فيه، وقتائدة: ثنية، وقال البكري: جبل بين المنصرف والروحاء، والشل: الطرد، والجمالة: فاعلي تطرد، وهم أصحاب الجمال، كما يقال الحمارة لأصحاب الحمير، والشرد: جمع شرود، أي من الجمال.(17/71)
اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) فقال بعضهم: معنى الكلام: ولو فتحنا على هؤلاء القائلين لك يا محمد (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) بابا من السماء فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عيانا (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) يقول: لو فتحنا عليهم بابا من السماء، فظلت الملائكة تعرج فيه، لقال أهل الشرك: إنما أخذ أبصارنا، وشبِّه علينا، وإنما سحرنا، فذلك قولهم: (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن عباس (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) فظلت الملائكة يعرجون فيه يراهم بنو آدم عيانا (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) قال: ما بين ذلك إلى قوله (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) قال: رجع إلى قوله (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ) ما بين ذلك. قال ابن جريج، قال ابن عباس: فظلت الملائكة تعرج فنظروا إليهم (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) قال: قريش تقوله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) قال: قال ابن عباس: لو فتح الله عليهم من السماء بابا فظلت الملائكة تعرج فيه، يقول: يختلفون فيه جائين وذاهبين (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ(17/72)
فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) يعني: الملائكة: يقول: لو فتحتُ على المشركين بابا من السماء، فنظروا إلى الملائكة تعرج بين السماء والأرض، لقال المشركون (نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) سحرنا وليس هذا بالحقّ. ألا ترى أنهم قالوا قبل هذه الآية (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) .
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمر، عن نصر، عن الضحاك، في قوله (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) قال: لو أني فتحت بابا من السماء تعرج فيه الملائكة بين السماء والأرض، لقال المشركون (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) إلا ترى أنهم قالوا (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) .
وقال آخرون: إنما عُني بذلك: بنو آدم.
ومعنى الكلام عندهم: ولو فتحنا على هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بابا من السماء فظلوا هم فيه يعرجون (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) قال قتادة، كان الحسن يقول: لو فعل هذا ببني آدم فظلوا فيه يعرجون أي يختلفون (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) .
وأما قوله (يَعْرُجُونَ) فإن معناه: يرقَوْن فيه ويَصْعَدون، يقال منه: عرج يعرُج عُروجا إذا رَقَى وصَعَد، وواحدة المعارج: معرج ومعراج، ومنه قول كثير:
إلى حَسَبٍ عَوْدٍ بَنا الْمرءَ قبْلَهُ ... أبُوهُ لَهُ فِيه مَعارِجَ سُلَّمِ (1)
وقد حُكي عرِج يعرج بكسر الراء في الاستقبال. وقوله (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) يقول: لقال هؤلاء المشركون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم:
__________
(1) لم أجد البيت في ديوان كثير طبع الجزائر، والحسب: الشرف الثابت في الآباء، والعود: القديم، وبنا (بالألف) ، بينو لأنه من بناء الشرف والمجد، والمعارج: جمع معرج (بكسر الميم وفتحها) وهو ما يعرج فيه، أي يصعد.(17/73)
ما هذا بحقّ إنما سكِّرت أبصارنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (سُكِّرَتْ) فقرأ أهل المدينة والعراق: (سُكِّرَتْ) بتشديد الكاف، بمعنى: غُشيت وغطيت، هكذا كان يقول أبو عمرو بن العلاء فيما ذُكر لي عنه. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقرأ (لَقالُوا إنَّمَا سُكِرَتْ) .
حدثني بذلك الحرث، قال: ثنا القاسم، قال: سمعت الكسائي يحدّث عن حمزة، عن شبل، عن مجاهد أنه قرأها (سُكِرَتْ أَبْصارُنا) خفيفة، وذهب مجاهد في قراءته ذلك كذلك إلى: حُبست أبصارنا عن الرؤية والنظر من سكور الريح، وذلك سكونها وركودها، يقال منه: سكرت الريح: إذا سكنت وركدت. وقد حُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: هو مأخوذ من سكر الشراب، وأن معناه: قد غشَّى أبصارنا السكر.
وأما أهل التأويل، فإنهم اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معنى (سُكِّرَتْ) : سدّت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) قال: سدّت.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا حجاج، يعني ابن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن كثير قال: سدّت.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) يعني: سدّت، فكأن مجاهدا ذهب في قوله، وتأويله ذلك بمعنى: سدّت، إلى أنه بمعنى: منعت النظر، كما يُسكر الماء فيمنع من الجري بحبسه في مكان بالسكر الذي يسَّكر به.
وقال آخرون: معنى سكرت: أخذت.(17/74)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن ابن عباس (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) يقول: أخذت أبصارنا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، إنما أخذ أبصارنا، وشبَّه علينا، وإنما سحرنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) يقول: سُحرت أبصارنا، يقول: أخذت أبصارنا.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنا شيبان، عن قتادة، قال: من قرأ (سُكِّرَتْ) مشددة: يعني سدّت، ومن قرأ (سُكرَتْ) مخففة، فإنه يعني سحرت، وكأن هؤلاء وجَّهوا معنى قوله (سُكِّرَتْ) إلى أن أبصارهم سُحرت، فشبه عليهم ما يبصرون، فلا يميزون بين الصحيح مما يرون وغيره من قول العرب: سُكِّر على فلان رأيه: إذا اختلط عليه رأيه فيما يريد، فلم يدر الصواب فيه من غيره، فإذا عزم على الرأي قالوا: ذهب عنه التسكير.
وقال آخرون: هو مأخوذ من السكر، ومعناه: غشي على أبصارنا فلا نبصر، كما يفعل السكر بصاحبه، فذلك إذا دير به وغشي بصره كالسمادير فلم يبصر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) قال: سكرت، السكران الذي لا يعقل.
وقال آخرون: معنى ذلك: عميت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن الكلبي (سُكِّرَتْ) قال: عميت.
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال: معنى ذلك: أخذت أبصارنا وسحرت، فلا تبصر الشيء على ما هو به، وذهب حدّ إبصارها،(17/75)
وانطفأ نوره، كما يقال للشيء الحارّ إذا ذهبت فورته، وسكن حدّ حرّه، قد سكر يسكر، قال المثنى بن جندل الطُّهوي:
جاءَ الشِّتاءُ واجْثَألَّ القُبَّرُ ... واستَخْفَتِ الأفْعَى وكانت تَظْهَرُ
وجَعَلَتْ عينُ الحَرُور تَسْكُرُ (1)
أي تسكن وتذهب وتنطفئ، وقال ذو الرّمَّة:
قَبْلَ انْصِداعِ الفَجْرِ والتَّهَجْرِ ... وخَوْضُهُنَّ اللَّيلَ حينَ يَسْكُرُ (2)
يعني: حين تسكن فورته. وذُكر عن قيس أنها تقول: سكرت الريح تسكر سكورا، بمعنى: سكنت، وإن كان ذلك عنها صحيحا، فإن معنى سُكِرَت وسُكِّرَتْ بالتخفيف والتشديد متقاربان، غير أن القراءة التي لا أستجيز غيرها في القرآن (سُكِّرَتْ) بالتشديد لإجماع الحجة من القراء عليها، وغير جائز خلافها فيما جاءت به مجمعة عليه.
__________
(1) هذه ثلاثة أبيات لجندل بن المثنى الطهوي، واجثأل: اجتمع وتقبض، والقبر كالقنبر: ضرب من الطير كالعصافير، واحده قبرة وقنبرة، والحرور: الحر. ويقال سكرت عينه تسكر: إذا تحيرت وسكنت عن النظر وسكر الحر يسكر: سكن وخبأ، وقد استشهد بها أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 337، 338) عند قوله تعالى " سكرت أبصارنا " قال: أي غشيت سمادير، فذهبت وخبا نظرها، قال: جاء الشتاء، الخ وزاد فيها بيتا قبل الآخر، وهو: " وطلعت شمس عليها مغفر ". وفسر البيت الأخير وهو الشاهد بقوله: أي يذهب حرها ويخبو. وقال أبو عمرو بن العلاء: " سكرت أبصارنا ": مأخوذ عن سكر الشراب، كأن العين لحقها ما يلحق شارب المسكر إذا سكر، وقال الفراء، معناه: حبست ومنعت عن النظر.
(2) البيت في ديوان ذي الرمة (طبعة كيمبردج سنة 1919) ص 202 وقبله: أتَتْكَ بالقَوْمِ مَهارٍ ضُمَّرُ ... خُوصٌ بَرَى أشْرافَها التَّبَكُّرُ
خوص: غائرات العيون، وأشرافها: أسنمَها، والتبكر: سير البكرة، والتهجو: سير الهاجرة، ويسكر: يتسكر الأبصار بظلامه، قوله: والتهجر، بالرفع: معطوف على قوله التبكر، في البيت السابق عليه.(17/76)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) }
يقول تعالى ذكره: ولقد جعلنا في السماء الدنيا منازل للشمس والقمر،(17/76)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
وهي كواكب ينزلها الشمس والقمر (وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) يقول: وزينا السماء بالكواكب لمن نظر إليها وأبصرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: كواكب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) وبروجها: نجومها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (بُرُوجا) قال: الكواكب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) }
يقول تعالى ذكره: وحفظنا السماء الدنيا من كلّ شيطان لعين قد رجمه الله ولعنه (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) يقول لكن قد يسترق من الشياطين السمع مما يحدث في السماء بعضها، فيتبعه شهاب من النار مبين، يبين أثره فيه، إما بإخباله وإفساده، أو بإحراقه.
وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول في قوله (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) هو استثناء خارج، كما قال: ما أشتكي إلا خيرا، يريد: لكن أذكر خيرا. وكان ينكر ذلك من قيله بعضهم، ويقول: إذا كانت إلا بمعنى لكن عملت عمل(17/77)
لكن، ولا يحتاج إلى إضمار أذكر، ويقول: لو احتاج الأمر كذلك إلى إضمار أذكر احتاج قول القائل: قام زيد لا عمرو إلى إضمار أذكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، قال: فينفرد المارد منها فيعلو، فيرمى بالشهاب، فيصيب جبهته أو جنبه، أو حيث شاء الله منه، فيلتهب فيأتي أصحابه وهو يلتهب، فيقول: إنه كان من الأمر كذا وكذا، قال: فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب، فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدّقوهم بما جاءوهم به من الكذب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) قال: أراد أن يخطف السمع، وهو كقوله (إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) وهو نحو قوله (إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) قال: خطف الخطفة.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) هو كقوله (إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) كان ابن عباس يقول: إن الشهب لا تقتل ولكن تحرق وتخبل (1) وتجرح من غير أن تقتل.
حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج
__________
(1) الخبل والتخبيل: إفساد الأعضاء، حتى لا يدري كيف يمشي، فهو متخبل خبل. (اللسان) .(17/78)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
(مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) قال: الرجيم: الملعون، قال: وقال القاسم عن الكسائي: إنه قال: الرجم في جميع القرآن: الشتم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) }
يعني تعالى ذكره بقوله (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا) والأرض دحوناها فبسطناها (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) يقول: وألقينا في ظهورها رَوَاسِي، يعني جبالا ثابتة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا) . وقال في آية أخرى (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) وذُكر لنا أن أمّ القرى مكة، منها دُحيت الأرض، قوله (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) رواسيها: جبالها. يقول: وألقينا في ظهورها رواسي، يعني جبالا ثابتة، وقد بيَّنا معنى الرسوّ فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته. وقوله (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: وأنبتنا في الأرض من كلّ شيء: يقول: من كلّ شيء مقدّر، وبحدّ معلوم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: معلوم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: تني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: معلوم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، أو عن أبي مالك، في قوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: بقدر.
حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح أو عن أبي مالك، مثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: بقدْر.(17/79)
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ، يعني ابن الجعد، قال: أخبرنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: بقدْر.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، قال: بقدْر.
حدثنا أحمد، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن سعيد بن جبير (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: معلوم.
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا عبد الله بن يونس، قال: سمعت الحكم بن عتيبة وسأله أبو مخزوم عن قوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: من كلّ شيء مقدور.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا عبد الله بن يونس، قال: سمعت الحكم، وسأله أبو عروة عن قول الله عزّ وجلّ (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: من كلّ شيء مقدور، هكذا قال الحسن، وسأله أبو عروة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: مقدور بقدْر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: مقدور بقدْر.
حدثني المثنى، قال: ثنا عليّ بن الهيثم، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: مقدور بقدْر.
حدثنا المثنى، قال: ثنا عليّ بن الهيثم، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: بقدْر.(17/80)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: معلوم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: معلوم.
وكان بعضهم يقول: معنى ذلك وأنبتنا في الجبال من كلّ شيء موزون: يعني من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك من الأشياء التي توزن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: الأشياء التي توزن.
وأولى القولين عندنا بالصواب القول الأوّل لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) }
يقول تعالى ذكره: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ) أيها الناس في الأرض (مَعَايِشَ) ، وهي جمع معيشة (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) .
اختلف أهل التأويل في المعني في قوله (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) فقال بعضهم: عني به الدوابّ والأنعام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسين قال: ثنا ورقاء، وحدثنا(17/81)
الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله جمعيا، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) الدوابّ والأنعام.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: عني بذلك: الوحش خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور (1) في هذه الآية (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) قال: الوحش، فتأويل "مَنْ" في: (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) على هذا التأويل بمعنى ما، وذلك قليل في كلام العرب.
وأولى ذلك بالصواب، وأحسن أن يقال: عني بقوله (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) من العبيد والإماء والدوابّ والأنعام. فمعنى ذلك: وجعلنا لكم فيها معايش. والعبيدَ والإماء والدوابَّ والأنعام، وإذا كان ذلك كذلك، حسن أن توضع حينئذ مكان العبيد والإماء والدوابّ "من"، وذلك أن العرب تفعل ذلك إذا أرادت الخبر عن البهائم معها بنو آدم. وهذا التأويل على ما قلناه وصرفنا إليه معنى الكلام إذا كانت "من" في موضع نصب عطفا به على معايش بمعنى: جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين. وقيل: إنّ "من" في موضع خفض عطفا به على الكاف والميم في قوله (وَجَعَلْنَا لَكُمْ) بمعنى: وجعلنا لكم فيها معايش (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) وأحسب أن منصورا (2) في قوله: هو الوحش قصد هذا المعنى وإياه أراد، وذلك وإن كان له وجه في كلام العرب،
__________
(1) منصور الذي يروي عنه شعبة بن الحجاج: هو منصور بن عبد الرحمن التميمي الغداني (بضم الغين) عن الشعبي، وعنه وشعبة وابن علية، وثقه ابن معين وأحمد وأبو داود، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي: ليس بقوي، وفي كلام الفراء الذي نقلناه تحت الشاهد " هلا سألت " إشارة إلى روايته هناك، بقوله " وقد جاء أنهم الوحوش ... الخ ". (وانظر خلاصة الخزرجي) .
(2) انظر الكلام عليه في هامش ص 17.(17/82)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
فبعيد قليل، لأنها لا تكاد تظاهر على معنى في حال الخفض، وربما جاء في شعر بعضهم في حال الضرورة، كما قال بعضهم:
هَلا سألْتَ بذِي الجَماجِمِ عنهُمُ ... وأبي نَعِيمٍ ذي اللِّوَاءِ المُخْرَقِ (1)
فردّ أبا نعيم على الهاء والميم في عنهم، وقد بيَّنت قبح ذلك في كلامهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) }
يقول تعالى ذكره: وما من شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر لكل أرض معلوم عندنا حدّه ومبلغه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن رجل، عن عبد الله، قال: ما من أرض أمطر من أرض، ولكن الله يقدره في الأرض، ثم قرأ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة، عن عبد الله، قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص 167 من مصورة الجامعة) . قال: وقوله " وجعلنا لكم فيها معايش ": أراد الأرض " ومن لستم له برازقين " فمن في موضع نصب، يقول: جعلنا لكم فيها معايش والعبيد والإماء، وقد جاء أنهم الوحوش والبهائم، ومن: لا يفرد بها البهائم، ولا ما سوى الناس، فإن يكن ذلك على ما روى فنرى أن أدخل فيهم المماليك، على أنا ملكناكم العبيد والإبل والغنم وما أشبه ذلك، مجاز ذلك، وقد يقال إن " من " في موضع خفض، يراد جعلنا لكم فيها معايش ولمن. وما أقل ما ترد العرب لمخفوض قد كني عنه، وقد قال الشاعر: نعلق في مثل الواري سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفانف
فرد الكعب على بينها. وقال الآخر: هلا سألت ... البيت، فرد " أبي نعيم " على الهاء في عنهم.
قلت: وهذا الموضع الذي أشار إليه الفراء، وهو عطف اسم مخفوض على ضمير هو قوله تعالى " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " من سورة النساء.(17/83)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
عمن يشاء، ثم قال (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) .
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي، قال: ثنا علي بن مسهر، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة، عن عبد الله بن مسعود: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه حيث شاء، عاما هاهنا وعاما هاهنا، ثم قرأ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) قال: المطر خاصة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الحكم بن عتيبة، في قوله (وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) قال: ما من عام بأكثر مطرا من عام ولا أقل، ولكنه يمطر قوم، ويُحرم آخرون، وربما كان في البحر، قال: وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كلّ قطرة حيث تقع وما تُنبت.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة القرّاء (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة (وأرْسَلْنا الرّيحَ لَوَاقِحَ" فوحَّد الريح وهي موصوفة بالجمع: أعني بقوله: لواقح. وينبغي أن يكون معنى ذلك: أن الريح وإن كان لفظها واحدا، فمعناها الجمع، لأنه يقال: جاءت الريح من كلّ وجه، وهبَّت من كل مكان، فقيل: لواقح لذلك، فيكون معنى جمعهم نعتها، وهي في اللفظ واحدة معنى قولهم: أرض سباسب، وأرض أغفال، وثوب أخلاق، كما قال الشاعر:(17/84)
جاءَ الشِّتاءُ وقَميصِي أخْلاقْ ... شَرَاذِمٌ يضْحَكُ مِنْهُ التَّوَّاقْ (1)
وكذلك تفعل العرب في كلّ شيء اتسع.
واختلف أهل العربية في وجه وصف الرياح باللقح، وإنما هي ملقحة لا لاقحة، وذلك أنها تلقح السحاب والشجر، وإنما توصف باللقح الملقوحة لا الملقح، كما يقال: ناقة لاقح. وكان بعض نحويي البصرة يقول: قيل: الرياح لواقح، فجعلها على لاقح، كأن الرياح لقحت، لأن فيها خيرا فقد لقحت بخير. قال: وقال بعضهم: الرياح تلقح السحاب، فهذا يدلّ على ذلك المعنى، لأنها إذا أنشأته وفيها خير وصل ذلك إليه وكان بعض نحويي الكوفة يقول: في ذلك معنيان: أحدهما أن يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللقاح، فيقال: ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح، قال: ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب فقال (عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) فجعلها عقيما إذا لم تلقح. قال: والوجه الآخر أن يكون وصفها باللقح، وإن كانت تلقح، كما قيل: ليل نائم والنوم فيه، وسرّ كاتم، وكما قيل: المبروز والمختوم، فجعل مبروزا، ولم يقل مبرزا بناه على غير فعله، أي أن ذلك من صفاته، فجاز مفعول
__________
(1) هذا الرجز، أورده الفراء في معاني القرآن (ص 167) قال: وقوله " وأرسلنا الرياح لواقح " وقرئ الريح، قرأ حمزة، فمن قال: " الريح لواقح " فجمع اللواقح والريح واحدة، لأن الريح في معنى جمع، ألا ترى أنك تقول: جاءت الريح من كل مكان، فقيل لواقح لذلك كما قيل: تركته في أرض أغفال وسباسب، ومهارق وثوب أخلاق، ومنه قول الشاعر: جاء الشتاء ... الخ البيت. وأما من قال: الرياح لواقح، فهو بين، ولكن يقال: إنما الريح ملقحة، تلقح الشجر، فكيف قيل: لواقح؟ في ذلك معنيان: أحدهما أن تجعل الريح هي التي بمرورها على التراب والماء، فيكون فيها اللقاح، فيقال ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح، ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب فقال: " عليهم الريح العقيم "، فجعلها عقيما إذ لم تلقح. والوجه الآخر: أن يكون وصفها باللقح، وإن كانت تلقح (بضم التاء) كما قيل: ليل نائم، والنوم فيه، وسر كاتم. ولسان العرب: (خلق) : وقد يقال: ثوب أخلاق، يصفون به الواحد، إذا كانت الخلوقة فيه كله، كما قال برمة أعشار، وثوب أكباش (ضرب من نسج اليمن) وحبل أرمام وأرض سباسب، وهذا النحو كثير، وكذلك: ملاءة أخلاق وبرمة أخلاق (عن اللحياني) أي نواحيها أخلاق. قال: وهو من الواحد الذي فرق ثم جمع. قال: وكذلك: حبل أخلاق: وقربة أخلاف عن ابن الأعرابي، التهذيب: يقال ثوب أخلاق يجمع بما حوله، وقال الراجز: جاء الشتاء ... الخ والتواق ابنه، قلت: والرواية عند الفراء وفي اللسان " يضحك منه "، وعند المؤلف " يضحك مني "، والمعنى قريب بعضه من بعض.(17/85)
لمفعل، كما جاز فاعل لمفعول، إذا لم يرد البناء على الفعل، كما قيل: ماء دافق.
والصواب من القول في ذلك عندي: أن الرياح لواقح كما وصفها به جلّ ثناؤه من صفتها، وإن كانت قد تلقح السحاب والأشجار، فهي لاقحة ملقحة، ولقحها: حملها الماء وإلقاحها السحاب والشجر: عملها فيه، وذلك كما قال عبد الله بن مسعود.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن سكن، عن عبد الله بن مسعود، في قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) قال: يرسل الله الرياح فتحمل الماء، فتجري السحاب، فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن قيس بن سكن، عن عبد الله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) قال: يبعث الله الريح فتلقح السحاب، ثم تمريه فتدر كما تدر اللقحة، ثم تمطر.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أسباط بن محمد، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود، في قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) قال: يرسل الرياح، فتحمل الماء من السحاب، ثم تمري السحاب، فتدر كما تدر اللقحة، فقد بين عبد الله بقوله: يرسل الرياح فتحمل الماء، أنها هي اللاقحة بحملها الماء وإن كانت ملقحة بإلقاحها السحاب والشجر.
وأما جماعة أُخَر من أهل التأويل، فإنهم وجَّهوا وصف الله تعالى ذكره إياها بأنها لواقح، إلى أنه بمعنى ملقحة، وأن اللواقح وضعت موضع ملاقح، كما قال نهشل بن حري:
لِيُبْكَ يَزِيدُ بائِسٌ لِضَرَاعَةٍ ... وأشْعَثُ ممَّنْ طَوَّحَتْهُ الطَّوَائِحُ (1)
__________
(1) البيت لنشهل بن حرى على الأصح، شاعر مخضرم، وقد ينسب إلى غيره، وصوب البغدادي نسبته إلى نشهل، وقد استشهد به أبو عبيدة بهذه الرواية نفسها عند تفسير قوله تعالى: " وأرسلنا الرياح لواقح " قال: مجازها مجاز ملاقح، لأن الريح ملقحة السحاب للعرب. قد تفعل هذا، فتلقي الميم، لأنها تعيده إلى أصل الكلام، كقول نهشل بن حري يرثي أخاه " لبيك يزيد " ... الخ البيت. فحذف الميم، لأنها المطاوع، وأورد البيت صاحب (اللسان: طيح) باختلاف في بعض الألفاظ قال: وأنشد سيبويه: لِيُبْكَ يَزيدٌ ضَاِرعٌ لِخُصُومَةٍ ... ومُخْتَبطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوَائِحُ
وقال (سيبويه) : الطوائح: على حذف الزائد، أو على النسب قال ابن جني: أول البيت مبني على أطراح ذلك الفاعل، فإن آخره (كذا في اللسان) قد عوود فيه الحديث على الفاعل، لأن تقديره فيما بعد: ليبك مختبط مما تطيح الطوائح، فدل قوله: ليبك (بالبناء للمفعول) على ما أراد من قوله " ليبك " (أي بالبناء للفاعل) أهـ. والمختبط: الذي يسلك من يسلك من غير معرفة ولا وسيلة بيكمنا. وانظر خزانة الأدب البغدادي (1: 147 - 152) ففيها كلام كثير في معنى البيت وروايته وقائله.(17/86)
يريد المطاوح، وكما قال النابغة:
كليني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ ... ولَيْلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكوَاكبِ (1)
بمعنى: مُنْصِب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم في قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) قال: تلقح السحاب.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) قال: لواقح للشجر، قلت: أو للسحاب، قال: وللسحاب، تمريه حتى يمطر.
__________
(1) البيت للنابغة الذبيالي، وهو مطلع قصيدة له يمدح بها عمرو بن الحارث الأعرج، بن الحارث الأكبر، بن أبي شمر، حين هرب من النعمان بن المنذر. وقد مر شرحنا له في غير هذا الموضع من التفسير، والشاهد هنا في قوله " ناصب " أنه بمعنى المنصب، قال في (اللسان: نصبت) : النصب: الإعياء من العناء. والفعل: نصب الرجل بالكسر: أعيا وتعب. وأنصبه هو، وأنصبني هذا الأمر، وهم ناصب: منصب، ذو نصب، مثل تامر ولابن، وهو فاعل بمعنى مفعول، لأنه ينصب فيه ويتعب، قال النابغة: " كليني لهم يا أميمة ناصب " قال: ناصب: بمعنى منصوب، وقال الأصمعي: ناصب: ذي نصب، مثل: ليل نائم ذو نوم ينام فيه، ورجل دارع: ذو درع. وقال سيبويه: هم ناصب: هو على النسب،وحكى أبو علي الفارسي نصبه لهم، فناصب إذن على الفعل. أهـ. قلت: أيريد أبو علي الفارسي: أنه اسم فاعل قياسي جار على فعله، فليس على النسب إذن ولا على التجوز في الإسناد مثل ليل نائم.(17/87)
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبيد بن عمير، قال: يبعث الله المبشرة فتقمّ الأرض قما، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث الله المؤلِّفة فتؤلف السحاب، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، ثم تلا عبيد (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) يقول: لواقح السحاب، وإن من الريح عذابا، وإن منها رحمة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَوَاقِحَ) قال: تلقح الماء في السحاب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عباس (لَوَاقِحَ) قال: تُلقح الشجر وتُمري السحاب.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) الرياح يبعثها الله على السحاب فتلقحه، فيمتلئ ماء.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا عيسى بن ميمون، قال: ثنا أبو المهزم، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرّيحُ الجَنُوبُ مِنَ الجَنِّةِ، وَهِيَ الرّيحُ اللَّوَاقِحُ، وَهِيَ التي ذَكَرَ اللهُ تَعالى فِي كِتابِهِ وَفِيها مَنافِعُ للنَّاسِ".
حدثني أبو الجماهر الحمصي أو الحضرمي محمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد العزيز بن موسى، قال: ثنا عيسى بن ميمون أبو عبيدة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله سواء.
وقوله (فَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) يقول تعالى ذكره: فأنزلنا من السماء مطرا فأسقيناكم ذلك المطر لشرب أرضكم ومواشيكم. ولو كان معناه: أنزلناه لتشربوه، لقيل: فسقيناكموه. وذلك أن العرب تقول إذا سقت الرجل ماء شربه أو لبنا أو غيره: سقيته بغير ألف إذا كان لسقيه، وإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته، قالوا: أسقيته وأسقيت أرضه وماشيته، وكذلك إذا استسقت له، قالوا أسقيته واستسقيته، كما قال ذو الرُّمَّة:(17/88)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
وَقَفْتُ على رَسْمٍ لِمَيَّةَ ناقَتِي ... فَمَا زِلْتُ أبْكي عِنْدَهُ وأُخاطِبُهْ ... وأُسْقِيهِ حتى كادَ مِمَّا أبُثُّهُ ... تُكَلِّمُني أحْجارُهُ ومَلاعِبُهْ (1)
وكذلك إذا وهبت لرجل إهابا ليجعله سقاء، قلت: أسقيته إياه.
وقوله (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) يقول: ولستم بخازني الماء الذي أنزلنا من السماء فأسقيناكموه. فتمنعوه من أسقيه، لأن ذلك بيدي وإليّ، أسقيه من أشاء وأمنعه من أشاء.
كما حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال سفيان: (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) قال: بمانعين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) }
يقول تعالى ذكره: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي) من كان ميتا إذا أردنا (ونُمِيتُ) من كان حيا إذا شئنا (وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) يقول: ونحن نرث الأرض ومن عليها بأن نميت جميعهم، فلا يبقى حيّ سوانا إذا جاء ذلك الأجل. وقوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولقد علمنا من مضى من الأمم، فتقدّم هلاكهم، ومن قد خلق وهو حيّ، ومن لم يخلق بعدُ ممن سيخلق.
__________
(1) البيتان في ديوان ذي الرمة (طبعة كيمبردج سنة 1919 ص 38) وأسقيه: أدعو له بالسقيا، أقول: سقاك الله، وأبثه: أشكو إليه. وقد استشهد بهذين البيتين أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 350) على أن يقال: سقيت الرجل ماء وشرابا من لبن وغير ذلك، وليس فيه إلا لغة واحدة بغير ألف، إذا كان في الشفة، وإذا جعلت له شربا (بكسر الشين، أي ماء لشرب دوابه) فهو أسقيته وأسقيت أرضه وإبله، لا يكون غير هذا، وكذلك إذا استسقيت له كقول ذي الرمة ... البيتين وهو قريب من كلام المؤلف هنا.(17/89)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: المستقدمون: من قد خلق ومن خلا من الأمم، والمستأخرون: من لم يخلق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: هم خلق الله كلهم، قد علم من خلق منهم إلى اليوم، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق. قال: أخبرنا ابن التيمي، عن أبيه، عن عكرمة، قال: إن الله خلق الخلق ففرغ منهم، فالمستقدمون: من خرج من الخلق، والمستأخرون: من بقي في أصلاب الرجال لم يخرج.
حدثني محمد بن أبي معشر، قال: أخبرني أبو معشر، قال: سمعت عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يذاكر محمد بن كعب في قول الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) فقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: خير صفوف الرجال المقدّم، وشرّ صفوف الرجال المؤخَّر، وخير صفوف النساء المؤخَّر، وشرّ صفوف النساء المقدّم، فقال محمد بن كعب: ليس هكذا، ولقد علمنا المستقدمين منكم: الميت والمقتول، والمستأخرين: من يلحق بهم مِن بعدُ، وإن ربك هو يحشرهم، إنه حكيم عليم، فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيرا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: قال قتادة: المستقدمين: من مضى، والمستأخرين: من بقي في أصلاب الرجال.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو الأحوص، قال: ثنا سعيد بن مسروق، عن عكرمة وخصيف، عن مجاهد، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قالا من مات ومن بقي.(17/90)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) قال: كان ابن عباس يقول: آدم صلى الله عليه وسلم ومن مضى من ذرّيته (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) : من بقي في أصلاب الرجال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: المستقدمون آدم ومن بعده، حتى نزلت هذه الآية: والمستأخرون: قال: كلّ من كان من ذرّيته.
قال أبو جعفر: أظنه أنا قال: ما لم يُخلق وما هو مخلوق.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، قال: المستقدمون: ما خرج من أصلاب الرجال، والمستأخرون: ما لم يخرج. ثم قرأ (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) .
وقال آخرون: عنى بالمستقدمين: الذين قد هلكوا، والمستأخرين: الأحياء الذين لم يهلكوا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) يعني بالمستقدمين: من مات، ويعني بالمستأخرين: من هو حيّ لم يمت.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) يعني الأموات منكم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) بقيتهم، وهم الأحياء، يقول: علمنا من مات ومن بقي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: المستقدمون منكم: الذين مضوا في أوّل الأمم، والمستأخرون: الباقون.
وقال آخرون: بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين في أوّل الخلق والمستأخرين في آخرهم.(17/91)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى: قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر في هذه الآية (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال أول الخلق وآخره.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدّي، عن داود، عن الشعبيّ، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) : ما استقدم في أول الخلق، وما استأخر في آخر الخلق.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن عامر، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) قال: في العُصُر، والمستأخرين منكم في أصلاب الرجال، وأرحام النساء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين من الأمم، والمستأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: أخبرنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد المستقدمين منكم، قال: القرون الأوَل، والمستأخرين: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثني عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: المستقدمون: ما مضى من الأمم، والمستأخرون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، بنحوه.(17/92)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد الملك، عن مجاهد بنحوه، ولم يذكر قيسا.
وقال آخرون: بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الخير، والمستأخرين عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: كان الحسن يقول: المستقدمون في طاعة الله، والمستأخرون في معصية الله.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عباد بن راشد، عن الحسن، قال: المستقدمين في الخير، والمستأخرين: يقول: المبطئين عنه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة، والمستأخرين فيها بسبب النساء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن رجل أخبرنا عن مروان بن الحكم أنه قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء، قال: فأنزل الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان، قال: أخبرني عمرو بن مالك، قال سمعت أبا الجوزاء يقول في قول الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين.
حدثني محمد بن موسى الحرسي، قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة، قال ابن عباس: لا والله ما إن رأيت مثلها قط، فكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا، وبعض يستأخرون، فإذا سجدوا، نظروا إليها من تحت أيديهم، فأنزل الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) .(17/93)
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا نوح بن قيس، وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا نوح بن قيس، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس، فكان بعض الناس يستقدم في الصفّ الأوّل لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصفّ المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصفّ، فأنزل الله في شأنها (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال: معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدّم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حيّ ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعدُ، لدلالة ما قبله من الكلام، وهو قوله (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) وما بعده وهو قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) على أن ذلك كذلك، إذ كان بين هذين الخبرين، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدلّ على خلافه، ولا جاء بعد. وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصفّ لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك، ثم يكون الله عزّ وجلّ عمّ بالمعنى المراد منه جميع الخلق، فقال جلّ ثناؤه لهم: قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم، وما كانوا يعملون، ومن هو حيّ منكم، ومن هو حادث بعدكم أيها الناس، وأعمال جميعكم خيرها وشرّها، وأحصينا جميع ذلك ونحن نحشر جميعهم، فنجازي كلا بأعماله، إن خيرًا فخيًرا وإن شرًا فشرًا. فيكون ذلك تهديدًا ووعيدًا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء ولكلّ من تعدّى حدّ الله وعمل بغير ما أذن له به، ووعدا لمن تقدّم في الصفوف لسبب النساء، وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها.
وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) يعني بذلك جلّ ثناؤه: وإن ربك يا محمد هو يجمع جميع الأوّلين والآخرين عنده يوم القيامة، أهل الطاعة منهم والمعصية، وكلّ أحد من خلقه، المستقدمين منهم والمستأخرين.
وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.(17/94)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) قال: أي الأوّل والآخر.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أبو خالد القرشيّ، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، في قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) قال: هذا من هاهنا، وهذا من هاهنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخُرَاسانيّ، عن ابن عباس (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) قال: وكلهم ميت، ثم يحشرهم ربهم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن عامر (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) قال: يجمعهم الله يوم القيامة جميعا، قال الحسن: قال عليّ: قال داود: سمعت عامرا يفسر قوله (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يقول: إن ربك حكيم في تدبيره خلقه في إحيائهم إذا أحياهم، وفي إماتتهم إذا أماتهم، عليم بعددهم وأعمالهم، وبالحيّ منهم والميت، والمستقدم منهم والمستأخر.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: كلّ أولئك قد علمهم الله، يعني المستقدمين والمستأخرين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) }
يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا آدم وهو الإنسان من صلصال. واختلف أهل التأويل في معنى الصلصال، فقال بعضهم: هو الطين اليابس لم تصبه نار، فإذا نقرتَه صَلَّ فسمعت له صلصلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهديّ، قالا ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن(17/95)
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خلق آدم من صلصال من حمأ ومن طين لازب، وأما اللازب: فالجيد، وأما الحَمَأ: فالحمأة، وأما الصَّلصال: فالتراب المرقَّق، وإنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ) قال: والصلصال: التراب اليابس الذي يسمع له صلصلة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: الصلصال: الطين اليابس يسمع له صلصلة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس (مِنْ صَلْصَالٍ) قال: الصلصال: الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسَرُ عنها، فتشقق، ثم تصير مثل الخَزَف الرقاق.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خُلق الإنسان من ثلاثة: من طين لازب، وصلصال، وحمأ مسنون. والطين اللازب: اللازق الجيد، والصلصال: المرقق الذي يصنع منه الفخار، والمسنون: الطين فيه الحَمْأة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: هو التراب اليابس الذي يُبَل بعد يُبسه.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن مسلم، عن مجاهد، قال: الصلصال: الذي يصلصل، مثل الخَزَف من الطين الطيب.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، يقول: الصلصال: طين صُلْب يخالطه الكثيب.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مِنْ صَلْصَالٍ) قال: التراب اليابس.(17/96)
وقال آخرون: الصلصال: المُنْتِن. وكأنهم وجَّهوا ذلك إلى أنه من قولهم: صلّ اللحم وأصلّ، إذا أنتن، يقال ذلك باللغتين كلتيهما: يَفْعَل وأَفْعَل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مِنْ صَلْصَالٍ) الصلصال: المنتن.
والذي هو أولى بتأويل الآية أن يكون الصلصال في هذا الموضع الذي له صوت من الصلصلة، وذلك أن الله تعالى وصفه في موضع آخر فقال (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) فشبهه تعالى ذكره بأنه كان كالفخَّار في يُبسه. ولو كان معناه في ذلك المُنتِن لم يشبهه بالفخارِّ، لأن الفخار ليس بمنتن فيشبَّه به في النتن غيره.
وأما قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) فإن الحمأ: جمع حَمْأة، وهو الطين المتَغيِّر إلى السواد. وقوله (مَسْنُونٍ) يعني: المتغير.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله (مَسْنُونٍ) فكان بعض نحويِّي البصريين يقول: عني به: حمأ مصورّ تامّ. وذُكر عن العرب أنهم قالوا: سُنّ على مثال سُنَّة الوجه: أي صورته. قال: وكأن سُنة الشيء من ذلك: أي مثالَه الذي وُضع عليه. قال: وليس من الآسن المتغير، لأنه من سَنَن مضاعف.
وقال آخر منهم: هو الحَمَأ المصبوب. قال: والمصبوب: المسنون، وهو من قولهم: سَنَنْت الماء على الوجه وغيره إذا صببته.
وكان بعض أهل الكوفة يقول: هو المتغير، قال: كأنه أخذ من سَنَنْت الحَجَر على الحجر، وذلك أن يحكّ أحدهما بالآخر، يقال منه: سننته أسنُه سَنًّا فهو مسنون. قال: ويقال للذي يخرج من بينهما: سَنِين، ويكون ذلك مُنْتنا. وقال: منه سُمِّيَ المِسَنّ لأن الحديد يُسَنُّ عليه. وأما أهل التأويل، فإنهم قالوا في ذلك نحو ما قلنا.(17/97)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبيد الله بن يوسف الجبيري، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: الحمأ: المنتنة.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: الذي قد أنتن.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: منتن.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: هو التراب المبتلّ المنتنُ، فجعل صَلصالا كالفَخار.
حدثني محمد بن عمرو، قال ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: منتن.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) والحمأ المسنون: الذي قد تغير وأنتن.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: قد أنتن، قال: منتنة.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: من طين لازب، وهو اللازق من الكثيب، وهو الرمل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: الحمأ المنتن.
وقال آخرون منهم في ذلك: هو الطين الرَّطْب.(17/98)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) يقول: من طين رَطب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) }
يقول تعالى ذكره: (والجانَّ) وقد بيَّنا فيما مضى معنى الجانّ ولم قيل له جان. وعني بالجانّ هاهنا: إبليس أبا الجنّ. يقول تعالى ذكره: وإبليس خلقناه من قبل الإنسان من نار السموم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) وهو إبليس خُلق قبل آدم، وإنما خلق آدم آخر الخلق، فحسده عدوّ الله إبليس على ما أعطاه الله من الكرامة، فقال: أنا ناريّ، وهذا طينيّ، فكانت السجدة لآدم، والطاعة لله تعالى ذكره، فقال (اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) .
واختلف أهل التأويل في معنى (نَارِ السَّمُومِ) فقال بعضهم: هي السموم الحارّة التي تقتل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) قال: هي السموم التي تقتل، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت قال: هي السموم التي تقتل.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانِيّ، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق التميمي، عن ابن عباس (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) قال: هي السموم التي تقتل، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت قال: هي السموم التي تقتل.
وقال آخرون: يعني بذلك من لهب النار.(17/99)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) قال: من لهب من نار السموم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان، عن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ، خُلقوا من نار السموم من بين الملائكة. قال: وخُلقت الجنّ الذين ذُكروا في القرآن من مارج من نار.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: دخلت على عمرو بن الأصم أعوده، فقال: ألا أحدّثك حديثًا سمعته من عبد الله؟ سمعت عبد الله يقول: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خرج منها الجانّ. قال: وتلا (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) . وكان بعض أهل العربية يقول: السموم بالليل والنهار. وقال بعضهم: الحَرُور بالنهار، والسموم بالليل، يقال: سَمَّ يومُنا يَسَمُّ سَمُومًا.
حدثني المثنى، قال: ثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه، وسئل عن الجنّ ما هم، وهل يأكلون أو يشربون، أو يموتون، أو يتناكحون؟ قال: هم أجناس، فأما خالص الجنّ فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون. ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون ويموتون، وهي هذه التي منها السعالِي والغُول وأشباه ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (و) اذكر يا محمد (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) .
يقول:(17/100)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
فإذا صوّرته فعدَّلت صورته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فصار بشرا حيا (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) سجود تحية وتكرمة لا سجود عبادة.
وقد حدثني جعفر بن مكرم، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما خلق الله الملائكة قال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فقالوا: لا نفعل. فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، وخلق ملائكة أخرى، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فأبَوا، قال: فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة أخرى، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فأبوا، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فقالوا: سمعنا وأطعنا، إلا إبليس كان من الكافرين الأوّلين.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) }(17/101)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) }
يقول تعالى ذكره: فلما خلق الله ذلك البشر، ونفخ فيه الروح بعد أن سوّاه، سجد الملائكة كلهم جميعا، إلا إبليس، فإنه أبى أن يكون مع الساجدين في سجودهم لآدم حين سجدوا، فلم يسجد له معهم تكبرا وحسدا وبغيا، فقال الله تعالى ذكره (يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) يقول: ما منعك من أن تكون مع الساجدين، فأن في قول بعض نحويي الكوفة خفض، وفي قول بعض أهل البصرة نصب بفقد الخافض.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ(17/101)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) }
يقول تعالى ذكره (قالَ) إبليس: (لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون) وهو من طين وأنا من نار، والنار تأكل الطين. وقوله (فَاخْرُجْ مِنْهَا) يقول الله تعالى ذكره لإبليس: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) .
والرجيم المرجوم، صرف من مفعول إلى فعيل وهو المشتوم، كذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) والرجيم: الملعون.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) قال: ملعون. والرجم في القرآن: الشتم.
وقوله (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) يقول: وإن غضب الله عليك بإخراجه إياك من السموات وطردك عنها إلى يوم المجازاة، وذلك يوم القيامة، وقد بيَّنا معنى اللعنة في غير موضع بما أغنى عن إعادته هاهنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) }
يقول تعالى ذكره: قال إبليس: ربّ فإذ أخرجتني من السموات ولعنتني، فأخِّرني إلى يوم تبعث خلقك من قبورهم فتحشرهم لموقف القيامة، قال الله له: فإنك ممن أُخِّر هلاكه إلى يوم الوقت المعلوم لهلاك جميع خلقي، وذلك حين لا يبقى على الأرض من بني آدم دَيَّار.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) }
يقول تعالى ذكره: قال إبليس: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) بإغوائك (لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ(17/102)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
فِي الأَرْضِ) وكأن قوله (بِمَا أَغْوَيْتَنِي) خرّج مخرج القسم، كما يقال: بالله، أو بعزّة الله لأغوينهم. وعنى بقوله (لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) لأحسننّ لهم معاصيك، ولأحببنها إليهم في الأرض (وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) يقول: ولأضلَّنهم عن سبيل الرشاد (إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) يقول: إلا من أخلصته بتوفيقك فهديته، فإن ذلك ممن لا سلطان لي عليه ولا طاقة لي به. وقد قرئ: (إلا عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصِينَ) فمن قرأ ذلك كذلك، فإنه يعني به: إلا من أخلص طاعتك، فإنه لا سبيل لي عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك (إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) يعني: المؤمنين.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، قال: ثنا عمرو، عن سعيد، عن قتادة (إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) قال قتادة: هذه ثَنِيَّة الله تعالى ذكره.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) فقرأه عامَّة قراء الحجاز والمدينة والكوفة والبصرة (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) بمعنى: هذا طريق إليّ مستقيم.
فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إليّ فأجازي كلا بأعمالهم، كما قال الله تعالى ذكره (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ،وذلك نظير قول القائل لمن يتوعده ويتهدده: طريقك عليّ، وأنا على طريقك، فكذلك قوله: (هَذَا صِرَاطٌ) معناه: هذا طريق عليّ وهذا طريق إليّ. وكذلك تأول من قرأ ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء،(17/103)
وحدثني الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) قال: الحقّ يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرِّج على شيء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا مَرْوان بن شجاع، عن خَصِيف، عن زياد بن أبي مريم، وعبد الله بن كثير أنهما قرآها (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) وقالا عليّ هي إليّ وبمنزلتها.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن وسعيد عن قتادة، عن الحسن (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) يقول: إليّ مستقيم. وقرأ ذلك قيس بن عباد وابن سيرين وقتادة فيما ذُكر عنهم (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) برفع عليّ على أنه نعت للصراط، بمعنى: رفيع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي حماد، قال: ثني جعفر البصري، عن ابن سيرين أنه كان يقرأ (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) يعني: رفيع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (هَذَا صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ) أي رفيع مستقيم، قال بشر، قال يزيد، قال سعيد: هكذا نقرؤها نحن وقتادة.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب، عن هارون، عن أبي العوّام، عن قتادة، عن قيس بن عباد (هَذَا صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ) يقول: رفيع.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأ (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) على التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن البصري، ومن وافقهما عليه، لإجماع الحجة من القرّاء عليها، وشذوذ ما خالفها.(17/104)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
وقوله (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) يقول تعالى ذكره: إن عبادي ليس لك عليهم حجة، إلا من اتبعك على ما دعوته إليه من الضلالة ممن غوى وهلك.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبيد الله بن موهب، قال ثنا يزيد بن قسيط، قال: كانت الأنبياء لهم مساجد خارجة من قُراهم، فإذا أراد النبيّ أن يستنبئ ربه عن شيء، خرج إلى مسجده، فصلى ما كتب الله له، ثم سأل ما بدا له، فبينما نبيّ في مسجده، إذا جاء عدوّ الله حتى جلس بينه وبين القبلة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، فقال عدوّ الله: أرأيت الذي تعوَّذ منه فهو هو، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أعُوذُ باللَّهِ مِن الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فردّد ذلك ثلاث مرّات، فقال عدوّ اللَّه: أخبرني بأيّ شيء تنجو مني، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَخْبِرْني بأيّ شيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ، مرّتين، فأخذ كلّ واحد منهما على صاحبه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ تعالى ذِكْرُهُ يقُولُ: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) قال عدوّ اللَّه: قد سمعت هذا قبل أن تولد، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ويقول اللَّهُ تَعالى ذِكْرُهُ: (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وإنّي والله ما أحْسَسْتُ بِكَ قَطُّ إلا اسْتَعذْتُ بالله مِنْكَ، فقال عدوّ الله: صدقت بهذا تنجو مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأخْبِرْنِي بأيّ شَيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ؟ قال: آخذه عند الغضب، وعند الهوى.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) }
يقول تعالى ذكره لإبليس: وإن جهنم لموعد من تبعك أجمعين (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) يقول: لجهنم سبعة أطباق، لكلِّ طَبَق منهم: يعني من أتباع إبليس جزء، يعني: قسما ونصيبا مقسوما.(17/105)
وذُكر أن أبواب جهنم طبقات بعضها فوق بعض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا هارون الغنوي، قال: سمعت حِطان، قال: سمعت عليا وهو يخطب، قال: إن أبواب جهنم هكذا، ووضع شُعبة إحدى يديه على الأخرى.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي هارون الغنوي، عن حطان بن عبد الله، قال: قال عليّ: تدرون كيف أبواب النار؟ قلنا: نعم كنحو هذه الأبواب، فقال: لا ولكنها هكذا، فوصف أبو هارون أطباقا بعضها فوق بعض، وفعل ذلك أبو بشر.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أبي هارون الغنوي، عن حطان بن عبد الله عن عليّ، قال: هل تدرون كيف أبواب النار؟ قالوا: كنحو هذه الأبواب، قال: لا ولكن هكذا، فوصف بعضها فوق بعض.
حدثنا هارون بن إسحاق، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: أخبرنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن هبيرة، عن عليّ، قال: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأوّل، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم تمتلئ كلها.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن علي قال: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، وأشار بأصابعه على الأوّل، ثم الثاني، ثم الثالث حتى تملأ كلها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن هبيرة بن مريم، قال: سمعت عليا يقول: إن أبواب جهنم بعضها فوق بعض، فيملأ الأوّل ثم الذي يليه، إلى آخرها.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ، قال: أخبرنا محمد بن يزيد الواسطيّ، عن جَهْضَم، قال: سمعت عكرمة يقول في قوله (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) قال: لها سبعة أطباق.(17/106)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) قال: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، والجحيم فيها أبو جهل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) وهي والله منازل بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا الله بطاعته وخافوه، فتجنبوا معاصيه في جنات وعيون، يقال لهم: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) من عقاب الله، أو أن تُسلبوا نعمة أنعمها الله عليكم، وكرامة أكرمكم بها. قوله (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) يقول: وأخرجنا ما في صدور هؤلاء المتقين الذين وصف صفتهم من حقد وضغينة بعضهم لبعض.
واختلف أهل التأويل في الحال التي ينزع الله ذلك من صدورهم، فقال بعضهم: ينزل ذلك بعد دخولهم الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن بشر البصري، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أُمامة، قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غلّ، ثم قرأ (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو فضالة، عن لقمان، عن أبي أمامة، قال: لا يدخل مؤمن الجنة حتى ينزع الله ما في صدورهم من غلّ، ثم ينزع منه السبع الضاري.(17/107)
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن إسرائيل، عن أبي موسى سمع الحسن البصري يقول: قال عليّ: فينا والله أهل بدر نزلت الآية (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة: (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) قال: من عداوة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن جويبر، عن الضحاك (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) قال: العداوة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن رجل، عن عليّ (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) قال: العداوة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على عليّ، فحجبه طويلا ثم أذن له فقال له: أما أهل البلاء فتجفوهم، قال عليّ: بفيك التراب، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جعفر، عن عليّ نحوه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن نعيم بن أبي هند، عن رَبْعِيَ بن حِرَاش، بنحوه، وزاد فيه: قال: فقام إلى علي رجل من هَمَدان، فقال: الله أعدل من ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فصاح عليٌّ صيحة ظننت أن القصر تدهده لها، ثم قال: إذا لم نكن نحن، فمن هم؟
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، قال: ثنا أبو مالك الأشجعي، عن أبي حبيبة مولى لطلحة، قال: دخل عمران بن طلحة على عليّ بعد ما فرغ من أصحاب الجمل، فرحَّب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله (إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) ، ورجلان جالسان على ناحية البساط، فقالا الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس وتكونون إخوانا؟ فقال(17/108)
عليّ: قوما أبعد أرض وأسحقها. فمن هم إذن إن لم أكن أنا وطلحة؟ وذكر لنا أبو معاوية الحديث بطوله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا أبو مالك، قال: ثنا أبو حبيبة، قال: قال علي لابن طلحة: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين نزعَ الله ما في صدورهم من غلٍّ ويجعلنا إخوانا على سرر متقابلين.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا حماد بن خالد الخياط، عن أبي الجويرية، قال: ثنا معاوية بن إسحاق، عن عمران بن طلحة، قال: لما نظرني عليّ قال: مرحبا بابن أخي، فذكر نحوه.
حدثنا الحسن، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا هشام، عن محمد، قال: استأذن الأشتر على عليّ وعنده ابن لطلحة، فحبسه، ثم أذن له، فلما دخل قال: إني لأراك إنما حبستني لهذا، قال: أجل، قال: إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني، قال: أجل إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) .
حدثنا الحسن، قال: ثنا إسحاق الأزرق، قال: أخبرنا عوف، عن سيرين، بنحوه.
حدثنا الحسن، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا السكن بن المغيرة، قال: ثنا معاوية بن راشد، قال: قال علي إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثنا ابن المتوكل الناجي، أن أبا سعيد الخدري حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ قَالَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنزلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ(17/109)
بِمَنزلِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا". وقال بعضهم: ما يشبَّه بهم إلا أهل جمعة انصرفوا من جمعتهم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة في هذه الآية (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) قال: ثنا قتادة أن أبا المتوكل الناجي حدثهم أن أبا سعيد الخدريّ حدثهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، إلى قوله "وأُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ" ثم جعل سائر الكلام عن قتادة، قال: وقال قتادة: فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزله، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث بشر، غير أن الكلام إلى آخره عن قتادة، سوى أنه قال في حديثه: قال قتادة وقال بعضهم: ما يشبَّه بهم إلا أهل الجمعة إذا انصرفوا من الجمعة.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: ثنا عمر بن زرعة، عن محمد بن إسماعيل الزبيدي، عن كثير النواء، قال سمعته يقول: دخلت على أبي جعفر محمد بن عليّ، فقلت: وليي وليكم، وسلمي سِلْمكم، وعدوّي عدوّكم، وحربي حربكم، إني أسألك بالله، أتبرأ من أبي بكر وعمر، فقال: قد ضَلَلْتُ إذا وما أنا من المهتدين، تولَّهما يا كثير، فما أدركك فهو في رقبتي، ثم تلا هذه الآية (إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) يقول: إخوانا يقابل بعضهم وجه بعض، لا يستدبره فينظر في قفاه، وكذلك تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا حصين، عن مجاهد، في قوله (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) قال: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن ومؤمل، قالوا: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. والسرر: جمع سرير، كما الجدد: جمع جديد، وجمع سررا، وأظهر التضعيف فيها، والراءان متحرّكتان لخفة الأسماء، ولا تفعل ذلك في الأفعال لثقل الأفعال، ولكنهم يُدْغمون في الفعل ليسكن أحد الحرفين فيخفف، فإذا دخل على الفعل ما يسكن الثاني أظهروا حينئذ التضعيف.(17/110)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
القول في تأويل قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ (50) }
يقول تعالى ذكره: لا يَمسّ هؤلاء المتقين الذين وصف صِفتهم في الجنات نَصَب، يعني تَعَب (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) يقول: وما هم من الجنة ونعيمها وما أعطاهم الله فيها بمخرجين، بل ذلك دائم أبدا. وقوله (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أخبر عبادي يا محمد، أني أنا الذي أستر على ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا، بترك فضيحتهم بها وعقوبتهم عليها، الرحيم بهم أن أعذّبهم بعد توبتهم منها عليها (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ) يقول: وأخبرهم أيضا أن عذابي لمن أصرّ على معاصيّ وأقام عليها ولم يتب منها، هو العذاب الموجع الذي لا يشبهه عذاب. هذا من الله تحذير لخلقه التقدم على معاصيه، وأمر منه لهم بالإنابة والتوبة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ) قال: بلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ يَعلمُ العبدُ قَدْر عَفْوِ اللَّهِ لما تورّعَ من حرام، وَلَو يَعلم قَدْر عَذَابهِ لَبخَع نفسَه".
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا ابن المكيّ، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا مصعب بن ثابت، قال: ثنا عاصم بن عبد الله، عن ابن أبي رباح، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:" طَلَع عَلَيْنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، فقال: ألا أرَاكُمْ تَضْحَكُونَ؟ ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى، فقال: إنّي لمَّا خَرَجْتُ جاءَ جَبْرَئِيل صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يا مُحَمَّد إنَّ الله يَقُولُ: لِمَ تُقَنِّطُ عبادِي؟ نبِّئ عبادِي أنّي أنا الغَفُورُ الرَّحيمُ وأنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الألِيمُ".(17/111)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) }(17/112)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأخبر عبادي يا محمد عن ضيف إبراهيم: يعني الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم خليل الرحمن حين أرسلهم ربهم إلى قوم لوط ليهلكوهم (فَقَالُوا سَلامًا) يقول: فقال الضيف لإبراهيم: سلاما (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) يقول: قال إبراهيم: إنا منكم خائفون. وقد بيَّنا وجه النصب في قوله (سَلاما) وسبب وجل إبراهيم من ضيفه، واختلاف المختلفين ودللنا على الصحيح من القول فيه فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما قوله (قَالُوا سَلامًا) وهو يعني به الضيف، فجمع الخبر عنهم، وهم في لفظ واحد، فإن الضيف اسم للواحد والاثنين والجمع مثل الوزن والقطر والعدل، فلذلك جمع خبره، وهو لفظ واحد. وقوله (قَالُوا لا تَوْجَلْ) يقول: قال الضيف لإبراهيم: (لا توجل) لا تخف (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ (54) }
يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم للملائكة الذين بشَّروه بغلام عليم (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ) يقول: فبأي شيء تبشرون.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،(17/112)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
في قوله (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ) قال: عجب من كبره، وكبر امرأته.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، وقال (عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) ومعناه: لأن مسني الكبر وبأن مسني الكبر، وهو نحو قوله (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ) بمعنى: بأن لا أقول، ويمثله في الكلام: أتيتك أنك تعطي، فلم أجدك تعطي.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ (56) }
يقول تعالى ذكره: قال ضيف إبراهيم له: بشرناك بحقّ يقين، وعلم منَّا بأن الله قد وهب لك غلاما عليما، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله فييأسون منه، ولكن أبشر بما بشرناك به واقبل البُشرى.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (مِنَ الْقَانِطِينَ) فقرأه عامَّة قراء الأمصار (مِنَ الْقَانِطِينَ) بالألف. وذكر عن يحيى بن وثاب أنه كان يقرأ ذلك (القَنِطِينَ) .
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة على ذلك، وشذوذ ما خالفه.
وقوله (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ) يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم للضيف: ومن ييأس من رحمة الله إلا القوم الذين قد أخطئوا سبيل الصواب، وتركوا قصد السبيل في تركهم رجاء الله، ولا يخيب من رجاه، فضلوا بذلك عن دين الله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَمَنْ يَقْنَطُ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والكوفة (وَمَنْ يَقْنَطُ) بفتح النون، إلا الأعمش والكسائي فإنهما كسرا النون من (يَقْنِط) . فأما الذين فتحوا النون منه ممن ذكرنا فإنهم قرءوا (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) بفتح القاف والنون. وأما الأعمش فكان يقرأ ذلك: من بعد ما قَنِطُوا، بكسر(17/113)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
النون. وكان الكسائي يقرؤه بفتح النون، وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأ الحرفين جميعا على النحو الذي ذكرنا من قراءة الكسائي.
وأولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة من قرأ (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) بفتح النون (وَمَنْ يَقْنِطُ) بكسر النون، لإجماع الحجة من القرّاء على فتحها في قوله (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) فكسرها في (وَمَنْ يَقْنِطُ) أولى إذا كان مجمعا على فتحها في قَنَط، لأن فَعَل إذا كانت عين الفعل منها مفتوحة، ولم تكن من الحروف الستة التي هي حروف الحلق، فإنها تكون في يفْعِل مكسورة أو مضمومة. فأما الفتح فلا يُعرف ذلك في كلام العرب.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) }
يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم للملائكة: فما شأنكم: ما أمرُكم أيُّها المرسلون؟ قالت الملائكة له: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين: يقول: إلى قوم قد اكتسبوا الكفر بالله، إلا آل لوط: يقول: إلا اتباع لوط على ما هو عليه من الدِّين، فإنا لن نهلكهم بل ننجيهم من العذاب الذي أمرنا أن نعذّب به قوم لوط، سوى امرأة لوط قدّرنا إنها من الغابرين: يقول: قضى الله فيها إنها لمن الباقين، ثم هي مهلكة بعد. وقد بيَّنا الغابر فِيما مضى بشواهده.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره: فلما أتى رسلُ الله آل لوط، أنكرهم لوط فلم يعرفهم، وقال لهم: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) : أي نُنْكركم لا نعرفكم، فقالت له(17/114)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
الرسل: بل نحن رسل الله جئناك بما كان فيه قومك يشكون أنه نازل بهم من عذاب الله على كفرهم به.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) قال: أنكرهم لوط، وقوله (بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) قال. بعذاب قوم لوط.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) }
يقول تعالى ذكره: قالت الرسل للوط: وجئناك بالحق اليقين من عند الله، وذلك الحقّ هو العذاب الذي عذب الله به قوم لوط. وقد ذكرت خبرهم وقصصهم في سورة هود وغيرها حين بعث الله رسله ليعذّبهم به. وقولهم: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) يقولون: إنا لصادقون فيما أخبرناك به يا لوط من أن الله مهلك قومك (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن رسله أنهم قالوا للوط، فأسر بأهلك ببقية من الليل، واتبع يا لوط أدبار أهلك الذين تسري بهم وكن من ورائهم، وسر خلفهم وهم أمامك، ولا يلتفت منكم وراءه أحد، وامضوا حيث يأمركم الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، عن ورقاء جميعا، عن(17/115)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) لا يلتفت وراءه أحد، ولا يُعَرِّج.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) : لا ينظر وراءه أحد.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل؛ وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال. ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) قال: أُمِر أن يكون خلف أهله، يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) قال: بعض الليل (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) : أدبار أهله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره: وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأوحينا أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين: يقول: إن آخر قومك وأوّلهم مجذوذ مستأصل صباح ليلتهم، وأنّ من قوله (أَنَّ دَابِرَ) في موضع نصب ردّا على الأمر بوقوع القضاء عليها. وقد يجوز أن تكون في موضع نصب بفقد الخافض، ويكون معناه: وقضينا إليه ذلك الأمر بأن دابر هؤلاء مقطوع مُصبحين. وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: وقلنا إن دابر هؤلاء مقطوع مُصبحين. وعُنِي بقوله (مُصْبِحِينَ) : إذا أصبحوا، أو حين يصبحون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني(17/116)
قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) يعني: استئصال هلاكهم مصبحين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْر) قال: وأوحينا إليه.
وقوله (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) يقول: وجاء أهل مدينة سَدُوم وهم قوم لوط لما سمعوا أن ضيفا قد ضاف لوطا مستبشرين بنزولهم مدينتهم طمعا منهم في ركوب الفاحشة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) استبشروا بأضياف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لوط، حين نزلوا لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) }
يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه: إن هؤلاء الذين جئتموهم تريدون منهم الفاحشة ضيفي، وحقّ على الرجل إكرام ضيفه، فلا تفضحون أيها القوم في ضيفي، وأكرموني في ترككم التعرّض لهم بالمكروه، وقوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ) يقول: وخافوا الله فيّ وفي أنفسكم أن يحلّ بكم عقابه (وَلا تُخْزُونِ) يقول: ولا تذلوني ولا تهينوني فيهم، بالتعرّض لهم بالمكروه (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) يقول تعالى ذكره: قال للوط قومه: أو لم ننهك أن تضيف أحدا من العالمين.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) قال: ألم ننهك أن تضيف أحدا؟(17/117)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)(17/117)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) }
يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه: تزوّجوا النساء فأتوهنّ، ولا تفعلوا ما قد حرّم الله عليكم من إتيان الرجال، إن كنتم فاعلين ما آمركم به، ومنتهين إلى أمري.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) : أمرهم نبيّ الله لوط أن يتزوّجوا النساء، وأراد أن يَقِيَ أضيافه ببناته.
وقوله (لَعَمْرُكَ) يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وحياتك يا محمد، إن قومك من قريش (لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) يقول: لفي ضلالتهم وجهلهم يتردّدون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا سعيد بن زيد، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوْزاء، عن ابن عباس، قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى ذكره (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) .
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضْرميّ، قال: ثنا الحسن بن أبي جعفر، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، في قول الله (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال: ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) وهي كلمة من كلام العرب، لفي سكرتهم: أي في ضلالتهم يعمهون: أي يلعبون.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، قال: سألت الأعمش، عن قوله (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال: لفي غفلتهم يتردّدون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن(17/118)
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
قتادة: (فِي سَكْرَتِهِم) قال: في ضلالتهم يعمهون قال: يلعبون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال مجاهد (يَعْمَهُونَ) قال: يتردّدون.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (لَعَمْرُكَ) يقول: لَعَيْشُكَ (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال: يتمادَوْن.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون أن يقول الرجل: لعمري، يرونه كقوله: وَحَيَاتِي.
وقوله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) يقول تعالى ذكره: فأخذتهم صاعقة العذاب، وهي الصيحة مشرقين: يقول: إذ أشرقوا، ومعناه: إذ أشرقت الشمس، ونصب مشرقين ومصبحين على الحال بمعنى: إذا أصبحوا، وإذ أشرقوا، يقال منه: صيح بهم، إذا أهلكوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) قال: حين أشرقت الشمس ذلك مشرقين.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) }
يقول تعالى ذكره: فجعلنا عالي أرضهم سافلها، وأمطرنا عليهم حِجارة من سجيل (1) .
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) أي من طين.
__________
(1) لعل الأصل (من سجيل) : أي من طين، كما يظهر بتأمل.(17/119)
وقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) يقول: إن في الذي فعلنا بقوم لوط من إهلاكهم، وأحللنا بهم من العذاب لَعَلامات ودلالات للمتفرّسين المعتبرين بعلامات الله، وعبره على عواقب أمور أهل معاصيه والكفر به. وإنما يعني تعالى ذكره بذلك قوم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من قريش، يقول: فلقومك يا محمد في قوم لوط، وما حلّ بهم من عذاب الله حين كذّبوا رسولهم، وتمادوا في غيهم، وضلالهم، مَعْتَبَر.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الأعلى بن واصل قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن قيس، عن مجاهد، في قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال: للمتفرّسين.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن عبد الملك، وحدثنا الحسن الزعفراني، قال: ثني محمد بن عبيد، قال: ثني عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال للمتفرّسين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: المتوسمين، المتفرّسين، قال: توسَّمت فيك الخير نافلة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن قيس، عن مجاهد (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال: المتفرّسين.(17/120)
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) يقول: للناظرين.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن جويبر، عن الضحاك (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال للناظرين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) : أي للمعتبرين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي: للمعتبرين.
حدثني محمد بن عُمارة، قال: ثني حسن بن مالك، قال: ثنا محمد بن كثير، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ. ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) ".
حدثنا أحمد بن محمد الطُّوسي، قال: ثنا محمد بن كثير مولى بني هاشم، قال: ثنا عمرو بن قيس المُلائِي، عن عطية، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا الفُرات بن السائب، قال: ثنا ميمون بن مهران، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ المُؤْمِنِ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ".
حدثنا عبد الأعلى بن واصل، قال: ثني سعيد بن محمد الجَرْميّ، قال: ثنا عبد الواحد بن واصل، قال: ثنا أبو بشر المزلق، عن ثابت البُنَانِيّ، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ ".
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال: المتفكرون والمعتبرون الذين يتوسمون الأشياء، ويتفكرون فيها ويعتبرون.(17/121)
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) يقول: للناظرين.
حدثني أبو شرحبيل الحمْصِي، قال: ثنا سليمان بن سلمة، قال: ثنا المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبيّ، قال: ثنا أبو المعلَّى أسد بن وداعة الطائيّ، قال: ثنا وهب بن منبه، عن طاوس بن كيسان، عن ثَوْبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احْذَرُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ، وَيَنْطِقُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ ".
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) }
يقول تعالى ذكره: وإن هذه المدينة، مدينة سَدُوم، لبطريق واضح مقيم يراها المجتاز بها لا خفاء بها، ولا يبرح مكانها، فيجهل ذو لبّ أمرها، وغبّ معصية الله، والكفر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، وحدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) قال: لبطريق معلم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) يقول: بطريق واضح.(17/122)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
67 حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) قال: طريق، السبيل: الطريق.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) يقول: بطريق معلم.
وقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره: إن في صنيعنا بقوم لوط ما صنعنا بهم، لعلامة ودلالة بينة لمن آمن بالله على انتقامه من أهل الكفر به، وإنقاذه من عذابه، إذا نزل بقوم أهل الإيمان به منهم.
كما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن سماك، عن سعيد بن جبير، في قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) قال: هو كالرجل يقول لأهله: علامة ما بيني وبينكم أن أرسل إليكم خاتمي، أو آية كذا وكذا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) قال: أما ترى الرجل يرسل بخاتمه إلى أهله فيقول: هاتوا خذي،هاتوا خذي، فإذا رأوه علموا أنه حقّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) }
يقول تعالى ذكره: وقد كان أصحاب الغَيْضة ظالمين، يقول: كانوا بالله كافرين، والأيكة: الشجر الملتف المجتمع، كما قال أمية:(17/123)
كَبُكا الحَمامِ عَلى فُرُو ... عِ الأَيْكِ في الغُصُنِ الجَوَانِحْ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: ثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، قال، قوله (أَصْحَابُ الأَيْكَةِ) قال: الشجر، وكانوا يأكلون في الصيف الفاكهة الرطبة، وفي الشتاء اليابسة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ) ذكر لنا أنهم كانوا أهل غيضة. وكان عامَّة شجرهم هذا الدَّوْم. وكان رسولهم فيما بلغنا شُعَيب صلى الله عليه وسلم، أرسل إليهم وإلى أهل مدين، أرسل إلى أمتين من الناس، وعذّبتا بعذابين شتى. أما أهل مدين، فأخذتهم الصيحة، وأما أصحاب الأيكة، فكانوا أهل شجر متكاوس، ذُكر لنا أنه سلَّط عليهم الحرّ سبعة أيام، لا يظللهم منه ظلّ، ولا يمنعهم منه شيء، فبعث الله عليهم سحابة، فحَلُّوا تحتها يلتمسون الرَّوْح فيها، فجعلها الله عليهم عذابا، بعث عليهم نارا فاضطرمت عليهم فأكلتهم، فذلك عذاب يوم الظلَّة، إنه كان عذاب يوم عظيم.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قال: أصحاب الأيكة: أصحاب غَيْضَة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ) قال: قوم شعيب، قال ابن عباس: الأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت
__________
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت الثقفي، ولم أجده في ديوانه، ووجدته في سيرة ابن هشام (3: 31 طبعة الحلبي) من قصيدة له يرثي بها قتلى بدر وأولها أَلاَّ بَكَيْتِ عَلى الكِرَا ... مِ بَنِي الكِرَامِ أُولي المَمادِحْ
كبكا الحمام ... البيت. والأيك: الشجر الملتف، واحدته أيكة، والجوانح: الموائل. يقول: جنح: إذا مال. وفي (اللسان أيك) : الأيكة: الشجر الكثير الملتف. وقيل: هي الغيضة تنبت السد والأراك ونحوهما من ناعم الشجر، وخص بعضهم به منت الأثل ومجتمعه.(17/124)
الضحاك يقول: في قوله (أصحَابُ الأَيْكَةِ) قال: هم قوم شعيب، والأيكة: الغيضة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن عبد الله، عن قتادة، أنه قال: إن أصحاب الأيكة، والأيكة: الشجر الملتفّ.
وقوله (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) يقول تعالى ذكره: فانتقمنا من ظلمة أصحاب الأيكة. وقوله (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) يقول: وإن مدينة أصحاب الأيكة، ومدينة قوم لوط، والهاء والميم في قوله (وإنَّهُما) من ذكر المدينتين. (لَبِإمامٍ) يقول: لبطريق يأتمون به في سفرهم، ويهتدون به (مُبِينٍ) يقول: يبين لمن ائتمّ به استقامته، وإنما جعل الطريق إماما لأنه يُؤم ويُتَّبع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) يقول: على الطريق.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) يقول: طريق ظاهر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، وحدثني المثنى قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) قال: بطريق معلم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) قال: طريق واضح.
حُدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) بطريق مستبين.(17/125)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) }
يقول تعالى ذكره: ولقد كذب سكان الحجر، وجعلوا لسكناهم فيها ومقامهم بها أصحابها، كما قال تعالى ذكره: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) فجعلهم أصحابها لسُكناهم فيها ومقامهم بها. والحجر: مدينة ثمود.
وكان قتادة يقول في معنى الحجر، ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أصحاب الحجر: قال: أصحاب الوادي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، وهو يذكر الحِجْر مساكن ثمود قال: قال سالم بن عبد الله: إن عبد الله بن عمر قال:" مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، ثم زجر فأسرع حتى خلفها) .
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ، قال: ثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد المكي، قال: ثنا داود بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن ابن سابط، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالحجر: "هَؤُلاءِ قَوْمُ صَالِحٍ أهْلَكَهُمُ اللَّهُ إلا رَجُلا كانَ فِي حَرَمِ الله مَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مَنْ عَذَابِ اللَّهِ، قيل: يا رسول الله من هو؟ قال: أبُو رِغالٍ".
وقوله (وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) يقول: وأريناهم أدلتنا وحججنا على حقيقة ما بعثنا به إليهم رسولنا صالحا، فكانوا عن آياتنا التي آتيناهموها معرضين لا يعتبرون بها ولا يتعظون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)(17/126)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) }
يقول تعالى ذكره: وكان أصحاب الحجر، وهم ثمود قوم صالح، (يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) من عذاب الله، وقيل: آمنين من الخراب أن تخرب بيوتهم التي نحتوها من الجبال. وقيل: آمنين من الموت. وقوله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) يقول: فأخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا من اليوم الرابع من اليوم الذي وُعدوا العذاب، وقيل لهم: تَمتَّعوا في داركم ثلاثة أيام. وقوله (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يقول: فما دفع عنهم عذاب الله ما كانوا يجترحون من الأعمال الخبيثة قبل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (86) }
يقول تعالى ذكره: وما خلقنا الخلائق كلها، سماءها وأرضَها، ما فيهما وما بينهما، يعني بقوله (وَمَا بَيْنَهُمَا) مما في أطباق ذلك (إِلا بِالْحَقِّ) يقول: إلا بالعدل والإنصاف، لا بالظلم والجور، وإنما يعني تعالى ذكره بذلك: أنه لم يظلم أحدا من الأمم التي اقتصّ قَصَصَهَا في هذه السورة، وقصص إهلاكه إياها بما فعل به من تعجيل النقمة له على كفره به، فيعذّبه ويهلكه بغير استحقاق، لأنه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما بالظلم والجور، ولكنه خلق ذلك بالحقّ والعدل. وقوله (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن الساعة، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة لجائية، فارض بها لمشركي قومك الذين كذّبوك، وردّوا عليك ما جئتهم به من الحقّ، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) يقول: فأعرض عنهم إعراضا جميلا واعف عنهم(17/127)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
عفوًا حسنا وقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ) يقول تعالى ذكره: إن ربك هو الذي خلقهم وخلق كلّ شيء، وهو عالم بهم وبتدبيرهم، وما يأتون من الأفعال، وكان جماعة من أهل التأويل تقول: هذه الآية منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ثم نسخ ذلك بعد، فأمره الله تعالى ذكره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، لا يقبل منهم غيره.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ، (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) و (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) وهذا النحوُ كله في القرآن أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك منه، حتى أمره بالقتال، فنسخ ذلك كله. فقال (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) .
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) قال: هذا قبل القتال.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن سفيان بن عيينة، في قوله: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) وقوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) قال: كان هذا قبل أن ينزل الجهاد. فلما أمر بالجهاد قاتلهم فقال: "أَنَا نَبِيُّ الرِّحْمَةِ ونَبِيُّ المَلْحَمَةِ، وبُعِثْتُ بالحصادِ وَلمْ أبْعَثْ بالزِّرَاعَةِ".
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) }
اختلف أهل التأويل في معنى السبع الذي أتى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من المثاني، فقال بعضهم عني بالسبع: السبع السور من أوّل القرآن اللواتي يُعْرفن بالطول،(17/128)
وقائلو هذه المقالة مختلفون في المثاني، فكان بعضهم يقول: المثاني هذه السبع، وإنما سمين بذلك لأنهن ثُنْي فيهنّ الأمثالُ والخبرُ والعِبَر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: السبع الطُّوَل.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سعيد الجريريّ، عن رجل، عن ابن عمر قال: السبع الطُّوَل.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يَمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: السبع الطُّوَل.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن الحجاج، عن الوليد بن العيزار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هنّ السبع الطُّوَل، ولم يُعطَهن أحد إلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأُعطيَ موسى منهنّ اثنتين.
حدثنا ابن وكيع، وابن حميد، قالا ثنا جرير، عن الأعمش، عن مسلم البَطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أوتي النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطُّوَل، وأوتي موسى ستا، فلما ألقي الألواح رفعت اثنتان وبقيت أربع.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ بن عبد الله بن جعفر، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن ادم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف. قال إسرائيل: وذكر السابعة فنسيتها.(17/129)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: هي الطُّوَل: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال: البقرة، وآل عمران، والنساء والمائدة والأنعام، والأعراف، ويونس، فيهنّ الفرائض والحدود.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، بنحوه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن خوّات، عن سعيد بن جبير، قال: السبع، الطُّوَل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال أبو بشر: أخبرنا عن سعيد بن جبير، قال: هنّ السبع الطُّوَل. قال: وقال مجاهد هن السبع الطُّوَل. قال: ويقال: هنّ القرآن العظيم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا سعيد، عن جعفر، عن سعيد، في قوله (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، تُثْنى فيها الأحكام والفرائض.
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: هن السبع الطُّوَل.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس. قال: قلت: ما المثاني؟ قال: يثني فيهنّ القضاء والقَصَص.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس.(17/130)
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: السبع الطُّوَل.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أبو خالد القرشي، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أبو خالد، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: هي السبع الطُّوَل.
حدثنا الحسن بن محمد بن عبيد الله، قال: ثنا عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: هي السبع الطُّوَل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال: من القرآن السبع الطُّوَل السبع الأول
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل وابن نمير، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، قال: هنّ السبع الطُّوَل.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: السبع الطُّوَل.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن نمير، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هي الأمثال والخَبَر والعِبَر.(17/131)
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن إسماعيل، عن خوّات، عن سعيد بن جبير، قال: هي السبع الطُّوَل، أعطِيَ موسى ستا، وأُعطِيَ محمد صلى الله عليه وسلم سبعا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال. سمعت الضحاك يقول، في قوله (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) يعني السبع الطُّوَل.
وقال آخرون: عني بذلك: سبع آيات، وقالوا: هن آيات فاتحة الكتاب، لأنهنّ سبع آيات، وهم أيضا مختلفون في معنى المثاني، فقال بعضهم: إنما سمين مثاني لأنهن يثنين في كلّ ركعة من الصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا ابن علية، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، قال: قال رجل منا يقال له: جابر أو جويبر طلبت إلى عمر حاجة في خلافته، فقدمت المدينة ليلا فمثلت بين أن أتخذ منزلا وبين المسجد، فاخترت المسجد منزلا فأرقت نشوا من آخر الليل، فإذا إلى جنبي رجل يصلي يقرأ بأم الكتاب، ثم يسبح قدر السورة، ثم يركع ولا يقرأ، فلم أعرفه حتى جَهَر، فإذا هو عُمر، فكانت في نفسي، فغدوت عليه فقلت: يا أمير المؤمنين حاجة مع حاجة، قال: هات حاجتك، قلت: إني قدمت ليلا فمثلت بين أن أتخذ منزلا وبين المسجد، فاخترت المسجد، فأرقت نَشْوا من آخر الليل، فإذا إلى جنبي رجل يقرأ بأم الكتاب، ثم يسبح قدر السورة ثم يركع ولا يقرأ، فلم أعرفه حتى جَهَر، فإذا هو أنت، وليس كذلك نفعل قِبلَنَا. قال: وكيف تفعلون؟ قال: يقرأ أحدنا أمّ الكتاب، ثم يفتتح السورة فيقرؤها، قال: ما لهم يعلَمُون ولا يعمَلُون، ما لهم يعلَمون ولا يعمَلُون، ما لهم يعلَمُون ولا يعمَلُون؟ وما تبغي عن السبع المثاني، وعن التسبيح صلاة الخلق.
حدثني طُلَيق بن محمد الواسطيّ، قال: أخبرنا يزيد، عن الجريريّ، عن أبي نضرة، عن جابر أو جويبر، عن عُمر بنحوه، إلا أنه قال: فقال يقرأ القرآن ما تيسر أحيانا، ويسبح أحيانا، ما لهم رغبة عن فاتحة الكتاب، وما يبتغي بعد المثاني، وصلاة الخلق التسبيح.(17/132)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن عبد خير، عن عليّ، قال: السبع المثاني: فاتحة الكتاب.
حدثنا نصر بن عبد الرحمن، قال: ثنا حفص بن عمر، عن الحسن بن صالح وسفيان، عن السديّ، عن عبد خير، عن عليّ مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن عبد خير، عن عليّ مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد جميعا، عن سفيان، عن السديّ، عن عبد خير، عن عليّ، مثله.
حدثنا أبو كريب "وابن وكيع"، قالا ثنا ابن إدريس، قال: ثنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سئل ابن مسعود عن سبع من المثاني، قال: فاتحة الكتاب.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب، قال: وقال ابن سيرين عن ابن مسعود: هي فاتحة الكتاب.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخيرنا هشيم، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب.
حدثني سعيد بن يحيى الأمَويُّ، قال: ثني أبي، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال في قول الله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: هي فاتحة الكتاب، فقرأها عليّ ستا، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة، قال سعيد: وقرأها ابن عياش عليّ كما قرأها عليك، ثم قال الآية السابعة: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال ابن عباس: قد أخرجها الله لكم وما أخرجها لأحد قبلكم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخيرني ابن جريج، أن أباه حدّثه، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي ابن عباس: فاستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ فاتحة الكتاب، ثم قال: تدري ما هذا (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) .(17/133)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) يقول: السبع: الحمد لله ربّ العالمين، والقرآن العظيم. ويقال: هنّ السبع الطول، وهن المئون.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: فاتحة الكتاب.
حدثني عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر وعن أبي فاختة في هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قالا هي أمّ الكتاب.
حدثني المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن السديّ عمن سمع عليا يقول: الحمد لله ربّ العالمين، هي السبع المثاني.
حدثنا أبو المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت العلاء بن عبد الرحمن، يحدّث عن أبيه، عن أبيّ بن كعب، أنه قال: السبع المثاني: الحمد لله ربّ العالمين.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، في قول الله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب سبع آيات، قلت للربيع: إنهم يقولون: السبع الطول، فقال: لقد أنزلت هذه، وما أنزل من الطول شيء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازيّ، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: فاتحة الكتاب. قال: وإنما سميت المثاني لأنه يثني بها كلما قرأ القرآن قرأها، فقيل لأبي العالية: إن الضحاك بن مزاحم يقول: هي السبع الطُول. فقال: لقد نزلت هذه السورة سبعا من المثاني وما أنزل شيء من الطُول.(17/134)
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قال: فاتحة الكتاب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي جميعا، عن سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، قال: فاتحة الكتاب.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد جميعا، عن هارون بن أبي إبراهيم البربري، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: السبع من المثاني: فاتحة الكتاب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن ابن جريج، عن أبي مليكة (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب. قال: وذكر فاتحة الكتاب لنبيكم صلى الله عليه وسلم لم تذكر لنبيّ قبله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن شهر بن حوشب، في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب.
حدثني محمد بن أبي خداش، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا هارون البربري، عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي في قول الله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: هي الحمد لله ربّ العالمين.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن، عن قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال: هي فاتحة الكتاب، ثم سئل عنها وأنا أسمع، فقرأها: الحمد لله ربّ العالمين، حتى أتى على آخرها، فقال: تثنى في كلّ قراءة.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: فاتحة الكتاب.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، قال: فاتحة الكتاب.(17/135)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ذكر لنا أنهنّ فاتحة الكتاب، وأنهن يثنين في كلّ قراءة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب تُثْنى في كل ركعة مكتوبة وتطوّع.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حماد بن زيد وحجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبي عن سعيد بن جبير، أنه أخبره أنه سأل ابن عباس عن السبع المثاني، فقال: أمّ القرآن، قال سعيد: ثم قرأها، وقرأ منها (بسم الله الرحمن الرحيم) قال أبي: قرأها سعيد كما قرأها ابن عباس، وقرأ فيها بسم الله الرحمن الرحيم، قال سعيد: قلت لابن عباس: فما المثاني؟ قال: هي أمّ القران، استثناها الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، فرفعها في أمّ الكتاب، فذخرها لهم حتى أخرجها لهم، ولم يُعطها لأحد قبله، قال: قلت لأبي: أخبرك سعيد أن ابن عباس قال له: بسم الله الرحمن الرحيم، آية من القرآن؟ قال: نعم. قال ابن جريج: قال عطاء: فاتحة الكتاب، وهي سبع ببسم الله الرحمن الرحيم، والمثاني: القرآن.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، أنه قال: السبع المثاني: أمّ القرآن.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد الله العتكي، عن خالد الحنفي قاضي مرو في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب.
وقال آخرون: عني بالسبع المثاني: معاني القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب الشهيد الشهيديّ، قال: ثنا عتاب بن بشير، عن خَصِيف، عن زياد بن أبي مريم، في قوله (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: أعطيتك سبعة أجزاء: مُرْ، وأنْهَ، وبَشرْ، وأنذِرْ، واضرب الأمثال، واعدُد النعم، وآتيتك نبأ القرآن.(17/136)
وقال آخرون: من الذين قالوا عُنِي بالسبع المثاني فاتحة الكتاب المثاني هو القرآن العظيم.
* ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينه، عن حصين، عن أبي مالك، قال: القرآن كله مثاني.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك، قال: القرآن كُلُّه مثاني.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عبيد أبو زيد، عن حصين، عن أبي مالك، قال: القرآن مثاني. وعدّ البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وبراءة.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن جريج، عن مجاهد، وعن ابن طاوس، عن أبيه، قال: القرآن كله يُثْنَى.
حدثنا محمد بن سعد، قال: قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: المثاني: ما ثنى من القرآن، ألم تسمع لقول الله تعالى ذكره: (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: المثاني: القرآن، يذكر الله القصة الواحدة مرارا، وهو قوله (نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عني بالسبع المثاني: السبع اللواتي هنّ آيات أم الكتاب، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حدّثنيه يزيد بن مخلد بن خِدَاش، الواسطي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمّ القُرآنِ السَّبْعُ المَثانِي الَّتِي أعْطِيتُها".
حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ: "إنّي أُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنزلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا(17/137)
فِي الفُرْقانِ مِثْلُها قال نعم يا رسول الله، قال: إنّي لأَرْجُو أنْ لا تَخْرُجَ مِنْ هَذَا البابِ حتى تَعْلَمَها، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني، فجعلت أتباطأ مخافة أن يبلغ البابَ قبل أن ينقضي الحديث، فلما دنوت قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال: ما تَقرأُ فِي الصَّلاةِ؟ فقرأت عليه أمّ القرآن، فقال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنزلَ فِي التَّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ ولا في الزَّبُورِ ولا في الفُرْقان مِثْلُها، إِنَّها السَّبْعُ مِن المَثاني والقُرآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا زيد بن حباب العكلي، قال: ثنا مالك بن أنس، قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى لعروة، عن أبي سعيد مولى عامر بن فلان، أو ابن فلان، عن أبيّ بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا افْتَتَحْت الصَّلاةَ بِم تَفْتَتِحُ؟ قال: الحمد لله ربّ العالمين، حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِي السَّبْعُ المَثاني والقُرآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُعْطيتُ ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبيّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُعَلِّمُك سُورَةً ما أُنزل فِي التَّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ، ولا فِي الفُرْقانِ مِثْلُها؟ قلت: بلى، قال: إنّي لأَرْجُو أنْ لا تَخْرُج مِنْ ذَلِكَ البابِ حتى تَعْلَمَها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت معه، فجعل يحدثني ويده في يدي، فجعلت أتباطأ كراهية أن يخرج قبل أن يخبرني بها، فلما قرب من الباب قلت: يا رسول الله السورة التي وعدتني، قال: "كَيْفَ تَقْرأ إذَا افْتَتَحْتَ الصَّلاةَ؟ قال: فقرأت فاتحة الكتاب، قال: هِيَ هِيَ، وَهِيَ السَّبْعُ المَثانِي الَّتِي قال اللَّهُ تَعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) -الّذِي أُوتِيتُ) .
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربيّ، عن إبراهيم بن الفضل المدنيّ، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرِّكْعَتانِ اللَّتانِ لا يُقْرأُ فِيهِما كالخِدَاجِ لَمْ يُتِمَّا، قال رجل: أرأيت إن لم يكن معي إلا أمّ القرآن؟ قال: "هي حسبك هِيَ أمُّ القُرآنِ، هِيَ السَّبْعُ المَثانِي".(17/138)
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن نمير، عن إبراهيم بن الفضل، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرِّكْعةُ الَّتي لا يُقْرأُ فِيها كالخِدَاجِ" قلت لأبي هريرة: فإن لم يكن معي إلا أمّ القرآن؟ قال: هي حسبك، هي أمّ الكتاب، وأمّ القرآن، والسبع المثاني.
حدثني أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ، ما أنزلَ اللَّهُ فِي التَّوْراة وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا فِي الفُرْقانِ مِثْلَها، يعني أمّ القرآن، وإنَّها لَهِيَ السَّبْعُ المَثانِي الَّتِي آتانِي اللَّهُ تَعالى ".
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هِيَ أُمُّ القُرآنِ، وهِي فاتِحةُ الكِتابِ، وهِي السَّبْعُ المَثانِي".
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يزيد بن هارون وشبابة، قالا أخبرنا ابن أبي ذئب، عن المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب قال: "هِي فاتِحةُ الكِتابِ وهِي السَّبْعُ المَثانِي والقُرآنُ العَظِيمُ".
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: ثنا العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن كعب فقال: " أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورةً لَمْ يَنزلْ فِي التَّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ ولا في الزَّبُورِ ولا في الفُرْقان مِثْلُها؟ قلت: نعم يا رسول الله،قال: فَكَيْف تَقْرأُ فِي الصَّلاةِ؟ فقرأت عليه أمّ الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنزلَتْ سُورةٌ فِي التَّوْراةِ وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا فِي الفُرْقان مِثْلُها، وإنَّها السَّبْعُ المَثاني والقُرآنُ العَظِيمُ ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا سعيد بن حبيب، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعاه وهو يصلي، فصلى، ثم أتاه فقال: "ما مَنَعَكَ أنْ تُجِيبَنِي؟ قال: إني كنت أصلي، قال: ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)(17/139)
قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآن، فكأنه بينها أو نسي، فقلت: يا رسول الله الذي قلت: قال: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ المَثانِي والقرآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ".
فإذا كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا للذي به استشهدنا، فالواجب أن تكون المثاني مرادا بها القرآن كله، فيكون معنى الكلام: ولقد آتيناك سبع آيات مما يَثْنِي بعض آيه بعضا. وإذا كان ذلك كذلك كانت المثاني: جمع مَثْناة، وتكون آي القرآن موصوفة بذلك، لأن بعضها يَثْنِي بعضا، وبعضها يتلو بعضا بفصول تفصل بينها. فيعرف انقضاء الآية وابتداء التي تليها، كما وصفها به تعالى ذكره فقال (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وقد يجوز أن يكون معناها كما قال ابن عباس والضحاك: ومن قال ذلك أن القرآن إنما قيل له مَثَانِي لأن القصص والأخبار كرّرت فيه مرّة بعد أخرى. وقد ذكرنا قول الحسن البصريّ أنها إنما سميت مَثاني لأنها تُثْنَي في كلّ قراءة، وقول ابن عباس: إنها إنما سميت مثاني، لأن الله تعالى ذكره استثناها لمحمد صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء غيره، فادّخرها له.
وكان بعض أهل العربية، يزعم أنها سميت مَثَانِيَ لأن فيها الرحمن الرحيم مرّتين، وأنها تُثْنَى في كلّ سورة، يعني: بسم الله الرحمن الرحيم.
وأما القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، فهو أحد أقوال ابن عباس، وهو قول طاوس ومجاهد وأبي مالك، وقد ذكرنا ذلك قبل.
وأما قوله (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) فإن القرآن معطوف على السبع، بمعنى: ولقد آتيناك سبع آيات من القرآن، وغير ذلك من سائر القرآن.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال: سائره: يعني سائر القرآن مع السبع من المثاني.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) يعني: الكتاب كله.(17/140)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تتمنينّ يا محمد ما جعلنا من زينة هذه الدنيا متاعا للأغنياء من قومك، الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يتمتعون فيها، فإن مِنْ ورائهم عذابًا غليظًا (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يقول: ولا تحزن على ما مُتعوا به فعجّل لهم. فإن لك في الآخرة ما هو خير منه، مع الذي قد عَجَّلنا لك في الدنيا من الكرامة بإعطائنا السبع المثاني والقرآن العظيم، يقال منه: مَدَّ فلانٌ عينه إلى مال فلان: إذا اشتهاه وتمناه وأراده.
وذُكر عن ابن عيينة أنه كان يتأوّل هذه الآية قولَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقُرآن": أي من لم يستغن به، ويقول: ألا تراه يقول (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) فأمره بالاستغناء بالقرآن عن المال، قال: ومنه قول الآخر: من أوتي القرآن، فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظَّم صغيرا وصغَّر عظيما.
وبنحو الذي قلنا في قوله (أزْوَاجًا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) : الأغنياء الأمثال الأشباه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) قال: نُهِيَ الرجل أن يتمنى مال صاحبه.(17/141)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
وقوله (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وألِن لمن آمن بك، واتبعك واتبع كلامك، وقرِّبهم منك، ولا تجف بهم، ولا تَغْلُظ عليهم، يأمره تعالى ذكره بالرفق بالمؤمنين، والجناحان من بني آدم: جنباه، والجناحان: الناحيتان، ومنه قول الله تعالى ذكره (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ) قيل: معناه: إلى ناحيتك وجنبك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) }(17/142)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للمشركين: إني أنا النذير الذي قد أبان إنذاره لكم من البلاء والعقاب أن ينزل بكم من الله على تماديكم في غيكم، كما أنزلنا على المقتسمين: يقول: مثل الذي أنزل الله تعالى من البلاء والعقاب على الذين اقتسموا القرآن، فجعلوه عِضين.
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله (المُقْتَسِمِينَ) ، فقال بعضهم: عني به: اليهود والنصارى، وقال: كان اقتسامهم أنهم اقتسموا القرآن وعضوه، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عيسى بن عثمان الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس، في قوله الله: (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: هم اليهود والنصارى، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: هم أهل الكتاب، جزّءوه فجعلوه أعضاء أعضاء، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه.(17/142)
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، في قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: الذين آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: (المُقْتَسِمِينَ) أهل الكتاب. (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض.
حدثني مطر بن محمد الضَّبِّيُّ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، أنه قال في قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال: هم أهل الكتاب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: هم أهل الكتاب، آمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: هم أهل الكتاب جزّءوه فجعلوه أعضاء، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، قال: هم أهل الكتاب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال: هم اليهود والنصارى من أهل الكتاب قسموا الكتاب، فجعلوه أعضاء، يقول: أحزابا، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض.(17/143)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: (المُقْتَسِمِينَ) أهل الكتاب، ولكنهم سموا المقتسمين، لأن بعضهم قال استهزاء بالقرآن: هذه السورة لي، وقال بعضهم: هذه لي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: كانوا يستهزءون، يقول هذا: لي سورة البقرة، ويقول هذا: لي سورة آل عمران.
وقال آخرون: هم أهل الكتاب، ولكنهم قيل لهم: المقتسمون: لاقتسامهم كتبهم، وتفريقهم ذلك بإيمان بعضهم ببعضها، وكفره ببعض، وكفر آخرين بما آمن به غيرهم، وإيمانهم بما كفر به الآخرون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: هم اليهود والنصارى، قسموا كتابهم ففرّقوه. وجعلوه أعضاء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثني الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال: أهل الكتاب فرقوه وبدّلوه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال: أهل الكتاب.
وقال آخرون: عُنِي بذلك رهط من كفار قريش بأعيانهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) رهط خمسة من قريش، عضَّهُوا كتاب الله.
وقال آخرون: عُنِي بذلك رهط من قوم صالح الذين تقاسموا على تبييت صالح وأهله.(17/144)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال: الذين تقاسموا بصالح، وقرأ قول الله تعالى (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) قال: تقاسموا بالله حتى بلغ الآية.
وقال بعضهم: هم قوم اقتسموا طرق مكة أيام قدوم الحاجّ عليهم، كان أهلها بعثوهم في عقابها، وتقدموا إلى بعضهم أن يشيع في الناحية التي توجه إليها لمن سأله عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من القادمين عليهم، أن يقول: هو مجنون، وإلى آخر: إنه شاعر، وإلى بعضهم: إنه ساحر.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعلم قومه الذين عضَّوا القرآن ففرقوه، أنه نذير لهم من سخط الله تعالى وعقوبته، أن يَحُلّ بهم على كفرهم ربهم، وتكذيبهم نبيهم، ما حلّ بالمقتسمين من قبلهم ومنهم، وجائز أن يكون عني بالمقتسمين: أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، لأنهم اقتسموا كتاب الله، فأقرّت اليهود ببعض التوراة وكذبت ببعضها، وكذبت بالإنجيل والفرقان، وأقرت النصارى ببعض الإنجيل وكذبت ببعضه وبالفرقان. وجائز أن يكون عُنِي بذلك: المشركون من قريش، لأنهم اقتسموا القرآن، فسماه بعضهم شعرا، وبعض كهانة، وبعض أساطير الأوّلين. وجائز أن يكون عُنِيَ به الفريقان، وممكن أن يكون عني به المقتسمون على صالح من قومه، فإذ لم يكن في التنزيل دلالة على أنه عُني به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين، ولا في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في فطرة عقل، وكان ظاهر الآية محتملا ما وصفت، وجب أن يكون مقتضيا بأن كلّ من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض، واقتسم على معصية الله ممن حلّ به عاجل نقمة الله في الدار الدنيا قبل نزول هذه الآية، فداخل في ذلك لأنهم لأشكالهم من أهل الكفر بالله، كانوا عبرة، وللمتعظين بهم منهم عِظَة.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) فقال بعضهم: معناه: الذين جعلوا القرآن فِرَقا مفترقة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني(17/145)
معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: فرقا.
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جزّءوه فجعلوه أعضاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا طلحة، عن عطاء (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: المشركون من قريش، عضُّوا القرآن فجعلوه أجزاء، فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: مجنون، فذلك العِضُون.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) : جعلوا كتابهم أعضاء كأعضاء الجزور، وذلك أنهم تقطعوه زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون، وهو قوله (فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) عضهوا كتاب الله، زعم بعضهم أنه سِحْر، وزعم بعضهم أنه شِعْر، وزعم بعضهم أنه كاهن.
قال أبو جعفر: هكذا قال كاهن، وإنما هو كهانة، وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: جعلوه أعضاء كما تُعَضَّى الشاة. قال بعضهم: كَهانة، وقال بعضهم: هو سحر، وقال بعضهم: شعر، وقال(17/146)
بعضهم (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا) .. الآية، جعلوه أعضاء كما تُعَضَّى الشاة فوجه قائلو هذه المقالة قوله (عِضِينَ) إلى أن واحدها: عُضْو، وأن عِضِينَ جمعه، وأنه مأخوذ من قولهم عَضَّيت الشيء تعضية: إذا فرقته، كما قال رؤبة:
وليس دينُ اللَّهِ بالمُعَضَّى (1)
يعني بالمفرّق، وكما قال الآخر:
وعَضَّى بَنِي عَوْف فأمَّا عَدُوَّهُمْ ... فأرْضَى وأمَّا الْعِزُّ منهُمُ فغيَّرا (2)
يعني بقوله: وعَضَّى: سَبَّاهُمْ، وقَطَّعاهُمْ بألسنتهما (3) . وقال آخرون: بل هي جمع عِضَة، جمعت عِضين، كما جمعت البُرّة بُرِين، والعِزة عِزِين، فإذا وُجَّه ذلك إلى هذا التأويل كان أصل الكلام عِضَهَة، ذهبت هاؤها الأصلية، كما نقصوا الهاء من الشَّفَة وأصلها شَفَهَة، ومن الشاة، وأصلها شاهة، يدل على أن ذلك الأصل تصغيرهم الشفة: شُفَيْهة، والشاة: شُوَيْهة، فيردّون الهاءَ التي تسقط في غير حال التصغير، إليها في حال التصغير، يقال منه: عَضَهْتُ الرجل أعضَهُه عَضْهًا. إذا بَهَتَّه، وقذفته ببُهتان، وكأن تأويل من تأوّل
__________
(1) البيت لرؤبة في ديوانه (طبع ليسبج سنة 1903 ص 81) من أرجوزة له يمدح بها تميما وسعدا ونفسه، مطلعها: " داينت أروى والديون تقضي " والبيت هو ال 51 فيها واستشهد به أبو عبيد في (مجاز القرآن 1: 355) عند قوله تعالى " الذين جعلوا القرآن عضين "، أي عضوه أعضاء، أي فرقوه فرقا. قال رؤبة: وليس ... الخ و (في اللسان: عضا) عضيت الشاة والجزور تعضية: إذا جعلتها أعضاء وقسمتها. وعضى الشيء: وزعه وفرقه، قال: وليس.. البيت. ثم قال: وفي التنزيل: " جعلوا القرآن عضين " أي جزءوه أجزاء، وآمنوا ببعضه، وكفروا ببعض، وقال ابن الأعرابي: فرقوا فيه القول، فقالوا: شعر، وسحر، وكهانة فقسموه هذه الأقسام، وعضوه أعضاء.
(2) البيت لم أقف على قائله. ولعله للمخيل السعدي وعضى بني عوف أي سباهم وقسمهم فأرضى عدوهم بذلك، ومن بني عوف، فغير حالهم، من السيادة إلى المذلة، ولعل رواية الشطر الثاني: " فأرضى وأما العز منهم فغبرا " وغبر بالباء الموحدة، كما في بيت المخبل السعدي، الذي أنشده صاحب اللسان في غبر، وهو فَأَنْزَلَهُمْ دارَ الضَّياعِ فاصْبَحُوا ... على مَقعَدٍ مِنْ مَوْطِنِ العزِّ أَغْبرَا
يقال: عز أغبر: أي ذاهب دارس يريد أنه سبى فريقا من بني عوف، وأذل فريقا منهم.
(3) قوله: " سباهم وقطعاهم بألسنتهما ": كذا في الأصل المخطوط (الورقة 65 وجزء 14) ، ولعله سهو من المؤلف، لأن الفعلى " عضى " إذا كان من التعضية، فهو مسند إلى واحد، ولا يظهر لي أي معنى لجعل المسند إليه مثنى في كلام المؤلف.(17/147)
ذلك كذلك: الذين عَضَهوا القرآن، فقالوا: هو سِحْر، أو هو شعر، نحو القول الذي ذكرناه عن قتادة.
وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنه إنما عَنَى بالعَضْه في هذا الموضع، نسبتهم إياه إلى أنه سِحْر خاصة دون غيره من معاني الذمّ، كما قال الشاعر:
للماءِ مِنْ عِضَاتهنَّ زَمْزَمهْ (1)
يعني: من سِحْرهنْ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: سحرا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (عِضِينَ) قال: عَضَهوه وبَهَتُوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: كان عكرمة يقول: العَضْه: السحر بلسان قريش، تقول للساحرة: إنها العاضهة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: سِحْرا أعضاء الكتب كلها وقريش فرقوا القرآن، قالوا: هو سحر.
__________
(1) البيت من مشطور الرجز؛ ولم أقف على قائله. استشهد به المؤلف على أن " عضين " في الآية جمع " عضة "، ومعناها عند قدوم من أهل التأويل: السحر. وقال الفراء (في معاني القرآن: 169) والذين جعلوا القرآن " عضين ": فرقوه، إذ جعلوه سحرا وكذبا، وأساطير الأولين. والعضون في كلام العرب: السحر بعينه، ويقال: عضوه: أي فرقوه، كما تعضى الشاة والجزور، وواحد العضين عضة، رفعها عضون، ونصبها وخفضها عضين. وفي (اللسان: عضة) وقال الفراء: العضون في كلام العرب: السحر وذلك أنه من العضة. أهـ. والزمزمة: الكلام غير المبين.(17/148)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِم قوما عَضَهُوا القرآن أنه لهم نذير من عقوبة تنزل بهم بِعضْهِهِمْ إياه مثل ما أنزل بالمقتسمين، وكان عَضْهُهُم إياه: قذفهموه بالباطل، وقيلهم إنه شعر وسحر، وما أشبه ذلك.
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات به لدلالة ما قبله من ابتداء السورة وما بعده، وذلك قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) على صحة ما قلنا، وإنه إنما عُنِيَ بقوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) مشركي قومه، وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لم يكن في مشركي قومه من يؤمن ببعض القرآن ويكفر ببعض، بل إنما كان قومه في أمره على أحد معنيين: إما مؤمن بجميعه، وإما كافر بجميعه. وإذ كان ذلك كذلك، فالصحيح من القول في معنى قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) الذين زعموا أنهم عَضَهوه، فقال بعضهم: هو سحر، وقال بعضهم: هو شعر، وقال بعضهم: هو كهانة، وما أشبه ذلك من القول، أو عَضَّهُوه ففرقوه، بنحو ذلك من القول، وإذا كان ذلك معناه احتمل قوله عِضِين، أن يكون جمع: عِضة، واحتمل أن يكون جمع عُضْو، لأن معنى التعضية: التفريق، كما تُعَضى الجَزُور والشاة، فتفرق أعضاء. والعَضْه: البَهْت، ورميه بالباطل من القول، فهما متقاربان في المعنى.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فوربك يا محمد لنسألنّ هؤلاء الذين جعلوا القرآن في الدنيا عِضين في الآخرة عما كانوا يعملون في الدنيا، فيما أمرناهم به، وفيما بعثناك به إليهم من آي كتابي الذي أنزلته إليهم، وفيما دعوناهم إليه من الإقرار به ومن توحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان..
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.(17/149)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن بشير، عن أنس، في قوله (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قال: عن شهادة أن لا اله إلا الله.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن بشير بن نهيك، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قال: "عن لا إله إلا الله".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن بشير، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى. قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال: عن لا اله إله إلا الله.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن هلال، عن عبد الله بن عُكَيْم، قال: قال عبد الله: والذي لا إله غيره، ما منكم أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول: ابن آدم، ماذا غرّك مني بي ابن آدم؟ ماذا عملت فيما علمت ابن آدم؟ ماذا أجبت المرسلين؟
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال: يُسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، وعما أجابوا المرسلين.
حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا الحسين الجعفي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن ابن عمر: (لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال: عن لا إله إله الله.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . ثم قال: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) قال: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم: لِمَ عملتم كذا وكذا؟(17/150)
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل الله تعالى ذكره: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) فإنه أمر من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته قومه، وجميع من أرسل إليه، ويعني بقوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) : فامض وافرُق، كما قال أبو ذؤَيب:
وكأنَّهُنَّ رَبابَةٌ وكأنَّهُ ... يُسرٌ يُفيضُ على القِداح ويَصْدَعُ (1)
يعني بقوله: يَصْدَع: يُفَرِّق بالقداح.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) يقول: فأمضه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) يقول: افعل ما تؤمر.
حدثني الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: بالقرآن.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ، قال: ثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: هو القرآن.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: بالقرآن.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: الجهر بالقرآن في الصلاة.
__________
(1) البيت في شعر أبي ذؤيب من ديوان الهذليين، القسم الأول (طبعة دار الكتب المصرية سنة 1945) . والربابة بكسر الراء: خرقة تغطى بها القداح، ويقال الربابة هنا هي القداح، واليسر: الذي يضرب بالقداح، وهو المفيض، يصدع: يفرق ويصيح، ويفيض على القداح، أي يدفعها، ويضرب بها، ونابت " على " منأب " الباء " والضمير في كأنهن راجع إلى الأتن المذكورة قبل البيت. وفي كأنه راجع إلى حمار الوحش الذي يطردها ويسوقها أمامه.(17/151)
حدثنا أحمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: بالقرآن في الصلاة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: أجهر بالقرآن في الصلاة.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: مازال النبيّ مستخفيا حتى نزلت (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فخرج هو وأصحابه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: بالقرآن الذي يوحى إليه أن يبلغهم إياه، وقال تعالى ذكره: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) ولم يقل: بما تؤمر به، والأمر يقتضي الباء، لأن معنى الكلام: فاصدع بأمرنا، فقد أمرناك أن تدعو إلى ما بعثناك به من الدين خلقي وأذنَّا لك في إظهاره.
ومعنى "ما" التي في قوله (بِمَا تُؤْمَرُ) معنى المصدر، كما قال تعالى ذكره (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) معناه: افعل الأمر الذي تؤمر به، وكان بعض نحويِّي أهل الكوفة يقول في ذلك: حذفت الباء التي يوصل بها تؤمر من قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) على لغة الذين يقولون: أمرتك أمرا، وكان يقول: للعرب في ذلك لغتان: إحداهما أمرتك أمرا، والأخرى أمرتك بأمر، فكان يقول: إدخال الباء في ذلك وإسقاطها سواء. واستشهد لقوله ذلك بقول حصين بن المنذر الرقاشي ليزيد بن المهلَّب:
أمَرْتُكَ أمْرًا جازِما فَعَصَيْتَني ... فأصْبَحْتَ مَسلُوبَ الإمارَةِ نادِما (1)
فقال أمرتك أمرا، ولم يقل: أمرتك بأمر، وذلك كما قال تعالى: ذكره: (أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) ولم يقل: بربهم، وكما قالوا: مددت الزمام، ومددت بالزمام، وما أشبه ذلك من الكلام.
__________
(1) البيت شاهد على أنه يقال أمرتك أمرا، وأمرتك بأمر، فيجوز أن يتعدى الفعل بنفسه وبالباء.(17/152)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
وأما قوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ويقول تعالى ذكره لنبييه صلى الله عليه وسلم: بلغ قومك ما أرسلتَ به، واكفف عن حرب المشركين بالله وقتالهم. وذلك قيل أن يفرض عليه جهادهم، ثم نَسَخَ ذلك بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
كما حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) وهو من المنسوخ.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) و (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) وهذا النحو كله في القرآن أمر الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك منه، ثم أمره بالقتال، فنَسَخَ ذلك كله، فقال: (خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) ... الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنا كفيناك المستهزئين يا محمد، الذين يستهزئون بك ويسخرون منك، فاصدع بأمر الله، ولا تخف شيئا سوى الله، فإن الله كافيك من ناصبك وآذاك كما كفاك المستهزئين. وكان رؤساء المستهزئين قوما من قريش معروفين.
* ذكر أسمائهم حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد، قال: كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عُروة بن الزُّبير خمسة نَفَر من قومِه، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم، من بني أسد بن عبد العُزَّى بن قصيّ: الأسود بن المطلب أبو زَمْعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال: اللهمّ أعم بصره، وأثكله ولده، ومن بني زهرة: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن(17/153)
عبد مناف بن زُهرة، ومن بني مخزوم: الوليدُ بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، ومن بني سهم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لؤيّ: العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد بن سَهْم، ومن خُزاعة: الحارث بن الطُّلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن مَلْكان، فلما تمادوْا في الشرّ وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء، أنزل اللَّه تعالى ذكره (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ... إلى قوله (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) قال محمد بن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان، عن عُروة بن الزبير أو غيره من العلماء، أن جبرئيل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت فقام، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمرّ به الأسود بن المطلب، فرَمى في وجهه بورقة خضراء، فعَمِي، ومرّ به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه فاسْتَسْقَى بطنه، فمات منه حبنا، ومرّ به الوليد بن المُغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله كان أصابه قبل ذلك بسنتين، وهو يجرّ سِبله، يعني إزاره، وذلك أنه مرّ برجل من خزاعة يَريش نبلا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش وليس بشيء، فانتقَض به فقتله، ومرّ به العاص بن وائل السَّهميّ، فأشار إلى أخمص رجله، فخرج على حمار له يريد الطائف، فوقِصَ على شِبْرِقة، فدخل في أخمص رجله منها شوكة، فقتلته.
قال أبو جعفر: الشِّبرقة: المعروف بالحَسَك، منه حَبَنا (1) والحَبَن: الماء الأصفر، ومرّ به الحارث بن الطُّلاطلة، فأشار إلى رأسه، فامتخط قيحا فقتله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد القرشيّ، عن رجل، عن ابن عباس، قال: كان رأسهم الوليد بن المُغيرة، وهو الذي جمعهم.
__________
(1) كذا في الأصل المخطوط رقم 100 تفسير بدار الكتب (الورقة 69و) ولعله قد سقط من العبارة بعضها.وأصلها: الشبرقة: واحدة الشبرق، المعروف بالحسك. ويقال: مات منه حبنا. والحين.. الخ. وانظر خبر كفاية الله نبيه المستهزئين في سيرة ابن هشام (طبعة الحلبي 2: 50 - 52 من الطبعة الأولى) فقد نقله المؤلف هنا، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.(17/154)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن زياد، عن سعيد بن جبير، في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: كان المستهزئين: الوليدُ بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن عيطلة. فأتاه جبرئيل، فأومأ بأصبعه إلى رأس الوليد، فقال: ما صنعت شيئا، قال: كُفِيت، وأومأ بيده إلى أخمص العاص، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما صَنَعْتَ شَيْئا، فقال: كُفيت، وأومأ بيده إلى عين أبي زمعة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما صَنَعْتَ شَيْئا، قال: كُفيت. وأومأ بأصبعه إلى رأس الأسود، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: دَعْ لي خالي. فقال: كُفِيت، وأومأ بأصبعه إلى بطن الحارث، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما صَنَعْتَ شَيْئا، فقال كُفِيت. قال: فمرّ الوليد على قين لخزاعة وهو يجر ثيابه، فتعلقت بثوبه بروة أو شررة (1) وبين يديه نساء، فجعل يستحي أن يطأ من ينتزعها، وجعلت تضرب ساقه فخدشته، فلم يزل مريضا حتى مات، وركب العاص بن وائل بغلة له بيضاء إلى حاجة له بأسفل مكة، فذهب ينزل، فوضع أخمص قدمه على شبرقة، فحكت رجله، فلم يزل يحكها حتى مات، وعمي أبو زمعة، وأخذت الأكلة في رأس الأسود، وأخذ الحارث الماء في بطنه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: هم خمسة رهط من قريش: الوليدُ بن المغيرة، والعاصُ بن وائل، وأبو زمعة، والحارث بن عيطلة، والأسود بن قيس.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: الوليد بن المغيرة، والعاصُ بن وائل السَّهْمِيّ، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن عيطلة.
__________
(1) البروة: لغة في البرة، وهي الحلقة من صفر ونحوه، يريد بها ما يتطاير من الحديد عند الطرق بالمطارق، والشررة: واحدة الشرر، وفي الأصل: شرة، ولا معنى له هنا.(17/155)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: هم خمسة كلهم هلك قبل بَدْر: العاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، وأبو زمعة بن عبد الأسود، والحارث بن قيس، والأسود بن عبد يغوث.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة عن عمرو، عن عكرمة: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن عيطلة.
حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي بكر الهذلي، قال: قلت للزُّهريّ: إن سعيد بن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال سعيد: هو الحارث بن عيطلة، وقال عكرمة: هو الحارث بن قيس؟ فقال: صدقا، كانت أمه تسمى عيطلة وأبوه قيس.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حصين، عن الشعبيّ، قال: المستهزئين سبعة، وسَمَّى منهم أربعة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: كانوا من قريش خمسة نفر: العاصُ بن وائل السهمي، كُفِي بصداع أخذه في رأسه، فسال دماغه حتى كان يتكلم من أنفه، والوليد بن المغيرة المخزومي، كفي برجل من خزاعة أصلح سهما له، فندرت منه شظية، فوطئ عليها فمات، وهبار بن الأسود، وعبد يغوث بن وهب، والحارث بن عيطلة.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: كلهم من قريش: العاص بن وائل، فكفي بأنه أصابه صداع في رأسه، فسال دماغه حتى لا يتكلم إلا من تحت أنفه، والحارث بن عيطلة بصفر في بطنه، وابن الأسود فكفي بالجدري، والوليد بأن رجلا ذهب ليصلح سهما له، فوقعت شظية فوطئ عليها، وعبد يغوث فكفي بالعمي، ذهب بصره.(17/156)
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، وعن مِقْسم (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعديّ بن قيس، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، مرّوا رجلا رجلا على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه جبرئيل، فإذا مرّ به رجل منهم قال جبرئيل: كيف تجد هذا؟ فيقول: بئس عدوّ الله، فيقول جبرئيل: كفاكه، فأما الوليد بن المغيرة، فتردّى، فتعلق سهم بردائه، فذهب يجلس فقطع أكحله فنزف فمات، وأما الأسود بن عبد يغوث، فأُتِي بغصن فيه شوك، فضرب به وجهه، فسالت حدقتاه على وجهه، فكان يقول: دعوت على محمد دعوة، ودعا عليّ دعوة، فاستجيب لي، واستجيب له، دعا عليّ أن أَعمَى فعميت: ودعوت عليه أن يكون وحيدا فريدا في أهل يثرب فكان كذلك، وأما العاص بن وائل، فوطئ على شوكة فتساقط لحمه عن عظامه حتى هلك، وأما الأسود بن المطلب وعديّ بن قيس، فإن أحدهما قام من الليل وهو ظمآن، فشرب ماء من جَرّة، فلم يزل يشرب حتى انفتق بطنه فمات، وأما الآخر فلدغته حية فمات.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر. عن قتادة وعثمان، عن مِقْسم مولى ابن عباس، في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) هم رهط خمسة من قريش عضهوا القرآن، زعم بعضهم أنه سحر وزعم بعضهم أنه شعر وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين: أما أحدهم: فالأسود بن عبد يغوث، أتى على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو عند البيت، فقال له الملَك: كيف تجد هذا؟ قال: بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ على أنَّهُ خالي، قال: كفيناك، ثم أتى عليه الوليد بن المغيرة، فقال له الملَك: كيف تجد هذا؟ قال: بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ، قال: كَفيناك، ثم أتى عليه عدي بن قيس أخو بني سهم، فقال الملك: كيف تجد هذا؟ قال: بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ، قال: كفيناك، ثم أتى عليه الأسود بن المطلب، فقال له الملك: كيف تجد هذا؟ قال: بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ، قال: كفيناك، ثم أتى عليه العاص بن وائل، فقال له الملك: كيف تجد هذا؟ قال: بِئْسَ عَبْدُ(17/157)
اّللَّهِ، قال: كفيناك، فأما الأسود بن عبد يغوث، فأُتي بغصن من شوك فضرب به وجهه حتى سالت حدقتاه على وجهه، فكان بعد ذلك يقول: دعا عليّ محمد بدعوة ودعوت عليه بأخرى، فاستجاب الله له في واستجاب الله لي فيه، دعا عليّ أن أثكل وأن أعمى، فكان كذلك، ودعوت عليه أن يصير شريدا طريدا، فطردناه مع يهود يثرب وسرّاق الحجيج، وكان كذلك، وأما الوليد بن المغيرة، فذهب يرتدي، فتعلق بردائه سهم غرب (1) فأصاب أكحله أو أبجله، فأتي في كلّ ذلك، فمات، وأما العاص بن وائل، فوطئ على شوكة، فأتي في ذلك، جعل يتساقط لحمه عضوا عضوا فمات وهو كذلك، وأما الأسود بن المطلب وعديّ بن قيس، فلا أدري ما أصابهما.
ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، نهى أصحابه عن قتل أبي البختري، وقال: خذوه أخذا، فإنه قد كان له بلاء، فقال له أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا أبا البختري إنا قد نهينا عن قتلك فهلمّ إلى الأمنة والأمان، فقال أبو البختري: وابن أخي معي؟ فقالوا: لم نؤمر إلا بك، فراودوه ثلاث مرّات، فأبى إلا وابن أخيه معه، قال: فأغلظ للنبيّ صلى الله عليه وسلم الكلام، فحمل عليه رجل من القوم فطعنه فقتله، فجاء قاتله وكأنما على ظهره جبل أوثقه مخافة أن يلومه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما أخبر بقوله: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أبْعَدَهُ اللَّهُ وأسْحَقَهُ، وهم المستهزِئُونَ الذين قال الله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) وهم الخمسة الذين قيل فيهم (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) استهزءوا بكتاب الله، ونبيه صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) هم من قريش.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وزعم ابن أبي بَزَّة أنهم العاص بن وائل السهمي والوليد بن المغيرة الوحيد، والحارث بن عديّ بن سهم بن العيطلة، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيّ، وهو أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سهم غرب، بسكون الراء وفتحها: لا يدري من أين أتاه (اللسان) .(17/158)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس، نحو حديث محمد بن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور، غير أنه قال: كانوا ثمانية، ثم عدّهم وقال: كلهم مات قبل بدر.
وقوله (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُون) وعيد من الله تعالى ذكره، وتهديد للمستهزئين الذين أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قد كفاه أمرهم بقوله تعالى ذكره: إنا كفيناك يا محمد الساخرين منك، الجاعلين مع الله شريكا في عبادته، فسوف يعلمون ما يلقون من عذاب الله عند مصيرهم إليه في القيامة، وما يَحُلّ بهم من البلاء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولقد نعلم يا محمد أنك يضيق صدرك بما يقول هؤلاء المشركون من قومك من تكذيبهم إياك واستهزائهم بك وبما جئتهم به، وأن ذلك يُحْرِجك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) يقول: فافزع فيما نابك من أمر تكرهه منهم إلى الشكر لله والثناء عليه والصلاة، يكفك الله من ذلك ما أهمّك، وهذا نحو الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا حَزَبَه أمر فَزِع إلى الصلاة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: واعبد ربك حتى يأتيك الموت، الذي هو مُوقَن به. وقيل: يقين، وهو موقَن به، كما قيل: خمر عتيق، وهي معتَّقَة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.(17/159)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: ثنى طارق بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد الله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: الموت.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث بن، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني ابن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: الموت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: يعني الموت.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: اليقين: الموت.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، في قوله حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: الموت.
حدثنا ابن وكيع، قال ثنا أبي، عن سفيان عن طارق، عن سالم، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: الموت، إذا جاءه الموت، جاءه تصديق ما قال الله له، وحدّثه من أمر الآخرة.(17/160)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب " أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره عن أمّ العلاء امرأة من الأنصار قد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قُرْعة قالت: وطار لنا عثمان بن مظعون، فأنزلناه في أبياتنا، فوَجع وجعه الذي مات فيه، فلما تُوُفِّي وغسِّل وكُفِّن في أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا عثمان بن مظعون رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك، لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا هُوَ فَقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ، وَوَاللَّهِ إنّي لأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، قال / ثنا ابن شهاب، عن خارجة بن زيد، عن أمّ العلاء امرأة من نسائهم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل، عن محمد بن شهاب، أن خارجة بن زيد، حدثه عن أمّ العلاء امرأة منهم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أمَّا هُوَ فَقَدْ عايَنَ اليَقِينَ ".(17/161)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
سورة النحل
القول في تأويل قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) }
يقول تعالى ذكره: أتى أمر الله فقرُب منكم أيها الناس ودنا، فلا تستعجلوا وقوعه.
ثم اختلف أهل التأويل في الأمر الذي أعلم الله عباده مجيئه وقُربه منهم ما هو، وأيّ شيء هو؟ فقال بعضهم: هو فرائضه وأحكامه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) قال: الأحكام والحدود والفرائض.
وقال آخرون: بل ذلك وعيد من الله لأهل الشرك به، أخبرهم أن الساعة قد قَرُبت وأن عذابهم قد حضر أجله فدنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما نزلت هذه الآية، يعني (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله أتى، فأمسِكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء، قالوا: ما نراه نزل شيء فنزلت (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضا، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء، قالوا: ما نراه نزل شيء فنزلت (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) .
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبى بكر بن حفص، قال: لما نزلت (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) رفعوا رءوسهم، فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو بكر بن(17/162)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
شعيب، قال: سمعت أبا صادق يقرأ (يا عِبادِي أتّى أمْرُ اللَّهِ فلا تستعجلوه".
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو تهديد من الله أهل الكفر به وبرسوله، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقَّب ذلك بقوله سبحانه وتعالى (عَمَّا يُشْرِكُونَ) فدلّ بذلك على تقريعه المشركين ووعيده لهم. وبعد، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تُفرض عليهم فيقال لهم من أجل ذلك: قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها. وأما مستعجلو العذاب من المشركين، فقد كانوا كثيرا.
وقوله سبحانه وتعالى (عَمَّا يُشْرِكُونَ) يقول تعالى تنزيها لله وعلوّا له عن الشرك الذي كانت قريش ومن كان من العرب على مثل ما هم عليه يَدِين به.
واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى (عَمَّا يُشْرِكُونَ) فقرأ ذلك أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين (عَمَّا يُشْرِكُونَ) بالياء على الخبر عن أهل الكفر بالله وتوجيه للخطاب بالاستعجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قرءوا الثانية بالياء. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة بالتاء على توجيه الخطاب بقوله (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقوله تعالى "عما يشركون" إلى المشركين، والقراءة بالتاء في الحرفين جميعا على وجه الخطاب للمشركين أولى بالصواب لما بيَّنت من التأويل، أن ذلك إنما هو وعيد من الله للمشركين، ابتدأ أوّل الآية بتهديدهم، وختم آخرها بنكير فعلهم واستعظام كفرهم على وجه الخطاب لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والكوفة (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ) بالياء وتشديد الزاي ونصب الملائكة، بمعنى ينزل الله الملائكة بالروح. وقرأ ذلك بعض البصريين وبعض المكيين: " يُنزلُ المَلائِكَةَ "(17/164)
بالياء وتخفيف الزاي ونصب الملائكة. وحُكي عن بعض الكوفيين أنه كان يقرؤه: " تَنزلُ المَلائكَةُ" بالتاء وتشديد الزاي والملائكة بالرفع، على اختلاف عنه في ذلك، وقد رُوي عنه موافقة سائر قرّاء بلده.
وأولى القراءات بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ) بمعنى: ينزل الله ملائكة. وإنما اخترت ذلك، لأن الله هو المنزل ملائكته بوحيه إلى رسله، فإضافة فعل ذلك إليه أولى وأحقّ واخترت ينزل بالتشديد على التخفيف، لأنه تعالى ذكره كان ينزل من الوحي على من نزله شيئا بعد شيء، والتشديد به إذ كان ذلك معناه، أولى من التخفيف.
فتأويل الكلام: ينزل الله ملائكته بما يحيا به الحقّ ويضمحلّ به الباطل من أمره (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يعني على من يشاء من رسله (أَنْ أَنْذِرُوا) فإن الأولى في موضع خفض، ردًا على الروح، والثانية في موضع نصب بأنذروا. ومعنى الكلام: ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده، بأن أنذروا عبادي سطوتي على كُفرهم بي وإشراكهم في اتخاذهم معي الآلهة والأوثان، فإنه لا إله إلا أنا، يقول: لا تنبغي الألوهة إلا لي، ولا يصلح أن يُعبد شيء سواي، فاتقون: يقول: فاحذروني بأداء فرائضي وإفراد العبادة وإخلاص الربوبية لي، فإن ذلك نجاتكم من الهلكة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) يقول: بالوحي.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يقول: ينزل الملائكة (1) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو
__________
(1) أي بنحو ما قبله، من حديث المثنى عن ابن عباس، كما جرت به عادة المؤلف في مواضع كثيرة.(17/165)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) إنه لا ينزل ملك إلا ومعه روح.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: قوله (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) قال: لا ينزل ملك إلا معه روح (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) قال: بالنبوّة. قال ابن جريج: وسمعت أن الروح خلق من الملائكة نزل به الروح (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) .
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ) قال: كل كلِم تكلم به ربنا فهو روح منه (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) ... إلى قوله (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) يقول: ينزل بالرحمة والوحي من أمره، (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) فيصطفي منهم رسلا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) قال: بالوحي والرحمة.
وأما قوله (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ) فقد بيَّنا معناه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ) إنما بعث الله المرسلين أن يوحد الله وحده، ويطاع أمره، ويجتنب سخطه.
القول في تأويل قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) }(17/166)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
يقول تعالى ذكره معرّفا خلقه حجته عليهم في توحيده، وأنه لا تصلح الألوهة إلا له: خلق ربكم أيها الناس السموات والأرض بالعدل وهو الحقّ منفردا بخلقها لم يشركه في إنشائها وإحداثها شريك ولم يعنه عليه معين، فأنى يكون له شريك (تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يقول جلّ ثناؤه: علا ربكم أيها القوم عن شرككم ودعواكم إلها دونه، فارتفع عن أن يكون له مثل أو شريك أو ظهير، لأنه لا يكون إلها إلا من يخلق وينشئ بقدرته مثل السموات والأرض ويبتدع الأجسام فيحدثها من غير شيء، وليس ذلك في قُدرة أحد سوى الله الواحد القَّهار الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا تصلح الألوهة لشيء سواه.
القول في تأويل قوله تعالى: {خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) }
يقول تعالى ذكره: ومن حججه عليكم أيضا أيها الناس، أنه خلق الإنسان من نطفة، فأحدث من ماء مهين خلقا عجيبا، قلبه تارات خلقا بعد خلق في ظلمات ثلاث، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا بعد ما تمّ خلقه ونفخ فيه الروح، فغذاه ورزقه القوت ونماه، حتى إذا استوى على سوقه كفر بنعمة ربه وجحد مدبره وعبد من لا يضرّ ولا ينفع، وخاصم إلهه، فقال (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) ونسِي الذي خلقه فسوّاه خلقا سويا من ماء مهين، ويعني بالمبين: أنه يبين عن خصومته بمنطقه، ويجادل بلسانه، فذلك إبانته، وعنى بالإنسان: جميع الناس، أخرج بلفظ الواحد، وهو في معنى الجميع.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره: ومن حججه عليكم أيها الناس ما خلق لكم من الأنعام، فسخَّرها لكم، وجعل لكم من أصوافها وأوبارها وأشعارها ملابس تدفئون بها، ومنافع من ألبانها، وظهورها تركبونها (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) يقول: ومن الأنعام ما تأكلون لحمه كالإبل والبقر والغنم، وسائر ما يؤكل لحمه، وحذفت(17/167)
ما من الكلام لدلالة من عليها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قال: المثنى أخبرنا، وقال ابن داود: ثنا عبد الله بن صالح، قاله: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) يقول: الثياب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله. (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) يعني بالدفء: الثياب، والمنافع: ما ينفعون به من الأطعمة والأشربة.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) قال: لباس ينسج، ومنها مركب ولبن ولحم.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) لباس ينسج ومنافع، مركب ولحم ولبن.
حدثنا القاسم، قاله: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قوله (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) قال: نسل كلّ دابة.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل بإسناده، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) يقول: لكم فيها لباس ومنفعة وبلغة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، قال: قال ابن عباس (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) قال: هو منافع ومآكل.(17/168)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) قال: دفء اللحف (1) التي جعلها الله منها.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني، عن مجاهد (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) قال: نتاجها وركوبها وألبانها ولحومها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) }
__________
(1) اللحف: جمع لحاف، وهو كل ما يلتحف به الإنسان للدفء، من عباءة، وكساء، ونحوهما.(17/169)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) }
يقول تعالى ذكره: ولكم في هذه الأنعام والمواشي التي خلقها لكم (جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ) يعني: تردّونها بالعشيّ من مسارحها إلى مراحها ومنازلها التي تأوي إليها ولذلك سمي المكان المراح، لأنها تراح إليه عشيا فتأوي إليه، يقال منه: أراح فلان ماشيته فهو يريحها إراحة، وقوله (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) يقول: وفي وقت إخراجكموها غدوة من مُراحها إلى مسارحها، يقال منه: سرح فلان ماشيته يسرحها تسريحا، إذا أخرجها للرعي غدوة، وسَرحت الماشية: إذا خرجت للمرعى تسرح سرحا وسروحا، فالسرح بالغداة، والإراحة بالعشيّ، ومنه قول الشاعر:
كأنَّ بَقايا الأتْنِ فَوْقَ مُتُونِهِ ... مدَّبُّ الدَّبىّ فَوْقَ النَّقا وَهْوَ سارِحُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) وذلك
__________
(1) لعل الشاعر يصف حمارًا وحشيًا. يقول: إن الأتن قد عضضنه، فتركن فوق متونة آثارًا، كانت كأنها طريق للدبى، وهو صغار الجراد. فوق النقا، وهو الكثيب الأبيض من الرمل. ولم أعثر على البيت ولا قائله.(17/169)
أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها، طوالا أسنمتها، وحين تسرحون إذا سرحت لرعيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) قال: إذا راحت كأعظم ما تكون أسنمة، وأحسن ما تكون ضروعا.
وقوله (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ) يقول: وتحمل هذه الأنعام أثقالكم إلى بلد آخر لم تكونوا بالغيه إلا بجهد من أنفسكم شديد، ومشقة عظيمة. كما حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن عكرمة (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ) قال: لو تكلفونه لم تبلغوه إلا بجهد شديد.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سماك، عن عكرمة (إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ) قال: لو كلفتموه لم تبلغوه إلا بشقّ الأنفس.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة (إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ) قال: البلد: مكة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ) قال: مشقة عليكم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ) يقول: بجهد الأنفس.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.(17/170)
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الأمصار بكسر الشين (إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ) سوى أبي جعفر القارئ، فإن المثنى حدثني، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثني أبو سعيد الرازي، عن أبي جعفر قارئ المدينة، أنه كان يقرأ "لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس" بفتح الشين، وكان يقول: إنما الشقّ: شقّ النفس. وقال ابن أبي حماد: وكان معاذ الهرّاء يقول: هي لغة، تقول العرب بشَقّ وبشِقّ، وبرَق وبرِق.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار وهي كسر الشين، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه، وقد يُنشد هذا البيت بكسر الشين وفتحها، وذلك قول الشاعر:
وذِي إبِلٍ يَسْعَى وَيحْسِبُها لَهُ ... أخِي نَصَبٍ مِنْ شَقِّها ودُءُوبِ (1)
و"من شَقِها" أيضا بالكسر والفتح، وكذلك قول العجاج:
أصبحَ مَسْحُولٌ يُوَازِي شَقًّا (2)
و"شقا" بالفتح والكسر. ويعني بقوله "يوازي شَقا": يقاسي مشقة. وكان بعض أهل العربية يذهب بالفتح إلى المصدر من شققت عليه أشقّ شقا، وبالكسر إلى الاسم. وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا بالكسر أرادوا إلا بنقص من القوّة وذهاب شيء منها حتى لا يبلغه إلا بعد نقصها، فيكون معناه عند ذلك: لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ قوى أنفسكم، وذهاب شقها الآخر، ويحكى عن العرب: خذ هذا الشَّقَّ: لشقة الشاة بالكسر، فأما في شقت عليك شقا فلم يحك فيه إلا النصب.
وقوله (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: إن ربكم أيها الناس ذو رأفة بكم، ورحمة، من رحمته بكم، خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم، وخلق السموات والأرض أدلة لكم على وحدانية ربكم ومعرفة إلهكم،
__________
(1) البيت للنمر بن تولب العكلي (اللسان: شقق) وقال أبو عبيدة في معاني القرآن (1: 356) " إلا بشق الأنفس " بكسر أوله وبفتح، ومعناه: بمشقة الأنفس. وفي اللسان: الشق المشقة. قال ابن بري شاهد الكسر قول النمر بن تولب: وذي إبل ... البيت.
(2) البيت في ديوان العجاج (طبع ليبسج سنة 1903 ص 440) وهو شاهد على أن الشق بالكسر بمعنى المشقة. ومسحول: يعني بعيره، ويوازي: يقاسي.(17/171)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
لتشكروه على نعمه عليكم، فيزيدكم من فضله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ (8) }
يقول تعالى ذكره: وخلق الخيل والبغال والحمير لكم أيضا لتركبوها وزينة: يقول: وجعلها لكم زينة تتزينون بها مع المنافع التي فيها لكم، للركوب وغير ذلك، ونصب الخيل والبغال عطفا على الهاء والألف في قوله (خَلَقَها) ، ونصب الزينة بفعل مضمر على ما بيَّنت، ولو لم يكن معها واو وكان الكلام: لتركبوها زينة، كانت منصوبة بالفعل الذي قبلها الذي هي به متصلة، ولكن دخول الواو آذنت بأن معها ضمير فعل، وبانقطاعها عن الفعل الذي قبلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) قال: جعلها لتركبوها، وجعلها زينة لكم، وكان بعض أهل العلم يرى أن في هذه الآية دلالة على تحريم أكل لحوم الخيل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيي بن واضح، قال: ثنا أبو ضمرة، عن أبي إسحاق، عن رجل، عن ابن عباس، قوله (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) قال: هذه للركوب. (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) قال: هذه للأكل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا هشام الدستوائي، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن مولى نافع بن علقمة: أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير، وكان يقول: قال الله (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) فهذه للأكل، (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) فهذه للركوب.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس: أنه سئل عن لحوم الخيل، فكرهها وتلا هذه الآية(17/172)
(وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) ... الآية.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه سئل عن لحوم الخيل، فقال: اقرأ التي قبلها (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) فجعل هذه للأكل، وهذه للركوب.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) فجعل منه الأكل. ثم قرأ حتى بلغ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) قال: لم يجعل لكم فيها أكلا. قال: وكان الحكم يقول: والخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا ابن أبي غنية، عن الحكم، قال: لحوم الخيل حرام في كتاب الله، ثم قرأ (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) ... إلى قوله (لِتَرْكَبُوهَا) . وكان جماعة غيرهم من أهل العلم يخالفونهم في هذا التأويل، ويرون أن ذلك غير دالّ على تحريم شيء، وأن الله جلّ ثناؤه إنما عرف عباده بهذه الآية وسائر ما في أوائل هذه السورة نعمه عليهم ونبههم به على حججه عليهم، وأدلته على وحدانيته، وخطأ فعل من يشرك به من أهل الشرك.
* ذكر بعض من كان لا يرى بأسا بأكل لحم الفرس.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود: أنه أكل لحم الفرس.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود بنحوه.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: نحر أصحابنا فرسا في النجع وأكلوا منه، ولم يروا به بأسا.
والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثاني، وذلك أنه لو كان في قوله تعالى ذكره (لِتَرْكَبُوهَا) دلالة على أنها لا تصلح، إذ كانت(17/173)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
للركوب للأكل - لكان في قوله (فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للأكل والدفء للركوب. وفي إجماع الجميع على أن ركوب ما قال تعالى ذكره (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) جائز حلال غير حرام، دليل واضح على أن أكل ما قال (لِتَرْكَبُوهَا) جائز حلال غير حرام، إلا بما نص على تحريمه أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شيء. وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى البغال بما قد بيَّنا في كتابنا، كتاب الأطعمة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، إذ لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان عن تحريم ذلك، وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدلّ على أنه لا وجه لقول من استدلّ بهذه الآية على تحريم لحم الفرس.
حدثنا أحمد، ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا نأكل لحم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: فالبغال؟ قال: أما البغال فلا.
وقوله (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) يقول تعالى ذكره: ويخلق ربكم مع خلقه هذه الأشياء التي ذكرها لكم ما لا تعلمون مما أعدّ في الجنة لأهلها وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) }
يقول تعالى ذكره: وعلى الله أيها الناس بيان طريق الحقّ لكم، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها، والسبيل: هي الطريق، والقصد من الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، كما قال الراجز:
فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الطَّرِيقِ القاصِدِ (1)
__________
(1) البيت شاهد على أن الطريق القاصد معناه: المستقيم. قال في اللسان: القصد: استقامة الطريق، قصد يقصد قصدا فهو قاصد، وقوله تعالى: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر) أي على الله تبيين الطريق المستقيم، والدعاء بالحجج والبراهين الواضحة. " ومنها جائر " أي ومنها طريق غير قاصد.
وطريق قاصد: سهل مستقيم.(17/174)
وقوله (وَمِنْهَا جَائِرٌ) يعني تعالى ذكره: ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوجّ، فالقاصد من السبيل: الإسلام، والجائر منها: اليهودية والنصرانية، وغير ذلك من ملل الكفر كلها جائر عن سواء السبيل وقصدها، سوى الحنيفية المسلمة، وقيل: ومنها جائر، لأن السبيل يؤنث ويذكر، فأنثت في هذا الموضع، وقد كان بعضهم يقول: وإنما قيل: ومنها، لأن السبيل وإن كان لفظها لفظ واحد فمعناها الجمع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) يقول: البيان.
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) يقول: على الله البيان، أن يبين الهدى والضلالة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) قال: طريق الحقّ على الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) يقول: على الله البيان، بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) قال: السبيل: طريق الهدى.(17/175)
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) قال: إنارتها.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) يقول: على الله البيان، يبين الهدى من الضلالة، ويبين السبيل التي تفرّقت عن سبله، ومنها جائر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمِنْهَا جَائِرٌ) : أي من السبل، سبل الشيطان، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: "وَمِنْكُمْ جَائِرٌ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَهَدَاكُمْ أجمَعِينَ".
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمِنْهَا جَائِرٌ) قال: في حرف ابن مسعود: "وَمِنْكُمْ جَائِرٌ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (وَمِنْهَا جَائِرٌ) يعني: السبل المتفرّقة.
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (وَمِنْهَا جَائِرٌ) يقول: الأهواء المختلفة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقاله: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَمِنْهَا جَائِرٌ) يعني السبل التي تفرّقت عن سبيله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (وَمِنْهَا جَائِرٌ) السبل المتفرقة عن سبيله.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمِنْهَا جَائِرٌ) قال: من السبل جائر عن الحقّ قال: قال الله (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)
وقوله (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) يقول: ولو شاء الله للطف بجميعكم أيها الناس بتوفيقه، فكنتم تهتدون وتلزمون قصد السبيل، ولا تجورون عنه، فتتفرّقون في سبل عن الحقّ جائرة.(17/176)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) قال: لو شاء لهداكم أجمعين لقصد السبيل، الذي هو الحقّ، وقرأ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) الآية، وقرأ (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) ... الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره: والذي أنعم عليكم هذه النعم، وخلق لكم الأنعام والخيل وسائر البهائم لمنافعكم ومصالحكم، هو الربّ الذي أنزل من السماء ماء، يعني: مطرا لكم من ذلك الماء، شراب تشربونه، ومنه شراب أشجاركم، وحياة غروسكم ونباتها (فِيهِ تُسِيمُونَ) يقول: في الشجر الذي ينبت من الماء الذي أنزل من السماء تسيمون، ترعون، يقال منه: أسام فلان إبله يسيمها إسامة، إذا أرعاها، وسومها أيضا يسومها، وسامت هي: إذ رعت، فهي تسوم، وهي إبل سائمة ومن ذلك قيل للمواشي المطلقة في الفلاة وغيرها للرعي، سائمة. وقد وجَّه بعضهم معنى السوم في البيع إلى أنه من هذا، وأنه ذهاب كلّ واحد من المتبايعين فيما ينبغي له من زيادة ثمن ونقصانه، كما تذهب سوائم المواشي حيث شاءت من مراعيها، ومنه قول الأعشى:
وَمَشَى القَوْمُ بالعمادِ إلى المَرْ ... عَى وأعْيا المُسِيمَ أيْنَ المَساقُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن النضْر بن عربي، عن عكرمة (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) قال: ترعون.
__________
(1) البيت للأعشى بن ثعلبة: ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص 213) من قصيدة له قالها بنجران يتشوق إلى قومه مفتخرًا بهم. والرواية فيه " إلى الرزحى " بدل " إلى المرعى " يقول: هزل الإبل الجوع، فسقطت على الأرض من الإعياء، ومشى الناس إليها، يضعون الأعمدة تحت بطونها، ليعينوها على الوقوف. وأعيا الراعي أن يجد المراعي لاستحكام الجدب. والرزحى: الإبل، تهزل، فلا تستطيع المشي، فتسقط، وهي جمع رازح يضعون العماد تحت بطونها، ثم يرفعونها والميم: اسم فاعل من آسام الماشية: أرعاها في المرعى. وقال أبو عبيدة، في مجاز القرآن: (1: 357) يقال: أسمت إبلي، وسامت هي: أي رعيتها.(17/177)
حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي، قال: ثنا قرة بن عيسى، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، في قوله (فِيهِ تُسِيمُونَ) قال: ترعون.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ترعون.
حدثني بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) يقول: شجر يرعون فيه أنعامهم وشاءهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (فِيهِ تُسِيمُونَ) قال: ترعون.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: فيه ترعون.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، عن الضحاك، في قوله (تُسِيمُونَ) يقول: ترعون أنعامكم.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن طلحة بن أبي طلحة القناد، قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: فيه ترعون.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) يقول: ترعون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: ترعون.
حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله (شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) قال: تَرْعون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) قال: تَرْعون. قال: الإسامة: الرّعية.
وقال(17/178)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
الشاعر:
مثلَ ابنِ بَزْعَةَ أو كآخَرَ مِثْلِهِ ... أوْلى لَكَ ابنَ مُسِيمةِ الأجْمالِ (1)
قال: يا ابن راعية الأجمال.
القول في تأويل قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره: يُنبت لكم ربكم بالماء الذي أنزل لكم من السماء زرعَكم وزيتونَكم ونخيلكم وأعنابكم، (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) يعني من كلّ الفواكه غير ذلك أرزاقا لكم وأقواتا وإداما وفاكهة، نعمة منه عليكم بذلك وتفضّلا وحُجة على من كفر به منكم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) يقول جلّ ثناؤه: إن في إخراج الله بما ينزل من السماء من ماء ما وصف لكم (لآيَةً) يقول: لدلالة واضحة، وعلامة بينة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يقول: لقوم يعتبرون مواعظ الله، ويتفكَّرون في حججه، فيتذكرون وينيبون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره: ومن نِعَمه عليكم أيها الناس مع التي ذكرها قبل أن سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان عليكم، هذا لتصرّفكم في معاشكم، وهذا لسكنكم فيه، (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمعرفة أوقات أزمنتكم وشهوركم وسنينكم، وصلاح معايشكم (وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ) لكم بأمر الله تجري في فلكها لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يقول تعالى ذكره: إن في تسخير الله ذلك على ما سخره لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج
__________
(1) البيت تقدم الاستشهاد به في الجزء الثالث من هذا التفسير (ص 204) فارجع إلى شرحنا له في ذلك الموضع وهو هنا شاهد على أن معنى " تسيمون ": ترعون: أي تخرجونها إلى المرعى.(17/179)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
الله ويفهمون عنه تنبيهه إياهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) }
يعني جلّ ثناؤه بقوله (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ) وسخر لكم ما ذرأ: أي ما خلق لكم في الأرض مختلفا ألوانه من الدوابّ والثمار.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ) يقول: وما خلق لكم مختلفا ألوانه من الدوابّ، ومن الشجر والثمار، نعم من الله متظاهرة فاشكروها لله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: من الدوابّ والأشجار والثمار، ونصب قوله مختلفا، لأن قوله (وما) في موضع نصب بالمعنى الذي وصفت. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون مختلفا ألوانه حالا من "ما"، والخبر دونه تامّ، ولو لم تكن "ما" في موضع نصب، وكان الكلام مبتدأ من قوله (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ) لم يكن في مختلف إلا الرفع، لأنه كان يصير مرافع "ما" حينئذ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره: والذي فعل هذه الأفعال بكم، وأنعم عليكم، أيها الناس هذه النعم، الذي سخر لكم البحر، وهو كلّ نهر، ملحا ماؤه أو عذبا (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا) وهو السمك الذي يصطاد منه. (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) وهو اللؤلؤ والمرجان.
كما حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا هشام، عن(17/180)
عمرو، عن سعيد، عن قتادة، في قوله (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا) قال: منهما جميعا. (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) قال: هذا اللؤلؤ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا) يعني حيتان البحر.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا حماد، عن يحيى، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الملك، قال: جاء رجل إلى أبي جعفر، فقال: هل في حليّ النساء صدقة؟ قال: لا هي كما قال الله تعالى (حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ) يعني السفن، (مَوَاخِرَ فِيهِ) وهي جمع ماخرة.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (مَوَاخِرَ) فقال بعضهم: المواخر: المواقر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا يونس، عن الحسن، في قوله (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) قال: المواقر.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا به عبد الرحمن بن الأسود، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن أبي بكر الأصمّ، عن عكرمة، في قوله (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) قال: ما أخذ عن يمين السفينة وعن يسارها من الماء، فهو المواخر.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي مكين، عن عكرمة، في قوله (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) قال: هي السفينة تقول بالماء هكذا، يعني تشقه.
وقال آخرون فيه ما حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) قال: تجري فيه متعرّضة.
وقال آخرون فيه، بما حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) قال: تمخر السفينة الرياح، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق،(17/181)
قال: ثنا عبد الله عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه، غير أن الحارث قال في حديثه: ولا تمخر الرياح من السفن.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (مَوَاخرَ) قال: تمخر الريح.
وقال آخرون فيه، ماحدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) تجري بريح واحدة، مُقبلة ومُدبرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: تجري مقبلة ومدبرة بريح واحدة.
حدثنا المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن يزيد بن إبراهيم، قال: سمعت الحسن (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) قال: مقبلة ومدبرة بريح واحدة، والمخْر في كلام العرب: صوت هبوب الريح، إذا اشتدّ هبوبها، وهو في هذا الموضع: صوت جري السفينة بالريح إذا عصفت وشقها الماء حينئذ بصدرها، يقال منه: مخرت السفينة تمخر مخرا ومخورا، وهي ماخرة، ويقال: امتخرت الريح وتمخرتها: إذا نظرتَ من أين هبوبها وتسمَّعت صوت هبوبها، ومنه قول واصل مولى ابن عيينة. كان يقال: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح، يريد بذلك: لينظر من أين مجراها وهبوبها ليستدبرها فلا ترجع عليه البول وتردّه عليه.
وقوله (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يقول تعالى ذكره: ولتتصرّفوا في طلب معايشكم بالتجارة سخر لكم.
كما حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) قال: تجارة البرّ والبحر.
وقوله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يقول: ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم من ذلك سخر لكم ما سخر من هذه الأشياء التي عدّدها في هذه الآيات.(17/182)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره: ومن نعمه عليكم أيها الناس أيضا، أن ألقى في الأرض رواسي، وهي جمع راسية، وهي الثوابت في الأرض من الحبال. وقوله (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) يعني: أن لا تميد بكم، وذلك كقوله (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) والمعنى: أن لا تضلوا. وذلك أنه جلّ ثناؤه أرسى الأرض بالجبال لئلا يميد خلقه الذي على ظهرها، بل وقد كانت مائدة قبل أن تُرْسَى بها.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عباد: أن الله تبارك وتعالى لما خلق الأرض جعلت تمور، قالت الملائكة. ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا، فأصبحت صبحا وفيها رواسيها.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب، عن عليّ بن أبي طالب، قال: لما خلق الله الأرض قمصت، وقالت: أي ربّ أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث، قال: فأرسى الله عليها من الجبال ما ترون وما لا ترون، فكان قرارها كاللحم يترجرج، والميد: هو الاضطراب والتكفؤ، يقال: مادت السفينة تميد ميدا: إذا تكفأت بأهلها ومالت، ومنه الميد الذي يعتري راكب البحر، وهو الدوار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) : أن تكفأ بكم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين. قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، في قوله (وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) قال: الجبال أن تميد بكم. قال قتادة: سمعت الحسن يقول: لما خلقت الأرض كادت(17/183)
تميد، فقالوا: ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا، فأصبحوا وقد خُلقت الجبال، فلم تدر الملائكة مم خُلقت الجبال.
وقوله (وأنهَارًا) يقول: وجعل فيها أنهارا، فعطف بالأنهار على الرواسي، وأعمل فيها ما أعمل في الرواسي، إذ كان مفهوما معنى الكلام والمراد منه، وذلك نظير قول الراجز:
تَسْمَعُ في أجْوَافِهِنَّ صَوْرَا ... وفي اليَدَيْنِ حَشَّةً وبَوْرا (1)
والحشة: اليُبس، فعطف بالحشة على الصوت، والحشة لا تسمع، إذ كان مفهوما المراد منه وأن معناه وترى في اليدين حَشَّةً.
وقوله (وَسُبُلا) وهي جمع سبيل، كما الطرق: جمع طريق، ومعنى الكلام: وجعل لكم أيها الناس في الأرض سُبلا وفجاجا تسلكونها، وتسيرون فيها في حوائجكم، وطلب معايشكم رحمة بكم، ونعمة منه بذلك عليكم ولو عماها عليكم لهلكتم ضلالا وحيرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (سُبُلا) أي طرقا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (سُبُلا) قال: طرقا.
وقوله (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) يقول: لكي تهتدوا بهذه السبل التي جعلها لكم في الأرض إلى الأماكن التي تقصدون والمواضع التي تريدون، فلا تضلوا وتتحيروا.
__________
(1) هذا من الرجز، ولم أقف على قائله. والصور الصوت (اللسان) ، أو لعله محرف عن الضور بالضاد، والمراد به: الصوت يشبه الأنين في الجوف من شدة الجوع، قال في اللسان: الضور: شدة الجوع. والتضور، التلوي والصياح، من وجع الضرب أو الجوع. وتضور الذئب والكلب والأسد والثعلب: صاح عند الجوع. والحشة، بتشديد الشين " اليبس، يقال حشت اليد وأحشت وهو محش: يبست. وأكثر ذلك في الشلل. والبور بالفتح: مصدر بار، بمعنى هلك وفسد. والبور أيضًا: الهالك الفاسد، ولعله يريد وصف ناقته بأنه أضر بها الجوع فصاحت، وأن في يديها يبسا أي شللا وفسادا. وقد بين الإمام الطبري موضع الشاهد في التفسير.(17/184)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) }
اختلف أهل التأويل في المعنى بالعلامات، فقال بعضهم: عني بها معالم الطرق بالنهار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) يعني بالعلامات: معالم الطرق بالنهار، وبالنجم هم يهتدون بالليل.
وقال آخرون: عني بها النجوم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) قال: منها ما يكون علامات، ومنها ما يهتدون به.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) قال: منها ما يكون علامة، ومنها ما يهتدى به.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
قال المثنى: قال: ثنا إسحاق خالف قبيصة وكيعا في الإسناد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) والعلامات: النجوم، وإن الله تبارك وتعالى إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصلات: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدي بها، وجعلها رجوما للشياطين. فمن تعاطى فيها غير ذلك، فقد رأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلَّف ما لا علم له به.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَعَلامَاتٍ) قال النجوم.(17/185)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
وقال آخرون: عني بها الجبال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي (وَعَلامَاتٍ) قال: الجبال.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عدّد على عباده من نعمه، إنعامه عليهم بما جعل لهم من العلامات التي يهتدون بها في مسالكهم وطرقهم التي يسيرونها، ولم يخصص بذلك بعض العلامات دون بعض، فكلّ علامة استدلّ بها الناس على طرقهم، وفجاج سبُلهم، فداخل في قوله (وَعَلامَاتٍ) والطرق المسبولة: الموطوءة، علامة للناحية المقصودة، والجبال علامات يهتدي بهن إلى قصد السبيل، وكذلك النجوم بالليل. غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية أن تكون العلامات من أدلة النهار، إذ كان الله قد فصل منها أدلة الليل بقوله (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) وإذا كان ذلك أشبه وأولى بتأويل الآية، فالواجب أن يكون القول في ذلك ما قاله ابن عباس في الخبر الذي رويناه عن عطية عنه، وهو أن العلامات معالم الطرق وأماراتها التي يهتدى بها إلى المستقيم منها نهارا، وأن يكون النجم الذي يهتدى به ليلا هو الجدي والفرقدان، لأن بها اهتداء السفر دون غيرها من النجوم.
فتأويل الكلام إذن: وجعل لكم أيها الناس علامات تستدلون بها نهارا على طرقكم في أسفاركم. ونجوما تهتدون بها ليلا في سُبلكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) }
يقول تعالى ذكره لعبدة الأوثان والأصنام: أفمن يخلق هذه الخلائق العجيبة التي عددناها عليكم وينعم عليكم هذه النعم العظيمة، كمن لا يخلق شيئا ولا ينعم عليكم نعمة صغيرة ولا كبيرة؟ يقول: أتشركون هذا في عبادة هذا؟ يعرّفهم بذلك عظم جهلهم، وسوء نظرهم لأنفسهم، وقلَّة شكرهم لمن أنعم عليهم بالنعم التي عدّدها عليهم، التي لا يحصيها أحد غيره، قال لهم جلّ ثناؤه(17/186)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
موبخهم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أيها الناس يقول: أفلا تذكرون نعم الله عليكم، وعظيم سُلطانه وقُدرته على ما شاء، وعجز أوثانكم وضعفها ومهانتها، وأنها لا تجلب إلى نفسها نفعا ولا تدفع عنها ضرّا، فتعرفوا بذلك خطأ ما أنتم عليه مقيمون من عبادتكموها وإقراركم لها بالألوهة؟
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) والله هو الخالق الرازق، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تخلق شيئا، ولا تملك لأهلها ضرّا ولا نفعا، قال الله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) . وقيل (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) هو الوثن والصنم، و "من" لذوي التمييز خاصة، فجعل في هذا الموضع لغيرهم للتمييز، إذ وقع تفصيلا بين من يخلق ومن لا يخلق، ومحكيّ عن العرب: اشتبه عليّ الراكب وجمله، فما أدرى من ذا ومن ذا، حيث جمعا، وأحدهما إنسان حسنت من فيهما جميعا. ومنه قول الله عزّ وجلّ (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) وقوله (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) لا تطيقوا أداء شكرها، (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول جلّ ثناؤه: إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، رحيم بكم أن يعذبكم عليه بعد الإنابة إليه والتوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) }
يقول تعالى ذكره: والله الذي هو إلهكم أيها الناس، يعلم ما تسرّون في أنفسكم من ضمائركم فتخفونه عن غيركم، فما تبدونه بألسنتكم وجوارحكم وما تعلنونه بألسنتكم وجوارحكم وأفعالكم، وهو محص ذلك كله عليكم، حتى يجازيكم به يوم القيامة، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته، ومُسائلكم عما كان منكم من الشكر في الدنيا على نعمه التي أنعمها عليكم فيها التي أحصيتم، والتي لم تحصوا، وقوله (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ(17/187)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) يقول تعالى ذكره: وأوثانكم الذين تدعون من دون الله أيها الناس آلهة لا تخلق شيئا وهي تخلق، فكيف يكون إلها ما كان مصنوعا مدبرا، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرّا.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش: والذين تدعون من دون الله أيها الناس (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ) وجعلها جلّ ثناؤه أمواتا غير أحياء، إذ كانت لا أرواح فيها.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) وهي هذه الأوثان التي تُعبد من دون الله أموات لا أرواح فيها، ولا تملك لأهلها ضرّا ولا نفعا، وفي رفع الأموات وجهان: أحدهما أن يكون خبرا للذين، والآخر على الاستئناف وقوله (وَمَا يَشْعُرُونَ) يقول: وما تدري أصنامكم التي تدعون من دون الله متى تبعث، وقيل: إنما عنى بذلك الكفار، إنهم لا يدرون متى يبعثون.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره: معبودكم الذي يستحقّ عليكم العبادة، وإفراد الطاعة له دون سائر الأشياء: معبود واحد، لأنه لا تصلح العبادة إلا له، فأفردوا له الطاعة وأخلصوا له العبادة، ولا تجعلوا معه شريكا سواه (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) يقول تعالى ذكره: فالذين لا يصدّقون بوعد الله ووعيده، ولا يقرّون بالمعاد إليه بعد الممات قلوبهم منكرة، يقول تعالى ذكره: مستنكرة لما نقص عليهم من قدرة الله وعظمته، وجميل نعمه عليهم، وأن العبادة لا تصلح إلا له، والألوهة ليست لشيء غيره يقول: وهم مستكبرون عن إفراد(17/188)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
الله بالألوهة، والإقرار له بالوحدانية، اتباعا منهم لما مضى عليه من الشرك بالله أسلافهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) لهذا الحديث الذي مضى، وهم مستكبرون عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) }
يعني تعالى ذكره بقوله: لا جرم حقا أن الله يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون من إنكارهم ما ذكرنا من الأنباء في هذه السورة، واعتقادهم نكير قولنا لهم: إلهكم إله واحد، واستكبارهم على الله، وما يعلنون من كفرهم بالله وفريتهم عليه (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) يقول: إن الله لا يحب المستكبرين عليه أن يوحدوه ويخلعوا ما دونه من الآلهة والأنداد.
كما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: ثنا مسعر، عن رجل: أن الحسن بن عليّ كان يجلس إلى المساكين، ثم يقول (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِين) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (24) }
يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين، ماذا أنزل ربكم، أيّ شيء أنزل ربكم، قالوا: الذي أنزل ما سطَّره الأوّلون من قبلنا من الأباطيل.
وكان ذلك كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) يقول: أحاديث الأوّلين وباطلهم، قال ذلك قوم من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم،(17/189)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
فإذا مرّ بهم أحد من المؤمنين، يريد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لهم: أساطير الأوّلين، يريد: أحاديث الأوّلين وباطلهم.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) يقول: أحاديث الأوّلين.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) }
يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المشركون لمن سألهم، ماذا أنزل ربكم الذي أنزل ربنا فيما يزعم محمد عليه: أساطير الأوّلين، لتكون لهم ذنوبهم التي هم عليها مقيمون من تكذيبهم الله، وكفرهم بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذنوب الذين يصدّونهم عن الإيمان بالله يضلون يفتنون منهم بغير علم، وقوله (أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) يقول: ألا ساء الإثم الذي يأثمون، والثقل الذي يتحملون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن نجيح، عن مجاهد، قوله (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ومن أوزار من أضلوا احتمالهم ذنوب أنفسهم، وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. نحوه، إلا أنه قال: ومن أوزار الذين يضلونهم حملهم ذنوب أنفسهم، وسائر الحديث مثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) قال: حملهم ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا.(17/190)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي ذنوبهم وذنوب الذين يضلونهم بغير علم، (أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يقول: يحملون ذنوبهم، وذلك مثل قوله (وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) يقول: يحملون مع ذنوبهم الذين يُضِلُّونهم بغير علم.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) قال: قال: النبيّ صلى الله عليه وسلم " أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ من غَيْرِ أنْ يُنْقَصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ فَلَهُ مِثْلَ أُجُورِهِمْ من غَيْرِ أنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ".
حدثني المثنى، قال: أخبرنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن رجل، قال: قال زيد بن أسلم:" أنه بلغه أنه يتمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله وجها وأنتنه ريحًا، فيجلس إلى جنبه، كلما أفزعه شيء زاده فزعا وكلما تخوّف شيئا زاده خوفا، فيقول: بئس الصاحب أنت، ومن أنت؟ فيقول: وما تعرفني؟ فيقول: لا فيقول: أنا عملك كان قبيحا، فلذلك تراني قبيحا، وكان منتنا فلذلك تراني منتنا، طأطئ إلىّ أركبك فطالما ركبتني في الدنيا، فيركبه، وهو قوله (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
القول في تأويل قوله تعالى:(17/191)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) }
يقول تعالى ذكره: قد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين الذين يصدّون عن سبيل الله، من أراد اتباع دين الله، فراموا مغالبة الله ببناء بَنَوه، يريدون بزعمهم الارتفاع إلى السماء لحرب من فيها، وكان الذي رام ذلك فيما ذُكر لنا جبار من جبابرة النَّبَط، فقال بعضهم: هو نمرود بن كنعان، وقال بعضهم: هو بختنصر، وقد ذكرت بعض أخبارهما في سورة إبراهيم. وقيل: إن الذي ذُكر في هذا الموضع هو الذي ذكره الله في سورة إبراهيم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: أمر الذي حاجّ إبراهيم في ربه بإبراهيم فأُخْرِج، يعني من مدينته، قال: فلقي لوطا على باب المدينة وهو ابن أخيه، فدعاه فآمن به، وقال: إني مهاجر إلى ربي، وحلف نمرود أن يطلب إله إبراهيم، فأخذ أربعة أفراخ من فِراخ النسور، فرباهنّ باللحم والخبز حتى كبرن وغلظن واستعلجن، فربطهنّ في تابوت، وقعد في ذلك التابوت ثم رفع لهنّ رجلا من لحم، فطرن، حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض، فرأى الجبال تدبّ كدبيب النمل، ثم رفع لهنّ اللحم، ثم نظر فرأى الأرض محيطا بها بحر كأنها فلكة في ماء، ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة، فلم ير ما فوقه وما تحته، ففزع، فألقى اللحم، فاتبعته منقضَّات، فلما نظرت الجبال إليهنّ، وقد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهنّ، فزعت الجبال، وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن وذلك قول الله تعالى (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) وهي في قراءة ابن مسعود: "وَإنْ كَادَ مَكْرُهُمْ". فكان طَيْرُورتهن به من بيت المقدس ووقوعهن به في جبل الدخان، فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح، فبنى حتى إذا شيده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر، يزعم إلى إله إبراهيم، فأحدث، ولم يكن يُحدث وأخذ الله بنيانه من القواعد (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) يقول: من مأمنهم، وأخذهم من أساس الصرح، فتنقَّض بهم، فسقط، فتبلبلت ألسن(17/192)
الناس يومئذ من الفزع، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سميت بابل، وإنما كان لسان الناس من قبل ذلك بالسريانية.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي. عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) قال: هو نمرود حين بنى الصرح.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم: إن أوّل جبار كان في الأرض نمرود، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربع مئة سنة يُضرب رأسه بالمطارق، أرحم الناس به من جمع يديه، فضرب رأسه بهما، وكان جبارا أربع مئة سنة، فعذّبه الله أربع مئة سنة كمُلكه، ثم أماته الله، وهو الذي كان بنى صَرْحا إلى السماء، وهو الذي قال الله: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) . وأما قوله (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) فإن معناه: هدم الله بنيانهم من أصله، والقواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس، وكان بعضهم يقول: هذا مثَل للاستئصال، وإنما معناه: إن الله استأصلهم، وقال: العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء.
وقوله (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: فخرّ عليهم السقف من فوقهم: أعالي بيوتهم من فوقهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) إي والله، لأتاها أمر الله من أصلها (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) والسقف: أعالي البيوت، فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم (وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) قال: أتى الله بنيانهم من أصوله، فخرّ عليهم السقف.(17/193)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) قال: مكر نمرود بن كنعان الذي حاجّ إبراهيم في ربه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: عنى بقوله (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) أن العذاب أتاهم من السماء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) يقول: عذاب من السماء لمَّا رأوه استسلموا وذلوا.
وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك: تساقطت عليهم سقوف بيوتهم، إذ أتى أصولها وقواعدها أمر الله، فائتفكت بهم منازلهم لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان، وخرّ السقف، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وُجِد إليه سبيل (وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) يقول تعالى ذكره: وأتى هؤلاء الذين مكروا من قَبْل مشركي قريش، عذاب الله من حيث لا يدرون أنه أتاهم منه.(17/194)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) }
يقول تعالى ذكره: فعل الله بهؤلاء الذين مكروا الذين وصف الله جلّ ثناؤه أمرهم ما فعل بهم في الدنيا، من تعجيل العذاب لهم، والانتقام بكفرهم، وجحودهم وحدانيته، ثم هو مع ذلك يوم القيامة مخزيهم، فمذلهم بعذاب أليم،(17/194)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
وقائل لهم عند ورودهم عليه (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أصله: من شاققت فلانا فهو يشاقُّني، وذلك إذا فعل كلّ واحد منهما بصاحبه ما يشقّ عليه. يقول تعالى ذكره يوم القيامة تقريعا للمشركين بعبادتهم الأصنام: أين شركائي؟ يقول: أين الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي اليوم، ما لهم لا يحضرونكم، فيدفعوا عنكم ما أنا مُحلّ بكم من العذاب، فقد كنتم تعبدونهم في الدنيا، وتتولونهم، والوليّ ينصر وليه، وكانت مشاقتهم الله في أوثانهم مخالفتهم إياه في عبادتهم.
كما حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) يقول: تخالفوني.
وقوله (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ) يعني: الذلة والهوان والسوء، يعني: عذاب الله على الكافرين.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره: قال الذين أوتوا العلم: إن الخزي اليوم والسوء على من كفر بالله فجحد وحدانيته (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) يقول: الذين تقبض أرواحهم الملائكة، (ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) يعني: وهم على كفرهم وشركهم بالله، وقيل: إنه عنى بذلك من قتل من قريش ببدر، وقد أخرج إليها كرها.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: ثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة، قال: كان ناس بمكة أقرّوا بالإسلام ولم يهاجروا، فأخرج بهم كرها إلى بدر، فقتل بعضهم، فأنزل الله فيهم (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)
وقوله (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) يقول: فاستسلموا لأمره، وانقادوا له حين عاينوا(17/195)
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
الموت قد نزل بهم، (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) وفي الكلام محذوف استغني بفهم سامعيه ما دلّ عليه الكلام عن ذكره وهو: قالوا ما كنا نعمل من سوء، يخبر عنهم بذلك أنهم كذّبوا وقالوا: ما كنا نعصي الله اعتصاما منهم بالباطل رجاء أن ينجوا بذلك، فكذّبهم الله فقال: بل كنتم تعملون السوء وتصدّون عن سبيل الله (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول: إن الله ذو علم بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصيه، وتأتون فيها ما يسخطه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) }
يقول تعالى ذكره، يقول لهؤلاء الظلمة أنفسهم حين يقولون لربهم: ما كنا نعمل من سوء: ادخلوا أبواب جهنم، يعني: طبقات جهنم (خَالِدِينَ فِيهَا) يعني: ماكثين فيها (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) يقول: فلبئس منزل من تكبر على الله ولم يقرّ بربوبيته، ويصدّق بوحدانيته جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) }
يقول تعالى ذكره: وقيل للفريق الآخر، الذين هم أهل إيمان وتقوى لله (مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) يقول: قالوا: أنزل خيرا. وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يقول: إنما اختلف الأعراب في قوله (قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) وقوله (خَيْرًا) والمسألة قبل الجوابين كليهما واحدة، وهي قوله (مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ) لأن الكفار جحدوا التنزيل، فقالوا حين سمعوه: أساطير الأوّلين: أي هذا الذي جئت به أساطير الأوّلين، ولم ينزل الله منه شيئا، وأما المؤمنون فصدَّقوا التنزيل، فقالوا خيرا، بمعنى أنه أنزل خيرا، فانتصب بوقوع الفعل من الله على(17/196)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
الخير، فلهذا افترقا ثم ابتدأ الخبر فقال (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) وقد بيَّنا القول في ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته.
وقوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) يقول تعالى ذكره: للذين آمنوا بالله في هذه الدنيا ورسوله، وأطاعوه فيها، ودعوا عباد الله إلى الإيمان والعمل بما أمر الله به،حسنة، يقول: كرامة من الله (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ) يقول: ولدار الآخرة خير لَهُمْ مِنْ دَارِ الدُّنْيا، وكرامة الله التي أعدّها لهم فيها أعظم من كرامته التي عجلها لهم في الدنيا (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) يقول: ولنعم دار الذين خافوا الله في الدنيا فاتقوا عقابه بأداء فرائضه وتجنب معاصيه دار الآخرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) وهؤلاء مؤمنون، فيقال لهم (مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ) فيقولون (خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) : أي آمنوا بالله وأمروا بطاعة الله، وحثوا أهل طاعة الله على الخير ودعوهم إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) }
يعني تعالى ذكره بقوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بساتين للمقام، وقد بيَّنا اختلاف أهل التأويل في معنى عدن فيما مضى بما أغنى عن إعادته (يَدْخُلُونَها) يقول: يدخلون جنات عدن، وفي رفع جنات أوجه ثلاث: أحدها: أن يكون مرفوعا على الابتداء، والآخر: بالعائد من الذكر في قوله (يَدْخُلُونَها) والثالث: على أن يكون خبر النعم، فيكون المعنى إذا جعلت خبر النعم: ولنعم دار المتقين جنات عدن، ويكون (يَدْخُلُونَها) في موضع حال، كما يقال: نعم الدار دار تسكنها أنت، وقد يجوز أن يكون إذا كان الكلام بهذا التأويل يدخلونها، من صلة جنات عدن، وقوله (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول: تجري من تحت(17/197)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
أشجارها الأنهار (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ) يقول: للذين أحسنوا في هذه الدنيا في جنات عدن ما يشاءون مما تشتهي أنفسهم، وتلذّ أعينهم (كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) يقول: كما يجزي الله هؤلاء الذين أحسنوا في هذه الدنيا بما وصف لكم أيها الناس أنه جزاهم به في الدنيا والآخرة، كذلك يجزي الذين اتقوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) }
يقول تعالى ذكره: كذلك يجزي الله المتقين الذين تَقْبِض أرواحَهم ملائكةُ الله، وهم طيبون بتطييب الله إياهم بنظافة الإيمان، وطهر الإسلام في حال حياتهم وحال مماتهم.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) قال: أحياء وأمواتا، قدر الله ذلك لهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقوله (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ) يعني جلّ ثناؤه أن الملائكة تقبض أرواح هؤلاء المتقين، وهي تقول لهم: سلام عليكم صيروا إلى الجنة بشارة من الله تبشرهم بها الملائكة.
كما حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، أنه سمع محمد بن كعب القُرَظيّ يقول: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك فقال: السلام عليك وليّ الله، الله يقرأ عليك السلام، ثم(17/198)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
نزع بهذه الآية (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) ... إلى آخر الآية.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس، قوله (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) قال: الملائكة يأتونه بالسلام من قِبَل الله، وتخبره أنه من أصحاب اليمين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا الأشبُّ أبو عليّ، عن أبي رجاء، عن محمد بن مالك، عن البراء، قال: قوله (سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال: يسلم عليه عند الموت.
وقوله (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول: بما كنتم تصيبون في الدنيا أيام حياتكم فيها طاعة الله، طلب مرضاته.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره: هل ينتظر هؤلاء المشركون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم، أو يأتي أمر ربك بحشرهم لموقف القيامة (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول جلّ ثناؤه: كما يفعل هؤلاء من انتظارهم ملائكة الله لقبض أرواحهم، أو إتيان أمر الله فعل أسلافهم من الكفرة بالله، لأن ذلك في كلّ مشرك بالله (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) يقول جلّ ثناؤه: وما ظلمهم الله بإحلال سُخْطه، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بمعصيتهم ربهم وكفرهم به، حتى استحقوا عقابه، فعجَّل لهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) قال: بالموت، وقال في آية أخرى (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) وهو ملك الموت،(17/199)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
وله رسل، قال الله تعالى (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) ذاكم يوم القيامة.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) يقول: عند الموت حين تتوفاهم، أو يأتي أمر ربك ذلك يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره: فأصاب هؤلاء الذين فعلوا من الأمم الماضية فعل هؤلاء المشركين من قريش سيئات ما عملوا، يعني عقوبات ذنوبهم، ونقم معاصيه التي اكتسبوها (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) يقول: وحلّ بهم من عذاب الله ما كانوا يستهزئون منه، ويسخرون عند إنذارهم ذلك رسلُ الله، ونزل ذلك بهم دون غيرهم من أهل الإيمان بالله.(17/200)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) }
قول تعالى ذكره: وقال الذين أشركوا بالله فعبدوا الأوثان والأصنام من دون الله: ما نعبد هذه الأصنام إلا لأن الله قد رضي عبادتنا هؤلاء، ولا نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب، إلا أن الله شاء منا ومن آبائنا تحريمناها ورضيه، لولا ذلك لقد غير ذلك ببعض عقوباته أو بهدايته إيانا إلى غيره من الأفعال. يقول تعالى ذكره: كذلك فعل الذين من قبلهم من الأمم المشركة الذين استَن هؤلاء سنتهم، فقالوا مثل قولهم، سلكوا سبيلهم في تكذيب رسل الله، واتباع أفعال آبائهم الضلال، وقوله (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يقول جلّ ثناؤه: فهل أيها القائلون: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، على رسلنا الذين نرسلهم بإنذاركم عقوبتنا على كفركم، إلا البلاغ المبين: يقول: إلا أن تبلغكم(17/200)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
ما أرسلنا إليكم من الرسالة. ويعني بقوله (المُبِينُ) : الذي يبين عن معناه لمن أبلغه، ويفهمه من أرسل إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) }
يقول تعالى ذكره: ولقد بعثنا أيها الناس في كلّ أمة سلفت قبلكم رسولا كما بعثنا فيكم بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأفردوا له الطاعة، وأخلصوا له العبادة (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) يقول: وابعدوا من الشيطان، واحذروا أن يغويكم، ويصدْكم عن سبيل الله، فتضلوا، (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ) يقول: فممن بعثنا فيهم رسلنا من هدى الله، فوفَّقه لتصديق رسله، والقبول منها، والإيمان بالله، والعمل بطاعته، ففاز وأفلح، ونجا من عذاب الله (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) يقول: وممن يعثنا رسلنا إليه من الأمم آخرون حقَّت عليهم الضلالة، فجاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله وكذّبوا رسله، واتبعوا الطاغوت، فأهلكهم الله بعقابه، وأنزل عليهم بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين، (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) يقول تعالى ذكره لمشركي قريش: إن كنتم أيها الناس غير مصدّقي رسولنا فيما يخبركم به عن هؤلاء الأمم الذين حلّ بهم ما حلّ من بأسنا بكفرهم بالله، وتكذيبهم رسوله، فسيروا في الأرض التي كانوا يسكنونها، والبلاد التي كانوا يعمرونها، فانظروا إلى آثار الله فيهم، وآثار سخطه النازل بهم، كيف أعقبهم تكذيبهم رسل الله ما أعقبهم، فإنكم ترون حقيقة ذلك، وتعلمون به صحة الخبر الذي يخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) }(17/201)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء المشركين إلى الإيمان بالله واتباع الحق (فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ)
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الكوفيين (فإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يَضِلُّ) بفتح الياء من يهدي، وضمها من يضلّ، وقد اختلف في معنى ذلك قارِئوه كذلك، فكان بعض نحويي الكوفة يزعم أن معناه: فإن الله من أضله لا يهتدي، وقال: العرب تقول: قد هدى الرجل: يريدون قد اهتدى، وهدى واهتدى بمعنى واحد، وكان آخرون منهم يزعمون أن معناه: فإن الله لا يهدي من أضله، بمعنى: أن من أضله الله فإن الله لا يهديه. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والشام والبصرة (فإنَّ اللَّهَ لا يُهْدَى) بضم الياء من يُهدى ومن يضل، وفتح الدال من يُهدَى بمعنى: من أضله الله فلا هادي له.
وهذه القراءة أولى القراءتين عندي بالصواب، لأن يهدي بمعنى يهتدي قليل في كلام العرب غير مستفيض، وأنه لا فائدة في قول قائل: من أضله الله فلا يهديه، لأن ذلك مما لا يجهله أحد، وإذ كان ذلك كذلك، فالقراءة بما كان مستفيضا في كلام العرب من اللغة بما فيه الفائدة العظيمة أولى وأحرى.
فتأويل الكلام لو كان الأمر على ما وصفنا: إن تحرص يا محمد على هداهم، فإن من أضله الله فلا هادي له، فلا تجهد نفسك في أمره، وبلغه ما أرسلت به لتتم عليه الحجة (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) يقول: وما لهم من ناصر ينصرهم من الله إذا أراد عقوبتهم، فيحول بين الله وبين ما أراد من عقوبتهم.
وفي قوله (إِنْ تَحْرِصْ) لغتان: فمن العرب من يقول: حرَص، يحرَص بفتح الراء في فعَل وكسرها في يفعل، وحرِص يحرَص بكسر الراء في فعِل وفتحها في يفعَل، والقراءة على الفتح في الماضي، والكسر في المستقبل، وهي لغة أهل الحجاز.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) }(17/202)
يقول تعالى ذكره: وحلف هؤلاء المشركون من قريش بالله جَهْد أيمانِهِمْ حلفهم، لا يبعث الله من يموت بعد مماته، وكذبوا وأبطلوا في أيمانهم التي حلفوا بها كذلك، بل سيبعثه الله بعد مماته، وعدا عليه أن يبعثهم وعد عباده، والله لا يخلف الميعاد (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يقول: ولكن أكثر قريش لا يعلمون وعد الله عباده، أنه باعثهم يوم القيامة بعد مماتهم أحياء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) تكذيبا بأمر الله أو بأمرنا، فإن الناس صاروا في البعث فريقين: مكذّب ومصدّق، ذُكر لنا أن رجلا قال لابن عباس: إن ناسا بهذا العراق يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، ويتأوّلون هذه الآية، فقال ابن عباس: كذب أولئك، إنما هذه الآية للناس عامَّة، ولعمري لو كان عليّ مبعوثا قبل يوم القيامة ما أنكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قال ابن عباس: إن رجالا يقولون: إن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، ويتأوّلون (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) قال: لو كنا نعلم أن عليا مبعوث، ما تزوّجنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، ولكن هذه للناس عامة.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع، في قوله (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) قال: حلف رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عند رجل من المكذّبين، فقال: والذي يرسل الروح من بعد الموت، فقال: وإنك لتزعم أنك مبعوث من بعد الموت، وأقسم بالله جهد يمينه: لا يبعث الله من يموت.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا،(17/203)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
فقال المشرك: إنك تزعم أنك تُبعث بعد الموت، فأقسم بالله جهد يمينه: لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن عطاء بن أبي رباح أنه أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: "قال الله: سبني ابن آدم، ولم يكن ينبغي له أن يسبني، وكذّبني ولم يكن ينبغي له أن يكذّبني فأما تكذيبه إياي، فقال (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) قال: قلت (بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) وأما سبه إياي، فقال: (إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) وقلت (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) }
يقول تعالى ذكره: بل ليبعثن الله من يموت وعدا عليه حقا، ليبين لهؤلاء الذين يزعمون أن الله لا يبعث من يموت، ولغيرهم الذين يختلفون فيه من إحياء الله خلقه بعد فنائهم، وليعلم الذين جحدوا صحة ذلك، وأنكروا حقيقته أنهم كانوا كاذبين في قيلهم: لا يبعث الله من يموت.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) قال: للناس عامَّة.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) }
يقول تعالى ذكره: إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائناهم، ولا في غير ذلك ما نخلق ونكوّن ونحدث، لأنا إذا أردنا(17/204)
خلقه وإنشاءه، فإنما نقول له كن فيكون، لا معاناة فيه، ولا كُلفة علينا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: يكون، فقرأه أكثر قرّاء الحجاز والعراق على الابتداء، وعلى أن قوله (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) كلام تامّ مكتف بنفسه عما بعده، ثم يبتدأ فيقال: فيكون، كما قال الشاعر:
يُريدُ أنْ يُعْرِبَهُ فيعجِمُهْ (1)
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الشام وبعض المتأخرين من قرّاء الكوفيين (فَيَكُونَ) نصبا، عطفا على قوله (أَنْ نَقُولَ لَهُ) وكأن معنى الكلام على مذهبهم: ما قولنا لشيء إذا أردناه إلا أن نقول له: كن، فيكون. وقد حُكي عن العرب سماعا: أريد أن آتيك فيمنعني المطر، عطفا بيمنعني على آتيك.
وقوله (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم (مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) يقول: من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) يقول: لنسكننهم في الدنيا مسكنا يرضونه صالحا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) قال: هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة، فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف
__________
(1) هذا بيت من مشطور الرجز من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص 161) والشاهد في البيت: أن قوله فيعجمه بالرفع ليس معطوفاً على أن يعربه وإنما هو كلام مستأنف، أي فهو يعجمه ولا يعربه. ومثله قوله تعالى: (أن نقول له كن فيكون) بالرفع وليس معطوفاً على "أن نقول". ومثله أيضاً قوله تعالى: (ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل) بالرفع، وليس بالنصب على الجواب للنفي ومثله قوله تعالى: (لنبين لكم، ونقر في الأرحام) برفع نقر على الاستئناف وقوله تعالى في براءة: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ثم قال: (ويتوب الله على من يشاء) . قال الفراء: فإذا رأيت الفعل منصوبًا، وبعده فعل قد نسق عليه بواو أو فاء أو ثم، فإن كان يشاكل معنى الفعل الذي قبله، نسقته عليه، وإن رأيته غير مشاكل لمعناه، استأنفته فرفعته. ومنه قوله: والشِّعْرُ لا يَسْتَطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ ... يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فَيُعْجِمُهْ(17/205)
منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.
حُدثت عن القاسم بن سلام، قال: ثنا هشيم، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) قال: المدينة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) قال: هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة بعد ظلمهم، وظلمهم المشركون.
وقال آخرون: عنى بقوله (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) لنرزقهم في الدنيا رزقا حسنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن العوّام، عمن حدثه أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ذخره لك في الآخرة أفضل. ثم تلا هذه الآية (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى (لَنُبَوِّئَنَّهُم) : لنحلنهم ولنسكننهم، لأن التبوء في كلام العرب الحلول بالمكان والنزول به، ومنه قول الله تعالى (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) وقيل: إن هذه الآية نزلت في أبي جندل بن سهيل.(17/206)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن داود بن أبي هند، قال: نزلت (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) ... إلى قوله (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في أبي جندل بن سهيل.
وقوله (وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) يقول: ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الآخرة أكبر، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الله (وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي والله لما يثيبهم الله عليه من جنته أكبر (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا صفتهم، وآتيناهم الثواب الذي ذكرناه، الذين صيروا في الله على ما نابهم في الدنيا (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يقول: وبالله يثقون في أمورهم، وإليه يستندون في نوائب الأمور التي تنوبهم.(17/207)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم، للدعاء إلى توحيدنا، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، إلا رجالا من بني آدم نوحي إليهم وحينا لا ملائكة، يقول: فلم نرسل إلى قومك إلا مثل الذي كنا نرسل إلى من قَبلهم من الأمم من جنسهم وعلى منهاجهم (فَاسْأَلُوا أَهْلَ(17/207)
الذِّكْرِ) يقول لمشركي قريش: وإن كنتم لا تعلمون أن الذين كنا نرسل إلى من قبلكم من الأمم رجال من بني آدم مثل محمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: هم ملائكة: أي ظننتم أن الله كلمهم قبلافاسألوا أهل الذكر، وهم الذين قد قرءوا الكتب من قبلهم: التوراة والإنجيل، وغير ذلك من كتب الله التي أنزلها على عباده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) قال: أهل التوراة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن سفيان، قال: سألت الأعمش، عن قوله (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) قال: سمعنا أنه من أسلم من أهل التوراة والإنجيل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال: هم أهل الكتاب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال: قال لمشركي قريش: إن محمدا في التوراة والإنجيل.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، قال: فأنزل الله (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) فاسألوا أهل الذكر: يعني أهل الكتب الماضية، أبشرا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد رسولا قال: ثم قال (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا به ابن وكيع، قال: ثنا ابن يمان، عن(17/208)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال: نحن أهل الذكر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال: الذكر: القرآن، وقرأ (إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وقرأ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) ... الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره: أرسلنا بالبينات والزُّبُر رجالا نوحي إليهم.
فإن قال قائل: وكيف قيل بالبينات والزُّبُر، وما الجالب لهذه الباء في قوله (بِالْبَيِّنَاتِ) فإن قلت: جالبها قوله ((أرْسَلْنَا) وهي من صلته، فهل يجوز أن تكون صلة "ما" قبل "إلا" بعدها؟ وإن قلت: جالبها غير ذلك، فما هو؟ وأين الفعل الذي جلبها، قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعضهم: الباء التي في قوله (بالبَيِّنَاتِ) من صلة أرسلنا، وقال: إلا في هذا الموضع، ومع الجحد والاستفهام في كلّ موضع بمعنى غير، وقال: معنى الكلام: وما أرسلنا من قبلكم بالبينات والزبر غير رجال نوحي إليهم، ويقول على ذلك: ما ضرب إلا أخوك زيدا، وهل كلم إلا أخوك عمرا، بمعنى: ما ضرب زيدا غير أخيك، وهل كلم عمرا إلا أخوك؟ ويحتجّ في ذلك بقول أوْس بن حَجَر:
أبَنِي لُبَيْنَي لَسْتُمَ بِيَدٍ ... إلا يَدٍ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ (1)
ويقول: لو كانت "إلا" بغير معنى لفسد الكلام، لأن الذي خفض الباء قبل
__________
(1) رواية هذا البيت في الكتاب لسيبويه (1: 362) : يا بُنَيْ لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيَدٍ ... إلاَّ يَداً لَيسَتْ لَهَا عَضُدُ
بنصب يد التي بعد إلا على محل بيد التي قبلها. قال الشنتمري في الكلام على الشاهد: الشاهد فيه نصب ما بعد إلا، على البدل من موضع الباء وما عملت فيه. والتقدير: لستما يدا إلا يدا لا عضد لها. ولا يجوز الجر على البدل من المجرور، لأن ما بعد "إلا" مجرور، والباء: مؤكدة للنفي. ويروي: مخبولة=
العضد. والخبل: الفساد، أي أنتما في الضعف وقلة النفع كيد بطل عضدها. أهـ.
وقال الفراء في معاني القرآن (1: 172) : ورأيت الكسائي يجعل إلا مع الجحد والاستفهام بمنزلة غير ... وقال في قوله تعالى: (لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا) لا أجد المعنى إلا: لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا. واحتج بقول الشاعر: أبني لبيني لستم بيد ... إلا يد ليست لها عضد
فقال: لو كان المعنى إلا لكان الكلام فاسدا في هذا المعنى؛ لأني لا أقدر في هذا البيت على إعادة خافض بضمير، وقد ذهب ههنا مذهبا. قلت: وقد جوز الشيخ خالد في يد التي بعد إلا النصب على الاستثناء، وعلى البدلية، كما مر في كلام الأعلم الشنتمري. وجوز وجهاً ثالثاً تبعا للكسائي وأنشد بيته الشاهد، وهذا الوجه: هو جره على الصفة ليد الأولى. التصريح بمضمون التوضيح 1: 424 (طبعة الأميرية، باب الاستثناء) .
وقال الشيخ يس العليمي الحمصي في حاشيته على التصريح في هذا الموضع: "أبني لبيني" بصيغة المثنى، بدليل قوله "لستما" أي في رواية صاحب التصريح. وهو منادي حذف منه حرف النداء، وليس في قوله: "إلا يد" وصف الشيء بنفسه، لأن المعتمد بالصفة ليد الأولى صفة يد الثانية و "يد" الثانية صفة موطئة.(17/209)
إلا لا يقدر على إعادته بعد إلا لخفض اليد الثانية، ولكن معنى إلا معنى غير، ويستشهد أيضا بقول الله عزّ وجلّ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ) ويقول: إلا بمعنى غير في هذا الموضع، وكان غيره يقول: إنما هذا على كلامين، يريد: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا أرسلنا بالبينات والزبر، قال: وكذلك قول القائل: ما ضرب إلا أخوك زيدا معناه: ما ضرب إلا أخوك، ثم يبتدئ ضرب زيدا، وكذلك ما مَرَّ إلا أخوك بزيد ما مرّ إلا أخوك، ثم يقول: مرّ بزيد، ويستشهد على ذلك ببيت الأعشى:
ولَيْسَ مُجِيرًا إنْ أتَى الحَيَّ خائِفٌ ... وَلا قائِلا إلا هُوَ المُتَعَيَّبا (1)
ويقول: لو كان ذلك على كلمة لكان خطأ، لأن المُتَعَيَّبا من صلة القائل، ولكن جاز ذلك على كلامين وكذلك قول الآخر
__________
(1) البيت للأعشى بني ثعلبة ميمون بن قيس (ديوانه طبعة القاهرة ص 113) يقول: إنه لا يملك أن يؤمن رجلا، فيجعله في جواره، لأن الناس لا يحترمون هذا الجوار، وإنما يحترمون جوار الأقوياء، فلا يجرءون أن ينالوا جارهم بأذى، والمتعيب اسم مفعول من تعيبه إذا نسبه إلى العيب: أي ولا قائلا القول المعيب إلا هو. وقد بين المؤلف وجه استشهاد بعض النحويين (وهو الكسائي) بالبيت. وأن المتعيبا منصوب بقائلا المحذوف. والتقدير: ولا قائلا إلا هو "قائلا" المعيبا. وهو معنى قوله، ولكن جاز ذلك على كلامين. أهـ.(17/210)
:
نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جارَهُمُ ... وَهَلْ يُعَذِّبُ إلا اللَّهُ بالنَّارِ (1)
فتأويل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر، وأنزلنا إليك الذكر. والبينات: هي الأدلة والحجج التي أعطاها الله رسله أدلة على نبوّتهم شاهدة لهم على حقيقة ما أتوا به إليهم من عند الله. والزُّبُر: هي الكتب، وهي جمع زَبُور، من زَبَرْت الكتاب وذَبَرته: إذا كتبته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) قال: الزبر: الكتب.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) قال: الآيات. والزبر: الكتب.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الزُّبُر: الكتب.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (بالزُّبُر) يعني: بالكتب.
وقوله (وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) يقول: وأنزلنا إليك يا محمد هذا القرآن تذكيرا للناس وعظة لهم، (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) يقول: لتعرفهم ما أنزل إليهم من ذلك (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) يقول: وليتذكروا فيه ويعتبروا به أي بما أنزلنا إليك، وقد حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا الثوري، قال: قال مجاهد (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) قال: يطيعون.
__________
(1) هذا البيت كسابقه: شاهد على أن قوله "بالنار" من صلة الفعل "يعذب" وما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها، فأخره ونوى كلامين، فيكون "بالنار" من صلة "يعذب" المحذوف. والتقدير: وهل يعذب إلا الله، يعذب بالنار. والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (172) .(17/211)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) }
يقول تعالى ذكره: أفأمن الذين ظلموا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراموا أن يفتنوهم عن دينهم من مشركي قريش الذين قالوا: إذ قيل لهم: ماذا أنزل ربكم: أساطير الأوّلين، صدّا منهم لمن أراد الإيمان بالله عن قصد السبيل، أن يخسف الله بهم الأرض على كفرهم وشركهم، أو يأتيهم عذاب الله من مكان لا يشعر به، ولا يدري من أين يأتيه، وكان مجاهد يقول: عنى بذلك نمرود بن كنعان.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ) ... إلى قوله (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) قال: هو نمرود بن كنعان وقومه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وإنما اخترنا القول الذي قلناه في تأويل ذلك، لأن ذلك تهديد من الله أهل الشرك به، وهو عقيب قوله (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فكان تهديد من لم يقرّ بحجة الله الذي جرى الكلام بخطابه قبل ذلك أحرى من الخبر عمن انقطع ذكره عنه.
وكان قتادة يقول في معنى السيئات في هذا الموضع، ما حدثنا به بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ) : أي الشرك.
القول في تأويل قوله تعالى:(17/212)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) }
يعني تعالى ذكره بقوله (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أو يهلكهم في تصرّفهم في البلاد، وتردّدهم في أسفارهم (فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) يقول جلّ ثناؤه: فإنهم لا يعجزون الله من ذلك إن أراد أخذهم كذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) قال: إن شئت أخذته في سفر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) في أسفارهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
وقال ابن جريج في ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) قال: التقلب: أن يأخذهم بالليل والنهار.
وأما قوله (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) فإنه يعني: أو يهلكهم بتخوّف، وذلك بنقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم، يقال منه: تخوّف مال فلان الإنفاق: إذا انتقصه، ونحو تخوّفه من التخوّف بمعنى التنقص، قول الشاعر:
تَخَوَّفَ السَّيْرَ مِنْها تامِكا قَرِدًا ... كما تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (1)
يعني بقوله تخوّف السير: تنقص سَنامها. وقد ذكرنا عن الهيثم بن عدّي أنه كان يقول: هي لغة لأزد شَنوءة معروفة لهم، ومنه قول الآخر
__________
(1) البيت لابن مقبل (لسان العرب: خوف) قال: التخوف: التنقص. وفي التنزيل: "أو يأخذهم على تخوف". قال الفراء في التفسير بأنه التنقيص قال: والعرب تقول: تحوقته أي تنقصته من حافاته. قال: فهذا الذي سمعته. قال: وقد أتى التفسير بالحاء قال الزجاج: ويجوز أن يكون معناه: أو يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية، فتخاف التي تليها. وقال ابن مقبل: تخوف ... إلخ والسفن: الحديدة = التي تبرد بها القسي، أي تنقص، كما تأكل هذه الحديدة خشب القسي. وكذلك التخويف، يقال: خوفه وخوف منه. قال ابن السكيت: يقال: هو يتحوف المال (بالمهملة) ويتخوفه، أي يتنقصه، ويأخذ من أطرافه. وقال ابن الأعرابي: تحوفته وتحيفته، وتخوفته وتخيفته إذا تنقصته. والتامك السنام أو السنام المرتفع. والقرد: الذي تجمع شعره، أو الذي تراكم لحمه من السمن. وفي "فتح القدير" للشوكاني: التخوف بالفاء: التنقص: لغة لأزد شنوءة. والنبع من شجر الجبال نتخذه من القس، الواحدة نبعة.(17/213)
:
تَخَوَّفَ عَدْوُهُمْ مالي وأهْدَى ... سَلاسِل في الحُلُوقِ لَهَا صَلِيلُ (1)
وكان الفرّاء يقول: العرب تقول: تحوّفته: أي تنقصته، تحوّفا: أي أخذته من حافاته وأطرافه، قال: فهذا الذي سمعته، وقد أتى التفسير بالحاء وهما بمعنى. قال: ومثله ما قرئ بوجهين قوله: إن لك في النهار سَبْحًا وسَبْخًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن المسعودي، عن إبراهيم بن عامر بن مسعود، عن رجل، عن عُمَر أنه سألهم عن هذه الآية (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) فقالوا: ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردّده من الآيات، فقال عمر: ما أرى إلا أنه على ما تنتقصون من معاصي الله، قال: فخرج رجل من كان عند عمر، فلقي أعرابيا، فقال: يا فلان ما فعل ربك؟ قال: قد تَخَيفته، يعني تنقصته، قال: فرجع إلى عمر فأخبره، فقال: قدّر الله ذلك.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوّف بذلك.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1: 360) قال: "على تخوف" مجازه: على التنقص، وأنشد بيتين ثانيهما بيت الشاهد، وأولهما: أُلاُم عَلى الهِجاءِ وكُلَّ يَوْمٍ ... يُلاقِينِي مِنَ الجِيرَانِ غُولُ
أي تنقص غدرهم مالي. سلاسل: يريد القوافي تنشد، فهو صليلها. وهو قلائد في أعناقهم. وفي رواية أبي عبيدة والقرطبي غدرهم، في مكان عدوهم. أي اعتداؤهم. قلت: وفي اللسان أيضاً (خوف) تخونه، وخونه، وخون منه: نقصه. يقال: تخونني فلان حقي إذا تنقصك.(17/214)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس (عَلَى تَخَوُّفٍ) قال: التنقص، والتفزيع.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) على تنقص.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (عَلَى تَخَوُّفٍ) قال: تنقص.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) فيعاقب أو يتجاوز.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) قال: كان يقال: التخوّف: التنقُّص، ينتقصهم من البلدان من الأطراف.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) يعني: يأخذ العذاب طائفة ويترك أخرى، ويعذّب القرية ويهلكها، ويترك أخرى إلى جنبها.
وقوله (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) يقول: فإن ربكم أن لم يأخذ هؤلاء الذين مكروا السيئات بعذاب معجَّل لهم، وأخذهم بموت وتنقص بعضهم في أثر بعض، لرءوف بخلقه، رحيم بهم، ومن رأفته ورحمته بهم لم يخسف بهم الأرض، ولم يعجِّل لهم العذاب، ولكن يخوّفهم وينقّصهم بموت.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة(17/215)
(أَوَلَمْ يَرَوْا) بالياء على الخبر عن الذين مكروا السيئات، وقرأ ذلك بعض قراء الكوفيين "أوَلم تَرَوا" بالتاء على الخطاب.
وأولى القراءتين عندي بالصواب قراءة من قرأ بالياء على وجه الخبر عن الذين مكروا السيئات، لأن ذلك في سياق قَصَصِهم، والخبر عنهم، ثم عقب ذلك الخبر عن ذهابهم عن حجة الله عليهم، وتركهم النظر في أدلته والاعتبار بها، فتأويل الكلام إذن: أو لم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات، إلى ما خلق الله من جسم قائم، شجر أو جبل أو غير ذلك، يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل، يقول: يرجع من موضع إلى موضع، فهو في أوّل النهار على حال، ثم يتقلَّص، ثم يعود إلى حال أخرى في آخر النهار.
وكان جماعة من أهل التأويل يقولون في اليمين والشمائل ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ) أما اليمين: فأوّل النهار، وأما الشمال: فآخر النهار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ) قال: الغدوّ والآصال، إذا فاءت الظِّلال، ظلال كلّ شيء بالغدوّ سجدت لله، وإذا فاءت بالعشيّ سجدت لله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ) يعني: بالغدو والآصال، تسجد الظلال لله غدوة إلى أن يفئ الظلّ، ثم تسجد لله إلى الليل، يعني: ظلّ كلّ شَيء.
وكان ابن عباس يقوله في قوله (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) ما حدثنا المثنى، قال: أخبرنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) يقول: تتميل.
واختلف في معنى قوله (سُجَّدًا لِلَّهِ) فقال بعضهم: ظلّ كلّ شيء سجوده.(17/216)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) قال: ظلّ كلّ شيء سجوده.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق الرازيّ، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) قال: سجد ظلّ المؤمن طوعا، وظلّ الكافر كَرْها.
وقال آخرون: بل عنى بقوله (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) كلا عن اليمين والشمائل في حال سجودها، قالوا: وسجود الأشياء غير ظلالها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأوّديّ، قالا ثنا حَكَّام، عن أبي سنان، عن ثابت عن الضحاك، في قول الله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) قال: إذا فاء الفيء توجه كلّ شيء ساجدا قبل القبلة، من نبت أو شجر، قال: فكانوا يستحبون الصلاة عند ذلك.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا الحمَّانيّ، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد، في قول الله (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) قال: إذا زالت الشمس سجد كلّ شيء لله عزّ وجلّ.
وقال آخرون: بل الذي وصف الله بالسجود في هذه الآية ظلال الأشياء، فإنما يسجد ظلالها دون التي لها الظلال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) قال: هو سجود الظلال، ظلال كلّ شيء ما في السموات وما في الأرض من دابة، قال: سجود ظلال الدواب، وظلال كلّ شيء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ) ما خلق من كلّ شيء عن يمينه وشمائله، فلفظ ما لفظ عن اليمين والشمائل، قال: ألم تر أنك إذا صليت الفجر، كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا ثم بعث الله عليه الشمس دليلا وقبض الله الظلّ.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر في هذه الآية أن(17/217)
ظلال الأشياء هي التي تسجد، وسجودها: مَيَلانها ودورانها من جانب إلى جانب، وناحية إلى ناحية، كما قال ابن عباس يقال من ذلك: سجدت النخلة إذا مالت، وسجد البعير وأسجد: إذا أميل للركوب. وقد بيَّنا معنى السجود في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.
وقوله (وَهُمْ دَاخِرُونَ) يعني: وهم صاغرون، يقال منه: دخر فلان لله يدخر دخرا ودخورا: إذا ذلّ له وخضع ومنه قول ذي الرُّمَّة:
فَلَمْ يَبْقَ إلا داخِرٌ فِي مُخَيَّسٍ ... ومُنْجَحِرٌ فِي غيرِ أرْضِكَ في جُحْرِ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَهُمْ دَاخِرُونَ) صاغرون.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَهُمْ دَاخِرُونَ) : أي صاغرون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة مثله.
وأما توحيد اليمين في قوله (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ) فجمعها، فإن ذلك إنما جاء كذلك، لأن معنى الكلام: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلال ما خلق من شيء عن يمينه: أي ما خلق، وشمائله، فلفظ "ما" لفظ واحد، ومعناه معنى الجمع، فقال: عن اليمين بمعنى: عن يمين ما خلق، ثم رجع إلى
__________
(1) البيت شاهد على أن معنى الداخر: الصاغر. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن: وهم داخرون: أي صاغرون يقال: فلان دخر لله: أي ذل وخضع. و (في اللسان: دخر) : دخر الرجل بالفتح يدخر دخورا، فهو داخر، ودخر دخرا: (كفرح) ذل وصغر يصغر صغارًا، وهو الذي يفعل ما يؤمر به، شاء أو أبى، صاغرا قميئا. وفي (اللسان: خيس) : وكل سجن: مخيس ومخيس (بتشديد الياء مفتوحة ومكسورة) . وأنشد البيت ونسبه إلى الفرزدق. والمنجحر: الداخل في الجحر، يقال: أجحره فانجحر: أدخله الجحر، فدخله. والجحر: كل شيء تحتقره الهوام والسباع لأنفسها. والجمع: أجحار وجحرة.(17/218)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
معناه في الشمائل، وكان بعض أهل العربية يقول: إنما تفعل العرب ذلك، لأن أكثر الكلام مواجهة الواحد الواحد، فيقال للرجل: خذ عن يمينك، قال: فكأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من القوم، وإذا جمع فهو الذي لا مساءلة فيه، واستشهد لفعل العرب ذلك بقول الشاعر:
بِفي الشَّامِتِينَ الصَّخْرُ إنْ كان هَدَّني ... رَزِيَّةُ شِبْلَيْ مُخْدِرٍ في الضَّراغمِ (1)
فقال: بِفي الشامتين، ولم يقل: بأفواه، وقول الآخر:
الوَارِدُونَ وتَيْمٌ في ذَرَا سَبإ ... قد عَضَّ أعْناقَهُمْ جِلْدُ الجَوَامِيسِ (2)
ولم يقل: جلود.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) }
يقول تعالى ذكره: ولله يخضع ويستسلم لأمره ما في السموات وما في الأرض من دابَّة يدبّ عليها، والملائكة التي في السموات، وهم لا يستكبرون عن التذلل له بالطاعة (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) وظلالهم تتفيأ عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون.
وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: اجتزئ بذكر الواحد من الدوابّ عن ذكر الجميع. وإنما معنى الكلام: ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من الدوابّ والملائكة، كما يقال: ما أتاني من رجل، بمعنى: ما أتاني من الرجال.
__________
(1) هذا البيت من شواهد الفراء في (معاني القرآن 1: 172) استشهد به عند قوله تعالى: (يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل) قال: الظن يرجع على كل شيء من جوانبه، فذلك تفيؤه، ثم فسر فقال: عن اليمين والشمائل، وكل ذلك جائز في العربية، قال الشاعر: "بفي الشامتين ... الخ البيت". قال ولم يقل: بأفواه الشامتين. قلت: يريد أن جمع الشمائل وإفراد اليمين، جائز في العربية، واستشهد عليه بالبيت. وقد وجه المؤلف في التفسير توجيهاً حسناً.
(2) وهذا البيت أيضاً كالشاهد قبله من شواهد الفراء، في (معاني القرآن، بعد سابقه 1: 172) على أن الشاعر قال: جلد الجواميس بالإفراد، ولم يقل: جلود الجواميس، في مقابلة أعناقهم ولم نقف على البيت في المراجع، ولا على قائله.(17/219)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
وكان بعض نحويِّي الكوفة يقول: إنما قيل: من دابة، لأن "ما" وإن كانت قد تكون على مذهب الذي، فإنها غير مؤقتة، فإذا أبهمت غير مؤقتة أشبهت الجزاء، والجزاء يدخل من فيما جاء من اسم بعده من النكرة، فيقال: من ضربه من رجل فاضربوه، ولا تسقط "من" من هذا الموضع كراهية أن تشبه أن تكون حالا لمن وما، فجعلوه بمن ليدلّ على أنه تفسير لما ومن لأنهما غير مؤقتتين، فكان دخول من فيما بعدهما تفسيرا لمعناهما، وكان دخول من أدلّ على ما لم يوقت من من وما، فلذلك لم تلغيا.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) }
يقول تعالى ذكره: يخاف هؤلاء الملائكة التي في السموات، وما في الأرض من دابة، ربهم من فوقهم، أن يعذّبهم إن عَصَوا أمره،ويفعلون ما يؤمرون، يقول: ويفعلون ما أمرهم الله به، فيؤدّون حقوقه، ويجتنبون سُخْطه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) }
يقول تعالى ذكره: وقال الله لعباده: لا تتخذوا لي شريكا أيها الناس، ولا تعبدوا معبودين، فإنكم إذا عبدتم معي غيري جعلتم لي شريكا، ولا شريك لي، إنما هو إله واحد ومعبود واحد، وأنا ذلك، (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) يقول: فإياي فاتقوا وخافوا عقابي بمعصيتكم إياي إن عصيتموني وعبدتم غيري، أو أشركتم في عبادتكم لي شريكا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) }(17/220)
يقول تعالى ذكره: ولله ملك ما في السموات والأرض من شيء، لا شريك له في شيء من ذلك، هو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم، وبيده حياتهم وموتهم. وقوله (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) يقول جلّ ثناؤه: وله الطاعة والإخلاص دائما ثابتا واجبا، يقال منه: وَصَبَ الدِّينُ يَصِبُ وُصُوبا ووَصْبا كما قال الدِّيلِيّ:
لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَلِيلَ بَقاؤُهُ ... يَوْما بِذَمّ الدَّهْرِ أجمَعَ وَاصِبا (1)
ومنه قول الله (وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ) ، وقول حسان:
غَيَّرَتْهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِ ... وهَزِيمٌ رَعْدُهُ وَاصِبٌ (2)
فأما من الألم، فإنما يقال: وصب الرجل يوصب وصبا، وذلك إذا أعيا وملّ، ومنه قول الشاعر:
لا يغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أيْنِ ولا وَصَبٍ ... ولا يعَضُّ على شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ (3)
__________
(1) البيت لأبي الأسود الدؤلي، ويقال فيه الديلي أيضا، استشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 361) على أن معنى "واصبا": دائما. وروايته فيه كرواية المؤلف (الطبري) . واستشهد به كذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (10: 114) ورواه بروايتين: الأولى كرواية المؤلف، وقال قبلها، أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما ... البيت. والأخرى باختلاف في الشطر الثاني. وهو: "بدم يكون الدهر أجمع واصبا" وظاهر أن هذه الرواية محرفة عن الأولى. وقال صاحب لسان العرب في "وصب". وفي التنزيل العزيز، "وله الدين واصبا" قال أبو إسحاق، قيل في معناه: دائبا: أي طاعته دائمة واجبة أبدا. قال: ويجوز، والله أعلم أن يكون "وله الدين واصبا": أي له الدين والطاعة، رضي العبد بما يؤمر به، أو لم يرض به، سهل عليه، أو لم يسهل، فله الدين وإن كان فيه الوصب، والوصب: شدة التعب، وفيه: "بعذاب واصب" أي دائم ثابت. وقيل: موجع.
(2) البيت لحسان بن ثابت (ديوانه طبع ليدن سنة 1910 ص 61) وقبله بيت وهو المطلع: قَدْ تَعَفَّى بَعْدَنا عاذِبُ ... ما بِهِ بادٍ وَلا قارِبُ
وتسفى به: تحمل إليه التراب. والهزيم: السحاب المتشقق بالمطر. يقول: غير هذا المكان ما تسفيه الريح عليه من التراب، وما يأتي به السحاب من مطر رعده دائم.
(3) هذا البيت لأعشى باهلة، واسمه عامر بن الحارث جمهرة أشعار العرب لمحمد بن أبي الخطاب القرشي (135 - 137) من قصيدة يقولها في أخ له اسمه المنتشر، قتله بنو الحارث بن كعب وقطعوه إربا إربا (عضوا عضوا) برجل منهم كان فعل معه مثل ذلك. ورواية البيت فيه وفي اللسان (صفر) : لا يَتَأَسَّى لِمَا فِي الْقِدْرِ يَرْقبُهُ ... ولا يَعَضُّ عَلى شُرْسُوفِهِ الصَّفْرُ
قال: والصفر دويية تكون في البطن، تدعيها الأعراب، ويكون منها الجوع. وخطأ رواية البيت الصاغاني، وأورده كرواية المؤلف. (انظر هامش اللسان: أرى) . والغمز: العصر باليد. والشرسوف: جمعه شراسيف، وهي أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن.(17/221)
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل الواصب، فقال بعضهم: معناه، ما قلنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن الأغرّ بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن أبي نضرة، عن ابن عباس (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) قال: دائما.
حدثني إسماعيل بن موسى، قال: أخبرنا شريك، عن أبي حصين، عن عكرمة، في قوله (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) قال: دائما.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن يعلى بن النعمان، عن عكرمة، قال: دائما.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) قال: دائما.
حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) قال: دائما.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة وأبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) قال: دائما.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) : أي دائما، فإن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا من خلقه إلا عبده طائعا أو كارها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَاصِبًا) قال: دائما، ألا ترى أنه يقول (عَذَابٌ وَاصِبٌ) أي دائم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله(17/222)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
(وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) قال: دائما، والواصب: الدائم.
وقال آخرون: الواصب في هذا الموضع: الواجب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن قيس، عن يَعَلَى بن النعمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) قال: واجبا.
وكان مجاهد يقول: معنى الدين في هذا الموضع: الإخلاص. وقد ذكرنا معنى الدين في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) قال: الإخلاص.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: الدين: الإخلاص.
وقوله (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ) يقول تعالى ذكره: أفغير الله أيها الناس تتقون، أي ترهبون وتحذرون أن يسلبكم نعمة الله عليكم بإخلاصكم العبادة لربكم، وإفرادكم الطاعة له، وما لكم نافع سواه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) }
اختلف أهل العربية في وجه دخول الفاء في قوله (فَمِنَ اللَّهِ) فقال بعض البصريين: دخلت الفاء، لأن "ما" بمنزلة "من" فجعل الخبر بالفاء. وقال بعض الكوفيين: "ما" في معنى جزاء، ولها فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن الله، لأن الجزاء لا بدّ له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم، وإن لم يظهر فهو مضمر، كما قال الشاعر:(17/223)
إنِ العَقْلُ في أموَالِنا لا نَضِقْ بِهِ ... ذِرَاعًا وَإنْ صَبْرًا فنَعْرِفُ للصَّبْرِ (1)
وقال: أراد: إن يكن العقل فأضمره. قال: وإن جعلت "ما بكم" في معنى الذي جاز، وجعلت صلته بكم و "ما" في موضع رفع بقوله (فَمِنَ اللَّهِ) وأدخل الفاء، كما قال (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) وكل اسم وصل مثل من وما والذي، فقد يجوز دخول الفاء في خبره لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يجاب بالفاء، ولا يجوز أخوك فهو قائم، لأنه اسم غير موصول، وكذلك تقول: مالك لي، فإن قلت: مالك، جاز أن تقول: مالك فهو لي، وإن ألقيت الفاء فصواب.
وتأويل الكلام: ما يكن بكم في أبدانكم أيها الناس من عافية وصحة وسلامة، وفي أموالكم من نماء، فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره، لأن ذلك إليه وبيده (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) يقول: إذا أصابكم في أبدانكم سَقَم ومرض، وعلة عارضة، وشدّة من عيش (فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) يقول: فإلى الله تصرخون بالدعاء وتستغيثون به، ليكشف ذلك عنكم، وأصله: من جؤار الثور، يقال منه: جأر الثور يجأر جؤارا، وذلك إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو غيره، ومنه قول الأعشى:
وَما أيْبُلِيٌّ عَلى هَيْكَلِ ... بَناهُ وَصَلَّبَ فِيهِ وصَارَا ... يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتٍ المَلِيـ ... كِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤْارًا (2)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (1: 173) عند قوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله. قال: ما: في معنى جزاء، ولها فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن الله؛ لأن الجزاء لا بد له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم، وإن لم يظهر فهو مضمر، كما قال الشاعر: "إن العقل.." البيت. أراد: إن يكن، فأضمرها. ولو جعلت " ما بكم " في معنى "الذي": جاز، وجعلت صلته "بكم"، والذي حينئذ: في موضع رفع، بقوله "فمن الله". وأدخل الفاء، كما قال تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) . وكل اسم وصل، مثل من وما، والذي، فقد يجوز دخول الفاء في خبره؛ لأنه مضارع للجزاء، والعقل في البيت معناه: الدية.
(2) البيتان من شعر الأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة ص 53) من قصيدة له سبعون بيتا، يمدح بها قيس ابن معد يكرب. والأييلي: الراهب صاحب الأيبل، وهو العصا التي يدق بها الناقوس. والهيكل: موضع في صدر الكنيسة، يقرب في القربان. صلب صور فيه الصليب. وفي اللسان صار:
صور عن أبي علي الفارسي. ويلوح لي أن المراد بصور في البيت: هو ما قاله الأعشى في بيت آخر وهو قوله وفي وصف الخمر "وصلى على دنها وارتسم". ومعنى ارتسم: أشار بيده على جبهته وقلبه وصدره يمنة ويسرة، كما يفعل المسيحيون. وراوح بين العملين: تداول هذا مرة، وهذا مرة. وجأر إلى الله جؤارا: تضرع إليه بالدعاء والاستغاثة. يقول: ليس الراهب المعتكف في هيكله أمام صليبه، دائبا على صلواته سجوداً وتضرعاً إلى الله، بأعظم منه تقي في الحساب (خبر مِا: في البيت الذي بعد البيتين) .(17/224)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
يعني بالجؤار: الصياح، إما بالدعاء، وإما بالقراءة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) قال: تضرعون دعاء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: الضُّرُّ: السُّقْم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) }(17/225)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) }
يقول تعالى ذكره: ثم إذا وهب لكم ربكم العافية، ورفع عنكم ما أصابكم من المرض في أبدانكم، ومن الشدة في معاشكم، وفرّج البلاء عنكم (إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) يقول: إذا جماعة منكم يجعلون لله شريكا في عبادتهم، فيعبدون الأوثان، ويذبحون لها الذبائح شكرا لغير من أنعم عليهم بالفرج مما كانوا فيه من الضرِّ (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) يقول: ليجحدوا الله نعمته فيما(17/225)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
آتاهم من كشف الضرّ عنهم (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، وهذا من الله وعيد لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، وتهديد لهم، يقول لهم جلّ ثناؤه: تمتعوا في هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم، وتبلغوا الميقات الذي وقته لحياتكم وتمتعكم فيها، فإنكم من ذلك ستصيرون إلى ربكم، فتعلمون بلقائه وبال ما كسبت أيديكم، وتعرفون سوء مغبة أمركم، وتندمون حين لا ينفعكم الندم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) }
يقول تعالى ذكره: ويجعل هؤلاء المشركون من عَبَدة الأوثان، لما لا يعلمون منه ضرا ولا نفعا نصيبا. يقول: حظا وجزاء مما رزقناهم من الأموال، إشراكا منهم له الذي يعلمون أنه خلقهم، وهو الذي ينفعهم ويضرّهم دون غيره.
كالذي حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) قال: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرّهم ولا ينفعهم نصيبا مما رزقناهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) وهم مشركو العرب، جعلوا لأوثانهم نصيبا مما رزقناهم، وجزءا من أموالهم يجعلونه لأوثانهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) قال: جعلوا لآلهتهم التي ليس لها نصيب ولا شيء، جعلوا لها نصيبا مما قال الله من الحرث والأنعام، يسمون عليها أسماءها ويذبحون لها.
وقوله (تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُون) يقول تعالى ذكره: والله أيها المشركون الجاعلون الآلهة والأنداد نصيبا فيما رزقناكم شركا بالله وكفرا،(17/226)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
ليسألنكم الله يوم القيامة عما كنتم في الدنيا تفترون، يعني: تختلقون من الباطل والإفك على الله بدعواكم له شريكا، وتصييركم لأوثانكم فيما رزقكم نصيبا، ثم ليعاقبنكم عقوبة تكون جزاء لكفرانكم نعمه وافترائكم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) }
يقول تعالى ذكره: ومن جهل هؤلاء المشركين وخبث فعلهم، وقبح فِرْيتهم على ربهم، أنهم يجعلون لمن خلقهم ودبَّرهم وأنعم عليهم، فاستوجب بنعمه عليهم الشكر، واستحق عليهم الحمد: البنات، ولا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر ولا أنثى سبحانه، نزه جلّ جلاله بذلك نفسه عما أضافوا إليه ونسبوه من البنات، فلم يرضوا بجهلهم إذ أضافوا إليه ما لا ينبغي إضافته إليه، ولا ينبغي أن يكون له من الولد أن يضيفوا إليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها، ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها إذا كانت لهم، وفي "ما" التي في قوله (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) وجهان من العربية: النصب عطفا لها على البنات، فيكون معنى الكلام إذا أريد ذلك: ويجعلون لله البنات ولهم البنين الذين يشتهون، فتكون "ما" للبنين، والرفع على أن الكلام مبتدأ من قوله (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) فيكون معنى الكلام: ويجعلون لله البنات ولهم البنون.
وقوله (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) يقول: وإذا بشر أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات بولادة ما يضيفه إليه من ذلك له، ظلّ وجهه مسودًا من كراهته له (وَهُوَ كَظِيمٌ) يقول قد كَظَم الحزنَ، وامتلأ غما بولادته له، فهو لا يظهر ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) ، ثم قال (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ(17/227)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
كَظِيمٌ) ... إلى آخر الآية، يقول: يجعلون لله البنات ترضونهنّ لي، ولا ترضونهن لأنفسكم، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا وُلد للرجل منهم جارية أمسكها على هون، أو دسها في التراب وهي حية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) وهذا صنيع مشركي العرب، أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمري ما يدري أنه خير، لرُبّ جارية خير لأهلها من غلام. وإنما أخبركم الله بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه، وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (وَهُوَ كَظِيمٌ) قال: حزين.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (وَهُوَ كَظِيمٌ) قال: الكظيم: الكميد. وقد بيَّنا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) }
يقول تعالى ذكره: يتوارى هذا المبشر بولادة الأنثى من الولد له من القوم، فيغيب عن أبصارهم (مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ) يعني: من مساءته إياه مميلا بين أن يمسكه على هون: أي على هوان، وكذلك ذلك في لغة قريش فيما ذكر لي، يقولون للهوان: الهون؛ ومنه قول الحطيئة:
فلمَّا خَشِيتُ الهُونَ والعَيْرُ مُمْسِكٌ ... على رَغْمِهِ ما أثبتَ الحبلَ حافِرُه (1)
__________
(1) البيت في ديوان الحطيئة طبع التقدم بالقاهرة ص 10 قال شارحه: يقول: ما دام الحمار مقيدا فهو ذليل، معترف بالهوان. وهذا مقلوب، أراد: ما أثبت الحبل حافره (الحبل فاعل أثبت، والحافر مفعول له) فقلب، فجعل الفاعل مفعولا، والمفعول فاعلا، ومثله: أسلموها في دمشق كما ... أسلمت وحشية وهقا
= أراد: كما أسلم وحشية وهق (والوهق: الحبل الغار فيه أنشوطة، فتؤخذ فيه الدابة والإنسان، جمعه أوهاق..) وقال عروة ابن الورد: فلو أني شهدت أبا سعاد ... غداة غدا بمهجته يفوق
فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوه إلا ما أطيق
أي لا أترك جهدا، أراد: فديت نفسه بنفسي، فقلب.(17/228)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
وبعض بني تميم جعل الهون مصدرا للشيء الهين، ذكر الكسائي أنه سمعهم يقولون: إن كنت لقليل هون المؤنة منذ اليوم قال: وسمعت: الهوان في مثل هذا المعنى، سمعت منهم قائلا يقول لبعير له: ما به بأس غير هوانه، يعني خفيف الثمن، فإذا قالوا: هو يمشي على هونه، لم يقولوه إلا بفتح الهاء، كما قال تعالى (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) . (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) يقول: يدفنه حيا في التراب فيئده.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) يئد ابنته.
وقوله (أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) يقول: ألا ساء الحكم الذي يحكم هؤلاء المشركون، وذلك أن جعلوا لله ما لا يرضون لأنفسهم، وجعلوا لما لا ينفعهم ولا يضرهم شركا فيما رزقهم الله، وعبدوا غير من خلقهم وأنعم عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) }
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه أن قوله (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ، والآية التي بعدها مثل ضربه الله لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله البنات، فبين بقوله (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) أنه مثل، وعنى بقوله جلّ ثناؤه (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) للذين لا يصدّقون بالمعاد والثواب والعقاب من المشركين (مَثَلُ السَّوْءِ) وهو القبيح من المثل، وما يسوء من ضرب له ذلك المثل (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى) يقول: ولله المثل الأعلى، وهو الأفضل والأطيب، والأحسن، والأجمل، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره.(17/229)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى) قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى) الإخلاص والتوحيد.
وقوله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يقول تعالى ذكره: والله ذو العزّة التي لا يمتنع عليه معها عقوبة هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، ولا عقوبة من أراد عقوبته على معصيته إياه، ولا يتعذّر عليه شيء أراده وشاءه، لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، الحكيم في تدبيره، فلا يدخل تدبيره خَلَل، ولا خطأ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) }
يقول تعالى ذكره (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ) عصاة بني آدم بمعاصيهم (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا) يعني على الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) تدب عليها (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ) يقول: ولكن بحلمه يؤخر هؤلاء الظلمة فلا يعاجلهم بالعقوبة (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يقول: إلى وقتهم الذي وُقِّت لهم، (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ) يقول: فإذا جاء الوقت الذي وُقِّت لهلاكهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ) عن الهلاك ساعة فيمهلون (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) له حتى يستوفُوا آجالهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: كاد الجُعْل أن يعذّب بذنب بني آدم، وقرأ (َلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) .(17/230)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي، قال: ثنا محمد بن جابر الجعفي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، قال: سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، قال: فالتفت إليه فقال: بلى، والله إن الحبارى لتموت في وكرها هزالا بظلم الظالم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا أبو عبيدة الحداد، قال: ثنا قرة بن خالد السدوسي، عن الزبير بن عديّ، قال: قال ابن مسعود: خطيئة ابن آدم قتلت الجُعْل.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، قال: قال عبد الله: كاد الجعل أن يهلك في جُحْره بخطيئة ابن آدم.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال الله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) قال: نرى أنه إذا حضر أجله فلا يؤخر ساعة، ولا يقدّم، ما لم يحضر أجله، فإن الله يؤخر ما شاء، ويُقدّم ما شاء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرِطُونَ (62) }
يقول تعالى ذكره: ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهونه لأنفسهم. (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) يقول: وتقول ألسنتهم الكذب وتفتريه، أن لهم الحسنى، فأن في موضع نصب، لأنها ترجمة عن الكذب. وتأويل الكلام: ويجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم، ويزعمون أن لهم الحسنى، الذي يكرهونه لأنفسهم. البنات يجعلونهن لله تعالى، وزعموا أن الملائكة بنات الله. وأما الحُسنى التي جعلوها لأنفسهم: فالذكور من الأولاد، وذلك أنهم كانوا يئدون الإناث من أولادهم، ويستبقون الذكور منهم، ويقولون: لنا الذكور ولله البنات، وهو نحو قوله (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.(17/231)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى) قال: قول قريش: لنا البنون ولله البنات.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: قول كفَّار قريش.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) : أي يتكلمون بأن لهم الحُسنى أي الغلمان.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى) قال: الغلمان.
وقوله (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) يقول تعالى ذكره: حقا واجبا أن لهؤلاء القائلين لله البنات، الجاعلين له ما يكرهونه لأنفسهم، ولأنفسهم الحسنى عند الله يوم القيامة النار.
وقد بيَّنا تأويل قول الله (لا جَرَمَ) في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
ورُوي عن ابن عباس في ذلك، ما حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (لا جَرَمَ) يقول: بلى.
وقوله (لا جَرَمَ) كان بعض أهل العربية يقول: لم تُنْصَبْ جَرَمَ بلا كما نصبت الميم من قول: لا غلام لك؛ قال: ولكنها نُصِبَت لأنها فعل ماض، مثل قول القائل: قَعَدَ فلان وجلس، والكلام: لا ردّ لكلامهم أي ليس الأمر هكذا، جَرَمَ: كَسَبَ، مثل قوله لا أقسم، ونحو ذلك. وكان بعضهم يقول: نصب جَرَمَ بلا وإنما بمعنى: لا بدّ، ولا محالة؛ ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة حقا.
وقوله (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) يقول تعالى ذكره: وأنهم مُخَلَّفون متروكون في النار، منسيون فيها.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال أكثرهم بنحو ما قلنا في ذلك.(17/232)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال: منسيون مُضَيَّعون.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: أخبرنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا بهز بن أسد، عن شعبة، قال: أخبرني أبو بشر، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال: متروكون في النار، منسيون فيها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: حصين، أخبرنا، عن سعيد بن جبير، بمثله.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن سعيد بن جبير بمثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال: منسيون.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة وأبو معاوية وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال: متروكون في النار.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم، عن مجاهد (مُفْرَطُونَ) قال: مَنْسيون.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثني أبي، عن الحسين، عن قتادة (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) يقول: مُضَاعُون.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا بدل، قال: ثنا عباد بن راشد، قال: سمعت داود بن أبي هند، في قول الله (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال: منسيون في النار.(17/233)
وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم مُعْجَلُونَ إلى النار مقدّمون إليها، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب: أفرطنا فلانا في طلب الماء، إذا قدّموه لإصلاح الدلاء والأرشية، وتسوية ما يحتاجون إليه عند ورودهم عليه فهو مُفْرَط. فأما المتقدّم نفسه فهو فارط، يقال: قد فَرَط فلان أصحابَه يَفْرُطهم فُرْطا وفُروطا: إذا تقدمهم وجمع فارط: فُرَّاط ومنه قول القُطامِيّ:
واسْتَعْجَلُونا وكانُوا مِنْ صَحَابَتِنا ... كمَا تَعَجَّل فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ (1)
ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنا فَرَطُكُمْ على الحَوْضِ": أي متقدمكم إليه وسابقكم "حتى تَرِدُوهُ".
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) يقول: مُعْجَلُون إلى النار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال: قد أفرطوا في النار أي مُعْجَلُون.
وقال آخرون. معنى ذلك: مُبْعَدون في النار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أشعث السمَّان، عن الربيع، عن أبي بشر، عن سعيد (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال: مُخْسَئون مُبْعَدون.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي اخترناه، وذلك أن الإفراط الذي هو بمعنى التقديم، إنما يقال فيمن قدَم مقدَما لإصلاح ما يقدم إليه إلى وقت ورود من قدمه عليه، وليس بمقدم من قدم إلى النار من أهلها لإصلاح شيء فيها لوارد يرد عليها فيها فيوافقه مصلحا، وإنما تَقَدّم مَن قُدِّم إليها لعذاب يُعجَّل له. فإذا كان معنى ذلك الإفراط الذي هو تأويل التعجيل ففسد أن يكون له
__________
(1) البيت في ديوان القطامي (طبعة ليدن سنة 1902) وفيه "فاستعجلونا" بالفاء. يقول: استعجلونا: أي أعجلونا، يريد تقدمونا، والفراط: الذين يتقدمون الواردة، فيصلحون الأرشية، حتى يأتي القوم بعدهم. وفي اللسان: فرط: وفرط القوم يفرطهم فرطا (من باب قتل) وفراطة: تقدمهم إلى الورد، لإصلاح الأرشية والدلاء، ومدر الحياض والسقي فيها، فأنا فارط، وهم الفراط؛ قال القطامي: فاستعجلونا ... الخ البيت. وفي الصحاح: كما تعجل في موضع: كما تقدم.(17/234)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
وجه في الصحة، صحّ المعنى الآخر، وهو الإفراط الذي بمعنى التخليف والترك. وذلك أنه يُحكى عن العرب: ما أَفْرطت ورائي أحدًا: أي ما خَلَّفته؛ وما فرطته: أي لم أخلفه.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المِصرَينِ الكوفة والبصرة (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) بتخفيف الراء وفتحها، على معنى ما لم يُسَمّ فاعله من أُفرِط فهو مُفْرَط. وقد بيَّنت اختلاف قراءة ذلك كذلك في التأويل. وقرأه أبو جعفر القارئ. "وأنَّهُم مُفَرِّطُونَ" بكسر الراء وتشديدها، بتأويل: أنهم مفرِّطون في أداء الواجب الذي كان لله عليهم في الدنيا، من طاعته وحقوقه، مضيعو ذلك، من قول الله تعالى (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) وقرأ نافع بن أبي نعيم: "وأنَّهُم مُفْرِطُونَ" بكسر الراء وتخفيفها.
حدثني بذلك يونس، عن وَرْش عنه، بتأويل: أنهم مُفْرِطُونَ في الذنوب والمعاصي، مُسْرِفون على أنفسهم مكثرون منها، من قولهم: أَفْرط فلان في القول: إذا تجاوز حَدَّه، وأسرف فيه.
والذي هو أولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة الذين ذكرنا قراءتهم من أهل العراق لموافقتها تأويل أهل التأويل الذي ذكرنا قبل، وخروج القراءات الأخرى عن تأويلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ (63) }
يقول تعالى ذكره مقسِما بنفسه عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: والله يا محمد لقد أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممها بمثل ما أرسلناك إلى أمتك من الدعاء إلى التوحيد لله، وإخلاص العبادة له، والإذعان له بالطاعة، وخلع الأنداد والآلهة (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) يقول: فحسَّن لهم الشيطان ما كانوا عليه من الكفر بالله وعبادة الأوثان مقيمين، حتى كذّبوا رسلهم، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عند ربهم (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) يقول: فالشيطان ناصرهم اليوم في الدنيا، وبئس الناصر (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة عند ورودهم على ربهم، فلا ينفعهم حينئذ ولاية الشيطان، ولا هي نفعتهم في الدنيا، بل ضرّتهم فيها(17/235)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
وهي لهم في الآخرة أضرّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونُ (64) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وما أنزلنا يا محمد عليك كتابنا وبعثناك رسولا إلى خلقنا إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من دين الله، فتعرّفهم الصواب منه، والحقّ من الباطل، وتقيم عليهم بالصواب منه حجة الله الذي بعثك بها.
وقوله (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يقول: وهدى بيانا من الضلالة، يعني بذلك الكتاب، ورحمة لقوم يؤمنون به، فيصدّقون بما فيه، ويقرّون بما تضمن من أمر الله ونهيه، ويعملون به، وعطف بالهدى على موضع ليبين، لأن موضعها نصب. وإنما معنى الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا بيانًا للناس فيما اختلفوا فيه هدى ورحمة.(17/236)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) }
يقول تعالى ذكره منبهَ خلقِه على حججه عليهم في توحيده، وأنه لا تنبغي الألوهية إلا له، ولا تصلح العبادة لشيء سواه: أيها الناس معبودكم الذي له العبادة دون كلّ شيء، (أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) يعني: مطرا، يقول: فأنبت بما أنزل من ذلك الماء من السماء الأرض الميتة التي لا زرع بها ولا عُشْبَ ولا نبت (بَعْدَ مَوْتِهَا) بعد ما هي ميتة لا شيء فيها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) يقول تعالى ذكره: إن في إحيائنا الأرض بعد موتها بما أنزلنا من السماء من ماء لدليلا واضحًا، وحجة قاطعة، عذر من فكر فيه (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) يقول: لقوم يسمعون هذا القول فيتدبرونه ويعقلونه، ويطيعون الله بما دلهم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ(17/236)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) }
يقول تعالى ذكره: وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام التي نُسقيكم مما في بطونه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (نُسْقِيكُمْ) فقرأته عامة أهل مكة والعراق والكوفة والبصرة، سوى عاصم؛ ومن أهل المدينة أبو جعفر (نُسْقِيكُمْ) بضمّ النون. بمعنى: أنه أسقاهم شرابًا دائمًا. وكان الكسائيّ يقول: العرب تقول: أسقيناهم نَهْرا، وأسقيناهم لبنا: إذا جعلته شِرْبا دائما، فإذا أرادوا أنهم أعطوه شربة قالوا: سقيناهم فنحن نَسْقِيهم بغير ألف؛ وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر، ومن أهل العراق عاصم (نَسْقِيكم) بفتح النون من سَقاه الله، فهو يَسْقيه، والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السَّقي غير دائم، وتنزعها فيما كان دائمًا، وإن كان أشهر الكلامين عندها ما قال الكسائيّ، يدلّ على ما قلنا من ذلك، قول لَبيد في صفة سحاب:
سَقَى قَوْمي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْرًا والقَبَائِلَ مِنْ هِلالِ (1)
فجمع اللغتين كلتيهما في معنى واحد، فإذا كان ذلك كذلك، فبأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجب القراءتين إليّ قراءة ضمّ النون لما ذكرت من أن أكثر الكلامين عند العرب فيما كان دائما من السقي أسقى بالألف فهو يُسْقِي، وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم لهم غير منقطع عنهم. وأما قوله (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) وقد ذكر الأنعام قبل ذلك، وهي جمع والهاء في البطون موحدة، فإن لأهل العربية في ذلك أقوالا فكان بعض نحويِّي الكوفة يقول: النَّعم والأنعام شيء واحد، لأنهما جميعًا جمعان، فردّ الكلام في
__________
(1) البيت للبيد (لسان العرب: سقى) قال: السقي: معروف، والاسم: السقيا بالضم. وسقاه الله الغيث وأسقاه، وقد جمعهما لبيد في قوله: "سقى قومي". وقال الفراء في معاني القرآن: (174) العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري لقوم: أسقيت. فإذا سقاك الرجل ماء لشفتك، قالوا: سقاه، ولم يقولوا: أسقاه، كما قال الله عز وجل: (وسقاهم ربهم شراباً طهورًا) . وقال: (الذي يطعمني ويسقين) . وربما قالوا لما في بطون الأنعام ولماء السماء سقى السماء وأسقى، كما قال لبيد: "سقي قومي ... " البيت. وقد اختلف القراء، وقرأ بعضهم نسقيكم، وبعضهم: يسقيكم.(17/237)
قوله (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) إلى التذكير مرادًا به معنى النَّعم، إذ كان يؤدي عن الأنعام، ويستشهد لقوله ذلك برجز بعض الأعراب:
إذا رأيْتَ أنْجُما منَ الأسَدْ ... جَبْهَتهُ أوِ الخَرَاة والكَتَدْ ... بال سُهَيْلٌ فِي الفَضِيخِ فَفَسَدْ ... وطابَ ألْبانُ اللِّقاحِ فَبَرَدْ (1)
ويقول: رجع بقوله "فبرد" إلى معنى اللبن، لأن اللبن والألبان تكون في معنى واحد، وفي تذكير النعم قول الآخر:
أكُلَّ عامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ ... يُلْقحُهُ قَومٌ وتَنْتِجُونَهُ (2)
__________
(1) الأبيات الثلاثة الأولى في (اللسان: جبه) قال الأزهري: الجبهة النجم الذي يقال له: جبهة الأسد، وهي أربعة أنجم ينزلها القمر، قال الشاعر: "إذا رأيت ... " وفي (اللسان: خرت) . والخراتان نجمان من كواكب الأسد، وهما كوكبان بينهما قدر سوط، وهما كتفا الأسد، واحدتهما خراة وأنشد الأبيات الأربعة. وفي (اللسان: كتد) : والكتد: نجم، أنشد ثعلب: "إذا رأيت ... الخ" الأبيات وفي (اللسان: سهل) الأزهري: سهيل كوكب لا يرى بخراسان، ويرى بالعراق. وقال ابن كناسة، سهيل يرى بالحجاز، في جميع أرض العرب، ولا يرى بأرض أرمينية. وقال الأزهري: سهيل كوكب يمان. وفي (اللسان فضخ) الفضيخ: عصير العنب، وهو أيضا شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده، من غير أن تمسه النار، وهو المشدوخ.
وفضحت البسر وافتضخته، قال الراجز: "بال سهيل في الفضيخ ففسد" يقول: لما طلع سهيل ذهب زمن البسر وأرطب، فكأنه بال فيه. وأصل هذه الشواهد من شواهد الفراء في معاني القرآن، قال: (ص 174) : وأما قوله "مما في بطونه"، ولم يقل "بطونها" فإنه قيل -والله أعلم- إن النعم والأنعام شيء واحد، وهما جمعان، فرجع التذكير إلى معنى "النعم"، إذ كان يؤدي عن الأنعام. أنشدني بعضهم: إذا رأيت أنجما.. الخ الأبيات الأربعة، وهي من مشطور الرجز. فرجع (ضمير قوله فيرد) إلى اللبن، والألبان يكون في معنى واحد، قال: وقال الكسائي "نسقيكم مما في بطونه": بطون ما ذكرنا. وهو صواب. أنشدني بعضهم "مثل الفراخ نتفت حواصله".
(2) هذا الرجز لقيس بن الحصين بن يزيد الحارثي، أنشده أبو عبيدة في (مجاز القرآن 1: 362) وأنشد بعد بيتي الشاهد بيتا ثالثا وهو: "أربابه نوكى ولا يحمونه) . والشاهد فيه أن الأنعام يذكر ويؤنث. قال: وقال آخرون: المعنى على النعم، لأن النعم، يذكر ويؤنث. وأنشده في اللسان (نعم) قال: وقال آخر في تذكير النعم: في كُلَ عامٍ نَعَمٌ يَحْوُونَهُ ... يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وتَنْتِجُونَهُ
وذكر الرجز البغدادي في الخزانة (1: 196 - 197) وزاد فيه أبياتا، قال: وتنتجونه بتاء الخطاب: يقال نتج الناقة أهلها: إذا استولدوها. وأنتجت الفرس بالهمزة: حان نتاجها. والنتاج بالكسر: اسم يشمل وضع البهائم من الغنم وغيرها. وإذا ولى الإنسان ناقة أو شاة ما خضا حتى تضع قيل نتجها نتجا=
من باب ضرب، فالإنسان كالقابلة، لأنه يتلقى الولد ويصلح من شأنه، فهو ناتج، والبهيمة منتوجة، والولد: نتيجة.
يقول: يحملون الفحولة على النوق، فإذا حملت أغرتم أنتم عليها. ورواية البيت في الخزانة كرواية المؤلف. والأبيات: قبلت في يوم الكلاب الثاني، وهو ماء لبني تميم بين الكوفة والبصرة.(17/238)
فذكر النعم؛ وكان غيره منهم يقول: إنما قال (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) لأنه أراد: مما في بطون ما ذكرنا وينشد في ذلك رَجزا لبعضهم:
مِثْلُ الفِراخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهُ (1)
وقول الأسود بن يَعْفُر:
إنَّ المَنِيَّةَ والحُتُوفَ كلاهُما ... يُوفي المَخارمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي (2)
فقال: كلاهما، ولم يقل: كلتاهما؛ وقول الصَّلَتان العَبْدِيّ:
إنَّ السَّماحَةَ والمُرُوءَة ضُمِّنا ... قَبْرًا بمَرْوَ على الطَّرِيقِ الوَاضِحِ (3)
وقول الآخر:
وعَفْرَاءُ أدْنَى النَّاس مِنِّي مَوَدَّةً ... وعَفْرَاءُ عَنّي المُعْرِضُ المُتَوَانِي (4)
ولم يقل: المعرضة المتوانية؛ وقول الآخر:
إذا النَّاسُ ناسٌ والبِلادُ بغِبْطَةٍ ... وَإذْ أُمُّ عَمَّارٍ صَديقٌ مُساعِفُ (5)
__________
(1) هو مثل الشاهد السابق على سابقه، أنشده الفراء في معاني القرآن (ص 174) شاهدا على أن قوله نتفت حواصله، أي حواصل ما ذكرنا، كما فسره الكسائي. ونقله صاحب اللسان في (نعم) مع أشباه له.
(2) البيت للأسود بن يعفر النهشلي التميمي (المفضيليات: 101) والمنية: الموت. والحتوف: جمع حتف، يريد أنواع الأخطار التي تؤدي إلى الموت. والمخارم: جمع مخرم: الطريق في الغلظ، عن السكري، وقيل: الطرق في الجبال، وأفواه الفجاج، وسواد الإنسان: شخصه. والشاهد في البيت قوله كلاهما بالتذكير، مع أن المنية والحتوف مؤنثان، وكان حقه أن يقول: كلتاهما، لأن الشاعر لم يحفل بهذا التأنيث، واعتبر المذكور أو لا مذكرا، بمعنى الشيئين.
(3) الشاهد في البيت أن السماحة والمروءة لفظتان مؤنثتان ولم يؤنث الفعل المتحمل ضميرهما، فقال الشاعر: ضمنا، ولم يقل ضمنتا، لأنه اعتبر ما رجع إليه الضمير قبل الفعل شيئين مذكرين، أو خلقين، فلذلك لم يؤنث الفعل المسند إلى ضميرهما.
(4) استشهد المؤلف بهذا البيت على أن المعرض وهو خبر لعفراء، لم يطابق المبتدأ في التأنيث وهو عفراء، لأن الشاعر ذهب إلى معنى الحبيب أو الشخص، مما هو مذكر في المعنى.
(5) وهذا الشاهد كسابقه، لأن الشاعر ذهب إلى أن أم عمار شخص، فلذلك قال صديق على التأويل ولم يقل صديقه على المطابقة. والصديق المساعف: أي المواصل: الذي يدنو من صديقه ويسعفه بحاجته.(17/239)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
ويقول: كل ذلك على معنى هذا الشيء وهذا الشخص والسواد، وما أشبه ذلك، ويقول: من ذلك قول الله تعالى ذكره (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي) بمعنى: هذا الشيء الطالع. وقوله (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) ولم يقل ذكرها، لأن معناه: فمن شاء ذكر هذا الشيء. وقوله (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ) ولم يقل جاءت. وكان بعض البصريين يقول: قيل (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) لأن المعنى: نسقيكم من أيّ الأنعام كان في بطونه، ويقول: فيه اللبن مضمر، يعني أنه يسقي من أيها كان ذا لبن، وذلك أنه ليس لكلها لبن، وإنما يُسقى من ذوات اللبن. والقولان الأوّلان أصحّ مخرجا على كلام العرب من هذا القول الثالث.
وقوله (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا) يقول: نسقيكم لبنا، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصا: يقول: خلص من مخالطة الدم والفرث، فلم يختلطا به (سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) يقول: يسوغ لمن شربه فلا يَغَصّ به كما يَغَصّ الغاصّ ببعض ما يأكله من الأطعمة. وقيل: إنه لم يَغصّ أحد باللبن قَطُّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره: ولكم أيضًا أيها الناس عِبرةٌ فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا، مع ما نسقيكم من بطون الأنعام من اللبن الخارج من بين الفرث والدم. وحذف من قوله (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ) الاسم، والمعنى ما وصفت، وهو: ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه لدلالة "مِن" عليه، لأن "من" تدخل في الكلام مُبَعِّضة، فاستغني بدلالتها ومعرفة السامعين بما يقتضي من ذكر الاسم معها. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول في معنى الكلام: ومن ثمرات النخيل والأعناب شيء تتخذون منه سكرا، ويقول: إنما ذكرت الهاء في قوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) لأنه أريد بها الشيء، وهو عندنا عائد على المتروك، وهو "ما". وقوله (تَتَّخِذُونَ) من صفة "ما" المتروكة.(17/240)
واختلف أهل التأويل في معنى قوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) فقال بعضهم: عني بالسَّكَر: الخمر، وبالرزق الحسن: التمر والزبيب، وقال: إنما نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، ثم حُرّمت بعد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ، قال: ثنا أيوب بن جابر السُّحَيْمي، عن الأسود، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس، قوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: السَّكَر: ما حُرِّم من شرابه، والرزق الحسن: ما أحلّ من ثمرته.
حدثنا ابن وكيع وسعيد بن الربيع الرازي، قالا ثنا ابن عيينة، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: الرزق الحسن: ما أحلّ من ثمرتها، والسكر: ما حرّم من ثمرتها.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن الأسود، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس، بنحوه.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: ثنا سفيان، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، قال: سمعت رجلا يحدّث عن ابن عباس في هذه الآية (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: السكر: ما حُرِّم من ثمرتيهما، والرزق الحسن: ما أحلّ من ثمرتيهما.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس، بنحوه.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا الأسود بن قيس، قال: ثني عمرو بن سفيان، قال: سمعت ابن عباس يقول، وذكرت عنده هذه الآية (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ(17/241)
سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: السكر: ما حرّم منهما، والرزق الحسن: ما أحلّ منهما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان البصري، قال: قال ابن عباس، في قوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: فأما الرزق الحسن: فما أحلّ من ثمرتهما، وأما السكر: فما حرّم من ثمرتهما.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا الحمَّاني، قال: ثنا شريك، عن الأسود، عن عمرو بن سفيان البصريّ، عن ابن عباس (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: السَّكَر: حرامه، والرزق الحسن: حلاله.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا العباس بن أبي طالب، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأسود، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس قال: السَّكَر: ما حرّم من ثمرتهما، والرزق الحسن: ما حلّ من ثمرتهما.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: الرزق الحسن: الحلال، والسَّكَر: الحرام.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: ما حرم من ثمرتهما، وما أحلّ من ثمرتهما.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: السَّكَر خمر، والرزق الحسن الحلال.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مسعر وسفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: الرزق الحسن: الحلال، والسَّكَر: الحرام.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، بنحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في هذه الآية (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: السَّكَر: الحرام، والرزق الحسن: الحلال.(17/242)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: نزل هذا وهم يشربون الخمر، فكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبة، عن المُغيرة، عن إبراهيم والشعبيّ وأبي رزين، قالوا: هي منسوخة في هذه الآية (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا)
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا أبو قطن، عن سعيد، عن المغيرة، عن إبراهيم والشعبي، وأبي رزين بمثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، في قوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: هي منسوخة نسخها تحريم الخمر.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن منصور وعوف، عن الحسن، قال السكر: ما حرم الله منه، والرزق: ما أحلّ الله منه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن الحسن، قال: الرزق الحسن: الحلال، والسَّكَر: الحرام.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك، قال: الرزق الحسن: الحلال، والسَّكَر: الحرام.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب، عن ليث، عن مجاهد قال: السَّكر: الخمر، والرزق الحسن، الرُّطب والأعناب.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا) قال: هي الخمر قبل أن تحرّم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني(17/243)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا) قال: الخمر قبل تحريمها، (وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: طعاما.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) أما السَّكَر: فخمور هذه الأعاجم، وأما الرزق الحسن: فما تنتبذون، وما تُخَلِّلون، وما تأكلون، ونزلت هذه الآية ولم تحرّم الخمر يومئذ، وإنما جاء تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: قرأت على ابن أبي عُذرة، قال: هكذا سمعت قتادة (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) ثم ذكر نحو حديث بشر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (سَكَرًا) قال: هي خمور الأعاجم، ونُسِخت في سورة المائدة، والرزق الحسن قال: ما تنتبذون وتُخَلِّلون وتأكلون.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) وذلك أن الناس كانوا يسمُّون الخمر سكرا، وكانوا يشربونها، قال ابن عباس (1) مرّ رجال بوادي السكران الذي كانت قريش تجتمع فيه، إذا تَلَقَّوا مسافريهم إذا جاءوا من الشام، وانطلقوا معهم يشيعونهم حتى يبلغوا وادي السكران ثم يرجعوا منه، ثم سماها الله بعد ذلك الخمر حين حرمت، وقد كان ابن عباس يزعم أنها الخمر، وكان يزعم أن الحبشة يسمون الخلّ السَّكَر. قوله (وَرِزْقًا حَسَنًا) يعني بذلك: الحلال التمر والزبيب، وما كان حلالا لا يسكر.
وقال آخرون: السَّكَر بمنزلة الخمر في التحريم، وليس بخمر، وقالوا:
__________
(1) قوله: قال ابن عباس إلى يرجعوا منه. كذا في النسخ. وهو كالمقحم وسط الكلام، وقد أسقطه السيوطي من الدر المنثور حين روى هذا الحديث.(17/244)
هو نقيع التمر والزبيب إذا اشتدّ وصار يُسْكِر شاربه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، في قوله (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال ابن عباس: كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر والسكر حرام مثل الخمر؛ وأما الحلال منه، فالزبيب والتمر والخل ونحوه.
حدثني المثنى، وعلي بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا) فحرّم الله بعد ذلك، يعني بعد ما أنزل في سورة البقرة من ذكر الخمر، والميسر والأنصاب والأزلام، السَّكَر مع تحريم الخمر لأنه منه، قال (وَرِزْقًا حَسَنًا) فهو الحلال من الخلّ والنبيذ، وأشباه ذلك، فأقرّه الله وجعله حلالا للمسلمين.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن موسى، قال: سألت مرّة عن السَّكَر، فقال: قال عبد الله: هو خمر.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي فروة، عن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: السَّكَر: خمر.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم، قال: السَّكَر: خمر.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا حسن بن صالح، عن مغيرة، عن إبراهيم وأبي رزين، قالا السَّكَر: خمر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا) يعني: ما أسكر من العنب والتمر (وَرِزْقًا حَسَنًا) يعني: ثمرتها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: الحلال ما كان على وجه الحلال حتى غيروها فجعلوا منها سَكَرا.
وقال آخرون: السَّكَر: هو كلّ ما كان حلالا شربه، كالنبيذ الحلال والخلّ والرطَب. والرزق الحسن: التمر والزبيب.(17/245)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني داود الواسطيّ، قال: ثنا أبو أسامة، قال أبو رَوْق: ثني قال: قلت للشعبيّ: أرأيت قوله تعالى (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا) أهو هذا السكر الذي تصنعه النَّبَط؟ قال: لا هذا خمر، إنما السَّكَر الذي قال الله تعالى ذكره: النبيذ والخلّ والرزق الحسن: التمر والزبيب.
حدثني يحيى بن داود، قال: ثنا أبو أسامة، قال: وذكر مجالد، عن عامر، نحوه.
حدثني أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: ما كانوا يتخذون من النخل النَّبيذ، والرزق الحسن: ما كانوا يصنعون من الزبيب والتمر.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مندل، عن أبي رَوْق، عن الشعبيّ، قال: قلت له: ما تتخذون منه سَكَرا؟ قال: كانوا يصنعون من النبيذ والخلّ قلت: والرزق الحسن؟ قال: كانوا يصنعون من التمر والزبيب.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة وأحمد بن بشير، عن مجالد، عن الشعبيّ، قال: السَّكَر: النبيذ والرزق الحسن: التمر الذي كان يؤكل، وعلى هذا التأويل، الآية غير منسوخة، بل حكمها ثابت.
وهذا التأويل عندي هو أولى الأقوال بتأويل هذه الآية، وذلك أن السَّكَر في كلام العرب على أحد أوجه أربعة: أحدها: ما أسكر من الشراب. والثاني: ما طُعِم من الطعام، كما قال الشاعر:
جَعَلْتُ عَيْبَ الأكْرَمِينَ سَكَرَا (1)
أي طعما. والثالث: السُّكُون، من قول الشاعر:
جَعَلْتُ عَيْنَ الحَرُورِ تَسْكُرُ (2)
__________
(1) تقدم الكلام على هذا الشاهد في صفحة 13 من هذا الجزء. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 363) عند قوله تعالى: "تتخذون منه سكرا": أي طعما، وهذا له سكر: أي طعم. وقال جندل "جعلت عيب الأكرمين من سكرا". قال: وله موضع آخر، مجازه سكنا. وروايته البيت في اللسان: جَعَلْتَ أعْرَاضَ الكَرامِ سَكَرَا
أي جعلت ذمهم طعما لك.
(2) تقدم الكلام على هذا الشاهد في صفحة؟ من هذا الجزء واستشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: = 363) بعد الشاهد السابق، وعطفه عليه بقوله: وقال: جاء الشتاء واجتأل القنبر ... وجعلت عين الحرور تسكر
أي يكسن حرها ويخبو. ويقال: ليلة ساكرة: أي ساكنة. وقال: تريد الليالي في طولها ... وليست بطلق ولا ساكرة
ويروي: تزيد ليالي في طولها. أهـ. وفي (اللسان: سكر) : تزاد.(17/246)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
وقد بيَّنا ذلك فيما مضى. والرابع: المصدر من قولهم: سَكَر فلان يَسْكَر سُكْرا وسَكْرا وسَكَرا، فإذا كان ذلك كذلك، وكان ما يُسْكِر من الشراب حراما بما قد دللنا عليه في كتابنا المسمى: "لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام" وكان غير جائز لنا أن نقول: هو منسوخ، إذ كان المنسوخ هو ما نفى حكمه الناسخ، وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السَّكَر الذي هو غير الخمر، وغير ما يسكر من الشراب، حرام، إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب، ومن نزل بلسانه القرآن هو كلّ ما طعم، ولم يكن مع ذلك، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول، ولا أجمعت عليه الأمة، فوجب القول بما قلنا من أن معنى السَّكَر في هذا الموضع: هو كلّ ما حلّ شربه، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب، وخرج من أن يكون معناه السَّكَر نفسه، إذ كان السَّكَر ليس مما يتخذ من النَّخْل والكَرْم، ومن أن يكون بمعنى السكون.
وقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يقول: فيما إن وصفنا لكم من نعمنا التي آتيناكم أيها الناس من الأنعام والنخل والكرم، لدلالة واضحة وآية بينة لقوم يعقلون عن الله حججه، ويفهمون عنه مواعظه، فيتعظون بها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) }
يقول تعالى ذكره: وألهم ربك يا محمد النحل إيحاء إليها (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ(17/247)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) يعني: مما يبنون من السقوف، فرفعوها بالبناء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا مروان، عن إسحاق التميمي، وهو ابن أبي الصباح، عن رجل، عن مجاهد (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قال: ألهمها إلهاما.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: بلغني، في قوله (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قال: قذف في أنفسها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو سفيان، عن معمر، عن أصحابه، قوله (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قال: قذف في أنفسها أن اتخذي من الجبال بيوتًا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ... الآية، قال: أمرها أن تأكل من الثمرات، وأمرها أن تتبع سبل ربها ذللا.
وقد بيَّنا معنى الإيحاء واختلاف المختلفين فيه فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وكذلك معنى قوله (يَعْرِشُونَ)
وكان ابن زيد يقول في معنى يعرشون، ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (يَعْرِشُونَ) قال: الكَرْم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) }
يقول تعالى ذكره: ثم كلي أيتها النحل من الثمرات، (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) يقول: فاسلكي طرق ربك (ذُلُلا) يقول: مُذَلَّلة لك، والذُّلُل: جمع ذَلُول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال:(17/248)
ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا) قال: لا يتوعَّر عليها مكان سلكته.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا) قال: طُرُقا ذُلُلا قال: لا يتوعَّر عليها مكان سلكته. وعلى هذا التأويل الذي تأوّله مجاهد، الذلل من نعت السبل.
والتأويل على قوله (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا) الذُّلُل لكِ: لا يتوعر عليكِ سبيل سلكتيه، ثم أسقطت الألف واللام فنصب على الحال.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا) : أي مطيعة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (ذُلُلا) قال: مطيعة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا) قال: الذلول: الذي يُقاد ويُذهب به حيث أراد صاحبه، قال: فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ويذهبون، وهي تتبعهم. وقرأ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ) ... الآية، فعلى هذا القول، الذّلُل من نعت النحل، وكلا القولين غير بعيد من الصواب في الصحة وجهان مخرجان، غير أنا اخترنا أن يكون نعتا للسُّبل لأنها إليها أقرب.
وقوله (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ) يقول تعالى ذكره: يخرج من بطون النحل شراب، وهو العسل، مختلف ألوانه، لأن فيها أبيض وأحمر وأسحر، وغير ذلك من الألوان.
قال أبو جعفر: أسحر: ألوان مختلفة مثل أبيض يضرب إلى الحمرة.
وقوله (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله (فِيهِ) ، فقال بعضهم: عادت على القرآن، وهو المراد بها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا نصر بن عبد الرحمن، قال: ثنا المحاربيّ،(17/249)
عن ليث، عن مجاهد (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) قال: في القرآن شفاء.
وقال آخرون: بل أريد بها العسل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) ففيه شفاء كما قال الله تعالى من الأدواء، وقد كان ينهى عن تفريق النحل، وعن قتلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر أن أخاه اشتكى بطنه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلا ثم جاءه فقال: ما زاده إلا شدة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلا فَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ، فسقاه، فكأنما نُشِط من عِقال".
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: شفاءان: العسل شفاء من كلّ داء، والقرآن شفاء لما في الصدور.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) العسل.
وهذا القول، أعني قول قتادة، أولى بتأويل الآية، لأن قوله) فِيهِ) في سياق الخبر عن العسل فأن تكون الهاء من ذكر العسل، إذ كانت في سياق الخبر عنه أولى من غيره.
وقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يقول تعالى ذكره: إن في إخراج الله من بطون هذه النحل: الشراب المختلف، الذي هو شفاء للناس، لدلالة وحجة واضحة على من سخَّر النحل وهداها لأكل الثمرات التي تأكل، واتخاذها البيوت التي تنحت من الجبال والشجر والعروش، وأخرج من بطونها ما أخرج من الشفاء للناس، أنه الواحد الذي ليس كمثله شيء، وأنه لا ينبغي(17/250)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
أن يكون له شريك ولا تصحّ الألوهة إلا له.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) }
يقول تعالى ذكره: والله خلقكم أيها الناس وأوجدكم ولم تكونوا شيئا، لا الآلهة التي تعبدون من دونه، فاعبدوا الذي خلقكم دون غيره (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) يقول: ثم يقبضكم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) يقول: ومنكم من يهرم فيصير إلى أرذل العمر، وهو أردؤه، يقال منه: رذل الرجل وفسل، يرذل رذالة ورذولة ورذلته أنا. وقيل: إنه يصير كذلك في خمس وسبعين سنة.
حدثني محمد بن إسماعيل الفزاريّ، قال: أخبرنا محمد بن سَوار، قال: ثنا أسد بن عمران، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نَباتة، عن عليّ، في قوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) قال: خمسٌ وسبعون سنة.
وقوله (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا) يقول: إنما نردّه إلى أرذل العمر ليعود جاهلا كما كان في حال طفولته وصباه، بعد علم شيئا: يقول: لئلا يعلم شيئا بعد علم كان يعلمه في شبابه، فذهب ذلك بالكبر ونسى، فلا يعلم منه شيئا، وانسلخ من عقله، فصار من بعد عقل كان له لا يعقل شيئا (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) يقول: إن الله لا ينسى، ولا يتغير علمه، عليم بكلّ ما كان ويكون، قدير على ما شاء لا يجهل شيئا، ولا يُعجزه شيء أراده.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) }
يقول تعالى ذكره: والله أيها الناس فضّل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا، فما الذين فضَّلهم الله على غيرهم بما رزقهم (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) يقول: بمشركي مماليكِهم فيما رزقهم من الأموال(17/251)
والأزواج. (فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) يقول: حتى يستووا هم في ذلك وعبيدهم، يقول تعالى ذكره: فهم لا يرضَون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني، وهذا مَثَل ضربه الله تعالى ذكره للمشركين بالله. وقيل: إنما عنى بذلك الذين قالوا: إن المسيح ابن الله من النصارى. وقوله (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) يقول تعالى ذكره: أفبنعمة الله التي أنعمها على هؤلاء المشركين من الرزق الذي رزقهم في الدنيا يجحدون بإشراكهم غير الله من خلقه في، سلطانه ومُلكه؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) يقول: لم يكونوا يشركون عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ فذلك قوله (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: هذه الآية في شأن عيسى ابن مريم، يعني بذلك نفسه، إنما عيسى عبد، فيقول الله: والله ما تشركون عبيدكم في الذي لكم فتكونوا أنتم وهم سواء، فكيف ترضَون لي بما لا ترضون لأنفسكم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) قال: مثل آلهة الباطل مع الله تعالى ذكره.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) وهذا مثل ضربه الله، فهل منكم من أحد شارك مملوكه في زوجته وفي فراشه فتعدلون بالله خلقه وعباده،(17/252)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
فإن لم ترض لنفسك هذا، فالله أحقّ أن ينزه منه من نفسك، ولا تعدل بالله أحدا من عباده وخلقه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) قال: هذا الذي فضل في المال والولد، لا يشرك عبده في ماله وزوجته، يقول: قد رضيت بذلك لله ولم ترض به لنفسك، فجعلت لله شريكا في ملكه وخلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) }
يقول تعالى ذكره (وَاللَّهُ) الذي (جَعَلَ لَكُمْ) أيها الناس (مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) يعني أنه خلق من آدم زوجته حوّاء، (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) .
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) : أي والله خلق آدم، ثم خلق زوجته منه ثم جعل لكم بنين وحفدة.
واختلف أهل التأويل في المعنيين بالحفدة، فقال بعضهم: هم الأختان، أختان الرجل على بناته.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا ثنا أبو معاوية، قال: ثنا أبان بن تغلب، عن المنهال بن عمرو، عن ابن حبيش، عن عبد الله (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: الأختان.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، عن عاصم، عن ورقاء سألت عبد الله: ما تقول في الحَفَدَة؟ هم حَشَم الرجل يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لا ولكنهم الأختان.(17/253)
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن؛ وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قالا جميعا: ثنا سفيان، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن زِرّ بن حُبَيْش، عن عبد الله، قال: الحَفَدَة: الأختان.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي. عن سفيان بإسناده عن عبد الله، مثله.
حدثنا ابن بشار وأحمد بن الوليد القرشي وابن وكيع وسوار بن عبد الله العنبريّ ومحمد بن خلف بن خراش والحسن بن خلف الواسطيّ، قالوا: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، قال: الحَفَدَة: الأختان.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: الحَفَدَة: الأختان.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: الحَفَدَة: الأختان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الحَفَدَة: الخَتْن.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله، قال: الأختان.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن أشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الأختان.
وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ عن ابن عباس، قوله (وَحَفَدَةً) قال: الأصهار.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن عاصم، عن زِرّ، عن ابن مسعود، قال: الحَفَدَة: الأختان.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، قال: قال لي عبد الله بن مسعود: ما الحَفَدَة يا زِرّ؟ قال: قلت: هم أحفاد الرجل من ولده وولد(17/254)
ولده. قال: لا هم الأصهار.
وقال آخرون: هم أعوان الرجل وخدمه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني سليم بن قتيبة، عن وهب بن حبيب الأسَدي، عن أبي حمزة، عن ابن عباس سئل عن قوله (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: من أعانك فقد حَفَدك، أما سمعت قوله الشاعر:
حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلَهُنَّ وأُسْلِمَتْ ... بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمال (1)
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: الحفدة: الخُدّام.
حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني سَلْم بن قتيبة، عن حازم بن إبراهيم البَجَلي، عن سماك، عن عكرمة، قال: قال: الحَفَدَة: الخُدّام.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن عكرمة، قال: هم الذين يعينون الرجل من ولده وخدمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة (وَحَفَدَةً) قال: الحَفَدَة: من خدمك مِنْ ولدك.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن سلام بن سليم، وقيس عن سِماك، عن عكرمة، قال: هم الخدم.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سلام أبو الأحوص، عن سِماك، عن عكرمة، مثله.
حدثني محمد بن خالد، قال: ثني سلمة، عن أبي هلال، عن الحسن، في قوله (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: البنين وبني البنين، مَنْ أعانك من أهل وخادم فقد حفدك.
__________
(1) استشهد بالبيت أبو عبيدة في مجاز القرآن: (1: 364) ونسبه لجميل بن عبد الله بن معمر العذري. قال عند قوله تعالى: (بنين وحفدة) : أعواناً وخداما، قال جميل: "حفد الولائد ... الخ" واحدهم حافد مخرج كامل. والجميع: كملة وقال في (اللسان: حفد) يحفد بالكسر حفدا، وحفدانا. واحتفد: خف في العمل وأسرع. وحفد يحفد حفدا: خدم. الأزهري: الحفد في الخدمة والعمل: الخفة، وأنشد (حفد الولائد ... ) البيت.(17/255)
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، قال: هم الخَدَم.
حدثني محمد بن خالد وابن وكيع، ويعقوب بن إبراهيم، قالوا: ثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الحَفَدة: الخَدَم.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، جميعا عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: ابنه وخادمه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: أنصارًا وأعوانًا وخدامًا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا زمعة، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: الحفدة: الخدم.
حدثنا ابن بشار مرّة أخرى، قال: ابنه وخادمه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) مهنة يمهنونك ويخدمونك من ولدك، كرامة أكرمكم الله بها.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السُّديّ، عن أبي مالك: الحَفَدَة، قال: الأعوان.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن عكرمة، قال: الذين يعينونه.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر، عن الحكَم بن أبان، عن عكرمة، في قوله (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: الحفدة: من خدمك من ولدك وولد ولدك.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن التيميّ، عن أبيه، عن الحسن، قال: الحَفَدَة: الخَدَم.(17/256)
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن عكرمة (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: ولده الذين يعينونه.
وقال آخرون: هم ولد الرجل وولد ولده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (وَحَفَدَةً) قال: هم الولد وولد الولد.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: الحَفَدَة: البنون.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا غُنْدَر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بنوك حين يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك، قال حميد:
حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلَهُنَّ وأُسْلِمَتْ ... بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمال (1)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال: الحَفَدَة: الخدم من ولد الرجل هم ولده، وهم يخدمونه؛ قال: وليس تكون العبيد من الأزواج، كيف يكون من زوجي عبد، إنما الحَفَدَة: ولد الرجل وخدمه.
حُدثت عن الحسين بن الفَرَج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (بَنِينَ وَحَفَدَةً) يعني: ولد الرجل يحفِدونه ويخدُمونه، وكانت العرب إنما تخدمهم أوّلادهم الذكور.
وقال آخرون: هم بنو امرأة الرجل من غيره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال:
__________
(1) سبق الاستشهاد بالبيت قريبا في صفحة 144 فراجعه ثمة.(17/257)
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) يقول: بنو امرأة الرجل ليسوا منه، ويقال: الحَفَدَة: الرجل يعمل بين يدي الرجل، يقول: فلان يحفد لنا، ويزعم رجال أن الحَفَدَة أخْتان (1) الرجل.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أخبر عباده معرفهم نعمه عليهم، فيما جعل لهم من الأزواج والبنين، فقال تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) فأعلمهم أنه جعل لهم من أزواجهم بنين وحفَدة، والحفَدة في كلام العرب: جمع حافد، كما الكذبة: جمع كاذب، والفسَقة: جمع فاسق. والحافد في كلامهم؛ هو المتخفِّف في الخدمة والعمل. والحَفْد: خفة العمل يقال: مرّ البعير يَحفِد حفَدَانا: إذا مرّ يُسرع في سيره. ومنه قولهم: "إليك نسعى ونحفِد": أي نسرع إلى العمل بطاعتك. يقال منه: حَفد له يحفد حفدا وحفودا وحفدانا ومنه قول الراعي:
كَلَّفْتُ مَجْهُولَهَا نُوقا يَمَانيَّةً ... إذا الحُدَاةُ على أكْسائها حَفَدُوا (2)
وإذ كان معنى الحفدة ما ذكرنا من أنهم المسرعون في خدمة الرجل، المتخففون فيها، وكان الله تعالى ذكره أخبرنا أن مما أنعم به علينا أن جعل لنا حفدة تحفد لنا، وكان أولادنا وأزواجنا الذين يصلحون للخدمة منا ومن غيرنا وأختاننا الذين هم أزواج بناتنا من أزواجنا وخدمنا من مماليكنا إذا كانوا يحفدوننا، فيستحقون اسم حفدة، ولم يكن الله تعالى دلّ بظاهر تنزيله، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولا بحجة عقل، على أنه عنى بذلك نوعا من
__________
(1) الأختان: جمع ختن، بسكون التاء، وهو زوج بنت الرجل.
(2) الأكساء: واحدها كسى، بوزن قفل، وهو مؤخر العجز، أو مؤخر كل شيء، والجمع أكساء (اللسان: كسا) . وقال في (كسأ) : كسء كل شيء وكسوءه: مؤخره. وكسء الشهر وكسوءه: آخره، قدر عشر بقين منه ... وأنشد أبو عبيدة: كلفت مجهولها................ ... إذا الحداد.......... حفدوا
ولعل الحداد في رواية الأزهري محرفة عن الحداة.(17/258)
الحفدة، دون نوع منهم، وكان قد أنعم بكلّ ذلك علينا، لم يكن لنا أن نوجه ذلك إلى خاص من الحفدة دون عام، إلا ما اجتمعت الأمة عليه أنه غير داخل فيهم. وإذا كان ذلك كذلك فلكلّ الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا وجه في الصحة، ومَخْرج في التأويل. وإن كان أولى بالصواب من القول ما اخترنا، لما بيَّنا من الدليل.
وقوله (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) يقول: ورزقكم من حلال المعاش والأرزاق والأقوات، (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) يقول تعالى ذكره: يحرّم عليهم أولياء الشيطان من البحائر والسوائب والوصائل، فيصدّق هؤلاء المشركون بالله (وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) يقول: وبما أحلّ الله لهم من ذلك، وأنعم عليهم بإحلاله، يكفرون، يقول: ينكرون تحليله، ويجحدون أن يكون الله أحله.(17/259)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) }
يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه أوثانًا لا تملك لهم رزقا من السموات، لأنها لا تقدر على إنزال قطر منها لإحياء موتان الأرضين، والأرض: يقول: ولا تملك لهم أيضًا رزقًا من الأرض لأنها لا تقدر على إخراج شيء من نباتها وثمارها لهم، ولا شيئًا مما عدّد تعالى في هذه الآية أنه أنعم بها عليهم (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) يقول: ولا تملك أوثانهم شيئًا من السموات والأرض، بل هي وجميع ما في السموات والأرض لله ملك، ولا يستطيعون يقول: ولا تقدر على شيء.
وقوله (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ) يقول: فلا تمثلوا لِلهِ الأمثال، ولا تشبِّهوا له الأشباه، فإنه لا مِثْل له ولا شِبْه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.(17/259)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الأمثال الأشباه.
وحدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ) يعني اتخاذهم الأصنام، يقول: لا تجعلوا معي إلهًا غيري، فإنه لا إله غيري.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ) قال: هذه الأوثان التي تُعْبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها رزقا ولا ضرّا ولا نفعا، ولا حياة ولا نشورا. وقوله (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ) فإنه أحَد صَمَد لم يَلِد ولم يُولَد ولم يكن له كُفُوًا أحد (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يقول: والله أيها الناس يعلم خطأ ما تمثلون وتضربون من الأمثال وصوابه، وغير ذلك من سائر الأشياء، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه.
واختلف أهل العربية في الناصب قوله (شَيْئًا) فقال بعض البصريين: هو منصوب على البدل من الرزق، وهو في معنى: لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا. وقال بعض الكوفيين: نصب (شَيْئًا) بوقوع الرزق عليه، كما قال تعالى ذكره (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) أي تكفت الأحياء والأموات، ومثله قوله تعالى ذكره (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) قال: ولو كان الرزق مع الشيء لجاز خفضه، لا يملك لكم رزق شيء من السموات، ومثله (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)
القول في تأويل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) }
يقول تعالى ذكره: وشَبَّه لكم شَبها أيها الناس للكافر من عبيده، والمؤمن به منهم. فأما مثَل الكافر: فإنه لا يعمل بطاعة الله، ولا يأتي خيرا، ولا(17/260)
ينفق في شيء من سبيل الله ماله لغلبة خذلان الله عليه، كالعبد المملوك، الذي لا يقدر على شيء فينفقه. وأما المؤمن بالله فإنه يعمل بطاعة الله، وينفق في سبيله ماله كالحر الذي آتاه الله مالا فهو ينفق منه سرّا وجهرا، يقول: بعلم من الناس وغير علم (هَلْ يَسْتَوُونَ) يقول هل يستوي العبد الذي لا يملك شيئا ولا يقدر عليه، وهذا الحرّ الذي قد رزقه الله رزقًا حسنًا فهو ينفق كما وَصَف، فكذلك لا يستوي الكافر العامل بمعاصي الله المخالف أمره، والمؤمن العامل بطاعته.
وبنحو ما قلنا في ذلك كان بعض أهل العلم يقول.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) هذا مثل ضربه الله للكافر، رزقه مالا فلم يقدم فيه خيرا ولم يعمل فيه بطاعة الله، قال الله تعالى ذكره (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا) فهذا المؤمن أعطاه الله مالا فعمل فيه بطاعة الله وأخذ بالشكر ومعرفة حق الله، فأثابه الله على ما رزقه الرزق المقيم الدائم لأهله في الجنة، قال الله تعالى ذكره (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا) والله ما يستويان (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) قال: هو الكافر لا يعمل بطاعة الله ولا ينفق خيرا (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا) قال: المؤمن يطيع الله في نفسه وماله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) يعني: الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا) يعني المؤمن، وهذا المثل في النفقة.
وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يقول: الحمد الكامل لله خالصًا دون ما تَدْعُون أيها القوم من دونه من الأوثان فإياه فاحمدوا دونها.
وقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يقول: ما الأمر كما تفعلون، ولا القول كما تقولون، ما للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتُحْمد عليه، إنما الحمد لله، ولكن أكثر هؤلاء(17/261)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
الكفرة الذين يعبدونها لا يعلمون أن ذلك كذلك، فهم بجهلهم بما يأتون ويَذَرون يجعلونها لله شركاء في العبادة والحمد.
وكان مجاهد يقول: ضرب الله هذا المثل، والمثل الآخر بعده لنفسه، والآلهة التي تعبد من دونه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) }
وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والآلهة التي تُعبد من دونه، فقال تعالى ذكره (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئا، ولا ينطق، لأنه إما خشب منحوت، وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه، ولا دفع ضرّ عنه وهو كَلٌّ على مولاه، يقول: وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته، فكذلك الصنم كَلّ على من يعبده، يحتاج أن يحمله، ويضعه ويخدمه، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء، فهو كَلّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم (أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) يقول: حيثما يوجهه لا يأت بخير، لأنه لا يفهم ما يُقال له، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد، فهو لا يفهم، ولا يُفْهَم عنه، فكذلك الصنم،لا يعقل ما يقال له، فيأتمر لأمر من أمره، ولا ينطق فيأمر وينهي، يقول الله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكلّ على مولاه الذي لا يأتي بخير حيث توجه ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: وهو مع أمره بالعدل، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل، وأمره به مستقيم، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه.(17/262)
وقد اختلف أهل التأويل في المضروب له هذا المثل، فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) قال: هو الوثن (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) قال: الله يأمر بالعدل (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وكذلك كان مجاهد يقول إلا أنه كان يقول: المثل الأوّل أيضا ضربه الله لنفسه وللوثَن.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره (عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا) و (رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ) (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) قال: كلّ هذا مثل إله الحقّ، وما يُدعى من دونه من الباطل.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ) قال: إنما هذا مثل ضربه الله.
وقال آخرون: بل كلا المثلين للمؤمن والكافر. وذلك قول يُروَى عن ابن عباس، وقد ذكرنا الرواية عنه في المثل الأوّل في موضعه.
وأما في المثل الآخر:
فحدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ) ... إلى آخر الآية، يعني بالأبكم: الذي هو كَلٌّ على مولاه الكافر، وبقوله (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) المؤمن، وهذا المثل في الأعمال.
حدثنا الحسن بن الصباح البزار، قال: ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، قال: ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إبراهيم، عن عكرمة، عن يَعْلى بن أمية، عن ابن عباس، في قوله (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا)(17/263)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
قال: نزلت في رجل من قريش وعبده. وفي قوله (مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) ... إلى قوله (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال: هو عثمان بن عفان. قال: والأبكم الذي أينما يُوَجَّهُ لا يأت بخير، ذاك مولى عثمان بن عفَّان، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في المثل الأوّل لأنه تعالى ذكره مثَّل مثَل الكافر بالعبد الذي وصف صفته، ومثَّل مثل المؤمن بالذي رزقه رزقًاحسنًا، فهو ينفق مما رزقه سرّا وجهرا، فلم يجز أن يكون ذلك لله مثلا إذ كان الله إنما مثل الكافر الذي لا يقدر على شيء بأنه لم يرزقه رزقا ينفق منه سرّا؛ ومثَّل المؤمن الذي وفَّقه الله لطاعته فهداه لرشده، فهو يعمل بما يرضاه الله، كالحرّ الذي بسط له في الرزق فهو ينفق منه سرًّا وجهرًا، والله تعالى ذكره هو الرازق غير المرزوق، فغير جائز أن يمثل إفضاله وجوده بإنفاق المرزوق الرزق الحسن، وأما المثل الثاني، فإنه تمثيل منه تعالى ذكره مَنْ مثله الأبكم الذي لا يقدر على شيء والكفار لا شكّ أن منهم من له الأموال الكثيرة، ومن يضرّ أحيانا الضرّ العظيم بفساده، فغير كائن ما لا يقدر على شيء، كما قال تعالى ذكره مثلا لمن يقدر على أشياء كثيرة. فإذا كان ذلك كذلك كان أولى المعاني به تمثيل ما لا يقدر على شيء كما قال تعالى ذكره بمثله ما لا يقدر على شيء، وذلك الوثن الذي لا يقدر على شيء، بالأبكم الكَلّ على مولاه الذي لا يقدر على شيء كما قال ووصف.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) }
يقول تعالى ذكره: ولله أيها الناس مِلك ما غاب عن أبصاركم في السموات والأرض دون آلهتكم التي تدعون من دونه، ودون كلّ ما سواه، لا يملك ذلك أحد سواه. (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) يقول: وما أمر قيام القيامة والساعة التي تنشر فيها الخلق للوقوف في موقف القيامة، إلا كنظرة من البصر،(17/264)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
لأن ذلك إنما هو أن يقال له كن فيكون.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) والساعة: كلمح البصر، أو أقرب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر، عن قتادة (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) قال: هو أن يقول: كن، فهو كلمح البصر فأمر الساعة كلمح البصر أو أقرب، يعني يقول: أو هو أقرب من لمح البصر.
وقوله (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: إن الله على إقامة الساعة في أقرب من لمح البصر قادر، وعلى ما يشاء من الأشياء كلها، لا يمتنع عليه شيء أراده.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) }
يقول تعالى ذكره: والله تعالى أعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من بعد ما أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعقلون شيئا ولا تعلمون، فرزقكم عقولا تفقهون بها، وتميزون بها الخير من الشرّ وبصَّركم بها ما لم تكونوا تبصرون، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات، فيفقه بعضكم عن بعض ما تتحاورون به بينكم والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص فتتعارفون بها وتميزون بها بعضا من بعض. (وَالأفْئِدَةَ) يقول: والقلوب التي تعرفون بها الأشياء فتحفظونها وتفكرون فتفقهون بها. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يقول: فعلنا ذلك بكم، فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم من ذلك، دون الآلهة والأنداد، فجعلتم له شركاء في الشكر، ولم يكن له فيما أنعم به عليكم من نعمه شريك.
وقوله (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) كلام متناه، ثم ابتدئ الخبر، فقيل: وجعل الله لكم السمع والأبصار والأفئدة. وإنما قلنا ذلك كذلك، لأن الله تعالى ذكره جعل العبادة والسمع والأبصار(17/265)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
والأفئدة قبل أن يخرجهم من بطون أمهاتهم، وإنما أعطاهم العلم والعقل بعد ما أخرجهم من بطون أمهاتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين: ألم تَرَوا أيُّها المشركون بالله إلى الطير مسخرات في جوّ السماء، يعني: في هواء السماء بينها وبين الأرض، كما قال إبراهيم بن عمران الأنصاريّ:
وَيْلُ امِّها مِنْ هَوَاءِ الجَوّ طَالِبَةً ... وَلا كَهذا الَّذِي في الأرْضِ مَطْلُوبُ (1)
يعني: في هواء السماء. (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ) يقول: ما طيرانها في الجوّ إلا بالله، وبتسخيره إياها بذلك، ولو سلبها ما أعطاها من الطيران لم تقدر على النهوض ارتفاعا. وقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يقول: إن في تسخير الله الطير، وتمكينه لها الطيران في جوّ السماء، لعلامات ودلالات على أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه لاحظ للأصنام والأوثان في الألوهة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يعني: لقوم يقرّون بوجدان ما تعاينه أبصارهم، وتحسه
__________
(1) البيت نسبه المؤلف إلى إبراهيم بن عمران الأنصاري. ونسبه البغدادي في الخزانة (2: 112) لامرئ القيس بن حجر الكندي. وعزى في الكتاب لسيبويه مرة إلى امرئ القيس (1: 353) ومرة (2: 272) إلى النعمان بن بشير الأنصاري. وذكر البغدادي المقطوعة التي منها البيت، وهي عشرة أبيات، ونسبها لامرئ القيس، ومطلعها: الخير ما طلعت شمس وما غربت ... مطلب بنواحي الخيل معصوب
وبيت الشاهد هو الثامن في المقطوعة، وأوله: "لا كالتي في هواء" ... الخ. وقال ابن رشيق في العمدة: هذا البيت عند دعبل، أشعر بيت قالته العرب، وبه قدمه على الشعراء. وقوله: ويلمها: هذا في صورة الدعاء على الشيء والمراد به التعجب. والضمير المؤنث يراد به العقاب. والجو: ما بين السماء والأرض، وأراد بالمطلوب الذئب، لأنه وصف عقابا تبعت ذئبا لتصيده، فتعجب منها في شدة طلبها، وتعجب من الذئب أيضاً في سرعته وشدة هربه منها.
واستشهد المؤلف بالبيت عند تفسير قوله تعالى: (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء) أي في هواء السماء، بينها وبين الأرض كما استشهد أبو عبيدة من قبله في مجاز القرآن (1: 365) على أن جو السماء: أي الهواء.(17/266)
حواسهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ) : أي في كبد السماء.(17/267)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) }
يقول تعالى ذكره (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ) أيها الناس، (مِنْ بُيُوتِكُمْ) التي هي من الحجر والمدر، (سَكَنًا) تسكنون أيام مقامكم في دوركم وبلادكم (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا) وهي البيوت من الأنطاع والفساطيط من الشعر والصوف والوبر. (تَسْتَخِفُّونَهَا) يقول: تستخفون حملها ونقلها، (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) من بلادكم وأمصاركم لأسفاركم، (وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) في بلادكم وأمصاركم. (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا) .
وبنحو الذي قلنا في معنى السكن قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى (مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) قال: تسكنون فيه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وأما الأشعار فجمع شَعْر تثقل عينه وتخفف، وواحد الشَّعْر شَعْرة. وأما الأثاث فإنه متاع البيت لم يسمع له بواحد، وهو في أنه لا واحد له مثل المتاع. وقد حكي عن بعض النحويين أنه كان يقول: واحد الأثاث أثاثة(17/267)
ولم أر أهل العلم بكلام العرب يعرفون ذلك.
ومن الدليل على أن الأثاث هو المتاع، قول الشاعر:
أهاجَتْكَ الظَّعائِنُ يَوْمَ بانُوا ... بِذِي الرّئْيِ الجَمِيلِ مِنَ الأثاث (1)
ويروى: بذي الزيّ، وأنا أرى أصل الأثاث اجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر كالشعر الأثيث وهو الكثير الملتف، يقال منه، أثّ شعر فلان يئِثّ أثًّا: إذا كثر والتفّ واجتمع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أثاثا) يعني بالأثاث: المال.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى (أثاثا) قال: متاعا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أثاثا) قال: هو المال.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن حرب الرازي، قال: أخبرنا سلمة،
__________
(1) البيت لمحمد بن نمير الثقفي، وكان يشبب بزينب أخت الحجاج بن يوسف الثقفي فتوعده، فهرب منه (خبره في الكامل للمبرد 289) والبيت من كلمة له (الكامل 376) ، وفي (اللسان: رأي) قال. قال: الفراء الرئي: المنظر وأهل المدينة يقرءون الآية (وريا) بغير همز. قال: وهو وجه جيد من رأيت، لأنه من آيات لسن مهموزات الأواخر. وقال الجوهري: من همزه جعله من المنظر من رأيت، وهو: ما رأته العين من حال حسنة، وكسوة ظاهرة. وأنشد أبو عبيد لمحمد بن نمير الثقفي: أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الرئى الجميل من الأثاث
ومن لم يهمزه: إما أن يكون على تخفيف الهمزة، أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم، أي امتلأت وحسنت. وأثاثا: أي متاعا. قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 365) .(17/268)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
عن محمد بن إسحاق، عن حميد بن عبد الرحمن، في قوله (أثاثا) قال: الثياب.
وقوله (وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) فإنه يعني: أنه جعل ذلك لهم بلاغا، يتبلَّغون ويكتفون به إلى حين آجالهم للموت. كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) فإنه يعني: زينة، يقول: ينتفعون به إلى حين.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) قال: إلى الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة (وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) إلى أجل وبلغة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) }
يقول تعالى ذكره: ومن نعمة الله عليكم أيها الناس أن جعل لكم مما خلق من الأشجار وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة الحرّ، وهي جمع ظلّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، عن قتادة، في قوله (مِمَّا خَلَقَ ظِلالا) قال: الشجر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا) إي والله، من الشجر ومن غيرها.
وقوله (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا) يقول: وجعل لكم من الجبال مواضع تسكنون فيها، وهي جمع كنّ.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ((17/269)
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا) يقول: غيرانا من الجبال يسكن فيها.
(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) يعني ثياب القطن والكتان والصوف وقمصها. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) من القطن والكتان والصوف.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) قال: القطن والكتان.
وقوله (وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) يقول: ودروعا تقيكم بأسكم، والبأس: هو الحرب، والمعنى: تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) من هذا الحديد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة (وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) قال: هي سرابيل من حديد.
وقوله (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) يقول تعالى ذكره: كما أعطاكم ربكم هذه الأشياء التي وصفها في هذه الآيات نعمة منه بذلك عليكم، فكذا يُتِمّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون. يقول: لتخضعوا لله بالطاعة، وتذِلّ منكم بتوحيده النفوس، وتخلصوا له العبادة. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ (لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ) بفتح التاء.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنا ابن المبارك، عن حنظلة، عن شهر بن حَوْشب، قال: كان ابن عباس يقول: (لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ) قال: يعني من الجراح.
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا عباد بن العوّام، عن حنظلة السَّدوسيّ، عن شهر بن حَوْشب، عن ابن عباس، أنه قرأها: (لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ) من الجراحات، قال أحمد بن يوسف: قال أبو عبيد: يعني بفتح التاء واللام.
فتأويل الكلام على قراءة ابن عباس هذه: كذلك يتمّ نعمته عليكم بما جعل لكم من السرابيل التي تقيكم بأسكم، لتسلموا من السلاح في حروبكم،(17/270)
والقراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها بضم التاء من قوله (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) وكسر اللام من أسلمت تُسْلِم يا هذا، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليها.
فإن قال لنا قائل: وكيف جعل لكم سرابيل تقيكم الحر، فخص بالذكر الحر دون البرد، وهي تقي الحر والبرد، أم كيف قيل (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا) وترك ذكر ما جعل لهم من السهل؟ قيل له: قد اختُلِف في السبب الذي من أجله جاء التنزيل كذلك، وسنذكر ما قيل في ذلك ثم ندلّ على أولى الأقوال في ذلك بالصواب.
فرُوِي عن عطاء الخراساني في ذلك ما حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا محمد بن كثير، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، قال: إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم، ألا ترى إلى قول الله تعالى ذكره: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا) وما جعل لهم من السهول أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب جبال، ألا ترى إلى قوله (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) ؟ وما جعل لهم من غير ذلك أعظم منه وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب وَبَر وَشَعر ألا ترى إلى قوله (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) يعجِّبهم من ذلك؟ وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا لا يعرفون به، ألا ترى إلى قوله (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وما تقي من البرد، أكثر وأعظم؟ ولكنهم كانوا أصحاب حرّ، فالسبب الذي من أجله خصّ الله تعالى ذِكرُه السرابيل بأنها تقي الحرّ دون البرد على هذا القول، هو أن المخاطبين بذلك كانوا أصحاب حرّ، فذكر الله تعالى ذكره نعمته عليهم بما يقيهم مكروه ما به عرفوا مكروهه دون ما لم يعرفوا مبلغ مكروهه، وكذلك ذلك في سائر الأحرف الأخَر.
وقال آخرون: ذكر ذلك خاصة اكتفاء بذكر أحدهما من ذكر الآخر، إذ كان معلومًا عند المخاطبين به معناه، وأن السرابيل التي تقي الحرّ تقي أيضًا البرد وقالوا: ذلك موجود في كلام العرب مستعمل، واستشهدوا لقولهم بقول الشاعر:
وَما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ وَجْهًا ... أُرِيدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِينِي (1)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص 176) قال: وقوله (سرابيل تقيكم الحر) ولم = يقل "والبرد" فترك، لأن معناه معلوم، والله أعلم، كقول الشاعر: "وما أدري ... الخ البيت". يريد أن الخير والشر يليني، لأنه إذا أراد الخير، فهو يتقي الشر أهـ. وقد أفصح الشاعر في البيت الذي بعده عن مراده، وهو موافق لما قالوا: أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أنا أبْتَغِيهِ ... أمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِيني?
والبيتان: لسحيم بن وثيل الرياحي، من قصيدة مطلعها: أفاطِمَ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتَّعِيني ... ومَنْعُكِ ما سألْتِ كأنْ تَبِيني(17/271)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
فقال: أيهما يليني: يريد الخير أو الشرّ، وإنما ذكر الخير لأنه إذا أراد الخير فهو يتقي الشرّ.
وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: إن القوم خوطبوا على قدر معرفتهم، وإن كان في ذكر بعض ذلك دلالة على ما ترك ذكره لمن عرف المذكور والمتروك وذلك أن الله تعالى ذكره إنما عدّد نعمه التي أنعمها على الذين قُصدوا بالذكر في هذه السورة دون غيرهم، فذكر أياديه عندهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن أدبر هؤلاء المشركون يا محمد عما أرسلتك به إليهم من الحقّ، فلم يستجيبوا لك وأعرضوا عنه، فما عليك من لوم ولا عذل لأنك قد أديت ما عليك في ذلك، إنه ليس عليك إلا بلاغهم ما أرسلت به. ويعني بقوله (الْمُبِينُ) الذي يبين لمن سمعه حتى يفهمه.
وأما قوله (يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنى بالنعمة التي أخبر الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين أنهم ينكرونها مع معرفتهم بها، فقال بعضهم: هو النبيّ صلى الله عليه وسلم عرفوا نبوته ثم جحدوها وكذبوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السديّ (يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) قال: محمد صلى الله(17/272)
عليه وسلم.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن السديّ، مثله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم بذلك عليهم، ولكنهم يُنْكرون ذلك، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنا المثنى، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، تعرف هذا كفار قريش، ثم تنكره بأن تقول: هذا كان لآبائنا، فروّحونا (1) إياه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: فورّثونا إياها. وزاد في الحديث عن ابن جريج، قال ابن جريج: قال عبد الله بن كثير: يعلمون أن الله خلقهم وأعطاهم ما أعطاهم، فهو معرفتهم نعمته ثم إنكارهم إياها كفرهم بعد.
وقال آخرون في ذلك، ما حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا معاوية، عن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن ليث، عن عون بن عبد الله بن عتبة (يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) قال: إنكارهم إياها، أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا.
وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم: من رزقكم؟ أقرّوا بأن الله هو الذي رزقهم، ثم يُنْكرون ذلك بقولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: عني بالنعمة التي ذكرها الله في قوله (يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ) النعمة عليهم بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم داعيًا إلى ما بعثه بدعائهم إليه، وذلك أن هذه الآية
__________
(1) قال في اللسان: في حديث أم زرع: وأراح على نعما ثريا: أي أعطاني. قال: والترويح: كالإراحة.(17/273)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
بين آيتين كلتاهما خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما بعث به، فأولى ما بينهما أن يكون في معنى ما قبله وما بعده، إذ لم يكن معنى يدلّ على انصرافه عما قبله وعما بعده فالذي قبل هذه الآية قوله (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) وما بعده (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) وهو رسولها. فإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الآية: يعرف هؤلاء المشركون بالله نعمة الله عليهم يا محمد بك، ثم ينكرونك ويجحدون نبوّتك (وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) يقول: وأكثر قومك الجاحدون نبوّتك، لا المقرّون بها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) }
يقول تعالى ذكره: يعرفون نعمة الله ثم يُنْكرونها اليوم ويستنكرون (يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) وهو الشاهد عليها بما أجابت داعي الله، وهو رسولهم الذي أرسل إليهم (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يقول: ثم لا يؤذن للذين كفروا في الاعتذار، فيعتذروا مما كانوا بالله وبرسوله يكفرون (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) فيتركوا الرجوع إلى الدنيا فينيبوا ويتوبوا وذلك كما قال تعالى (هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) وشاهدها نبيها، على أنه قد بلغ رسالات ربه، قال الله تعالى (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) }
يقول تعالى ذكره: وإذا عاين الذين كذّبوك يا محمد، وجَحَدُوا نُبوّتك والأمم الذين كانوا على منهاج مشركي قومك عذاب الله، فلا ينجيهم من عذاب(17/274)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
الله شيء، لأنهم لا يؤذن لهم، فيعتذرون، فيخفَّف عنهم العذاب بالعذر الذي يدعونه، (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يقول: ولا يُرْجَئُون بالعقاب، لأن وقت التوبة والإنابة قد فات، فليس ذلك وقتا لهما، وإنما هو وقت للجزاء على الأعمال، فلا ينظر بالعتاب ليعتب بالتوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) }
يقول تعالى ذكره: وإذا رأى المشركون بالله يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله من الآلهة والأوثان وغير ذلك، قالوا: ربنا هؤلاء شركاؤنا في الكفر بك، والشركاء الذين كنا ندعوهم آلهة من دونك، قال الله تعالى ذكره (فألْقَوْا) يعني: شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، القول، يقول: قالوا لهم: إنكم لكاذبون أيها المشركين، ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء؛ وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) قال: حدّثوهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) }
يقول تعالى ذكره: وألقى المشركون إلى الله يومئذ السلم يقول:(17/275)
استسلموا يومئذ وذَلُّوا لحكمه فيهم، ولم تغن عنهم آلهتهم التي كانوا يدعون في الدنيا من دون الله، وتبرأت منهم، ولا قومهم، ولا عشائرهُم الذين كانوا في الدنيا يدافعون عنهم، والعرب تقول: ألقيت إليه كذا تعني بذلك قلت له. وقوله (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) يقول: وأخطأهم من آلهتهم ما كانوا يأملون من الشفاعة عند الله بالنجاة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) يقول: ذلوا واستسلموا يومئذ (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) .(17/276)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) }
يقول تعالى ذكره: الذين جحدوا يا محمد نبوّتك وكذّبوك فيما جئتهم به من عند ربك، وصَدُّوا عن الإيمان بالله وبرسوله، ومن أراده زدناهم عذابًا يوم القيامة في جهنم فوق العذاب الذي هم فيه قبل أن يزادوه. وقيل: تلك الزيادة التي وعدهم الله أن يزيدهموها عقارب وحيات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) قال: عقارب لها أنياب كالنخل.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية وابن عيينة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) قال: زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال.
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، قال: ثنا جعفر بن عون، قال:(17/276)
أخبرنا الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، مثله.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن سليمان، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، نحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن السدّي، عن مرّة، عن عبد الله، قال (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) قال: أفاعِيَ.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السديّ، عن مرّة، عن عبد الله، قال: أفاعيَ في النار.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مرّة، عن عبد الله، مثله.
حدثنا مجاهد بن موسى والفضل بن الصباح، قالا ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا الأعمش، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، قال: إن لجهنم جبابا فيها حيات أمثال البخت (1) وعقارب أمثال البغال الدهم، يستغيث أهل النار إلى تلك الجِباب أو الساحل، فتثب إليهم فتأخذ بشِفاههم وشفارهم إلى أقدامهم، فيستغيثون منها إلى النار، فيقولون: النارَ النارَ، فتتبعهم حتى تجد حرّها فترجع، قال: وهي في أسراب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، قال: إن لجهنم سواحل فيها حيات وعقارب أعناقها كأعناق البخت.
وقوله (بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) يقول: زدناهم ذلك العذاب على ما بهم من العذاب بما كانوا يفسدون، بما كانوا في الدنيا يعصُون الله، ويأمرون عباده بمعصيته، فذلك كان إفسادهم، اللهم إنا نسألك العافية يا مالك الدنيا والآخرة الباقية.
القول في تأويل قوله تعالى
__________
(1) البخت: هي الإبل الخراسانية، وهي جمال طوال الأعناق، الواحد حتى (اللسان) .(17/277)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) }
يقول تعالى ذكره (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يقول: نسأل نبيهم الذي بعثناه إليهم للدعاء إلى طاعتنا، وقال (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لأنه تعالى ذكره كان يبعث إلى أمم أنبياءها منها: ماذا أجابوكم، وما ردّوا عليكم (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وجئنا بك يا محمد شاهدا على قومك وأمتك الذين أرسلتك إليهم بما أجابوك، وماذا عملوا فيما أرسلتك به إليهم. وقوله (وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) يقول: نزل عليك يا محمد هذا القرآن بيانا لكلّ ما بالناس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب (وَهُدًى) من الضلال (وَرَحْمَةً) لمن صدّق به، وعمل بما فيه من حدود الله، وأمره ونهيه، فأحل حلاله، وحرّم حرامه (وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) يقول: وبشارة لمن أطاع الله وخضع له بالتوحيد، وأذعن له بالطاعة، يبشره بجزيل ثوابه في الآخرة، وعظيم كرامته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، قال: ثنا أبان بن تغلب، عن الحكم، عن مجاهد (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) قال: مما أحلّ وحرّم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن أبان بن تغلب، عن مجاهد، في قوله (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) مما أحلّ لهم وحرّم عليهم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، قوله (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) قال: ما أمر به، وما نَهَى عنه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله (وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) قال: ما أُمِروا به، ونهوا عنه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن(17/278)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
أشعث، عن رجل، قال: قال ابن مسعود: أنزل في هذا القرآن كل علم وكلّ شيء قد بين لنا في القرآن. ثم تلا هذه الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) }
يقول تعالى ذكره: إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد بالعدل، وهو الإنصاف، ومن الإنصاف: الإقرار بمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على إفضاله، وتولي الحمد أهله. وإذا كان ذلك هو العدل، ولم يكن للأوثان والأصنام عندنا يد تستحقّ الحمد عليها، كان جهلا بنا حمدها وعبادتها، وهي لا تنعِم فتشكر، ولا تنفع فتعبد، فلزمنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولذلك قال من قال: العدل في هذا الموضع شهادة أن لا إله إلا الله.
ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، وعلي بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) قال: شهادة أن لا إله إلا الله وقوله والإحسان، فإن الإحسان الذي أمر به تعالى ذكره مع العدل الذي وصفنا صفته: الصبر لله على طاعته فيما أمر ونهى، في الشدّة والرخاء، والمَكْرَه والمَنْشَط، وذلك هو أداء فرائضه.
كما حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَالإحْسَانِ) يقول: أداء الفرائض.
وقوله (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) يقول: وإعطاء ذي القربى الحقّ الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم.
كما حدثني المثنى وعلي، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) يقول: الأرحام.
وقوله (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ) قال: الفحشاء في هذا الموضع: الزنا.(17/279)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، عن عليّ، عن ابن عباس (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ) يقول: الزنا. وقد بيَّنا معنى الفحشاء بشواهده فيما مضى قبل.
وقوله (والبَغْيِ) قيل: عُنِيَ بالبغي في هذا الموضع: الكبر والظلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (والبَغْيِ) يقول: الكبر والظلم. وأصل البغي: التعدّي ومجاوزة القدر والحدّ من كلّ شيء. وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل.
وقوله (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يقول: يذكركم أيها الناس ربكم لتذكروا فتنيبوا إلى أمره ونهيه، وتعرفوا الحقّ لأهله.
كما حدثني المثنى وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (يَعِظُكُمْ) يقول: يوصيكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) .
وقد ذُكر عن ابن عيينة أنه كان يقول في تأويل ذلك: إن معنى العدل في هذا الموضع استواء السريرة والعلانية من كلّ عامل لله عملا وإن معنى الإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، وإن الفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
وذُكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في هذه الآية، ما حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصور بن النعمان، عن عامر، عن شتَير بن شَكَل، قال: سمعت عبد الله يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) ... إلى آخر الآية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الشعبيّ، عن سُتَيْر بن شَكَل، قال: سمعت عبد الله يقول: إن أجمع آية في القرآن لخير أو لشر، آية في سورة النحل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) .... الآية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) ... الآية، إنه ليس من خلق(17/280)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خُلق سيِّئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدّم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومَذامِّها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) }
يقول تعالى ذكره: وأوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه، وعقده إذا عاقدتموه، فأوجبتم به على أنفسكم حقا لمن عاقدتموه به وواثقتموه عليه (وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) يقول: ولا تخالفوا الأمر الذي تعاقدتم فيه الأيمان، يعني بعد ما شددتم الأيمان على أنفسكم، فتحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها وتنقضوها بعد إبرامها، يقال منه: وكَّد فلان يمينه يوكدها توكيدًا: إذا شددها وهي لغة أهل الحجاز، وأما أهل نجد، فإنهم يقولون: أكدتها أؤكدها تأكيدا. وقوله (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا) يقول: وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعيًا يرعى الموفى منكم بعهد الله الذي عاهد على الوفاء به والناقض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف بينهم فيمن عني بهذه الآية وفيما أنزلت، فقال بعضهم: عُنِيَ بها الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وفيهم أنزلت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو ليلى، عن بريدة، قوله (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) قال: أنزلت هذه الآية في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان من أسلم بايع على الإسلام، فقالوا (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) هذه البَيعة التي بايعتم على الإسلام (وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) البيعة، فلا يحملكم قلة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان فيهم قلة والمشركين فيهم كثرة.
وقال آخرون: نزلت في الحِلْف الذي كان أهل الشرك تحالفوا في(17/281)
الجاهلية، فأمرهم الله عزّ وجلّ في الإسلام أن يوفّوا به ولا ينقضوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى (وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) قال: تغليظها في الحلف.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) يقول: بعد تشديدها وتغليظها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هؤلاء قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا وأعطى بعضهم العهد، فجاءهم قوم، فقالوا: نحن أكثر وأعزّ وأمنع، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ففعلوا، فذلك قول الله تعالى (وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا) أن تكون أمة هي أربى من أمة، هي أربَى أكثر من أجل أن كان هؤلاء أكثر من أولئك، نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء، فكان هذا في هذا.
حدثني ابن البَرقيّ، قال: ثنا ابن أبي مَريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: سألت يحيى بن سعيد، عن قول الله (وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) قال: العهود.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم، ونهاهم عن نقض الأيمان بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين بعقود تكون بينهم بحقّ مما لا يكرهه الله. وجائز أن تكون نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيهم عن نقض بيعتهم حذرا من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وأن تكون نزلت في الذين أرادوا الانتقال بحلفهم عن حلفائهم لقلة عددهم في آخرين لكثرة عددهم، وجائز أن تكون في غير ذلك. ولا خبر تَثْبُت به الحجة أنها(17/282)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
نزلت في شيء من ذلك دون شيء؛ ولا دلالة في كتاب ولا حجة عقل أيّ ذلك عُنِيَ بها، ولا قول في ذلك أولى بالحق مما قلنا لدلالة ظاهره عليه، وأن الآية كانت قد نزلت لسبب من الأسباب، ويكون الحكم بها عامًّا في كلّ ما كان بمعنى السبب الذي نزلت فيه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا) قال: وكيلا.
وقوله (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الناس يعلم ما تفعلون في العهود التي تعاهدون الله من الوفاء بها والأحلاف والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم، أتبرّون فيها أم تنقضونها وغير ذلك من أفعالكم، محص ذلك كله عليكم، وهو مسائلكم عنها وعما عملتم فيها، يقول: فاحذروا الله أن تلقوه وقد خالفتم فيها أمره ونهيه، فتستوجبوا بذلك منه ما لا قِبَل لكم به من أليم عقابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) }
يقول تعالى ذكره ناهيا عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وآمرًا بوفاء العهود، وممثلا ناقض ذلك بناقضة غزلها من بعد إبرامه وناكثته من بعد إحكامه: ولا تكونوا أيها الناس في نقضكم أيمانكم بعد توكيدها وإعطائكم الله بالوفاء بذلك العهود والمواثيق (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) يعني: من بعد إبرام. وكان بعض أهل العربية يقول: القوّة: ما غُزِل على طاقة واحدة ولم يثن. وقيل: إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بمكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن(17/283)
جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) قال: خرقاء كانت بمكة تنقضه بعد ما تُبْرِمه.
حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن صدقة، عن السديّ (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ) قال: هي خَرْقَاءُ بمكة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته.
وقال آخرون: إنما هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد، فشبهه بامرأة تفعل هذا الفعل. وقالوا في معنى نقضت غزلها من بعد قوة، نحوا مما قلنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه! وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) قال: غزلها: حبلها تنقضه بعد إبرامها إياه ولا تنتفع به بعد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني(17/284)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) قال: نقضت حبلها من بعد إبرام قوّة.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) قال: هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد الذي يعطيه، ضرب الله هذا له مثلا بمثل التي غزلت ثم نقضت غزلها، فقد أعطاهم ثم رجع، فنكث العهد الذي أعطاهم.
وقوله (أَنْكَاثًا) يعني: أنقاضا، وكلّ شيء نُقِض بعد الفتل فهو أنكاث، واحدها:(17/285)
نكْث حبلا كان ذلك أو غزلا يقال منه: نَكَث فلان هذا الحبل فهو ينكُثُه نكثا، والحبل منتكِث: إذا انتقضت قُواه. وإنما عني به في هذا الموضع نكث العهد والعقد. وقوله (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) يقول تعالى ذكره: تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتموه (دَخَلا بَيْنَكُمْ) يقول: خديعة وغرورا ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر وترك الوفاء بالعهد والنُّقلة عنهم إلى غيرهم من أجل أن غيرهم أكثر عددًا منهم. والدَّخَل في كلام العرب: كلّ أمر لم يكن صحيحًا، يقال منه: أنا أعلم دَخَل فلان ودُخْلُلَه وداخلة أمره ودخلته ودخيلته.
وأما قوله (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) فإن قوله أربى: أفعل من الربا، يقال: هذا أربى من هذا وأربأ منه، إذا كان أكثر منه؛ ومنه قول الشاعر:
وأسْمَرَ خَطِّيّ كأنَّ كُعُوبَهُ ... نَوى القسْبِ قد أرْبَى ذرَاعا على العَشْرِ (1)
وإنما يقال: أربى فلان من هذا وذلك للزيادة التي يزيدها على غريمه على رأس ماله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) يقول: أكثر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) يقول: ناس أكثر من ناس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء؛ وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) قال: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حِلْف هؤلاء، ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ منهم، فنهوا عن ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (2) وحدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ) يقول: خيانة وغدرا بينكم (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) أن يكون قوم أعزّ وأكثر من قوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا أبو ثور، عن مَعْمر، عن قتادة (دَخَلا بَيْنَكُمْ) قال: خيانة بينكم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ) يغرّ بها، يعطيه العهد يؤمنه وينزله من مأمنه، فتزلّ قدمه وهو في مأمن، ثم يعود يريد الغدر، قال: فأوّل بدو هذا (3) قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا، وأعطى بعضهم بعضا العهد، فجاءهم قوم قالوا: نحن أكثر وأعزّ وأمنع، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا، ففعلوا، وذلك قول الله تعالى (وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا) (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) هي أربى: أكثر من أجل أن كانوا هؤلاء أكثر من أولئك نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء، فكان هذا في هذا، وكان الأمر الآخر في الذي يعاهده فينزله من حِصْنه ثم
__________
(1) (البيت في اللسان: قسب) قال: القسب: التمر اليابس. يتفتت في الفم، صلب النواة قال الشاعر يصف رمحا: "وأسمر خطيا ... إلى آخر البيت" ... قال ابن بري: هذا البيت يذكر أنه لحاتم الطائي، ولم أجده في شعره. وأربى وأرمى: لغتان. ونوى القسب أصلب النوى. والخطى نسبة إلى الخط: بلد عند البحرين، مشهور بصنع الرماح. واستشهد المؤلف هنا بالبيت على أن معنى أربى: أكثر. وكذلك قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 367) .
(2) أي مثله، وكثيراً ما يأتي بالسند ويترك المتن إذا تقدم، ولا يأتي بلفظ نحوه أو مثله، وتقدمت الإشارة إلى بعض ذلك في مواضعه.
(3) في الأصل: هو، ولعله تحريف من الناسخ.(17/286)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
ينكث عليه، الآية الأولى في هؤلاء القوم وهي مبدؤه، والأخرى في هذا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) يقول: أكثر، يقول: فعليكم بوفاء العهد.
وقوله (إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ) يقول تعالى ذكره: إنما يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بعهد الله إذا عاهدتم، ليتبين المطيع منكم المنتهي إلى أمره ونهيه من العاصي المخالف أمره ونهيه (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يقول تعالى ذكره: وليبينن لكم أيها الناس ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه بمجازاة كلّ فريق منكم على عمله في الدنيا، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته، (مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) والذي كانوا فيه يختلفون في الدنيا أن المؤمن بالله كان يقرّ بوحدانية الله ونبوّة نبيه، ويصدق بما ابتعث به أنبياءه، وكان يكذّب بذلك كله الكافر فذلك كان اختلافهم في الدنيا الذي وعد الله تعالى ذكره عباده أن يبينه لهم عند ورودهم عليه بما وصفنا من البيان.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) }
يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربكم أيها الناس للطف بكم بتوفية من عنده، فصرتم جميعًا جماعة واحدة، وأهل ملة واحدة لا تختلفون ولا تفترقون، ولكنه تعالى ذكره خالف بينكم، فجعلكم أهل ملل شتى، بأن وفَّق هؤلاء للإيمان به، والعمل بطاعته، فكانوا مؤمنين، وخذل هؤلاء فحَرَمهم توفيقه فكانوا كافرين، وليسألنكم الله جميعا يوم القيامة عما كنتم تعملون في الدنيا فيما أمركم ونهاكم، ثم ليجازينكم جزاء المطيع منكم بطاعته، والعاصي له بمعصيته.(17/287)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) }(17/287)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
يقول تعالى ذكره: ولا تتخذوا أيمانكم بينكم دَخَلا وخديعة بينكم، تغزون بها الناس (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) يقول: فتهلكوا بعد أن كنتم من الهلاك آمنين. وإنما هذا مثل لكل مبتلى بعد عافية، أو ساقطٍ في ورطة بعد سلامة، وما أشبه ذلك: (زلَّت قدمه) ، كما قال الشاعر:
سيَمْنَعُ مِنْكَ السَّبْقُ إنْ كُنْتَ سابِقا ... وتُلْطَعُ إنْ زَلَّتْ بكَ النَّعْلانِ (1)
وقوله (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) يقول: وتذوقوا أنتم السوء وذلك السوء: هو عذاب الله الذي يعذّب به أهل معاصيه في الدنيا، وذلك بعض ما عذّب به أهل الكفر (بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) يقول: بما فَتنتم من أراد الإيمان بالله ورسوله عن الإيمان (وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة، وذلك نار جهنم، وهذه الآية تدلّ على أن تأويل بُرَيْدة الذي ذكرنا عنه، في قوله (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) والآيات التي بعدها، أنه عُنِيَ بذلك: الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، عن (2) مفارقة الإسلام لقلة أهله، وكثرة أهل الشرك هو الصواب، دون الذي قال مجاهد أنهم عنوا به، لأنه ليس في انتقال قوم تحالفوا عن حلفائهم إلى آخرين غيرهم، صدّ عن سبيل الله ولا ضلال عن الهدى، وقد وصف تعالى ذكره في هذه الآية فاعِلِي ذلك، أنهم باتخاذهم الأيمان دَخَلا بينهم، ونقضهم الأيمان بعد توكيدها، صادّون عن سبيل الله، وأنهم أهل ضلال في التي قبلها، وهذه صفة أهل الكفر بالله لا صفة أهل النُّقْلة بالحلف عن قوم إلى قوم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) }
__________
(1) في (اللسان: لطع) : اللطع أن تضرب مؤخر الإنسان برجلك. تقول: لطعته (بالكسر) ألطعه لطعا. وقوله تعالى: (فتزل قدم بعد ثبوتها) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 367) : مثل يقال لكل مبتلى بعد عافية، أو ساقط في ورطة بعد سلامة ونحو ذلك: زلت قدمه.
(2) "عن" هنا: للتعليل، أي بسبب مفارقة الإسلام، مثلها في قوله تعالى: (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) : أي لأجلك.(17/288)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
يقول تعالى ذكره: ولا تنقضوا عهودكم أيها الناس، وعقودكم التي عاقدتموها من عاقدتم مؤكِّديها بأيمانكم، تطلبون بنقضكم ذلك عرضًا من الدنيا قليلا ولكن أوفوا بعهد الله الذي أمركم بالوفاء به، يثبكم الله على الوفاء به، فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك، هو خير لكم إن كنتم تعلمون، فضل ما بين العِوَضين اللذين أحدهما الثمن القليل، الذي تشترون بنقض عهد الله في الدنيا، والآخر الثواب الجزيل في الآخرة على الوفاء به، ثم بين تعالى ذكره فرْق ما بين العِوَضين وفضل ما بين الثوابين، فقال: ما عندكم أيها الناس مما تتملكونه في الدنيا، وإن كَثُر فنافدٌ فان، وما عند الله لمن أوفى بعهده وأطاعه من الخيرات باق غير فانٍ، فلما عنده فاعملوا وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا. وقوله (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يقول تعالى ذكره: وليثيبنّ الله الذين صبروا على طاعتهم إياه في السّراء والضرّاء، ثوابهم يوم القيامة على صبرهم عليها، ومسارعتهم في رضاه، بأحسن ما كانوا يعملُون من الأعمال دون أسوئها، وليغفرنّ الله لهم سيئها بفضله.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) }
يقول تعالى ذكره: من عمل بطاعة الله، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم وهو مؤمن: يقول: وهو مصدّق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة، وبوعيد أهل معصيته على المعصية (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) .
واختلف أهل التأويل في الذي عَنى الله بالحياة الطيبة التي وعد هؤلاء القوم أن يُحْيِيَهموها، فقال بعضهم: عنى أنه يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن(17/289)
إسماعيل بن سَمِيع (1) عن أبي مالك وأبي الربيع، عن ابن عباس، بنحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي الربيع، عن ابن عباس، في قوله (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال: الرزق الحسن في الدنيا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي الربيع، عن ابن عباس (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال: الرزق الطيب في الدنيا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) يعني في الدنيا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن مطرف، عن الضحاك (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال: الرزق الطيب الحلال.
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عون بن سلام القرشيّ، قال: أخبرنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوُق، عن الضحاك، في قوله (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال: يأكل حلالا ويلبس حلالا.
وقال آخرون (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) بأن نرزقه القناعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن أبي خزيمة سليمان التمَّار، عمن ذكره عن عليّ (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال: القنوع.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو عصام، عن أبي سعيد، عن الحسن البصريّ، قال: الحياة الطيبة: القناعة.
وقال آخرون: بل يعني بالحياة الطيبة الحياة مؤمنًا بالله عاملا بطاعته.
* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
__________
(1) إسماعيل بن سميع، بالسين مفتوحة، الحنفي، أبو محمد، وثقه جماعة، وكان خارجيا.(17/290)
) يقول: من عمل عملا صالحًا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة، فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل صالحًا، عيشته ضنكة لا خير فيها.
وقال آخرون: الحياة الطيبة السعادة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال: السعادة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الحياة في الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوْذة، عن عوف، عن الحسن (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال: لا تطيب لأحد حياة دون الجنة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الحسن (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال: ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) فإن الله لا يشاء عملا إلا في إخلاص، ويوجب عمل ذلك في إيمان، قال الله تعالى (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وهي الجنة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال: الآخرة يحييهم حياة طيبة في الآخرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قال: الحياة الطيبة في الآخرة: هي الجنة، تلك الحياة الطيبة، قال (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقال: ألا تراه يقول (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) قال: هذه آخرته. وقرأ أيضًا (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) قال: الآخرة دار حياة لأهل النار وأهل الجنة، ليس فيها موت لأحد من الفريقين.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قال: الإيمان: الإخلاص لله وحده، فبين أنه لا يقبل عملا إلا بالإخلاص له.
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه، ولم(17/291)
يعظم فيها نَصَبه ولم يتكدّر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها.
وإنما قلت ذلك أولى التأويلات في ذلك بالآية، لأن الله تعالى ذكره أوعد قوما قبلها على معصيتهم إياه إن عصوه أذاقهم السوء في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فقال تعالى (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فهذا لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، فهذا لهم في الآخرة. ثم أتبع ذلك لمَن أوفى بعهد الله وأطاعه فقال تعالى: ما عندكم في الدنيا ينفد، وما عند الله باق، فالذي (1) هذه السيئة بحكمته أن (2) يعقب ذلك الوعد لأهل طاعته بالإحسان في الدنيا، والغفران في الآخرة، وكذلك فَعَلَ تعالى ذكره.
وأما القول الذي رُوي عن ابن عباس أنه الرزق الحلال، فهو مُحْتَمَل أن يكون معناه الذي قلنا في ذلك، من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال، وإن قلّ فلا تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله. لا أنه يرزقه الكثير من الحلال، وذلك أن أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه من الأعمال لم نرهم رُزِقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا، ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة.
وقوله (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فذلك لا شك أنه في الآخرة. وكذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي مالك، عن ابن عباس (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال: إذا صاروا إلى الله جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي مالك، وأبي الربيع، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع،
__________
(1) هذه العبارة قد سقطت منها كلمات، ولعل الأصل: فالذي أوعد أهل المعاصي بإذاقتهم هذه السيئة بحكمته، أراد أن يعقب.. الخ.
(2) هذه العبارة قد سقطت منها كلمات، ولعل الأصل: فالذي أوعد أهل المعاصي بإذاقتهم هذه السيئة بحكمته، أراد أن يعقب.. الخ.(17/292)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
عن أبي الربيع، عن ابن عباس (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) قال: في الآخرة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي الربيع، عن ابن عباس، مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يقول: يجزيهم أجرهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون.
وقيل: إن هذه الآية نزلت بسبب قوم من أهل مِلَل شتى تفاخروا، فقال أهل كلّ ملة منها: نحن أفضل، فبين الله لهم أفضل أهل الملل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يعلى بن عبيد، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قال: جلس ناس من أهل الأوثان وأهل التوراة وأهل الإنجيل، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فأنزل الله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا كنت يا محمد قارئًا القرآن، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. وكان بعض أهل العربية يزعم أنه من المؤخر الذي معناه التقديم. وكان معنى الكلام عنده: وإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم، فاقرأ القرآن، ولا وجه لما قال من ذلك، لأن ذلك لو كان كذلك لكان متى استعاذ مستعيذ من الشيطان الرجيم لزمه أن يقرأ القرآن، ولكن معناه ما وصفناه، وليس قوله (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) بالأمر اللازم، وإنما هو إعلام وندب. وذلك أنه لا خلاف بين الجميع، أن من قرأ(17/293)
القرآن ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم. قبل قرأته أو بعدها أنه لم يضيع فرضا واجبا. وكان ابن زيد يقول في ذلك نحو الذي قلنا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) قال: فهذا دليل من الله تعالى دلّ عباده عليه.
وأما قوله (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فإنه يعني بذلك: أن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا بما أمر الله به وانتهوا عما نهاهم الله عنه (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يقول: وعلى ربهم يتوكلون فيما نابهم من مهمات أمورهم (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) يقول: إنما حجته على الذين يعبدونه، (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) يقول: والذين هم بالله مشركون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ) قال: حجته.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) قال: يطيعونه.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله لم يسلط فيه الشيطان على المؤمن.
فقال بعضهم بما حُدّثت عن واقد بن سليمان، عن سفيان، في قوله (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر.
وقال آخرون: هو الاستعاذة، فإنه إذا استعاذ بالله منع منه، ولم يسلط عليه، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الله تعالى: (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة الحِجْر.(17/294)
وقال آخرون في ذلك، بما حدثني به المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) إلى قوله (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) يقال: إن عدوّ الله إبليس قال (لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فهؤلاء الذين لم يجعل للشيطان عليهم سبيل، وإنما سلطانه على قوم اتخذوه وليا، وأشركوه في أعمالهم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يقول: السلطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) يقول: الذين يطيعونه ويعبدونه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا فاستعاذوا بالله منه، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله تعالى ذكره أتبع هذا القول (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وقال في موضع آخر: (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فكان بينا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال ليُعيذهم من سلطانه.
وأما قوله (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم فيه بما قلنا إن معناه: والذين هم بالله مشركون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) قال: يعدلون بربّ العالمين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،(17/295)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
عن مجاهد (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) قال: يعدلون بالله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) عدلوا إبليس بربهم، فإنهم بالله مشركون.
وقال آخرون: معنى ذلك: والذين هم به مشركون، أشركوا الشيطان في أعمالهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أشركوه في أعمالهم.
والقول الأوّل، أعني قول مجاهد، أولى القولين في ذلك بالصواب، وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم، لا أنهم يشركون بالشيطان. ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع، لكان التنزيل: الذين هم مشركوه، ولم يكن في الكلام به، فكان يكون لو كان التنزيل كذلك، والذين هم مشركوه في أعمالهم، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام، إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهة الشيطان، ويشركون الله به في عبادتهم إياه، فيصحّ حينئذ معنى الكلام، ويخرج عما جاء التنزيل به في سائر القرآن، وذلك أن الله تعالى وصف المشركين في سائر سور القرآن أنهم أشركوا بالله، ما لم ينزل به عليهم سلطانا، وقال في كلّ موضع تقدّم إليهم بالزجر عن ذلك، لا تشركوا بالله شيئا، ولم نجد في شيء من التنزيل: لا تشركوا الله بشيء، ولا في شيء من القرآن. خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء فيجوز لنا توجيه معنى قوله (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) إلى والذين هم بالشيطان مشركو الله. فبين إذًا إذ كان ذلك كذلك، أن الهاء في قوله (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ) عائدة على الربّ في قوله (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنزلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) }(17/296)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
يقول تعالى ذكره: وإذا نسخنا حكم آية، فأبدلنا مكانه حكم أخرى، والله أعلم بما ينزل: يقول: والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدِّل ويغير من أحكامه، قالوا: إنما أنت مفتر يقول: قال المشركون بالله، المكذبو رسوله لرسوله: إنما أنت يا محمد مفتر: أي مكذب تخرص بتقوّل الباطل على الله، يقول الله تعالى بل أكثر هؤلاء القائلين لك يا محمد: إنما أنت مفتر جهال، بأنّ الذي تأتيهم به من عند الله ناسخه ومنسوخه، لا يعلمون حقيقة صحته.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) رفعناها فأنزلنا غيرها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) قال: نسخناها، بدّلناها، رفعناها، وأثبتنا غيرها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) هو كقوله (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) قالوا: إنما أنت مفتر، تأتي بشيء وتنقضه، فتأتي بغيره. قال: وهذا التبديل ناسخ، ولا نبدل آية مكان آية إلا بنسخ.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للقائلين(17/297)
لك إنما أنت مفتر فيما تتلو عليهم من آي كتابنا، أنزله روح القُدُس: يقول: قل جاء به جَبرئيل من عند ربي بالحقّ. وقد بيَّنت في غير هذا الموضع معنى: روح القُدس، بما أغنى عن إعادته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا جعفر بن عون العمَريّ، عن موسى بن عبيدة الرَّبَذيّ، عن محمد بن كعب، قال: روح القُدُس: جبرئيل.
وقوله (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) يقول تعالى ذكره: قل نزل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه، روح القدس عليّ من ربي، تثبيتا للمؤمنين، وتقوية لإيمانهم، ليزدادوا بتصديقهم لناسخه ومنسوخه إيمانا لإيمانهم، وهدى لهم من الضلالة، وبُشرى للمسلمين الذين استسلموا لأمر الله، وانقادوا لأمره ونهيه، وما أنزله في آي كتابه، فأقرّوا بكل ذلك،وصدقوا به قولا وعملا.(17/298)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) }
يقول تعالى ذكره: ولقد نعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلا منهم: إنما يعلم محمدا هذا الذي يتلوه بشر من بني آدم، وما هو من عند الله، يقول الله تعالى ذكره مكذّبهم في قيلهم ذلك: ألا تعلمون كذب ما تقولون، إن لسان الذي تلحدون إليه: يقول: تميلون إليه بأنه يعلم محمدا أعجميّ، وذلك أنهم فيما ذُكر كانوا يزعمون أن الذي يعلِّم محمدا هذا القرآن عبد روميّ، فلذلك قال تعالى (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) يقول: وهذا القرآن لسان عربيّ مبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في اسم الذي كان المشركون يزعمون أنه يعلِّم محمدا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن من البشر، فقال بعضهم: كان اسمه بَلْعام، وكان قَينا بمكة نصرانيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن محمد الطُّوسِيّ، قال: ثنا(17/298)
أبو عاصم، قال: ثنا إبراهيم بن طَهْمان، عن مسلم بن عبد الله المَلائي، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم قينا بمكة، وكان أعجميّ اللسان، وكان اسمه بَلْعام، فكان المشركون يَرَوْن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يدخل عليه، وحين يخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلِّمه بلعام، فأنزل الله تعالى ذكره (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .
وقال آخرون: اسمه يعيش.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن عكرمة، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقرئ غلامًا لبني المغيرة أعجميا، قال سفيان: أراه يقال له: يَعِيش، قال: فذلك قوله (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) وقد قالت قريش: إنما يعلمه بشر، عبد لبني الحَضْرميّ يقال له يعيش، قال الله تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) وكان يعيش يقرأ الكُتُب.
وقال آخرون: بل كان اسمه جَبْر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرًا ما يجلس عند المَرْوَة إلى غلام نصراني يقال له جَبْر، عبد لبني بياضة الحَضْرَمِيّ، فكانوا يقولون: والله ما يعلِّم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جَبْرٌ النصرانيُّ غلام الحضرميّ، فأنزل الله تعالى في قولهم (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عبد الله بن كثير: كانوا يقولون: إنما يعلمه نصرانيّ على المَرْوة، ويعلم محمدا رُوميّ يقولون اسمه جَبْر وكان صاحب كُتُب عبد لابن الحضرميّ، قال الله تعالى (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .(17/299)
وقال آخرون: بل كانا غلامين اسم أحدهما يسار والآخر جَبْر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حُصَيْن، عن عبد الله بن مسلم الحضرميّ: أنه كان لهم عبدان من أهل عير اليمن، وكانا طفلين، وكان يُقال لأحدهما يسار، والآخر جبر، فكانا يقرآن التوراة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما جلس إليهما، فقال كفار قريش: إنما يجلس إليهما يتعلم منهما، فأنزل الله تعالى (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .
حدثني المثنى، قال: ثنا معن بن أسد، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن حصين، عن عبد الله بن مسلم الحضرميّ، نحوه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن حصين، عن عبد الله بن مسلم، قال: كان لنا غلامان فكان يقرآن كتابًا لهما بلسانهما، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمرّ عليهما، فيقوم يستمع منهما، فقال المشركون: يتعلم منهما، فأنزل الله تعالى ما كذّبهم به، فقال: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)
وقال آخرون: بل كان ذلك سَلْمان الفارسي.
* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) كانوا يقولون: إنما يعلِّمه سَلْمان الفارسي.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) قال: قول كفار قريش: إنما يعلِّم محمدا عبدُ ابن الحضرميّ، وهو صاحب كتاب، يقول الله: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .
وقيل: إن الذي قال ذلك رجل كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم(17/300)
ارتدّ عن الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب: أن الذي ذكر الله إنما يعلمه بشر، إنما افتتن إنه كان يكتب الوحي، فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سميع عليم" أو "عزيز حكيم" وغير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الوحي، فيستفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: أعزيز حكيم، أو سميع عليم، أو عزيز عليم؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ ذلك كتبت فهو كذلك، ففتنه ذلك، فقال: إن محمدا يكل ذلك إليّ، فأكتب ما شئت، وهو الذي ذكر في سعيد بن المسيب من الحروف السبعة.
واختلف القرّاء في قراءة قوله (يُلْحِدُونَ) فقرأته عامَّة قرّاء المدينة والبصرة (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) بضم الياء من ألحد يلحد إلحادا، بمعنى يعترضون، ويعدلون إليه، ويعرجون إليه، من قول الشاعر:
قُدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخبَيْبَيْنِ قَدِي ... لَيْسَ أميرِي بالشَّحيحِ المُلْحِدِ (1)
وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة: (لِسَانُ الَّذِي يَلْحِدُونَ إلَيْهِ) بفتح الياء، يعني: يميلون إليه، من لحد فلان إلى هذا الأمر يلحد لحدا ولحودا، وهما عندي لغتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب فيهما الصواب. وقيل (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) يعني: القرآن كما تقول العرب لقصيدة من الشعر يعرضها الشاعر: هذا لسان فلان، تريد قصيدته؛ كما قال الشاعر:
لِسانُ السُّوءِ تُهْدِيها إلَيْنَا ... وحِنْتَ وَما حَسِبْتُكَ أنْ تَحِينا ...
__________
(1) قدني: اسم فعل بمعنى كفى. والخبيبين: مثنى مصغر. وهما عبد الله بن الزبير وأخوه مصعب أو هما خبيب بن عبد الله بن الزبير وأحد إخوته من بني عبد الله بن الزبير، وهم حمزة وثابت وعبادة وقيس وعامر وموسى. وقيل إن لفظ الخبيبين جمع خبيب، يريد خبيبا ومن معه. أو يريد أنصار عبد الله بن الزبير، وكان يلقب أبا خبيب. والملحد: قال صاحب المصباح: من ألحد في الحرم بالألف: إذا استحل حرمته وانتهكها. وألحد إلحاداً: جادل ومارى. ولحد (بلا ألف) بمعنى: جار وظلم. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 368) "لسان الذي يلحدون إليه أعجمي" أي يعدلون إليه. ويقال: ألحد فلان: أي جار. وأعجمي: أضيف إلى أعجم اللسان. والبيتان من مشطور الرجز، وهما لحميد الأرقط (انظر خزانة البغدادي 2: 453) .(17/301)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
يعني باللسان القصيدة والكلمة (1) .
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) }
يقول تعالى إن الذين لا يؤمنون بحجج الله وأدلته، فيصدّقون بما دلَّت عليه (لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ) يقول: لا يوفقهم الله لإصابة الحقّ، ولا يهديهم لسبيل الرشد في الدنيا، ولهم في الآخرة وعند الله إذا وردوا عليه يوم القيامة عذاب مؤلم موجع. ثم أخبر تعالى ذكره المشركين الذين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مفتر، أنهم هم أهل الفرية والكذب، لا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون به، وبرأ من ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: إنما يتخرّص الكذب، ويتقوّل الباطل، الذين لا يصدّقون بحجج الله وإعلامه، لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابا، ولا يخافون على الكذب عقابا، فهم أهل الإفك وافتراء الكذب، لا من كان راجيا من الله على الصدق الثواب الجزيل، وخائفا على الكذب العقاب الأليم. وقوله (وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) يقول: والذين لا يؤمنون بآيات الله هم أهل الكذب لا المؤمنون.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) }
__________
(1) في (اللسان: لسن) : اللسان: جارحة الكلام، وقد يكني بها عن الكلمة فيؤنث حينئذ قال أعشى باهلة: إني "أتتني لسان لا أسر بها". قال ابن برى: اللسان هنا: الرسالة والمقالة. وقد يذكر على معنى الكلام، قال الحطيئة: "ندمت على لسان فات مني". وحان يحين حينا: هلك. وشاهد المؤلف في البيت: أن اللسان قد يحيي، مؤنثا بمعنى الكلمة والقصيدة.(17/302)
اختلف أهل العربية في العامل في "مَنْ" من قوله (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) ومن قوله (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا) ، فقال بعض نحويي البصرة: صار قوله (فَعَلَيْهِمْ) خبرًا لقوله (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا) ، وقوله (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) فأخبر لهم بخبر واحد، وكان ذلك يدلّ على المعنى. وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هذان جزءان اجتمعا، أحدهما منعقد بالآخر، فجوابهما واحد كقول القائل: من يأتنا فمن يحسن نكرمه، بمعنى: من يحسن ممن يأتنا نكرمه. قال: وكذلك كلّ جزاءين اجتمعا الثاني منعقد بالأوّل، فالجواب لهما واحد. وقال آخر من أهل البصرة: بل قوله (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) مرفوع بالردّ على الذين في قوله (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) ومعنى الكلام عنده: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره من هؤلاء وقلبه مطمئنّ بالإيمان، وهذا قول لا وجه له. وذلك أن معنى الكلام لو كان كما قال قائل هذا القول، لكان الله تعالى ذكره قد أخرج ممن افترى الكذب في هذه الآية الذين وُلدوا على الكفر وأقاموا عليه، ولم يؤمنوا قطّ، وخصّ به الذين قد كانوا آمنوا في حال، ثم راجعوا الكفر بعد الإيمان، والتنزيل يدلّ على أنه لم يخصص بذلك هؤلاء دون سائر المشركين الذين كانوا على الشرك مقيمين، وذلك أنه تعالى أخبر خبر قوم منهم أضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء الكذب، فقال: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنزلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وكذّب جميع المشركين بافترائهم على الله وأخبر أنهم أحق بهذه الصفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) ، ولو كان الذين عنوا بهذه الآية هم الذين كفروا بالله من بعد إيمانهم، وجب أن يكون القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أنت مفتر حين بدّل الله آية مكان آية، كانوا هم الذين كفروا بالله بعد الإيمان خاصة دون غيرهم من سائر المشركين، لأن هذه في سياق الخبر عنهم، وذلك قول إن قاله قائل، فبين فساده مع خروجه عن تأويل جميع أهل العلم بالتأويل.
والصواب من القول في ذلك عندي أن الرافع لمن الأولى والثانية، قوله(17/303)
(فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء إذا استأنفت أحدهما على آخر.
وذكر أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم، فثبت على الإسلام بعضهم، وافتتن بعض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ) ... إلى آخر الآية، وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذّبوه، ثم تركوه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه بالذي لقي من قريش، والذي قال: فأنزل الله تعالى ذكره عذره (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) ... إلى قوله (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ) قال: ذُكِر لنا أنها نزلت في عمار بن ياسر، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا: اكفر بمحمد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره، فأنزل لله تعالى ذكره (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا) : أي من أتى الكفر على اختيار واستحباب، (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ تَجدُ قَلْبَكَ؟ قال: مطمئنا بالإيمان. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فإنْ عادُوا فَعُدْ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، في قوله (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ) قال: نزلت في عمار بن ياسر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: لما(17/304)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
عذّب الأعبد أعطوهم ما سألوا إلا خباب بن الأرت، كانوا يضجعونه على الرضف فلم يستقلوا منه شيئا.
فتأويل الكلام إذن: من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره على الكفر، فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان، موقن بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدرا فاختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعا، فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ورد الخبر، عن ابن عباس.
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ) فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه، فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) }
يقول تعالى ذكره: حلّ بهؤلاء المشركين غضب الله، ووجب لهم العذاب العظيم، من أجل أنهم اختاروا زينة الحياة الدنيا على نعيم الآخرة، ولأن الله لا يوفق القوم الذين يجحدون آياته مع إصرارهم على جحودها.
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) }
يقول تعالى ذكره: هؤلاء المشركون الذين وصفت لكم صفتهم في هذه الآيات أيها الناس، هم القوم الذين طبع الله على قلوبهم، فختم عليها بطابعه،(17/305)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصمّ أسماعهم فلا يسمعون داعي الله إلى الهدى، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر ومتعظ (وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) يقول: وهؤلاء الذين جعل الله فيهم هذه الأفعال هم الساهون، عما أعدّ الله لأمثالهم من أهل الكفر وعما يراد بهم.
وقوله (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الهالكون، الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من كرامة الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) }
يقول تعالى ذكره: ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم، من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم، ومما يعبدون من دون الله، وصبروا على جهادهم (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول: إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور، يقول: لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم، وهم لغيرها مضمرون، وللإيمان معتقدون، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إلى الله وتوبتهم.
وذكر عن بعض أهل التأويل أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تخلَّفوا بمكة بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاشتدّ المشركون عليهم حتى فتنوهم عن دينهم، فأيسوا من التوبة، فأنزل الله فيهم هذه الآية: فهاجروا ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ) قال ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب(17/306)
النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، أن هاجروا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة، فأدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم وكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية.
حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
قال ابن جريج: قال الله تعالى ذكره: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) ثم نسخ واستثنى، فقال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ذكر لنا أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يُقبل منهم إسلام حتى يهاجروا، كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة؛ فلما جاءهم ذلك تبايعوا بينهم على أن يخرجوا، فإن لحق بهم المشركون، من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قُتِل، ومنهم من نجا، فأنزل الله تعالى (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا) ... الآية.
حدثنا أحمد بن منصور، قال ثنا أبو أحمد الزبيري، قال ثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، وقُتِل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) ... إلى آخر الآية؛ قال: وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الآية لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) ... إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كلّ خير، ثم نزلت فيهم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فكتبوا إليهم(17/307)
بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم، ثم نجا من نجا، وقُتِل من قُتِل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: نزلت هذه الآية في عمَّار ابن ياسر وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا) .
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في شأن ابن أبي سرح.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري، قالا في سورة النحل (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ثم نسخ واستثنى من ذلك، فقال (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزلَّه الشيطان، فلحق بالكفار، فأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُقتل يوم فتح مكة، فاستجار له أبو عمرو (1) فأجاره النبيّ صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أبو عمرو: يريد عثمان بن عفان رحمه الله، وكان أخا عبد الله بن سعد من الرضاعة، قاله ابن إسحاق في السيرة.(17/308)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) }
يقول تعالى ذكره: إن ربك من بعدها لغفور رحيم (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) تخاصم عن نفسها، وتحتجّ عنها بما أسلفت في الدنيا من خير أو شرّ أو إيمان أو كفر، (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ) في الدنيا من طاعة ومعصية (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) : يقول: وهم لا يفعل بهم إلا ما يستحقونه ويستوجبونه بما قدّموه من خير أو شرّ، فلا يجزى المحسن إلا بالإحسان ولا المسيء إلا بالذي أسلف(17/308)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
من الإساءة، لا يعاقب محسن ولا يبخس جزاء إحسانه، ولا يثاب مسيء إلا ثواب عمله.
واختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله قيل تجادل، فأنَّث الكلّ، فقال بعض نحويِّي البصرة: قيل ذلك لأن معنى كلّ نفس: كلّ إنسان، وأنث لأن النفس تذكر وتؤنث، يقال: ما جاءني نفس واحد وواحدة. وكان بعض أهل العربية يرى هذا القول من قائله غلطا ويقول: كلّ إذا أضيفت إلى نكرة واحدة خرج الفعل على قدر النكرة، كلّ امرأة قائمة، وكل رجل قائم، وكل امرأتين قائمتان، وكل رجلين قائمان، وكل نساء قائمات، وكل رجال قائمون، فيخرج على عدد النكرة وتأنيثها وتذكيرها، ولا حاجة به إلى تأنيث النفس وتذكيرها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) }
يقول الله تعالى ذكره: ومثل الله مثلا لمكة التي سكنها أهل الشرك بالله هي القرية التي كانت آمنة مطمئنة، وكان أمنها أن العرب كانت تتعادى، ويقتل بعضها بعضا، ويَسْبي بعضها بعضا، وأهل مكة لا يغار عليهم، ولا يحارَبون في بلدهم، فذلك كان أمنها. وقوله (مُطْمَئِنَّةً) يعني: قارّة بأهلها، لا يحتاج أهلها إلى النَّجْع، كما كان سكان البوادي يحتاجون إليها (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا) يقول: يأتي أهلها معايشهم واسعة كثيرة. وقوله (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) يعني: من كلّ فجّ من فِجاج هذه القرية، ومن كلّ ناحية فيها.
وبنحو الذي قلنا في أن القرية التي ذُكِرت في هذا الموضع أريد بها مكة، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَضَرَبَ(17/309)
اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) يعني: مكة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) قال: مكة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد. مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) قال: ذّكر لنا أنها مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة (قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً) قال: هي مكة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) ... إلى آخر الآية. قال: هذه مكة.
وقال آخرون: بل القرية التي ذكر الله في هذا الموضع مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: ثني عبد الرحمن بن شريح، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرميّ، حدث أنه سمع مِشْرَح بن عاهانَ، يقول: سمعت سليم بن نمير يقول: صدرنا من الحجّ مع حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعثمان محصور بالمدينة، فكانت تسأل عنه ما فعل، حتى رأت راكبين، فأرسلت إليهما تسألهما، فقالا قُتِل فقالت حفصة: والذي نفسي بيده إنها القرية، تعني المدينة التي قال الله تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) قرأها، قال أبو شريح: وأخبرني عبد الله بن المغيرة عمن حدثه، أنه كان يقول: إنها المدينة، وقوله: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) يقول: فكفر أهل هذه القرية بأنعم الله التي أنعم عليها.(17/310)
واختلف أهل العربية في واحد الأنعم، فقال بعض نحويِّي البصرة: جمع النعمة على أنعم، كما قال الله (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) فزعم أنه جمع الشِّدّة. وقال آخر منهم الواحد نُعْم، وقال: يقال: أيام طُعْم ونعم: أي نعيم، قال: فيجوز أن يكون معناها: فكفرت بنعيم الله لها. واستشهد على ذلك بقول الشاعر:
وعندي قُرُوضُ الخَيرِ والشَّرّ كلِّه ... فبُؤْسٌ لِذي بُؤْسٍ ونُعْمٍ بأنْعُمِ (1)
وكان بعض أهل الكوفة يقول: أنعم: جمع نعماء، مثل بأساء وأبؤس، وضرّاء وأضرّ؛ فأما الأشدّ فإنه زعم أنه جمع شَدّ.
وقوله (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) يقول تعالى ذكره: فأذاق الله أهل هذه القرية لباس الجوع، وذلك جوع خالط أذاه أجسامهم، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لمخالطته أجسامهم بمنزلة اللباس لها. وذلك أنهم سلط عليهم الجوع سنين متوالية بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أكلوا العلهز والجِيَف. قال أبو جعفر: والعلهز: الوبر يعجن بالدم والقُراد يأكلونه؛ وأما الخوف فإن ذلك كان خوفهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت تطيف بهم. وقوله (بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) يقول: بما كانوا يصنعون من الكفر بأنعم الله، ويجحدون آياته، ويكذّبون رسوله، وقال: بما كانوا يصنعون، وقد جرى الكلام من ابتداء الآية إلى هذا الموضع على وجه الخبر عن القرية، لأن الخبر وإن كان جرى في الكلام عن القرية، استغناء بذكرها عن ذكر أهلها لمعرفة السامعين بالمراد منها، فإن المراد أهلها فلذلك قيل (بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) فردّ الخبر إلى أهل القرية، وذلك نظير قوله (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) ولم يقل قائلة، وقد قال قبله (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) ، لأنه رجع بالخبر إلى الإخبار عن أهل القرية، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة.
__________
(1) في مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 369) عند الآية: واحدها "نعم" بضم النون وسكون العين، ومعناه: نعمة، وهما واحد. قالوا: نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم بمنى "إنها أيام طعم ونعم، فلا تصوموا". وفي "اللسان: نعم" وجمع النعمة: نعم، وأنعم. كشدة وأشد حكاه سيبويه. وقال النابغة: فَلَنْ أذْكُر النُّعْمَانَ إلاَّ بِصَالِحٍ ... فإنَّ لَهُ عِنْدِي يُدِيًّا وأنْعُما
والنعم: خلاف البؤس، ويقال: يوم نعم، ويوم بؤس. والجمع: أنعم، وأبؤس.(17/311)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) }
يقول تعالى ذكره: ولقد جاء أهل هذه القرية التي وصف الله صفتها في هذه الآية التي قبل هذه الآية (رَسُولٌ مِنْهُمْ) يقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، يقول: من أنفسهم يعرفونه، ويعرفون نسبه وصدق لهجته، يدعوهم إلى الحقّ، وإلى طريق مستقيم (فَكَذَّبُوهُ) ولم يقبلوا ما جاءهم به من عند الله (فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ) وذلك لباس الجوع والخوف مكان الأمن والطمأنينة والرزق الواسع الذي كان قبل ذلك يرزقونه، وقتل بالسيف (وَهُمْ ظَالِمُونَ) يقول: وهم مشركون، وذلك أنه قتل عظماؤهم يوم بدر بالسيف على الشرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) إي والله، يعرفون نسبه وأمره، (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) ، فأخذهم الله بالجوع والخوف والقتل.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) }
يقول تعالى ذكره: فكلوا أيها الناس مما رزقكم الله من بهائم الأنعام التي أحلها لكم حلالا طيبا مُذَكَّاة غير محرّمة عليكم (وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) يقول: واشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليكم في تحليله ما أحلّ لكم من ذلك، وعلى غير ذلك من نعمه (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) يقول: إن كنتم تعبدون الله، فتطيعونه فيما يأمركم وينهاكم. وكان بعضهم يقول: إنما عنى بقوله (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا) طعامًا كان بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من قومه في سِنِي الجدب والقحط رقة عليهم، فقال الله تعالى للمشركين: فكلوا مما رزقكم الله من هذا الذي بعث به إليكم حلالا طيبا، وذلك تأويل بعيد مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن الله تعالى قد أتبع ذلك(17/312)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
بقوله: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) ... الآية والتي بعدها، فبين بذلك أن قوله (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا) إعلام من الله عباده أن ما كان المشركون يحرّمونه من البحائر والسوائب والوصائل، وغير ذلك مما قد بيَّنا قبل فيما مضى لا معنى له، إذ كان ذلك من خطوات الشيطان، فإن كلّ ذلك حلال لم يحرم الله منه شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) }
يقول تعالى ذكره مكذّبًا المشركين الذين كانوا يحرّمون ما ذكرنا من البحائر وغير ذلك: ما حرّم الله عليكم أيها الناس إلا الميتة والدم ولحم الخنزير، وما ذبح للأنصاب، فسمي عليه غير الله، لأن ذلك من ذبائح من لا يحلّ أكل ذبيحته، فمن اضطرّ إلى ذلك أو إلى شيء منه لمجاعة حلَّت فأكله (غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول: ذو ستر عليه أن يؤاخذه بأكله ذلك في حال الضرورة، رحيم به أن يعاقبه عليه.
وقد بيَّنا اختلاف المختلفين في قوله (غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ) والصواب عندنا من القول في ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) ... الآية قال: وإن الإسلام دين يطهره الله من كلّ سوء، وجعل لك فيه يا ابن آدم سعة إذا اضطرت إلى شيء من ذلك. قوله (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ) غير باغ في أكله ولا عاد أن يتعدّى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة.
القول في تأويل قوله تعالى(17/313)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) فتكون تصف الكذب، بمعنى: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب، فتكون "ما" بمعنى المصدر. وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبِ) هذا بخفض الكذب، بمعنى: ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم (هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) فيجعل الكذب ترجمة عن "ما" التي في لمَا، فتخفضه بما تخفض به "ما". وقد حُكي عن بعضهم: (لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكُذُبُ) يرفع الكُذُب، فيجعل الكُذُب من صفة الألسنة، ويخرج على فُعُل على أنه جمع كُذُوب وكذب، مثل شُكُور وشُكُر.
والصواب عندي من القراءة في ذلك نصب الكَذِب لإجماع الحجة من القرّاء عليه، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك لما ذكرنا: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذبَ فيما رزق الله عباده من المطاعم: هذا حلال، وهذا حرام، كي تفتروا على الله بقيلكم ذلك الكذبَ، فإن الله لم يحرم من ذلك ما تُحرِّمون، ولا أحلّ كثيًرا مما تُحِلون، ثم تقدّم إليهم بالوعيد على كذبهم عليه، فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) يقول: إن الذين يتخرّصون على الله الكذب ويختلقونه، لا يخلَّدون في الدنيا، ولا يبقون فيها، إنما يتمتعون فيها قليلا. وقال (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) فرفع، لأن المعنى الذي هم فيه من هذه الدنيا متاع قليل، أو لهم متاع قليل في الدنيا. وقوله (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: ثم إلينا مرجعهم ومعادهم، ولهم على كذبهم وافترائهم على الله بما كانوا يفترون عذاب عند مصيرهم إليه أليم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا(17/314)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى (لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) في البحيرة والسائبة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: البحائر والسوائب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) }
يقول تعالى ذكره: وحرّمنا من قبلك يا محمد على اليهود، ما أنبأناك به من قبل في سورة الأنعام، وذاك كلّ ذي ظفر، ومن البقر والغنم، حرمنا عليهم شحومهما، إلا ما حملت ظُهورهما أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ) بتحريمنا ذلك عليهم (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فجزيناهم ذلك ببغيهم على ربهم، وظُلمِهم أنفسهم بمعصية الله، فأورثهم ذلك عقوبة الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبى رجاء، عن الحسن، في قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) قال: في سورة الأنعام.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أيوب، عن عكرمة، في قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) قال في سورة الأنعام.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) قال: ما قصّ الله تعالى في سورة الأنعام حيث يقول (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ... الآية.(17/315)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) }(17/315)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
يقول تعالى ذكره: إن ربك للذين عصوا الله فجهلوا بركوبهم ما ركبوا من معصية الله، وسَفُهوا بذلك ثم راجعوا طاعة الله والندم عليها، والاستغفار والتوبة منها، من بعد ما سلف منهم ما سلف من ركوب المعصية، وأصلح فعمل بما يحبّ الله ويرضاه (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا) يقول: إن ربك يا محمد من بعد توبتهم له (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) }
يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم خليل الله كان مُعَلِّم خَيْر، يأتمّ به أهل الهدى قانتا، يقول: مطيعًا لله حنيفا: يقول: مستقيما على دين الإسلام (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يقول: ولم يك يُشرك بالله شيئا، فيكون من أولياء أهل الشرك به، وهذا إعلام من الله تعالى أهل الشرك به من قريش أن إبراهيم منهم بريء وأنهم منه برآء (شَاكِرًا لأنْعُمِهِ) يقول: كان يخلص الشكر لله فيما أنعم عليه، ولا يجعل معه في شكره في نعمه عليه شريكا من الآلهة والأنداد وغير ذلك، كما يفعل مشركو قريش (اجْتَبَاهُ) يقول: اصطفاه واختاره لخُلته (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: وأرشده إلى الطريق المستقيم، وذلك دين الإسلام لا اليهودية ولا النصرانية.
وبنحو الذي قلنا في معنى (أُمَّةً قَانِتًا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني زكريا بن يحيى، قال: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العُبَيدين، أنه جاء إلى عبد الله فقال: من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأنّ ابن مسعود رقّ له، فقال: أخبرني عن الأمَّة، قال: الذي يُعلَّم الناس الخير.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العُبَيدين أنه سأل عبد الله بن مسعود، عن(17/316)
الأمَّة القانت، قال: الأمَّة: معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن منصور، يعني ابن عبد الرحمن، عن الشعبي، قال: ثني فروة بن نوفل الأشجعي، قال: قال ابن مسعود: إن معاذا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا، فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن، إنما قال الله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ) فقال: تدري ما الأمَّة، وما القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمَّة: الذي يعلم الخير، والقانت: المطيع لله ولرسوله، وكذلك كان مُعاذ بن جبل يعلم الخير، وكان مطيعًا لله ولرسوله.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت فراسا يحدّث، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: إن مُعاذا كان أُمَّة قانتًا لله، قال: فقال رجل من أشجع يُقال له فروة بن نوفل: نسي إنما ذاك إبراهيم، قال: فقال عبد الله: من نسي إنما كنا نشبهه بإبراهيم، قال: وسُئِل عبد الله عن الأمَّة، فقال: معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن فراس، عن الشعبيّ، عن مسروق قال: قرأت عند عبد الله هذه الآية (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ) فقال: كان معاذ أُمَّةً قانتًا، قال: هل تدري ما الأمَّة، الأمَّة الذي يعلم الناس الخير، والقانت: الذي يطيع الله ورسوله.
حدثنا أبو هشام الرفاعيّ، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا بيان بن بشر البَجَلي، عن الشعبيّ، قال: قال عبد الله: إن معاذا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين، فقال له رجل: نسيت، قال: لا ولكنه شبيه إبراهيم، والأمَّة: معلِّم الخير، والقانت: المطيع.
حدثني عليّ بن سعيد الكندي، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن عون، عن الشعبيّ، في قوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) قال: مطيعا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، قال: قال عبد الله: إن معاذا(17/317)
كان أُمَّة قانتا معلِّم الخير.
وذُكر في الأمَّة أشياء مختلف فيها، قال (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) يعني: بعد حين و (أُمَّةً وَسَطًا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن سعيد بن سابق، عن ليث، عن شَهْر بن حَوْشَب، قال: لم تبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض وتخرج بركتها، إلا زمن إبراهيم فإنه كان وحده.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا سيار، عن الشعبيّ، قال: وأخبرنا زكريا ومجالد، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن ابن مسعود، نحو حديث يعقوب، عن ابن عُلَية وزاد فيه: الأمَّة: الذي يعلم الخير ويُؤْتمّ به، ويقتدى به؛ والقانت: المطيع لله وللرسول، قال له أبو فروة الكندي: إنك وهمت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) على حدة (قَانِتًا لِلَّهِ) قال: مطيعا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: مطيعًا لله في الدنيا.
قال ابن جريج: وأخبرني عويمر، عن سعيد بن جبير، أنه قال: قانتًا: مطيعًا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ) قال: كان إمام هُدًى مطيعًا تُتَّبع سُنَّته ومِلَّته.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة، أن ابن مسعود قال: إن مُعاذ بن جَبَلْ كان أُمَّةً قانتا، قال غير قتادة: قال ابن مسعود: هل تدرون: ما الأمَّة؟ الذي يعلم الخير.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن فراس، عن الشعبيّ، عن مسروق، قال: قرأت عند عبد الله بن مسعود (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا) فقال: إن معاذا كان أُمَّةً قانتا، قال: فأعادوا، فأعاد عليهم، ثم قال: أتدرون ما الأمَّة؟ الذي يعلم الناس الخير، والقانت: الذي(17/318)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
يطيع الله.
وقد بيَّنا معنى الأمَّة ووجوهها، ومعنى القانت باختلاف المختلفين فيه في غير هذا الموضع من كتابنا بشواهده، فأغنى بذلك عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) }
يقول تعالى ذكره: وآتينا إبراهيم على قنوته لله، وشكره له على نعمه، وإخلاصه العبادة له في هذه الدنيا ذكرًا حسنا، وثناءً جميلا باقيا على الأيام (وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) يقول: وإنه في الدار الآخرة يوم القيامة لممن صلح أمره وشأنه عند الله، وحَسُنت فيها منزلته وكرامته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) قال: لسان صدق.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) فليس من أهل دين إلا يتولاه ويرضاه.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم أوحينا إليك(17/319)
يا محمد وقلنا لك: اتبع ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة (حَنِيفًا) يقول: مسلما على الدين الذي كان عليه إبراهيم، بريئًا من الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك، كما كان إبراهيم تبرأ منها.
وقوله (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) يقول تعالى ذكره: ما فرض الله أيها الناس تعظيم يوم السبت إلا على الذين اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو أعظم الأيام، لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة، ثم سَبَتَ يوم السبت.
وقال آخرون: بل أعظم الأيام يوم الأحد، لأنه اليوم الذي ابتدأ فيه خلق الأشياء، فاختاروه وتركوا تعظيم يوم الجمعة الذي فَرَض الله عليهم تعظيمه واستحلوه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) اتبعوه وتركوا الجمعة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ) قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا، فأخذوا السبت مكانه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) استحله بعضهم، وحرّمه بعضهم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يُمان، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك وسعيد بن جُبير (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) قال: باستحلالهم يوم السبت.
حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) قال: كانوا يطلبون يوم الجمعة(17/320)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
فأخطئوه، وأخذوا يوم السبت فجعله عليهم.
وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد ليحكم بين هؤلاء المختلفين بينهم في استحلال السبت وتحريمه عند مصيرهم إليه يوم القيامة، فيقضي بينهم في ذلك وفي غيره مما كانوا فيه يختلفون في الدنيا بالحق، ويفصل بالعدل بمجازاة المصيب فيه جزاءه والمخطئ فيه منهم ما هو أهله.
القول في تأويل قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (ادْعُ) يا محمد من أرسلك إليه ربك بالدعاء إلى طاعته (إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ) يقول: إلى شريعة ربك التي شرعها لخلقه، وهو الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) يقول بوحي الله الذي يوحيه إليك وكتابه الذي ينزله عليك (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) يقول: وبالعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه، وذكّرهم بها في تنزيله، كالتي عدّد عليهم في هذه السورة من حججه، وذكّرهم فيها ما ذكرهم من آلائه (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يقول: وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أعرض عن أذاهم إياك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،(17/321)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
عن مجاهد، مثله.
وقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد هو أعلم بمن جار عن قصد السبيل من المختلفين في السبت وغيره من خلقه، وحادّ الله، وهو أعلم بمن كان منهم سالكا قصد السبيل ومَحَجة الحقّ، وهو مُجازٍ جميعهم جزاءهم عند ورودهم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة، ولئن صبرتم عن عقوبته، واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم، ووكلتم أمره إليه، حتى يكون هو المتولى عقوبته (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) يقول: للصبر عن عقوبته بذلك خير لأهل الصبر احتسابا، وابتغاء ثواب الله، لأن الله يعوّضه مِنَ الذي أراد أن يناله بانتقامه من ظالمه على ظلمه إياه من لذّة الانتصار، وهو من قوله (لَهُوَ) كناية عن الصبر، وحسن ذلك، وإن لم يكن ذكر قبل ذلك الصبر لدلالة قوله: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) عليه.
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية. وقيل: هي منسوخة أو محكمة، فقال بعضهم: نزلت من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقسموا حين فعل المُشركون يوم أُحد ما فعلوا بقتلى المسلمين من التمثيل بهم أن يجاوزوا فعلهم في المُثْلة بهم إن رزقوا الظفر عليهم يومًا، فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية وأمرهم أن يقتصروا في التمثيل بهم إن هم ظفروا على مثل الذي كان منهم، ثم أمرهم بعد ذلك بترك التمثيل، وإيثار الصبر عنه بقوله (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ) فنسخ بذلك عندهم ما كان أذن لهم فيه من المُثلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر،(17/322)
قال: سمعت داود، عن عامر: أن المسلمين قالوا لما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد: لئن ظهرنا عليهم لنفعلنّ ولنفعلنّ، فأنزل الله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) قالوا: بل نصبر.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر، قال: لما رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد، من تبقير البطون، وقطع المذاكير، والمُثلة السيئة، قالوا: لئن أظفرنا الله بهم، لنفعلنّ ولنفعلنّ، فأنزل الله فيهم (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة، وهي مكية، إلا ثلاث آيات في آخرها نزلت في المدينة بعد أُحد، حيث قُتِل حمزة ومُثِّل بِه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَئِنْ ظَهَرْنا عَلَيْهمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ رَجُلا مِنْهُمْ " فلما سمع المسلمون بذلك، قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلنّ بهم مُثْلة لم يمثِّلْها أحد من العرب بأحد قطُّ فأنزل الله (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ... إلى آخر السورة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) قال المسلمون يوم أُحد (1) فقال (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) ... إلى قوله: (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ثم قال بعد (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما أصيب في أهل أُحد المُثَل، فقال: المسلمون: لئن أصبناهم لنمثلنّ بهم، فقال الله: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ثم عزم وأخبر فلا يمثل، فنهي عن المُثَل، قال: مثَّل الكفار بقتلى أُحد، إلا حنظلة بن الراهب، كان الراهب أبو عامر مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك.
__________
(1) أي مقالهم السابق: لئن ظهرنا ... الخ.(17/323)
وقال آخرون: نسخ ذلك بقوله في براءة: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) قالوا: وإنما قال: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) خبرًا من الله للمؤمنين أن لا يبدءوهم بقتال حتى يبدءوهم به، فقال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) قال: هذا خبر من الله نبيه أن يُقاتل من قاتله. قال: ثم نزلت براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم، قال: فهذا من المنسوخ.
وقال آخرون: بل عنى الله تعالى بقوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ) نبيّ الله خاصة دون سائر أصحابه، فكان الأمر بالصبر له عزيمة من الله دونهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) قال: أمرهم الله أن يعفوا عن المشركين، فأسلم رجال لهم منعة، فقالوا: يا رسول الله، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب، فنزل القرآن (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) واصبر أنت يا محمد، ولا تكن في ضيق ممن ينتصر، وما صبرك إلا بالله، ثم نسخ هذا وأمره بجهادهم، فهذا كله منسوخ.
وقال آخرون: لم يُعْنَ بهاتين الآيتين شيء مما ذكر هؤلاء، وإنما عُنِيَ بهما أن من ظُلِم بظُلامة، فلا يحلّ له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه، وقالوا: الآية محكمة غير منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خالد، عن ابن سيرين (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) يقول: إن أخذ منك رجل شيئا، فخذ منه مثله.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: إن أخذ منك شيئا فخذ منه مثله. قال الحسن: قال عبد الرزاق: قال سفيان: ويقولون: إن أخذ منك دينارًا فلا تأخذ منه(17/324)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
إلا دينارًا، وإن أخذ منك شيئا فلا تأخذ منه إلا مثل ذلك الشيء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) لا تعتدوا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عوقب به، إن اختار عقوبته، وأعلمه أن الصبر على ترك عقوبته، على ما كان منه إليه خير وعزم على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر، وذلك أن ذلك هو ظاهر التنزيل، والتأويلات التي ذكرناها عمن ذكروها عنه، محتملها الآية كلها. فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أيّ ذلك عنى بها من خبر ولا عقل كان الواجب علينا (1) الحكم بها إلى ناطق لا دلالة عليه؛ وأن يقال: هي آية محكمة أمر الله تعالى ذكره عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قِبَل غيرهم من حقّ من مال أو نفس، الحقّ الذي جعله الله لهم إلى غيره، وأنها غير منسوخة، إذ كان لا دلالة على نسخها، وأن للقول بأنها محكمة وجهًا صحيحًا مفهوما.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واصبر يا محمد على ما أصابك من أذى في الله. (وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ) يقول: وما صبرك إن صبرت إلا بمعونة الله، وتوفيقه إياك لذلك (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يقول: ولا تحزن على هؤلاء المشركين الذين يكذّبونك وينكرون ما جئتهم به في آن ولوا عنك وأعرضوا عما أتيتهم به من النصيحة (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) يقول: ولا يضق صدرك بما يقولون من الجهل، ونسبتهم ما جئتهم به إلى أنه سحر أو
__________
(1) لعله كان الواجب علينا تعميم الحكم بها، لا تأويلها إلى خاص لا دلالة عليه ... الخ.(17/325)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
شعر أو كهانة، مما يمكرون: مما يحتالون بالخدع في الصّد عن سبيل الله، من أراد الإيمان بك، والتصديق بما أنزل الله إليك.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء العراق (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) بفتح الضَّاد في الضيق على المعنى الذي وصفت من تأويله. وقرأه بعض قرّاء أهل المدينة (وَلا تَكُ فِي ضِيقٍ) بكسر الضاد.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه في ضَيْقٍ، بفتح الضاد، لأن الله تعالى إنما نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يَضيق صدره مما يلقى من أذى المشركين على تبليغه إياهم وحي الله وتنزيله، فقال له (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ) وقال: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) ، وإذ كان ذلك هو الذي نهاه تعالى ذكره، ففتح الضاد هو الكلام المعروف من كلام العرب في ذلك المعنى، تقول العرب: في صدري من هذا الأمر ضيق، وإنما تكسر الضاد في الشيء المعاش، وضيق المسكن، ونحو ذلك؛ فإن وقع الضَّيق بفتح الضاد في موضع الضِّيق بالكسر. كان على الذي يتسع أحيانا، ويضيق من قلة أحد وجهين، إما على جمع الضيقة، كما قال أعشى بني ثعلبة:
فَلَئِنْ رَبُّكَ مِنْ رَحْمَتِهِ ... كَشَف الضَّيْقَةَ عَنَّا وَفسَحْ (1)
والآخر على تخفيف الشيء الضَّيِّق، كما يخفف الهيِّن اللَّيِّن، فيقال: هو هَيْن لَيْن.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) }
__________
(1) البيت في ديوان أعشى بني ثعلبة ميمون بن قيس (طبع القاهرة ص 237) من قصيدة يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي، وهو الرابع في القصيدة. وفي (اللسان: ضيق) : الضيق: الشك يكون في القلب من قوله تعالى: (ولا تك في ضيق مما يمكرون) : وقال الفراء: الضيق ما ضاق عنه صدرك. والضيق (بالكسر) ما يكون في الذي يتسع ويضيق، مثل الدار والثوب. وإذا رأيت الضيق (بالفتح) قد وقع في موضع الضيق (بالكسر) كان على أحد أمرين: أحدهما أن يكون جمعا للضيقة كما قال الأعشى: فلئن ربك ... الخ البيت. والوجه الآخر: أن يراد به شيء ضيق، فيكون ضيق مخففا، وأصله التشديد، ومثله: هين ولين.(17/326)
يقول تعالى ذكره (إِنَّ اللَّهَ) يا محمد (مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الله في محارمه فاجتنبوها، وخافوا عقابه عليها، فأحجموا عن التقدّم عليها (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) يقول: وهو مع الذين يحسنون رعاية فرائضه، والقيام بحقوقه، ولزوم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) قال: اتقوا الله فيما حرّم عليهم، وأحسنوا فيما افترض عليهم.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن الحسن، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن هَرِم بن حَيان العَبْدِي لما حضره الموت، قيل له: أوص، قال: ما أدري ما أُوصي، ولكن بيعوا درعي، فاقضوا عني ديني، فإن لم تف، فبيعوا فرسي، فإن لم يف فبيعوا غلامي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال بَلْ نَصْبرُ".
آخر سورة النحل(17/327)
* * *(17/328)
تفسير سورة الإسراء
بسم الله الرحمن الرحيم(17/328)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) }
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: يعني تعالى ذكره بقوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا) تنزيها للذي أسرى بعبده وتبرئة له مما يقول فيه المشركون من أنَّ له من خلقه شريكا: وأن له صاحبة وولدا، وعلوّا له وتعظيما عما أضافوه إليه، ونسبوه من جهالاتهم وخطأ أقوالهم.
وقد بيَّنت فيما مضى قبل، أن قوله: سبحان: اسم وُضع موضع المصدر، فنصب لوقوعه موقعه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد كان بعضهم يقول: نصب لأنه غير موصوف، وللعرب في التسبيح أماكن تستعمله فيها، فمنها الصلاة، كان كثير من أهل التأويل يتأوّلون قول الله (فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ) : فلولا أنه كان من المصلين. ومنها الاستثناء، كان بعضهم يتأول قول الله تعالى (ألَمْ أقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) : لولا تستثنون، وزعم أن ذلك لغة لبعض أهل اليمن، ويستشهد لصحة تأويله ذلك بقوله (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ) (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) فذكرهم تركهم الاستثناء. ومنها النور، وكان بعضهم يتأوّل في الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لَولا ذلكَ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما أدْرَكَتْ مِنْ شَيْء" أنه عنى بقوله سبحات وجهه: نور وجهه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،(17/329)
قال: أخبرنا الثوريّ، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه سُئل عن التسبيح أن يقول الإنسان: سُبْحان الله، قال: "إنزاهُ الله عَنِ السُّوءِ".
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن الحسن بن صالح، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: سبحان الله: قال: إنكاف لله. وقد ذكرنا من الآثار في ذلك ما فيه الكفاية فيما مضى من كتابنا هذا قبل. والإسراء والسُّرى: سير الليل. فمن قال: أسَرْى، قال: يُسري إسراء؛ ومن قال: سرى، قال: يَسري سرى، كما قاله الشاعر:
ولَيْلَةٍ ذَاتِ دُجىً سَرَبْتُ ... ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُواها لَيْتُ (1)
ويروى: ذات ندى سَريْت.
ويعني بقوله (لَيْلا) من الليل. وكذلك كان حُذيفة بن اليمان يقرؤها.
حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش ورجل يحدّث عنده بحديث حين أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تجيء بمثل عاصم ولا زر، قال: قرأ حُذيفة: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللَّيْلِ مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَام إلى المَسْجِدِ الأقْصَى) وكذا قرأ عبد الله.
وأما قوله (مِنَ المَسْجِدِ الحَرَام) فإنه اختُلف فيه وفي معناه، فقال بعضهم: يعني من الحرم، وقال: الحرم كله مسجد. وقد بيَّنا ذلك في غير
__________
(1) البيتان في (اللسان: ليت) شاهدا على أنه لاته عن وجهه يليته ويلوته ليتا: حبسه عن وجهه وصرفه قال الراجز: "وليلة ذات سرى سريت".... إلخ. وقيل معنى هذا: لم يلتني عن سراها أن أتندم فأقول: ليتني ما سريتها. وقيل معناه: لم يصرفني عن سراها صارف، أي لم يلتني لائت، فوضع المصدر موضع الاسم. وفي التهذيب: أن لم يلتني عنها نقص ولا عجز. وكذلك ألاته عن وجهه: فعل وأفعل: بمعنى. أهـ. و (في اللسان: سرى) السرى: سير الليل: عامته، وقيل السرى: سير الليل كله، تذكره العرب وتؤنثه. وسريت سرى ومسرى، وأسريت: بمعنى: إذا سرت ليلا. بالألف: لغة أهل الحجاز. وجاء القرآن العزيز بهما جميعا. أهـ. وعلى هذا استشهد المؤلف بالبيت. وقال السهيلي في الروض الأنف (1: 243) اتفقت الرواة على تسميته إسراء، ولم يسمه أحد منهم سرى، وإن كان أهل اللغة قد قالوا: سرى، وأسرى بمعنى واحد، فدل على أن أهل اللغة لم يحققوا في العبارة.. إلى أن قال: لا يجوز أن يقال: سرى بعبده، بوجه من الوجوه؛ فلذلك لم تأت التلاوة إلا بوجه واحد في هذه القصة. أهـ.(17/330)
موضع من كتابنا هذا. وقال: وقد ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ليلة أُسري به إلى المسجد الأقصى كان نائما في بيت أمّ هانئ ابنة أبي طالب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن السائب، عن أبي صالح بن باذام عن أمّ هانئ بنت أبي طالب، في مسرى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنها كانت تقول: ما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قُبيل الفجر، أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: "يا أمّ هانِئٍ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمْ العِشاءَ الآخِرَةَ كَمَا رأيْت بِهَذَا الوَادِي، ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاةَ الغدَاةِ مَعَكُمُ الآنَ كَمَا تَرينَ".
وقال آخرون: بل أُسري به من المسجد، وفيه كان حين أسري به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر بن عدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن(17/331)
أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة، وهو رجل من قومه قال: قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنا أَنا عِنْدَ البَيْتِ بينَ النَّائِم واليَقْظَانِ، إِذْ سَمعْتُ قائلا يَقُولُ أَحَدُ الثلاثَةِ، فأتيت بطسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ ماءِ زَمْزَمَ، فَشَرَحَ صَدْرِي إلى كَذَا وكَذَا، قال قتادة: قلت: ما يعني به؟ قال: إلى أسفل بطنه؛ قال: فاسْتَخْرَجَ قَلْبِي فَغُسلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانا وَحِكْمَةً، ثُمَّ أتِيتُ بِدَابَّةٍ أبْيَض"، وفي رواية أخرى: "بِدَابَّة بَيْضَاءُ يُقال لَهُ البُرَاقُ، فَوْقَ الحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ يَقَعُ خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فحُمِلْتُ عَلَيْه ثُمَّ انْطَلَقْنا حتى أتَيْنَا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ بالنَّبِيينَ والمُرْسَلِينَ إماما، ثُمَّ عُرِجَ بِي إلى السَّماءِ الدُّنْيا ".... فذكر الحديث.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا خالد بن الحرث، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك، يعني ابن صعصعة رجل من قومه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رجل من قومه، قال: قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: ثني عمرو بن عبد الرحمن، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنا أنا نائمٌ في الحِجْر جاءَنِي جِبْرِيلُ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئا، فَعُدْتُ لمَضْجَعِي، فجاءَني الثَّانِيةَ فَهَمَزَنِي بقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئا، فَعُدْتُ لمَضْجَعِي، فجاءَني الثَّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَأخَذَ بعَضُدِي فَقُمْتُ مَعَهُ، فَخَرَجَ بِي إلى بابِ المَسْجِدِ، فإذَا دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بينَ الحِمارِ والبَغْلِ، لَهُ فِي فَخِذَيْهِ جنَاحان يَحْفِزُ بِهما رِجْلَيْهِ، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِه، فحَمَلَني عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مَعي، لا يَفُوتُني ولا أفُوتُهُ".
حدثنا الربيع بن سليمان، قال: أخبرنا ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن شريك بن أبي نمر (1) قال: سمعت أنسا يحدثنا عن ليلة المسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أوّلهم: أيهم هو؟ قال: أوسطهم هو خيرهم، فقال أحدهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى جاءوا ليلة أخرى فيما يرى قلبه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم تنام عيناه، ولا ينام قلبه. وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم. فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبرائيل عليه السلام، فشقّ ما بين نحره إلى لبَّته، حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم حتى أنقى جوفه، ثم أُتِيَ بطست من ذهب فيه تور محشوّ إيمانا وحكمة، فحشا به جوفه وصدره
__________
(1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (المطبعة المصرية 2: 210) ذكر البخاري رحمه الله رواية شريك هذه عن أنس في صحيحه وأتى بالحديث مطولا. قال الحافظ عبد الحق رحمه الله في كتابه (الجمع بين الصحيحين) بعد ذكر هذه الرواية: هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس، وقد زاد فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة. وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين، والأئمة المشهورين، كابن شهاب، وثابت البناني وقتادة (يعني عن أنس) فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. وانظر أيضا ما قاله الشهاب الخفاجي في (نسيم الرياض في شرح فاء القاضي عياض 2: 243 - 244، في نقده لرواية شريك بن أبي نمر سندا ومتنا) .(17/332)
ولغاديده (1) ثم أطبقه ثم ركب البراق، فسار حتى أتى به إلى بيت المقدس فصلى فيه بالنَّبيين والمرسلين إماما، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ قال: هذا جبرائيل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بُعث إليه (2) ؟ قال: نعم، قالوا: فمرحبا به وأهلا فيستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله بأهل الأرض حتى يُعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبرائيل: هذا أبوك، فسلَّم عليه، فردّ عليه، فقال: مرحبا بك وأهلا يا بني، فنعم الابن أنت، ثم مضى به إلى السماء الثانية، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها، فقيل: من هذا؟ فقال: جبرائيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم قد أُرسل إليه، فقيل: مرحبا به وأهلا ففُتح لهما؛ فلما صعد فيها فإذا هو بنهرين يجريان، فقال: ما هذان النهران يا جبرائيل؟ قال: هذا النيل والفرات عنصرهما (3) ؛ ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها، فقيل: من هذا؟ قال: جبرائيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بُعث إليه؟ قال: نعم قد بُعث إليه، قيل: مرحبا به وأهلا ففُتح له فإذا هو بنهر عليه قباب وقصور من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، فذهب يشمّ ترابه، فإذا هو مسك أذفر، فقال: يا جبرائيل ما هذا النهر؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك في الآخرة؛ ثم عرج به إلى الرابعة، فقالوا له مثل ذلك؛ ثم عرج به إلى الخامسة، فقالوا له مثل ذلك؛ ثم عرج به إلى السادسة، فقالوا له مثل ذلك؛ ثم عرج به إلى السابعة، فقالوا له مثل ذلك، وكلّ سماء فيها أنبياء قد سماهم أنس، فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلامه الله، فقال موسى: رب لم أظن أن يرفع عليّ أحد، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا باب الجبَّار ربّ العزّة، فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما شاء، وأوحى الله فيما أوحى خمسين صلاة على أمته كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه، فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال: "عهد إليّ خمسين صلاة على أمتي كل يوم وليلة؛ قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك وعنهم، فالتفتّ إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه أن نعم، فعاد به جبرائيل حتى أتى الجبَّار عزّ وجلّ وهو مكانه، فقال: "ربّ خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات؛ ثم رجع إلى موسى عليه السلام فاحتبسه، فلم يزل يردّده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه عند الخمس، فقال: يا محمد قد والله راودتُ بني إسرائيل على أدنى من هذه الخمس، فضعفوا وتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك، كلّ ذلك يلتفت إلى جبرائيل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبرائيل، فرفعه عند الخمس، فقال: يا ربّ إن أمتي ضعاف أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، فخفف عنا، قال الجبَّار جلّ جلاله: يا محمد، قال: لبَيك وسعديك، فقال: إني لا يُبدّل القول لديّ كما كتبت عليك في أمّ الكتاب، ولك بكلّ حسنة عشر أمثالها، وهي خمسون في أمّ الكتاب، وهي خمس عليك؛ فرجع إلى موسى، فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفَّف عني، أعطانا بكلّ حسنة عشر أمثالها، قال: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من هذا فتركوه فارجع فليخفف عنك أيضا، قال: "يا موسى قد والله استحييت من ربي مما أختلف إليه، قال: فاهبط باسم الله، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام والمسجد الحرام هو الذي يتعارفه الناس بينهم إذا ذكروه، وقوله (إلى المَسْجِدِ الأقْصَى) يعني: مسجد بيت المقدس، وقيل له: الأقصى، لأنه أبعد المساجد التي تزار، ويُبتغَى في زيارته الفضل بعد المسجد الحرام. فتأويل الكلام تنزيها لله، وتبرئة له مما نحله المشركون من الإشراك والأنداد والصاحبة، وما يجلّ عنه جلّ جلاله، الذي سار بعبده ليلا من بيته الحرام إلى بيته الأقصى.
__________
(1) في البخاري (باب التوحيد) : فحشا به صدوره ولغاديده، يعني عروق حلقه.
(2) في البخاري (طبعة الحلبي 9: 183) : "وقد بعث". وقد أبقينا رواية المؤلف كما هي، لاختلاف نسخ البخاري في رواية بعض الكلم.
(3) كذا في البخاري أيضا.(17/333)
ثم اختلف أهل العلم في صفة إسراء الله تبارك وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فقال بعضهم: أسرى الله بجسده، فسار به ليلا على البُراق من بيته الحرام إلى بيته الأقصى حتى أتاه، فأراه ما شاء أن يريه من عجائب أمره وعبره وعظيم سُلطانه، فجمعت له به الأنبياء، فصلى بهم هُنالك، وعَرج به إلى السماء حتى صعد به فوق السماوات السبع، وأوحى إليه هنالك ما شاء أن يوحي ثم رجع إلى المسجد الحرام من ليلته، فصلى به صلاة الصبح.
* ذكر من قال ذلك، وذكر بعض الروايات التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيحه.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسري به على البُراق، وهي دابَّة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام، يقع حافرها موضع طرفها، قال: فمرّت بعير من عيرات قريش بواد من تلك الأودية، فنفرت العير، وفيها بعير عليه غرارتان: سوداء، وزرقاء، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيلياء فأتى بقدحين: قدح خمر، وقدح لبن، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدح اللبن، فقال له جبرائيل: هُديت إلى الفطرة، لو أخذت قدح الخمر غوت أمتك. قال ابن شهاب: فأخبرني ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي هناك إبراهيم موسى وعيسى، فنعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "فَأمَّا مُوسَى فَضَرْبٌ رَجْلُ الرأسِ كأنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ، وأمَّا عِيسَى فَرَجْلٌ أحْمَرُ كأنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، فأشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ؛ وأمَّا إبْرَاهِيمُ فأنا أشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ؛ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدث قريشا أنه أُسري به. قال عبد الله: فارتدّ ناس كثير بعد ما أسلموا، قال أبو سلمة: فأتى أبو بكر الصدّيق، فقيل له: هل لك في صاحبك، يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة واحدة، قال أبو بكر: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فأشهد إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أفتشهد أنه جاء الشام في ليلة واحدة؟ قال: إني أصدّقه بأبعد من ذلك، أصدّقه بخبر(17/335)
السماء. قال أبو سلمة: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فَمَثَّلَ الله لي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقتُ أُخْبرُهُم عَنْ آياتِهِ وأنا أنْظُرُ إلَيْهِ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن أنس بن مالك، قال: لما جاء جبرائيل عليه السلام بالبراق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنها ضربت بذنبها، فقال لها جبرائيل: مه يا براق، فوالله إن ركبك مثله، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بعجوز ناء عن الطريق: أي على جنب الطريق.
قال أبو جعفر: ينبغي أن يقال: نائية، ولكن أسقط منها التأنيث.
فقال: "ما هذه يا جبرائيل؟ قال: سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلمّ يا محمد، قال جبرائيل: سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير؛ قال: ثم لقيه خلق من الخلائق، فقال أحدهم: السلام عليك يا أوّل، والسلام عليك يا آخر، والسلام عليك يا حاشر، فقال له جبرائيل: اردد السلام يا محمد، قال: فردّ السلام، ثم لقيه الثاني، فقال له مثل مقالة الأوّلين (1) حتى انتهى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الماء واللبن والخمر، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال له جبرائيل: أصبت يا محمد الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك، ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء، فأمَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة. ثم قال له جبرائيل: أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا إلا بقدر ما بقي من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه، فذاك عدوّ الله إبليس، أراد أن تميل إليه؛ وأما الذين سلَّموا عليك، فذاك إبراهيم وموسى وعيسى".
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، قال: أخبرنا أبو جعفر
__________
(1) نص العبارة في الدر المنثور للسيوطي (4: 139) ثم بقية الثانية، فقال له مثل ذلك، ثم الثالثة كذلك، ولعل في الكلام سقطا.(17/336)
الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي، عن أبي هريرة أو غيره "شكّ أبو جعفر" في قول الله عزّ وجلّ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) قال: جاء جبرائيل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل، فقال جبرائيل لميكائيل: ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه، وأشرح له صدره، قال: فشقّ عن بطنه، فغسله ثلاث مرّات، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم، فشرح صدره، ونزع ما كان فيه من غلّ، وملأه حلما وعلما وإيمانا ويقينا وإسلاما، وختم بين كتفيه بخاتم النبوّة، ثم أتاه بفرس فحمل عليه كلّ خطوة منه منتهى طرفه وأقصى بصره، قال: فسار وسار معه جبرائيل عليه السلام، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا جبْرَائيلُ ما هَذَا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تُضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين؛ ثم أتى على قوم تُرضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: ما هؤلاء يا جبرائِيل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة؛ ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم، ويأكلون الضريع والزقُّوم ورضف جهنم وحجارتها، قال: ما هَؤُلاء يا جَبْرائِيلُ؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدّون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله شيئا، وما الله بظلام للعبيد، ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور، ولحم آخر نيء قذر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيء، ويدَعون النضيج الطَّيب، فقال: ما هَؤُلاء يا جَبْرائِيلُ؟ قال: هذا الرجل من أمتك، تكون عنده المرأة الحلال الطَّيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا، فتأتي رجلا خبيثا، فتبيت معه حتى تصبح؛ قال: ثم أتى على خشبة في الطريق لا يمرّ بها ثوب إلا شقَّته، ولا شيء إلا خرقته، قال: ما هَذَا يا جَبْرائِيلُ؟ قال: هذا مثَل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه. ثم قرأ (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ ... ) الآية. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع ح ملها، وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جَبْرائِيلُ؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يزيد عليها، ويريد أن يحملها، فلا يستطيع ذلك؛ ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: ما هؤلاء يا جَبْرائِيلُ؟ فقال: هؤلاء خطباء أمتك خطباء الفتنة يقولون ما لا يفعلون، ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: ما هَذَا يا جَبْرائِيلُ؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة، ثم يندم عليها، فلا يستطيع أن يردّها، ثم أتى على واد، فوجد ريحا طيبة باردة، وفيه ريح المسك، وسمع صوتا، فقال: يا جَبْرَائِيلُ ما هَذِهِ الرّيحُ الطَّيِّبَةُ البارِدَة وهَذِهِ الرَّائحَةُ الَّتي كَرِيحِ المسْكِ، ومَا هَذَا الصَّوْتُ؟ قال: هذا صوت الجنة تقول: يا ربّ آتني ما وعدتني، فقد كثرت غرفي وإستبرقي وحريري وسندسي وعبقري، ولؤلؤي ومرجاني، وفضتي وذهبي، وأكوابي وصحافي وأباريقي، وفواكهي ونخلي ورماني، ولبني وخمري، فآتني ما وعدتني، فقال: لك كلّ مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي، وعمل صالحا ولم يُشرك بي، ولم يتخذ من دوني أندادا، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكَّل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: قد رضيت؛ ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا، ووجد ريحا منتنة، فقال: وما هَذِهِ الرّيحُ يا جَبْرَائِيلُ ومَا هَذَا الصَّوْتُ؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول: يا ربّ آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي، وسعيري وجحيمي، وضريعي وغسَّاقي، وعذابي وعقابي، وقد بعُد قعري واشتدّ حرّي، فآتني ما وعدتني، قال: لك كلّ مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكلّ خبيث وخبيثة، وكلّ جبَّار لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت؛ قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فنزل فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة؛ فلما قُضيت الصلاة. قالوا: يا جبرائيل من هذا معك؟ قال: محمد، فقالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء؛ قال: ثم لقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم، فقال إبراهيم: الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما، وجعلني أمَّة قانتا لله يؤتمّ بي، وأنقذني من النار، وجعلها عليّ بردا وسلاما؛ ثم إن موسى أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي كلَّمني تكليما، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحقّ وبه يعدلون؛ ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلَّمني الزّبور، وألان لي الحديد، وسخَّر لي الجبال يسبحن والطير، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب؛ ثم إن سليمان أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي سخَّر لي الرياح، وسخَّر لي الشياطين، يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب، وقدور راسيات، وعلَّمني منطق الطير، وآتاني من كلّ شيء فضلا وسخَّر لي جنود الشياطين والإنس والطير، وفضَّلني على كثير من عباده المؤمنين، وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل ملكي ملكا طيبا ليس عليّ فيه حساب؛ ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وجعلني أخلق من الطين هيئة الطير، فأنفخ فيه، فيكون طيرا بإذن الله، وجعلني أبرئ الأكمة والأبرص، وأحيي الموتى بإذن الله، ورفعني وطهرني، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل؛ قال: ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه، فقال: كُلْكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّه، وأنا مُثْنٍ عَلى رَبِّي، فقال: الحَمْدُ لله الذي أرْسَلَنِي رَحْمَةً للعالَمِينَ، وكافةً للناس بَشِيراً ونَذَيرًا، وأَنزلَ عَليَّ الفُرقَانَ فِيه تِبْيانُ كُلّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ أُمَّتِي خَيْرَ أُمةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ، وَجَعَلَ أُمَّتِي وَسَطا، وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الأوَّلوُنَ وَهُمُ الآخِرُونَ، وَشَرَحَ لي صَدْرِي، وَوَضَعَ عني وِزْرِي وَرَفَعَ لي ذِكْرِي، وَجَعَلَني فاتحا خاتِما، قال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد. - قال أبو جعفر: وهو الرازي: خاتم النبوّة، وفاتح بالشفاعة يوم القيامة - ثم أتي إليه بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فاتى بإناء منها فيه ماء، فقيل: اشرب، فشرب منه يسيرا، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن، فقيل له: اشرب، فشرب منه حتى روي، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر، فقيل له: اشرب، فقال: لا أريده قد رويت، فقال له جبرائيل صلى الله عليه وسلم: أما إنها سَتُحَرّم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل، ثم عَرَج به إلى سماء الدنيا، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها، فقيل: من هذا؟ قال: جبرائيل، قيل: ومن معك؟ فقال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه، قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، فدخل فإذا هو برجل تامّ الخلق لم ينقص من خلقه شيء، كما ينقص من خلق الناس، على يمينه باب، يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن، فقلت: يا جَبْرَائيِلُ مَنْ هَذَا الشَّيْخُ التَّامُ الخَلْقِ الَّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، ومَا هَذَانِ البابان؟ قال: هذا أبوك آدم، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر إلى من يدخله من ذرّيته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر إلى من يدخله من ذرّيته بكى وحزن؛ ثم صعد به جبرائيل صلى الله عليه وسلم إلى السماء الثانية فاستفتح، فقيل من هذا؟ قال: جبرائيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد رسول الله، فقالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، قال: فإذا هو بشابين، فقال: يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَانِ الشابَّانِ؟ قال: هذا عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا ابنا الخالة؛ قال: فصعد به إلى السماء الثالثة، فاستفتح، فقالوا: من هذا؟ قال: جبرائيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، قال: فدخل فإذا هو برجل قد فَضَل على الناس كلهم في الحُسن، كما فُضّل القمرُ ليلة البدر على سائر الكواكب، قال: مَنْ هَذَا يا جِبْرَئِيلُ الَّذِي فَضَلَ على النَّاسِ في الحُسْنِ؟ قال: هذا أخوك يوسف؛ ثم صعد به إلى السماء الرابعة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال جبرائيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء؛ قال: فدخل، فإذا هو برجل، قال: مَنْ هَذَا يا جَبْرَائِيلُ؟ قال: هذا إدريس رفعه الله مكانا عليًّا؛ ثم صعد به إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبرائيل، فقالوا: من هذا؟ فقال: جبرائيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء؛ ثم دخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقصّ عليهم، قال: مَنْ هَذَا يا جَبْرَائِيلُ وَمَنْ هَؤُلاء الَّذِينَ حَوْلَهُ؟ قال: هذا هارون المحبب في قومه، وهؤلاء بنو إسرائيل؛ ثم صعد به إلى السماء السادسة، فاستفتح جبرئيل، فقيل له: من هذا؟ قال: جبرئيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، فإذا هو برجل جالس، فجاوزه، فبكى الرجل، فقال: يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا؟ قال: موسى، قال: فَمَا بالُهُ يَبْكي؟ قال: تزعم بنو إسرائيل أني أكرم بنى آدم على الله، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا، وأنا في أخرى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن مع كل نبيّ أمته؛ ثم صَعَد به إلى السماء السابعة، فاستفتح جبرائيل، فقيل: من هذا؟ قال: جبرائيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، قال: فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه، أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم دخلوا نهرا آخر، فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص ألوانهم شيء، فصارت مثل ألوان أصحابهم، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم، فقال: يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا الأشْمَطُ، ثُمَّ مَنْ هَؤُلاء البيضُ وُجُوهُهُمْ، وَمَنْ هَؤُلاء الَّذِينَ في ألْوَانِهِمْ شَيْءٌ، ومَا هَذِهِ الأنهَارُ الَّتي دَخَلُوا، فَجَاءُوا وَقَدْ صَفَتْ ألْوَانُهُم؟ قال: هذا أبوك إبراهيم أوّل من شَمِط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه: فقوم لم يُلْبِسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتابوا، فتاب الله عليهم، وأما الأنهار: فأولها رحمة الله، وثانيها: نعمة الله، والثالث: سقاهم ربهم شرابا طهورا؛ قال: ثم انتهى إلى السِّدرة، فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كلّ أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، وأنهار من عسل مصفَّى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلِّها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة منها مغطية للأمة كلها، قال: فغشيها نور الخلاق عزّ وجلّ، وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة، قال: فكلمه عند ذلك، فقال له: سل، فقال: اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته مُلكا عظيما، وكلمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الجنّ والإنس والشياطين، وسخرت له الرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلَّمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل. فقال له ربه: قد اتخذتك حبيبا وخليلا وهو مكتوب في التوراة: حبيب الله؛ وأرسلتك إلى الناس كافَّة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك أمة وسطا، وجعلت أمتك هم الأولون والآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة، حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي؛ وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أوّل النَّبيين خَلْقا، وآخرهم بَعْثا، وأوّلَهم يُقْضَى له، وأعطيتك سبعا من المثاني، لم يُعطها نبيّ قبلك، وأعطيتك الكوثر، وأعطيتك ثمانية أسهم الإسلام والهجرة، والجهاد، والصدقة، والصلاة، وصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجعلتك فاتحا وخاتما، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فضَّلَنِي ربَيّ بسِتّ: أعْطَانِي فَوَاتِحَ الكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ، وَجَوَامِعَ الحَدِيثِ، وأَرْسَلَنِي إلى النَّاسِ كافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِ عَدُوّي الرُّعْبَ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وأُحِلِّتْ لي الغَنائمُ ولَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وجُعِلَتْ لي الأرْض كُلُّها طَهُورًا وَمَسْجِدًا، قال: وَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً؛ فلما رجع إلى موسى، قال: بِم أُمرت يا محمد، قال: بِخَمْسِينَ صَلاةً، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، فقد لقيت من بني إسرائيل شدّة، قال: فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ربه فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى، فقال: بكم أُمرت؟ قال: بأرْبَعِينَ، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيتُ من بنى إسرائيل شدّة، قال: فرجع إلى ربه، فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلى موسى، فقال: بكم أُمرت؟ قال: أُمِرْتُ بِثَلاثِينَ، فقال له موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدّة، قال: فرجع إلى ربه فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: بعشرين، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع إلى ربه فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلى موسى، فقال: بكم أمرت؟ قال: بعشر، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدّة، قال: فرجع على حياء إلى ربه فسأله التخفيف، فوضع عنه خمسا، فرجع إلى موسى، فقال: بكم أمرت؟ قاله: بخمس، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأم، وقد لقيتُ من بني إسرائيل شدّة، قال: قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبّي حتى اسْتَحْيَيْت فَمَا أنا رَاجِعٌ إِلَيْهِ، فقيل له: أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات فإنهنّ يجزين عنك خمسين صلاة، فإن كلّ حسنة بعشر أمثالها، قال: فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كلّ الرضا" فكان موسى أشدّهم عليه حين مرّ به، وخيرهم له حين رجع إليه.
حدثني محمد بن عبيد الله، قال: أخبرنا أبو النضر هاشم بن القاسم، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أو غيره "شك أبو جعفر"، عن أبي هريرة في قوله (سُبْحَانَ الَّذِي أسْرَى بِعَبْدِه) .... إلى قوله (إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) قال: جاء جبرئيل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث عليّ بن سهل، عن حجاج، إلا أنه قال: جاء جبرائيل ومعه مكائيل، وقال فيه: وإذا بقوم يسرحون كما تسرح الأنعام يأكلون الضريع والزقوم، وقال في كل موضع، قال عليّ ما هؤلاء، من هؤلاء يا جبرئيل، وقال في موضع تقرض ألسنتهم تقص ألسنتهم، وقال أيضا في موضع قال عليّ فيه: ونعم الخليفة. قال في ذكر الخمر، فقال: لا أريده قد رويت، قال: جبرائيل: قد أصبت الفطرة يا محمد، إنها ستحرم على أمتك، وقال في سدرة المنتهى أيضا:(17/337)
هذه السدرة المنتهى، إليها ينتهي كلّ أحد خلا على سبيلك من أمتك؛ وقال أيضا في الورقة منها تظلّ الخلق كلهم، تغشاها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجرة، من حُبّ الله عزّ وجلّ وسائر الحديث مثل حديث عليّ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري؛ وحدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، قال: أخبرنا أبو هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، واللفظ لحديث الحسن بن يحيى، في قوله (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى) قال: ثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة أُسري به فقال نبيّ الله: "أُتِيتُ بِدَابَّة هي أَشْبَهُ الدَّوَاب بالبَغْلِ، لَهُ أذُنانِ مُضّطَرِبَتان وَهُوَ البُرَاقُ، وَهُوَ الَّذِي كانَ تَرْكَبُهُ الأنَبْيِاءُ قَبْلِي، فَرَكِبْتُهُ، فانْطَلَقَ بِي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِه، فَسَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي: يا مُحَمَّد عَلى رِسْلِك أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ شمِالي: يا مُحَمَّد عَلى رِسْلِك أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُ امْرَأةً فِي الطَّرِيقِ، فَرأيْتُ عَلَيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافعَةً يَدَها، تَقُولُ: يا مُحَمَّدُ على رِسْلِكَ أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا، ثُمَّ أتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، أوْ قالَ المَسْجِدَ الأقْصَى، فَنزلْتُ عَنِ الدَّابَّةِ فَأوْثقْتُها بالحَلْقَة التي كانَت الأنْبِياءُ تُوثِقُ بِها، ثُمَّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، فقالَ لي جَبْرَئِيل: ماذَا رأيْتَ فِي وَجْهِكَ، فَقُلْتُ: سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي أنْ يا مُحَمَّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ، قالَ: ذاكَ دَاعِيَ اليَهُود، أما لَو أنَّك وَقَفْتَ عليه لتهودت أُمَّتُكَ، قال: ثُمَّ سَمِعْتُ ندَاءً عَنْ يَسارِي أنْ يا مُحَمَّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ، قالَ: ذَاكَ داعي النَّصَارَى، أمَا إِنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ، قُلْتُ: ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرأةٌ عَلَيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافِعَةً يَدَها تَقُولُ عَلى رِسْلِكَ، أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا، قال: تِلْكَ الدُّنْيا تَزَيَّنَتْ لَكَ، أمَا إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْها لاخْتارَتْ أُمَّتُكَ الدُّنْيا على الآخِرَةِ، ثُمَّ أُتِيتُ بإناءَيْنِ أحَدُهُما فِيهِ لبَنٌ، والآخرُ فيه خَمْرٌ، فَقِيلَ لي: اشْرَبْ أيَّهُما شِئْتَ، فَأخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، قال: أصَبْتَ الفِطْرَةَ أوْ قالَ: أخَذْتَ الفِطْرَةَ".(17/344)
قال معمر: وأخبرني الزهري، عن ابن المسيب أنه قيل له: أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.
قال أبو هارون في حديث أبي سعيد: "ثُمَّ جِيءَ بالمِعْرَاجِ الَّذِي تَعْرُجُ فِيهِ أرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فإِذَا هُوَ أحْسَنُ ما رأيْتُ ألَمْ تَرَ إلى المَيّتِ كَيْفَ يُحِدُّ بَصَرَهُ إلَيْهِ فَعُرِجَ بنا فِيهِ حتى انْتَهَيْنا إلى بابِ السَّماءِ الدُّنْيا، فاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ، فَقِيلَ مَنْ هَذَا؟ قالَ جَبْرَائِيلُ؟ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قال: نَعَمْ، فَفَتَحُوا وَسَلَّمُوا عَليَّ، وَإِذَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ يَحْرُسُ السَّماءَ يُقَال لَهُ إسْماعِيلُ، مَعَهُ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ مَعَ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ مِئَةُ ألْفٍ، ثم قرأ (ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ) وَإِذَا أنا بِرَجُلٍ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَهُ الله لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيءٌ، فإِذَا هُوَ تُعْرَض عَلَيْهِ أرْوَاحُ ذُرّيَّتِهِ، فإذَا كانَتْ رُوح مُؤْمِنٍ، قالَ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ، وَرِيحٌ طَيِّبَةٌ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِي عِلِّيِينَ؛ وَإِذَا كانَ رُوحُ كافِرٍ قالَ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَرِيحٌ خَبِيثَةٌ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِي سِجِّيلٍ، فَقُلْتُ: يا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَذَا؟ قال: أبُوك آدَمُ، فَسَلَّمَ عَليَّ وَرَحَّبَ بِي وَدَعا لي بِخَيْرٍ وقَال: مَرْحَبا بالنَّبيّ الصَّالِحِ والوَلَدِ الصَّالِحِ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بقَوْمٍ لَهُمْ مشَافِرُ كمشَافِرِ الإبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ، ثُمَّ يُجْعَلُ في أفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنْ نارٍ يَخْرُجُ مِنْ أسافِلِهِمْ، قُلْتُ: يَا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قال: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتامَى ظُلْما، ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بِقَوْمٍ يُحْذَى مِنْ جُلُودِهِمْ ويُرَدُّ فِي أفْوَاهِهِمْ، ثُمَّ يُقال: كُلُوا كمَا أكَلْتُمْ، فإِذَا أكْرَه ما خَلَقَ الله لَهُمْ ذلكَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَئِيلُ؟ قال: هَؤُلاءِ الهَمَّازُونَ اللَّمازُون الذِينَ يأكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، ويَقَعُونَ فِي أعْرَاضِهِمْ، بالسَّبّ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بِقَوْمٍ عَلى مائِدَة عَلَيْها لَحْمٌ مَشْويّ كأَحْسَنِ ما رأيْتُ مِنَ اللحْمِ، وَإذَا حَوْلَهُمْ جِيَفٌ، فَجَعَلُوا يَمِيلُونَ عَلى الجِيَفِ يَأكُلُونَ مِنْها وَيَدَعُونَ ذلكَ اللحْمَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَئِيلُ؟ قالَ: هَؤُلاء الزُّناةُ عَمَدُوا إلى مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِمْ، وَتَرَكُوا ما أحَلَّ الله لَهُمْ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بقَوْمٍ لَهُمْ بُطُونٌ كأَنَّها الُبُيوتُ وَهيَ على سابِلَة آل فِرْعَوْنَ، فإذَا مَرَّ بِهِمْ آلُ فِرْعَوْنَ ثارُوا، فَيمِيلُ بأحَدِهِمْ بَطْنُهُ فَيَقَعُ، فَيَتَوَطئُوهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ بأرْجُلِهِمْ، وَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلى النارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا؛ قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاء يا جَبْرَئِيلُ؟ قال: هَؤُلاء أكَلَةُ الرّبا، رَبا فِي بُطُونِهِم، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ(17/345)
من المَسّ؛ ثُمَّ نَظَرْتُ، فإِذَا أنا بنِساءٍ مُعَلَّقاتٍ بِثُدُيِّهِنَّ، وَنِساءٌ مُنَكَّساتٌ بأرْجُلِهِنَّ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَئِيلُ؟ قال: هنّ اللاتي يَزْنِينَ وَيَقْتُلْنَ أولادَهُنَّ قالَ: ثُمَّ صَعَدْنا إلى السَّماء الثَّانِيَةِ، فإذَا أنا بِيُوسُف وحَوْلهُ تَبَعٌ مِنْ أُمَّتِهِ، وَوَجْهُهُ كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي، ثُمَّ مَضَيْنَا إلى السَّماءِ الثَّالِثَةِ، فإذا أنا بابْنَيِ الخَالَةِ يَحيَى وَعِيسَى، يُشْبِهُ أحَدُهُما صَاحِبَهُ، ثِيابُهما وَشَعْرُهُما، فَسَلَّما عَليَّ، وَرَحَّبا بِي، ثُمَّ مَضَيْنَا إلى السَّماء الرّابِعَةِ، فإذا أنا بإدْرِيسَ، فَسَلَّمَ عَليَّ وَرَحَّب وَقَدْ قالَ الله (وَرَفَعْناه مَكانا عَلِيًّا) ؛ ثُمَّ مَضَيْنا إلى السَّماءِ الخَامِسَةِ، فإذا أنا بِهارُون المُحَبَّبِ فِي قَوْمِهِ، حَوْلَهُ تَبَعٌ كَثِيرٌ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلى الله عليه وسَلَّمَ: طَوِيلُ اللِّحْيَة تَكادُ لِحْيَتُهُ تَمَسُّ سُرَّتَهُ، فَسلَّمَ عَليَّ وَرَحَّبَ؛ ثُمَّ مَضَيْنا إلى السَّماء السَّادسَة فإذَا أنا بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَوَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلى الله عليه وسلَّمَ فقال: كَثِيرُ الشَّعْرِ لَوْ كانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ خَرَجَ شَعْرُهُ مِنْهُما؛ قالَ مُوسَى: تَزْعَمُ النَّاسُ أنّي أكْرَمُ الخَلْقِ عَلى الله، فَهَذَا أكْرَمُ على الله مِنِّي، وَلَوْ كانَ وَحْدَهُ لَمْ أكُنْ أُبالي، وَلكِنْ كُلُّ نَبِيّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ؛ ثُمَّ مَضَيْنَا إلى السَّماءِ السَّابِعَةِ، فإِذَا أنا بإبْرَاهِيمَ وَهُوَ جالِس مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ فَسَلَّمَ عَليَّ وقَال: مَرْحَبا بالنَّبِيّ الصَّالِحِ وَالوَلَدِ الصَّالِحِ، فَقِيلَ: هَذَا مَكانُكَ وَمَكانُ أُمَّتِك، ثُمَّ تَلا (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ثُمَّ دَخَلْتُ البَيْتَ المَعْمُورَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إلَى يَوْمِ القِيامَة؛ ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بِشَجَرَةٍ إِنْ كانَتْ الوَرَقَةُ مِنْها لمُغطِّيَةٌ هذهِ الأمَّةَ، فإذَا فِي أصْلِها عَيْنٌ تَجْرِي قَدْ تَشَعَّبَتْ شُعْبَتَيْنِ، فَقُلْتُ: ما هَذا يا جَبْرَئِيلُ؟ قال: أمَّا هذَا: فَهُوَ نَهْرُ الرَّحمَةِ، وأمَّا هذَا: فَهُوَ الكَوْثَرُ الذِي أعْطاكَهُ الله، فاغْتَسَلْتُ فِي نَهْرِ الرَّحمَةِ فَغُفِرَ لي ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي ومَا تَأخَّرَ، ثُمَّ أخذتُ عَلى الكَوْثَرِ حتى دَخَلْتُ الجَنَّة، فإذَا فِيها، ما لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَإِذَا فِيها رُمَّانٌ كأنَّهُ جُلُودُ الإبِلِ المُقَتَّبَةُ، وإِذَا فِيها طَيْرٌ كأنَّها البُخْتُ، فقالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّ تِلكَ الطَّيْرَ لنَاعِمَةٌ، قالَ: أكَلَتُها أنْعَمُ مِنْها يا أبا بَكْرٍ، وإنّي لأرْجو أنْ تَأكُلَ مِنْها، ورأيْتُ فِيها جارِيَةً، فَسألْتُها: لِمَنْ أنْتِ؟ فَقالَتْ: لِزَيْد بْنِ حارِثَة فَبَشَّرَ بها رَسُولُ الله صَلى الله عليه وسلَّمَ زَيْدًا؛ قالَ: ثُمَّ إِنَّ الله أمَرَنِي بأمْرِهِ، وفَرَضَ عَليَّ خَمْسِينَ صَلاةً، فَمَرَرْتُ عَلى مُوسَى، فقالَ: بِمَ أمَرَكَ رَبُّكَ؟ قُلْتُ: فَرضَ عَليَّ خَمْسِينَ صَلاةً، قالَ: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فأسأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فإنَّ أُمَّتَكَ لَنْ يَقُومُوا بِهذَا، فَرَجَعْتُ إلى رَبّي فَسألْتُهُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، ثُمَّ رَجَعْتُ إلى مُوسَى، فَلَمْ أزَلْ أرْجِعُ إلى رَبّي إذَا مَرَرْتُ بِمُوسَى حتى فَرَضَ عَليَّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَقالَ مُوسَى: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فاسألْهُ التَّخْفِيفَ، فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبّي حتى اسْتَحْيَيْتُ؛ أو قالَ: قُلْتُ: ما أنا بِرَاجِعٍ، فَقِيلَ لي: إِنَّ لَكَ بِهذِه الخَمْسِ صَلَوَاتِ خَمْسِينَ صَلاةً، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِهَا، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ عَمِلَها كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئةٍ فَلَم يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئا، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ وَاحدَةً".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني روح بن القاسم، عن أبي هارون عمارة بن جوين العبدي، عن أبي سعيد الخدري؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: وثني أبو جعفر، عن أبي هارون، عن أبي سعيد، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا كانَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، أُتِيَ بالمِعْرَاجِ، ولَمْ أرَ شَيْئا قَطُّ أحْسَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَمُدُّ إلَيْهِ مَيِّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إذا حَضَرَ، فَأصْعَدَنِي صَاحِبي فِيهِ حتى انْتَهَى إلى بابٍ مِنَ الأبْوَابِ يُقالُ لَهُ بَابُ الحَفَظَةِ، عَلَيْهِ مَلَكٌ يُقالُ لَهُ إسْماعِيلُ، تَحْتَ يَدَيْهِ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ، تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدّث هذا الحديث: (ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ) ثم ذكر نحو حديث معمر، عن أبي هارون إلا أنه قال في حديثه: قال: ثُمَّ دَخَلَ بِيَ الجَنَّةَ فَرأيْتُ فيها جارِيَةً، فَسألتُها لِمَنْ أنْتِ؟ وَقَدْ أعْجَبَتْنِي حين رأيْتُها، فَقالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فبشَّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، ثم انتهى حديث ابن حميد عن سلمة إلى ههنا.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لأصحابه ليلة أُسري به إبراهيمَ وموسى وعيسى فقال: أمَّا إبْرَاهِيمُ فَلَمْ أرَ رَجُلا أشْبَهُ بِصَاحِبِكُمْ مِنْهُ. وأمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمٌ طِوَالٌ جَعْدٌ أقْنَى، كأنَّه مِنْ رِجالِ شُنُوءَةَ. وأمَّا عِيسَى فَرجُلٌ أحْمَرُ بينَ القَصِير والطَّوِيلِ سَبِطُ الشَّعْرِ(17/346)
كَثِيرُ خِيلانِ الوَجْهِ، كأنَّه خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ كأنَّ رأسَهُ يَقْطُرُ ماءً، ومَا بِهِ ماءٌ، أشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، ولم يقل عن أبي هريرة.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بالبراق ليلة أُسري به مسرجا ملجما ليركبه، فاستصعب عليه، فقال له جبرائيل: ما يحملك على هذا، فوالله ما ركبك أحد قطّ أكرم علي الله منه، قال: فارفض عرقا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) أسري بِنَبِيِّ الله عشاء من مكة إلى بيت المقدس، فصلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فيه، فأراه الله من آياته وأمره بما شاء ليلة أسري به، ثم أصبح بمكة. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: حُمِلْتُ عَلى دابَّة يُقَالُ لَهَا البُرَاقُ، فَوْقَ الحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ يَضَعُ حافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فحدث نبيّ الله بذلك أهل مكة، فكذب به المشركون وأنكروه وقالوا: يا محمد تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس، وأقبلت من ليلتك، ثم أصبحت عندنا بمكة، فما كنت تجيئنا به، وتأتي به قبل هذا اليوم مع هذا، فصدقه أبو بكر، فسمِّي أبو بكر الصدّيق من أجل ذلك.
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيباني، عن عبد الله بن شدّاد، قال: لما كان ليلة أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بدابة يقال لها البراق، دون البغل وفوق الحمار، تضع حافرها عند منتهى ظفرها؛ فلما أتى بيت المقدس أُتي بإناءين: إناء من لبن، وإناء من خمر، فشرب اللبن. قال: فقال له جبرائيل: هديت وهديت أمتك.
وقال آخرون من قال: أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى بنفسه وجسمه أسرى به عليه السلام، غير أنه لم يدخل بيت المقدس، ولم يصلّ فيه، ولم ينزل عن البراق حتى رجع إلى مكة.(17/348)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا سفيان، قال: ثني عاصم بن بهدلة عن زرّ بن حبيش، عن حُذيفة بن اليمان، أنه قال في هذه الآية (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى) قال: لم يصلّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه، كما كتب عليكم الصلاة عند الكعبة.
حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش، ورجل يحدّث عنده بحديث حين أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: لا تجِيء بمثل عاصم ولا زر؛ قال: قال حُذيفة لزرّ بن حبيش؛ قال: وكان زرّ رجلا شريفا من أشراف العرب، قال: قرأ حُذيفة (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وكذا قرأ عبد الله، قال: وهذا كما يقولون: إنه دخل المسجد فصلى فيه، ثم دخل فربط دابته، قال: قلت: والله قد دخله، قال: من أنت فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك، قال: قلت: زرّ بن حبيش، قال: ما عملك هذا؟ قال: قلت: من قبَل القرآن، قال: من أخذ بالقرآن أفلح، قال: فقلت (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) قال: فنظر إليّ فقال: يا أصلع، هل ترى دخله؟ قال: قلت: لا والله، قال حُذيفة: أجل والله الذي لا إله إلا هو ما دخله، ولو دخله لوجبت عليكم صلاة فيه، لا والله ما نزل عن البراق حتى رأى الجنة والنار، وما أعدّ الله في الآخرة أجمع؛ وقال: تدري ما البراق؟ قال: دابة دون البغل وفوق الحمار، خطوه مدّ البصر.
وقال آخرون: بل أسرى بروحه، ولم يسر بجسده.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.(17/349)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد، قال: ثني بعض آل أبي بكر، أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولها الحسن أن هذه الآية نزلت (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) ولقول الله في الخبر عن إبراهيم، إذ قال لابنه (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) ثم مضى على ذلك، فعرفت أن الوحي يأتي بالأنبياء من الله أيقاظا ونياما، وكان رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "تَنَامُ عَيْني وَقَلْبي يَقْظانُ" فالله أعلم أيّ ذلك كان قد جاءه وعاين فيه من أمر الله ما عاين على أيّ حالاته كان نائما أو يقظانا كلّ ذلك حقّ وصدق.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله حمله على البراق حين أتاه به، وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات؛ ولا معنى لقول من قال: أسرى بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون ذلك دليلا على نبوّته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك، وكانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكرا عندهم، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل؟ وبعد، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، وليس جائزا لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره. فإن ظنّ ظانّ أن ذلك جائز، إذ كانت العرب تفعل ذلك في كلامها، كما قال قائلهم:(17/350)
حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عنَاقا ... ومَا هِيَ وَيْبَ غيرِكِ بالعْنَاقِ (1)
يعني: حسبت بغام راحلتي صوت عناق، فحذف الصوت واكتفى منه بالعناق، فإن العرب تفعل ذلك فيما كان مفهوما مراد المتكلم منهم به من الكلام. فأما فيما لا دلالة عليه إلا بظهوره، ولا يوصل إلى معرفة مراد المتكلِّم إلا ببيانه، فإنها لا تحذف ذلك؛ ولا دلالة تدلّ على أن مراد الله من قوله (أسْرَى بِعَبْدِهِ) أسرى بروح عبده، بل الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به على دابة يُقال لها البراق؛ ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدوابّ لا تحمل إلا الأجسام. إلا أن يقول قائل: إن معنى قولنا: أسرى روحه: رأى في المنام أنه أسرى بجسده على البراق، فيكذب حينئذ بمعنى الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن جبرائيل حمله على البراق، لأن ذلك إذا كان مناما على قول قائل هذا القول، ولم تكن الروح عنده مما تركب الدوابّ، ولم يحمل على البراق جسم النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم على قوله حُمل على البراق لا جسمه، ولا شيء منه، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين، وذلك دفع لظاهر التنزيل، وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الآثار عن الأئمة من الصحابة والتابعين.
وقوله (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) يقول تعالى ذكره: الذي جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم. وقوله (لِنُرَيَهُ مِنْ آياتِنا) يقول تعالى ذكره: كي نري عبدنا محمدا من آياتنا، يقول: من عبرنا وأدلتنا وحججنا، وذلك هو ما قد ذكرت في الأخبار التي رويتها آنفا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريه في طريقه إلى بيت المقدس، وبعد مصيره إليه من عجائب العبر والمواعظ.
__________
(1) البيت تقدم الاستشهاد به في (4: 92) من هذا التفسير، واستشهد به الفراء (في معاني القرآن 179) ولكنه لم يبين موضع الشاهد فيه كما بينه المؤلف هنا، وهو أن العرب قد تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه، كما في البيت، إذ إنه يريد: حسبت بغام راحلتي صوت عناق.(17/351)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) ما أراه الله من الآيات والعبر في طريق بيت المقدس.
وقوله (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يقول تعالى ذكره: إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في مسرى محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ولغير ذلك من قولهم وقول غيرهم، البصير بما يعملون من الأعمال، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولا يعزب عنه علم شيء منه، بل هو محيط بجميعه علما، ومحصيه عددا، وهو لهم بالمرصاد، ليجزي جميعهم بما هم أهله.
وكان بعض البصريين يقول: كسرت "إن" من قوله (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) لأن معنى الكلام: قل يا محمد: سبحان الذي أسرى بعبده، وقل: إنه هو السميع البصير.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا (2) }
يقول تعالى ذكره: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وآتى موسى الكتاب، وردّ الكلام إلى (وآتَيْنا) وقد ابتدأ بقوله أسرى لما قد ذكرنا قبل فيما مضى من فعل العرب في نظائر ذلك من ابتداء الخبر بالخبر عن الغائب، ثم الرجوع إلى الخطاب وأشباهه. وعنى بالكتاب الذي أوتي موسى: التوراة (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ) يقول: وجعلنا الكتاب الذي هو التوراة بيانا للحقّ، ودليلا لهم على محجة الصواب فيما افترض عليهم، وأمرهم به، ونهاهم عنه.
وقوله (ألا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا)
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة (ألا تَتَّخِذُوا) بالتاء بمعنى: وآتينا موسى الكتاب بأن لا تتخذوا يا بني إسرائيل (مِنْ دُونِي وَكِيلا) . وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة (ألا يَتَّخِذُوا) بالياء على الخبر عن بني إسرائيل، بمعنى: وجعلناه هدى لبني إسرائيل، ألا يتَّخذ بنو إسرائيل من دوني وكيلا وهما قراءتان صحيحتا المعنى، متفقتان غير مختلفتين، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، غير أني أوثر القراءة بالتاء، لأنها أشهر في القراءة وأشد استفاضة فيهم من القراءة بالياء. ومعنى(17/352)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
الكلام: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا حفيظا لكم سواي. وقد بينا معنى الوكيل فيما مضى. وكان مجاهد يقول: معناه في هذا الموضع: الشريك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (ألا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا) قال: شريكا.
وكأن مجاهدا جعل إقامة من أقام شيئا سوى الله مقامه شريكا منه له، ووكيلا للذي أقامه مقام الله.
وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الآية، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وآتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسْرَائِيل) جعله الله لهم هدى، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وجعله رحمة لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) }
يقول تعالى ذكره: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ذرية من حملنا مع نوح. وعنى بالذرية: جميع من احتجّ عليه جلّ ثناؤه بهذا القرآن من أجناس الأمم، عربهم وعجمهم من بني إسرائيل وغيرهم، وذلك أنّ كلّ من على الأرض من بني آدم، فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) والناس كلهم ذرّية من أنجى الله في تلك السفينة، وذُكر لنا أنه ما نجا فيها يومئذ غير نوح وثلاثة بنين له، وامرأته وثلاث نسوة، وهم: سام، وحام، ويافث؛ فأما سام: فأبو العرب؛ وأما حام: فأبو الحبش (1) ؛ وأما يافث: فأبو الروم.
__________
(1) الحبش: ليسوا حاميين، وإنما هم فرع من الساميين ولغة. وأولاد حام هم الزنوج.(17/353)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) قال: بنوه ثلاثة ونساؤهم، ونوح وامرأته.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قالا ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال مجاهد: بنوه ونساؤهم ونوح، ولم تكن امرأته.
وقد بيَّنا في غير هذا الموضع فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وقوله (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) يعني بقوله تعالى ذكره: "إنه" إن نوحا، والهاء من ذكر نوح كان عبدا شكورا لله على نعمه.
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي سماه الله من أجله شكورا، فقال بعضهم: سماه الله بذلك لأنه كان يحمد الله على طعامه إذا طعمه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن بن مهدي، قالا ثنا سفيان، عن التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: كان نوح إذا لبس ثوبا أو أكل طعاما حمد الله، فسمِّي عبدا شكورا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان عن أبي حصين، عن عبد الله بن سنان، عن سعيد بن مسعود بمثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن عبد الله بن سنان، عن سعيد بن مسعود قال: ما لبس نوح جديدا قطّ، ولا أكل طعاما قطّ إلا حمد الله فلذلك قال الله (عَبْدًا شَكُورًا) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: ثني سفيان الثوري، قال: ثني أيوب، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان، قال: إنما سمي نوح عبدا شكورا أنه كان إذا لبس ثوبا حمد الله، وإذا أكل طعاما حمد الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) من بني إسرائيل وغيرهم (إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا) قال: إنه لم يجدّد ثوبا قطّ إلا حمد الله، ولم يبل ثوبا قطّ إلا حمد الله، وإذا شرب شربة حمد الله، قال: الحمد لله الذي سقانيها على شهوة ولذّة وصحة، وليس في تفسيرها، وإذا شرب شربة قال هذا، ولكن بلغني ذا.(17/354)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو فضالة، عن النضر بن شفي، عن عمران بن سليم، قال: إنما سمي نوح عبدا شكورا أنه كان إذا أكل الطعام قال: الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني، ولو شاء أظمأني، وإذا لبس ثوبا قال: الحمد لله الذي كساني، ولو شاء أعراني، وإذا لبس نعلا قال: الحمد لله الذي حذاني، ولو شاء أحفاني، وإذا قضى حاجة قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه، ولو شاء حبسه.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الجبار بن عمر أن ابن أبي مريم حدّثه، قال: إنما سمى الله نوحا عبدا شكورا، أنه كان إذا خرج البراز منه قال: الحمد لله الذي سوّغنيك طيبا، وأخرج عنى أذاك، وأبقى منفعتك.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله لنوح (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) ذكر لنا أنه لم يستجد ثوبا قطّ إلا حمد الله، وكان يأمر إذا استجدّ الرجل ثوبا أن يقول: الحمد لله الذي كساني ما أتجمَّل به، وأواري به عورتي.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) قال: كان إذا لبس ثوبا قال: الحمد لله، وإذا أخلقه قال: الحمد لله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا (5) }
وقد بيَّنا فيما مضى قبل أن معنى القضاء: الفراغ من الشيء، ثم يستعمل في كلّ مفروغ منه، فتأويل الكلام في هذا الموضع: وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلوات الله وسلامه عليه بإعلامه إياهم، وإخباره(17/355)
لهم (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ) يقول: لتعصنّ الله يا معشر بني إسرائيل ولتخالفنّ أمره في بلاده مرّتين (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) يقول: ولتستكبرنّ على الله باجترائكم عليه استكبارا شديدا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله (وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) قال: أعلمناهم.
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) يقول: أعلمناهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: وقضينا على بني إسرائيل في أمّ الكتاب، وسابق علمه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) قال: هو قضاء مضى عليهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سيعد، عن قتادة، قوله (وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) قضاء قضاه على القوم كما تسمعون.
وقال آخرون: معنى ذلك: أخبرنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله (وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ) قال: أخبرنا بني إسرائيل.
وكلّ هذه الأقوال تعود معانيها إلى ما قلت في معنى قوله (وَقَضَيْنا) وإن كان الذي اخترنا من التأويل فيه أشبه بالصواب لإجماع القرّاء على قراءة قوله (لَتُفِسُدَّن) بالتاء دون الياء، ولو كان معنى الكلام: وقضينا عليهم في الكتاب، لكانت القراءة بالياء أولى منها بالتاء، ولكن معناه لما كان أعلمناهم وأخبرناهم، وقلنا لهم: كانت التاء أشبه وأولى للمخاطبة.
وكان فساد بني إسرائيل في الأرض المرةّ الأولى ما حدثني به هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في خبر ذكره عن(17/356)
أبي صالح، وعن أبي مالك، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن عبد الله أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ) فكان أوّل الفسادين: قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، وكان يُدعى صحابين (1) فبعث الجنود، وكان أساورته من أهل فارس، فهم أولو بأس شديد، فتحصنت بنو إسرائيل، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا، إنما خرج يستطعم، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم، فسمعهم يقولون: لو يعلم عدونا ما قُذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم، واشتد القيام على الجيش، فرجعوا، وذلك قول الله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا) ثم إن بني إسرائيل تجهَّزوا، فغزوا النبط، فأصابوا مهم واستنقذوا ما في أيديهم، فذلك قول الله (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) يقول: عددا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين: قتل زكريا ويحيى بن زكريا، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس، من قتل زكريا، وسلَّط عليهم بختنصر من قتل يحيى.
حدثنا عصام بن رواد بن الجراح، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيان بن سعيد الثوري، قال: ثنا منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حُذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَوْا وَعَلَوْا، وقَتَلُوا الأنْبِيَاءَ، بَعَثَ الله عَلَيْهِمْ مَلِكَ فَارِسَ بُخْتَنَصَّر، وكانَ الله مَلَّكَهُ سَبْعَ مِئَة سَنةٍ، فسارِ إِلَيْهمْ حتى دَخَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ فَحاصَرَهَا وَفَتَحَها، وَقَتَلَ عَلى دَمِ زَكَرِيَّا سَبْعينَ ألْفا، ثُمَّ سَبَى أهْلَها وبَنِي الأنْبِياء، وَسَلَبَ حُليَّ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْها سَبْعِينَ ألْفا وَمِئَةَ ألْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلَيٍّ حتى أوْرَدَهُ بابِلَ، قال حُذيفة: فقلت: يا رسول الله لقد كان بيت المقدس
__________
(1) في تاريخ الطبري (ج 2 قسم أول ص 657 طبعة أوربة) : صيحانين، وفي بعض النسخ في هامشه، صحائين، وصيحابين، وسنحاريب، وفي 656 منه: صيحون، وفي رواية بهامشه عدة صور للتكملة.(17/357)
عظيما عند الله؟ قال: أجَلْ بَناهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَدُرّ وَياقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ، وكانَ بَلاطُه بَلاطَةً مِنْ ذَهَب وَبَلاطَةً منْ فِضَّةٍ، وعُمُدُهُ ذَهَبا، أعْطاهُ الله ذلك، وسَخَّرَ لَهُ الشَّياطينَ يأْتُونَهُ بِهذِهِ الأشْياءِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَسارَ بُخْتَنَصَّر بهذِه الأشْياءِ حتى نزلَ بِها بابِلَ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائِيلَ في يَدَيهِ مِئَةَ سَنَةٍ تُعَذّبُهُمُ المَجُوسُ وأبْناءُ المَجُوسِ، فيهمُ الأنْبِياءُ وأبْناءُ الأنْبِياء، ثُمَّ إِنَّ الله رَحمَهُمْ، فأوْحَى إلى مَلِك مِنْ مُلُوكِ فارِس يُقالُ لَهُ كُورَسُ، وكانَ مُؤْمِنا، أَنْ سِرْ إلى بَقايا بَنِي إِسْرَائِيلَ حتى تَسْتَنْقذَهُمْ، فَسارَ كُورَسُ بِبَنِي إسْرَائِيلَ وحُليِّ بَيْتِ المَقْدِسِ حتى رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَأقامَ بَنُو إسْرَائِيلَ مُطِيعينَ لله مِئَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عادُوا في المعَاصِي، فَسَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ ابْطيانْحُوسَ (1) فَغَزَا بأبْناءِ مَنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنَصَّر، فَغَزَا بَنِي إسْرَائِيلَ حتى أتاهُمْ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَسَبى أهْلَها، وأحْرَقَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وَقَالَ لَهُمْ: يا بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ عُدْتُمْ فِي المعَاصِي عُدْنا عَلَيْكُمْ بالسِّباءِ، فَعادُوا فِي المعَاصِي، فَسَيَّر الله عَلَيْهِمُ السِّباء الثَّالِثَ مَلِكَ رُوميَّةَ، يُقالُ لَهُ قاقِسُ بْنُ إسْبايُوس، فَغَزَاهُم فِي البَرّ والبَحْرِ، فَسَباهُمْ وَسَبى حُلِيّ بَيْتِ المَقْدِسِ، وأحْرَقَ بَيْتَ المَقْدِسِ بالنِّيرَانِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذَا مِنْ صَنْعَةِ حُلِيّ بَيْتِ المَقْدِسِ، ويَرُدُّهُ المَهْدِيُّ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، وَهُوَ ألْفُ سَفِينَةٍ وسَبْعُ مِئَةِ سَفِينَةٍ، يُرْسَى بِها عَلى يافا حتى تُنْقَلَ إلى بَيْتَ المَقْدِسِ، وبِها يَجْمَعُ الله الأوَّلِينَ والآخِرِينَ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل، وفي أحداثهم ما هم فاعلون بعده، فقال (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) .... إلى قوله (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) فكانت بنو إسرائيل، وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم، متعطفا عليهم محسنا إليهم، فكان مما أُنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدَّم إليهم في الخبر على لسان موسى مما أنزل بهم في ذنوبهم، فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع، أن ملكا منهم كان يُدعى صديقة، وكان الله إذا ملَّك الملِك عليهم، بعث نبيا
__________
(1) في الدر المنثور للسيوطي (4: 165) : أبطانحوس.(17/358)
يسدّده ويرشده، ويكون فيما بينه وبين الله، ويحدث إليه في أمرهم، لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة؛ فلما ملك ذلك الملك، بعث الله معه شعياء بن أمُصيا (1) وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى وشعياء الذي بشَّر بعيسى ومحمد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا؛ فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث، وشعياء معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل، ومعه ستّ مئة ألف راية، فأقبل سائرا حتى نزل نحو بيت المقدس، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شعياء، فقال له: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده ستّ مئة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرّقوا منهم، فكبر ذلك على الملك، فقال: يا نبيّ الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث، فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده، فقال له النبيّ عليه السلام: لم يأتني وحي أحدث إليّ في شأنك، فبيناهم على ذلك، أوحى الله إلى شعياء النبيّ: أن ائت ملك بني إسرائيل، فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته. فأتى النبيّ شيعاء ملك بني إسرائيل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إليّ أن آمرك أن توصي وصيتك، وتستخلف من شئت على مُلكك من أهل بيتك، فإنك ميت؛ فلما قال ذلك شعياء لصديقة، أقبل على القبلة، فصلى وسبح ودعا وبكى، فقال وهو يبكي ويتضرّع إلى الله بقلب مخلص وتوكل وصبر وصدق وظنّ صادق، اللهمّ ربّ الأرباب، وإله الآلهة، قدُّوس المتقدسين، يا رحمن يا رحيم، المترحم الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرني بعملي وفعلي وحُسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك، فأنت أعلم به من نفسي؛ سرّي وعلانيتي لك، وإن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه، وقد رأى بكاءه، وقد أخَّر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوّه سنحاريب ملك بابل وجنوده، فأتى شعياء النبيّ إلى ذلك الملك فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشرّ والحزن وخرّ ساجدا وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجدت وسبَّحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي المُلك من تشاء، وتنزعه ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، عالم الغيب والشهادة، أنت الأوّل والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرّين، أنت الذي أحببت دعوتي ورحمت تضرّعي؛ فلما رفع رأسه، أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده بالتينة، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى، ويصبح وقد برأ، ففعل ذلك فشفي، وقال الملك لشعياء النبيّ: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدوّنا هذا، قال: فقال الله لشعياء النبيّ: قل له: إني قد كفيتك عدوّك، وأنجيتك منه، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه؛ فلما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم، فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل، إن الله قد كفاك عدوّك فاخرج، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا؛ فلما خرج الملك التمس سنحاريب، فلم يُوجد في الموتى، فبعث الملك في طلبه، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه، أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجوامع، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل؛ فلما رآهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوّته، ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريب له: قد أتاني خبر ربكم، ونصره إياكم، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشدا، ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت عليّ وعلى من معي، فقال ملك بني إسرائيل: الحمد لله رب العزّة الذي كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يُبقك ومن معك لكرامة بك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لما هو شرّ لك، لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربنا، ولتنذروا من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم، فلدمُك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته، ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه، فقذف في رقابهم الجوامع، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس إيليا، وكان يرزقهم في كلّ يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير مما يفعل بنا، فافعل ما أمرت، فنقل بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحى الله إلى شعياء النبيّ أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم؛ فبلَّغ النبيّ شعياء الملك ذلك، ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل؛ فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له كهَّانه وسحرته: يا ملك بابل قد كنا نقصّ عليك خبر ربهم وخبر نبيهم، ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا، وهي أمَّة لا يستطيعها أحد مع ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوّفوا، ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين، ثم مات.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما مات سنحاريب استخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جدّه يعمل بعمله، ويقضي بقضائه، فلبث سبع عشرة سنة. ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة؛ فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا المُلك، حتى قتل بعضهم بعضا عليه، ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه، ولا يقبلون منه؛ فلما فعلوا ذلك، قال الله فيما بلغنا لشعياء: قم في قومك أوح على لسانك؛ فلما قام النبيّ أنطق الله لسانه بالوحي فقال: يا سماء استمعي، ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقصّ شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته، واصطفاهم لنفسه، وخصَّهم بكرامته، وفضلهم على عباده، وفضَّلهم بالكرامة، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها، وجمع ضالتها، وجبر كسيرها، وداوى مريضها، وأسمن مهزولها، وحفظ سمينها؛ فلما فعل ذلك بطرت، فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة، وويل لهؤلاء القوم الخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الحين. إن البعير ربما يذكر وطنه فينتابه، وإن الحمار ربما يذكر الآريّ الذي شبع عليه فيراجعه، وإن الثور ربما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الحين، وهم أولو الألباب والعقول، ليسوا ببقر ولا حمير، وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه: قل لهم: كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا، خربة مواتا لا عمران فيها، وكان لها ربّ حكيم قويّ، فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرب أرضه وهو قويّ، أو يقال ضيع وهو حكيم، فأحاط عليها جدارا،
__________
(1) اسمه في الكتاب المقدس: إشعياء بن آموص. وانظر خبر النبي شعياء في تاريخ الطبري (2 قسم أول 639) طبعة أوربة.(17/359)
وشيَّد فيها قصرا، وأنبط فيها نهرا، وصفّ فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب، وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه فيما ذا رأي وهمّة، حفيظا قويا أمينا، وتأنى طلعها وانتظرها؛ فلما أطلعت جاء طلعها خروبا، قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها، ويدفن نهرها، ويقبض قيمها، ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أوّل مرّة، خربة مواتا لا عمران فيها، قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي، وإن القصر شريعتي، وإن النهر كتابي، وإن القِّيم نبيي، وإن الغراس هم، وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وإنه مثَلٌ ضربه الله لهم يتقرّبون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدّعون أن يتقرّبوا بالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التي حرمتها، فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي البيوت مساجد، ويطهرون أجوافها، وينجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها، ويزوّقون لي البيوت والمساجد ويزينونها، ويخرّبون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها، فأيّ حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأيّ حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها، إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح فيها، ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها، يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على أن يفقِّه قلوبنا لأفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون، فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا، فلما قال لهما ذلك، اختلطا فصارا واحدا، فقال الله: قل لهم: إني قدرت على ألفة العيدان اليابسة وعلى أن أولِّف بينها، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت، أم كيف لا أقدر على أن أفقِّه قلوبهم، وأنا الذي صوّرتها؛ يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلَّينا فلم تنوّر صلاتنا، وتصدّقنا فلم تزكّ صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام، وبكينا بمثل عواء الذئب، في كلّ ذلك لا نسمع، ولا يُستجاب لنا؛ قال الله: فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم، ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب المجيبين، وأرحم الراحمين؟ ألأنّ ذات يدي قلت، كيف ويداي مبسوطتان بالخير، أنفق كيف أشاء، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري، ألا وإن رحمتي وسعت كلّ شيء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها؛ أو لأن البخل يعتريني، أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات، أجود من أعطى، وأكرم من سُئل؛ لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نوّرت في قلوبهم فنبذوها، واشتروا بها الدنيا، إذن لأبصروا من حيث أتوا، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوّون عليه بطعمة الحرام، وكيف أنوّر صلاتهم، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادّني، وينتهك محارمي، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم، أو جر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد، وإنما أستجيب للداعي اللين، وإنما أسمع من قول المستضعف المسكين، وإن من علامة رضاي رضا المساكين، فلو رحموا المساكين، وقرّبوا الضعفاء، وأنصفوا المظلوم، ونصروا المغصوب، وعدلوا للغائب، وأدّوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين، وكلّ ذي حقّ حقه، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذن لكلمتهم، وإذن لكنت نور أبصارهم، وسمع آذانهم، ومعقول قلوبهم، وإذن لدعمت أركانهم، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم، وإذن لثبَّت ألسنتهم وعقولهم، يقولون لمَّا سمعوا كلامي، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويل منقولة، وأحاديث متوارثة، وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، وأن يطلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين طلعوا، وكلهم يستخفي بالذي يقول ويسرّ، وهم يعلمون أني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما يبدون وما يكتمون، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض قضاء أثبته على نفسي، وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بدّ أنه واقع، فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب، فليخبروك متى أنفذه، أو في أيّ زمان يكون، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون، فليأتوا بمثل القُدرة التي بها أمضيت، فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلِّفوا مثل الحكمة التي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، فإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوّة في الأجراء، وأن أحوّل الملك في الرعاء، والعزّ في الأذلاء، والقوّة في الضعفاء، والغنى في الفقراء، والثروة في الأقلاء، والمدائن في الفلوات، والآجام في المفاوز، والبردى في الغيطان، والعلم ف ي الجهلة، والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا، ومن القائم بهذا، وعلى يد من أسنه، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيا أمِّيا، ليس أعمى من عميان، ولا ضالا من ضالِّين، وليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفُحش، ولا قوّال للخنا، أسدده لكل جميل، أهب له كلّ خلق كريم، أجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والعرف خلقه؛ والعدل والمعروف سيرته، والحقّ شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملَّته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلَّة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفُرقة، وأؤلِّف به قلوبا مختلفة، وأهواء مشتتة، وأممًا متفرّقة، وأجعل أمته خير أمَّة أُخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، توحيدا لي، وإيمانا وإخلاصا بي، يصلون لي قياما وقعودا، وركوعا وسجودا، يُقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد، والتسبيح والحمد والمدحة، والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهلِّلون، ويقدّسون على رءوس الأسواق، ويطهرون لي الوجوه والأطراف، ويعقدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته، عدوا عليه فيما بلغني ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة، فانفلقت فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها، وقطعوه في وسطها.
قال أبو جعفر: فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس من رواية السديّ، وقول ابن زيد، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى قتلهم زكريا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده، إلى أن بعث الله عليهم من أحلّ على يده بهم نقمته من معاصي الله، وعتوّهم على ربهم، وأما على قول ابن إسحاق الذي روينا عنه، فكان إفسادهم المرّة الأولى ما وصف من قتلهم(17/362)
شعياء بن أمصيا نبيّ الله. وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يُقتل، وأن المقتول إنما هو شعياء، وأن بختنصر هو الذي سُلِّط على بني إسرائيل في المرّة الأولى بعد قتلهم شعياء. حدثنا بذلك ابن حميد، عن سلمة عنه.
وأما إفسادهم في الأرض المرّة الآخرة، فلا اختلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا. وقد اختلفوا في الذي سلَّطه الله عليهم منتقما به منهم عند ذلك، وأنا ذاكر اختلافهم في ذلك إن شاء الله.
وأما قوله (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) فقد ذكرنا قول من قال: يعني به: استكبارهم على الله بالجراءة عليه، وخلافهم أمره.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) قال: ولتعلنّ الناس علوّا كبيرا.
حدثنا الحارث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وأما قوله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا) يعني: فإذا جاء وعد أولى المرّتين اللتين يفسدون بهما في الأرض. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا) قال: إذا جاء وعد أولى تينك المرّتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ) .
وقوله (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا) يعني تعالى ذكره بقوله (بعَثْنا عَلَيْكُمْ) وجَّهنا إليكم، وأرسلنا عليكم (عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) يقول: ذوي بطش في الحروب شديد. وقوله (فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا)
يقول: فتردّدوا بين الدور والمساكن، وذهبوا وجاءوا، يقال فيه: جاس القوم بين الديار وحاسوا بمعنى واحد، وجست أنا أجوس جوسا وجوسانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، رُوي الخبر عن ابن عباس.
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ،(17/365)
عن ابن عباس (فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ) قال: مشوا. وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: معنى جاسوا: قتلوا، ويستشهد لقوله ذلك ببيت حسان:
وَمِنَّا الَّذِي لاقى بسَيْفِ مُحَمَّدٍ ... فَجاسَ بِهِ الأعْدَاءَ عُرْضَ العَساكِرِ (1)
وجائز أن يكون معناه: فجاسوا خلال الديار، فقتلوهم ذاهبين وجائين، فيصح التأويلان جميعا، ويعني بقوله (وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا) وكان جوس القوم الذين نبعث عليهم خلال ديارهم وعدا من الله لهم مفعولا ذلك، لا محالة، لأنه لا يخلف الميعاد.
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله (أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فيما كان من فعلهم في المرّة الأولى في بني إسرائيل حين بعثوا عليهم، ومن الذين بعث عليهم في المرّة الآخرة، وما كان من صنعهم بهم، فقال بعضهم: كان الذي بعث الله عليهم في المرّة الأولى جالوت، وهو من أهل الجزيرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا) قال: بعث الله عليهم جالوت، فجاس خلال ديارهم، وضرب عليهم الخراج والذلّ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا يُقاتلون في سبيل الله، فبعث الله طالوت، فقاتلوا جالوت، فنصر الله بني إسرائيل، وقُتل جالوت بيدي داود، ورجع الله إلى بني إسرائيل ملكهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ
__________
(1) البيت شاهد على أن جاس، معناه: قتل. وقال في (اللسان: جوس) الجوس: مصدر جاس جوسا وجوسانا: تردد. وفي التنزيل العزيز: "فجاسوا خلال الديار": أي ترددوا بينها للغارة. وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم، قال: وجاسوا وحاسوا بمعنى واحد: يذهبون ويجيئون. وقال الزجاج: "فجاسوا خلال الديار": فطافوا في خلال الديار، ينظرون: هل بقي أحد لم يقتلوه؛ وفي الصحاح: "فجاسوا خلال الديار": أي تخللوها، فطلبوا ما فيها، كما يجوس الرجل الأخبار: أي يطلبها.(17/366)
وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا) قضاء قضى الله على القوم كما تسمعون، فبعث عليهم في الأولى جالوت الجزري، فسبى وقتل، وجاسوا خلال الديار كما قال الله، ثم رجع القوم على دخن فيهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: أما المرّة الأولى فسلَّط الله عليهم جالوت، حتى بعث طالوت ومعه داود، فقتله داود.
وقال آخرون: بل بعث عليهم في المرّة الأولى سنحاريب، وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى ونذكر ما حضرنا ذكره ممن لم نذكره قبل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي المعلى، قال: سمعت سعيد بن جبير، يقول في قوله (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: بعث الله تبارك وتعالى عليهم في المرّة الأولى سنحاريب من أهل أثور ونينوى، فسألت سعيدا عنها، فزعم أنها الموصل.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جريج، قال: ثنى يعلى بن مسلم بن سعيد بن جبير، أنه سمعه يقول: كان رجل من بني إسرائيل يقرأ حتى إذا بلغ (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) بكى وفاضت عيناه، وطبق المصحف، فقال ذلك ما شاء الله من الزمان، ثم قال: أي ربّ أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه، فأري في المنام مسكينا ببابل، يقال له بختنصر، فانطلق بمال وأعبد له، وكان رجلا موسرا، فقيل له أين تريد؟ قال: أريد التجارة حتى نزل دارا ببابل، فاستكراها ليس فيها أحد غيره، فحمل يدعو المساكين ويلطف (1) بهم حتى لم يبق أحد، فقال: هل بقي مسكين غيركم؟ قالوا: نعم، مسكين بفجّ آل فلان مريض يقال له بختنصر، فقال لغلمته: انطلقوا، حتى أتاه، فقال: ما اسمك؟ قال: بختنصر، فقال لغلمته: احتملوه، فنقله إليه ومرّضه حتى برأ، فكساه وأعطاه نفقة، ثم آذن الإسرائيلي بالرحيل، فبكى بختنصر، فقال الإسرائيلي: ما يبكيك؟ قال: أبكي أنك فعلت بي ما فعلت، ولا أجد شيئا أجزيك، قال: بلى شيئا يسيرا،
__________
(1) في عرائس المجالس للثعلبي: ويتلطف بهم، حتى لا يأتيه أحد مسكين إلا أعطاه.(17/367)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
إن ملكت أطعتني، فجعل الآخر يتبعه ويقول: تستهزئ بي، ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله، إلا أنه يرى أنه يستهزئ به، فبكى الإسرائيلي وقال: ولقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك، إلا أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضاه وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه؛ فقال يوما صيحون، وهو ملك فارس ببابل: لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام؟ قالوا: وما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان، فبعث رجلا وأعطاه مئة ألف، وخرج بختنصر في مطبخه، لم يخرج إلا ليأكل في مطبخه؛ فلما قدم الشام ورأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا، فكسر ذلك في ذرعه، فلم يسأل (1) قال: فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل، فلو غزوتموها ما دون بيت مالها شيء، قالوا: لا نُحسن القتال، قال: فلو أنكم غزوتم، قالوا: إنا لا نحسن القتال ولا نقاتل حتى أنفذ مجالس أهل الشام، ثم رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان؛ فرُفع ذلك إليه، فدعاه فأخبره الخبر وقال: إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا، كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء، وإني لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست أهله، فقلت لهم كذا وكذا، وقالوا لي كذا وكذا، الذي ذكر سعيد بن جبير أنه قال لهم، قال الطليعة لبختنصر: إنك فضحتني (2) لك مئة ألف وتنزع عما قلت، قال: لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت، ضرب الدهر من ضربه؛ فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام، فإن وجدوا مساغا ساغوا، وإلا انثنوا ما قدروا عليه، قالوا: ما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان، قال: بل الرجل الذي أخبرني ما أخبرني، فدعا بختنصر وأرسله، وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا، ومات صيحون الملك (3) قالوا: استخلفوا رجلا قالوا: على رسلكم حتى تأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم، لن ينقضوا عليكم شيئا، أمهلوا؛ فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه، فقسمه في الناس، فقالوا: ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا، فملَّكوه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بختنصر على الشام، فخرّب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشق، فوجد بها دما يغلي على كبا: أي كناسة، فسألهم ما هذا الدم؟ قالوا: أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر، قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم، فسكن.
وقال آخرون: يعني بذلك قوما من أهل فارس، قالوا: ولم يكن في المرّة الأولى قتال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ) قال: من جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم، ويسمعون حديثهم، معهم بختنصر، فوعى أحاديثهم من بين أصحابه، ثم رجعت فارس ولم يكن قتال، ونصرت عليهم بنو إسرائيل، فهذا وعد الأولى.
حدثني الحرث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) جند جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم، ثم ذكر نحوه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال: ذلك أي من جاءهم من فارس، ثم ذكر نحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) }
__________
(1) في عرائس المجالس للثعلبي: فلم يسألهم عن شيء.
(2) كذا في تاريخ الطبري طبع أوربة. وفي الأصل: إن صحبتني. تحريف.
(3) كذا في عرائس المجالس للثعلبي ص 336 طبعة الحلبي، وفي الأصل: ورمى في جنازة صحورا.(17/368)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
يقول تعالى ذكره: ثم أدلناكم يا بني إسرائيل على هؤلاء القوم الذين وصفهم جلّ ثناؤه أنه يبعثهم عليهم، وكانت تلك الإدالة والكرّة لهم عليهم، فيما ذكر السديّ في خبره أن بني إسرائيل غزوهم، وأصابوا منهم، واستنقذوا ما في أيديهم منهم. وفي قول آخرين: إطلاق الملك الذي غزاهم ما في يديه من أسراهم، ورد ما كان أصاب من أموالهم عليهم من غير قتال، وفي قول ابن عباس الذي رواه عطية عنه هي إدالة الله إياهم من عدوّهم جالوت حتى قتلوه، وقد ذكرنا كلّ ذلك بأسانيده فيما مضى
(وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) يقول: وزدنا فيما أعطيناكم من الأموال والبنين.
وقوله (وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) يقول: وصيرناكم أكثر عدَدَ نافرٍ منهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) : أي عددا، وذلك في زمن داود.
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) يقول: عددا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قالا قال ابن زيد، في قوله (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) لبني إسرائيل، بعد أن كانت الهزيمة، وانصرف الآخرون عنهم (وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) قال: جعلناكم بعد هذا أكثر عددا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور عن معمر، عن قتادة (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) ثم رددت الكرة لبني إسرائيل.
حدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، في قوله (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) قال: أربعة آلاف.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) }(17/370)
يقول تعالى ذكره لبني إسرائيل فيما قضى إليهم في التوراة (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) يا بني إسرائيل، فأطعتم الله وأصلحتم أمركم، ولزمتم أمره ونهيه (أَحْسَنْتُمْ) وفعلتم ما فعلتم من ذلك (لأنْفُسِكُمْ) لأنَّكم إنما تنفعون بفعلتكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءا، وينمي لكم أموالكم، ويزيدكم إلى قوّتكم قوّة. وأما في الآخرة فإن الله تعالى يثيبكم به جنانه (وإِنْ أَسَأْتُمْ) يقول: وإن عصيتم الله وركبتم ما نهاكم عنه حينئذ، فإلى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطون بذلك على أنفسكم ربكم، فيسلط عليكم في الدنيا عدوّكم، ويمكِّن منكم من بغاكم سوءا، ويخلدكم في الآخرة في العذاب المهين. وقال جلّ ثناؤه (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فلها) والمعنى: فإليها كما قال (بأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها) والمعنى: أوحى إليها.
وقوله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ) يقول: فإذا جاء وعد المرّة الآخرة من مرّتي إفسادكم يا بني إسرائيل في الأرض (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) يقول: ليسوء مجيء ذلك الوعد للمرّة الآخرة وجوهكم فيقبِّحها.
وقد اختلف القراء في قراءة قوله (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل المدينة والبصرة (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) بمعنى: ليسوء العباد أولو البأس الشديد الذين يبعثهم الله عليكم وجوهكم، واستشهد قارئو ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله (وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ) وقالوا: ذلك خبر عن الجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله (لِيَسُوءُوا) ، وقرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة: (لِيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ) على التوحيد وبالياء، وقد يحتمل ذلك وجهين من التأويل، أحدهما ما قد ذكرت، والآخر منهما: ليسوء الله وجوهكم، فمن وجَّه تأويل ذلك إلى ليسوء مجيء الوعد وجوهَكم، جعل جواب قوله فإذا محذوفا، وقد استغني بما ظهر عنه، وذلك المحذوف "جاء"، فيكون الكلام تأويله: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوء وجوهكم جاء. ومن وجَه تأويله إلى: ليسوء الله وجوهكم، كان أيضا في الكلام محذوف، قد استغني هنا عنه بما قد ظهر منه، غير أن ذلك المحذوف سوى "جاء"، فيكون معنى الكلام حينئذ: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوء الله وجوهكم، فيكون المضمر بعثناهم، وذلك جواب إذا حينئذ.(17/371)
وقرأ ذلك بعض أهل العربية من الكوفيين: (لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ) على وجه الخبر من الله تبارك وتعالى اسمه عن نفسه.
وكان مجيء وعد المرّة الآخرة عند قتلهم يحيى.
ذكر الرواية بذلك، والخبر عما جاءهم من عند الله حينئذ.
كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل أن رجلا من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس وهلاك بني إسرائيل على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل، يدعى بختنصر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم، فأقبل فسأل عنه حتى نزل على أمه وهو يحتطب، فلما جاء وعلى رأسه حزمة من حطب ألقاها، ثم قعد في جانب البيت فضمه، ثم أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر لنا بها طعاما وشرابا، فاشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا، فأكلوا وشربوا حتى إذا كان اليوم الثاني فعل به ذلك، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل ذلك، ثم قال له: إني أُحبّ أن تكتب لي أمانا إن أنت ملكت يوما من الدهر، فقال: أتسخر بي؟ فقال: إني لا أسخر بك، ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يدا، فكلمته أمه، فقالت: وما عليك إن كان ذلك وإلا لم ينقصك شيئا، فكتب له أمانا، فقال له: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك، فاجعل لي آية تعرفني بها قال: نرفع صحيفتك على قصبة أعرفك بها، فكساه وأعطاه. ثم إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا، ويدني مجلسه، ويستشيره في أمره، ولا يقطع أمرا دونه، وأنه هوى أن يتزوّج ابنة امرأة له، فسأل يحيى عن ذلك، فنهاه عن نكاحها وقال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى حين نهاه أن يتزوّجَ ابنتها، فعمدت أمّ الجارية حين جلس الملك على شرابه، فألبستها ثيابا رقاقا حمرا، وطيَّبتها وألبستها من الحُليّ، وقيل: إنها ألبستها فوق ذلك كساء أسود، وأرسلتها إلى الملك، وأمرتها أن تسقيه، وأن تعرض له نفسها، فإن أرادها على نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا في طست، ففعلت، فجعلت تسقيه وتعرض له نفسها؛ فلما أخذ فيه الشراب أرادها على نفسها، فقالت: لا أفعل(17/372)
حتى تعطيني ما أسألك، فقال: ما الذي تسأليني؟ قالت: أسألك أن تبعث إلى يحيى بن زكريا، فأوتي برأسه في هذا الطست، فقال: ويحك سليني غير هذا، فقالت له: ما أريد أن أسألك إلا هذا. قال: فلما ألحَّت عليه بعث إليه، فأتى برأسه، والرأس يتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا يحلّ لك ذلك؛ فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقى عليه، فرقى الدم فوق التراب يغلي، فألقى عليه التراب أيضا، فارتفع الدم فوقه، فلم يزل يلقي عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو يغلى وبلغ صحابين، فثار في الناس، وأراد أن يبعث عليهم جيشا، ويؤمِّر عليهم رجلا فأتاه بختنصر وكلَّمه وقال: إن الذي كنت أرسلته تلك المرّة ضعيف، وإني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها، فابعثني، فبعثه، فسار بختنصر حتى إذا بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم، فلم يطقهم، فلما اشتدّ عليهم المقام وجاع أصحابه، أرادوا الرجوع، فخرجت إليهم عجوز من عجائز بني إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتي بها إليه، فقالت له: إنه بلغني أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة، قال: نعم، قد طال مقامي، وجاع أصحابي، فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني، فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما سألتك، وتقتل من أمرتك بقتله، وتكفّ إذا أمرتك أن تكفّ؟ قال: نعم، قالت: إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع، ثم أقم على كلّ زاوية ربعا، ثم ارفعوا بأيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا، فإنها سوف تسَّاقط، ففعلوا، فتساقطت المدينة، ودخلوا من جوانبها، فقالت له: اقتل على هذا الدم حتى يسكن، وانطلقت به إلى دم يحيى وهو على تراب كثير، فقتل عليه حتى سكن سبعين ألفا وامرأة؛ فلما سكن الدم قالت له: كفّ يدك، فإن الله تبارك وتعالى إذا قتل نبيّ لم يرض، حتى يقتل من قتله، ومن رضي قتله، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته، فكفّ عنه وعن أهل بيته، وخرّب بيت المقدس، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وقال: من طرح فيه جيفة فله جزيته تلك السنة، وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى، فلما خرّبه بختنصر ذهب معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم، وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل، هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت؛ فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات، فملك مكانه، وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه، فحسدهم المجوس على ذلك، فوشوا بهم إليه وقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون من ذبيحتك، فدعاهم فسألهم، فقالوا: أجل إن لنا ربا نعبده، ولسنا نأكل من ذبيحتكم، فأمر بخدّ فخدّ لهم، فألقوا فيه وهم ستة، وألقي معهم سبعا ضاريا ليأكلهم، فقال: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بينهم، ولم يخدش منهم أحدا، ولم ينكأه شيئا، ووجدوا معهم رجلا فعدوهم فوجدوهم سبعة، فقالوا: ما بال هذا السابع إنما كانوا ستة، فخرج إليهم السابع، وكان ملَكا من الملائكة، فلطمه لطمة فصار في الوحش، فكان فيهم سبع سنين، لا يراه وحشيّ إلا أتاه حتى ينكحه، يقتصّ منه ما كان يصنع بالرجال، ثم إنه رجع ورد الله عليه مُلكه، فكانوا أكرم خلق الله عليه. ثم إن المجوس وَشَوا به ثانية، فألقوا أسدا في بئر قد ضَرِي، فكانوا يلقون إليه الصخرة فيأخذها، فألقوا إليه دانيال، فقام الأسد في جانب، وقام دانيال في جانب لا يمسه، فأخرجوه، وقد كان قبل ذلك خدّ لهم خدّا، فأوقد فيه نارا، حتى إذا أججها قذفهم فيها، فأطفأها الله عليهم ولم ينلهم منها شيء. ثم إن بختنصر رأى بعد ذلك في منامه صنما رأسه من ذهب، وعنقه من شبه، وصدره من حديد، وبطنه أخلاط ذهب وفضة وقوارير، ورجلاه من فخار؛ فبينا هو قائم ينظر، إذ جاءت صخرة من السماء من قِبَل القبلة، فكسرت الصنم فجعلته هشيما، فاستيقظ فزعا وأُنسيها، فدعا السحرة والكهنة، فسألهم، فقال: أخبروني عما رأيت، فقالوا له: لا بل أنت أخبرنا، ما رأيت فنعبره لك، قال: لا أدري، قالوا له: فهؤلاء الفتية الذين تكرمهم، فادعهم فاسألهم، فإن هم لم يخبروك بما رأيت فما تصنع بهم؟ قال: أقتلهم، فأرسل إلى دانيال وأصحابه، فدعاهم، فقال لهم: أخبروني ماذا رأيت؟ فقال له دانيال: بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك، قال: لا أدري قد نسيتها، فقال له دانيال: كيف نعلم رؤيا لم تخبرنا بها؟ فأمر البوّاب أن يقتلهم، فقال دانيال للبوّاب: إن الملك إنما أمر بقتلنا من أجل رؤياه، فأخِّرنا ثلاثة أيام، فإن نحن أخبرنا الملك برؤياه وإلا فاضرب أعناقنا، فأجَّلهم فدعوا الله، فلما كان اليوم الثالث أبصر كل رجل منهم رؤيا بختنصر على حدة، فأتوا البوّاب فأخبروه، فدخل على الملك فأخبره، فقال: أدخلهم عليّ؛ وكان بختنصر لا يعرف من رؤياه شيئا، إلا شيئا يذكرونه، فقالوا له: أنت رأيت كذا وكذا، فقصوها عليه، فقال: صدقتم، قالوا: نحن نعبرها لك. أما الصنم الذي رأيت رأسه من ذهب، فإنه ملك حسن مثل الذهب، وكان قد ملك الأرض كلها؛ وأما العنق من الشبه، فهو ملك ابنك بعد، يملك فيكون ملكه حسنا، ولا يكون مثل الذهب؛ وأما صدره الذي من حديد فهو ملك أهل فارس، يملكون بعدك ابنك، فيكون ملكهم شديدا مثل الحديد؛ وأما بطنه الأخلاط، فإنه يذهب ملك أهل فارس، ويتنازع الناس الملك في كلّ قرية، حتى يكون الملك يملك اليوم واليومين، والشهر والشهرين، ثم يُقتل، فلا يكون للناس قوام على ذلك، كما لم يكن للصنم قوام على رجلين من فخار؛ فبينما هم كذلك، إذ بعث الله تعالى نبيا من أرض العرب؛ فأظهره على بقية مُلك أهل فارس، وبقية ملك ابنك وملكك، فدمره وأهلكه حتى لا يبقى منه شيء، كما جاءت الصخرة فهدمت الصنم، فعطف عليهم بختنصر فأحبهم، ثم إن المجوس وشوا بدانيال، فقالوا: إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عارا، فجعل لهم بختنصر طعاما، فأكلوا وشربوا، وقال للبوّاب: انظر أوّل من يخرج عليك يبول، فاضربه بالطبرزين، وإن قال: أنا بختنصر، فقل: كذبت، بختنصر أمرني، فحبس الله عن دانيال البول، وكان أوّل من قام من القوم يريد البول بختنصر، فقام مدلا وكان ذلك ليلا يسحب ثيابه؛ فلما رآه البواب شدّ عليه، فقال: أنا بختنصر، فقال: كذبت، بختنصر أمرني أن أقتل أوّل من يخرج، فضربه فقتله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي المعلى، قال: سمعت سعيد بن جبير، قال: بعث الله عليهم في المرّة الأولى سنحاريب، قال: فردّ الله لهم الكرّة عليهم، كما قال؛ قال: ثم عصوا ربهم وعادوا لما نهوا عنه، فبعث عليهم في المرّة الآخرة بختنصر، فقتل المقاتلة، وسبى الذرّية، وأخذ ما وجد من الأموال، ودخلوا بيت المقدس، كما قال الله عزّ وجلّ (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) دخلوه فتبروه وخرّبوه وألقوا فيه ما استطاعوا من العذرة والحيض والجيف والقذر، فقال الله (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) فرحمهم فردّ إليهم ملكهم وخلص من كان(17/373)
في أيديهم من ذرّية بني إسرائيل، وقال لهم: إن عدتم عدنا، فقال أبو المعلى، ولا أعلم ذلك؛ إلا من هذا الحديث، ولم يَعِدهم الرجعة إلى ملكهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) قال: بعث الله ملك فارس ببابل جيشا، وأمر عليهم بختنصر، فأتوا بني إسرائيل، فدمروهم، فكانت هذه الآخرة ووعدها.
حدثنا القاسم. قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
حدثا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: ثني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، قال: لما ضرب لبختنصر الملك بجرانه، قال: ثلاثة فمن استأخر منكم بعدها فليمش إلى خشبته، فغزا الشام، فذلك حين قتل وأخرج بيت المقدس، ونزع حليته، فجعلها آنية ليشرب فيها الخمور، وخوانا يأكل عليه الخنازير، وحمل التوراة معه، ثم ألقاها في النار، وقدم فيما قدم به مئة وصيف منهم دانيال وعزريا وحنانيا ومشائيل، فقال لإنسان: أصلح لي أجسام هؤلاء لعلي أختار منهم أربعة يخدمونني، فقال دانيال لأصحابه: إنما نصروا عليكم بما غيرتم من دين آبائكم، لا تأكلوا لحم الخنزير، ولا تشربوا الخمر، فقالوا للذي يصلح أجسامهم: هل لك أن تطعمنا طعاما، هو أهون عليك في المئونة مما تطعم أصحابنا، فإن لم نسمن قبلهم رأيت رأيك، قال: ماذا؟ قال: خبز الشعير والكرّاث، ففعل فسمنوا قبل أصحابهم، فأخذهم بختنصر يخدمونه، فبينما هم كذلك، إذ رأى بختنصر رؤيا، فجلس فنسيها؛ فعاد فرقد فرآها، فقام فنسيها، ثم عاد فرقد فرآها، فخرج إلى الحجرة؛ فنسيها؛ فلما أصبح دعا العلماء والكهَّان، فقال: أخبروني بما رأيت البارحة، وأوّلوا لي رؤياي، وإلا فليمش كل رجل منكم إلى خشبته، موعدكم ثالثة. فقالوا: هذا لو أخبرنا برؤياه، وذكر كلاما لم أحفظه، قال: وجعل دانيال كلما مرّ به أحد من قرابته يقول: لو دعاني الملك لأخبرته برؤياه، ولأوّلتها له، قال: فجعلوا يقولون: ما أحمق هذا الغلام الإسرائيلي إلى أن مرّ به كهل، فقال له ذلك، فرجع إليه فأخبره،(17/376)
قال: إيه، قال: وعنقه من فضة، قال: إيه، قال: وصدره من حديد، قال: إيه، قال: وبطنه من صفر، قال: إيه، قال: ورجلاه من آنك، قال: إيه، قال: وقدماه من فخار، قال: هذا الذي رأيت؟ قال: إيه، قال: فجاءت حصاة فوقعت في رأسه، ثم في عنقه، ثم في صدره، ثم في بطنه، ثم في رجليه، ثم في قدميه، قال: فأهلكته. قال: فما هذا؟ قال: أما الذهب فإنه ملكك، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك، ثم ملك ابن ابنك، قال: وأما الفخار فملك النساء، فكساه جبة ترثون (1) وسوره وطاف به في القرية، وأجاز خاتمه، فلما رأت ذلك فارس، قالوا: ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيلي، فقالوا: ائتوه من نحو الفتية الثلاثة، ولا تذكروا له دانيال، فإنه لا يصدقكم عليه، فأتوه، فقالوا: إن هؤلاء الفتية الثلاثة ليسوا على دينك، وآية ذلك أنك إن قربت إليهم لحم الخنزير والخمر لم يأكلوا ولم يشربوا، فأمر بحطب كثير فوضع، ثم أرقاهم عليه، ثم أوقد فيه نارا، ثم خرج من آخر الليل يبول، فإذا هم يتحدّثون، وإذا معهم رابع يروح عليهم يصلي، قال: من هذا يا دانيال؟ قال: هذا جبريل، إنك ظلمتهم، قال: ظلمتهم، مر بهم ينزلوا؛ فأمر بهم فنزلوا، قال: ومسخ الله تعالى بختنصر من الدوابّ كلها، فجعل من كل صنف من الدوابّ رأسه رأس سبع من السباع الأسد، ومن الطير النسر، وملك ابنه فرأى كفا خرجت بين لوحين، ثم كتبت سطرين، فدعا الكهان والعلماء فلم يجدوا لهم في ذلك علما، فقالت له أمه: إنك لو أعدت إلى دانيال منزلته التي كانت له من أبيك أخبرك، وكان قد جفاه، فدعاه، فقال: إني معيد إليك منزلتك من أبي، فأخبرني ما هذان السطران؟ قال: أما أن تعيد إليّ منزلتي من أبيك، فلا حاجة لي بها؛ وأما هذان السطران فإنك تقتل الليلة، فأخرج من في القصر أجمعين، وأمر بقفله، فأقفلت الأبواب عليه، وأدخل معه آمن أهل القرية في نفسه معه سيف، فقال: من جاءك من خلق الله فاقتله، وإن قال أنا فلان؛ وبعث الله عليه البطن، فجعل يمشي حتى كان شطر الليل، فرقد ورقد صاحبه، ثم نبهه البطن، فذهب يمشي والآخر نائم، فرجع فاستيقظ به، فقال له: أنا فلان، فضربه بالسيف فقتله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ) آخر العقوبتين (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) كما دخله عدوهم قبل ذلك (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) فبعث الله عليهم في الآخرة بختنصر المجوسي البابلي، أبغض خلق الله إليه، فسبا وقتل وخرّب بيت المقدس، وسامهم سوء العذاب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ) من المرتين (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) قال: ليقبحوا وجوهكم (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا) قال: يدمِّروا ما علوا تدميرا، قال: هو بختنصر، بعثه الله عليهم في المرة الآخرة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: فلما أفسدوا بعث الله عليهم في المرّة الآخرة بختنصر، فخرّب المساجد وتبر ما علوا تتبيرا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: فيما بلغني، استخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك، يعني بعد قتلهم شعياء رجلا منهم يقال له: ناشة بن آموص، فبعث الله الخضر نبيا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قد بلغني يقول: "إِنَّمَا سُمّيَ الخَضِرُ خَضِرًا، لأنَهُ جَلَسَ عَلى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَقامَ عَنْها وَهيَ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ" قال: واسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل: أرميا بن حلفيا، وكان من سبط هارون بن عمران.
حدثني محمد بن سهل بن عسكر، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، قالا ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثنا عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، وحدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، واللفظ لحديث ابن حميد أنه كان يقول: قال الله تبارك
__________
(1) كذا في الأصل. واللفظة محرفة. وفي الكتاب المقدس: سفر دانيال، الإصحاح الخامس: "حينئذ أمر بلشاصر أن يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه ".(17/377)
وتعالى لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا إرميا من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك في بطن أمك قدّستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهَّرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الأشدّ اخترتك، ولأمر عظيم اختبأتك؛ فبعث الله إرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدّده ويرشده، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبين الله؛ قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلُّوا المحارم، ونَسوا ما كان الله تعالى صنع بهم، وما نجاهم من عدوّهم سنحاريب وجنوده. فأوحى الله تعالى إلى إرمياء: أن ائت قومك من بني إسرائيل، واقصص عليهم ما آمرك به، وذكِّرهم نعمتي عليهم، وعرّفهم أحداثهم، فقال إرمياء: إني ضعيف إن لم تقوّني، وعاجز إن لم تبلِّغني، ومخطئ إن لم تسدّدني، ومخذول إن لم تنصرني، وذليل إن لم تعزَّني، قال الله تبارك وتعالى: أوَلم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي، وأن القلوب كلها والألسنة بيدي، أقلبها كيف شئت، فتطيعني، وإني أنا الله الذي لا شيء مثلي، قامت السماوات والأرض وما فيهنّ بكلمتي، وأنا كلَّمت البحار، ففهمت قولي، وأمرتها فعقلت أمري، وحدَدت عليها بالبطحاء فلا تَدَّى حدّي، تأتي بأمواج كالجبال، حتى إذا بلغت حدّي ألبستها مذَّلة طاعتي خوفًا واعترافًا لأمري إني معك، ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي، لتبلغهم رسالاتي، ولتستحقّ بذلك مثل أجر من تبعك منهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، وإن تقصِّر عنها فلك مثل وزر من تركب في عماه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا، انطلق إلى قومك فقل: إن الله ذكر لكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء، وسلهم كيف وجد آباؤهم مغبَّة طاعتي، وكيف وجدوا هم مغبَّة معصيتي، وهل علموا أن أحدا قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي، فإن الدّوابّ مما تذكر أوطانها الصالحة، فتنتابها، وإن هؤلاء القوم قد رتعوا في مروج الهَلَكة. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خوَلا ليعبدوهم دوني وتحكَّموا فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغروهم مني. أما أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتي، فادّان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعوهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني جراءة عليّ وغرّة وفرية عليّ وعلى رسلي، فسبحان جلالي وعلوّ مكاني، وعظم شأني، فهل ينبغي لبشر أن يُطاع في معصيتي، وهل ينبغي في أن أخلق عبادا أجعلهم أربابًا من دوني. وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتزيَّنون بعمارتها لغيري، لطلب الدنيا بالدين، ويتفقَّهون فيها لغير العلم، ويتعلَّمون فيها لغير العمل. وأما أولاد الأنبياء، فمكثرون مقهورون مغيرون، يخوضون مع الخائضين، ويتمنَّون عليّ مثل نُصرة آبائهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحدَ أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبُّر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم لي، وكيف كان جِدّهم في أمري حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصَدَقوا حتى عزّ أمري، وظهر ديني، فتأنَّيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطْوَلت لهم، وصفحت عنهم، لعلهم يرجعون، فأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتذكرون، فأعذرت في كل ذلك، أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية وأظهرهم على العدوّ فلا يزدادون إلا طغيانا وبُعدا مني، فحتى متى هذا؟ أبي يتمرّسون أم إياي يخادعون؟ وإني أحلف بعزّتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضلّ فيها رأي ذي الرأي، وحكمة الحكيم، ثم لأسلطنّ عليهم جبارا قاسيا عاتيا، ألبسه الهيبة، وأنتزع من صدره الرأفة والرحمة والبيان، يتبعه عدد وسواد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيران النسور، وأن حملة فُرسانه كوبر العقبان، ثم أوحى الله إلى إرميا: إني مهلك بنى إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح، ثم لما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشقّ ثيابه، ونبذَ الرماد على رأسه وقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقيت التوراة، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو أشرّ عليّ، لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة والهلاك؛ فلما سمع الله تضرّع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا أشقّ ذلك عليك فيما أوحيت لك؟ قال: نعم يا ربّ أهلكْني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسرّ به، فقال الله: وعزّتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك، ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا، ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره ما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح وقال: إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدّمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته، ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقلّ الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها، فقال لهم ملكهم: يا بني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يُبْعث عليكم قوم لا رحمة لهم بكم، وإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه. فأبَوا عليه أن ينزعوا عن شيء ما هم عليه، وإن الله قد ألقى في قلب بختنصر بن نجور زاذان بن سنحاريب ابن دارياس بن نمرود ابن فالخ بن عابر بن نمرود صاحب إبراهيم الذي حاجَّه في ربه، أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جدّه سنحاريب أراد أن يفعل، فخرج في ستّ مئة ألف راية يريد أهل بيت المقدس؛ فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس، حتى يكون منك الأمر في ذلك؟ فقال إرميا للملك: إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق؛ فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وعزم الله على هلاكهم، بعث الله مَلَكا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا فاستفته، وأمَرَه بالذي يستفتي فيه، فأقبل المَلك إلى إرمياء، وكان قد تمثَّل له رجلا من بني إسرائيل، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال له المَلَك: يا نبيّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حسنا، ولم آلُهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي، فأفتني فيهم يا نبيّ الله، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل ما أمرك الله أن تصل، وأبشر بخير وانصرف عنه، فمكث أياما، ثم أقبل إليه في صورة ذلك الذي جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي آتيتك أستفتيك في شأن أهلي، فقال له نبيّ الله: أو ما ظهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحبّ؟ فقال: يا نبيّ الله، والذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس لأهل رحمه إلا قد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك، فقال النبيّ: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه، فقال المَلك من عنده، فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس، ومعه خلائق من قومه كأمثال الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعا شديدا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل، فدعا إرميا، فقال: يا نبيّ الله أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق. ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرّتين، فقال له النبيّ: أولم يأن لهم أن يمتنعوا من الذي هم فيه مقيمون عليه؟ فقال له الملك: يا نبيّ الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن مأربهم في ذلك سخطي؛ فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ولا يحبه الله عزّ وجلّ، فقال له نبيّ الله: على أيّ عمل رأيتهم؟ قال: يا نبيّ الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكن غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحقّ إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم، فقال إرميا: يا مالك السماوات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم، فما خرجت الكلمة من في إرميا حتى أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس، فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها؛ فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا ملك السماوات والأرض بيدك ملكوت كلّ شيء وأنت أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني، فنودي إرميا: إنهم لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا، فاستيقن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرّات، وأنه رسول ربه، ثم إن إرميا طار حتى خالط الوحش، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرّب بيت المقدس، أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كلّ صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبيّ؛ فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل، ففعل وأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلمة، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب، وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر ألفًا من سبط زبالون بن يعقوب ونفثالي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب، ومن بقي من بني إسرائيل، وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أقَرّ بالشام، وثلثا سبى، وثلثا قتل، وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل، وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم، فلما ولى بختنصر عنهم راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له معه عصير ثم ذكر قصته حين أماته الله مئة عام، ثم بعثه، ثم خبر رؤيا بختنصر وأمر دانيال، وهلاك بختنصر، ورجوع من بقي من بني إسرائيل في أيدي أصحاب بختنصر بعد هلاكه إلى الشام، وعمارة بيت المقدس، وأمر عُزَير وكيف ردّ الله عليه التوراة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق، قال: ثم عمدت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث، يعني بعد مهلك عُزَير، ويعود الله عليهم، ويبعث فيهم الرسل، ففريقا يكذّبون، وفريقا يقتلون، حتى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، وكانوا من بيت آل داود.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد ابن إسحاق، عن(17/379)
عمر بن عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير أنه قال، وهو يحدّث عن قتل يحيى بن زكريا قال: ما قُتل يحيى بن زكريا إلا بسبب امرأة بغيّ من بغايا بني إسرائيل، كان فيهم ملك، وكان يحيى بن زكريا تحت يدي ذلك الملك، فهمَّت ابنة ذلك الملك بأبيها، فقالت: لو أني تزوّجت بأبي فاجتمع لي سلطانه دون النساء، فقالت له: يا أبت تزوّجني ودعته إلى نفسها، فقال لها: يا بنية إن يحيى بن زكريا لا يحل لنا هذا، فقالت: من لي بيحيى بن زكريا ضيَّق عليّ، وحال بيني وبين أن أتزوّج بأبي، فأغلب على مُلكه ودنياه دون النساء؛ قال: فأمرت اللعابين ومحلت بذلك لأجل قتل يحيى بن زكريا، فقالت: ادخلوا عليه فالعبوا، حتى إذا فرغتم فإنه سيُحَكمكم، فقولوا: دم يحيى بن زكريا ولا تقبلوا غيره. وكان اسم الملك رواد، واسم ابنته البغيّ، وكان الملك فيهم إذا حدّث فكذب، أو وعد فأخلف خلع فاستُبدل به غيرُه؛ فلما ألعبوه وكثر عجبه منهم، قال: سلوني أعطكم، فقالوا له: نسألك دم يحيى بن زكريا أعطنا إياه، قال: ويحكم سلوني غير هذا، فقالوا: لا نسألك شيئا غيره، فخاف على ملكه إن هو أخلفهم أن يُسْتحَلّ بذلك خَلْعه، فبعث إلى يحيى بن زكريا وهو جالس في محرابه يصلي، فذبحوه في طست ثم حزّوا رأسه، فاحتمله رجل في يده والدم يحمل في الطّسْت معه. قال: فطلع برأسه يحمله حتى وقف به على الملك، ورأسه يقول في يدي الذي يحمله لا يحلّ لك ذلك، فقال رجل من بني إسرائيل: أيها الملك لو أنك وهبت لي هذا الدم؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: أطهر منه الأرض، فإنه كان قد ضيقها علينا، فقال: أعطوه هذا الدم، فأخذه فجعله في قلة، ثم عمد به إلى بيت في المذبح، فوضع القلة فيه، ثم أغلق عليه، ففار في القُلَّة حتى خرج منها من تحت الباب من البيت الذي هو فيه؛ فلما رأى الرجل ذلك، فظع به، فأخرجه فجعله في فلاة من الأرض، فجعل يفور، وعظمت فيهم الأحداث، ومنهم من يقول: أقرّ مكانه في القربان ولم يحوّل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا (وبعض الناس يقول: وقتلوا زكريا) ، ابتعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس، فسار إليه بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رءوس جنده(17/384)
يدعى نبور زاذان صاحب القتل، فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أظهرنا على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحدا أقتله، فأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم نبور زادان، فدخل بيت المقدس، فقال في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دما يغلي، فسألهم فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدم الذي يغلي، أخبروني خبره ولا تكتموني شيئا من أمره؟ فقالوا: هذا دم قربان كان لنا كنا قرّبناه فلم يُتَقبل منا، فلذلك هو يغلي كما تراه، ولقد قرّبنا منذ ثمان مئة سنة القربان فتقبِّل منا إلا هذا القربان، قال: ما صَدَقْتموني الخبر قالوا له: لو كان كأوّل زماننا لقُبل منا، ولكنه قد انقطع منا المُلك والنبوّة والوحي، فلذلك لم يُتقبل منا، فذبح منهم نبور زادان على ذلك الدم سبع مئة وسبعين روحا من رءوسهم، فلم يهدأ، فأمر بسبع مئة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم، فذبحهم على الدم فلم يبرد ولم يهدأ؛ فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويْلكم يا بني إسرائيل أصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طال ما ملكتم في الأرض، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار، لا أنثى ولا ذكرا إلا قتلته، فلما رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر، فقالوا له: إن هذا دم نبيّ منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدّقه، فقتلناه، فهذا دمه، فقال لهم نبور زاذان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا، قال: الآن صَدَقْتموني، بمثل هذا ينتقم ربكم منكم؛ فلما رأى نبور زاذان أنهم صدقوه خرّ ساجدا وقال لمن حوله: غلقوا الأبواب، أبواب المدينة، وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل ثم قال: يا يحيى بن زكريا، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قُتل منهم من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحدا، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله، ورفع نبور زاذان عنهم القتل وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وصدّقت وأيقنت أنه لا ربّ غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح، ولو كان له شريك لم تستمسك السماوات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح فتبارك وتقدّس، وتسبح وتكبر وتعظم، ملك الملوك الذي له ملك السماوات السبع والأرض وما فيهن، وما بينهما، وهو على كل شيء قدير، فله الحلم والعلم والعزّة والجبروت، وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون مُلكه. فأوحى الله إلى رأس من رءوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حَبُور صدوق، والحبور بالعبرانية: حديث الإيمان، وإن نبور زاذان قال لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل، إن عدوّ الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لست أستطيع أن أعصيه، قالوا له: افعل ما أمرت به. فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل، فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قبل ذلك، فطُرحوا على ما قُتل من مواشيهم حتى كانوا فوقهم، فلم يظنّ خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل، فلما بلغ الدم عسكره، أرسل إلى نبور زاذان أن ارفع عنهم، فقد بلغتني دماؤهم، وقد انتقمت منهم بما فعلوا، ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد، وهي الوقعة الآخرة التي أنزل الله ببني إسرائيل، يقول الله عزّ ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) وعسى من الله حقّ، فكانت الوقعة الأولى: بختنصَر وجنوده، ثم ردّ الله لكم الكرّة عليهم، وكانت الوقعة الآخرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم، وقتل رجالهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، يقول الله تبارك وتعالى (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) ثم عاد الله عليهم فأكثر عددهم، ونشرهم في بلادهم، ثم بَدّلوا وأحدثوا الأحداث، واستبدلوا بكتابهم غيره، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم وضيَّعوا الحدود.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي عَتَّاب رجل من تغلب كان نصرانيا عمرا من دهره، ثم أسلم بعد، فقرأ القرآن، وفقه في(17/385)
الدين، وكان فيما ذكر أنه كان نصرانيا أربعين سنة، ثم عُمِّر في الإسلام أربعين سنة، قال: كان آخر أنبياء بني إسرائيل نبيّا بعثه الله إليهم، فقال لهم: يا بني إسرائيل إن الله يقول لكم: إني قد سلبت أصواتكم، وأبغضتكم بكثرة أحداثكم، فهَمُّوا به ليقتلوه، فقال الله تبارك وتعالى له: ائتهم واضرب لى ولهم مثلا فقل لهم: إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: اقضوا بيني وبين كرمي، ألم أختر له البلاد، وطيبت له المدرة، وحظرته بالسياج، وعرشته السويق والشوك والسياج والعَوْسَج، وأحطته بردائي، ومنعته من العالم وفضَّلته، فلقيني بالشوك والجذوع، وكل شجرة لا تؤكل ما لهذا اخترت البلدة، ولا طيَّبت المَدَرة، ولا حَظَرته بالسياج، ولا عَرَشْته السويق، ولا حُطْته بردائي، ولا منعته من العالم، فضلتكم وأتممت عليكم نعمتي، ثم استقبلتموني بكلّ ما أكره من معصيتي وخلاف أمري لمه إن الحمار ليعرف مذوده، لمه إن البقرة لتعرف سيدها، وقد حلفت بعزّتي العزيزة، وبذراعي الشديد لآخذنّ ردائي، ولأمرجنّ الحائط، ولأجعلنكم تحت أرجل العالم، قال: فوثبوا على نبيهم فقتلوه، فضرب الله عليهم الذّل، ونزع منهم الملك، فليسوا في أمة من الأمم إلا وعليهم ذلّ وصغار وجزية يؤدّونها، والملك في غيرهم من الناس، فإن يزالوا كذلك أبدا، ما كانوا على ما هم عليه.
قال: قال: فهذا ما انتهى إلينا من جماع أحاديث بني إسرائيل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) قال: كانت الآخرة أشدّ من الأولى بكثير، قال: لأن الأولى كانت هزيمة فقط، والآخرة كان التدمير، وأحرق بختنصر التوراة حتى لم يبق منها حرف واحد، وخرب المسجد.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعث عيسى ابن مريم يحيى بن زكريا، في اثني عشر من الحواريين يعلِّمون الناس، قال: فكان فيما نهاهم عنه، نكاح ابنة الأخ، قال: وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوّجها، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها؛ فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا دخلت على الملك(17/387)
فسألك حاجتك، فقولي: حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكريا؛ فلما دخلت عليه سألها حاجتها، فقالت: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سلي غير هذا! فقالت: ما أسألك إلا هذا، قال: فلما أبت عليه دعا يحيى ودعا بطست فذبحه، فبدرت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم، فجاءته عجوز من بني إسرائيل، فدلَّته على ذلك الدم، قال: فألقى الله في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن، فقتل سبعين ألفا منهم من سنّ واحد فسكن.
وقوله (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يقول: وليدخل عدوّكم الذي أبعثه عليكم مسجد بيت المقدس قهرا منهم لكم وغلبة، كما دخلوه أوّل مرَّةٍ حين أفسدتم الفساد الأوّل في الأرض.
وأما قوله (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) فإنه يقول: وليدمِّروا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا، يقال منه: دمَّرت البلد: إذا خرّبته وأهلكت أهله، وتَبَر تَبْرا وتَبارا، وتَبَّرته أتبرُه تتبيرًا، ومنه قول الله تعالى ذكره (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا) يعني: هلاكا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) قال: تدميرا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) قال: يدمروا ما علوا تدميرا.(17/388)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
القول في تأويل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) }
يقول تعالى ذكره: لعلّ ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم الله عليكم ليسوء مبعثه عليكم وجوهكم، وليدخلوا المسجد(17/388)
كما دخلوه أوّل مرّة، فيستنقذكم من أيديهم، وينتشلكم من الذلّ الذي يحله بكم، ويرفعكم من الخمولة التي تصيرون إليها، فيعزّكم بعد ذلك، وعسى من الله: واجب، وفعل الله ذلك بهم، فكثر عددهم بعد ذلك، ورفع خَساستهم، وجعل منهم الملوك والأنبياء، فقال جلّ ثناؤه لهم: وإن عدتم يا معشر بني إسرائيل لمعصيتي وخلاف أمري، وقتل رسلي، عدنا عليكم بالقتل والسِّباء، وإحلال الذلّ والصِّغار بكم، فعادوا، فعاد الله عليهم بعقابه وإحلال سخطه بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن عمر بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) قال: عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد. قال: فسلَّط الله عليهم ثلاثة ملوك من ملوك فارس: سندبادان وشهربادان وآخر.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) قال: فعادوا فسلَّط الله عليهم المؤمنين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) فعاد الله عليهم بعائدته ورحمته (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قال: عاد القوم بشرّ ما يحضرهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته، ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة؛ قال الله عزّ وجلّ في آية أخرى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .... الآية، فبعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) فعادوا، فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله(17/389)
تعالى (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) قال بعد هذا (وَإِنْ عُدْتُمْ) لما صنعتم لمثل هذا من قتل يحيى وغيره من الأنبياء (عُدْنا) إليكم بمثل هذا.
وقوله (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: وجعلنا جهنم للكافرين سجنا يسجنون فيها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن مسعدة، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) قال: سجنا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) يقول: جعل الله مأواهم فيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) قال: مَحْبِسا حَصُورا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) يقول: سجنا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى (حَصِيرًا) قال: يحصرون فيها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) قال: يُحصرون فيها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) سجنا يسجنون فيها حصروا فيها.
حدثنا عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) يقول: سجنا.
وقال آخرون: معناه: وجعلنا جهنم للكافرين فراشا ومهادا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن: الحصير: فِراش ومِهاد، وذهب الحسن(17/390)
بقوله هذا إلى أن الحصير في هذا الموضع عني به الحصير الذي يُبْسط ويفترش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا، فوجَّه الحسن معنى الكلام إلى أن الله تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا، كما قال (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) وهو وجه حسن وتأويل صحيح، وأما الآخرون، فوجهوه إلى أنه فعيل من الحصر الذي هو الحبس. وقد بيَّنت ذلك بشواهده في سورة البقرة، وقد تسمي العرب الملك حصيرا
بمعنى أنه محصور: أي محجوب عن الناس، كما قال لبيد:
وَمَقاَمةٍ غُلْبِ الرّقابِ كأنَّهُمْ ... جِنٌّ لَدَى بابِ الحَصِيرِ قِيامُ (1)
يعني بالحصير: الملك، ويقال للبخيل: حصور وحصر: لمنعه ما لديه من المال عن أهل الحاجة، وحبسه إياه عن النفقة، كما قال الأخطل:
وشَارِبٍ مُرْبِحٍ بالكأْسِ نادَمَنِي ... لا بالحَصُورِ وَلا فِيها بِسَوَّارِ (2)
ويروى: بسآر. ومنه الحصر في المنطق لامتناع ذلك عليه، واحتباسه إذا أراده. ومنه أيضا الحصور عن النساء لتعذّر ذلك عليه، وامتناعه من الجماع، وكذلك الحصر في الغائط: احتباسه عن الخروج، وأصل ذلك كله واحد وإن اختلفت ألفاظه. فأما الحصيران: فالجنبان، كما قال الطرمّاح:
قَلِيلا تَتَلَّى حاجَةً ثُمَّ عُولِيَتْ ... عَلى كُلّ مَفْرُوشِ الحَصِيرَيْنِ بادِنِ (3)
يعني بالحصيرين: الجنبيّن.
__________
(1) البيت في (ديوان لبيد، طبع ليدن سنة 1891 ص 39) . والرواية فيه: "لدى طرف الحصير". وروايته في (مجاز القرآن لأبي عبيدة ص 371) وفي (لسان العرب: قوم) : كرواية المؤلف هنا. قالا: ويقال للملك حصير، لأنه محجوب. والمقامة والمقام المجلس، ومقامات الناس: مجالسهم والمقامة: السادة، والغلب: جمع أغلب، وصف من غلب غلبا (كفرح فرحا) : إذا غلظت رقبته. وفي (اللسان: حصر) ذكر هذا الشاهد كرواية المؤلف مع وضع لفظة "وقماقم" في مكان: "ومقامة" وأشار إلى الرواية الأخرى. ثم قال: والحصير المحبس، وفي التنزيل: "وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا"، قال القتيبي: هو من حصرته، أي حبسته. فهو محصور، وهذا حصيره، أي محبسه.
(2) تقدم شرح هذا الشاهد في الجزء الثالث من هذا التفسير (ص 255) .
(3) البيت في ديوان الطرماح بن حكيم (طبع ليدن سنة 1927 ص 164) وقتلى الشيء: تتبعه وتتلى أيضا: بقي بقية من دينه. وعوليت: ذهب بها إلى العالية، وهي نجد والحصير سفيفة تصنع من بردي وأسل ثم تفرش.(17/391)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: معنى ذلك (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) فراشا ومهادا لا يزايله من الحصير الذي بمعنى البساط، لأن ذلك إذا كان كذلك كان جامعا معنى الحبس والامتهاد، مع أن الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس، وأنها إذا أرادت أن تصف شيئا بمعنى حبس شيء، فإنما تقول: هو له حاصر أو محصر، فأما الحصير فغير موجود في كلامهم، إلا إذا وصفته بأنه مفعول به، فيكون في لفظ فعيل، ومعناه مفعول به، ألا ترى بيت لبيد: لدى باب الحصير؟ فقال: لدى باب الحصير، لأنه أراد: لدى باب المحصور، فصرف مفعولا إلى فعيل. فأما فعيل في الحصر بمعنى وصفه بأنه الحاصر. فذلك ما لا نجده في كلام العرب، فلذلك قلت: قول الحسن أولى بالصواب في ذلك، وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن ذلك جائز، ولا أعلم لما قال وجها يصحّ إلا بعيدا وهو أن يقال: جاء حصير بمعنى حاصر، كما قيل: عليم بمعنى عالم، وشهيد بمعنى شاهد، ولم يسمع ذلك مستعملا في الحاصر كما سمعنا في عالم وشاهد.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) }
يقول تعالى ذكره: إن هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدّد من اهتدى به (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) يقول: للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام، يقول جلّ ثناؤه: فهذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضل عنها سائر أهل الملل المكذبين به.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) قال: التي هي أصوب: هو الصواب وهو الحقّ؛ قال: والمخالف هو الباطل. وقرأ قول الله تعالى (فَيها كُتُبٌ(17/392)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
قّيِّمة) قال: فيها الحقّ ليس فيها عوج. وقرأ (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا) يقول: قيما مستقيما.
وقوله (وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ) يقول: ويبشر أيضا مع هدايته من اهتدى به للسبيل الأقصد الذين يؤمنون بالله ورسوله، ويعملون في دنياهم بما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم عنه بأن (لَهُمْ أجْرًا) من الله على إيمانهم وعملهم الصالحات (كَبِيرً) يعني ثوابا عظيما، وجزاء جزيلا وذلك هو الجنة التي أعدّها الله تعالى لمن رضي عمله.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) قال: الجنة، وكلّ شيء في القرآن أجر كبير، أجر كريم، ورزق كريم فهو الجنة،
وأن في قوله (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) نصب بوقوع البشارة عليها، وأن الثانية معطوفة عليها.
وقوله (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) يقول تعالى ذكره:
وأن الذين لا يصدّقون بالمعاد إلى الله، ولا يقرّون بالثواب والعقاب في الدنيا، فهم لذلك لا يتحاشون من ركوب معاصي الله (أَعْتَدْنَا لَهُمْ) يقول: أعددنا لهم، لقدومهم على ربهم يوم القيامة (عَذَابًا أَلِيما) يعني موجعا، وذلك عذاب جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا (11) }
يقول تعالى ذكره مذكرا عباده أياديه عندهم، ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشرّ، فيقول: اللهمّ أهلكه والعنه عند ضجره وغضبه، كدعائه بالخير: يقول: كدعائه ربه بأن يهب له العافية، ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده، يقول: فلو استجيب له في دعائه على نفسه وماله وولده بالشرّ كما يستجاب له في الخير هلك، ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَيَدْعُ الإنْسَانُ(17/393)
بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) يعني قول الإنسان: اللهمَّ العنه واغضب عليه، فلو يُعَجل له ذلك كما يُعجل له الخير، لهلك، قال: ويقال: هو (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) أن يكشف ما به من ضرّ، يقول تبارك وتعالى: لو أنه ذكرني وأطاعني، واتبع أمري عند الخير، كما يدعوني عند البلاء، كان خيرا له.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) يدعو على ماله، فيلعن ماله وولده، ولو استجاب الله له لأهلكه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ) قال: يدعو على نفسه بما لو استجيب له هلك، وعلى خادمه، أو على ماله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) قال: ذلك دعاء الإنسان بالشرّ على ولده وعلى امرأته، فيعجل: فيدعو عليه، ولا يحب أن يصيبه.
واختلف في تأويل قوله (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) فقال مجاهد ومن ذكرت قوله: معناه: وكان الإنسان عَجولا بالدعاء على ما يكره، أن يُستجاب له فيه.
وقال آخرون: عنى بذلك آدم أنه عجل حين نفخ فيه الروح قبل أن تجري في جميع جسده، فرام النهوض، فوصف ولده بالاستعجال، لما كان من استعجال أبيهم آدم القيام، قبل أن يتمّ خلقه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شُعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، أن سلمان الفارسيّ، قال: أوّل ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يُخلق، قال: وبقيت رجلاه؛ فلما كان بعد العصر قال: يا ربّ عَجِّل قبل الليل، فذلك قوله (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) .
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي(17/394)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
رَوْق، عن الضحاك عن ابن عباس، قال: لما نفخ الله في آدم من روحه أتت النفخة من قبَل رأسه، فجعل لا يجرى شيء منها في جسده، إلا صار لحما ودما؛ فلما انتهت النفخة إلى سرّته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تبارك وتعالى (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) قال: ضَجِرا لا صبر له على سرّاء، ولا ضرّاء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا (12) }
يقول تعالى ذكره: ومن نعمته عليكم أيها الناس، مخالفته بين علامة الليل وعلامة النهار، بإظلامه علامة الليل، وإضاءته علامة النهار، لتسكنوا في هذا، وتتصرّفوا في ابتغاء رزق الله الذي قدره لكم بفضله في هذا، ولتعلموا باختلافهما عدد السنين وانقضاءها، وابتداء دخولها، وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا) يقول: وكلّ شيء بيناه بيانا شافيا لكم أيها الناس لتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من نعمه، وتخلصوا له العبادة، دون الآلهة والأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن أبي الطُفيل، قال: قال ابن الكَوّاء (1) لعليّ: يا أمير المؤمنين، ما هذه اللَّطْخة التي في القمر؟ فقال: ويْحَك أما تقرأ القرآن (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) ، فهذه محوه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا طلق، عن زائدة، عن عاصم، عن عليّ بن ربيعة، قال: سأل ابن الكوّاء عليا فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال عليّ (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) هُوَ المَحْو.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي
__________
(1) ابن الكواء: هو عبد الله بن الكواء الخارجي، أحد الذين كانوا مع علي في صفين، ثم فارقوه بعد التحكيم. فكان من زعماء الخوارج.(17/395)
إسحاق، عن عبد الله بن عمر، قال: كنت عند عليّ، فسأله ابن الكَوّاء عن السواد الذي في القمر؟ فقال: ذاك آية الليل مُحِيت.
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زُريع، قال: ثنا عمران بن حُدير، عن رفيع بن أبي كثير قال: قال عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: سَلُوا عما شئتم، فقام ابن الكوّاء فقال: ما السواد الذي في القمر، فقال: قاتلك الله، هلا سألت عن أمر دينك وآخرتك؟ قال: ذلك مَحْو الليل.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ، قال: ثنا ابن عُفَير، قال: ثنا ابن لَهيعة، عن حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رجلا قال لعليّ: ما السواد الذي في القمر؟ قال: إن الله يقول (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ) قال: هو السواد بالليل.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار، فمحونا آية الليل: السواد الذي في القمر.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: ذكر ابن جريج، عن مجاهد، في قوله (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) قال: الشمس آية النهار، والقمر آية الليل (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ) قال: السواد الذي في القمر، وكذلك خلقه الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) قال: ليلا ونهارا، كذلك خلقهما الله، قال ابن جريج: وأخبرنا عبد الله بن كثير، قال (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) قال: ظلمة الليل وسدفة النهار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) : أي منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم.(17/396)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، ثنا عيسى، وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) قال: ليلا ونهارا، كذلك جعلهما الله.
واختلف أهل العربية في معنى قوله (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) فقال بعض نحويي الكوفة معناها: مضيئة، وكذلك قوله (والنَّهار مُبْصِرًا) معناه: مضيئا، كأنه ذهب إلى أنه قيل مبصرا، لإضاءته للناس البصر. وقال آخرون: بل هو من أبصر النهار: إذا صار الناس يبصرون فيه فهو مبصر، كقولهم: رجل مجبن: إذا كان أهله وأصحابه جبناء، ورجل مضعف: إذا كانت رواته ضعفاء، فكذلك النهار مبصرا: إذا كان أهله بصراء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) قال: جعل لكم سبحا طويلا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا) : أي بيناه تبيينا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) }
يقول تعالى ذكره: وكلّ إنسان ألزمناه ما قضى له أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه، وإنما قوله (ألْزَمْناهُ طائِرَهُ) مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها، فأعلمهم جلّ ثناؤه أن كلّ إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر، وشقاء يورده سعيرا، أو كان سعدا يورده جنات عدن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عَدْوَى وَلا طِيَرةَ وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَه فِي عُنُقِهِ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى(17/397)
أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال: الطائر: عمله، قال: والطائر في أشياء كثيرة، فمنه التشاؤم الذي يتشاءم به الناس بعضهم من بعض.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس، قوله (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال: عمله وما قدر عليه، فهو ملازمه أينما كان، فزائل معه أينما زال. قال ابن جريج: وقال: طائره: عمله، قال: ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: عمله وما كتب الله له.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: طائره: عمله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو جميعا عن منصور، عن مجاهد (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال: عمله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن فضيل، عن الحسن بن عمرو الفقيمي، عن الحكم، عن مجاهد، في قوله (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقيّ أو سعيد. قال: وسمعته يقول: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، قال: هو ما سبق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) : إي والله بسعادته وشقائه بعمله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: طائره: عمله.
فإن قال قائل: وكيف قال: ألزمناه طائره في عنقه إن كان الأمر على ما وصفت، ولم يقل: ألزمناه في يديه ورجليه أو غير ذلك من أعضاء الجسد؟ قيل: لأن العنق هو موضع السمات، وموضع القلائد والأطوقة، وغير ذلك مما يزين أو يشين، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة بني آدم وغيرهم(17/398)
من ذلك إلى أعناقهم وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداه، وإن كان الذي جرّ عليه لسانه أو فرجه، فكذلك قوله (أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) فقرأه بعض أهل المدينة ومكة، وهو نافع وابن كثير وعامة قرّاء العراق (ونُخْرِجُ) بالنون (لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) بفتح الياء من يَلْقاه وتخفيف القاف منه، بمعنى: ونخرج له نحن يوم القيامة ردّا على قوله (ألْزَمْناهُ) ، ونحن نخرج له يوم القيامة كتاب عمله منشورا، وكان بعض قرّاء أهل الشام يوافق هؤلاء على قراءة قوله (ونُخْرِجُ) ويخالفهم في قوله (يَلْقاهُ) فيقرؤه (ويُلَقَّاهُ) بضم الياء وتشديد القاف، بمعنى: ونخرج له نحن يوم القيامة كتابا يلقاه، ثم يردّه إلى ما لم يسمّ فاعله، فيقول: يلقى الإنسان ذلك الكتاب منشورا.
وذُكر عن مجاهد ما حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن جرير بن حازم عن حميد، عن مجاهد أنه قرأها (وَيخْرَجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا) قال: يزيد: يعني يخرج الطائر كتابا، هكذا أحسبه قرأها بفتح الياء، وهي قراءة الحسن البصري وابن محيصن؛ وكأن من قرأ هذه القراءة وجَّه تأويل الكلام إلى: ويخرج له الطائر الذي ألزمناه عنق الإنسان يوم القيامة، فيصير كتابا يقرؤه منشورا. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: (ويُخرَجُ لَهُ) بضم الياء على مذهب ما لم يسمّ فاعله، وكأنه وجَّه معنى الكلام إلى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا، يريد: ويخرج الله ذلك الطائر قد صيره كتابا، إلا أنه نحاه نحو ما لم يسمّ فاعله.
وأولى القراءات في ذلك بالصواب، قراءة من قرأه (ونُخْرِجُ) بالنون وضمها (لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) بفتح الياء وتخفيف القاف، لأن الخبر جرى قبل ذلك عن الله تعالى أنه الذي ألزم خلقه ما ألزم من ذلك؛ فالصواب أن يكون الذي يليه خبرا عنه، أنه هو الذي يخرجه لهم يوم القيامة،(17/399)
أن يكون بالنون كما كان الخبر الذي قبله بالنون، وأما قوله (يَلقاهُ) فإنّ في إجماع الحجة من القرّاء على تصويب ما اخترنا من القراءة في ذلك، وشذوذ ما خالفه الحجة الكافية لنا على تقارب معنى القراءتين: أعني ضمّ الياء وفتحها في ذلك، وتشديد القاف وتخفيفها فيه؛ فإذا كان الصواب في القراءة هو ما اخترنا بالذي عليه دللنا، فتأويل الكلام: وكلّ إنسان منكم يا معشر بني آدم، ألزمناه نحسه وسعد، وشقاءه وسعادته، بما سبق له في علمنا أنه صائر إليه، وعامل من الخير والشرّ في عنقه، فلا يجاوز في شيء من أعماله ما قضينا عليه أنه عامله، وما كتبنا له أنه صائر إليه، ونحن نخرج له إذا وافانا كتابا يصادفه منشورا بأعماله التي عملها في الدنيا، وبطائره الذي كتبنا له، وألزمناه إياه في عنقه، قد أحصى عليه ربه فيه كلّ ما سلف في الدنيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) قال: هو عمله الذي عمل أحصي عليه، فأخرج له يوم القيامة ما كتب عليه من العمل يلقاه منشورا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) : أي عمله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة (أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال: عمله (ونُخْرِجُ لَهُ) قال: نخرج ذلك العمل (كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورًا) قال معمر: وتلا الحسن (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملَكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك. فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طُويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.(17/400)
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: طائره: عمله، ونخرج له بذلك العمل كتابا يلقاه منشورا.
وقد كان بعض أهل العربية يتأوّل قوله (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) : أي حظه من قولهم: طار سهم فلان بكذا: إذا خرج سهمه على نصيب من الأنصباء، وذلك وإن كان قولا له وجه، فإن تأويل أهل التأويل على ما قد بينت، وغير جائز أن يتجاوز في تأويل القرآن ما قالوه إلى غيره، على أن ما قاله هذا القائل، إن كان عنى بقوله حظه من العمل والشقاء والسعادة، فلم يبعد معنى قوله من معنى قولهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) }
يقول تعالى ذكره: (ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورًا) فيقال له (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) فترك ذكر قوله: فنقول له، اكتفاء بدلالة الكلام عليه. وعنى بقوله (اقرأْ كِتابَكَ) : اقرأ كتاب عملك الذي عملته في الدنيا، الذي كان كاتبانا يكتبانه، ونحصيه عليك (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) يقول: حسبك اليوم نفسك عليك حاسبا يحسب عليك أعمالك، فيحصيها عليك، لا نبتغي عليك شاهدا غيرها، ولا نطلب عليك محصيا سواها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا (15) }(17/401)
يقول تعالى ذكره: من استقام على طريق الحقّ فاتبعه، وذلك دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عليه وسلم (فإِنَّمَا يهتَدِي لِنَفسِهِ) يقول: فليس ينفع بلزومه الاستقامة، وإيمانه بالله ورسوله غير نفسه (وَمَنْ ضَلَّ) يقول: ومن جار عن قصد السبيل، فأخذ على غير هدى، وكفر بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله من الحقّ، فليس يضرّ بضلاله وجوره عن الهدى غير نفسه، لأنه يوجب لها بذلك غضب الله وأليم عذابه.. وإنما عنى بقوله (فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) فإنما يكسب إثم ضلاله عليها لا على غيرها، وقوله (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) يعني تعالى ذكره: ولا تحمل حاملة حمل أخرى غيرها من الآثام. وقال (وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) لأن معناها: ولا تزر نفس وازرة وزر نفس أخرى يقال منه: وزرت كذا أزره وزرا، والوزر: هو الإثم، يجمع أوزارا، كما قال تعالى (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) وكأن معنى الكلام: ولا تأثم آثمة إثم أخرى، ولكن على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) والله ما يحمل الله على عبد ذنب غيره، ولا يؤاخذ إلا بعمله.
وقوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) يقول تعالى ذكره: وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) : إن الله تبارك وتعالى ليس يعذب أحدا حتى يسبق إليه من الله خبرا، أو يأتيه من الله بيِّنة، وليس معذّبا أحدا إلا بذنبه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أبي هريرة، قال: إذا كان يوم القيامة، جمع الله تبارك وتعالى نسم الذين ماتوا في الفترة والمعتوه والأصمّ والأبكم، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا، ثم أرسل رسولا أن ادخلوا النار، فيقولون: كيف ولم يأتنا رسول، وايم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، ثم يرسل إليهم، فيطيعه(17/402)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
من كان يريد أن يطيعه قبل؛ قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة نحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) }
اختلف القرّاء في قراءة قوله (أمَرْنَا مُتْرَفِيها) فقرأت ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق (أمَرْنا) بقصر الألف وغير مدها وتخفيف الميم وفتحها. وإذا قرئ ذلك كذلك، فإن الأغلب من تأويله: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا فيها بمعصيتهم الله، وخلافهم أمره، كذلك تأوّله كثير ممن قرأه كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (أمَرْنا مُتْرَفِيها) قال: بطاعة الله، فعصوا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا شريك، عن سلمة أو غيره، عن سعيد بن جبير، قال: أمرنا بالطاعة فعصوا، وقد يحتمل أيضا إذا قرئ كذلك أن يكون معناه: جعلناهم أمراء ففسقوا فيها، لأن العرب تقول: هو أمير غير مأمور. وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: قد يتوجَّه معناه إذا قرئ كذلك إلى معنى أكثرنا مترفيها، ويحتجّ لتصحيحه ذلك بالخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خَيْرُ المَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أوْ سِكّةٌ مَأْبُورَةٌ" ويقول: إن معنى قوله: مأمورة: كثيرة النسل. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين ينكر ذلك من قيله، ولا يجيزنا أمرنا، بمعنى أكثرنا إلا بمد الألف من أمرنا. ويقول في قوله "مهرة مأمورة": إنما قيل ذلك على الاتباع لمجيء مأبورة بعدها، كما قيل: "ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيرَ مَأْجُورَاتٍ" فهمز مأزورات لهمز مأجورات، وهي من وزرت إتباعا لبعض الكلام بعضا. وقرأ ذلك أبو عثمان (أمَّرْنا) بتشديد الميم، بمعنى الإمارة.(17/403)
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم عن عوف، عن أبي عثمان النهدي أنه قرأ (أمَّرْنا) مشدّدة من الإمارة. وقد تأوّل هذا الكلام على هذا التأويل، جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أمَّرْنا مُترَفِيها) يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب، وهو قوله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا) .
حدثني الحرث، قال: ثنا القاسم، قال: سمعت الكسائي يحدّث عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، أنه قرأها (أمَّرْنا) وقال: سلَّطنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن أبي حفص، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: (أمَّرْنا) مثقلة: جعلنا عليها مترفيها: مستكبريها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: (أمَّرْنا مُتْرَفِيها) قال: بعثنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك (آمَرْنا) بمدّ الألف من أمرنا، بمعنى: أكثرنا فسقتها. وقد وجَّه تأويل هذا الحرف إلى هذا التأويل جماعة من أهل التأويل، إلا أن الذين حدّثونا لم يميزوا لنا اختلاف القراءات في ذلك، وكيف قرأ ذلك المتأوّلون، إلا القليل منهم.
ذكر من تأوّل ذلك كذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِذَا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُترَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) يقول: أكثرنا عددهم.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة قوله (آمَرْنا مُتْرَفِيها) قال: أكثرناهم.(17/404)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله (أمَرْنا مُتْرَفِيها) قال: أكثرناهم.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيها) يقول: أكثرنا مترفيها: أى كبراءها.
حدثنا بشر، قالا ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلكَ قَرْيَةً آمَرْنَا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فيها فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ) يقول: أكثرنا مترفيها: أى جبابرتها، ففسقوا فيها وعملوا بمعصية الله (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) وكان يقال: إذا أراد الله بقوم صلاحا، بعث عليهم مصلحا، وإذا أراد بهم فسادا بعث عليهم مفسدا، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (آمَرْنَا مُتْرَفِيها) قال: أكثرناهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على زينب وهو يقول: "لا إِلَهَ إِلا الله وَيْلٌ لِلْعَرَبِ منْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ اليَوْمُ منْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هذَا، وحلق بين إبهامه والتي تليها، قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) قال: ذكر بعض أهل العلم أن أمرنا: أكثرنا. قال: والعرب تقول للشيء الكثير أمِرَ لكثرته. فأما إذا وصف القوم بأنهم كثروا، فإنه يقال: أمر بنو فلان، وأمر القوم يأمرون أمرا، وذلك إذا كثروا وعظم أمرهم، كما قال لبيد.
إنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإِنْ أَمِرُوا ... يَوْما يَصِيرُوا للقُلّ والنَّقَدِ (1)
__________
(1) البيت في ديوان لبيد طبع فينا سنة 1880 رواية الطوسي ص 19 وفي روايته آخر البيت: "للهلك والنكد" في موضع: للقل والنقد في رواية المؤلف: وقال شارحه: يقول: إن غبطوا يوما فإنهم يموتون، ويهبطوا هاهنا يموتون. قال أبو الحسن: وهو قول أبي عمرو. ويروى: "إن يغبطوا: يموتون غبطة، كأنهم يموتون من غير مرض. ويقال للناقة إذا ذبحت من غير علة: اعتبطت، أخذه من العبيط، والعبيط: الطري من كل شيء" أهـ. قلت: والقد النفد بمعنى القلة والغناء.(17/405)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
والأمر المصدر، والاسم الإمر، كما قال الله جلّ ثناؤه (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) قال: عظيما، وحكي في مثل شرّ إِمْر: أي كثير.
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بقصر الألف من أمرنا وتخفيف الميم منها، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها دون غيرها. وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة، فأولى التأويلات به تأويل من تأوّله: أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها، فحقّ عليهم القول، لأن الأغلب من معنى أمرنا: الأمر، الذي هو خلاف النهي دون غيره، وتوجيه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره.
ومعنى قوله (فَفَسَقُوا فِيهَا) : فخالفوا أمر الله فيها، وخرجوا عن طاعته (فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ) يقول: فوجب عليهم بمعصيتهم الله وفسوقهم فيها، وعيد لله الذي أوعد من كفر به، وخالف رسله، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج (فَدَمَّرْناها تَدْميرًا) يقول: فخرّبناها عند ذلك تخريبا، وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا، كما قال الفرزدق:
وكانَ لَهُمْ كَبكْرِ ثَمُودَ لَمَّا ... رَغا ظُهْرًا فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا (1)
والبيت من قصيدة ناقض بها الفرزدق قصيدة جرير التي مطلعها:
ألا حَيَّ الدّيارَ بِسُعْدِ إنّي ... أُحِبّ لِحُبّ فاطمةَ الّذيارا
والضمير في قوله "وكان لهم كبكر ثمود" راجع إلى جرير المذكور في البيت قبله وهو:
جَرٍّ الْمُخْزِياتِ عَلى كُلَيْبٍ ... جَرِيرٌ ثمَّ ما مَنَعَ الدَّمَارَا
وبكر ثمود: ولد ناقة صالح. ورغا: صوت. والرغاء: صوت ذوات الخف.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) }
__________
(1) البيت للفرزدق (ديوانه 443) استشهد به المؤلف على أن قوله تعالى: "فدمرناها تدميرا" معناه: خربناها تخريبا.(17/406)
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره مكذّبي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش، وتهديدهم لهم بالعقاب، وإعلام منه لهم، أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه مقيمون من تكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم أنه محلّ بهم سخطه، ومنزل بهم من عقابه ما أنزل بمن قبلهم من الأمم الذين سلكوا في الكفر بالله، وتكذيب رسله سبيلهم، يقول الله تعالى ذكره: وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونا كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به، وتكذيب رسله، على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم، لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جلّ ثناؤه، فيعذّب قوما بما لا يعذّب به آخرين، أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين؛ يقول جلّ ثناؤه: فأنيبوا إلى طاعة الله ربكم، فقد بعثنا إليكم رسولا ينبهكم على حججنا عليكم، ويوقظكم من غفلتكم، ولم نكن لنعذّب قوما حتى نبعث إليهم رسولا منبها لهم على حجج الله، وأنتم على فسوقكم مقيمون، وكفى بربك يا محمد بذنوب عباده خبيرا: يقول: وحسبك يا محمد بالله خابرا بذنوب خلقه عالما، فإنه لا يخفى عليه شيء من أفعال مشركي قومك هؤلاء، ولا أفعال غيرهم من خلقه، وهو بجميع ذلك عالم خابر بصير، يقول: يبصر ذلك كله فلا يغيب عنه منه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
وقد اختلف في مبلغ مدة القرن،
فحدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي محمد بن عبد الله بن أبي أوفى، قال: القرن: عشرون ومئة سنة، فبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوّل قرن كان، وآخرهم يزيد بن معاوية.
وقال آخرون: بل هو مئة سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا حسان بن محمد بن عبد الرحمن الحمصي أبو الصلت الطائي، قال: ثنا سلامة بن حواس، عن محمد بن القاسم، عن عبد الله بن بسر المازني، قال: وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم يده على رأسه وقال: "سَيَعيِشُ هذَا الغُلام قَرْنا" قلت: كم القرن؟ قال: "مِئَةُ سَنَةٍ".
حدثنا حسان بن محمد، قال: ثنا سلامة بن حواس، عن محمد بن(17/407)
القاسم، قال: ما زلنا نعدّ له حتى تمَّت مئة سنة ثم مات، قال أبو الصلت: أخبرني سلامة أن محمد بن القاسم هذا كان ختن عبد الله بن بسر.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: أخبرنا عمر بن شاكر، عن ابن سيرين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القَرْنُ أرْبَعُونَ سَنَةً".
وقوله (وكَفَى بِرَبِّكَ) أدخلت الباء في قوله (بِرَبِّكَ) وهو في محلّ رفع، لأن معنى الكلام: وكفاك ربك، وحسبك ربك بذنوب عباده خبيرا، دلالة على المدح، وكذلك تفعل العرب في كلّ كلام كان بمعنى المدح أو الذمّ، تدخل في الاسم الباء والاسم المدخلة عليه الباء في موضع رفع لتدلّ بدخولها على المدح أو الذمّ كقولهم: أكرم به رجلا وناهيك به رجلا وجاد بثوبك ثوبا، وطاب بطعامكم طعاما، وما أشبه ذلك من الكلام، ولو أسقطت الباء مما دخلت فيه من هذه الأسماء رفعت، لأنها في محلّ رفع، كما قال الشاعر:
ويُخْبرُنِي عَنْ غائبِ المَرْءِ هَدْيُهُ ... كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبرًا (1)
فأما إذا لم يكن في الكلام مدح أو ذمّ فلا يدخلون في الاسم الباء؛ لا يجوز أن يقال: قام بأخيك، وأنت تريد: قام أخوك، إلا أن تريد: قام رجل آخر به، وذلك معنى غير المعنى الأوّل.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة رقم 24059 ص 178) قال: "وكل ما في القرآن من قوله: "وكفى بربك) ، وفي (كفى بالله) و (كفى بنفسك اليوم) : فلو ألقيت الباء، كان الخوف مرفوعا، كما قال الشاعر: "ويخبرني ... البيت". وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه؛ ألا ترى أنك تقول: كفاك به، ونهاك به، وأكرم به رجلا، وبئس به رجلا، ونعم به رجلا، وطاب بطعامك طعاما، وجاد بثوبك ثوبا. ولو لم يكن مدحا أو ذما لم يجز دخولها؛ ألا ترى أن الذي يقول: قام أخوك. أو قعد أخوك، لا يجوز له أن يقول: قام بأخيك، ولا قعد بأخيك؛ إلا أن تريد قام به غيره وقعد به. أهـ. وقد اغترف المؤلف من كلام الفراء ما شاء، غير أنه لم يعزه إلى قائله في هذا الموضع.(17/408)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) }(17/408)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
يقول تعالى ذكره: من كان طلبه الدنيا العاجلة ولها يعمل ويسعى، وإياها يبتغي، لا يوقن بمعاد، ولا يرجو ثوابا ولا عقابا من ربه على عمله (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) يقول: يعجل الله له في الدنيا ما يشاء من بسط الدنيا عليه، أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل ذلك به، أو إهلاكه بما يشاء من عقوباته. (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها) يقول: ثم أصليناه عند مقدمه علينا في الآخرة جهنم، (مَذْمُوما) على قلة شكره إيانا، وسوء صنيعه فيما سلف من أيادينا عنده في الدنيا (مَدْحُورًا) يقول: مبعدا: مقصى في النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) يقول: من كانت الدنيا همّه وسدمه وطلبته ونيته، عجَّل الله له فيها ما يشاء، ثم اضطرّه إلى جهنم، قال (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) مذموما في نعمة الله مدحورا في نقمة الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو طيبة شيخ من أهل المصيصة، أنه سمع أبا إسحاق الفزاري يقول (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) قال: لمن نريد هلكته.
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مَذْمُوما) يقول: ملوما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) قال: العاجلة: الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) }
يقول تعالى ذكره: من أراد الآخرة وإياها طلب، ولها عمل عملها،(17/409)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه، وأضاف السعي إلى الهاء والألف، وهي كناية عن الآخرة، فقال: وسعى للآخرة سعي الآخرة، ومعناه:
وعمل لها عملها لمعرفة السامعين بمعنى ذلك، وأن معناه: وسعى لها سعيه لها وهو مؤمن، يقول: هو مؤمن مصدّق بثواب الله، وعظم جزائه على سعيه لها، غير مكذّب به تكذيب من أراد العاجلة، يقول الله جلّ ثناؤه (فَأُولَئِكَ) يعني: فمن فعل ذلك (كانَ سَعْيُهُمْ) يعني عملهم بطاعة الله (مَشْكُورًا) وشكر الله إياهم على سعيهم ذلك حسن جزائه لهم على أعمالهم الصالحة، وتجاوزه لهم عن سيئها برحمته.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) شكر الله لهم حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) }
يقول تعالى ذكره: يمدّ ربك يا محمد كلا الفريقين من مريدي العاجلة، ومريدي الآخرة، الساعي لها سعيها وهو مؤمن في هذه الدنيا من عطائه، فيرزقهما جميعا من رزقه إلى بلوغهما الأمد، واستيفائهما الأجل ما كتب لهما، ثم تختلف بهما الأحوال بعد الممات، وتفترق بهما بعد الورود المصادر، ففريق مريدي العاجلة إلى جهنم مصدَرهم، وفريق مريدي الآخرة إلى الجنة مآبهم (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) يقول: وما كان عطاء ربك الذي يؤتيه من يشاء من خلقه في الدنيا ممنوعا عمن بسطه عليه لا يقدر أحد من خلقه منعه من ذلك، وقد آتاه الله إياه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا(17/410)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) : أي منقوصا، وإن الله عزّ وجلَّ قسم الدنيا بين البرّ والفّاجِر، والآخرة خصوصا عند ربك للمتقين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) قال: منقوصا.
حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سهل بن أبي الصلت السراج، قال: سمعت الحسن يقول (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) قال: كلا نعطي من الدنيا البرّ والفاجر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ) .... الآية (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ) .... ثم قال (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) قال ابن عباس: فيرزق من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة. قال ابن جريج (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) قال: ممنوعا.
حدثنا بشر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) أهل الدنيا وأهل الآخرة (مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) قال: ممنوعا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) أهل الدنيا وأهل الآخرة (مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) من برّ ولا فاجر، قال: والمحظور: الممنوع، وقرأ (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا (21) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد بعين قلبك إلى هذين الفريقين اللذين هم أحدهما الدار العاجلة، وإياها يطلب، ولها يعمل؛ والآخر الذي يريد الدار الآخرة، ولها يسعى موقنا بثواب الله على سعيه،(17/411)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
كيف فضَّلنا أحد الفريقين على الآخر، بأن بصّرنا هذا رشده، وهديناه للسبيل التي هي أقوم، ويسرناه للذي هو أهدى وأرشد، وخذلنا هذا الآخر، فأضللناه عن طريق الحقّ، وأغشينا بصره عن سبيل الرشد (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ) يقول: وفريق مريد الآخرة أكبر في الدار الآخرة درجات بعضهم على بعض لتفاوت منازلهم بأعمالهم في الجنة وأكبر تفضيلا بتفضيل الله بعضهم على بعض من هؤلاء الفريق الآخرين في الدنيا فيما بسطنا لهم فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) : أي في الدنيا (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا) وإن للمؤمنين في الجنة منازل، وإن لهم فضائل بأعمالهم، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ بينَ أَعْلَى أَهْلِ الجَنَّةِ وأسْفَلِهِمْ دَرَجَةً كالنَّجْمِ يُرَى فِي مَشارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبها".
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا (22) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تجعل يا محمد مع الله شريكا في ألوهته وعبادته، ولكن أخلص له العبادة، وأفرد له الألوهة، فإنه لا إله غيره، فإنك إن تجعل معه إلها غيره، وتعبد معه سواه، تقعد مذموما: يقول: تصير ملوما على ما ضيعت من شكر الله على ما أنعم به عليك من نعمه، وتصييرك الشكر لغير من أولاك المعروف، وفي إشراكك في الحمد من لم يشركه في النعمة عليك غيره، مخذولا قد أسلمك ربك لمن بغاك سوءا، وإذا أسلمك ربك الذي هو ناصر أوليائه لم يكن لك من دونه وليّ ينصرك ويدفع عنك.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا) يقول: مذموما في نعمة الله، وهذا الكلام وإن كان خرج على وجه الخطاب لنبيّ لله صلى الله عليه وسلم، فهو معنيّ به جميع من لزمه التكليف من عباد الله جلّ وعزّ.(17/412)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا (23) }
يعني بذلك تعالى ذكره حكم ربك يا محمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله، فإنه لا ينبغي أن يعبد غيره، وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله (وَقَضَى رَبُّكَ) وإن كان معنى جميعهم في ذلك واحدا.
* ذكر ما قالوا في ذلك: حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) يقول: أمر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا زكريا بن سلام، قال: جاء رجل إلى الحسن، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فقال: إنك عصيتَ ربك، وبانت منك امرأتك، فقال الرجل: قضى الله ذلك عليّ، قال الحسن، وكان فصيحا: ما قضى الله: أي ما أمر الله، وقرأ هذه الآية (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) فقال الناس: تكلم الحسن في القدر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) : أي أمر ربك في ألا تعبدوا إلا إياه، فهذا قضاء الله العاجل، وكان يُقال في بعض الحكمة: من أرضى والديه: أرض خالقه، ومن أسخط والديه، فقد أسخط ربه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) قال: أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وفي حرف ابن مسعود: (وَصَّى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) .
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، قال: ثنا نصير بن أبي الأشعث، قال: ثني ابن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، قال: أعطاني ابن عباس مصحفا، فقال: هذا على قراءة أبيّ بن كعب، قال أبو كريب: قال(17/413)
يحيى: رأيت المصحف عند نصير فيه: (وَوَصَّى رَبُّكَ) يعني: وقضى ربك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) قال: وأوصى ربك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) قال: أمر ألا تعبدوا إلا إياه.
حدثني الحرث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن الضحاك بن مزاحم، أنه قرأها (وَوَصَّى رَبُّكَ) وقال: إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا.
وقوله (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) يقول: وأمركم بالوالدين إحسانا أن تحسنوا إليهما وتبرّوهما. ومعنى الكلام: وأمركم أن تحسنوا إلى الوالدين، فلما حذفت "أن" تعلق القضاء بالإحسان، كما يقال في الكلام: آمرك به خيرا، وأوصيك به خيرا، بمعنى: آمرك أن تفعل به خيرا، ثم تحذف "أن" فيتعلق الأمر والوصية بالخبر، كما قال الشاعر:
عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إِذْ تَشْكُونا ... ومِنْ أبي دَهْماءَ إِذْ يُوصِينا
خَيْرًا بها كأننا جافُونا (1)
وعمل يوصينا في الخير.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا) فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وبعض قرّاء الكوفيين (إِمَّا يَبْلُغَنَّ) على التوحيد على توجيه ذلك إلى أحدهما لأن أحدهما واحد، فوحدوا (يَبْلُغَنَّ) لتوحيده، وجعلوا قوله (أوْ كِلاهُما) معطوفا على الأحد. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين (إِما يَبْلُغانَ) على التثنية وكسر النون وتشديدها، وقالوا: قد ذكر الوالدان قبل، وقوله (يَبْلُغانّ) خبر عنهما بعد ما قدّم أسماءهما، قالوا: والفعل إذا جاء بعد الاسم كان الكلام أن يكون فيه دليل على أنه خبر عن اثنين
__________
(1) الأبيات الثلاثة من مشطور الرجز. وهي من شواهد الفراء في (معاني القرآن ص 178) قال: والعرب تقول: أوصيك به خيرا، وآمرك به خيرا، وكأن معناه: آمرك أن تفعل به خيرا، ثم تحذف أن، فتوصل الخير بالوصية وبالأمر، قال الشاعر: "عجبت ... الأبيات".(17/414)
أو جماعة. قالوا: والدليل على أنه خبر عن اثنين في الفعل المستقبل الألف والنون. قالوا: وقوله (أحَدُهُما أوْ كِلاهُما) كلام مستأنف، كما قيل (فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) وكقوله (وأسَرُّوا النَّجْوَى) ثم ابتدأ فقال (الَّذِينَ ظَلَمُوا) .
وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك، قراءة من قرأه (إما يَبْلُغَنَّ) على التوحيد على أنه خبر عن أحدهما، لأن الخبر عن الأمر بالإحسان في الوالدين، قد تناهى عند قوله (وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا) ثم ابتدأ قوله (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا) .
وقوله (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) يقول: فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذّى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما، واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما، كما صبرا عليك في صغرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن محبب، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) قال: إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويخرآن، فلا تقل لهما أف تقذّرهما.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد إما يَبْلُغانَّ عِندك الكبر فلا تَقُل لهما أف حين ترى الأذى، وتميط عنهما الخلاء والبول، كما كانا يميطانه عنك صغيرا، ولا تؤذهما.
وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى "أفّ"، فقال بعضهم: معناه:
كلّ ما غلظ من الكلام وقبُح. وقال آخرون: الأفّ: وسخ الأظفار والتف كلّ ما رفعت بيدك من الأرض من شيء حقير، وللعرب في "أُفّ" لغات ستّ رفعها بالتنوين وغير التنوين وخفضها كذلك ونصبها، فمن خفض ذلك بالتنوين، وهي قراءة عامة أهل المدينة، شبهها بالأصوات التي لا معنى لها، كقولهم في حكاية الصوت غاق غاق، فخفضوا القاف ونوّنوها، وكان حكمها السكون، فإنه لا شيء يعربها من أجل مجيئها بعد حرف ساكن وهو الألف، فكرهوا أن يجمعوا بين ساكنين، فحرّكوا إلى أقرب الحركات من السكون،(17/415)
وذلك الكسر، لأن المجزوم إذا حرّك، فإنما يحرّك إلى الكسر، وأما الذين خفضوا بغير تنوين، وهي قراءة عامة قرّاء الكوفيين والبصريين، فإنهم قالوا: إنما يدخلون التنوين فيما جاء من الأصوات ناقصا، كالذي يأتي على حرفين مثل: مه وصه وبخ، فيتمم بالتنوين لنقصانه عن أبنيه الأسماء. قالوا: وأفّ تامّ لا حاجة بما إلى تتمته بغيره، لأنه قد جاء على ثلاثة أحرف.
قالوا: وإنما كسرنا الفاء الثانية لئلا نجمع بين ساكنين. وأما من ضمّ ونوّن، فإنه قال: هو اسم كسائر الأسماء التي تُعرف وليس بصوت، وعدل به عن الأصوات، وأما من ضمّ ذلك بغير تنوين، فإنه قال: ليس هو بأسم متمكن فيُعرب بإعراب الأسماء المتمكنة، وقالوا: نضمه كما نضمّ قوله (لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) ، وكما نضمّ الاسم في النداء المفرد، فنقول: يا زيد. ومن نصبه بغير تنوين، وهو قراءة بعض المكيين وأهل الشام فإنه شبهه بقولهم: مدّ يا هذا وردّ. ومن نصب بالتنوين، فإنه أعمل الفعل فيه، وجعله اسما صحيحا، فيقول: ما قلت له: أفا ولا تفا. وكان بعض نحويي البصرة يقول: قُرِئت: أفّ، وأفا لغة جعلوها مثل نعتها. وقرأ بعضهم "أُفّ"، وذلك أن بعض العرب يقول: "أفّ لك" على الحكاية: أي لا تقل لهما هذا القول. قال: والرفع قبيح، لأنه لم يجيء بعده بلام، والذين قالوا: "أُفّ" فكسروا كثير، وهو أجود. وكسر بعضهم ونوّن. وقال بعضهم: "أفي"، كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه، فقال: أفي هذا لكما، والمكسور من هذا منوّن وغير منوّن على أنه اسم غير متمكن، نحو أمس وما أشبهه، والمفتوح بغير تنوين كذلك. وقال بعض أهل العربية: كل هذه الحركات الستّ تدخل في "أفّ" حكاية تشبه بالاسم مرّة وبالصوت أخرى. قال: وأكثر ما تُكسر الأصوات بالتنوين إذا كانت على حرفين مثل صه ومه وبخ. وإذا كانت على ثلاثة أحرف شبهت بالأدوات "أفَّ" مثل: ليت ومَدَّ، وأُفَّ مثل مُدَّ يُشبه بالأدوات (1) . وإذا قال أَفَّ مثل صَهَّ. وقالوا سمعت مِضَّ
__________
(1) ليس كلام المؤلف في تخريج اللغات الست في كلمة " أف" واضحا،وقد بينته المعاجم (اللسان: أفف) ، انظر معاني القرآن للفراء (مصورة الجامعة رقم 24059 ص 179) ففيه ما يوضح هذا الموضع من كلام المؤلف، وهو كثير لم نرد أن نطول به ذيول الكتاب.(17/416)
يا هذا ومِضُّ. وحُكي عن الكسائي أنه قال: سمعت "ما علمك أهلك إلا مِضٍّ ومِضُّ"، وهذا كإِفٍّ وأفُّ. ومن قال: "أُفًّا" جعله مثل سُحْقا وبُعدا.
والذي هو أولى بالصحة عندي في قراءة ذلك، قراءة من قرأه (فلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) بكسر الفاء بغير تنوين لعلَّتين: إحداهما: أنها أشهر اللغات فيها وأفصحها عند العرب؛ والثانية: أن حظّ كلّ ما لم يكن له معرّب من الكلام السكون؛ فلما كان ذلك كذلك. وكانت الفاء في أفّ حظها الوقوف، ثم لم يكن إلى ذلك سبيل لاجتماع الساكنين فيه، وكان حكم الساكن إذا حُرّك أن يحرّك إلى الكسر حرّكت إلى الكسر، كما قيل: مُدِّ وشُدِّ ورُدِّ الباب.
وقوله (وَلا تَنْهَرْهُما) يقول جلّ ثناؤه: ولا تزجُرهما.
كما حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمَسي، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا واصل الرَّقاشيّ، عن عطاء بن أبي رَباح، في قوله (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) قال: لا تنفض يدك على والديك، يقال منه: نَهَرَه يَنهره نَهْرا، وانتهره ينتهره انتهارا.
وأما قوله (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) فإنه يقول جلّ ثناؤه: وقل لهما قولا جميلا حسنا.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) قال: أحسن ما تجد من القول.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن عبد الله بن المختار، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب (قَوْلا كَرِيما) قالا لا تمتنع من شيء يريدانه.
قال أبو جعفر: وهذا الحديث خطأ، أعني حديث هشام بن عُروة، إنما هو عن هشام بن عروة، عن أبيه، ليس فيه عمر، حدّث عن ابن عُلية وغيره، عن عبد الله بن المختار.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) : أي قولا ليِّنا سهلا.(17/417)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني حَرْملة بن عمران، عن أبي الهَدَّاج التُّجِيبي، قال: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما ذكر الله عزّ وجلّ في القرآن من برّ الوالدين، فقد عرفته، إلا قوله (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) ما هذا القول الكريم؟ فقال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) }
يقول تعالى ذكره: وكن لهما ذليلا رحمة منك بهما تطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن لله معصية، ولا تخالفهما فيما أحبَّا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال: لا تمتنع من شيء يُحبانه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا الأشجعي، قال: سمعت هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال: هو أن تلين لهما حتى لا تمتنع من شيء أحبَّاه.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أيوب بن سويد، قال: ثنا الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال: لا تمتنع من شيء أحباه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُليَة، عن عبد الله بن المختار، عن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال: هو أن لا تمتنع من شيء يريدانه.(17/418)
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المقرئ أبو عبد الرحمن، عن حرملة بن عمران، عن أبي الهداج، قال: قلت لسعيد بن المسيب: ما قوله (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال: ألم تر إلى قول العبد المذنب للسيد الفظّ الغليظ. والذُّلّ بضم الذال والذّلَّة مصدران من الذليل، وذلك أن يتذلل، وليس بذليل في الخلقة من قول القائل: قد ذَلَلت لك أذلّ ذلة وذلا وذلك نظير القلّ والقلة، إذا أسقطت الهاء ضمت الذال من الذُّلّ، والقاف من القُلّ، وإذا أثبتت الهاء كُسِرت الذال من الذِّلة، والقاف من القِلَّة، لما قال الأعشى:
وَمَا كُنْتُ قُلا قبلَ ذلكَ أزْيَبَا (1)
يريد: القلة، وأما الذِّل بكسر الذال وإسقاط الهاء فإنه مصدر من الذَّلول من قولهم: دابة ذَلول: بينة الذلّ، وذلك إذا كانت لينة غير صعبة.
ومنه قول الله جلّ ثناؤه (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا) يُجمع ذلك ذُلُلا كما قال جلّ ثناؤه (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا) . وكان مجاهد يتأوّل ذلك أنه لا يتوعَّر عليها مكان سلكته.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق والشام (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ) بضمّ الذال على أنه مصدر من الذليل. وقرأ ذلك سعيد بن جبير وعاصم الجَحْدَرِيّ: (جَناحَ الذِّلّ) بكسر الذال.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا بهز بن أسد، قال: ثنا أبو عَوانة، عن أبي
__________
(1) هذا عجز بيت للأعشى ميمون بن قيس (ديوان طبع القاهرة، بشرح الدكتور محمد حسين ص 115) من قصيدة يهجو بها عمرو بن المنذر بن عبدان، ويعاتب بني سعد بن قيس: وصدره: "فأرضوه أن أعطوه مني ظلامة". وقال في (لسان العرب: زيب) الأزيب: الدعي؛ قال الأعشى يذكر رجلا من قيس عيلان، كان جارا لعمرو بن المنذر، وكان اتهم هداجا قائد الأعشى بأنه سرق راحلة له، لأنه وجد بعض لحمها في بيته، فأخذ هداج وضرب والأعشى جالس؛ فقام ناس منهم فأخذوا من الأعشى قيمة الراحلة، فقال الأعشى: دَعا رَهْطَهُ حَوْلِي فَجَاءُوا لِنَصْرِهِ ... وَنَادَيْتُ حَيًّ بالمُسَانَّاهِ غُيَّبًا
فَأَعْطَوْهُ مِنِّيَ النِّصْفَ أَوْ ضَعْفُوا لَهُ ... وَما كُنْتُ قُلاّ قَبْلَ ذَلِكَ أَزْيَبَا
أي كنت غريبا في ذلك الموضع، لا ناصر لي. والنصف: النصفة. يقول: أرضوه وأعطوه النصف أو فوقه. والقل من الرجال الخسيس، ومنه قول الأعشى. أهـ.(17/419)
بشر، عن سعيد بن جبير أنه قرأ (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذِّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال: كن لهما ذليلا ولا تكن لهما ذلولا.
حدثنا نصر بن عليّ، قال: أخبرني عمر بن شقيق، قال: سمعت عاصما الجحدري يقرأ (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذِّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال: كن لهما ذليلا ولا تكن لهما ذَلولا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عمر بن شقيق، عن عاصم، مثله.
قال أبو جعفر: وعلى هذا التأويل الذي تأوّله عاصم كان ينبغي أن تكون قراءته بضم الذال لا بكسرها وبكسرها.
حدثنا نصر وابن بشار؛ وحُدثت عن الفراء، قال: ثني هشيم، عن أبي بشر جعفر بن إياس. عن سعيد بن جبير، أنه قرأ (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذِّلِّ) قال الفرّاء: وأخبرني الحكم بن ظهير، عن عاصم بن أبى النَّجود، أنه قرأها الذِّلّ أيضا، فسألت أبا بكر فقال: الذِّل قرأها عاصم.
وأما قوله (وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) فإنه يقول: ادع الله لوالديك بالرحمة، وقل ربّ ارحمهما، وتعطف عليهما بمغفرتك ورحمتك، كما تعطفا عليّ في صغري، فرحماني وربياني صغيرا، حتى استقللت بنفسي، واستغنيت عنهما.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) هكذا عُلِّمتم، وبهذا أمرتم، خذوا تعليم الله وأدبه، ذُكر لنا "أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو مادّ يديه رافع صوته يقول: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيهِ أوْ أحَدَهُما ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ بَعْدَ ذلكَ فأبْعَدَهُ الله وأسْحَقَهُ". ولكن كانوا يرون أنه من بَرّ والديه، وكان فيه أدنى تُقى، فإن ذلك مُبْلِغه جسيم الخير، وقال جماعة من أهل العلم: إن قول الله جلّ ثناؤه (وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) منسوخ بقوله (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال:(17/420)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) ثم أنزل الله عزّ وجلّ بعد هذا (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، قال في سورة بني إسرائيل (إمَّا يَبْلُغانّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدهُمُا أو كِلاهُما) .... إلى قوله (وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) فنسختها الآية التي في براءة (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) ... الآية.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس (وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا) .... الآية، قال: نسختها الآية التي في براءة (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) . .. الآية.
وقد تحتمل هذه الآية أن تكون وإن كان ظاهرها عامًّا في كلّ الآباء بغير معنى النسخ، بأن يكون تأويلها على الخصوص، فيكون معنى الكلام: وقل ربّ ارحمهما إذا كانا مؤمنين، كما رَبياني صغيرا، فتكون مرادا بها الخصوص على ما قلنا غير منسوخ منها شيء. وعَنَى بقوله ربياني: نَميَّاني.
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا (25) }
يقول تعالى ذكره (رَبُّكُمْ) أيها الناس (أعْلَمُ) منكم (بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) من تعظيمكم أمر آبائكم وأمهاتكم وتكرمتهم، والبرّ بهم، وما فيها من اعتقاد الاستخفاف بحقوقهم، والعقوق لهم، وغير ذلك من ضمائر صدوركم، لا يخفى عليه شيء من ذلك، وهو مجازيكم على حَسَن ذلك وسيِّئه، فاحذروا أن تُضمروا لهم سوءا، وتعقِدوا لهم عقوقا. وقوله (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ) يقول: إن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم، وأطعتم الله فيما أمركم به من البرّ بهم، والقيام بحقوقهم عليكم، بعد هفوة كانت منكم، أو زلة في واجب(17/421)
لهم عليكم مع القيام بما ألزمكم في غير ذلك من فرائضه، فإنه كان للأوّابين بعد الزَّلة، والتائبين بعد الهَفْوة غفورا لهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي وعمي عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) قال: البادرة تكون من الرجل إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير، فقال (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) .
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرني أبي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، بمثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، عن حبيب بن أبي ثابت، في قوله (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه وفي نيته وقلبه أنه لا يؤاخَذ به.
واختلف أهل التأويل، في تأويل قوله (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا)
فقال بعضهم: هم المسبِّحون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة؛ وحدثني ابن سنان القزاز، قال: ثنا الحسين بن الحسن الأشقر، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: المسبحين.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا أبو خيثمة زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمرو بن شرحبيل، قال: الأوّاب: المسبح.
وقال آخرون: هم المطيعون المحسنون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) يقول: للمطيعين المحسنين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: هم المطيعون، وأهل الصلاة.(17/422)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: للمطيعين المصلين.
وقال آخرون: بل هم الذين يصلون بين المغرب والعشاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن ابن المنكدر يرفعه (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: الصلاة بين المغرب والعشاء.
وقال آخرون: هم الذين يصلُّون الضُّحَى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا رباح أبو سليمان الرقاء، قال: سمعت عونا العُقيليّ يقول في هذه الآية (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: الذين يصلون صلاة الضحى.
وقال آخرون: بل هو الراجع من ذنبه، التائب منه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن الوليد القرشيّ، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال في هذه الآية (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: الذي يصيب الذنب ثم يتوب ثم يصيب الذنب ثم يتوب.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سليمان بن داود، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب في هذا الآية (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) .
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، أنه سمع سعيد بن المسيب يُسْأَل عن هذه الآية (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، بنحوه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن سعيد بن المسيب، بنحوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني مالك، عن يحيى بن(17/423)
سعيد، عن سعيد بن المسيب (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: هو العبد يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: فذكر مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا الثَّوريّ ومعمر، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، قال: الأوّاب: الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: الراجعين إلى الخير.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد وأبو داود وهشام، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، بنحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، جميعا عن منصور، عن مجاهد عن عبيد بن عمير (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: الذي يذكر ذنوبه في الخلاء، فيستغفر الله منها.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن منصور، عن مجاهد، قال: الأوّاب: الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، أنه قال في هذه الآية (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: الذي يذكر ذنبه ثم يتوب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قالا ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله جلّ ثناؤه (للأوَّابِين غَفُورًا) قال: الأوّابون: الراجعون التائبون.(17/424)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
قال ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: الرجل يذنب ثم يتوب ثلاثا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، قوله (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: الذي يتذكر ذنوبه، فيستغفر الله لها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن شريح، عن عقبة بن مسلم، عن عطاء بن يسار، أنه قال في قوله (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) يذنب العبد ثم يتوب، فيتوب الله عليه؛ ثم يذنب فيتوب، فيتوب الله عليه؛ ثم يذنب الثالثة، فإن تاب، تاب الله عليه توبة لا تُمْحَى.
وقد رُوي عن عبيد بن عمير، غير القول الذي ذكرنا عن مجاهد، وهو ما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، في قوله (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا) قال: كنا نَعُدّ الأوّاب: الحفيظ، أن يقول: اللهمّ اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الأوّاب: هو التائب ما الذنب، الراجع من معصية الله إلى طاعته، ومما يكرهه إلى ما يرضاه، لأن الأوّاب إنما هو فعَّال، من قول القائل: آب فلان من كذا إما من سفره إلى منزله، أو من حال إلى حال، كما قال عَبيد بن الأبرص:
وكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ ... وغائِبُ المَوْتِ لا يَئُوبُ (1)
__________
(1) البيت لعبيد بن الأبرص الشاعر الجاهلي (ديوانه ص 7 طبعة ليدن سنة 1913) من قصيدته التي مطلعها: "أقفر من أهله ملحوب". يقول: كل غائب تنتظر أوبته، إلا من مات فلا أوبة له إلى الدنيا. والبيت شاهد على أن الأواب الرجاع، الذي يرجع إلى التوبة والطاعة، من آب يئوب إذا رجع (انظر اللسان: أوب) . وفيه أيضا: قال أبو بكر في قولهم: رجل أواب، سبعة أقوال: الراحم، والتائب، والمسبح، والذي يرجع إلى التوبة ثم يذنب ثم يتوب، والمطيع، والذي يذكر ذنبه في الخلاء، فيستغفر الله منه. أهـ. وكل هذه المعاني راجعة إلى المعنى اللغوي، وهو الرجوع عن الشيء إلى غيره.(17/425)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
فهو يئوب أوبا، وهو رجل آئب من سفره، وأوّاب من ذنوبه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) }
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله (وآتِ ذَا القُرْبى) فقال بعضهم: عَنى به: قرابة الميت من قِبَل أبيه وأمه. أمر الله جلّ ثناؤه عباده بصلتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرانُ بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا حبيب المعلم، قال: سأل رجل الحسن، قال: أُعْطِي قرابتي زكاة مالي فقال: إن لهم في ذلك لحقا سوى الزكاة، ثم تلا هذه الآية (وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله (وآتِ ذَا القُرْبى حَقَّهُ) قال: صلته التي تريد أن تصله بها ما كنت تريد أن تفعله إليه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) قال: هو أن تصل ذا القرابة والمسكين وتُحسن إلى ابن السبيل.
وقال آخرون: بل عنى به قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا إسماعيل بن أبان، قال: ثنا الصباح بن يحيى المزَنيّ، عن السُّديّ، عن أبي الديلم، قال: قال عليّ بن الحسين عليهما السلام لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أفما قرأت في بني إسرائيل (وآتِ ذَا القُرْبى حَقَّهُ) قال: وإنكم لَلْقرابة التي أمر الله جلّ ثناؤه أن يُؤتى حقه، قال: نعم.(17/426)
وأولى التأويلين عندي بالصواب، تأويل من تأوّل ذلك أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة قرابات أنفسهم وأرحامهم من قِبَل آبائهم وأمهاتهم، وذلك أن الله عزّ وجلّ عَقَّب ذلك عقيب حَضّه عباده على برّ الآباء والأمَّهات، فالواجب أن يكون ذلك حَضًّا على صلة أنسابهم دون أنساب غيرهم التي لم يجر لها ذكر، وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وأعط يا محمد ذا قرابتك حقه من صلتك إياه، وبرّك به، والعطف عليه، وخرج ذلك مَخْرج الخطاب لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بحكمه جميع من لزمته فرائض الله، يدلّ على ذلك ابتداؤه الوصية بقوله جلّ ثناؤه (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا) فوجَّه الخطاب بقوله (وَقَضَى رَبُّكَ) إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال (ألا تَعْبُدوا إِلا إِيَّاهُ) فرجع بالخطاب به إلى الجميع، ثم صرف الخطاب بقوله (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ) إلى إفراده به. والمعنيّ بكل ذلك جميع من لزمته فرائض الله عزّ وجلّ، أفرد بالخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، أو عمّ به هو وجميع أمته.
وقوله (والمِسْكِينَ) وهو الذلَّة من أهل الحاجة. وقد دللنا فيما مضى على معنى المسكين بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقوله (وَابْنِ السَّبِيلِ) يعني: المسافر المنقطع به، يقول تعالى: وصِل قرابتك، فأعطه حقه من صلتك إياه، والمسكين ذا الحاجة، والمجتاز بك المنقطع به، فأعنه، وقوّه على قطع سفره. وقد قيل: إنما عنى بالأمر بإتيان ابن السبيل حقه أن يضاف ثلاثة أيام.
والقول الأوّل عندي أولى بالصواب، لأن الله تعالى لم يُخصصْ من حقوقه شيئا دون شيء في كتابه، ولا على لسان رسوله، فذلك عامّ في كلّ حق له أن يُعطاه من ضيافة أو حمولة أو مَعُونة على سفره.
وقوله (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) يقول: ولا تفرّق يا محمد ما أعطاك الله من مال في معصيته تفريقا. وأصل التبذير: التفريق في السّرَف؛ ومنه قول الشاعر:
أُناسٌ أجارُونا فَكانَ جِوَارُهُمْ ... أعاصِيرَ مِنْ فِسْقِ العِرَاقِ المُبَذَّرِ (1)
__________
(1) هو معاوية بن سبرة السوائي، أبو العبيدين: مصغر عبدين، الأعمى الكوفى. مات سنة 98 هـ. (عن خلاصة الخزرجي) .(17/427)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي العبيدين، قال: قال عبد الله في قوله (وَلا تُبَذّرْ تَبْذيرًا) قال: التبذير في غير الحقّ، وهو الإسراف.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين، قال: سُئل عبد الله عن المبذّر فقال: الإنفاق في غير حقّ.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدّث عن أبي العُبيدين (1) ضرير البصر، أنه سأل عبد الله بن مسعود عن هذه الآية (ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) قال: إنفاق المال في غير حقه.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العُبيدين، عن عبد الله، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار أن أبا العبيدين كان ضرير البصر، سأل ابن مسعود فقال: ما التبذير؟ فقال: إنفاق المال في غير حقه.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا المسعودي، قال: أخبرنا سلمة بن كُهيل، عن أبي العُبيدين، وكانت به زَمانة، وكان عبد الله يعرف له ذلك، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما التبذير؟ فذكر مثله.
__________
(1) لم أقف على قائله، ويقال. أجار فلان فلانا: إذا خفره ومنعه أن يظلمه ظالم. وجوارهم عنا بمعنى إجارتهم. والأعاصير: جمع إعصار، وهو الريح التي تستدير وتحمل ما على الأرض من تراب وغيره. والفسق: الخروج عن الطاعة أو عن جميل الأخلاق.
والمبذر: اسم مفعول من التبذير، وهو تفريق المال ونحوه وإفساده بالإسراف. قال في (اللسان: بذر) : والتبذير: إفساد المال وإنفاقه في السرف. وقيل: التبذير: أن ينفق المال في المعاصي. أهـ. وعلى هذا المعنى استشهد المؤلف بالبيت.(17/428)
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: ثنا أبو الحوءب، عن عمار بن زُريق، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضرِب، عن أبي العُبيدين، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدّث أن التبذير: النفقة في غير حقه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن كثير العنبري، قال: ثنا شعبة، قال: كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة، فأتى على دار تُبنى بجصّ وآجر، فقال: هذا التبذير في قول عبد الله: إنفاق المال في غير حقه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرًا) قال: المبذّر: المنفق في غير حقه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عباد، عن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: المبذّر: المنفق في غير حقه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس، قال: لا تنفق في الباطل، فإن المبذّر: هو المسرف في غير حقّ.
قال ابن جريج وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحقّ ما كان تبذيرا، ولو انفق مدّا في باطل كان تبذيرا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرًا) قال: التبذير: النفقة في معصية الله، وفي غير الحقّ وفي الفساد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) قال: بدأ بالوالدين قبل هذا، فلما فرغ من الوالدين وحقهما، ذكر هؤلاء وقال (لا تُبَذّرْ تَبْذِيرًا) : لا تعطِ في معاصي الله.(17/429)
وأما قوله (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) فإنه يعني: إنّ المفرّقين أموالهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته أولياء الشياطين، وكذلك تقول العرب لكلّ ملازم سنة قوم وتابع أثرهم: هو أخوهم (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) يقول: وكان الشيطان لنعمة ربه التي أنعمها عليه جحودا لا يشكره عليه، ولكنه يكفرها بترك طاعة الله، وركوبه معصيته، فكذلك إخوانه من بني آدم المبذّرون أموالهم في معاصي الله، لا يشكرون الله على نعمه عليهم، ولكنهم يخالفون أمره ويعصُونه، ويستنون فيما أنعم الله عليهم به من الأموال التي خوّلهموها عزّ وجل سنته من ترك الشكر عليها، وتلقِّيها بالكُفران.
كالذي حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّ المُبَذّرِينَ) : إن المنفقين في معاصي الله (كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) .(17/430)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا (28) }
يقول تعالى ذكره: وإن تعرض يا محمد عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم حقوقهم إذا وجدت إليها السبيل بوجهك عند مسألتهم إياك، ما لا تجد إليه سبيلا حياء منهم ورحمة لهم (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) يقول: انتظار رزق تنتظره من عند ربك، وترجو تيسير الله إياه لك، فلا تؤيسهم، ولكن قل لهم قولا ميسورا: يقول: ولكن عدهم وعدا جميلا بأن تقول: سيرزق الله فأعطيكم، وما أشبه ذلك من القول اللين غير الغليظ، كما قال جلّ ثناؤه (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن،(17/430)
عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) قال: انتظار الرزق (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا) قال: لينا تَعِدُهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) قال: رزق (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) .
حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا عمارة، عن عكرمة، في قوله (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) قال: انتظار رزق من الله يأتيك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) قال: إن سألوك فلم يجدوا عندك ما تعطيهم ابتغاء رحمة، قال: رزق تنتظره ترجوه (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا) قال: عدهم عدة حسنة، إذا كان ذلك، إذا جاءنا ذلك فعلنا، أعطيناكم، فهو القول الميسور.
قال ابن جريج، قال مجاهد: إن سألوك فلم يكن عندك ما تعطيهم، فأعرضت عنهم ابتغاء رحمة، قال: رزق تنتظره (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) قال: انتظار رزق الله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن عبيدة في قوله (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) قال: ابتغاء الرزق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) قال: أي رزق تنتظره (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا) أي معروفا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن(17/431)
قتادة (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا) قال: عدهم خيرا. وقال الحسن: قل لهم قولا لينا وسهلا.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) يقول: لا نجد شيئا تعطيهم (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) يقول: انتظار الرزق من ربك، نزلت فيمن كان يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم من المساكين.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني حرمي بن عمارة، قال: ثنا شعبة، قال: ثني عمارة، عن عكرمة في قول الله (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا) قال: الرفق.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) عن هؤلاء الذين أوصيناك بهم (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) إذا خشيت إن أعطيتهم. أن يتقووا بها على معاصي الله عزّ وجلّ، ويستعينوا بها عليها، فرأيت أن تمنعهم خيرا، فإذا سألوك (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا) قولا جميلا رزقك الله، بارك الله فيك.
وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن زيد مع خلافه أقوال أهل التأويل في تأويل هذه الآية، بعيد المعنى، مما يدل عليه ظاهرها، وذلك أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) فأمره أن يقول إذا كان إعراضه عن القوم الذين ذكرهم انتظار رحمة منه يرجوها من ربه (قَوْلا مَيْسُورًا) وذلك الإعراض ابتغاء الرحمة، لن يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون إعراضا منه ابتغاء رحمة من الله يرجوها لنفسه، فيكون معنى الكلام كما قلناه، وقال أهل التأويل الذين ذكرنا قولهم، وخلاف قوله؛ أو يكون إعراضا منه ابتغاء رحمة من الله يرجوها للسائلين الذين أُمِر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بزعمه أن يمنعهم ما سألوه خشية عليهم من أن ينفقوه في معاصي الله، فمعلوم أن سخط الله على من كان غير مأمون منه صَرْف ما أُعْطي من نفقة ليتقوّى بها على طاعة الله في معاصيه، أخوف من رجاء رحمته له، وذلك(17/432)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
أن رحمة الله إنما ترجى لأهل طاعته، لا لأهل معاصيه، إلا أن يكون أراد توجيه ذلك إلى أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أمر بمنعهم ما سألوه، لينيبوا من معاصي الله، ويتوبوا بمنعه إياهم ما سألوه، فيكون ذلك وجها يحتمله تأويل الآية، وإن كان لقول أهل التأويل مخالفا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) }
وهذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى للممتنع من الإنفاق في الحقوق التي أوجبها في أموال ذوي الأموال، فجعله كالمشدودة يده إلى عنقه، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء.
وإنما معنى الكلام: ولا تمسك يا محمد يدك بخلا عن النفقة في حقوق الله، فلا تنفق فيها شيئا إمساك المغلولة يده إلى عنقه، الذي لا يستطيع بسطها (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) يقول: ولا تبسطها بالعطية كلّ البسط، فتَبقى لا شيء عندك، ولا تجد إذا سئلت شيئا تعطيه سائلك (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) يقول: فتقعد يلومك سائلوك إذا لم تعطهم حين سألوك، وتلومك نفسك على الإسراع في مالك وذهابه، محسورا: يقول: مَعِيبا، قد انقُطِع بك، لا شيء عندك تنفقه، وأصله من قولهم للدابة التي قد سير عليها حتى انقَطَع سيرها، وكلَّت ورَزحت من السير، بأنه حَسِير. يقال منه: حَسَرْت الدابة فأنا أحسِرُها، وأحسُرها حَسْرا، وذلك إذا أنضيته بالسير، وحَسَرته بالمسألة إذا سألته فألحفت، وحَسَرَ البصرُ فهو يَحْسِر، وذلك إذا بلغ أقصى المنظر فكَلّ. ومنه قوله عزَ وجلَ (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) وكذلك ذلك في كلّ شيء كَلَّ وأزحف حتى يَضْنَى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هودة، قال(17/433)
: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) قال: لا تجعلها مغلولة عن النفقة (وَلا تَبْسُطْها) : تبذر بسرف.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يوسف بن بهز، قال: ثنا حوشب، قال: كان الحسن إذا تلا هذه الآية (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) يقول: لا تطفِّف برزقي عن غير رضاي، ولا تضعْه في سُخْطي فأسلُبَك ما في يديك، فتكون حسيرا ليس في يديك منه شيء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) يقول هذا في النفقة، يقول (لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) يقول: لا تبسطها بالخير (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) يعني التبذير (فَتَقْعُدَ مَلُوما) يقول: يلوم نفسه على ما فات من ماله (مَحْسُورًا) يعني: ذهب ماله كله فهو محسور.
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) يعني بذلك البخل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) أي لا تمسكها عن طاعة الله، ولا عن حقه (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) يقول: لا تنفقها في معصية الله، ولا فيما يصلح لك، ولا ينبغي لك، وهو الإسراف، قوله (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) قال: ملوما في عباد الله، محسورا على ما سلف من دهره وفرّط.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) قال: في النفقة، يقول: لا تمسك عن النفقة (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) يقول: لا تبذر تبذيرا (فَتَقْعُدَ مَلُوما) في عباد الله (مَحْسُورًا) يقول: نادما على ما فرط منك.(17/434)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) فيما نهيتك (فَتَقْعُدَ مَلُوما) قال: مذنبا (مَحْسُورًا) قال: منقطعا بك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) قال: مغلولة لا تبسطها بخير ولا بعطية (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) في الحق والباطل، فينفَذ ما معك، وما في يديك، فيأتيك من يريد أن تعطيه فيحسر بك، فيلومك حين أعطيت هؤلاء، ولم تعطهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد يبسط رزقه لمن يشاء من عباده، فيوسع عليه، ويقدر على من يشاء، يقول: ويُقَتِّر على من يشاء منهم، فيضيِّق عليه (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا) : يقول: إن ربك ذو خبرة بعباده، ومن الذي تصلحه السعة في الرزق وتفسده؛ ومن الذي يصلحه الإقتار والضيق ويهلكه (بصيرا) : يقول: هو ذو بصر بتدبيرهم وسياستهم، يقول: فانته يا محمد إلى أمرنا فيما أمرناك ونهيناك من بسط يدك فيما تبسطها فيه، وفيمن تبسطها له، ومن كفها عمن تكفها عنه، وتكفها فيه، فنحن أعلم بمصالح العباد منك، ومن جميع الخلق وأبصر بتدبيرهم.
كالذي حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، ثم أخبرنا تبارك وتعالى كيف يصنع، فقال (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) قال: يقدر: يقلّ، وكل شيء في القرآن يَقْدِر كذلك؛ ثم أخبر عباده أنه لا يرزَؤُه ولا يئُوده أن لو بسط عليهم، ولكن نظرا لهم منه، فقال (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ(17/435)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
خَبِيرٌ بَصِيرٌ) قال: والعرب إذا كان الخصب وبُسِط عليهم أُشِروا، وقتل بعضهم بعضا، وجاء الفساد، فإذا كان السنة شُغِلوا عن ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) }
يقول تعالى ذكره: (وَقَضَى رَبُّكَ) يا محمد (أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ، (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فموضع تقتلوا نصب عطفا على ألا تعبدوا.
ويعني بقوله (خَشْيَةَ إمْلاقٍ) خوف إقتار وفقر، وقد بيَّنا ذلك بشواهده فيما مضى، وذكرنا الرواية فيه، وإنما قال جلّ ثناؤه ذلك للعرب، لأنهم كانوا يقتلون الإناث من أولادهم خوف العيلة على أنفسهم بالإنفاق عليهن.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعد، عن قتادة، قوله (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) : أي خشية الفاقة، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفاقة، فوعظهم الله في ذلك، وأخبرهم أن رزقهم ورزق أولادهم على الله، فقال (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (خَشْيَةَ إمْلاقٍ) قال: كانوا يقتلون البنات.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) قال: الفاقة والفقر.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (خَشْيَة إِمْلاقٍ) يقول: الفقر.
وأما قوله (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) فإن القراء اختلفت في قراءته؛ فقرأته عامَّة قراء أهل المدينة والعراق (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) بكسر الخاء من الخطإ وسكون الطاء، وإذا قرئ ذلك كذلك، كان له وجهان من التأويل: أحدهما أن يكون اسما من قول القائل: خَطِئت فأنا أَخْطَأ، بمعنى: أذنبت وأثمت. ويُحكى عن العرب: خَطِئتُ: إذا أذنبتَ عمدا، وأخطأت: إذا وقع(17/436)
منك الذنب خَطَأ على غير عمد منك له. والثاني: أن يكون بمعنى خَطَأ بفتح الخاء والطاء، ثم كسرت الخاء وسكنت الطاء، كما قيل: قِتْب وقتب وحِذَر، ونجِس ونَجَس. والخطء بالكسر اسم، والخطأ بفتح الخاء والطاء مصدر من قولهم: خَطِئ الرجل؛ وقد يكون اسما من قولهم: أخطأ. فأما المصدر منه فالإخطاء. وقد قيل: خطئ، بمعنى أخطأ، كما قال: الشاعر:
يا لَهْفَ هِنْدٍ إِذْ خَطِئْنَ كاهِلا (1)
بمعنى: أخطأن. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل المدينة: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَأً) بفتح الخاء والطاء مقصورا على توجيهه إلى أنه اسم من قولهم: أخطأ فلان خطأ. وقرأه بعض قراء أهل مكة: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَاءً) بفتح الخَاء والطاء، ومد الخَطَاء بنحو معنى من قرأه خطأ بفتح الخاء والطاء، غير أنه يخالفه في مدّ الحرف.
وكان عامة أهل العلم بكلام العرب من أهل الكوفة وبعض البصريين منهم يرون أن الخطْء والخطأ بمعنى واحد، إلا أن بعضهم زعم أن الخطْء بكسر الخاء وسكون الطاء في القراءة أكثر، وأن الخِطْء بفتح الخاء والطاء في كلام الناس أفشى، وأنه لم يسمع الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء، في شيء من كلامهم وأشعارهم، إلا في بيت أنشده لبعض الشعراء:
الخِطْءُ فاحِشَةٌ والبِرُّ نافِلَةٌ ... كعَجْوَةٍ غُرِسَتْ فِي الأرْضِ تُؤْتَبرُ (2)
__________
(1) هذا بيت من مشطور الرجز ينسب إلى امرئ القيس بن حجر الكندي، من مقطوعة تسعة أبيات، (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي ص 105) قالها حين بلغه أن بني أسد قتلت أباه. ومعنى يا لهف: يا أسف أو يا حسرة. وهند أخته. وخطئن: يعني الخيل، أي أخطأن. وكان قد طلب بني كاهل من بني أسد ليلا، فأوقع بين كنانة خطأ، وهرب منه بنو كاهل. وهذا البيت هو أول الأبيات في الأغاني والعقد الثمين لوليم ألورد. ومحل الشاهد في البيت أن خطئ خطأ، وأخطأ إخطاء: لغتان بمعنى واحد إذا عمل شيئا وأخطأ فيه عن غير تعمد كما في البيت والخطء، بكسر الخاء وسكون الطاء اسم مصدر بمعنى المصدر وبعض اللغويين يقول: إن خطئ خطأ معناه وقع في الإثم عن تعمد، بخلاف أخطأ، فإنه عن غير تعمد.
(2) استشهد المؤلف بهذا البيت على أن بعضهم زعم أن الخطء (بكسر الخاء وسكون الطاء) في القراءة أكثر، وأن الخطأ (بفتح الخاء وسكون الطاء في كلام الناس أفشى، وأنه لم يسمع بكسر الخاء وسكون الطاء في شيء من كلامهم وأشعارهم إلا في بيت أنشده لبعض الشعراء: الخطء فاحشة ... إلخ البيت) ولم أقف على البيت ولا قائله في معاني القرآن للفراء، ولا في مجاز القرآن لأبي عبيدة غير أن الفراء قال: قرأ الحسن: خطاء كبيرا بالمد، وقرأ أبو جعفر المدني: خطأ كبيراً، قصر وهمز، وكل صواب. وكأن الخطأ الإثم، وقد يكون في معنى خطأ بالقصر، كما قالوا: قتب وقتب وحذر وحذر ونجس ونجس. ومثله قراءة من قرأ: (هم أولاء على أثري) وإثري. والنافلة: ما يكون زيادة على الفرض. والعجوة: أجود تمر المدينة، كما في اللسان وتؤتبر: تصلح بالإبار، ليجود ثمرها.(17/437)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
وقد ذكرت الفرق بين الخِطْء بكسر الخاء وسكون الطاء وفتحهما.
وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب، القراءة التي عليها قراء أهل العراق، وعامة أهل الحجاز، لإجماع الحجة من القراء عليها، وشذوذ ما عداها. وإن معنى ذلك كان إثما وخطيئة، لا خَطَأ من الفعل، لأنهم إنما كانوا يقتلونهم عمدا لا خطأ، وعلى عمدهم ذلك عاتبهم ربهم، وتقدم إليهم بالنهي عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (خِطْأً كَبِيرًا) قال: أي خطيئة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) قال: خطيئة. قال ابن جريج، وقال ابن عباس: خِطأ: أي خطيئة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا (32) }
يقول تعالى ذكره: وقضى أيضا أن (لا تَقْرَبُوا) أيها الناس (الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) يقول: إِن الزّنا كان فاحشة (وَساءَ سَبِيلا) يقول: وساء طريق الزنا طريقا، لأن طريق أهل معصية الله، والمخالفين أمره، فأسوئ به طريقا يورد صاحبه نار جهنم.(17/438)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) }
يقول جلّ ثناؤه: وقضى أيضا أن (لا تَقْتُلُوا) أيها الناس (النَّفْسَ التي حَرَّمَ الله) قتلها (إلا بالحَقّ) وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قود نفس، وإن كانت كافرة لم يتقدّم كفرها إسلام، فأن لا يكون تقدم قتلها لها عهد وأمان.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ) وإنا والله ما نعلم بحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، إلا رجلا قتل متعمدا، فعليه القَوَد، أو زَنى بعد إحصانه فعليه الرجم؛ أو كفر بعد إسلامه فعليه القتل.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن الزهريّ، عن عُروة أو غيره، قال: قيل لأبي بكر: أتقتل من يرى أن لا يؤدي الزكاة، قال: لو منعوني شيئا مما أقروا به لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم فقيل لأبي بكر: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتى يَقُولُوا: لا إِلَه إِلا الله، فإذَا قالُوها عَصَمُوا مِنّي دِماءهُمْ وأمْوالهُم إِلا بِحَقِّها، وحِسابُهُمْ عَلى الله" فقال أبو بكر: هذا من حقها.
حدثني موسى بن سهل، قال: ثنا عمرو بن هاشم، قال: ثنا سليمان بن حيان، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتى يقُولُوا لا إِلَه إِلا الله، فإذَا قالُوها عَصَمُوا مِنِّى دِماءهُمْ وأمْوالهُمْ إِلا بِحَقِّها وحِسابهُمْ عَلى الله؛ قيل: وما حقها؟ قال: زِنًا بَعْد إحْصانٍ، وكُفْرٌ بَعْد إيمَانٍ، وقَتْلُ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِها".
وقوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا) يقول: ومن قتل بغير المعاني التي ذكرنا أنه إذا قتل بها كان قتلا بحقّ (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) يقول: فقد جعلنا لوليّ(17/439)
المقتول ظلما سلطانا على قاتل وليه، فإن شاء استقاد منه فقتله بوليه، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذ الدية.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى السلطان الذي جُعل لوليّ المقتول، فقال بعضهم في ذلك، نحو الذي قُلنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) قال: بيِّنة من الله عزّ وجلّ أنزلها يطلبها وليّ المقتول، العَقْل، أو القَوَد، وذلك السلطان.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن جُويبر، عن الضحاك بن مزاحم، في قوله (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) قال: إن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية.
وقال آخرون: بل ذلك السلطان: هو القتل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) وهو القَوَد الذي جعله الله تعالى.
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول ذلك: أن السلطان الذي ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما قاله ابن عباس، من أن لوليّ القتيل القتل إن شاء وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء العفو، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة: "ألا ومَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُو بِخَيْرِ النَّظَريْنِ بين أنْ يَقْتُل أوْ يأْخُذ الدّيَة". قد بيَّنت الحكم في ذلك في كتابنا: كتاب الجِراح.
وقوله (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الكوفة (فَلا تُسْرِفْ) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به هو والأئمة من بعده، يقول: فلا تقتل بالمقتول ظُلْما غير قاتله، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك إذا قتل رجل رجلا عمد وليّ القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل، فقتله بوليه، وترك القاتل، فنهى الله عزّ وجلّ عن(17/440)
ذلك عباده، وقال لرسوله عليه الصلاة والسلام: قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثِّل به. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة (فَلا يُسْرفْ) بالياء، بمعنى فلا يسرف وليّ المقتول، فيقتل غير قاتل وليه. وقد قيل: عنى به: فلا يسرف القاتل الأول لا ولي المقتول.
والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال: إنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وذلك أن خطاب الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهي في أحكام الدين، قضاء منه بذلك على جميع عباده، وكذلك أمره ونهيه بعضهم، أمر منه ونهى جميعهم، إلا فيما دلّ فيه على أنه مخصوص به بعض دون بعض، فإن كان ذلك كذلك بما قد بيَّنا في كتابنا [كتاب البيان، عن أصول الأحكام] فمعلوم أن خطابه تعالى بقوله (فَلا تُسْرِف في القَتْلِ) نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كان موجَها إليه أنه معنيّ به جميع عباده، فكذلك نهيه وليّ المقتول أو القاتل عن الإسراف في القتل، والتعدّي فيه نهي لجميعهم، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب صواب القراءة في ذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك نحو اختلاف القرّاء في قراءتهم إياه.
* ذكر من تأوّل ذلك: بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن منصور، عن طلق بن حبيب، في قوله (فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ) قال لا تقتل غير قاتله، ولا تمثِّل به.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير. عن منصور، عن طلق بن حبيب، بنحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، في قوله (فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ) قال: لا تقتل اثنين بواحد.(17/441)
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) كان هذا بمكة، ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم بها، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون يغتالون أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الله تبارك وتعالى: من قتلكم من المشركين، فلا يحملنَّكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أبا أو أخا أو أحدا من عشيرته، وإن كانوا مشركين، فلا تقتلوا إلا قاتلكم؛ وهذا قبل أن تنزل براءة، وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين، فذلك قوله (فَلا تُسْرِفْ فِي القَتْلِ) يقول: لا تقتل غير قاتلك، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين، لا يحلّ لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم.
* ذكر من قال: عُنِي به وليّ المقتول حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو رجاء، عن الحسن، في قوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) قال: كان الرجل يُقتل فيقول وليه: لا أرضى حتى أقتل به فلانا وفلانا من أشراف قبيلته.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ) قال: لا تقتل غير قاتلك، ولا تمثِّل به.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ) قال: لا يقتل غير قاتله؛ من قَتَل بحديدة قُتل بحديدة؛ ومن قَتَل بخشبة قُتِل بخشبة؛ ومن قَتل بحجر قُتل بحجر. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إِنَّ مِنْ أعْتَى النَّاسِ على الله جَلَّ ثَناؤُهُ ثَلاثَةً رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قاتِلِهِ، أوْ قَتَلَ بدَخَنٍ في الجاهِلِيَّة، أو قَتَل فِي حَرَمِ الله".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سمعته، يعني ابن زيد، يقول في قول الله جلّ ثناؤه (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) قال: إن العرب كانت إذا قُتل منهم قتيل، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم، حتى يقتلوا أشرف من الذي قتله، فقال الله جلّ ثناؤه (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) ينصره وينتصف من حقه (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) يقتل بريئا.(17/442)
* ذكر من قال عُنِي به القاتل حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) قال: لا يسرف القاتل في القتل.
وقد ذكرنا الصواب من القراءة في ذلك عندنا، وإذا كان كلا وجهي القراءة عندنا صوابا، فكذلك جميع أوجه تأويله التي ذكرناها غير خارج وجه منها من الصواب، لاحتمال الكلام ذلك، وإن في نهي الله جلّ ثناؤه بعض خلقه عن الإسراف في القتل، نهى منه جميعَهم عنه.
وأما قوله (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُنِي بالهاء التي في قوله (إِنَّهُ) وعلى ما هي عائدة، فقال بعضهم: هي عائدة على وليّ المقتول، وهو المعنيّ بها، وهو المنصور على القاتل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) قال: هو دفع الإمام إليه، يعني إلى الوليّ، فإن شاء قتل، وإن شاء عفا.
وقال آخرون: بل عُنِي بها المقتول، فعلى هذا القول هي عائدة على "مَن" في قوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما) .
* ذكر مَن قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) إن المقتول كان منصورا.
وقال آخرون: عُنِي بها دم المقتول، وقالوا: معنى الكلام: إن دم القتيل كان منصورا على القاتل.
وأشبه ذلك بالصواب عندي، قول من قال: عُنِي بها الوليّ، وعليه عادت، لأنه هو المظلوم، ووليه المقتول، وهي إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول، وهو المنصور أيضا، لأن الله جلّ ثناؤه قضى في كتابه المنزل، أنه سلَّطه على قاتل وليه، وحكَّمه فيه، بأن جعل إليه قتله إن شاء، واستبقاءه على الدية إن أحبّ، والعفو عنه إن رأى، وكفى بذلك نُصرة له من الله جلّ ثناؤه، فلذلك قلنا: هو المعنيّ بالهاء التي في قوله (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) .(17/443)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا (34) }
يقول تعالى ذكره: وقضى أيضا أن لا تقربوا مال اليتيم بأكل، إسرافا وبدارا أن يَكْبَروا، ولكن اقرَبوه بالفَعْلة التي هي أحسن، والخَلَّة التي هي أجمل، وذلك أن تتصرّفوا فيه له بالتثمير والإصلاح والحيطة.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) لما نزلت هذه الآية، اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يخالطونهم في طعام أو أكل ولا غيره، فأنزل الله تبارك وتعالى (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) فكانت هذه لهم فيها رُخْصة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: كانوا لا يخالطونهم في مال ولا مأكل ولا مركب، حتى نزلت (وإِنْ تُخالِطُوهُم فإخْوَانُكُمْ) .
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: الأكل بالمعروف، أن تأكل معه إذا احتجت إليه، كان أُبيّ يقول ذلك.
وقوله (حتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ) يقول: حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل، وتدبير ماله، وصلاح حاله في دينه (وأوْفُوا بالعَهْدِ) يقول: وأوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضا، والبيوع والأشربة والإجارات، وغير ذلك من العقود (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) يقول: إن الله جلّ ثناؤه سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقضوا العهود الجائزة بينكم، وبين من عاهدتموه أيها الناس فتخفروه، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك. وإنما عنى بذلك أن العهد كان مطلوبا، يقال في الكلام: ليسئلنّ فلان عهد فلان.(17/444)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (35) }
يقول تعالى ذكره: (وَ) قضى أن (أوْفُوا الكَيْلَ) للناس (إِذَا كِلْتُمْ) لهم حقوقهم قِبَلَكم، ولا تبخَسُوهم (وَزِنُوا بالقِسْطاس المُسْتَقِيمِ) يقول:
وقَضَى أن زنوا أيضا إذا وزنتم لهم بالميزان المستقيم، وهو العدل الذي لا اعوجاج فيه، ولا دَغَل، ولا خديعة.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى القسطاس، فقال بعضهم: هو القبان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: ثنا الحسن بن ذكوان، عن الحسن (وَزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ) قال: القَبَّان.
وقال آخرون: هو العدل بالرومية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: القِسطاس: العدل بالرومية.
وقال آخرون: هو الميزان صغر أو كبر؛ وفيه لغتان: القِسطاس بكسر القاف، والقُسطاس بضمها، مثل القِرطاس والقُرطاس؛ وبالكسر يقرأ عامَّة قرّاء أهل الكوفة، وبالضمّ يقرأ عامه قرّاء أهل المدينة والبصرة، وقد قرأ به أيضا بعض قرّاء الكوفيين، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لأنهما لغتان مشهورتان، وقراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار.
وقوله (ذلكَ خَيْرٌ) يقول: إيفاؤكم أيها الناس من تكيلون له الكيل، ووزنكم بالعدل لمن توفون له (خَيْرٌ لَكُمْ) من بخسكم إياهم ذلك، وظلمكموهم فيه. وقوله (وأحْسَنُ تَأْوِيلا) يقول: وأحسن مردودا عليكم وأولى إليه فيه فعلكم ذلك، لأن الله تبارك وتعالى يرضى بذلك عليكم، فيُحسن لكم عليه الجزاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.(17/445)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) أي خير ثوابا وعاقبة.
وأخبرنا أن ابن عباس كان يقول: يا معشر الموالي، إنكم وَلِيتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم: هذا المِكيال، وهذا الميزان. قال: وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا يَقْدِرُ رَجُلٌ على حَرَام ثُمَّ يَدَعُهُ، لَيْسَ بِهِ إِلا مَخافَةُ الله، إِلا أَبْدَلَهُ الله فِي عاجِلِ الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ ما هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذلكَ".
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وأحْسَنُ تَأْوِيلا) قال: عاقبة وثوابا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا (36) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فقال بعضهم: معناه: ولا تقل ما ليس لك به علم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) يقول: لا تقل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله.(17/446)
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) قال: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم.
حُدثت عن محمد بن ربيعة، عن إسماعيل الأزرق، عن أبى عمر البزار، عن ابن الحنفية قال: شهادة الزور.
وقال آخرون: بل معناه: ولا ترم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) يقول: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلا تَقْفُ) ولا ترمِ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وهذان التأويلان متقاربا المعنى، لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور، ورمي الناس بالباطل، وادّعاء سماع ما لم يسمعه، ورؤية ما لم يره. وأصل القفو: العضه والبهت، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بن كِنانَة لا نَقْفُو أمِّنا ولا نَنْتَفِي مِنْ أبِينا"، وكان بعض البصريين ينشد في ذلك بيتا:
وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ العَرَانِينِ ساكِنٌ ... بِهِنَّ الحَياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافِيا (1)
__________
(1) البيت للنابغة الجعدي: وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1: 379) شاهد على أن معنى التقافي: التقاذف. وفي (اللسان: قفو) قال أبو عبيد الأصل في القفو واتقافي: البهتان يرمى به الرجل صاحبه. أهـ. قال أبو بكر: قولهم قد قفا فلان فلانا قال أبو عبيد: معناه أتبعه أمرا كلاما قبيحا. وقال الليث: القفو: مصدر قولك قفا يقفو وقفوا (الثاني بتشديد الواو) ، وهو أن يتبع الشيء: قال تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " قال الفراء: أكثر القراء يجعلونها من قفوت، كما تقول: لا تدع من دعوت. قال: وقرأ بعضهم: ولا تقف مثل ولا تقل. وقال الأخفش في قوله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم": أي لا تتبع ما لا تعلم. وقيل: ولا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم؛ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا. أ. هـ. والدمى جمع دمية، وهي التمثال من المرمر أو العاج أو نحوهما. وشم العرانين: جمع شماء العرنين، أي مرتفعات قصبات الأنوف، وهو من أمارات جمالهن.(17/447)
يعني بالتقافي: التقاذف. ويزعم أن معنى قوله (لا تَقْفُ) لا تتبع ما لا تعلم، ولا يعنيك. وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة، يزعم أن أصله القيافة، وهي اتباع الأثر، وإذ كان كما ذكروا وجب أن تكون القراءة (وَلا تَقُفْ) بضم القاف وسكون الفاء، مثل: ولا تقل. قال: والعرب تقول: قفوت أثره، وقُفت أثره، فتقدِّم أحيانا الواو على الفاء وتؤخرها أحيانا بعدها، كما قيل: قاع الجمل الناقة: إذا ركبها وقَعَا وعاثَ وَعَثَى؛ وأنشد سماعا من العرب:
ولَوْ أنّي رَمَيْتُكَ مِنْ قَرِيبٍ ... لَعاقَكَ مِنْ دُعاءٍ الذّئْبِ عاقِ (1)
يعني عائق، ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به، فترميهم بالباطل، وتشهد عليهم بغير الحقّ، فذلك هو القفو.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه.
وأما قوله (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) فإن
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 179) على أن العرب تقول قفا الشيء: إذا تتبعه كما تقول قافه. وكما قال الشاعر: عاقى، يريد عائق. قال الفراء: أكثر القراء يجعلونها من قفوت ... وبعضهم قال: ولا تقف. والعرب تقول: قفت أثره، وقفوته؛ ومثله: يعتام ويعتمي، وعاث وعثى، من الفساد، وهو كثير، منه شاك السلاح، وشاكي السلاح. وسمعت بعض قضاعة يقول: اجتحى ماله، واللغة الفاشية: اجتاح ماله. وقد قال الشاعر: " ولو أني رأيتك " ... إلخ البيت. هذا وقد نقلنا في الشاهد الذي قبل هذا عبارة الفراء، كما جاءت في اللسان، وفيها اختلال عن عبارته هنا في معاني القرآن، ولعله من اختلاف النسخ. وأورد الفراء بعد بيت الشاهد بيتا آخر من وزنه وقافيته، وهو لذي الخرق الطهوي كما في (اللسان: بغم) : حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عَنَاقَا ... وَما هِيَ وَيْبَ غَيرِك بالعَناقِ
وقد سبق الاستشهاد به في أكثر من موضع من هذا التفسير.(17/448)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
معناه: إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها، من أنه سمع أو أبصر أو علم، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحقّ، وقال أولئك، ولم يقل تلك، كما قال الشاعر:
ذُمَّ المَنازِلَ بَعْدَ مَنزلَةِ اللَّوَى ... والعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيَّامِ (1)
وإنما قيل: أولئك، لأن أولئك وهؤلاء للجمع القليل الذي يقع للتذكير والتأنيث، وهذه وتلك للجمع الكثير، فالتذكير للقليل من باب أَنْ كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث لك التذكير للجمع الأوّل، والتأنيث للجمع الثاني، وهو الجمع الكثير، لأن العرب تجعل الجمع على مثال الأسماء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) }
يقول تعالى ذكره: ولا تمش في الأرض مختالا مستكبرا (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ) يقول: إنك لن تقطع الأرض باختيالك، كما قال رُؤْبة:
وقاتِمِ الأعماقِ خاوِي المُخْتَرَق (2)
__________
(1) البيت لجرير بن الخطفي (ديوانه طبعة الصاوى ص 551) وهو البيت الثاني من قصيدة يجيب بها الفرزدق، مطلعها: سَرتِ الهُمومُ فَبِتْنَ غَيرَ نِيامِ ... وأخُو الهُمومِ يَرُومُ كلَّ مَرَامِ
الشاهد في هذا البيت أنه أشار إلى الأيام بأولئك، ولم يقل تلك، لأن أولئك يشار بها إلى الجمع الكثير، وهؤلاء إلى الجمع القليل، للمذكر والمؤنث والعاقل وغيره.
(2) البيت مطلع أرجوزة مطولة (171 بيتا في ديوان رؤبة طبع ليبج سنة 1903م، ص 104) وهو شاهد على أن قوله المخترق بمعنى القطع كما في قوله تعالى: "إنك لن تخرق الأرض" أي لن تقطع الأرض. ويريد بقائم الأعماق: واديا مظلم النواحي لما كثر فيه من الغبار الثائر. والخاوي: الخالي. والمخترق: الممر والمقطع. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 380) " إنك لن تخرق الأرض ": مجاز " لن تقطع الأرض. وقال رؤبة: ... البيت أي المقطع. وقال آخرون: إنك لن تنقب الأرض وليس بشيء.(17/449)
يعني بالمخترق: المقطع (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا) بفخرك وكبرك، وإنما هذا نهي من الله عباده عن الكبر والفخر والخُيَلاء، وتقدم منه إليهم فيه معرِّفهم بذلك أنهم لا ينالون بكبرهم وفخارهم شيئا يقصر عنه غيرهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا) يعني بكبرك ومرحك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا) قال: لا تمش في الأرض فخرا وكبرا، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ) قال: لا تفخر.
وقيل: لا تمش مرَحا، ولم يقل مرِحا، لأنه لم يرد بالكلام: لا تكن مرِحا، فيجعله من نعت الماشي، وإنما أريد لا تمرح في الأرض مرَحا، ففسر المعنى المراد من قوله: ولا تمش، كما قال الراجز:
يُعْجَبُهُ السَّخُونُ والعَصِيدُ ... والتَّمْرُ حبًّا مَا لَهُ مَزِيدُ (1)
فقال: حبا، لأن في قوله: يعجبه، معنى يحبّ، فأخرج قوله: حبا، من معناه دون لفظه.
وقوله (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) فإن القرّاء اختلفت
__________
(1) البيتان في الملحق بشعر رؤبة بن العجاج، بآخر ديوانه (طبع ليبسج سنة 1903 ص 172) وروايتهما فيه: يُعْجِبُهُ السِّخُونُ والبَرُودُ ... والقَزُّ حُبًّا مالَهُ مَزِيدُ
ورواية البيت في (اللسان: سخن) كرواية المؤلف. قال: ويروى: " حتى ماله مزيد ". وقال: السخون من المرق: ما يسخن. وقال في (برد) : كل ما برد به شيء: برود. أهـ. ولعله يريد الماء البارد، تنقع به الغلة، وقال في (عصد) : العصيدة: دقيق يلت بالسمن ويطبخ. والشاهد في البيت: أن قوله حبا مفعول مطلق، لأنه بمعنى إعجابا، لأن في قوله يعجبه، معنى يحبه، فكأنه مرادف له. وهو نظير قوله تعالى: "ولا تمش في الأرض مرحا، أي المرح. وقد سبق الاستشهاد بالبيت في بعض أجزاء التفسير.(17/450)
فيه، فقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) على الإضافة بمعنى: كل هذا الذي ذكرنا من هذه الأمور التي عددنا من مبتدأ قولنا (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) .... إلى قولنا (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا) (كانَ سَيِّئُهُ) يقول:
سيء ما عددنا عليك عند ربك مكروها.
وقال قارئو هذه القراءة: إنما قيل (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ) بالإضافة، لأن فيما عددنا من قوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) أمورا، هي أمر بالجميل، كقوله (وَبالوَالِدَيْنِ إِحْسانا) وقوله (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) وما أشبه ذلك، قالوا: فليس كلّ ما فيه نهيا عن سيئة، بل فيه نهى عن سيئة، وأمر بحسنات، فلذلك قرأنا (سَيِّئُهُ) ، وقرأ عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (كُلُّ ذلكَ كانَ سَيِّئَةً) وقالوا: إنما عنى بذلك: كلّ ما عددنا من قولنا (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ولم يدخل فيه ما قبل ذلك. قالوا: وكل ما عددنا من ذلك الموضع إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه، فالصواب قراءته بالتنوين. ومن قرأ هذه القراءة، فإنه ينبغي أن يكون من نيته أن يكون المكروه مقدما على السيئة، وأن يكون معنى الكلام عنده: كلّ ذلك كان مكروها سيئه؛ لأنه إن جعل قوله: مكروها نعدّ السيئة من نعت السيئة، لزمه أن تكون القراءة: كلّ ذلك كان سيئة عند ربك مكروهة، وذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين.
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأ (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ) على إضافة السيئ إلى الهاء، بمعنى: كلّ ذلك الذي عددنا من (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ.... كانَ سَيِّئُهُ) لأن في ذلك أمورا منهيا عنها، وأمورا مأمورا بها، وابتداء الوصية والعهد من ذلك الموضع دون قوله (وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ) إنما هو عطف على ما تقدّم من قوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) فإذا كان ذلك كذلك، فقراءته بإضافة السيء إلى الهاء أولى وأحقّ من قراءته سيئةً بالتنوين، بمعنى السيئة الواحدة.
فتأويل الكلام إذن: كلّ هذا الذي ذكرنا لك من الأمور التي عددناها عليك كان سيئة مكروها عند ربك يا محمد، يكرهه وينهى عنه ولا يرضاه، فاتق مواقعته والعمل به.(17/451)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) }
يقول تعالى ذكره: هذا الذي بيَّنا لك يا محمد من الأخلاق الجميلة التي أمرناك بجميلها، ونهيناك عن قبيحها (مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) يقول: من الحكمة التي أوحيناها إليك في كتابنا هذا.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) قال: القرآن.
وقد بيَّنا معنى الحكمة فيما مضى من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا) يقول: ولا تجعل مع الله شريكا في عبادتك، فتُلقى في جهنم ملوما تلومك نفسك وعارفوك من الناس (مَدْحُورًا) يقول:
مُبْعَدا مقصيا في النار، ولكن أخلص العبادة لله الواحد القهَّار، فتنجو من عذابه.
وبنحو الذي قلنا في قوله (مَلُومًا مًدْحُورًا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (مَلُومًا مَدْحُورًا) يقول: مطرودا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مَلُومًا مَدْحُورًا) قال: ملوما في عبادة الله، مدحورا في النار.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا (40) }
يقول تعالى ذكره للذين قالوا من مشركي العرب: الملائكة بنات الله (أفأصْفاكُمْ) أيها الناس (رَبُّكُمْ بالبَنينَ) يقول: أفخصكم ربكم بالذكور من(17/452)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
الأولاد (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا) وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، بل تئدونهن، وتقتلونهن، فجعلتم لله ما لا ترضونه لأنفسكم (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا) يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين الذين قالوا من الفرية على الله ما ذكرنا: إنكم أيها الناس لتقولون بقيلكم: الملائكة بنات الله، قولا عظيما، وتفترون على الله فرية منكم.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا) قال: قالت اليهود: الملائكة بنات الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا (41) }
يقول تعالى ذكره (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) لهؤلاء المشركين المفترين على الله (فِي هَذَا القُرآن) العِبَر والآيات والحجج، وضربنا لهم فيه الأمثال، وحذّرناهم فيه وأنذرناهم (لِيَذَّكَّرُوا) يقول: ليتذكروا تلك الحجج عليهم، فيعقلوا خطأ ما هم عليه مقيمون، ويعتبروا بالعبر، فيتعظوا بها، وينيبوا من جهالتهم، فما يعتبرون بها، ولا يتذكرون بما يرد عليهم من الآيات والنُّذُر، وما يزيدهم تذكيرنا إياهم (إِلا نُفُورًا) يقول: إلا ذهابا عن الحقّ، وبُعدا منه وهربا. والنفور في هذا الموضع مصدر من قولهم: نفر فلان من هذا الأمر ينفِر منه نَفْرا ونفورا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر: لو كان الأمر كما تقولون: من أن معه(17/453)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
آلهة، وليس ذلك كما تقولون، إذن لابتغت تلك الآلهة القُربة من الله ذي العرش العظيم، والتمست الزُّلْفة إليه، والمرتبة منه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا) يقول: لو كان معه آلهة إذن لعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته عليهم، فابتغوا ما يقرّبهم إليه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا) قال: لابتغَوا القُرب إليه، مع أنه ليس كما يقولون.
القول في تأويل قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) }
وهذا تنزيه من الله تعالى ذكره نفسه عما وصفه به المشركون، الجاعلون معه آلهة غيره، المضيفون إليه البنات، فقال: تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم، من الفرية والكذب، فإن ما تضيفون إليه من هذه الأمور ليس من صفته، ولا ينبغي أن يكون له صفة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان. وقال تعالى (عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا) ولم يقل: تعاليا، كما قال (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) كما قال الشاعر:
أَنْتَ الفِدَاءُ لكَعْبَةٍ هَدَّمْتَها ... وَنَقَرْتَها بِيَدَيْكَ كُلَّ مَنَقَّر ... مُنِعَ الحَمامُ مَقِيلَهُ مِنْ سَقْفِها ... ومِنَ الحَطِيم فَطَارَ كُلَّ مُطَيَّرِ (1)
__________
(1) البيتان شاهدان على أن المصدرين منقر ومطير المضافين إلى كل المعرب مفعولا مطلقا ليس من لفظ الفعل السابق عليهما، لأن المنقر من نقر بتشديد القاف، والمطير من طير بتشديد الياء، مع أن الفعلين السابقين ثلاثيان. ولكن العرب تجيز وضع المصادر المختلفة عن الأفعال السابقة عليها، ومنه في القرآن: " وتبتل إليه تبتيلا " ومصدر تبتل: هو التبتل لا التبتيل، ولكن ذلك جائز لأن الحروف الأصول مشتركة في الأفعال والمصادر التي تليها.(17/454)
وقوله (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) يقول:
تنزه الله أيها المشركون عما وصفتموه به إعظاما له وإجلالا السماوات السبع والأرض، ومن فيهنّ من المؤمنين به من الملائكة والإنس والجنّ، وأنتم مع إنعامه عليكم، وجميل أياديه عندكم، تفترون عليه بما تَفْتَرون.
وقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) يقول جلّ ثناؤه:
وما من شيء من خلقه إلا يسبح بحمده.
كما حدثني به نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ، قال: ثنا محمد بن يعلَى، عن موسى بن عبيدة، عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ نُوحٌ ابْنَهُ؟ إِنَّ نُوحا قالَ لابْنِهِ يا بُنَيَّ آمُرُكَ أنْ تَقُولَ سُبْحانَ الله وبِحَمْدِهِ فإنَّها صَلاةُ الخَلْق، وَتَسْبِيحُ الخَلْقِ، وبِها تُرْزَقُ الخَلْقُ، قالَ الله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عيسى بن عبيد، قال: سمعت عكرمة يقول: لا يَعِيبنّ أحدكم دابته ولا ثوبه، فإن كل شيء يسبح بحمده.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قال: الشجرة تسبح، والأسْطوانة تسبح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب، قالا ثنا(17/455)
جرير أبو الخطاب، قال: كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام، فقدّموا الخوان، فقال يزيد الرقاشي: يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان: فقال: كان يسبح مرّة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، ويونس، عن الحسن أنهما قالا في قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قالا كلّ شيء فيه الروح.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الكبير بن عبد المجيد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: الطعام يسبح.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر عن قتادة (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قال: كلّ شيء فيه الروح يسبح، من شجر أو شيء فيه الروح.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي، عن عبد الله بن عمرو، أن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها، فإذا قال الحمد لله، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قطّ حتى يقولها، فإذا قال الله أكبر، فهي تملأ ما بين السماء والأرض، فإذا قال سبحان الله، فهي صلاة الخلائق التي لم يَدْعُ الله أحد من خلقه إلا نوّره بالصلاة والتسبيح، فإذا قال لا حول ولا قوّة إلا بالله، قال: أسلم عبدي واستسلم.
وقوله (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) يقول تعالى ذكره: ولكن لا تفقهون تسبيح ما عدا تسبيح من كان يسبح بمثل ألسنتكم (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا) يقول: إن الله كان حليما لا يعجل على خلقه، الذين يخالفون أمره، ويكفرون به، ولولا ذلك لعاجل هؤلاء المشركين الذين يدعون معه الآلهة والأنداد بالعقوبة (غَفُورًا) يقول: ساترا عليهم ذنوبهم، إذا هم تابوا منها بالعفو منه لهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا) عن خلقه، فلا يعجل كعجلة بعضهم على بعض (غَفُورًا) لهم إذا تابوا.(17/456)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) }
يقول تعالى ذكره: وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالبعث، ولا يقرّون بالثواب والعقاب، جعلنا بينك وبينهم حجابا، يحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم، فينتفعوا به، عقوبة منا لهم على كفرهم. والحجاب ههنا: هو الساتر.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (حِجَابًا مَسْتُورًا) قال: هي الأكنة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) قال: قال أُبيّ: لا يفقهونه، وقرأ (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) لا يخلص ذلك إليهم.
وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول: معنى قوله (حِجابًا مَسْتُورًا) حِجابا ساترا، ولكنه أخرج وهو فاعل في لفظ المفعول، كما يقال: إنك مشئوم علينا وميمون، وإنما هو شائم ويامن، لأنه من شأمهم ويمنهم. قال: والحجاب ههنا: هو الساتر، وقال: مستورا. وكان غيره من أهل العربية يقول: معنى ذلك: حجابا مستورا عن العباد فلا يرونه.
وهذا القول الثاني أظهر بمعنى الكلام أن يكون المستور هو الحجاب، فيكون معناه: أن لله سترا عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم، وإن كان للقول الأوّل وجه مفهوم.(17/457)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) }
يقول تعالى ذكره: وجعلنا على قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة عند قراءتك عليهم القرآن أكنة، وهي جمع كِنان، وذلك ما يتغشَّاها من خِذلان الله إياهم عن فهم ما يُتلى عليهم (وفِي آذانهِمْ وَقْرًا) يقول: وجعلنا في آذانهم وقرا عن سماعه، وصمما، والوَقر بالفتح في الأذن: الثقل. والوِقر بالكسر: الحِمْل. وقوله (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) يقول: وإذا قلت: لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) يقول: انفضوا، فذهبوا عنك نفورا من قولك استكبارا له واستعظاما من أن يوحِّد الله تعالى.
وبما قلنا في ذلك، قال بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا) وإن المسلمين لما قالوا: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم، فصافها (1) إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نُصِر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين، التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ويسير الدهر في فِئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرّون بها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) قال: بغضا لما تكلم به لئلا يسمعوه، كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا
__________
(1) يقال: صافه، بتشديد الفاء، فهو مضاف: إذا رتب صفوفه في مقابله صفوف العدو، وتصافوا عليه: اجتمعوا صفا.(17/458)
ما يأمرهم به من الاستغفار والتوبة، ويَستغشُون ثيابهم، قال: يلتفون بثيابهم، ويجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا ولا يُنظر إليهم.
وقال آخرون: إنما عُنِي بقوله (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) الشياطين، وإنها تهرب من قراءة القرآن، وذكر الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: ثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، في قوله (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) هم الشياطين.
والقول الذي قلنا في ذلك أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن الله تعالى أتبع ذلك قوله (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) فأن يكون ذلك خبرا عنهم أولى إذا كان بخبرهم متصلا من أن يكون خبرا عمن لم يجز له ذكر. وأما النفور، فإنها جمع نافر، كما القعود جمع قاعد، والجلوس جمع جالس؛ وجائز أن يكون مصدرا أخرج من غير لفظه، إذ كان قوله (وَلَّوْا) بمعنى: نفروا، فيكون معنى الكلام: نفروا نفورا، كما قال امرؤ القيس:
وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةٌ أَيَّ إِذْلالِ (1)
إذا كان رُضْت بمعنى: أذللت، فأخرج الإذلال من معناه، لا من لفظه.
__________
(1) هذا عجز بيت لامرئ القيس بن حجر الكندي، صدره * وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا *
وهو من قصيدة عدة أبياتها 54 بيتا، وهو الخامس والعشرون فيها، (انظر مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي ص 38) . وقد استشهد المؤلف على أن قول القرآن، " ولوا على أدبارهم نفورا " يجوز أن يكون لفظ (نفورا) جمع نافر، كجلوس جمع جالس، وقعود جمع قاعد، ويجوز أن يكون مصدر نفر، وهو مفعول مطلق للفعل " ولوا " لأنه يئول بمعنى نفورا كما يئول قول امرئ القيس (أي إذلال) بمعنى أي ذل مع ما بينهما من فرق في المعنى. ولكن العرب تتسمح في وضع بعض المصادر موضع بعض على التأويل.(17/459)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
القول في تأويل قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا (47) }
يقول تعالى ذكره: نحن أعلم يا محمد بما يستمع به هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من مشركي قومك، إذ يستمعون إليك وأنت تقرأ كتاب الله (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) . وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: النجوى: فعلهم، فجعلهم هم النجوى، كما يقول: هم قوم رضا، وإنما رضا: فعلهم. وقوله (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا) يقول: حين يقول المشركون بالله ما تتبعون إلا رجلا مسحورا. وعنى فيما ذُكِر بالنجوى: الذين تشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار النَّدوة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) قال: هي مثل قيل الوليد بن المُغيرة ومن معه في دار الندوة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) .... الآية، ونجواهم أن زعموا أنه مجنون، وأنه ساحر، وقالوا (أساطيرُ الأوَّلِينَ) .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يذهب بقوله (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا) إلى معنى: ما تتبعون إلا رجلا له سَحْر: أي له رئة، والعرب تسمي الرئة سَحْرا، والمسحَّر من قولهم للرجل إذا جبن: قد انتفخ سَحْره، وكذلك يقال لكل ما أكَلَ أو شرب من آدميّ وغيره: مَسحور ومُسَحَّر، كما قال لبيد:(17/460)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
فإنْ تَسْأَلِينَا فِيم نَحْنُ فإنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ المُسَحَّر (1)
وقال آخرون:
ونُسحَر بالطعام وبالشراب (2)
أي نغذّى بهما، فكأن معناه عنده كان: إن تتبعون إلا رجلا له رئة، يأكل الطعام، ويشرب الشراب، لا مَلَكا لا حاجة به إلى الطعام والشراب، والذي قال من ذلك غير بعيد من الصواب.
القول في تأويل قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (48) }
__________
(1) البيت في (ديوان لبيد، رواية الطوسي، طبع فينا سنة 1880 ص 81) وفي شرحه: عصافير: صغار ضعاف. أي نحن أولاد قوم قد ذهبوا ومسحر معلل بالطعام والشراب. وقوله: " إنما أنت من المسحرين ": من هذا. واستشهد به المؤلف على هذا قال: والمسحر: من قولهم للرجل إذا جبن: قد انتفخ سحره. وكذلك يقال لكل ما أكل وشرب من آدمي وغيره: مسحور ومسحر كما قال لبيد: " فإن تسألينا ... " البيت. و (في اللسان: سحر) : وقول لبيد: " فإن تسألينا ... إلخ البيت، يكون على الوجهين، وقوله تعالى: " إنما أنت من المسحرين " يكون من التغذية والخديعة.
(2) هذا عجز بيت من قول امرئ القيس بن حجر الكندي: أرَانا مُوضِعِينَ لأَمْرِ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرَابِ
عَصَافِيرٌ وذِبَّانٌ ودُودٌ ... وأجْرأ مِنْ مُجَلِّحَةِ الّذئابِ
قال صاحب اللسان بعد أن أورد البيتين: (سحر) أي نغذى أو نخدع. قال ابن امرئ بري: وقوله: " موضعين " معناه: مسرعين. وقوله " لأمر غيب ": يريد الموت، وأنه قد غيب عنا وقته، ونحن نلهى عنه بالطعام والشراب. والسحر: الخديعة. وفي "مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 79 في شرح البيت الأول من البيتين: موضعين: مسرعين. لأمر غيب: يريد الموت أو المستقبل المجهول. ويروى: لحتم غيب. ونسحر: نلهى، أو نغذى. يقول: أرانا في هذه الدنيا مسرعين للموت الذي غيب عنا وقته، أو لمستقبل مجهول، لا ندري من أمره شيئا، ونحن نعلل عنه بالطعام وبالشراب. يريد: كيف يستلذ الطعام والشراب من هو جاد إلى شرب كأس المنية. وفي شرح البيت الثاني: العصافير: ضعاف الطير؛ والمجلح: الجريء، والأنثى مجلحة. يقول: نحن أشبه بالعصافير والذباب والدود في ضعفنا، ولكننا أجرأ على الشر، وارتكاب الآثام من الذئاب الضارية.(17/461)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
يقول تعالى ذكره: انظر يا محمد بعين قلبك فاعتبر كيف مثَّلوا لك الأمثال، وشبهوا لك الأشباه، بقولهم: هو مسحور، وهو شاعر، وهو مجنون (فضلوا) يقول: فجاروا عن قصد السبيل بقيلهم ما قالوا (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) يقول: فلا يهتدون لطريق الحقّ لضلالهم عنه وبُعدهم منه، وأن الله قد خذلهم عن إصابته، فهم لا يقدرون على المَخْرَج مما هم فيه من كفرهم بتوفُّقهم إلى الإيمان به.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) قال: مخرجا، الوليد بن المغيرة وأصحابه أيضا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) مخرجا، الوليد بن المغيرة وأصحابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من مشركي قريش، وقالوا بعنتهم: (أئِذَا كُنَّا عِظاما) لم نتحطم ولم نتكسَّر بعد مماتنا وبلانا (وَرُفاتا) يعني ترابا في قبورنا.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، يقول الله (رُفاتا) قال: ترابا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا) يقول: غُبارا، ولا واحد(17/462)
للرُّفات، وهو بمنزلة الدُّقاق والحُطَام، يقال منه: رُفت يُرْفت رَفْتا فهو مرفوت: إذا صُير كالحُطام والرُّضاض.
وقوله (أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) قالوا، إنكارا منهم للبعث بعد الموت: إنا لمبعوثون بعد مصيرنا في القبور عظاما غير منحطمة، ورفاتا منحطمة، وقد بَلِينا فصرنا فيها ترابا، خلقا مُنْشَأ كما كنا قبل الممات جديدا، نعاد كما بدئنا، فأجابهم جلّ جلاله يعرّفهم قُدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بِلاهم خلقا جديدا، على أيّ حال كانوا من الأحوال، عظاما أو رُفاتا، أو حجارة أو حديدا، أو غير ذلك مما يعظُم عندهم أن يحدث مثله خَلْقا أمثالَهم أحياء، قل يا محمد كونوا حجارة أو حديدا، أو خلقا مما يكبر في صدوركم.(17/463)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للمكذّبين بالبعث بعد الممات من قومك القائلين (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) كونوا إن عجبتم من إنشاء الله إياكم، وإعادته أجسامكم، خلقا جديدا بعد بِلاكم في التراب، ومصيركم رُفاتا، وأنكرتم ذلك من قُدرته حجارة أو حديدا، أو خلقا مما يكبر في صدوركم إن قدرتم على ذلك، فإني أحييكم وأبعثكم خلقا جديدا بعد مصيركم كذلك كما بدأتكم أوّل مرّة.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) فقال بعضهم: عُنِي به الموت، وأريد به: أو كونوا الموت، فإنكم إن كنتموه أمتُّكم ثم بعثتكم بعد ذلك يوم البعث.(17/463)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية، عن ابن عمر (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال: الموت، قال: لو كنتم موتى لأحييتكم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) يعني الموت، يقول: إن كنتم الموت أحييتكم.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو مالك الجنبي، قال: ثنا ابن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال: الموت.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا سليمان أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال: الموت.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال سعيد بن جبير، في قوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) كونوا الموت إن استطعتم، فإن الموت سيموت؛ قال: وليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: بلغني، عن سعيد بن جبير، قال: هو الموت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يُجعل بين الجنة والنار، فينادي مناد يُسمع أهلَ الجنة وأهل النار، فيقول: هذا الموت قد جئنا به ونحن مهلكوه، فايقنوا يا أهل الجنة وأهل النار أن الموت قد هلك".
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) يعني الموت، يقول: لو كنتم الموت لأمتكم.(17/464)
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن الله يجيء بالموت يوم القيامة، وقد صار أهل الجنة وأهل النار إلى منازلهم، كأنه كبش أملح، فيقف بين الجنة والنار، فينادي أهل الجنة وأهل النار هذا الموت، ونحن ذابحوه، فأيقنوا بالخلود.
وقال آخرون: عنى بذلك السماء والأرض والجبال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال: السماء والأرض والجبال.
وقال آخرون: بل أريد بذلك: كونوا ما شئتم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله كما كنتم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال: من خلق الله، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم يوم القيامة خلقا جديدا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره قال (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) ، وجائز أن يكون عنى به الموت، لأنه عظيم في صدور بني آدم؛ وجائز أن يكون أراد به السماء والأرض؛ وجائز أن يكون أراد به غير ذلك، ولا بيان في ذلك أبين مما بين جلّ ثناؤه، وهو كلّ ما كبر في صدور بني آدم من خلقه، لأنه لم يخصص منه شيئا دون شيء.
وأما قوله (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا) فإنه يقول: فسيقول لك يا محمد هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة (مَنْ يُعِيدُنا) خلقا جديدا، إن كنا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدورنا، فقل لهم: يعيدكم (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يقول:(17/465)
يعيدكم كما كنتم قبل أن تصيروا حجارة أو حديدا إنسا أحياء، الذي خلقكم إنسا من غير شيء أوّل مرّة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي خلقكم (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) يقول: فإنك إذا قلت لهم ذلك، فسيهزُّون إليك رءوسهم برفع وخفض، وكذلك النَّغْض في كلام العرب، إنما هو حركة بارتفاع ثم انخفاض، أو انخفاض ثم ارتفاع، ولذلك سمي الظليم نَغْضا، لأنه إذا عجل المشي ارتفع وانخفض، وحرّك رأسه، كما قال الشاعر.
أسكّ نغْضًا لا يَنِي مُسْتَهْدِجا (1)
ويقال: نَغَضَت سنه: إذا تحرّكت وارتفعت من أصلها؛ ومنه قول الراجز:
ونَغَضَتْ مِنْ هَرِمٍ أسْنانُها (2)
وقول الآخر:
لمَّا رأتْنِي أنْغَضَتْ ليَ الرأسا (3)
__________
(1) هذا بيت من مشطور الرجز للعجاج (ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ص 7) وهو السابع من أرجوزة مطولة. وفيه: " أصك " بالصاد، في موضع " أسك " بالسين. والأسك: صفة من السكك، وهو الصمم. وقيل: صغر الأذن ولزوقها بالرأس، وقلة إشرافها. وقيل: قصرها ولصوقها بالحششاء، يكون ذلك في الآدميين وغيرهم. قال: والنعام كلها سك وكذلك القطا. وأصل السكك الصمم. اهـ. اللسان. وفي (اللسان: صكك) : الأصك والمصك: القوي الجسيم الشديد الخلق من الناس والإبل والحمير. وفي (نغض) : نغض الشيء نغضا: تحرك واضطرب، وأنغض هو: حركة اهـ. ولا يني: أي لا يفتر. وفيه أيضا (هدج) أورد البيت كرواية الديوان. قال: وهدج الظليم يهدج هدجانا واستهدج، وهو مشى وسعى وعدو، كل ذلك إذا كان في ارتعاش. قال العجاج يصف الظليم: " أصك.. إلخ ". ويروى مستهدجا (بكسر الدال) أي عجلان. وقال ابن الأعرابي: أي مستعجلا، أي أفزع فر. والبيت شاهد على أن " النغض " في كلام العرب حركة بارتفاع ثم انخفاض أو بالعكس.
(2) البيت من مشطور الرجز، وهو من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن 1: 382) وعنه أخذه المؤلف. قال أبو عبيدة: " فسينغضون إليك رءوسهم ": مجازه: فسيرفعون ويحركون استهزاء منهم. ويقال: قد نغضت سن فلان: إذا تحركت وارتفعت من أصلها. قال: ونغضت من هرم أسنانها
(3) وهذا البيت أيضا شاهد بمعنى الذي قبله، وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1: 382) جاء بعد الأول على أن أنغض الرأس بمعنى حركه ورفعه استهزاء بمن هو أمامه.(17/466)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) أي يحرّكون رءوسهم تكذيبا واستهزاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) قال: يحرّكون رءوسهم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) يقول: سيحركونَها إليك استهزاء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) قال: يحرّكون رءوسهم يستهزءون ويقولون متى هو.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) يقول: يهزءون.
وقوله (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) يقول جلّ ثناؤه: ويقولون متى البعث، وفي أيّ حال ووقت يعيدنا خلقا جديدا، كما كنا أوّل مرّة، قال الله عزّ وجلّ لنبيه: قل لهم يا محمد إذ قالوا لك: متى هو، متى هذا البعث الذي تعدنا، عسى أن يكون قريبا؟ وإنما معناه: هو قريب، لأن عسى من الله واجب، ولذلك
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةُ كَهاتَيْن، وأشار بالسَّبابة والوُسطَى"، لأن الله تعالى كان قد أعلمه أنه قريب مجيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) }(17/467)
يقول تعالى ذكره: قل عسى أن يكون بعثكم أيها المشركون قريبا، ذلك يوم يدعوكم ربكم بالخروج من قبوركم إلى موقف القيامة، فتستجيبون بحمده.
اختلف أهل التأويل في معنى قوله (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه) فقال بعضهم: فتستجيبون بأمره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) يقول: بأمره.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) قال: بأمره.
وقال آخرون: معنى ذلك: فتستجيبون بمعرفته وطاعته.(17/468)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) : أي بمعرفته وطاعته.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: معناه: فتستجيبون لله من قبوركم بقدرته، ودعائه إياكم، ولله الحمد في كلّ حال، كما يقول القائل: فعلت ذلك الفعل بحمد الله، يعني: لله الحمد على كلّ ما فعلته، وكما قال الشاعر:
فإنّي بِحَمْد الله لا ثَوْبَ فاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ (1)
بمعنى: فإني والحمد لله لا ثوب فاجر لبست.
وقوله (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا) يقول: وتحسبون عند موافاتكم القيامة من هول ما تعاينون فيها ما لبثتم في الأرض إلا قليلا كما قال جلّ ثناؤه (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا) : أي في الدنيا، تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلَّت، حين عاينوا يوم القيامة.
وقوله (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم:
وقل يا محمد لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة.
كما حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا النضر، قال: أخبرنا المبارك، عن الحسن في هذه الآية (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: التي هي أحسن، لا يقول له مثل قوله يقول له: يرحمك الله يغفر الله لك.
وقوله (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ) يقول: إن الشيطان يسوء محاورة بعضهم بعضا ينزغ بينهم، يقول: يفسد بينهم، يهيج بينهم الشر (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) يقول: إن الشيطان كان لآدم وذرّيته عدوّا، قد أبان لهم عداوته بما أظهر لآدم من الحسد، وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (54) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش الذين قالوا (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) - (رَبُّكُمْ) أيها القوم (أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) فيتوب عليكم برحمته، حتى تنيبوا عما أنتم عليه من الكفر به وباليوم الآخر (إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) بأن يخذلكم عن الإيمان، فتموتوا على شرككم، فيعذّبكم يوم القيامة بكفركم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن عبد الملك بن جريج قوله (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) قال:
__________
(1) البيت شاهد على أن قوله "بحمد الله" في معنى "والحمد لله". واستشهد به القرطبي في (10: 276) ولم ينسبه إلى قائل معروف.(17/469)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
فتؤمنوا (أو إنْ يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ) فتموتوا على الشرك كما أنتم.
وقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا محمد على من أرسلناك إليه لتدعوه إلى طاعتنا ربا ولا رقيبا، إنما أرسلناك إليهم لتبلغهم رسالاتنا، وبأيدينا صرفهم وتدبيرهم، فإن شئنا رحمناهم، وإن شئنا عذّبناهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (55) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وربك يا محمد أعلم بمن في السماوات والأرض وما يصلحهم فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة، ومن هو أهل للعذاب، أهدى للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة، وأُضلّ من سبق له مني الشقاء والخذلان، يقول: فلا يكبرنّ ذلك عليك، فإن ذلك من فعلي بهم لتفضيلي بعض النبيين على بعض، بإرسال بعضهم إلى بعض الخلق، وبعضهم إلى الجميع، ورفعي بعضهم على بعض درجات.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) اتخذ الله إبراهيم خليلا وكلَّم موسى تكليما، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، وهو عبد الله ورسوله، من كلمة الله وروحه، وآتى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورا، كنا نحدّث دعاء عُلِّمه داود، تحميد وتمجيد، ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) قال: كلم الله موسى، وأرسل محمدا إلى الناس كافَّة.(17/470)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا (56) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه، ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه عند ضرّ ينزل بكم، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم، أو تحويله عنكم إلى غيركم، فتدعوهم آلهة، فإنهم لا يقدرون على ذلك، ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. وقيل: إن الذين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول، كانوا يعبدون الملائكة وعزيرا والمسيح، وبعضهم كانوا يعبدون نفرا من الجنّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا) قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة وعُزَيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعُزيرا..
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) }
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابا (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) يقول:
يبتغي المدعوّون أربابا إلى ربهم القُربة والزُّلفة، لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أيهم بصالح عمله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة (وَيَرْجُونَ) بأفعالهم تلك (رَحْمَتَه) ُ ويَخافُونَ أمره (عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ) يا محمد (كانَ مَحْذورًا) متقي.(17/471)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في المدعوّين، فقال بعضهم: هم نفر من الجنّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، في قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: كان ناس من الإنس يعبدون قوما من الجنّ، فأسلم الجنّ وبقي الإنس على كفرهم، فأنزل الله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) يعني الجنّ.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي، قال: ثنا شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن أبي معمر، قال: قال عبد الله في هذه الآية (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) قال: قَبيل من الجنّ كانوا يعبدون فأسلموا.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثني أبي، قال: ثني الحسين، عن قتادة، عن معبد بن عبد الله الزِّمَّاني، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود، في قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: نزلت في نفر من العرب كانو يعبدون نفرا من الجنّ، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فأنزلت (الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عمه عبد الله بن مسعود، قال: نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجنّ، فأسلم الجنيون والنفر من العرب لا يشعرون بذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قوم عبدوا الجنّ، فأسلم أولئك الجنّ، فقال الله تعالى ذكره (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) .
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ(17/472)
إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجنّ، فأسلم النفر من الجنّ، واستمسك الإنس بعبادتهم، فقال (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الأعمش، عن إبراهيم عن أبي معمر، قال: قال عبد الله: كان ناس يعبدون نفرا من الجنّ، فأسلم أولئك الجنيون، وثبتت الإنس على عبادتهم، فقال الله تبارك وتعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) .
حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) قال كان أناس من أهل الجاهلية يعبدون نفرا من الجنّ؛ فلما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أسلموا جميعا، فكانوا يبتغون أيهم أقرب.
وقال آخرون: بل هم الملائكة.
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي، قال: ثنا يحيى بن السكن، قال: أخبرنا أبو العوّام، قال: أخبرنا قتادة، عن عبد الله بن معبد الزِّمَّاني، عن عبد الله بن مسعود، قال: كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجنّ، ويقولون: هم بنات الله، فأنزل الله عزّ وجلّ (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) معشر العرب (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: الذين يدعون الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) حتى بلغ (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) قال: وهؤلاء الذين عبدوا الملائكة من المشركين.
وقال آخرون: بل عزير وعيسى، وأمه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا يحيى بن السكن، قال: أخبرنا شعبة، عن إسماعيل السديّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: عيسى وأمه وعُزير.(17/473)
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي، قال: ثنا شعبة، عن إسماعيل السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: عيسى ابن مريم وأمه وعُزير في هذه الآية (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: عيسى ابن مريم وعُزير والملائكة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان ابن عباس يقول في قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: هو عُزير والمسيح والشمس والقمر.
وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية قول عبد الله بن مسعود الذي رويناه. عن أبي معمر عنه، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن الذين يدعوهم المشركون آلهة أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ومعلوم أن عُزيرا لم يكن موجودا على عهد نبينا عليه الصلاة والسلام، فيبتغي إلى ربه الوسيلة وأن عيسى قد كان رُفع، وإنما يبتغي إلى ربه الوسيلة من كان موجودا حيا يعمل بطاعة الله، ويتقرّب إليه بالصالح من الأعمال. فأما من كان لا سبيل له إلى العمل، فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة. فإذ كان لا معنى لهذا القول، فلا قول في ذلك إلا قول من قال ما اخترنا فيه من التأويل، أو قول من قال: هم الملائكة، وهما قولان يحتملهما ظاهر التنزيل، وأما الوسيلة، فقد بينا أنها القربة والزلفة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الوسيلة: القربة.(17/474)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: الوسيلة، قال: القربة والزلفى.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) }
يقول تعالى ذكره: وما من قرية من القرى إلا نحن مهلكو أهلها بالفناء، فمبيدوهم استئصالا قبل يوم القيامة، أو معذّبوها، إما ببلاء من قتل بالسيف، أو غير ذلك من صنوف العذاب عذابا شديدا.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فمبيدوها (أوْ مُعَذِّبُوهَا) بالقتل والبلاء، قال: كل قرية في الأرض سيصيبها بعض هذا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: سيصيبها هذا أو بعضه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا) قضاء من الله كما تسمعون ليس منه بدّ، إما أن يهلكها بموت وإما أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا تركوا أمره، وكذّبوا رسله.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا) قال: مبيدوها.
حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: إذا ظهر الزنا والربا في أهل قرية أذن الله في هلاكها.(17/475)
وقوله (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) يعني في الكتاب الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن، وذلك اللوح المحفوظ.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) قال: في أمّ الكتاب، وقرأ (لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ) ويعني بقوله (مَسْطُورًا) مكتوبا مبينا، ومنه قول العجاج:
واعْلَمْ بأنَّ ذَا الجَلالِ قَدْ قَدَرْ ... في الكُتُبِ الأولى التي كان سَطَرْ
أمْرَكَ هذَا فاحْتَفِظْ فِيهِ النَّهَرْ (1)
__________
(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور الرجز للعجاج بن رؤبة من أرجوزة مطولة عدة أبياتها 229 بيتا يمدح بها عمر بن عبيد الله ابن معمر، (انظر ديوان العجاج صبع ليبسج سنة 1903 ص 15-21) . وفيه "الصحف" في موضع: "الكتب". و (فاعلم) في موضع واعلم. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 383) وقال: مسطورا أي مبينا مكتوبا وفي روايته النتر بفتح النون والتاء. وقال: النتر: الخديعة. وفي (اللسان: نتر) : والنتر بالتحريك: الفساد والضياع، قال العجاج: "واعلم ... إلخ" الأبيات.(17/476)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}
يقول تعالى ذكره: وما منعنا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك، إلا أن كان من قبلهم من الأمم المكذّبة، سألوا ذلك مثل سؤالهم؛ فلما آتاهم مأ سألوا منه كذّبوا رسلهم، فلم يصدّقوا مع مجيء الآيات، فعوجلوا فلم نرسل إلى قومك بالآيات، لأنَّا لو أرسلنا بها إليها، فكذّبوا بها، سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلها.
وبالذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا ثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال، فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتني منهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم،(17/476)
قال: بل تستأني بهم، فأنزل الله (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) .
حدثني إسحاق بن وهب، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا مسعود بن عباد، عن مالك بن دينار، عن الحسن في قول الله تعالى (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ) قال: رحمة لكم أيتها الأمة، إنا لو أرسلنا بالآيات فكذّبتم بها، أصابكم ما أصاب من قبلكم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سخرت له الريح. ومنهم من كان يحيي الموتى، فإن سرّك أن نؤمن بك ونصدّقك، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبا. فأوحى الله إليه: إني قد سمعت الذي قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت أن تستأني قومك استأنيت بها، قال: يا ربّ أستأني.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ) قال: قال أهل مكة لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم: إن كان ما تقول حقا. ويسرّك أن نؤمن، فحوّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم يناظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال: بَلِ أسْتَأْنِي بقَوْمي. فأنزل الله (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا) وأنزل الله عزّ وجلّ (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، أنهم سألوا أن يحوّل الصفا ذهبا، قال الله (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ) قال ابن جريج: لم يأت قرية بآية فيكذّبوا بها إلا عذّبوا، فلو جعلت لهم الصفا ذهبا ثم لم يؤمنوا عذّبوا، و"أن" الأولى التي مع مَنَعَنا، في موضع نصب بوقوع منعنا عليها، وأن الثانية رفع، لأن معنى الكلام: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأوّلين من الأمم، فالفعل لأن الثانية.(17/477)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا (59) }
يقول تعالى ذكره: وقد سأل الآيات يا محمد مِن قَبْل قومك ثمود، فآتيناها ما سألت، وحملنا تلك الآية ناقة مبصرة، جعل الإبصار للناقة. كما تقول للشجة: موضحة، وهذه حجه مبينة. وإنما عنى بالمبصرة: المضيئة البينة التي من يراها كانوا أهل بصر بها، أنها لله حجة، كما قيل: (والنَهارَ مُبْصِرًا) .
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) : أي بيِّنة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عزّ ذكره (النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) قال: آية.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقوله (فَظَلَمُوا بِها) يقول عزّ وجلّ: فكان بها ظلمهم، وذلك أنهم قتلوها وعقروها، فكان ظلمهم بعقرها وقتلها، وقد قيل: معنى ذلك: فكفروا بها، ولا وجه لذلك إلا أن يقول قائله أراد: فكفروا بالله بقتلها، فيكون ذلك وجها.
وأما قوله (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا) فإنه يقول: وما نرسل بالعبر والذكر إلا تخويفا للعباد.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا) وإن الله يخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكَّرون، أو يرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يأيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا نوح بن قيس، عن أبي رجاء، عن الحسن (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا) قال: الموت الذريع.(17/478)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) }
وهذا حضّ من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، على تبليغ رسالته، وإعلام منه أنه قد تقدّم منه إليه القول بأنه سيمنعه، من كلّ من بغاه سوءا وهلاكا، يقول جلّ ثناؤه: واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس قدرة، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته، ونحن مانعوك منهم، فلا تتهيَّب منهم أحدا، وامض لما أمرناك به من تبليغ رسالتنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن يقول: أحاط بالناس، عصمك من الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو بكر الهذلي، عن الحسن (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) قال: يقول: أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك، فعرف أنه لا يُقتل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أحاطَ بالنَّاسِ) قال: فهم في قبضته.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير قوله (أحاطَ بالنَّاسِ) قال: منعك من الناس. قال معمر، قال قتادة، مثله.(17/479)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) قال: منعك من الناس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) أي منعك من الناس حتى تبلِّغ رسالة ربك.
وقوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم:
هو رؤيا عين، وهي ما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أُسري به من مكة إلى بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به، وليست برؤيا منام.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، سُئِل عن قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: هي رؤيا عين رآها النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، بنحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن فرات القزاز، عن سعيد بن جبير (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: كان ذلك ليلة أُسري به إلى بيت المقدس، فرأى ما رأى فكذّبه المشركون حين أخبرهم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: أُسري به عشاء إلى بيت المقدس، فصلى فيه، وأراه الله ما أراه من الآيات، ثم أصبح بمكة، فأخبرهم أنه أُسري به إلى بيت المقدس، فقالوا له: يا محمد ما شأنك، أمسيت فيه، ثم أصبحت فينا تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس، فعجبوا من ذلك حتى ارتدّ بعضهم عن الإسلام.(17/480)
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: قال كفار أهل مكة: أليس من كذب ابن أبي كبشة أنه يزعم أنه سار مسيرة شهرين في ليلة.
حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: مسيره إلى بيت المقدس.
حدثني أبو السائب ويعقوب، قالا ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبد الله، عن أبي الضحى، عن مسروق في قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: حين أُسري به.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: ليلة أُسري به.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: الرؤيا التي أريناك في بيت المقدس حين أُسري به، فكانت تلك فتنة الكافر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) يقول: الله أراه من الآيات والعبر في مسيره إلى بيت المقدس. ذُكر لنا أن ناسا ارتدّوا بعد إسلامهم حين حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيره، أنكروا ذلك وكذّبوا له، وعجبوا منه، وقالوا: تحدّثنا أنك سرت مسيرة شهرين في ليلة واحدة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: هو ما أُري في بيت المقدس ليلة أُسري به.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ) قال: أراه الله من الآيات في طريق بيت المقدس حين أُسري به، نزلت فريضة الصلاة ليلة أُسري به قبل أن يهاجر بسنة وتسع(17/481)
سنين (1) من العشر التي مكثها بمكة، ثم رجع من ليلته، فقالت قريش: تعشى فينا وأصبح فينا، ثم زعم أنه جاء الشام في ليلة ثم رجع، وايم الله إن الحدأة لتجيئها شهرين: شهرا مقبلة، وشهرا مُدبرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: هذا حين أُسري به إلى بيت المقدس، افتتن فيها ناس، فقالوا: يذهب إلى بيت المقدس ويرجع في ليلة: وقال: "لَمَّا أتانِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بالبُرَاقِ لِيَحْمِلَنِي عَلَيْها صَرَّتْ بأذُنَيْها، وَانْقَبَض بَعْضُها إلى بَعْضٍ، فَنَظَرَ إِلَيْها جَبْرَائِيلُ، فقالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بالحَقّ مِنْ عِنْدِهِ ما رَكبَكَ أحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ خَيْرٌ مِنْهُ، قالَ: فَصرَّتْ بأُذُنَيْها وَارْفَضَّتْ عَرَقا حتى سالَ ما تَحْتَها، وكانَ مُنْتَهَى خَطْوُها عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفها" فلما أتاهم بذلك، قالوا: ما كان محمد لينتهي حتى يأتي بكذبة تخرج من أقطارها، فأتوا أبا بكر رضي الله عنه فقالوا: هذا صاحبك يقول كذا وكذا، فقال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: إن كان قد قال ذلك فقد صدق، فقالوا: تصدّقه إن قال ذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلة؟ فقال أبو بكر: إي، نزع الله عقولكم، أصدّقه بخبر السماء، والسماء أبعد من بيت المقدس، ولا أصدّقه بخبر بيت المقدس؟ قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا قد جئنا بيت المقدس فصفه لنا، فلما قالوا ذلك، رفعه الله تبارك وتعالى ومثله بين عينيه، فجعل يقول: هو كذا، وفيه كذا، فقال بعضهم: وأبيكم إن أخطأ منه حرفا، فقالوا: هذا رجل ساحر.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) يعني ليلة أُسري به إلى بيت المقدس، ثم رجع من ليلته، فكانت فتنة لهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال. ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن
__________
(1) لعله: ولتسع سنين: أي ولمضي تسع ... إلخ.(17/482)
مجاهد في قوله (الرُّؤْيَا التي أرَيْنَاكَ) قال: حين أُسري بمحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
وقال آخرون: هي رؤياه التي رأى أنه يدخل مكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أنه دخل مكة هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة، فعجَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل، فردّه المشركون، فقالت أناس: قد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان حدثنا أنه سيدخلها، فكانت رجعته فتنتهم.
وقال آخرون ممن قال: هي رؤيا منام: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قوما يعلون منبره.
* ذكر من قال ذلك: حدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة، قال: ثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، قال: ثني أبي، عن جدّي، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكا (1) حتى مات، قال: وأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) .... الآية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى به رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من الآيات والعبر في طريقه إلى بيت المقدس، وبيت المقدس ليلة أُسري به، وقد ذكرنا بعض ذلك في أوّل هذه السورة.
وإنما قُلنا ذلك أولى بالصواب، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن
__________
(1) معناه: لم يره الناس بعدها ضاحكا ضحكا تاما حتى مات.(17/483)
هذه الآية إنما نزلت في ذلك، وإياه عنى الله عّز وجلّ بها، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وما جعلنا رؤياك التي أريناك ليلة أسرينا بك من مكة إلى بيت المقدس، إلا فتنة للناس: يقول: إلا بلاء للناس الذين ارتدّوا عن الإسلام، لمَّا أُخبروا بالرؤيا التي رآها، عليه الصلاة والسلام وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تماديا في غيهم، وكفرا إلى كفرهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِلا فِتْنَةً للنَّاسِ) (1) .
وأما قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) فإن أهل التأويل اختلفوا فيها، فقال بعضهم: هي شجرة الزَّقُّوم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا أبو عبيدة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: شجرة الزَّقُّوم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: هي شجرة الزقوم، قال أبو جهل: أيخوّفني ابن أبي كبشة بشجرة الزَّقوم، ثم دعا بتمر وزُبد، فجعل يقول: زقمني، فأنزل الله تعالى (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) وأنزل (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا) .
حدثني أبو السائب ويعقوب، قالا ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن مسروق (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن مسروق، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) فإن قريشا كانوا يأكلون التمر والزبد،
__________
(1) اختصر المتن اكتفاء بما سبق قريبا.(17/484)
ويقولون: تزقموا هذا الزقوم. قال أبو رجاء: فحدثني عبد القدّوس، عن الحسن، قال: فوصفها الله لهم في الصافات.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، قال: قال أبو جهل وكفار أهل مكة: أليس من كذب ابن أبي كَبشة أنه يوعدكم بنار تحترق فيها الحجارة، ويزعم أنه ينبت فيها شجرة (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: هي شجرة الزَّقوم.
حدثني عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، قال في قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: هي شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن رجل يقال له بدر، عن عكرمة، قال: شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن فرات القزّار، قال: سُئل سعيد بن جبير عن الشجرة الملعونة، قال: شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم، عن عبد الملك العَزْرميّ، عن سعيد بن جبير (وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ) قال: شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، بمثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثني الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: الزقوم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن أبي المَحجل، عن أبي معشر، عن إبراهيم، أنه كان يحلف ما يستثني، أن الشجرة الملعونة: شجرة الزقوم.(17/485)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل، عن فُرات القزاز، قال: سألت سعيد بن جبير، عن الشجرة الملعونة في القرآن، قال: شجرة الزَّقوم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: هي الزقوم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا) وهي شجرة الزقوم، خوّف الله بها عباده، فافتتنوا بذلك، حتى قال قائلهم أبو جهل بن هشام: زعم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، وإنا والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد، فتزقموا، فأنزل الله تبارك وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجرة (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) ، إني خلقتها من النار، وعذّبت بها من شئت من عبادي.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: الزقوم؛ وذلك أن المشركين قالوا: يخبرنا هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر حتى لا تدع منه شيئا، وذلك فتنة.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قال: شجرة الزقوم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) الزقوم التي سألوا الله أن يملأ بيوتهم منها، وقال: هي الصَّرفَان بالزبد تتزقمه، والصرفان: صنف من التمر، قال: وقال أبو جهل: هي الصرفان بالزبد، وافتتنوا بها.
وقال آخرون: هي الكشوث (1) .
__________
(1) الكشوث، والكشوثا: نبت يتعلق بالأغصان، ولا عرق له في الأرض. وهي لفظة سوادية (انظر اللسان والتاج) .(17/486)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن مولى بني هاشم حدثه، أن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أرسله إلى ابن عباس، يسأله عن الشجرة الملعونة في القرآن؟ قال: هي هذه الشجرة التي تلوي على الشجرة، وتجعل في الماء، يعني الكشوثي.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا قول من قال: عنى بها شجرة الزقوم، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، ونصبت الشجرة الملعونة عطفا بها على الرؤيا. فتأويل الكلام إذن: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك، والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، فكانت فتنتهم في الرؤيا ما ذكرت من ارتداد من ارتدّ، وتمادِي أهل الشرك في شركهم، حين أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أراه الله في مسيره إلى بيت المقدس ليلة أُسري به، وكانت فتنهم في الشجرة الملعونة ما ذكرنا من قول أبي جهل والمشركين معه: يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة، والنار تأكل الشجر فكيف تنبت فيها؟
وقوله (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا) يقول: ونخوّف هؤلاء المشركين بما نتوعدهم من العقوبات والنكال، فما يزيدهم تخويفنا إلا طغيانا كبيرا، يقول: إلا تماديا وغيا كبيرا في كفرهم وذلك أنهم لما خُوّفوا بالنار التي طعامهم فيها الزقوم دعوا بالتمر والزبد، وقالوا: تزقموا من هذا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك؛ وقد تقدّم ذكر بعض من قال ذلك، ونذكر بعض من بقي.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال قال ابن جريج (وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ) قال: طلعها كأنه رءوس الشياطين، والشياطين ملعونون. قال (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) لما ذكرها زادهم افتتانا وطغيانا، قال الله تبارك وتعالى، (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا(17/487)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا (62) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد تمادي هؤلاء المشركين في غيهم وارتدادهم عتوّا على ربهم بتخويفه إياهم تحقيقهم قول عدوّهم وعدوّ والدهم، حين أمره ربه بالسجود له فعصاه وأبى السجود له، حسدا واستكبارا (لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) وكيف صدّقوا ظنه فيهم، وخالفوا أمر ربهم وطاعته، واتبعوا أمر عدوّهم وعدوّ والدهم.
ويعني بقوله (وَإِذْ قُلْنَا للْمَلائِكَةِ) :
واذكر إذ قلنا للملائكة (اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ) فإنه استكبر وقال (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) يقول: لمن خلقته من طين؛ فلما حذفت "من" تعلَّق به قوله (خَلَقْتَ) فنصب، يفتخر عليه الجاهل بأنه خُلِقَ من نار، وخلق آدم من طين.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعث ربّ العزّة تبارك وتعالى إبليس، فأخذ من أديم الأرض، من عذبها وملحها، فخلق منه آدم، فكل شيء خُلق من عذبها فهو صائر إلى السعادة وإن كان ابن كافرين، وكلّ شيء خَلقه من مِلحها فهو صائر إلى الشقاوة وإن كان ابن نبيين؛ ومن ثم قال إبليس (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) : أي هذه الطينة أنا جئت بها، ومن ثم سُمّي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض.
وقوله (أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) يقول تعالى ذكره: أرأيت هذا الذي كرّمته عليّ، فأمرتني بالسجود له، ويعني بذلك آدم (لَئِنْ أَخَّرْتَنِي) أقسم عدوّ الله، فقال لربه: لئن أخرت إهلاكي إلى يوم القيامة (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) يقول: لأستولين عليهم، ولأستأصلنهم، ولأستميلنهم يقال منه: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم أو غير ذلك؛ ومنه قول الشاعر:(17/488)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
نَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أجْحَفَتْ ... جَهْدًا إلى جَهْدٍ بنا فأضْعَفَتْ ... واحْتَنَكَتْ أمْوَالَنا وجَلَّفَتْ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تبارك وتعالى (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) قال: لأحتوينهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) يقول: لأستولينّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) قال: لأضلنهم، وهذه الألفاظ وإن اختلفت فإنها متقاربات المعنى، لأن الاستيلاء والاحتواء بمعنى واحد، وإذا استولى عليهم فقد أضلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) }
__________
(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور الرجز، من الأرجوزة السادسة في بقية ديوان الزفيان السعدي (عطاء بن أسيد الراجز) وهي ملحقة بديوان العجاج المطبوع في ليبزج سنة 1903 ص 65، مع اختلاف في رواية بعضها. والبيتان الأولان هما: نشكو إليك سنة قد جلفت ... أموالنا من أصلها وجرفت
أما البيت الثالث فليس في الأرجوزة. ومعنى أجحفت: أضرت بنا، وذهبت أموالنا، فلقينا من شهدتها جهدا إلى جهد. واحتنكت: قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (:384) يقال: احتنك فلان ما عند فلان أجمع من مال أو علم أو حديث أو غيره: أخذه كله واستقصاه. قال: نشكو إليك ... إلخ الأبيات. ومعنى جلفت: قشرت أو قشر الجلد مع شيء من اللحم. والأبيات شاهد على أن الاحتناك معناه الاستئصال.(17/489)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
يقول تعالى ذكره قال الله لإبليس إذ قال له (لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) اذهب فقد أخرتك، فمن تبعك منهم، يعني من ذرّية آدم عليه السلام فأطاعك، فإن جهنم جزاؤك وجزاؤهم، يقول: ثوابك على دعائك إياهم على معصيتي، وثوابهم على اتباعهم إياك وخلافهم أمري (جزاءً موْفُورًا) : يقول: ثوابا مكثورا مكملا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا) عذاب جهنم جزاؤهم، ونقمة من الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا) قال: وافرا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مَوْفُورا) ، قال: وافرا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (64) }
يعني تعالى ذكره بقوله (وَاسْتَفْزِزْ) واستخفف واستجهل، من قولهم: استفزّ فلانا كذا وكذا فهو يستفزّه (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) .
اختلف أهل التأويل في الصوت الذي عناه جلّ ثناؤه بقوله (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) فقال بعضهم: عنى به: صوت الغناء واللعب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال: باللهو والغناء.(17/490)
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر، عن مجاهد، في قوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال: اللعب واللهو.
وقال آخرون: عنى به (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) بدعائك إياه إلى طاعتك ومعصية الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال: صوته كلّ داع دعا إلى معصية الله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال: بدعائك.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله تبارك وتعالى قال لإبليس: واستفزز من ذرّية آدم من استطعت أن تستفزّه بصوتك، ولم يخصص من ذلك صوتا دون صوت، فكل صوت كان دعاء إليه وإلى عمله وطاعته، وخلافا للدعاء إلى طاعة الله، فهو داخل في معنى صوته الذي قال الله تبارك وتعالى اسمه له (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) .
وقوله (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) يقول: وأجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يجلب عليها بالدعاء إلى طاعتك، والصرف عن طاعتي، يقال منه: أجلب فلان على فلان إجلابا: إذا صاح عليه. والجَلَبة: الصوت، وربما قيل: ما هذا الجَلَب، كما يقال: الغَلَب، والشَّفَقَة والشَّفَق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سلم بن جنادة، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد، في قوله (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال: كلّ راكب وماش في معاصي الله تعالى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه.(17/491)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال الرجال: المشاة.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال: خيله: كل راكب في معصية الله؛ ورجله: كل راجل في معصية الله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال: ما كان من راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل في معصية الله فهو من رجال إبليس، والرجْل: جمع راجل، كما التجْر: جمع تاجر، والصَّحْب: جمع صاحب.
وأما قوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ) في الأموال والأولادفإن أهل التأويل اختلفوا في المشاركة التي عنيت بقوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ) فقال بعضهم: هو أمره إياهم بإنفاق أموالهم في غير طاعة الله واكتسابهموها من غير حلها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ) التي أصابوها من غير حلها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ) قال: ما أكل من مال بغير طاعة الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رَباح، قال: الشرك في أموال الربا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، في قوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ) قال: قد والله شاركهم في أموالهم، وأعطاهم الله أموالا فأنفقوها في طاعة الشيطان في غير حقّ الله تبارك اسمه، وهو قول قتادة.(17/492)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد، عن معمر، قال: قال الحسن (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ) مرهم أن يكسبوها من خبيث، وينفقوها في حرام.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ) قال: كل مال في معصيه الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأولادِ) قال: مشاركته إياهم في الأموال والأولاد، ما زَيَّن لهم فيها من معاصي الله حتى ركبوها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ) كلّ ما أنفقوا في غير حقه.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك كلّ ما كان من تحريم المشركين ما كانوا يحرّمون من الأنعام كالبحائر والسوائب ونحو ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: الأموال: ما كانوا يحرِّمون من أنعامهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى، عن عمران بن سليمان. عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: مشاركته في الأموال أن جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ) فإنه قد فعل ذلك، أما في الأموال، فأمرهم أن يجعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاما.
قال أبو جعفر: الصواب: حاميا.
وقال آخرون: بل عُنِي به ما كان المشركون يذبحونه لآلهتهم.
* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) يعني ما كانوا يذبحون لآلهتهم.(17/493)
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك كلّ مال عصى الله فيه بإنفاق في حرام أو اكتساب من حرام، أو ذبح للآلهة، أو تسييب، أو بحر للشيطان، وغير ذلك مما كان معصيا به أو فيه، وذلك أن الله قال (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ) فكلّ ما أطيع الشيطان فيه من مال وعصى الله فيه، فقد شارك فاعل ذلك فيه إبليس، فلا وجه لخصوص بعض ذلك دون بعض.
وقوله (والأوْلاد) اختلف أهل التأويل في صفة شركته بني آدم في أولادهم، فقال بعضهم: شركته إياهم فيهم بزناهم بأمهاتهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: أولاد الزنا.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: أولاد الزنا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: أولاد الزنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أولاد الزنا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: أولاد الزنا، يعني بذلك أهل الشرك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: الأولاد: أولاد الزنا.
وقال آخرون: عنى بذلك: وأْدُهم أولادَهم وقتلهموهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: ما قتلوا من أولادهم، وأتوا فيهم الحرام.(17/494)
وقال آخرون: بل عنى بذلك: صبغهم إياهم في الكفر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: قد والله شاركهم في أموالهم وأولادهم، فمجسوا وهوّدوا ونصروا وصبغوا غير صبغة الإسلام وجزءوا من أموالهم جزءا للشيطان.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: قد فعل ذلك، أما في الأولاد فانهم هوّدوهم ونصَّروهم ومجّسوهم.
وقال آخرون: بل عنى بذلك تسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عيسى بن يونس، عن عمران بن سليمان، عن أبي صالح عن ابن عباس (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) قال: مشاركته إياهم في الأولاد، سموا عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: كل ولد ولدته أنثى عصى الله بتسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو قتله ووأده، أو غير ذلك من الأمور التي يخصص بقوله (وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ) معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكلّ ما عصى الله فيه أو به، وأطيع به الشيطان أو فيه، فهو مشاركة من عصى الله فيه أو به إبليس فيه.
وقوله (وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا) يقول تعالى ذكره لإبليس: وعد أتباعك من ذرّية آدم، النصرة على من أرادهم بسوء، يقول الله (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا) لأنه لا يغني عنهم من عقاب الله إذا نزل بهم شيئا، فهم من عداته في باطل وخديعة، كما قال لهم عدو الله حين حصحص الحق (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ) .(17/495)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا (65) }
يقول تعالى ذكره لإبليس: إن عبادي الذين أطاعوني، فاتبعوا أمري وعصوك يا إبليس، ليس لك عليهم حجة.
وقوله (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا) يقول جلّ ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: وكفاك يا محمد ربك حفيظا، وقيما بأمرك، فانقد لأمره، وبلغ رسالاته هؤلاء المشركين، ولا تخف أحدا، فإنه قد توكل بحفظك ونصرتك.
كما حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا) وعباده المؤمنون، وقال الله في آية أخرى (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به: ربكم أيها القوم هو الذي يسير لكم السفن في البحر، فيحملكم فيها (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) لتوصلوا بالركوب فيها إلى أماكن تجاراتكم ومطالبكم ومعايشكم، وتلتمسون من رزقه (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) يقول: إن الله كان بكم رحيما حين أجرى لكم الفلك في البحر، تسهيلا منه بذلك عليكم التصرّف في طلب فضله في البلاد النائية التي لولا تسهيله ذلك لكم لصعب عليكم الوصول إليها.
وبنحو ما قلنا في قوله (يُزْجِى لَكُمْ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني(17/496)
معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) يقول: يجري الفلك.
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) قال: يسيرها في البحر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) قال: يجري.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) قال: يجريها.(17/497)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا (67) }
يقول تعالى ذكره: وإذا نالتكم الشدّة والجهد في البحر ضلّ من تدعون: يقول: فقدتّم من تدعون من دون الله من الأنداد والآلهة، وجار عن طريقكم فلم يغثكم، ولم تجدوا غير الله مغيثا يغيثكم دعوتموه، فلما دعوتموه وأغاثكم، وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه في البحر، أعرضتم عما دعاكم إليه ربكم من خلع الأنداد، والبراءة من الآلهة، وإفراده بالألوهة كفرا منكم بنعمته (وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا) يقول: وكان الإنسان ذا جحد لنعم ربه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا (68) }(17/497)
يقول تعالى ذكره (أَفَأَمِنْتُمْ) أيها الناس من ربكم، وقد كفرتم نعمته بتنجيته إياكم من هول ما كنتم فيه في البحر، وعظيم ما كنتم قد أشرفتم عليه من الهلاك، فلما نجاكم وصرتم إلى البرّ كفرتم، وأشركتم في عبادته غيره (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ) يعني ناحية البر (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) يقول: أو يمطركم حجارة من السماء تقتلكم، كما فعل بقوم لوط (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا) يقول: ثم لا تجدوا لكم ما يقوم بالمدافعة عنكم من عذابه وما يمنعكم منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) يقول: حجارة من السماء (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا) أي منعة ولا ناصرا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) قال: مطر الحجارة إذا خرجتم من البحر.
وكان بعض أهل العربية يوجه تأويل قوله (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) إلى: أو يرسل عليكم ريحا عاصفا تحصب، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر:
مُسْتَقْبِلِينَ شَمالَ الشَّامِ تَضْرِبُنَا ... بِحاصِبٍ كنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ (1)
وأصل الحاصب: الريح تحصب بالحصباء؛ الأرض فيها الرمل والحصى الصغار. يقال في الكلام: حصب فلان فلانا: إذا رماه بالحصباء، وإنما
__________
(1) البيت للفرزدق من قصيدة يمدح بها يزيد بن عبد الملك، ويهجو يزيد بن المهلب، (ديوانه طبعة الصاوي 262-267) . استشهد به المؤلف على أن الحاصب: الريح التي تحمل الحصباء وهي صغار الحصى، والبيت شاهد على أن الحاصب مطر الحجارة، وأن أصل الحاصب الريح تحصب بالحصباء، والحصباء الأرض فيها الرمل والحصى الصغار، كما أوضحه المؤلف.(17/498)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
وُصفت الريح بأنها تحصب لرميها الناس بذلك، كما قال الأخطل:
ولَقَدْ عَلمْتُ إذَا العِشارُ تَرَوَّحَتْ ... هدْجَ الرّئالِ تَكبُّهُنَّ شَمالا ... تَرْمي العضَاهُ بِحاصِبٍ مِنْ ثَلْجها ... حتى يَبِيتُ عَلى العِضَاهِ جِفالا (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) }
يقول تعالى ذكره: أم أمنتم أيها القوم من ربكم، وقد كفرتم به بعد إنعامه عليكم، النعمة التي قد علمتم أن يعيدكم في البحر تارة أخرى: يقول: مرّة أخرى، والهاء التي في قوله "فيه" من ذكر البحر.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى) : أي في البحر مرّة أخرى (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ) وهي التي تقصف ما مرّت به فتحطمه وتدقه، من قولهم: قصف فلان ظهر فلان: إذا كسره (فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ) يقول: فيغرقكم الله بهذه الريح القاصف بما كفرتم، يقول: بكفركم به (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) يقول: ثم لا تجدوا لكم علينا تابعا يتبعنا بما فعلنا بكم، ولا ثائرا يثأرنا بإهلاكنا إياكم، وقيل: تبيعا في موضع التابع، كما قيل: عليم في موضع عالم. والعرب تقول لكل طالب بدم أو دين
__________
(1) البيتان للأخطل (ديوانه طبع بيروت سنة 1891) من قصيدة يهجوا بها جريرا، ويفتخر على قيس. والعشار: جمع عشراء من الإبل، وهي التي قد أتى عليها عشرة أشهر وهي حامل. وتروحت: أي ذهبت في الرواح وهو المشي إلى حظائرها. والرئال: جمع رأل، وهو ولد النعامة. والهدج: عدو متقارب. وتكبهن: تسقطهن، يريد تكبهن الريح وهي هابة شمالا. والحاصب: ما تناثر من دقاق الثلج. والضمير في ترمي: راجع إلى ريح الشمال. والعضاه: كل شجر له شوك، أو كل شجرة واسعة الظل، كثيرة الأفنان، واحدته: عضة. والجفال: ما تراكم من الثلج وتراكب. وهذا الشاهد في معنى الذي قبله.(17/499)
أو غيره: تبيع. ومنه قول الشاعر:
عَدَوْا وَعَدَتْ غزلانهم فَكأنَّهَا ... ضَوَامنُ غُرمٍ لَزّهُنَّ تَبِيعُ (1)
وبنحو الذي قلنا في القاصف والتبيع، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ) يقول: عاصفا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: قاصفا التي تُغْرق.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) يقول نصيرا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال محمد: ثائرا، وقال الحرث: نصيرا ثائرا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) قال: ثائرا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) أي لا نخاف أن نتبع بشيء من ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) يقول: لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك، والتارة: جمعه تارات وتير، وأفعلت منه: أترت.
__________
(1) البيت: شاهد على أن معنى التبيع في الآية: كل طالب بدم أو دين أو غيره. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 385) أي من يتبعنا لكم تبيعة، ولا طالبا لنا بها. وفي (اللسان: تبع) : والتبيع التابع، وقول القرآن "ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا": قال الفراء: أي ثائرا ولا طالبا بالثأر، لإغراقنا إياكم. وقال الزجاج: معناه: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم، ولا من يتبعنا بأن يصرفه عنكم. وقيل: تبيعا: مطالبا. ومنه قوله تعالى: "فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" يقول: على صاحب الدم اتباع بالمعروف، أي المطالبة بالدية، وعلى المطالب أداء إليه بإحسان.(17/500)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (70) }
يقول تعالى ذكره (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) بتسليطنا إياهم على غيرهم من الخلق، وتسخيرنا سائر الخلق لهم (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ) على ظهور الدوابّ والمراكب (و) في (البَحْرِ) في الفلك التي سخرناها لهم (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) يقول: من طيبات المطاعم والمشارب، وهي حلالها ولذيذاتها (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) ذكر لنا أن ذلك تمكنهم من العمل بأيديهم، وأخذ الأطعمة والأشربة بها ورفعها بها إلى أفواههم، وذلك غير متيسر لغيرهم من الخلق.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) .... الآية، قال (وَفَضَّلْنَاهُمْ) في اليدين يأكل بهما، ويعمل بهما، وما سوى الإنس يأكل بغير ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم، في قوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) قال: قالت الملائكة: يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها، ويتنعَّمون، ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة، فقال: وعزّتي لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي، كمن قلت له كن فكان.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (71) }(17/501)
اختلفت أهل التأويل في معنى الإمام الذي ذكر الله جلّ ثناؤه أنه يدعو كلّ أناس به، فقال بعضهم: هو نبيّه، ومن كان يقتدى به في الدنيا ويأتمّ به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل، عن ليث، عن مجاهد (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال: نبيهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال: نبيهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (بِإِمَامِهِمْ) قال: نبيهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال: نبيهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قالا ثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه يدعوهم بكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال: الإمام: ما عمل وأملى، فكتب عليه، فمن بعث متقيا لله جَعَل كتابه بيمينه، فقرأه واستبشر، ولم يظلم فتيلا وهو مثل قوله (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) والإمام: ما أملى وعمل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال: بأعمالهم.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قال الحسن: بكتابهم الذي فيه أعمالهم.(17/502)
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) يقول: بكتابهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: بأعمالهم.
وقال آخرون: بل معناه: يوم ندعو كلّ أناس بكتابهم الذي أنزلت عليهم فيه أمري ونهيي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت يحيى بن زيد في قول الله عزّ وجلّ (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) قال: بكتابهم الذي أنزل عليهم فيه أمر الله ونهيه وفرائضه، والذي عليه يحاسبون، وقرأ (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) قال: الشرعة: الدين، والمنهاج: السنة، وقرأ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) قال: فنوح أوّلهم، وأنت آخرهم.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) بكتابهم.
وأولى هذه الأقوال عندنا بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به، ويأتمُّون به في الدنيا، لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فيما ائتمّ واقتدي به، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر أولى ما لم تثبت حجة بخلافه يجب التسليم لها.
وقوله (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) يقول: فمن أعطي كتاب عمله بيمينه (فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ) ذلك حتى يعرفوا جميع ما فيه (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا) يقول تعالى ذكره: ولا يظلمهم الله من جزاء أعمالهم فتيلا وهو المنفتل الذي في شقّ بطن النواة. وقد مضى البيان عن الفَتيل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا) قال: الذي في شقّ النواة.(17/503)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا (72) }
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بقوله هذه، فقال بعضهم: أشير بذلك إلى النعم التي عدّدها تعالى ذكره بقوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) فقال (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن محمد بن أبي موسى، قال: سئل عن هذه الآية (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا) فقال: قال (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) قال: من عمي عن شكر هذه النعم في الدنيا، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن قُدرة الله فيها وحججه، فهو في الآخرة أعمى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى) يقول: من عمي عن قُدرة الله في الدنيا (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فِي هَذِهِ أَعْمَى) قال: الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) يقول: من كان في هذه الدنيا أعمى عما عاين فيها من نعم الله وخلقه وعجائبه (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا) فيما يغيب عنه من أمر الآخرة وأعمى.(17/504)
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى) في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ) الغائبة التي لم يرها (أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وسئل عن قول الله تعالى (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا) فقرأ (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) وقرأ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) وقرأ حتى بلغ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) قال: كلّ له مطيعون، إلا ابن آدم. قال: فمن كانت في هذه الآيات التي يعرف أنها منا، ويشهد عليها وهو يرى قدرتنا ونعمتنا أعمى، فهو في الآخرة التي لم يرها أعمى وأضلّ سبيلا.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها، وتصريف ما فيها، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها ولم يعاينها، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلا يقول: وأضلّ طريقا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها.
وإنما قلنا: ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لأن الله تعالى ذكره لم يخصص في قوله (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ) الدنيا (أَعْمَى) عمى الكافر به عن بعض حججه عليه فيها دون بعض، فيوجه ذلك إلى عماه عن نعمه بما أنعم به عليه من تكريمه بني آدم، وحمله إياهم في البرّ والبحر، وما عدد في الآية التي ذكر فيها نعمه عليهم، بل عمّ بالخبر عن عماه في الدنيا، فهم كما عمّ تعالى ذكره.
واختلف القرّاء في قراءة قوله (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) فكسرت القَرأة جميعا أعني الحرف الأوّل قوله (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى) . وأما قوله (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) فإن عامة قرّاء الكوفيين أمالت أيضا قوله (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) وأما بعض قرّاء البصرة فإنه فتحه، وتأوّله بمعنى: فهو في الآخرة أشدّ عمى. واستشهد لصحة قراءته بقوله (وَأَضَلُّ سَبِيلا) .(17/505)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
وهذه القراءة هي أوْلى القراءتين في ذلك بالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك، وإنما كره من كره قراءته كذلك ظنا منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينين الذي لا يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى، إذ كان عمى البصر لا يتفاوت، فيكون أحدهما أزيد عمى من الآخر، إلا بإدخال أشدّ أو أبين، فليس الأمر في ذلك كذلك.
وإنما قلنا: ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت، فإنما عُنِي به عمى، قلوب الكفار، عن حجج الله التي قد عاينتها أبصارهم، فلذلك جاز ذلك وحسُن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) قال: أعمى عن حجته في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا (73) }
اختلف أهل التأويل في الفتنة التي كاد المشركون أن يفتنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عن الذي أوحى الله إليه إلى غيره، فقال بعضهم: ذلك الإلمام بالآلهة، لأن المشركين دعوه إلى ذلك، فهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر، عن سعيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريش، وقالوا: لا ندَعُه حتى يلم بآلهتنا، فحدّث نفسه، وقال: ما عَلَيَّ أنْ أُلِمَّ بِها بَعْدَ أنْ يَدَعُونِي أسْتَلِمُ الحَجَرَ، وَالله يَعْلَمُ أنّي لَهَا كارهٌ، فَأَبى الله، فَأَنزلَ الله (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ) الآية.(17/506)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسوّدونه ويقاربونه، وكان في قولهم أن قالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا وابن سيدنا، فما زالوا يكلِّمونه حتى كاد أن يقارفهم (1) ثم منعه الله وعصمه من ذلك، فقال (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ) قال: أطافوا به ليلة، فقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، فأرادوه على بعض ما يريدون فهم أن يقارفهم (2) في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله، فذلك قوله (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) الذي أرادوا فهم أن يقارفهم فيه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسن، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قالوا له: ائت آلهتنا فامْسَسْها، فذلك قوله (شَيْئًا قَلِيلا) .
وقال آخرون: إنما كان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أن ينظر قوما بإسلامهم إلى مدة سألوه الإنظار إليها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا) وذلك أن ثقيفا كانوا قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أجِّلنا سنة حتى يُهْدَى لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يُهْدى لآلهتنا أخذناه، ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم، وأن يؤجِّلهم، فقال الله (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) .
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيّه صلى الله عليه وسلم، أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه
__________
(1) يقارفهم: يقاربهم ويدانيهم (اللسان) .
(2) يقارفهم: يقاربهم ويدانيهم (اللسان) .(17/507)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
ليعمل بغيره، وذلك هو الافتراء على الله، وجائز أن يكون ذلك كان ما ذكر عنهم من ذكر أنهم دعوه أن يمسّ آلهتهم، ويلمّ بها، وجائز أن يكون كان ذلك ما ذُكر عن ابن عباس من أمر ثقيف، ومسألتهم إياه ما سألوه مما ذكرنا، وجائز أن يكون غير ذلك، ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أيّ ذلك كان، والاختلاف فيه موجود على ما ذكرنا، فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره، حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عُني بذلك منه.
وقوله (وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا) يقول تعالى ذكره: ولو فعلت ما دَعَوْك إليه من الفتنة عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك إذا لأنفسهم خليلا وكنت لهم وكانوا لك أولياء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) }
يقول تعالى ذكره: ولولا أن ثبَّتناك يا محمد بعصمتنا إياك عما دعاك إليه هؤلاء المشركون من الفتنة (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) يقول: لقد كدت تميل إليهم وتطمئنّ شيئا قليلا وذلك ما كان صلى الله عليه وسلم همّ به من أن يفعل بعض الذي كانوا سألوه فعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر حين نزلت هذه الآية، ما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قوله (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكلني إلى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) }
يقول تعالى ذكره: لو ركنت إلى هؤلاء المشركين يا محمد شيئا قليلا(17/508)
فيما سألوك إذن لأذقناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) يعني: ضعف عذاب الدنيا والآخرة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (ضِعْفَ الْحَيَاةِ) قال: عذابها (وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) قال: عذاب الآخرة.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) : أي عذاب الدنيا والآخرة.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) قال: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) يعني عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله (إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ) مختصر، كقولك: ضعف عذاب الحياة (وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) فهما عذابان، عذاب الممات به ضوعف عذاب الحياة. وقوله (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) يقول: ثم لا تجد لك يا محمد إن نحن أذقناك لركونك إلى هؤلاء المشركين لو ركنت إليهم، عذاب الحياة وعذاب الممات علينا نصيرا ينصرك علينا، ويمنعك من عذابك، وينقذك مما نالك منا من عقوبة.(17/509)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا (76) }
يقول عزّ وجلّ: وإن كاد هؤلاء القوم ليستفزونك من الأرض: يقول: ليستخفونك من الأرض التي أنت بها ليخرجوك منها (وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) يقول: ولو أخرجوك منها لم يلبثوا بعدك فيها إلا قليلا حتى أهلكهم بعذاب عاجل.
واختلف أهل التأويل في الذين كادوا أن يستفزّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوه من الأرض وفي الأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها، فقال بعضهم: الذين كادوا أن يستفزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليهود، والأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها المدينة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرميّ أنه بلغه أن بعض اليهود قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أرض الأنبياء أرض الشام، وإن هذه ليست بأرض الأنبياء، فأنزل الله (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) .
وقال آخرون: بل كان القوم الذين فعلوا ذلك قريشا، والأرض مكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) وقد همّ أهل مكة بإخراج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة، ولو فعلوا ذلك لما توطنوا، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره، ولقلما مع ذلك لبثوا بعد خروج نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر.
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ) قال: قد فعلوا بعد ذلك، فأهلكهم الله يوم بدر، ولم يلبثوا بعده إلا قليلا حتى أهلكهم الله يوم بدر. وكذلك كانت سنَّة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.(17/510)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) قال: لو أخرجت قريش محمدا لعذّبوا بذلك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول قتادة ومجاهد، وذلك أن قوله (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ) في سياق خبر الله عزّ وجلّ عن قريش وذكره إياهم، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر، فيوجه قوله (وَإِنْ كَادُوا) إلى أنه خبر عنهم، فهو بأن يكون خبرا عمن جرى له ذكر أولى من غيره. وأما القليل الذي استثناه الله جلّ ذكره في قوله (وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) فإنه فيما قيل، ما بين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أن قتل الله من قتل من مشركيهم ببدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر، فكان ذلك هو القليل الذي لبثوا بعد.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) كان القليل الذي لبثوا بعد خروج النبيّ من بين أظهرهم إلى بدر، فأخذهم بالعذاب يوم بدر.
وعُني بقوله خلافك بعدك، كما قال الشاعر:
عَقَبَ الرذاذ خِلافَها فكأنَّمَا ... بسَط الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرًا (1)
__________
(1) البيت للحارث بن خالد المخزومي (اللسان: خلف) . شاهد على أن خلافك بمعنى بعدك. وقد سبق استشهاد المؤلف به عند تفسير قوله تعالى "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله" (الجزاء 10: 200) . ورواية المؤلف هنا تختلف عنها عند الآية من سورة التوبة ففيها عقب الربيع خلافهم فكأنما
. وفي (اللسان: عقب) عقب الرذاذ خلافهم فكأنما
وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 387) : عفت الديار خلافها فكأنما(17/511)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
يعني بقوله: خلافها: بعدها. وقد حُكي عن بعضهم أنه كان يقرؤها: خلفك. ومعنى ذلك، ومعنى الخلاف في هذا الموضع واحد.
القول في تأويل قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا (77) }
يقول تعالى ذكره: لو أخرجوك لم يلبثوا خلافك إلا قليلا ولأهلكناهم بعذاب من عندنا، سنتنا فيمن قد أرسلنا قبلك من رسلنا، فإنا كذلك كنا نفعل بالأمم إذا أخرجت رسلها من بين أظهرهم، ونصبت السنة على الخروج من معنى قوله (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) لأن معنى ذلك: لعذّبناهم بعد قليل كسنتنا في أمم من أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلا عما جرت به.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا) : أي سنة الأمم والرسل كانت قبلك كذلك إذا كذبوا رسلهم وأخرجوهم، لم يناظروا أن الله أنزل عليهم عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم (أَقِمِ الصَّلاةَ) يا محمد (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) .
واختلف أهل التأويل في الوقت الذي عناه الله بدلوك الشمس، فقال بعضهم: هو وقت غروبها، والصلاة التي أمر بإقامتها حينئذ: صلاة المغرب.(17/512)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني واصل بن عبد الأعلى الأسدي، قال: ثنا ابن فضيل، عن أبي إسحاق، يعني الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه كان مع عبد الله بن مسعود، على سطح حين غربت الشمس، فقرأ (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) . حتى فرغ من الآية، ثم قال: والذي نفسي بيده إن هذا لَحِينَ دَلَكَتِ الشمس وأفطر الصائم ووقت الصلاة.
حدثنا ابن بشار قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، أن عُبيدة بن عبد الله كتب إليه أن عبد الله بن مسعود كان إذا غربت الشمس صلى المغرب. ويفطر عندها إن كان صائما، ويقسم عليها يمينا ما يقسمه على شيء من الصلوات بالله الذي لا إله إلا هو، إن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة، ويقرأ فيها تفسيرها من كتاب الله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) .
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: هذا دلوك الشمس، وهذا غسق الليل، وأشار إلى المشرق والمغرب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس: دلوك الشمس. غروبها، يقول: دلكت براح.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي إسحاق. عن الأسود، عن عبد الله، أنه قال: حين غربت الشمس دلكت، يعني براح مكانا.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: دلوكها: غروبها.(17/513)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قد ذكر لنا أن ابن مسعود كان يصليها إذا وجبت وعندها يفطر إذا كان صائما، ثم يقسم عليها قسما لا يقسمه على شيء من الصلوات بالله الذي لا إله إلا هو، إن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة، ثم يقرأ ويصليها وتصديقها من كتاب الله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) قال: كان أبي يقول: دلوكها: حين تريد الشمس تغرب إلى أن يغسق الليل، قال: هي المغرب حين يغسق الليل، وتَدلُك الشمس للغروب.
حدثني سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان بن عيينة، سمع عمرو بن دينار أبا عُبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول: كان عبد الله بن مسعود يصلي المغرب حين يغرب حاجب الشمس، ويحلف أنه الوقت الذي قال الله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله حين غربت الشمس: هذا والله الذي لا إله غيره وقت هذه الصلاة. وقال: دلوكها: غروبها.
وقال آخرون: دلوك الشمس: ميلها للزوال، والصلاة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند دلوكها: الظهر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، قال: دلوكها: ميلها، يعني الشمس.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبيّ، عن ابن عباس، قال، في قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: دلوكها: زوالها.(17/514)
حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن نافع، عن ابن عمر، في قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: دلوكها: ميلها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن سيار بن سلامة، عن أبي برزة الأسلميّ، قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: إذا زالت.
حدثنا ابن حميد مرة أخرى، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا الحسين بن واقد، قال: ثنا سيار بن سلامة الرياحي، قال: أتيت أبا برزة فسأله والدي عن مواقيت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا مبارك، عن الحسن، قال: قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) قال: الظهر دلوكها، إذا زالت عن بطن السماء، وكان لها في الأرض فيء.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، في قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: دلوكها: زوالها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثل ذلك.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن أبي جعفر في (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: لزوال الشمس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن ابن عباس، قال دلوك الشمس: زيغها بعد نصف النهار، يعني الظلّ.(17/515)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: دلوك الشمس، قال: حين تزيغ عن بطن السماء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: حين تزيغ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: دلوك الشمس: حين تزيغ.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) : صلاة الظهر، وذلك أن الدلوك في كلام العرب: الميل، يقال منه: دلك فلان إلى كذا: إذا مال إليه. ومنه الخبر الذي رُوي عن الحسن أن رجلا قال له: أيُدالك الرجل امرأته؟ يعني بذلك: أيميل بها إلى المماطلة بحقها. ومنه قول الراجز:
هَذَا مَقامُ قَدَميْ رَباحِ ... غُدْوَةَ حتى دَلَكَتْ بِرَاحِ (1)
__________
(1) الرجز من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ص 181) وروايته فيه: "ذبب" في موضع "غدوة" وهي كرواية (اللسان: برح) . قال الفراء: "أقم الصلاة لدلوك الشمس": جاء عن ابن عباس قال، هو زيغوغتها وزوالها للظهر. قال أبو زكريا: ورأيت العرب تذهب بالدلوك إلى غياب الشمس أنشدني بعضهم "هذا مقامي....البيت" يعني الساقي -ذبب-طرد الناس يراح: يقول حتى قال بالراحة على العين، فينظر هل غابت؟ قال: هكذا فسروه لنا. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1: 387) : ودلوك الشمس من عند زوالها إلى أن تغيب. وقال: "هذا مقام" ... البيت ألا ترى أنها تدفع بالراح يضع كفه على حاجبيه من شعاعها لينظر ما بقي من غيابها. والدلوك: دنوها من غيبوبتها. وقال أبو زيد الأنصاري في النوادر (ص 88) : ويقال: دلكت براح وبراح (بفتح الباء، وكسر الحاء أو ضمها) وهو اسم للشمس معروف. قال الراجز: هَذَا مَقَامُ قَدَمْى رَباحِ ... غُدْوَةَ حتى دَلَكَتْ بَرَاحِ
قال أبو حاتم: براح: أي براحة. وفي (اللسان: برح) : وبراح وبراح (بالباء مفتوحة وكسر الحاء وضمها) : اسم للشمس معرفة مثل قطام، سميت بذلك لانتشارها وبيانها.(17/516)
ويروى: براح بفتح الباء، فمن روى ذلك: بِراح، بكسر الباء، فإنه يعني: أنه يضع الناظر كفه على حاجبه من شعاعها، لينظر ما لقي من غيارها، وهذا تفسير أهل الغريب أبي عُبيدة والأصمعي وأبي عمرو الشيبانيّ وغيرهم. وقد ذكرت في الخبر الذي رويت عن عبد الله بن مسعود، أنه قال حين غربت الشمس: دلكت براح، يعني: براح مكانا، ولست أدري هذا التفسير، أعني قوله: براح مكانا مِنْ كلام من هو ممن في الإسناد، أو من كلام عبد الله، فإن يكن من كلام عبد الله، فلا شك أنه كان أعلم بذلك من أهل الغريب الذين ذكرت قولهم، وأن الصواب في ذلك قوله، دون قولهم، وإن لم يكن من كلام عبد الله، فإن أهل العربية كانوا أعلم بذلك منه، ولما قال أهل الغريب في ذلك شاهد من قول العجاج، وهو قوله:
والشَّمْسُ قد كادَتْ تَكُونُ دَنَفا ... أدْفَعُها بالرَّاح كَيْ تَزَحْلَفا (1)
فأخبر أنه يدفع شعاعها لينظر إلى مغيبها براحه. ومن روى ذلك بفتح الباء، فإنه جعله اسما للشمس وكسر الحاء لإخراجه إياه على تقدير قَطامِ وحَذامِ ورَقاشِ، فإذا كان معنى الدلوك في كلام العرب هو الميل، فلا شكّ أن الشمس إذا زالت عن كبد السماء، فقد مالت للغروب، وذلك وقت صلاة الظهر، وبذلك ورد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان في إسناد بعضه بعض النظر.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثني محمد بن جعفر، قال: ثني يحيى بن سعيد، قال: ثني أبو بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جُبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ".
__________
(1) البيتان من مشطور الرجز للعجاج (ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ص 82 من أرجوزة عدتها 81 بيتا) وهي في زوائد الديوان، لا في أصله. وهما من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1: 388) قال: في دلوك الشمس: ألا ترى أنها تدفع بالراح: يضع كفه على حاجبيه من شعاعها لينظر ما بقي من غيابها، والدلوك دنوها من غيبوبتها. قال العجاج: "والشمس ... إلخ". وفي (اللسان: تزحلف) ويقال للشمس إذا مالت للمغيب، إذا زالت عن كبد السماء نصف النهار: قد تزحلفت. قال العجاج: "والشمس ... إلخ".(17/517)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا الحسين بن واقد، قال: ثني سيار بن سلامة الرياحي، قال: قال أبو بَرزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن ابن أبي ليلى، عن رجل، عن جابر بن عبد الله، قال: دعوت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه، فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "اخْرُجْ يا أبا بَكْرٍ قَدْ دَلَكَتِ الشَّمْسُ".
حدثني محمد بن عثمان الرازي، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نُبَيح العَنزيّ، عن جابر بن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحو حديث ابن حميد.
فإذا كان صحيحا ما قلنا بالذي به استشهدنا، فبين إذن أن معنى قوله جلّ ثناؤه (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ(17/518)
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) أن صلاة الظهر والعصر بحدودهما مما أوجب الله عليك فيهما لأنهما الصلاتان اللتان فرضهما الله على نبيّه من وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل، وغسق الليل: هو إقباله ودنوه بظلامه، كما قال الشاعر:
آبَ هَذَا اللَّيْلُ إذْ غَسَقَا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في الصلاة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عنده، فقال بعضهم: الصلاة التي أمر بإقامتها عنده صلاة المغرب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) قال: غسق الليل: بدوّ الليل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سمعت عكرمة سئل عن هذه الآية (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) قال: بدوّ الليل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: غسق الليل: غروب الشمس.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد عن ثور، عن معمر، عن قتادة (غَسَقِ اللَّيْلِ) : صلاة المغرب. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) بدو الليل لصلاة المغرب. وقد ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " لا تَزَالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ مَا صَلَّوْا الْمَغْرِبَ قَبْلَ أنْ تَبْدُوَ النُّجُومُ ".
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد. قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) يعني ظلام الليل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان أبي يقول (غَسَقِ اللَّيْلِ) : ظلمة الليل.
وقال آخرون: هي صلاة العصر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن أبي جعفر (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) قال: صلاة العصر.
وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: الصلاة التي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند غسق الليل، هي صلاة المغرب دون غيرها، لأن غسق الليل هو ما وصفنا من إقبال الليل وظلامه، وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس. فأما صلاة العصر، فإنها مما تقام بين ابتداء دلوك الشمس إلى
__________
(1) هذا صدر بيت، لعبيد الله بن قيس الرقيات. وعجز * واشتكيت الهم والأرقا *
واستشهد به على أن معنى "غسق الليل": ظلامه. (مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 388) ورواية أبي عبيدة * إن هذا الليل قد غسقا *
وتؤيدها رواية اللسان أيضا. قال: غسق الليل يغسق (كيضرب) غسقا وغسقانا، وأغسق: عن ثعلب: انصت وأظلم، ومنه قول ابن الرقيات * إن هطا الليل قد غسقا *
.(17/519)
غسق الليل، لا عند غسق الليل، وأما قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) فإن معناه وأقم قرآن الفجر: أي ما تقرأ به صلاة الفجر من القرآن، والقرآن معطوف على الصلاة في قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) .
وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصب قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) على الإغراء، كأنه قال: وعليك قرآن الفجر (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) يقول: آن ما تقرأ به في صلاة الفجر من القرآن كان مشهودا، يشهده فيما ذكر ملائكة الليل وملائكة النهار.
وبالذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل: وجاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد القرشي، قال: ثني أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعود عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: "تَشْهَدُهُ مِلائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهارِ".
حدثنا محمد بن سهل، قال: ثنا آدم، قال: ثنا ليث بن سعد، وحدثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا الليث بن سعد، عن زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله يَفْتَحُ الذّكْرَ فِي ثَلاثِ ساعات يَبْقِينَ مِنَ اللَّيْلِ: في السَّاعَةِ الأولى مِنْهُنَّ يَنْظُرُ فِي الكِتابِ الَّذِي لا يَنْظُرُ فِيهِ أحدٌ غيرُه فَيَمْحُوا ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ، ثُمَّ يَنزلُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ إلى جَنَّةِ عَدْنٍ، وَهيَ دَارُهُ الَّتي لَمْ تَرَها عَيْنٌ، وَلا تَخْطُرُ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ، وَهيَ مَسْكَنُهُ، وَلا يَسْكُنُ مَعَهُ منْ بَنِي آدَمَ غيرُ ثَلاثَةٍ: النَّبِيِّينَ والصّدَيقِينَ والشُّهَدَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ، ثُمَّ يَنزلُ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِرُوحِهِ وَمَلائكَتِهِ فتنتفض، فَيَقُولُ: قُومي بعَوْنِي، ثُمَّ يَطَّلعُ إلى عِبادِهِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي أغْفِرْ لَهُ، مَنْ يَسْأَلْنِي أُعْطِهِ، مَنْ يَدْعونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ، فذلك حين يقول (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال(17/520)
موسى في حديثه: شهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار. وقال ابن عسكر في حديثه: فيشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، قال: قال أبو عُبيدة بن عبد الله: كان عبد الله يحدث أن صلاة الفجر عندها يجتمع الحرسان من ملائكة الله، ويقرأ هذه الآية (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) وقرآن الفجر: صلاة الصبح، كنا نحدّث أن عندها يجتمع الحَرَسان من ملائكة الله حَرَس الليل وحَرَس النهار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الفجر.
وأما قوله (كَانَ مَشْهُودًا) فإنه يقول: ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون تلك الصلاة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبي عُبيدة، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: تنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ضرار بن عبد الله بن أبي الهُذيل، عن أبي عبيدة، في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: يشهده حرس الليل وحرس النهار من الملائكة في صلاة الفجر.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: كانوا يقولون تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر فتشهد فيها جميعا، ثم يصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) يعني صلاة الصبح.(17/521)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) قال: صلاة الصبح.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الصبح (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: تجتمع في صلاة الفجر ملائكة الليل وملائكة النهار.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) يعني صلاة الغداة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) قال: صلاة الفجر (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: مشهودا من الملائكة فيما يذكرون. قال: وكان عليّ بن أبي طالب، وأُبيّ بن كعب يقولان: الصلاة الوسطى التي حضّ الله عليها: صلاة الصبح. قال: وذلك أن صلاة الظهر وصلاة العصر: صلاتا النهار، والمغرب والعشاء: صلاتا الليل، وهي بينها، وهي صلاة نوم، ما نعمل صلاة يُغفل عنها مثلها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي الورد بن ثمامة، عن أبي محمد الحضرمي، قال: ثنا كعب في هذا المسجد، قال: والذي نفس كعب بيده، إن هذه الآية (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) إنها لصلاة الفجر إنها لمشهودة.
حدثني الحسن بن عليّ بن عباس، قال: ثنا بشر بن شعيب، قال: أخبرني أبي، عن الزهري، قال: ثني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلُ وَمَلائِكَةُ النَّهارِ فِي صَلاةِ الفَجْرِ"، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) .(17/522)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قال: صلاة الفجر تجتمع فيها ملائكة الليل وملائكة النهار.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ومن الليل فاسهر بعد نومة يا محمد بالقرآن، نافلة لك خالصة دون أمتك. والتهجد: التيقظ والسهر بعد نومة من الليل. وأما الهجود نفسه: فالنوم، كما قال الشاعر:
ألا طَرَقَتْنا والرّفاقُ هُجُودُ ... فَباتَتْ بِعُلاتِ النَّوَالِ تَجُودُ (1)
وقال الحطيئة
ألا طَرَقَتْ هِنْدُ الهُنُودِ وَصُحْبَتِي ... بِحَوْرَانَ حَورَانِ الجُنُودِ هُجُودُ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن مجاهد بن يزيد، عن أبي هلال، عن الأعرج أنه قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن رجل من الأنصار، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال: لأنظرنّ كيف يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فنام رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) البيت لم أقف على قائله. وهجود: يجوز أن يكون مصدر هجد يهجد هجودا إذا نام، ويكون المراد منه: والرفاق ذوو هجود أو والرفاق هاجدون، فيكون بمعنى المشتق. ويجوز أن يكون هجود جمعا لهاجد بلا تأويل، كعقود جمع قاعد، وجلوس جمع جالس وحضور جمع حاضر. والعلات: جمع علة اسم للمرة من العل، وهو السقي الثاني بعد الأول. والنوال: ما يعطيه الحبيب حبيبه من ثمرة الحب.
(2) البيت للحطيئة (ديوانه طبعة الحميدية ص 103) . وقال شارحه: كل كورة من كور الشام: جند. وهجود: جمع هاجد، وهو النائم، ومثله قعود: جمع قاعد. ومحل الشاهد أن الهجود في الآية معناه: النوم، كما في بيت الحطيئة. مصدر هجد يهجد هجودا إذا نام. ويكون المصدر في معنى المشتق، أو يكون على معنى: والرفاق "ذوو هجود" ثم حذف المضاف، وأقيم المصدر مقامه.(17/523)
وسلم، ثم استيقظ، فرفع رأسه إلى السماء، فتلا أربع آيات من آخر سورة آل عمران (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) حتى مرّ بالأربع، ثم أهوى إلى القربة، فأخذ سواكا فاستنّ به، ثم توضأ، ثم صلى، ثم نام، ثم استيقظ فصنع كصنعه أوّل مرّة، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله.
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن، قالا ثنا سعيد، عن أبي إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن، عن علقمة والأسود أنهما قالا التهجد بعد نومة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: التهجد: بعد نومة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: ثني أبو إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة والأسود، بمثله.
حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: التهجد: بعد النوم.
حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن هشام، عن الحسن، قال: التهجد: ما كان بعد العشاء الآخرة.
حُدثت عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن كثير بن العباس، عن الحجاج بن عمرو، قال: إنما التهجد بعد رقدة.
وأما قوله (نَافِلَةً لَكَ) فإنه يقول: نفلا لك عن فرائضك التي فرضتها عليك.
واختُلف في المعنى الذي من أجله خصّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كون صلاة كلّ مصلّ بعد هجوده، إذا كان قبل هجوده قد كان أدّى فرائضه نافلة نفلا إذ كانت غير واجبة عليه، فقال بعضهم: معنى خصوصه بذلك: هو أنها كانت فريضة عليه، وهي لغيره تطوّع، وقيل له: أقمها نافلة لك: أي فضلا لك من الفرائض التي فرضتها عليك عما فرضت على غيرك.(17/524)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) يعني بالنافلة أنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، أُمر بقيام الليل وكُتب عليه.
وقال آخرون: بل قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن فعله ذلك يكفِّر عنه شيئا من الذنوب، لأن الله تعالى كان قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر، فكان له نافلة فضل، فأما غيره فهو له كفارة، وليس هو له نافلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب، فهي نوافل وزيادة، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها، فليست للناس نوافل.
وأولى القولين بالصواب في ذلك، القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام الليل، دون سائر أمته، فأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك، فقول لا معنى له، لأن رسول الله فيما ذُكِر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عزّ وجلّ عليه (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) وذلك أن هذه السورة أنزلت عليه بعد مُنْصَرَفه من الحديبية، وأنزل عليه (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) عام قبض. وقيل له فيها (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) فكان يُعدُّ له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد استغفار مائة مرّة ومعلوم أن الله لم يأمره أن يستغفر إلا لما يغفر له باستغفاره ذلك، فبين إذن وجه فساد ما قاله مجاهد.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، عن شمر عن عطية، عن شهر، عن أبي أمامة، قال: إنما كانت النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.(17/525)
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (نَافِلَةً لَكَ) قال: تطوّعا وفضيلة لك.
وقوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) وعسى من الله واجبة، وإنما وجه قول أهل العلم: عسى من الله واجبة، لعلم المؤمنين أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه ليس من صفته الغرور، ولا شكّ أنه قد أطمع من قال ذلك له في نفعه، إذا هو تعاهده ولزمه، فإن لزم المقول له ذلك وتعاهده ثم لم ينفعه، ولا سبب يحول بينه وبين نفعه إياه مع الأطماع الذي تقدم منه لصاحبه على تعاهده إياه ولزومه، فإنه لصاحبه غارّ بما كان من إخلافه إياه فيما كان أطمعه فيه بقوله الذي قال له. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون جلّ ثناؤه من صفته الغرور لعباده صحّ ووجب أن كلّ ما أطمعهم فيه من طمع على طاعته، أو على فعل من الأفعال، أو أمر أو نهى أمرهم به، أو نهاهم عنه، فإنه موف لهم به، وإنهم منه كالعدة التي لا يخلف الوفاء بها، قالوا: عسى ولعلّ من الله واجبة.
وتأويل الكلام: أقم الصلاة المفروضة يا محمد في هذه الأوقات التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتهجد فرضا فرضته عليك، لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاما تقوم فيه محمودا تحمده، وتغبط فيه.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدّة ذلك اليوم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، عن حُذيفة، قال: يجمع الناس في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خُلقوا، قياما لا تكلَّم نفس إلا بإذنه، ينادى: يا محمد، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والشرّ ليس إليك، والمهديّ من هَدَيت، عبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تبارك وتعاليت، سبحانك ربّ هذا البيت؛ فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى.(17/526)
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفر، عن حُذيفة، قال: يُجْمع الناس في صعيد واحد. فلا تكَلَّم نفس، فأوّل ما يدعو محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقوم محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: لبيك، ثم ذكر مثله.
حدثنا سليمان بن عمرو بن خالد الرقي، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبيه عن ابن عباس، قوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) قال: المقام المحمود: مقام الشفاعة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله في قصة ذكرها، قال: ثم يؤمر بالصراط فيضرب على جسر جهنم، فيمرّ الناس بقدر أعمالهم؛ يمرّ أولهم كالبرق، وكمرّ الريح، وكمرّ الطير، وكأسرع البهائم، ثم كذلك حتى يمرّ الرجل سعيا، ثم مشيا، حتى يجيء آخرهم يتلبَّط على بطنه، فيقول: ربّ لما أبطأت بي، فيقول: إني لم أبطأ بك، إنما أبطأ بك عملك، قال: ثم يأذن الله في الشفاعة، فيكون أوّل شافع يوم القيامة جبرائيل عليه السلام، روح القُدس، ثم إبراهيم خليل الرحمن، ثم موسى، أو عيسى قال أبو الزعراء: لا أدري أيهما قال، قال: ثم يقوم نبيّكم صلى الله عليه وسلم رابعا، فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه، وهو المقام المحمود الذي ذكر الله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) .
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، عن الحسن في قول الله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) قال: المقام المحمود: مقام الشفاعة يوم القيامة.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى (مَقَامًا مَحْمُودًا) قال: شفاعة محمد يوم القيامة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.(17/527)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: هو الشفاعة، يشفعه الله في أمته، فهو المقام المحمود.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) وقد ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيّا عبدا، أو ملكا نبيّا، فأومأ إليه جبرائيل عليه السلام: أن تَوَاضَعْ، فاختار نبيّ الله أن يكون عبدا نبيّا، فأُعْطِي به نبيّ الله ثنتين: إنه أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وأوّل شافع. وكان أهل العلم يَرَوْن أنه المقام المحمود الذي قال الله تبارك وتعالى (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) شفاعة يوم القيامة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مَقَامًا مَحْمُودًا) قال: هي الشفاعة، يشفِّعه الله في أمته.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر والثوريّ، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، قال: سمعت حُذيفة يقول في قوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) قال: يجمع الله الناس في صعيد واحد حيث يُسْمعهم الداعي، فَيَنْفُذُهم البصر حُفاة عُراة، كما خُلِقوا سكوتا لا تكلَّم نفس إلا بإذنه، قال: فينادَى محمد، فيقول: لَبَّيك وسَعْديك، والخيرُ في يديك، والشرّ ليس إليك، والمهديّ من هَدَيت، وعبدُك بين يديك، ولك وإليك، لا ملْجَأَ ولا منجَى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت، قال: فذلك المقامُ المحمودُ الذي ذكر الله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، قال حُذيفة: يجمع الله الناس في صعيد واحد، حيث يَنْفُذُهم البصر، ويُسْمعهم الداعي، حُفاة عُراة كما خُلقوا أوّل مرّة، ثم يقوم النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقول: "لبيك وسعديك"، ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: هو المقام المحمود.(17/528)
وقال آخرون: بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيّه أن يبعثه إياه، هو أن يقاعده معه على عرشه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) قال: يُجْلسه معه على عرشه.
وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صحّ به الخبر عن رسول الله.
وذلك ما حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن داود بن يزيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) سئل عنها، قال: "هِىَ الشَّفاعَةُ".
حدثنا عليّ بن حرب، قال: ثنا مَكّيّ بن إبراهيم، قال: ثنا داود بن يزيد الأوْدِيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) قال: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي".
حدثنا أبو عُتبة الحِمْصِيّ أحمد بن الفَرَج، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن الزُّبيديّ، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ فَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثني الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أنه قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الشَّمْسَ لتَدْنُو حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ، فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَقُولُ لَسْتُ صَاحِبَ ذَلِكَ ثُمَّ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَقُولُ كَذلكَ، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ فَيَشْفَعُ بين الخلق حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْجنة فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا".(17/529)
حدثني أبو زيد عمر بن شَبَّة، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا سعيد بن زيد، عن عليّ بن الحكم، قال: ثني عثمان، عن إبراهيم، عن الأسود وعلقمة، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأقُومُ المَقَامَ المَحْمُودَ" فقال رجل: يا رسول الله، وما ذلك المقام المحمود؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَاكَ إِذَا جِيءَ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام، فَيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ، فَيَلْبِسْهُمَا، ثُمَّ يَقْعُدُ مُسْتَقْبِلَ الْعَرْشِ، ثُمَّ أُوتَى بِكِسْوَتِي فَأَلْبَسُهَا، فَأَقُومُ عَنْ يَمِينِهِ مَقَامًا لا يَقُومُهُ غَيْرِي يَغْبِطُنِي فِيهِ الأوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، ثُمَّ يُفْتَحُ نَهَرٌ مِنْ الْكَوْثَرِ إِلَى الْحَوْضِ ".
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، عن عليّ بن الحسين، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ مَدَّ الله الأرضَ مَدَّ الأدِيمِ حتى لا يَكُونَ لِبَشَر مِنَ النَّاسِ إلا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فَأَكُونُ أوَّلَ مَنْ يُدْعَى وجَبْرَائِيل عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، والله ما رآهُ قَبْلَها، فَأَقُولُ: أيْ ربّ إنَّ هذَا أخْبَرَنِي أنَّك أرْسَلْتَهُ إليَّ، فَيَقُولُ الله عَزَّ وجَلَّ: صَدَقَ، ثُمَّ أَشْفَعُ، قال: فَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ".
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن عليّ بن الحسين، قال: قال النبيّ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ"، فذكر نحوه، وزاد فيه: "ثُمَّ أشْفَعُ فَأَقُولُ: يا ربّ عِبادُكَ عَبَدُوكَ في أطْرافِ الأرْضِ، وَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن آدم، عن عليّ، قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الناس يحشرون يوم القيامة، فيجئ مع كلّ نبيّ أمته، ثم يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمم هو وأمته، فيرقى هو وأمته على كَوم فوق الناس، فيقول: يا فلان اشفع، ويا فلان اشفع، ويا فلان اشفع، فما زال يردّها بعضهم على بعض (1) يرجع ذلك إليه، وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه.
__________
(1) لعله حتى يرجع.(17/530)
حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا حَيْوة وربيع، قالا ثنا محمد بن حرب، عن الزبيديّ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلّ، فَيَكْسُونِي رَبِي عَزَّ وَجَلَّ حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ".
وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فإن ما قاله مجاهد من أن الله يُقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك. فأما من جهة النظر، فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة: فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بائن من خلقه كان قبل خلقه الأشياء، ثم خلق الأشياء فلم يماسَّها، وهو كما لم يزل، غير أن الأشياء التي خلقها، إذ لم يكن هو لها مماسا، وجب أن يكون لها مباينا، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماسّ للأجسام أو مباين لها. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فاعل الأشياء، ولم يجز في قولهم: إنه يوصف بأنه مماسّ للأشياء، وجب بزعمهم أنه لها مباين، فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، أو على الأرض إذ كان من قولهم إن بينونته من عرشه، وبينونته من أرضه بمعنى واحد في أنه بائن منهما كليهما، غير مماسّ لواحد منهما.
وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء، لا شيء يماسه، ولا شيء يباينه، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه، فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، أو على أرضه، إذ كان سواء على قولهم عرشه وأرضه في أنه لا مماس ولا مباين لهذا، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه.
وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء ولا شيء يماسه،(17/531)
ولا شيء يباينه، ثم أحدث الأشياء وخلقها، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا، وصار له مماسا، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا، ولا شيء يحرمه ذلك، ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا، وأعطى هذا، ومنع هذا، قالوا: فكذلك كان قبل خلقه الأشياء يماسه ولا يباينه، وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه، فهو مماس ما شاء من خلقه، ومباين ما شاء منه، فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه، أو أقعده على منبر من نور، إذ كان من قولهم: إن جلوس الربّ على عرشه، ليس بجلوس يشغل جميع العرش، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه، كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان مباينا له من الأشياء غير موجبة له صفة الربوبية، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف بأنه له مباين، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها، هو مباين له. قالوا: فإذا كان معنى مباين ومباين لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودة والدخول في معنى الربوبية، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن، فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه.
فإن قال قائل: فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه، وإنما ننكر إقعاده (1) .
حدثني عباس بن عبد العظيم، قال: ثنا يحيى بن كثير، عن الجريريّ، عن سيف السَّدُوسيّ، عن عبد الله بن سلام، قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على كرسيّ الربّ بين يدي الربّ تبارك وتعالى، وإنما ينكر إقعاده إياه معه، قيل: أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه. فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه، أو إلى أنه يقعده، والله للعرش مباين، أو لا مماسّ ولا مباين، وبأيّ ذلك قال كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره وإن قال ذلك
__________
(1) لعل هذه الجملة قد سقطت بقيتها في هذا الموضع. وستجيء نظيرتها تامة في السطر الثالث بعدها.(17/532)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
غير جائز كان منه خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام، إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها، وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) }
يقول تعالى ذكره لنبيه: وقل يا محمد يا ربّ أدخلني مدخل صدق.
واختلف أهل التأويل في معنى مُدْخل الصدق الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يرغب إليه في أن يدخله إياه، وفي مخرج الصدق الذي أمره أن يرغب إليه في أن يخرجه إياه، فقال بعضهم: عَنَى بمُدْخل الصِّدق: مُدْخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، حين هاجر إليها، ومُخْرَج الصدق: مُخْرجه من مكة، حين خرج منها مهاجرا إلى المدينة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا ثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظَبْيان، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله تبارك وتعالى اسمه، (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن عوف عن الحسن، في قول الله (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) قال: كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، أو يطردوه، أو يُوثِقوه، وأراد الله قتال أهل مكة، فأمره أن يخرج إلى المدينة، فهو الذي قال الله (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة (مُدْخَلَ صِدْقٍ) قال: المدينة (مُخْرَجَ صِدْقٍ) قال: مكة.(17/533)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أخرجه الله من مكة إلى الهجرة بالمدينة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) قال: المدينة حين هاجر إليها، ومخرج صدق: مكة حين خرج منها مخرج صدق، قال ذلك حين خرج مهاجرا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقل ربّ أمتني إماتة صِدْق، وأخرجني بعد الممات من قبري يوم القيامة مُخْرج صدق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) .... الآية، قال: يعني بالإدخال: الموت، والإخراج: الحياة بعد الممات.
وقال آخرون: بل عَنَى بذلك: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مُدْخل صدق، وأخرجني منه مُخْرَج صدق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) قال: فيما أرسلتني به من أمرك (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) قال كذلك أيضا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخلني مدخل صدق: الجنة، وأخرجني مخرج صدق: من مكة إلى المدينة.(17/534)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال الحسن (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) الجنة و (مُخْرَجَ صِدْقٍ) من مكة إلى المدينة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخلني في الإسلام مُدْخل صدق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: ثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) قال: أدخلني في الإسلام مُدْخل صدق (وَأَخْرِجْنِي) منه (مُخْرَجَ صِدْقٍ) .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخلني مكة آمنا، وأخرجني منها آمنا.
* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك قال في قوله (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) يعني مكة، دخل فيها آمنا، وخرج منها آمنا.
وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: معنى ذلك: وأدخلني المدينة مُدْخل صدق، وأخرجني من مكة مُخْرج صدق.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن ذلك عقيب قوله (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا) . وقد دللنا فيما مضى، على أنه عَنَى بذلك أهل مكة؛ فإذ كان ذلك عقيب خبر الله عما كان المشركون أرادوا من استفزازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخرجوه عن مكة، كان بيَّنا، إذ كان الله قد أخرجه منها، أن قوله (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أمر منه له بالرغبة إليه في أن يخرجه من البلدة التي هم المشركون بإخراجه منها مُخْرج صدق، وأن يدخله البلدة التي نقله الله إليها مُدْخل صدق.
وقوله (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: واجعل لي ملكا ناصرا ينصرني على من ناوأني، وعِزّا أقيم به دينك، وأدفع به عنه من أراده بسوء.(17/535)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن عوف، عن الحسن، في قول الله عزّ وجلّ (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) يُوعِده لَيَنزعَنَّ مُلك فارس، وعزّ فارس، وليجعلنه له، وعزّ الرّوم، ومُلك الروم، وليجعلنه له.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) وإن نبيّ الله علم أن لا طاقةَ له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله عزّ وجلّ، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، وإن السلطان رحمة من الله جعلها بين أظهر عباده، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك حجة بينة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ (سُلْطَانًا نَصِيرًا) قال: حجة بينة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك أمر من الله تعالى نبيّه بالرغبة إليه في أن يؤتيه سلطانا نصيرا له على من بغاه وكاده، وحاول منعه من إقامته فرائض الله في نفسه وعباده.
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأن ذلك عقيب خبر الله عما كان المشركون هموا به من إخراجه من مكة، فأعلمه الله عزّ وجلّ أنهم لو فعلوا ذلك عوجلوا بالعذاب عن قريب، ثم أمره بالرغبة إليه في إخراجه من بين أظهرهم إخراج صدق يحاوله عليهم، ويدخله بلدة غيرها، بمدخل صدق يحاوله عليهم ولأهلها في دخولها إليها، وأن يجعل له سلطانا نصيرا على أهل البلدة التي أخرجه أهلها منها، وعلى كلّ من كان لهم شبيها، وإذا أوتي ذلك، فقد أوتي لا شكّ حجة بينة.(17/536)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
وأما قوله (نَصِيرًا) فإن ابن زيد كان يقول فيه، نحو قولنا الذي قلنا فيه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) قال: ينصرني، وقد قال الله لموسى (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا) هذا مقدّم ومؤخَّر، إنما هو سلطان بآياتنا فلا يصلون إليكما.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا (82) }
يقول تعالى ذكره: وقل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين كادوا أن يستفزوك من الأرض ليخرجوك منها (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) .
واختلف أهل التأويل في معنى الحقّ الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلم المشركين أنه قد جاء، والباطل الذي أمره أن يعلمهم أنه قد زَهَق، فقال بعضهم: الحقّ: هو القرآن في هذا الموضع، والباطل: هو الشيطان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ) قال: الحقّ: القرآن (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ) قال: القرآن (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) قال: هلك الباطل وهو الشيطان.
وقال آخرون: بل عُنِي بالحقّ جهاد المشركين وبالباطل الشرك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ) قال: دنا القتال (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) قال: الشرك وما هم فيه.(17/537)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاثُمائة وستون صنما، فجعل يطعنها ويقول (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أمر الله تبارك وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المشركين أن الحقّ قد جاء، وهو كلّ ما كان لله فيه رضا وطاعة، وأن الباطل قد زهق: يقول: وذهب كلّ ما كان لا رضا لله فيه ولا طاعة مما هو له معصية وللشيطان طاعة، وذلك أن الحقّ هو كلّ ما خالف طاعة إبليس، وأن الباطل: هو كلّ ما وافق طاعته، ولم يخصص الله عز ذكره بالخبر عن بعض طاعاته، ولا ذهاب بعض معاصيه، بل عمّ الخير عن مجيء جميع الحقّ، وذهاب جميع الباطل، وبذلك جاء القرآن والتنزيل، وعلى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك بالله، أعني على إقامة جميع الحقّ، وإبطال جميع الباطل.
وأما قوله عزّ وجلّ (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) فإن معناه: ذهب الباطل، من قولهم: زَهَقت نفسه: إذا خرجت وأزهقتها أنا؛ ومن قولهم: أزهق السهم: إذا جاوز الغرض فاستمرّ على جهته، يقال منه: زهق الباطل، يزهَق زُهوقا، وأزهقه الله: أي أذهبه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) يقول: ذاهبا.
وقوله عزّ وجلّ (وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره: وننزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة، ويبصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به، لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله، ويحلون حلاله، ويحرّمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة، ويُنجيهم من عذابه، فهو لهم رحمة ونعمة من الله، أنعم بها عليهم (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) يقول: ولا يزيد هذا الذي ننزل عليك من القرآن(17/538)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
الكافرين به إلا خسارا: يقول: إهلاكا، لأنهم كلما نزل فيه أمر من الله بشيء أو نهى عن شيء كفروا به، فلم يأتمروا لأمره، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه، فزادهم ذلك خسارا إلى ما كانوا فيه قبل ذلك من الخسار، ورجسا إلى رجسهم قبلُ.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ) به (إِلا خَسَارًا) أنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) }
يقول تبارك وتعالى: وإذا أنعمنا على الإنسان، فنجَّيناه من كرب ما هو فيه في البحر، وهو ما قد أشرف فيه عليه من الهلاك بعصوف الريح عليه إلى البرّ، وغير ذلك من نعمنا، أعرض عن ذكرنا، وقد كان بنا مستغيثا دون كلّ أحد سوانا في حال الشدّة التي كان فيها (وَنَأَى بِجَانِبِهِ) يقول: وبعد منا بجانبه، يعني بنفسه، (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) قبل ذلك.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن مجاهد، في قوله (وَنَأَى بِجَانِبِهِ) قال: تباعد منا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
والقراءة على تصيير الهمزة في نَأَى قبل الألف، وهي اللغة الفصيحة، وبها نقرأ. وكان بعض أهل المدينة يقرأ ذلك "ونَاء" فيصير الهمزة بعد الألف، وذلك وإن كان لغة جائزة قد جاءت عن العرب بتقديمهم في نظائر ذلك الهمز(17/539)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
في موضع هو فيه مؤخرّ، وتأخيرهموه في موضع، هو مقدّم، كما قال الشاعر:
أعلامٌ يُقَلِّلُ رَاءَ رُؤْيا ... فَهْوَ يَهْذِي بِما رأى فِي المَنامِ (1)
وكما قال آبار وهي أبآر، فقدموا الهمزة، فليس ذلك هو اللغة الجُودَى، بل الأخرى هي الفصيحة.
وقوله عزّ وجلّ (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) يقول: وإذا مسه الشرّ والشدّة كان قنوطا من الفرج والروْح.
وبنحو الذي قلنا في اليئوس، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) يقول: قَنُوطا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) يقول: إذا مسه الشرّ أَيِس وقَنِط.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا (84) }
يقول عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس: كلكم يعمل على شاكلته: على ناحيته وطريقته (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ) هو منكم (أَهْدَى سَبِيلا) يقول: ربكم أعلم بمن هو منكم أهدى طريقا إلى الحقّ من غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
__________
(1) هكذا جاء هذا البيت في الأصول، ولم نهتد إلى قائله بعد بحث، وهو من بحر الخفيف، وفيه تحريف في شطره الأول. ولعل الصواب في روايته هكذا: أم غلامٌ مُضلل راء رُؤْيا ... فَهْوَ يَهْذِي بِما رأى فِي المنَامِ
أما محل الشاهد في البيت فسليم، في قوله "راء" فإنه مقلوب رأى، قدمت اللام على العين، وهو في تقدير "فلع" والدليل على ذلك أن مصدر الفعلين واحد هو الرؤيا، ومثله في القلب: "ناء" ومصدرهما النأي.(17/540)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) يقول: على ناحيته.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (عَلَى شَاكِلَتِهِ) قال: على ناحيته.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) قال: على طبيعته على حِدَته.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) يقول: على ناحيته وعلى ما ينوي.
وقال آخرون: الشاكلة: الدِّين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) قال: على دينه، الشاكلة: الدين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (85) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي؟ قل لهم: الروح من أمر ربي، وما أوتيتم أنتم وجميع الناس من العلم إلا قليلا وذُكِر أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فنزلت هذه الآية بمسألتهم إياه عنها، كانوا قوما من اليهود.
ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو هشام، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، ومعه عَسِيب يتوكأ عليه، فمر بقوم من اليهود،(17/541)
فقال بعضهم: اسألوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، فقام متوكئا على عسيبه، فقمت خلفه، فظننت أنه يوحَى إليه، فقال (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فقال بعضهم لبعض: ألم نقل لكم لا تسألوه".
حدثنا يحيي بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال:" بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرَّة بالمدينة، إذ مررنا على يهود، فقال بعضهم: سَلُوه عن الروح، فقالوا: ما أربكم إلى أن تسمعوا ما تكرهون، فقاموا إليه، فسألوه، فقام فعرفت أنه يوحى إليه، فقمت مكاني، ثم قرأ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فقالوا: ألم ننهكم أن تسألوه".
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، قال:" سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فقالوا: أتزعم إنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة، وهي الحكمة، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) قال: فنزلت (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) قال: ما أوتيتم من علم، فنجاكم الله به من النار، فهو كثير طيب، وهو في علم الله قليل".
حدثني إسماعيل بن أبي المتوكل، قال: ثنا الأشجعيّ أبو عاصم الحِمْصيّ، قال: ثنا إسحاق بن عيسى أبو يعقوب، قال: ثنا القاسم بن معن، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إني لمع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، إذ أتاه يهوديّ، قال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عزّ وجلّ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) .(17/542)
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) لقيت اليهود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فتغَشَّوه وسألوه وقالوا: إن كان نبيّا علم، فسيعلم ذلك، فسألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فأنزل الله في كتابه ذلك كله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) يعني اليهود".
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قال: يهود تسأل عنه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قال: يهود تسأله.
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) .... الآية:" وذلك أن اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أخبرنا ما الروح، وكيف تعذّب الروح التي في الجسد، وإنما الروح من الله عزّ وجلّ، ولم يكن نزل عليه فيه شيء، فلم يُحِر إليهم شيئا، فأتاه جَبرائيل عليه السلام، فقال له (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فأخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، قالوا له: من جاءك بهذا؟ فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: "جاءنِي بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ الله، فقالوا: والله ما قاله لك إلا عدوّ لنا، فأنزل الله تبارك اسمه (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ) ... الآية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فمررنا بأناس من اليهود، فقالوا: يا أبا القاسم ما الرُّوح؟ فأُسْكِت. فرأيت أنه يوحَى إليه، قال: فتنحيت عنه إلى سُباطة، فنزلت عليه (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) .... الآية، فقالت اليهود: هكذا نجده عندنا".(17/543)
واختلف أهل التأويل في الروح الذي ذُكِر في هذا الموضع ما هي؟ فقال بعضهم: هي جبرئيل عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قال: هو جبرائيل، قال قتادة: وكان ابن عباس يكتمه.
وقال آخرون: هي مَلك من الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قال: الروح: مَلك.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية، عمن حدثه عن عليّ بن أبي طالب، أنه قال في قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوح) قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه منها سبعون ألف لسان، لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها، يخلق الله من كلّ تسبيحة مَلكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
وقد بيَّنا معنى الرّوح في غير هذا الموضع من كتابنا، بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فإنه يعني: أنه من الأمر الذي يعلمه الله عزّ وجلّ دونكم، فلا تعلمونه ويعلم ما هو.
وأما قوله (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ بقوله (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فقال بعضهم: عنى بذلك: الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجميع الناس غيرهم، ولكن لما ضمّ غير المخاطب إلى المخاطب، خرج الكلام على المخاطبة، لأن العرب كذلك تفعل إذا اجتمع في الكلام مخبر عنه غائب ومخاطب، أخرجوا الكلام خطابا للجميع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت بمكة (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة(17/544)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
أتاه أحبار يهود، فقالوا: يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) أفعنيتنا أم قومك؟ قال: كُلا قَدْ عَنَيْتُ، قالوا: فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كلّ شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هِيَ في عِلْمِ الله قَلِيلٌ، وَقَدْ آتاكُمْ ما إنْ عمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ، فَأَنزل الله (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) .... إلى قوله (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله عزّ وجلّ (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) قال: يا محمد والناس أجمعون.
وقال آخرون: بل عَنَى بذلك الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح خاصة دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) يعني: اليهود.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: خرج الكلام خطابا لمن خوطب به، والمراد به جميع الخلق، لأن علم كلّ أحد سوى الله، وإن كثر في علم الله قليل.
وإنما معنى الكلام: وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلا من كثير مما يعلم الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا (86) }
يقول تعالى ذكره: ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي آتيناك من العلم الذي أوحينا إليك من هذا القرآن لنذهبنّ به، فلا تعلمه، ثم لا تجد لنفسك بما نفعل بك من ذلك وكيلا يعني: قيِّما يقوم لك، فيمنعنا من فعل ذلك بك، ولا ناصرا ينصرك، فيحول بيننا وبين ما نريد بك، قال: وكان عبد الله بن مسعود يتأوّل معنى ذهاب الله عزّ وجلّ به رفعه من صدور قارئيه.
ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن بُنْدار، عن معقل، قال: قلت لعبد الله، وذكر أنه(17/545)
يُسرى على القرآن، كيف وقد أثبتناه في صدورنا ومصاحفنا؟ قال: يُسرى عليه ليلا فلا يبقى منه في مصحف ولا في صدر رجل، ثم قرأ عبد الله (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا ابن إسحاق بن يحيى، عن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود، قال: "تطرق الناسَ ريح حمراء من نحو الشام، فلا يبقى في مصحف رجل ولا قلبه آية. قال رجل: يا أبا عبد الرحمن، إني قد جمعت القرآن، قال: لا يبقى في صدرك منه شيء. ثم قرأ ابن مسعود (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) ."(17/546)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) }
يقول عزّ وجلّ (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ) يا محمد (بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) ولكنه لا يشاء ذلك، رحمة من ربك وتفضلا منه عليك (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) باصطفائه إياك لرسالته، وإنزاله عليك كتابه، وسائر نعمه عليك التي لا تحصى.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) }
يقول جلّ ثناؤه: قل يا محمد للذين قالوا لك: إنا نأتي بمثل هذا القرآن: لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله، لا يأتون أبدا بمثله، ولو كان(17/546)
بعضهم لبعض عونا وظهيرا. وذُكِر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب قوم من اليهود جادلوه في القرآن، وسألوه أن يأتيهم بآية غيره شاهدة له على نبوّته، لأن مثل هذا القرآن بهم قُدرة على أن يأتوا به.
ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن سيحان وعمر بن أضا (1) وبحري بن عمرو، وعزيز بن أبي عزيز، وسلام بن مِشْكم، فقالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئتنا به حقّ من عند الله عزّ وجلّ، فإنا لا نراه متناسقا كما تناسق التوراة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما وَالله إِنَّكُمْ لَتَعْرِفُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله تَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَكُمْ، وَلَو اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ على أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ ما جاءُوا بِهِ، فقال عند ذلك، وهم جميعا: فِنْحاص، وعبد الله بن صُورِيا، وكِنانة بن أبي الحُقيق، وأشيع، وكعب بن أسد، وسموءَل بن زيد، وجبل بن عمرو: يا محمد ما يعلِّمك هذا إنس ولا جان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أما وَالله إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله تَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدكمْ في التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ، فقالوا: يا محمد، إن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما شاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا تقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم وفيما قالوا (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ) .... إلى قوله (وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) قال: معينا، قال: يقول: لو برزت الجنّ وأعانهم الإنس، فتظاهروا لم يأتوا بمثل هذا القرآن. وقوله عزّ وجلّ (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) رفع، وهو جواب لقوله
__________
(1) قد بين ابن إسحاق في السيرة أسماء الأعداء من يهود، ولم أجد بينهم من اسمه عمر بن أصان الذي جاء في الأصل، ولعله نعمان ابن أضا، من بني قينقاع (انظر السيرة طبعة الحلبي 2: 161) .(17/547)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
"لئن"، لأن العرب إذا أجابت لئن بلا رفعوا ما بعدها، لأن "لئن" كاليمين وجواب اليمين بلا مرفوع، وربما جزم لأن التي يجاب بها زيدت عليه لام، كما قال الأعشى:
لَئِنْ مُنِيتَ بِنا عَنْ غِبِّ مَعْرَكَةٍ ... لا تُلْفنا عَنْ دِماءِ القَوْمِ نَنْتَفِلُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (89) }
يقول ذكره: ولقد بيَّنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل، احتجاجا بذلك كله عليهم، وتذكيرا لهم، وتنبيها على الحقّ ليتبعوه ويعملوا به (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا) يقول: فأبى أكثر الناس إلا جحودا للحقّ، وإنكارا لحجج الله وأدلته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا (90) }
يقول تعالى ذكره: وقال يا محمد، المشركون بالله من قومك لك: لن نصدّقك، حتى تفجر لنا من أرضنا هذه عينا تنبع لنا بالماء.
وقوله (يَنْبُوعًا) يفعول من قول القائل: نبع الماء: إذا ظهر وفار، ينْبُع ويَنْبَع، وهو ما نبع.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (حَتَّى
__________
(1) هذا البيت للأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص 63) من قصيدته التي مطلعها: "ودع هريرة" وعدتها 66 بيتا، وبيت الشاهد هو ال 63 قالها ليزيد بن مسهر، أبي ثابت الشيباني، يقول: إنا لا نمل القتال، ولو قدر لك أن تبتلى بنا في أعقاب معركة قد خضناها، لوجدت فينا قوة على قتال جدير، ولم ترنا نحيد عن الخوض في الدماء مرة أخرى. ومحل الشاهد فيه أن قول الله (لا يأتون بمثله) جواب للقسم المتقدم عليه في قوله تعالى (لئن اجتمعت) ولم يؤكد فعل الجواب بالنون، لأنه مسبوق بالنفي "لا".. ومثله في قول الأعشى؛: "لا تلفنا" الذي لم يؤكد بالنون مع أنه جواب القسم "لئن منيت"، وامتنع التوكيد لوجود النفي في الجواب.(17/548)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا) : أي حتى تفْجُر لنا من الأرض عيونا: أي ببلدنا هذا.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله (حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا) قال: عيونا.
حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد (يَنْبُوعًا) قال: عيونا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (تَفْجُرَ) فروي عن إبراهيم النخعيّ أنه قرأ (حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا) خفيفة وقوله (فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا) بالتشديد، وكذلك كانت قرّاء الكوفيين يقرءونها، فكأنهم ذهبوا بتخفيفهم الأولى إلى معنى: حتى تفجر لنا من الأرض ماء مرّة واحدة. وبتشديدهم الثانية إلى أنها تفجر في أماكن شتى، مرّة بعد أخرى، إذا كان ذلك تفجر أنهار لا نهر واحد (1) والتخفيف في الأولى والتشديد في الثانية على ما ذكرت من قراءة الكوفيين أعجب إليّ لما ذكرت من افتراق معنييهما، وإن لم تكن الأولى مدفوعة صحتها.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) }
يقول ذكره لنييه محمد صلى الله عليه وسلم: وقال لك يا محمد مشركو قومك: لن نصدّقك حتى تستنبط لنا عينا من أرضنا، تَدفَّق بالماء أو تفور، أو يكون لك بستان، وهو الجنة، من نخيل وعنب، فتفجِّر الأنهار خلالها
__________
(1) في الكلام سقط ظاهر. والحاصل أنهم اتفقوا على تشديد فتفجر واختلفوا في حتى تفجر، فبعضهم شدد، وبعضهم خفف، واختار المؤلف التشديد للعلة التي ذكرها.(17/549)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
تفجيرا بأرضنا هذه التي نحن بها خلالها، يعني: خلال النخيل والكروم، ويعني بقوله (خِلالَهَا تَفْجِيرًا) بينها في أصولها تفجيرا بسبب أبنيتها.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا (92) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (كِسَفا) فقرأته عامّة قرّاء الكوفة والبصرة بسكون السين، بمعنى: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، وذلك أن الكِسف في كلام العرب: جمع كِسْفة، وهو جمع الكثير من العدد للجنس، كما تجمع السِّدْرة بسِدْر، والتمر بتمر، فحُكي عن العرب سماعا: أعطني كِسفة من هذا الثوب: أي قطعة منه، يقال منه: جاءنا بثريد كسف: أي قطع خبز، وقد يحتمل إذا قرئ كذلك "كِسْفا" بسكون السين أن يكون مرادا به المصدر من كسف (1) . فأما الكِسَف بفتح السين، فإنه جمع ما بين الثلاث إلى العشر، يقال: كِسَفة واحدة، وثلاث كِسَف، وكذلك إلى العشر، وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض الكوفيين (كِسَفا) بفتح السين بمعنى: جمع الكِسْفة الواحدة من الثلاث إلى العشر، يعني بذلك قِطَعا: ما بين الثلاث إلى العشر.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بسكون السين، لأن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، لم يقصدوا في مسألتهم إياه ذلك أن يكون بحدّ معلوم من القطع، إنما سألوا أن يُسقط عليهم من السماء قِطَعا، وبذلك جاء التأويل أيضا عن أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (كِسْفا) قال: السماء جميعا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
__________
(1) مصدر الفعل كسف يكسف (كضرب يضرب) هو الكسف، بفتح الكاف وسكون السين (اللسان) .(17/550)
قال ابن جريج: قال عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قوله (كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا) قال: مرّة واحدة، والتي في الروم (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا) قال: قطعا، قال ابن جريج: كسفا لقول الله (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا) قال: أي قطعا.
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (كِسَفًا) يقول: قطعا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (كِسَفا) قال: قطعا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا) يعني قِطَعا.
القول في تأويل قوله تعالى: " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ".
يقول تعالى ذكره عن قيل المشركين لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم: أو تأتي بالله يا محمد والملائكة قبيلا.
واختلف أهل التأويل في معنى القبيل في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناه: حتى يأتي الله والملائكة كلَّ قبيلة منا قبيلة قبيلة، فيعاينونهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا) قال: على حدتنا، كلّ قبيلة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا) قال: قبائل على حدتها كلّ قبيلة.
وقال آخرون: معنى ذلك: أو تأتي بالله والملائكة عيانا نقابلهم مقابلة، فنعاينهم معاينة.(17/551)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا) نعاينهم معاينة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا) فنعاينهم.
ووجَّهه بعض أهل العربية إلى أنه بمعنى الكفيل من قولهم: هو قَبِيلُ فلان بما لفلان عليه وزعيمه.
وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي قاله قتادة من أنه بمعنى المعاينة، من قولهم: قابلت فلانا مقابلة، وفلان قبيل فلان، بمعنى قبالته، كما قال الشاعر:
نُصَالِحُكُمْ حتى تَبُوءُوا بِمِثْلِها ... كصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْها قَبِيلُها (1)
يعني قابِلَتها. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: إذا وصفوا بتقدير فعيل من قولهم قابلت ونحوها، جعلوا لفظ صفة الاثنين والجميع
__________
(1) البيت للأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة بشرحالدكتور محمد حسين ص 177) وهو من قصيدة عدتها 18 بيتا. والشاهد هو ال 17فيها. وقبله: فإنّي ورَبِّ السَّاجدِيِنعَشِيَّةً ... وَمَا صَكَّ ناقُوسَ النَّصَارَى أبيلُها
والقصيدة قالها في الحرب التي كانت بينه وبين الحرقتين، يعاتب بني مرثد وبني جحدر، وفي رواية الشاهد: "أصالحكم" بالهمزة بدل النون. يقول: لن أصالحكم حتى تبوءوا بمثل جنايتكم وبغيكم، وتصرخوا صرخة الحبلى حين تعينها القابلة في المخاض. "وقبولها" في موضع: قبيلها. والأبيل الراهب. وتبوءا. ويسرتها: سهلت ولادتها وأعانتها فيها. والقبول: المرأة التي تستقبل الولد عند الولادة.
وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 390) عند قوله تعالى: (والملائكة قبيلا) مجازه مقابلة، أي: معاينة. وقال: نصالحكم حتى تبوءوا بمثلها ... كصرخة حبلى بشرتها قبيلها
أي قابلتها. فإذا وصفوا بتقدير "فعيل" من قولهم "قابلت" ونحوها، جعلوا لفظ صفة الاثنين والجميع، من المذكر والمؤنث، على لفظ واحد، نحو قولك: هي قبيلي، وهما قبيلي، وكذلك هن قبيلي. اهـ. وفي (لسان العرب: قبل) : والقبيل والقبول القابلة. المحكم: قبلت القابلة الولد قبالا: أخذته من الوالدة، وهي قابلة المرأة وقبولها وقبيلها، قال الأعشى: أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها ... كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها
ويروى: قبلوها. أي يئست منها.(17/552)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
من المؤنث والمذكر على لفظ واحد، نحو قولهم: هذه قبيلي، وهما قبيلي، وهم قبيلي، وهن قبيلي.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا (93) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن المشركين الذين ذكرنا أمرهم في هذه الآيات: أو يكون لك يا محمد بيت من ذهب، وهو الزخرف.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) يقول: بيت من ذهب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مِنْ زُخْرُفٍ) قال: من ذهب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) والزخرف هنا: الذهب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) قال: من ذهب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن رجل، عن الحكم قال: قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيناه في قراءة ابن مسعود: "أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ".
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال: لم أدر ما الزخرف، حتى سمعنا في قراءة عبد الله بن مسعود: "بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ".(17/553)
وقوله (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ) يعني: أو تصعد في درج إلى السماء، وإنما قيل في السماء، وإنما يرقى إليها لا فيها، لأن القوم قالوا: أو ترقى في سلم إلى السماء، فأدخلت "في" في الكلام ليدلّ على معنى الكلام، يقال: رَقِيت في السلم، فأنا أرقَى رَقيا ورِقيا ورُقيا، كما قال الشاعر:
أنتَ الَّذِي كَلَّفْتَنِي رَقْيَ الدَّرْج ... عَلى الكلالِ والمَشِيبِ والعَرْجِ (1)
وقوله (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) يقول: ولن نصدّقك من أجل رُقِيك إلى السماء (حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا) منشورا نَقْرَؤُهُ فيه أمرنا باتباعك والإيمان بك.
كما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قالا ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) قال: من ربّ العالمين إلى فلان، عند كلّ رجل صحيفة تصبح عند رأسه يقرؤها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال: كتابا نقرؤه من ربّ العالمين، وقال أيضا: تصبح عند رأسه موضوعة يقرؤها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) : أي كتابا خاصا نؤمر فيه باتباعك.
وقوله (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، القائلين لك هذه الأقوال، تنزيها لله عما يصفونه به، وتعظيما له من أن يؤتى به وملائكته، أو يكون لي سبيل إلى شيء مما تسألونيه (هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا) يقول: هل أنا إلا عبد من عبيده من بني آدم، فكيف أقدر أن أفعل ما سألتموني من هذه الأمور، وإنما يقدر عليها خالقي وخالقكم، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم، والذي سألتموني أن أفعله بيد الله الذي أنا وأنتم عبيد له، لا يقدر على ذلك غيره.
__________
(1) البيت في (اللسان: رقي) قال: ورقيت في السلم رقيا (بوزن سقف) ورقيا (بوزن فعول) إذا صعدت، وارتقيت مثله، أنشد ابن بري: "أنت الذي ... البيت، ولم ينسبه إلى قائله".(17/554)
وهذا الكلام الذي أخبر الله أنه كلَّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر كان من ملإ من قريش اجتمعوا لمناظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاجَّته، فكلَّموه بما أخبر الله عنهم في هذه الآيات
* ذكر تسمية الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك منهم والسبب الذي من أجله ناظروه به (1) حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأميَّة بن خلف، والعاص بن وائل، ونُبَيها ومُنَبها ابني الحجاج السَّهميين اجتمعوا، أو من اجتمع منهم، بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعْذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظنّ أنه بدا لهم في أمره بَدَاء، وكان عليهم حريصا، يحبّ رشدهم ويعزّ عليه عَنَتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنُعْذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعِبْت الدين، وسفَّهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا،وإن كنت تريد به مُلكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك به رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجنّ: الرئي، فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطّب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بِي ما تَقُولُونَ، ما جِئتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ
__________
(1) انظر هذا الحديث في سيرة ابن هشام (طبعة الحلبي 1: 315) وفيه اختلاف يسير في بعض الألفاظ، وفي تفسير القرطبي (10: 328-330) .(17/555)
بِهِ أطلُبُ أمْوِالَكُمْ، ولا الشَّرَفَ فِيكُمْ وَلا المُلْكَ عَلَيْكُمْ وَلَكِنَّ الله بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولا وَأَنزلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أقل مالا ولا أشدّ عيشا منا، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيِّرْ عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا، وليفجِّر (1) لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قُصَيّ بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول، حقّ هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك، وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك بالحقّ رسولا كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بِهذَا بُعِثْتُ، إنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنَ الله بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، فقد بَلَّغْتُكُمْ ما أُرْسلْتُ بِهِ إليكم، فإنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حظُّكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ تَرُدُّوهُ عَليَّ أصْبِرْ لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا، فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدّقك بما تقول، ويراجعنا عنك، واسأله فليجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بِفاعِلٍ، ما أنا بالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هذَا، وَما بُعِثْتُ إلَيْكُمْ بِهذَا، وَلَكِنَّ الله بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فإنْ تَقْبَلُوا ما جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حظُّكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ تَرُدُّوهُ عَلىَّ أَصْبِرْ لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلكَ إلى اللهِ إنْ شاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذلكَ، فقالوا: يا محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدّم إليك، ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه (2) إنما يعلِّمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا، أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا، وقال قائلهم: نحن نعيد الملائكة، وهنّ بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أميَّة بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهو ابن عمته هو لعاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا، ليعرفوا منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل ما تخوّفهم به من العذاب، فوالله لا أومن لك أبدا، حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتي معك بنسخة منشورة (3) معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننتُ ألا أصدّقك، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسيفا لما فاته مما كان يطمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه، فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر قدر ما أطيق حَمْله، فإذا سجد في صلاته فضخت رأسه به.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، بنحوه، إلا أنه قال: وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث أبناء بني عبد الدار، وأبا البختريّ بن هشام.
__________
(1) في بعض نسخ السيرة، وفي تفسير القرطبي: "وليخرق".
(2) في السيرة والقرطبي: "إنه قد بلغنا أنك إنما.. إلخ".
(3) في تفسير القرطبي (10: 330) : "ثم تأتي معك بصك معه أربعة ... إلخ". وفي السيرة: "ثم تأتي معك أربعة.. إلخ".(17/556)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد، قال: قلت له في قوله تعالى (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا) قال: قلت له: نزلت في عبد الله بن أبي أمية، قال: قد زعموا ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا (94) }
يقول تعالى ذكره: وما منع يا محمد مشركي قومك الإيمان بالله، وبما جئتهم به من الحقّ (إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى) يقول: إذ جاءهم البيان من عند الله بحقيقة ما تدعوهم وصحة ما جئتهم به، إلا قولهم جهلا منهم (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا) فإن الأولى في موضع نصب بوقوع منع عليها، والثانية في موضع رفع، لأن الفعل لها.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا (95) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه: قل يا محمد لهؤلاء الذين أبوا الإيمان بك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي، استنكارا لأن يبعث الله رسولا من البشر: لو كان أيها الناس في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين، لَنزلْنَا عليهم من السماء ملكا رسولا لأن الملائكة إنما تراهم أمثالهم من الملائكة، ومن خصّه الله من بني آدم برؤيتها، فأما غيرهم فلا يقدرون على رؤيتها فكيف يبعث إليهم من الملائكة الرسل، وهم لا يقدرون على رؤيتهم وهم بهيئاتهم التي خلقهم الله بها، وإنما يرسل إلى البشر الرسول منهم، كما لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين، ثم أرسلنا إليهم رسولا أرسلناه منهم ملكا مثلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) }(17/558)
يقول تعالى ذكره لنبيّه: قل يا محمد للقائلين لك (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا) (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإنه نعم الكافي والحاكم (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا) يقول: إن الله بعباده ذو خبرة وعلم بأمورهم وأفعالهم، والمحقّ منهم والمُبطل، والمُهدىّ والضالّ (بَصِيرًا) بتدبيرهم وسياستهم وتصريفهم فيما شاء، وكيف شاء وأحبّ، لا يخفى عليه شيء من أمورهم، وهو مجازٍ جميعَهم بما قدّم عند ورودهم عليه.(17/559)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) }
يقول تعالى ذكره: ومن يهد الله يا محمد للإيمان به، ولتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك، فوفَّقه لذلك، فهو المهتد الرشيد المصيب الحقّ، لا من هداه غيره، فإن الهداية بيده. (وَمَنْ يُضْلِلِ) يقول: ومن يضلله الله عن الحقّ، فيخذله عن إصابته، ولم يوفقه للإيمان بالله وتصديق رسوله، فلن تجد لهم يا محمد أولياء ينصرونهم من دون الله، إذا أراد الله عقوبتهم والاستنقاذ منهم.
(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) يقول: ونجمعهم بموقف القيامة من بعد تفرقهم في القبور عند قيام الساعة (عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا) وهو جمع أبكم، ويعني بالبكم: الخُرْس.
كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (وَبُكْما) قال: الخرس (وَصُمًّا) وهو جمع أصم.
فإن قال قائل: وكيف وصف الله هؤلاء بأنهم يحشرون عميا وبكما وسما، وقد قال (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) فأخبر أنهم يرون، وقال (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا(17/559)
مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) فأخبر أنهم يسمعون وينطقون؟ قيل: جائز أن يكون ما وصفهم الله به من العَمى والبكم والصمم يكون صفتهم في حال حشرهم إلى موقف القيامة، ثم يجعل لهم أسماع وأبصار ومنطق في أحوال أُخَر غير حال الحشر، ويجوز أن يكون ذلك، كما روي عن ابن عباس في الخبر الذي حدثنيه عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) ثم قال (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا) وقال (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) وقال (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) أما قوله (عُمْيا) فلا يرون شيئا يسرّهم. وقوله (بُكْما) لا ينطقون بحجة، وقوله (صُمًّا) لا يسمعون شيئا يسرّهم، وقوله (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) يقول جلّ ثناؤه: ومصيرهم إلى جهنم، وفيها مساكنهم، وهم وَقُودها.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) يعني إنهم وقودها.
وقوله (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) يعني بقوله خبت: لانت وسكنت، كما قال عديّ بن زيد العبادي في وصف مزنة:
وَسْطُهُ كالْيَرَاعِ أوْ سُرُجِ المِجْدَلِ ... حِينًا يَخْبُو وحِينًا يُنِيرُ (1)
يعني بقوله: يخبو السرج: أنها تلين وتضعف أحيانا، وتقوى وتنير أخرى، ومنه قول القطامي:
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي (شعراء النصرانية ص 455) وهو مما كتب به إلى النعمان، وهو من غرر قصائده. واليراع: فراشة إذا طارت في الليل لم يشك من يعرفها أنها شرارة طائرة عن نار. قال الجاحظ: نار اليراعة قيل هي نار حباحب، وهي شبيهة بنار البرق. قال: واليراعة طائر صغير إن طار بالليل كان كأنه شهاب قذف، أو مصباح يطير. والمجدل، بكسر الميم: القصر المشرف، لوثاقة بنائه وجمعه مجادل. وخبت النار والحرب والحدة تخبو خبوا (على فعل) وخبوا (على فعول) : سكنت وطفئت، وخمد لهبها. وقوله تعالى: (كلما خبت زدناهم سعيرا) : قيل معناه: سكن لهبها، وقيل معناه: كلما تمنوا أن تخبو، وأرادوا أن تخبو. (انظر اللسان: يرع، وجدل، وخبا) .(17/560)
فَيَخْبو ساعَةً ويَهُبُّ ساعا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عن تأويله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (كُلَّمَا خَبَتْ) قال: سكنت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) يقول: كلما أحرقتهم تسعر بهم حطبا، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم شيئا صارت جمرا تتوهَّج، فذلك خُبُوُّها، فإذا بدّلوا خلقا جديدا عاودتهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن مجاهد حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (كُلَّمَا خَبَتْ) قال: خبوّها أنها تَسَعَّر بهم حطبا، فإذا أحرقتهم، فلم يبق منهم شيء صارت جمرا تتوهج، فإذا بُدِّلوا خلقا جديدا عاودتهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) يقول: كلما احترقت جلودهم بُدّلوا جلودا غيرها، ليذوقوا العذاب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) قال: كلما لان منها شيء.
__________
(1) هذا عجز بيت للقطامي. وصدره * وكنا كالحريق أصاب غابا *
(انظر ديوانه طبع ليدن سنة 1902 ص 39) قال: يخبو: يسكن. ويهب: يهيج. وساع: جمع ساعة. وفي (اللسان: سرع) الساعة: جزء من الليل والنهار. والجمع: ساعات وساع. قال القطام * وكنا كالحريق لذي كفاح *
... البيت. قال ابن بري: المشهور في صدر هذا البي * كنا كالحريق أصاب غابا *
وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (1: 391) "كلما خبت زدناهم سعيرا" أي تأججا. وخبت سكنت. وأنشد عجز البيت، ثم قال: ولم يذكرها هنا جلودهم، فيكون الخبو لها.(17/561)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
حُدثت عن مروان، عن جويبر، عن الضحاك (كُلَّمَا خَبَتْ) قال: سكنت. وقوله (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) يقول: زدنا هؤلاء الكفار سعيرا، وذلك إسعار النار عليهم والتهابها فيهم وتأججها بعد خبوّها، في أجسامهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) }
يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفنا من فعلنا يوم القيامة بهؤلاء المشركين، ما ذكرت أنا نفعل بهم من حشرهم على وجوههم عميا وبكما وصما، وإصلائنا إياهم النار على ما بيَّنا من حالتهم فيها ثوابهم بكفرهم في الدنيا بآياتنا، يعني بأدلته وحججه، وهم رسله الذين دعوهم إلى عبادته، وإفرادهم إياه بالألوهة دون الأوثان والأصنام، وبقولهم إذا أُمروا بالإيمان بالميعاد، وبثواب الله وعقابه في الآخرة (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا) بالية (وَرُفَاتًا) قد صرنا ترابا (أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) يقولون: نُبعث بعد ذلك خلقا جديدا. كما ابتدأناه أوّل مرّة في الدنيا استنكارا منهم لذلك، واستعظاما وتعجبا من أن يكون ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا (99) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: أولم ينظر هؤلاء القائلون من المشركين (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) بعيون قلوبهم، فيعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض، فابتدعها من غير شيء، وأقامها بقُدرته، قادر بتلك القُدرة على أن يخلق مثلهم أشكالهم، وأمثالهم من الخلق بعد فنائهم، وقبل ذلك، وأن من قدر على ذلك فلا يمتنع عليه إعادتهم خلقا جديدا، بعد أن يصيروا عظاما ورُفاتا، وقوله (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ) يقول تعالى ذكره: وجعل الله لهؤلاء المشركين أجلا لهلاكهم، ووقتا(17/562)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
لعذابهم لا ريب فيه. يقول: لا شكّ فيه أنه آتيهم ذلك الأجل (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا) يقول: فأبى الكافرون إلا جحودا بحقيقة وعيده الذي أوعدهم وتكذيبا به.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا (100) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لو أنتم أيها الناس تملكون خزائن أملاك ربي من الأموال، وعنى بالرحمة في هذا الموضع: المال (إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ) يقول: إذن لَبَخِلْتُمْ بِهِ فَلم تجودوا بها على غيركم، خشية من الإنفاق والإقتار.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ) قال: الفقر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (خَشْيَةَ الإنْفَاقِ) أي خشية الفاقة.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
وقوله (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) يقول: وكان الإنسان بخيلا ممسكا.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) يقول: بخيلا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) قال: بخيلا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) قال: بخيلا ممسكا.
وفي القتور في كلام العرب لغات أربع، يقال: قتر فلان يقْتُر ويقْتِر، وقتر يقتِّر، وأقتر يُقْتر، كما قال أبو دواد:(17/563)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
لا أعُدُّ الإقتار عُدْما وَلَكِنْ ... فَقْدُ مَنْ قَد رُزِيتُهُ الإعْدَامُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) }
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا موسى بن عمران تسع آيات بيِّنات تُبَين لمن رآها أنها حجج لموسى شاهدة على صدقه وحقيقة نبوّته.
وقد اختلف أهل التأويل فيهنّ وما هنّ.
فقال بعضهم في ذلك ما حدثني به محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) قال: التسع الآيات البينات: يده، وعصاه، ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) إلقاء العصا مرّتين عند فرعون، ونزع يده، والعقدة التي كانت بلسانه، وخمس آيات في الأعراف: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
وقال آخرون: نحوا من هذا القول، غير أنهم جعلوا آيتين منهن: إحداهما الطمسة، والأخرى الحجر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن
__________
(1) البيت لأبي دؤاد (بواو غير مهموزة بعد الدال، كما في التاج) وهو جارية بن الحجاج، أو هو حنظلة بن الشرتي الإيادي. والبيت في (الشعر والشعراء لابن قتيبة طبعة ليدن سنة 1902 ص 122) . وفي اللسان: قتر يقتر ويقتر قترا وقتورا، فهو قاتر وقتور؛ وأقتر. أي افتقر. وقتر على عياله وأقتر وقتر: أي ضيق عليهم في النفقة. ويقال: إنه لقتور: أي مقتر. فتلخص أن اللغات في هذا أربع: قتر يقتر ويقتر (من بابي نصر وضرب) وقتر (بالتشديد) وأقتر (بالهمز) كما قال المؤلف.(17/564)
إسحاق، عن بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، قال: سألني عمر بن عبد العزيز، عن قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) فقلت له: هي الطوفان والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، وعصاه، والطمسة، والحجر، فقال: وما الطمسة؟ فقلت: دعا موسى وأمَّن هارون، فقال: قد أجيبت دعوتكما، وقال عمر: كيف يكون الفقه إلا هكذا. فدعا عمر بن عبد العزيز بخريطة كانت لعبد العزيز بن مروان أصيبت بمصر، فإذا فيها الجوزة والبيضة والعدسة ما تنكر، مسخت حجارة كانت من أموال فرعون أصيبت بمصر.
وقال آخرون: نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا اثنتين منهنّ: إحداهما السنين، والأخرى النقص من الثمرات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة ومطر الورّاق، في قوله (تِسْعَ آياتٍ) قالا الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، والسنون، ونقص من الثمرات.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبيّ، في قوله (تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) قال: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، ونقص من الثمرات، وعصاه، ويده.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سُئل عطاء بن أبي رباح عن قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) ما هي؟ قال: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وعصى موسى، ويده.
قال: ابن جريج: وقال مجاهد مثل قول عطاء، وزاد (أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ) قال: هما التاسعتان، ويقولون: التاسعتان: السنين، وذهاب عجمة لسان موسى.(17/565)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن عباس، في قوله (تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) وهي متتابعات، وهي في سورة الأعراف (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ) قال: السنين في أهل البوادي، ونقص من الثمرات لأهل القرى، فهاتان آيتان، والطوافان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، هذه خمس، ويد موسى إذ أخرجها بيضاء للناظرين من غير سوء: البرص، وعصاه إذ ألقاها، فإذا هي ثعبان مبين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) قال: يد موسى، وعصاه، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم والسنين، ونقص من الثمرات.
وقال آخرون نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا السنين، والنقص من الثمرات آية واحدة، وجعلوا التاسعة: تلقف العصا ما يأفكون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الحسن، في قوله (تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) ، (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ) قال: هذه آية واحدة، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ويد موسى، وعصاه إذ ألقاها فإذا هي ثعبان مبين، وإذ ألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدّث عن صفوان بن عسال، قال: قال يهوديّ لصاحبه: اذهب بنا إلى النبيّ حتى نسأله عن هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) قال: لا تقل له نبيّ، فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين، قال: فسألا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَلا تَسْحَرُوا، وَلا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً،أو قال: لا تَفرُّوا مِنَ(17/566)
الزَّحْفِ". شعبة الشاكّ وأنْتُمْ يا يَهُودُ عليكم خَاصّ لا تَعْدُوا فِي السَّبْت، فقبَّلا يده ورجله، وقالا نشهد أنك نبيّ، قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا إن داود دعا أن لا يزال من ذرّيته نبيّ، وإنا نخشى أن تقتلنا يهود".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن يوسف وأبو داود وعبد الرحمن بن مهدي، عن سعيد، عن عمرو، قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه، إلا أن ابن مهديّ قال: "لا تمشوا إلى ذي سُلْطان" وقال ابن مهدي: أراه قال: "ببريء".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الله بن إدريس وأبو أسامة بنحوه، عن شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبيّ، فقال صاحبه: لا تقل نبيّ، إنه لو سمعك كان له أربع أعين، قال: فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألانه عن تسع آيات بينات، فقال: "هنَّ: ولا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَلا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلا تَسْحَرُوا، وَلا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلا تَوَلَّوا يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَهُودُ: أنْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ، قال: فقبَّلوا يديه ورجليه، وقالوا: نشهد أنك نبيّ، قال: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قالوا: إن داود دعا أن لا يزال من ذرّيته نبيّ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود".
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسَّال، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وأما قوله (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ) فإن عامّة قرّاء الإسلام على قراءته على وجه الأمر بمعنى: فاسأل يا محمد بني إسرائيل إذ جاءهم موسى.
ورُوي عن الحسن البصري في تأويله ما حدثني به الحارث، قال: ثنا(17/567)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن إسماعيل، عن الحسن (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قال: سؤالك إياهم: نظرك في القرآن.
ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: "فسأل" بمعنى: فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أن يرسلهم معه على وجه الخبر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن حنظلة السَّدوسيّ، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، أنه قرأ: "فَسأَلَ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جاءهم" يعني أن موسى سأل فرعونَ بني إسرائيل أن يرسلهم معه.
والقراءة التي لا أستجيز أن يُقرأ بغيرها، هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها، ورغبتهم عما خالفها.
وقوله (فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) يقول: فقال لموسى فرعون: إني لأظنك يا موسى تتعاطى علم السحر، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك، وقد يجوز أن يكون مرادا به إني لأظنك يا موسى ساحرا، فوضع مفعول موضع فاعل، كما قيل: إنك مشئوم علينا وميمون، وإنما هو شائم ويامن، وقد تأوّل بعضهم حجابا مستورا، بمعنى: حجابا ساترا، والعرب قد تخرج فاعلا بلفظ مفعول كثيرا.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (لَقَدْ عَلِمْتَ) فقرأ عامة قرّاء الأمصار ذلك (لَقَدْ عَلِمْتَ) بفتح التاء، على وجه الخطاب من موسى لفرعون، ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه في ذلك، أنه قرأ "لَقَدْ عَلِمْتُ" بضمّ التاء، على وجه الخبر من موسى عن نفسه، ومن قرأ ذلك على هذه القراءة، فإنه ينبغي(17/568)
أن يكون على مذهبه تأويل قوله (إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) إني لأظنك قد سُحِرت، فترى أنك تتكلم بصواب وليس بصواب، وهذا وجه من التأويل، غير أن القراءة التي عليها قرّاء الأمصار خلافها، وغير جائز عندنا خلاف الحجة فيما جاءت به من القراءة مجمعة عليه.
وبعد، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر عن فرعون وقومه أنهم جحدوا ما جاءهم به موسى من الآيات التسع، مع علمهم بأنها من عند الله بقوله (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) فأخبر جلّ ثناؤه أنهم قالوا: هي سحر، مع علمهم واستيقان أنفسهم بأنها من عند الله، فكذلك قوله (لَقَدْ عَلِمْتَ) إنما هو خبر من موسى لفرعون بأنه عالم بأنها آيات من عند الله، وقد ذُكر عن ابن عباس أنه احتجّ في ذلك بمثل الذي ذكرنا من الحجة.
قال: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا فرعون بالنصب (مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) ، ثم تلا (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) . فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قال موسى لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات التسع البينات التي أريتكها حجة لي على حقيقة ما أدعوك إليه، وشاهدة لي على صدق وصحة قولي، إني لله رسول، ما بعثني إليك إلا ربّ السماوات والأرض، لأن ذلك لا يقدر عليه، ولا على أمثاله أحد سواه، بصائر: يعني بالبصائر: الآيات، أنهنّ بصائر لمن استبصر بهنّ، وهدى لمن اهتدى بهنّ، يعرف بهنّ من رآهنّ أن من جاء بهنّ فمحقّ، وأنهنّ من عند الله لا من عند غيره، إذ كنّ معجزات لا يقدر عليهنّ، ولا على شيء منهنّ سوى ربّ السموات والأرض، وهو جمع بصيرة.
وقوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) يقول: إني لأظنك يا فرعون ملعونا ممنوعا من الخير، والعرب تقول: ما ثبرك عن هذا الأمر: أي ما منعك(17/569)
منه، وما صدّك عنه؟ وثبره الله فهو يُثْبره ويَثبُره لغتان، ورجل مثبور: محبوس عن الخيرات هالك، ومنه قول الشاعر:
إذْ أُجارِي الشَّيطانَ في سَننِ الغَيّ ... وَمنْ مالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ (1)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الله بن عبد الله الكلابي، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، قال: ثنا عمر بن عبد الله، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) قال ملعونا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: أخبرنا عمر بن عبد الله الثقفي، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) يقول: ملعونا.
وقال آخرون: بل معناه: إني لأظنك يا فرعون مغلوبا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) يعني: مغلوبا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) يقول: مغلوبا.
__________
(1) البيت لعبد الله بن الزبعرى من مقطوعة أربعة أبيات، قالها حين جاء إلى النبي مسلما معتذرا عما فرط منه من هجائه، بتحريض قريش على ذلك (انظر سيرة ابن هشام طبعة مصطفى الحلبي وأولاده، بتحقيق مصطفى السقا والإبياري وشلبي، الطبعة الثانية القسم الثاني ص 419) والبيتان الأولان منها: يا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لساني ... رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
إذْ أُبارِي الشَّيْطَانَ فِي سَننِ الْغَيِّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
والراتق: الذي يسد الخرق. تقول: ارتقت الشيء: إذا أصلحته وسددته. وفتقت: يعني في الدين، فكل إثم فتق وتمزيق، وكل توبة رتق. ومن أجل ذلك قيل التوبة نصوح، من نصحت الثوب: إذا خطته والنصاح: الخيط. وبور: هالك. يقال: رجل بور وبائر، وقوم بور. وأباري: أجاري وأعارض، وهي رواية في البيت. والسنن بالتحريك: وسط الطريق. ومثبور هالك. وهنا محل الشاهد عند المؤلف. قال: ثبره الله يثبره ويثبره: (كنصر وضرب) لغتان. ورجل مثبور: محبوس عن الخير هالك.(17/570)
وقال بعضهم: معنى ذلك: إني لأظنك يا فرعون هالكا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: مثبورا: أي هالكا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) : أي هالكا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، بنحوه.
وقال آخرون: معناه: إني لأظنك مبدِّلا مغيرا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الله بن موسى، عن عيسى بن موسى، عن عطية (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) قال: مبدّلا.
وقال آخرون: معناه: مخبولا لا عقل له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) قال: الإنسان إذا لم يكن له عقل فما ينفعه؟ يعني: إذا لم يكن له عقل ينتفع به في دينه ومعاشه دعته العرب مثبورا، قال: أظنك ليس لك عقل يا فرعون، قال: بينا هو يخافه ولا ينطق لساني أن أقول (1) هذا لفرعون، فلما شرح الله صدره، اجترأ أن يقول له فوق ما أمره الله.
وقد بيَّنا الذي هو أولى بالصواب في ذلك قبل.
__________
(1) كذا في الأصل، والسياق مضطرب.(17/571)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) }
يقول تعالى ذكره: فأراد فرعون أن يستفز موسى وبني إسرائيل من الأرض، (فَأَغْرَقْنَاهُ) في البحر، (وَمَنْ مَعَهُ) من جنده (جَمِيعًا) ، ونجَّينا موسى وبني إسرائيل، وقلنا لهم (مِنْ بَعْدِ) هلاك فرعون (اسْكُنُوا الأَرْضَ) أرض الشام (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) يقول: فإذا جاءت الساعة، وهي وعد الآخرة، جئنا بكم لفيفا: يقول: حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة لفيفا: أي مختلطين قد التفّ بعضكم على بعض، لا تتعارفون، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيِّه، من قولك: لففت الجيوش: إذا ضربت بعضها ببعض، فاختلط الجميع، وكذلك كلّ شيء خُلط بشيء فقد لُفّ به.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن ابن أبي رَزين (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) قال: من كلّ قوم.
وقال آخرون: بل معناه: جئنا بكم جميعا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) قال: جميعا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) جميعا.(17/572)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) : أي جميعا، أولكم وآخركم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) قال: جميعا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) يعني جميعا.
ووحَّد اللفيف، وهو خبر عن الجميع، لأنه بمعنى المصدر كقول القائل: لفقته لفًّا ولفيفا.(17/573)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا (106) }
يقول تعالى ذكره: وبالحق أنزلنا هذا القرآن: يقول: أنزلناه نأمر فيه بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة الحميدة، وننهى فيه عن الظلم والأمور القبيحة، والأخلاق الردية، والأفعال الذّميمة (وَبِالْحَقِّ نزلَ) يقول: وبذلك نزل من عند الله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا محمد إلى من أرسلناك إليه من عبادنا، إلا مبشرا بالجنَّة من أطاعنا، فانتهى إلى أمرنا وَنهْينا، ومنذرا لمن عصانا وخالف أمرنا ونهينَا (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الأمصار (فَرَقْناهُ) بتخفيف الراء من فرقناه، بمعنى: أحكمناه وفصلناه وبيناه، وذكر عن ابن عباس، أنه كان يقرؤه بتشديد الراء "فَرَّقْناهُ" بمعنى: نزلناه شيئا بعد شيء، آية بعد آية، وقصة بعد قصة.(17/573)
وأولى القراءتين بالصواب عندنا، القراءة الأولى، لأنها القراءة التي عليها الحجة مجمعة، ولا يجوز خلافها فيما كانت عليه مجمعة من أمر الدين والقرآن، فإذا كان ذلك أولى القراءتين بالصواب، فتأويل الكلام: وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا، وفصلناه قرآنا، وبيَّناه وأحكمناه، لتقرأه على الناس على مكث.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل، قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) يقول: فصلناه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن أبي الربيع عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) مخففا: يعني بيناه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) قال: فصلناه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا عباد، يعني ابن راشد، عن داود، عن الحسن أنه قرأ (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) خفَّفها: فرق الله بين الحقّ والباطل.
وأما الذين قرءوا القراءة الأخرى، فإنهم تأوّلوا ما قد ذكرت من التأويل.
ذكر من قال ما حكيت من التأويل عن قارئ ذلك كذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: كان ابن عباس يقرؤها: "وَقُرآنا فَرَّقْناهُ" مثقلة، يقول: أنزل آية آية.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة، قال (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) ، "وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النَّاسِ على مُكْثٍ، وَنزلْناهُ تَنزيلا".(17/574)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: "وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النَّاسِ" لم ينزل جميعا، وكان بين أوّله وآخره نحو من عشرين سنة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) قال: فرّقه: لم ينزله جميعه. وقرأ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) ... حتى بلغ (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) يَنْقُض عليهم ما يأتون به.
وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يقول: نصب قوله (وَقُرآنا) بمعنى: ورحمة، ويتأوّل ذلك (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) ورحمة، ويقول: جاز ذلك، لأن القرآن رحمة، ونصبه على الوجه الذي قلناه أولى، وذلك كما قال جلّ ثناؤه (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) وقوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) يقول: لتقرأه على الناس على تُؤَدة، فترتله وتبينه، ولا تعجل في تلاوته، فلا يفهم عنك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبيد المكُتِب (1) قال: قلت لمجاهد: رجل قرأ البقرة وآل عمران، وآخر قرأ البقرة، وركوعهما وسجودهما واحد، أيهما أفضل؟ قال: الذي قرأ البقرة، وقرأ (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) .
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) يقول: على تأييد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (عَلَى مُكْثٍ) قال: على ترتيل.
__________
(1) المكتب: اسم فاعل من أكتب أو من كتب بالتشديد وهو المعلم، يعلم الصبيان كتابة القرآن في ألواحهم.(17/575)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) قال: في ترتيل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) قال: التفسير الذي قال الله (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) : تفسيره.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبيد، عن مجاهد، قوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) على تؤدة، وفي المُكث للعرب لغات: مُكث، ومَكث، ومِكث ومِكِّيثَى مقصور، ومُكْثانا، والقراءة بضمّ الميم.
وقوله (وَنزلْنَاهُ تَنزيلا) يقول تعالى ذكره: فرقنا تنزيله، وأنزلناه شيئا بعد شيء.
كما حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: حدثنا، عن أبي رجاء؛ قال: تلا الحسن: "وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النَّاسِ على مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا" قال: كان الله تبارك وتعالى ينزل هذا القرآن بعضه قبل بعض لما علم أنه سيكون ويحدث في الناس، لقد ذكر لنا أنه كان بين أوّله وآخره ثماني عشرة سنة، قال: فسألته يوما على سخطة، فقلت: يا أبا سعيد "وقرآنا فرقناه" فثقلها أبو رجاء، فقال الحسن: ليس فرّقناه، ولكن فَرقناه، فقرأ الحسن مخففة، قلت: من يُحدثك هذا يا أبا سعيد أصحاب محمد، قال: فمن يحدّثنيه، قال: أنزل عليه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة ثماني سنين، وبالمدينة عشر سنين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا) لم ينزل في ليلة ولا ليلتين، ولا شهر ولا شهرين، ولا سنة ولا سنتين، ولكن كان بين أوّله وآخره عشرون سنة، وما شاء الله من ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن،(17/576)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
قال: كان يقول: أنزل على نبيّ الله القرآن ثماني سنين، وعشرا بعد ما هاجر. وكان قتادة يقول: عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا (108) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء القائلين لك (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا) : آمنوا بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله، لم يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أوَ لا تؤمنوا به، فإن إيمانكم به لن يزيد في خزائن رحمة الله ولا ترككم الإيمان به يُنقص ذلك، وإن تكفروا به، فإن الذين أوتوا العلم بالله وآياته من قبل نزوله من مؤمني أهل الكتابين، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يخرّون تعظيما له وتكريما، وعلما منهم بأنه من عند الله، لأذقانهم سجدا بالأرض.
واختلف أهل التأويل في الذي عُني بقوله (يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ) فقال بعضهم: عُنِي به: الوجوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا) يقول: للوجوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا) قال للوجوه.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك اللِّحَى.(17/577)
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الحسن في قوله (يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ) قال: اللِّحَى.
وقوله (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا) يقول جلّ ثناؤه: ويقول هؤلاء الذين أوتوا العلم من قبل نزول هذا القرآن، إذ خروا للأذقان سجودا عند سماعهم القرآن يُتْلَى عليهم، تنزيها لربنا وتبرئة له مما يضيف إليه المشركون به، ما كان وعد ربنا من ثواب وعقاب، إلا مفعولا حقا يقينا، إيمان بالقرآن وتصديق به، والأذقان في كلام العرب: جمع ذَقَن وهو مجمع اللَّحيين، وإذ كان ذلك كذلك، فالذي قال الحسن في ذلك أشبه بظاهر التنزيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في الذين عنوا بقوله (أُوتُوا الْعِلْمَ) وفي (يُتْلَى عَلَيْهِمْ) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) .... إلى قوله (خُشُوعًا) قال: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل الله على محمد قالوا (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ) ما أنزل إليهم من عند الله (يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا) .
وقال آخرون: عُنِي بقوله (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ) كتابهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ) ما أنزل الله إليهم من عند الله.
وإنما قلنا: عُنِي بقوله (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ) القرآن، لأنه في سياق ذكر القرآن لم يجر لغيره من الكتب ذكر، فيصرف الكلام إليه، ولذلك جعلت الهاء(17/578)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
التي في قوله (مِنْ قَبْلِهِ) من ذكر القرآن، لأن الكلام بذكره جرى قبله، وذلك قوله (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) وما بعده في سياق الخبر عنه، فذلك وجبت صحة ما قلنا إذا لم يأت بخلاف ما قلنا فيه حجة يجب التسليم لها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) }
يقول تعالى ذكره: ويخرّ هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين من قبل نزول الفرقان، إذا يُتْلَى عليهم القرآن لأذقانهم يبكون، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعا، يعني خضوعا لأمر الله وطاعته، واستكانة له.
حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا مِسْعر، عن عبد الأعلى التيميّ، أن من أوتي من العلم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله نعت العلماء فقال (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ) .... الآيتين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن مسعر بن كدام، عن عبد الأعلى التيمي بنحوه، إلا أنه قال (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ) ثم قال (وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ) .... الآية.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) قال: هذا جواب وتفسير للآية التي في كهيعص (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا(17/579)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه: قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء الرحمن (ادْعُوا اللَّهَ) أيها القوم (أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) بأيّ أسمائه جلّ جلاله تدعون ربكم، فإنما تدعون واحدا، وله الأسماء الحُسنى، وإنما قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم، لأن المشركين فيما ذكر سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: يا ربنا الله، ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فأنزل الله على نبيّه عليه الصلاة والسلام هذه الآية احتجاجا لنبيّه عليهم.
ذكر الرواية بما ذكرنا: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس. قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدا يدعو: يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا، وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) .... الآية.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عيسى؛ عن الأوزاعي، عن مكحول، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان يتهجَّد بمكة ذات ليلة، يقول في سجوده: يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ، فسمعه رجل من المشركين، فلما أصبح قال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة، يدعو الليلة الرحمن الذي باليمامة، وكان باليمامة رجل يقال له الرحمن: فنزلت (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) ."
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) . (1)
__________
(1) كذا في الأصول، ولم يذكر المتن اتكالا على ما تقدم، وقد تكرر ذلك منه.(17/580)
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (أَيًّا مَا تَدْعُوا) بشيء من أسمائه.
حدثني موسى بن سهل، قال: ثنا محمد بن بكار البصري، قال: ثني حماد بن عيسى؛ عن عبيد بن الطفيل الجهني، قال: ثنا ابن جريج، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن مكحول، عن عَرَّاك بن مالك، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ للهِ تسْعَةً وَتسْعينَ اسْما كُلُّهُنَّ في القُرآنِ، مَنْ أحْصَاهنّ دَخَل الجَنَّة".
قال أبو جعفر: ولدخول "ما" في قوله (أَيًّا مَا تَدْعُوا) وجهان: أحدهما أن تكون صلة، كما قيل: (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) والآخر أن تكون في معنى إن: كررت لما اختلف لفظاهما، كما قيل: ما إن رأيت كالليلة ليلة.
وقوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) اختلف أهل التأويل في الصلاة، فقال بعضهم: عنى بذلك: ولا تجهر بدعائك، ولا تخافت به، ولكن بين ذلك، وقالوا: عنى بالصلاة في هذا الموضع: الدعاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن عيسى الدامغاني، قال: ثنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قالت: في الدعاء.
حدثنا بشار، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مثله.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا عباد بن العوّام، عن أشعث بن سوار، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: كانوا يجهرون بالدعاء، فلما نزلت هذه الآية أُمروا أن لا يجهروا، ولا يخافتوا.(17/581)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا حماد، عن عمرو بن مالك البكري، عن أبي الجوزاء عن عائشة، قالت: نزلت في الدعاء.
حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا عبد الله بن داود، قال: ثنا شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم الهَجري، عن أبي عياض (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان عمن ذكره عن عطاء (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في الآية (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال: نزلت في الدعاء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) في الدعاء والمسألة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قال: نزلت في الدعاء والمسألة.(17/582)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثني سفيان، قال: ثني قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: في الدعاء.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن ابن عياش العامري، عن عبد الله بن شداد قال: كان أعراب إذا سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: اللهم ارزقنا إبلا وولدا، قال: فنزلت هذه الآية (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: في الدعاء.
حدثني ابن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) .... الآية، قال: في الدعاء والمسألة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عيسى؛ عن الأوزاعي، عن مكحول (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: ذلك في الدعاء.
وقال آخرون: عَنَى بذلك الصلاة.
واختلف قائلو هذه المقالة في المعنى الذي عَنَى بالنهي عن الجهر به، فقال بعضهم: الذي نهى عن الجهر به منها القراءة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم (وَلا تَجْهَرْ(17/583)
بِصَلاتِكَ) فيسمع المشركون (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك، فلا تُسْمِعهم القرآن حتى يأخذوا عنك.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا جهر بالصلاة بالمسلمين بالقرآن، شقّ ذلك على المشركين إذا سمعوه، فيُؤْذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والعيب به، وذلك بمكة، فأنزل الله: يا محمد (لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) يقول: لا تُعْلِن بالقراءة بالقرآن إعلانا شديدا يسمعه المشركون فيؤذونك، ولا تخافت بالقراءة بالقرآن: يقول: لا تخفض صوتَك حتى لا تُسْمِع أذنيك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) يقول: اطلب بين الإعلان والجهر وبين التخافت والخفض طريقا، لا جهرا شديدا، ولا خفضا لا تُسْمِع أذنيك، فذلك القدر، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سقط هذا كله، يفعل الآن أيّ ذلك شاء.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) .... الآية، هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كان إذا صلى بأصحابه، فرفع صوته بالقراءة أسمع المشركين، فآذوه، فأمره الله أن لا يرفع صوته، فيسمع عدوّه، ولا يخافت فلا يُسْمِع من خلفه من المسلمين، فأمره الله أن يبتغي بين ذلك سبيلا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن، فكان المشركون إذا سمعوا صوته سبُّوا القرآن، ومن جاء به، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخفي القرآن فما يسمعه أصحابه، فأنزل الله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) .
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي، يقول: أخبرنا أبو حمزة عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: كان رسول الله صلى(17/584)
الله عليه وسلم إذا رفع صوته وَسمع المشركون، سبُّوا القرآن، ومن جاء به، وإذا خفض لم يسمع أصحابه، قال الله (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) .
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرّقوا، وأبَوا أن يستمعوا منه، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو، وهو يصلي، استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع، ذهب خشية أذاهم، فلم يستمع، فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، لم يستمع الذين يستمعون من قراءته شيئا، فأنزل الله عليه (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) فيتفرقوا عنك (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) فلا تُسْمِع من أراد أن يسمعها، ممن يسترق ذلك دونهم، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع، فينتفع به، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام، فقالت قريش: لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا، فنهجو ربك، فأنزل الله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) .... الآية.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع الصوت بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله لنبيّه (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) : أي بقراءتك، فيسمع المشركون، فيسبُّوا القرآن (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك، فلا تسمعهم (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: في القراءة.(17/585)
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في هذه الآية (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع صوته أعجب ذلك أصحابه، وإذا سمع ذلك المشركون سبُّوه، فنزلت هذه الآية.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سلمة، عن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وأن عمر كان يرفع صوته، قال: فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ فقال: أناجي ربي، وقد علم حاجتي، قيل: أحسنت، وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، قيل: أحسنت، فلما نزلت (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) قيل لأبي بكر: ارفع شيئا، وقيل لعمر: اخفض شيئا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: يقول ناس إنها في الصلاة، ويقول آخرون إنها في الدعاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) وكان نبيّ الله وهو بمكة، إذا سمع المشركون صوته رموه بكلّ خبث، فأمره الله أن يغضّ من صوته، وأن يجعل صلاته بينه وبين ربه، وكان يقال: ما سمعته أذنك فليس بمخافتة.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالصلاة، فيُرمي بالخبث، فقال: لا ترْفعْ صَوْتكَ فتُؤْذَى وَلا تُخافِتْ بِها، وَابْتَغِ بين ذلك سَبِيلا.
وقال آخرون: إنما عُنِي بذلك: ولا تجهر بالتشهد في صلاتك، ولا تخافت بها.(17/586)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزلت هذه الآية في التشهد (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) .
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن أشعث، عن ابن سيرين مثله. وزاد فيه: وكان الأعرابيّ يجهر فيقول: التحيات لله، والصلوات لله، يرفع فيها صوته، فنزلت (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) .
وقال آخرون: بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة جِهارا، فأمر بإخفائها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في بني إسرائيل (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يجهر بصلاته، فآذى ذلك المشركين بمكة، حتى أخفى صلاته هو وأصحابه، فلذلك قال (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) وقال في الأعراف (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) .
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تجهر بصلاتك تحسنها من إتيانها في العلانية، ولا تخافت بها: تسيئها في السريرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن أنه كان يقول (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) : أي لا تراء بها عَلانيَة، ولا تخفها سرًّا (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) .
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: لا تحسن علانيتها، وتسيء سريرتها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: لا تراء بها في العلانية، ولا تخفها في السريرة.(17/587)
حدثني عليّ بن الحسن الأزرقي، قال: ثنا الأشجعي، عن سفيان، عن منصور، عن الحسن (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: تحسن علانيتها، وتسيء سريرتها.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قال: لا تصلّ مراءاة الناس ولا تدعها مخافة.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) قال: السبيل بين ذلك الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة التي عليها المسلمون. قال: وكان أهل الكتاب يُخافتون، ثم يجهر أحدهم بالحرف، فيصيح به، ويصيحون هم به وراءه، فنهى أن يصيح كما يصيح هؤلاء، وأن يُخافت كما يُخافت القوم، ثم كان السبيل الذي بين ذلك، الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، ما ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي رواه أبو جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس، لأن ذلك أصحّ الأسانيد التي رُوِي عن صحابيّ فيه قولٌ مخرَّجا، وأشبه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) عقيب قوله (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) وعقيب تقريع الكفار بكفرهم بالقرآن، وذلك بعدهم منه ومن الإيمان. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى وأشبه بقوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) أن يكون من سبب ما هو في سياقه من الكلام، ما لم يأت بمعنى يوجب صرفه عنه، أو يكون على انصرافه عنه دليل يعلم به الانصراف عما هو في سياقه.
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قل ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه، وذكرك فيها، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا)(17/588)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقا إلى أن تسمع أصحابك، ولا يسمعه المشركون فيؤذوك. ولولا أن أقوال أهل التأويل مضت بما ذكرت عنهم من التأويل، وأنا لا نستجير خلافهم فيما جاء عنهم، لكان وجها يحتمله التأويل أن يقال: ولا تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها، وهي صلاة النهار لأنها عجماء، لا يجهر بها، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها، وهي صلاة الليل، فإنها يجهر بها (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) بأن تجهر بالتي أمرناك بالجهر بها، وتخافت بالتي أمرناك بالمخافتة بها، لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكلها، فكان ذلك وجها غير بعيد من الصحة، ولكنا لا نرى ذلك صحيحا لإجماع الحجة من أهل التأويل على خلافه. فإن قال قائل: فأية قراءة هذه التي بين الجهر والمخافتة؟
قيل: حدثني مطر بن محمد، قال: ثنا قتيبة، ووهب بن جرير، قالا ثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن الأسود بن هلال، قال: قال عبد الله: لم يخافت من أسمع أذنيه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن الأشعث، عن الأسود بن هلال، عن عبد الله، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم (وَقُلْ) يا محمد (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) فيكون مربوبا لا ربا، لأن ربّ الأرباب لا ينبغي أن يكون له ولد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) فيكون عاجزا ذا حاجة إلى معونة غيره ضعيفا، ولا يكون إلها من يكون محتاجا إلى معين على ما حاول، ولم يكن منفردا بالمُلك والسلطان (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) يقول: ولم يكن له حليف حالفه من الذّل الذي به، لأن من كان ذا حاجة إلى نصرة غيره، فذليل مهين، ولا يكون من كان ذليلا مهينا يحتاج إلى ناصر إلها يطاع (وَكَبِّرْهُ(17/589)
تَكْبِيرًا) يقول: وعظم ربك يا محمد بما أمرناك أن تعظمه به من قول وفعل، وأطعه فيما أمرك ونهاك.
وبنحو الذي قلنا في قوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) قال: لم يحالف أحدا، ولا يبتغي نصر أحد.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: "ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يعلِّم أهله هذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) الصغير من أهله والكبير.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا أبو الجنيد، عن جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل، ثم تلا (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن القُرَظي، أنه كان يقول في هذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) .... الآية. قال: إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدا، وقالت العرب: لبيك، لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذلّ الله، فأنزل الله (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ) أنت يا محمد على ما يقولون (تَكْبِيرًا) .
آخر تفسير سورة بني إسرائيل، والحمد لله ربّ العالمين.(17/590)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
* * *
* * *
* *
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الكهف
القول في تأويل قوله عز ذكره: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خص برسالته محمدا وانتخبه لبلاغها عنه، فابتعثه إلى خلقه نبيا مرسلا وأنزل عليه كتابه قيما، ولم يجعل له عوجا.
وعنى بقوله عز ذكره: (قِيَمًا) معتدلا مستقيما، وقيل: عنى به: أنه قيم على سائر الكتب يصدقها ويحفظها.
* ذكر من قال عنى به معتدلا مستقيما: حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا) يقول: أنزل الكتاب عدلا قيما، ولم يجعل له عوجا، فأخبر ابن عباس بقوله هذا مع بيانه معنى القيم أن القيم مؤخر بعد قوله، ولم يجعل له عوجا، ومعناه التقديم بمعنى: أنزل الكتاب على عبده قيما.
حدثت عن محمد بن زيد، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (قيمًا) قال: مستقيما.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا) : أي معتدلا لا اختلاف فيه.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا) قال: أنزل الله الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا) .
قال: وفي بعض القراءات: " ولكن جعله قيما".
والصواب من القول في ذلك عندنا: ما قاله ابن عباس، ومن قال بقوله في ذلك، لدلالة قوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) فأخبر جل ثناؤه أنه أنزل الكتاب(17/591)
الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم (قيمًا) مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل بعضه يصدق بعضا، وبعضه يشهد لبعض، لا عوج فيه، ولا ميل عن الحق، وكسرت العين من قوله (عِوَجًا) لأن العرب كذلك تقول في كل اعوجاج كان في دين، أو فيما لا يرى شخصه قائما، فيُدْرَك عِيانا منتصبا كالعاج في الدين، ولذلك كُسِرت العين في هذا الموضع، وكذلك العِوَج في الطريق، لأنه ليس بالشخص المنتصب، فأما ما كان من عِوَج في الأشخاص المنتصبة قياما، فإن عينها تفتح كالعَوج في القناة، والخشبة، ونحوها، وكان ابن عباس يقول في معنى قوله (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) : ولم يجعل له ملتبسا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا) ولم يجعل له ملتبسا.
ولا خلاف أيضا بين أهل العربية في أن معنى قوله (قيمًا) وإن كان مؤخرا، التقديم إلى جنب الكتاب، وقيلإنما افتتح جلّ ثناؤه هذه السورة بذكر نفسه بما هو له أهل، وبالخبر عن إنزال كتابه على رسوله إخبارا منه للمشركين من أهل مكة، بأن محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المشركين كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء علمهموها اليهود من قريظة والنضير، وأمروهم بمسآلتهموه عنها، وقالوا: إن أخبركم بها فهو نبيٌّ، وإن لم يخبركم بها فهو متقوّل، فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجواب عنها موعدا، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء، وتأخّر مجيء جبرائيل عليه السلام عنه عن ميعاده القوم، فتحدث المشركون بأنه أخلفهم موعده، وأنه متقوّل، فأنزل الله هذه السورة جوابا عن مسائلهم، وافتتح أوّلها بذكره، وتكذيب المشركين في أحدوثتهم التي تحدثوها بينهم.
*ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس، فيما يروي أبو جعفر الطبري (1) قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعُقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة،
__________
(1) الظاهر: أن قوله " فيما يروي أبو جعفر الطبري ": عن عبارة المؤلف عن نفسه، وليس يعني شخصا آخر، ولا هو من تعبير بعض تلاميذه عنه.(17/592)